المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هَذِهِ الْقُبُورِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَدْفُونِينَ فِيهَا أَحْيَاءٌ يَقْضُونَ حَاجَاتِ مَنْ - تفسير المنار - جـ ١١

[محمد رشيد رضا]

الفصل: هَذِهِ الْقُبُورِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَدْفُونِينَ فِيهَا أَحْيَاءٌ يَقْضُونَ حَاجَاتِ مَنْ

هَذِهِ الْقُبُورِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَدْفُونِينَ فِيهَا أَحْيَاءٌ يَقْضُونَ حَاجَاتِ مَنْ يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ، وَعُلَمَاءُ الْخُرَافَاتِ يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا شَرْعِيٌّ.

نَعَمْ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ نَفْيِ ضَرِّهَا وَنَفْعِهَا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا عَمَلَ لَهَا فَقَطْ كَمَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَظْهَرَ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى عِبَادَةِ الثَّعَابِينِ وَالْبَقَرِ وَالْقُرُودِ - وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ فِي الْهِنْدِ - وَعَلَى عِبَادَةِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ النَّصْرَانِيَّةِ الْآرِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْإِمْبِرَاطُورُ قُسْطَنْطِينُ، وَمَنِ اتَّبَعَ سَنَنَ النَّصَارَى وَالْهُنُودِ مِنْ جَهَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ بَيَانُ بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ مَهْمَا يَكُنِ الْمَعْبُودُ، وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ قِسْمَانِ: ادِّعَاءُ وَسَاطَتِهِمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِمْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ. وَهُوَ كَذِبٌ فِي التَّشْرِيعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الرَّبِّ وَحْدَهُ وَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيِهِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ حَتَّى الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَمْلِكُونَ لِعَابِدِيهِمُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِالْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَحَهَا الْخَالِقُ لِلْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، لَا بِذَوَاتِهِمْ وَكَرَامَاتِهِمْ، وَلَا بِتَأْثِيرٍ خَاصٍّ لَهُمْ عِنْدَ الْخَالِقِ يَحْمِلُونَهُ بِهِ عَلَى نَفْعِ مَنْ شَاءُوا أَوْ ضُرِّ مَا شَاءُوا أَوْ كَشَفِ الضُّرِّ عَنْهُ، كَمَا يَعْتَقِدُ عُبَّادُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى النَّصَارَى فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْمَسِيحِ عليه السلام بِقَوْلِهِ:(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(5: 76) وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى عَبَدَةِ الْقُبُورِ وَعَلَى أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ عِبَادَتَهُمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُبْعِدُهُمْ عَنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، بِقَوْلِهِمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ فَهُمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ لَا كَالْأَصْنَامِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلنَّصَارَى: إِنَّ الْمَسِيحَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا بِعِبَادَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا آتَاهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنَ الشُّيُوخِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَدَوِيِّ وَالْحُسَيْنِ وَالسَّيِّدَةِ زَيْنَبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ لِمَنْ يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ، وَحَيَاتُهُ لَا تَزَالُ فِي اعْتِقَادِهِمْ حَيَاةً عُنْصُرِيَّةً وَحَيَاتُهُمْ بَرْزَخِيَّةٌ وَمُعْجِزَاتُهُ قَطْعِيَّةٌ وَكَرَامَاتُهُمْ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ.

كَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَهُمْ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِنَفْيِ مِلْكِهِ لِضُرِّ النَّاسِ وَنَفْعِهِمْ وَهُوَ حَيٌّ كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (49) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَسَبَقَ مِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7:‌

‌ 18

8) .

(وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) أَيْ يَقُولُونَ فِي سَبَبِ عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِأَنْفُسِهِمْ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ اللهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ فَنَحْنُ نَعْبُدُهُمْ بِتَعْظِيمِ هَيَاكِلِهِمْ وَتَطْيِيبِهَا بِالْعِطْرِ وَالطَّوَافِ بِهَا وَبِتَقْدِيمِ النُّذُورِ لَهُمْ، وَالْإِهْلَالِ عِنْدَ ذَبْحِ الْقَرَابِينِ بِأَسْمَائِهِمْ، وَبِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى فَيَدْفَعُ بِجَاهِهِمْ عَنَّا الْبَلَاءَ، وَيُعْطِينَا مَا نَطْلُبُ مِنَ النَّعْمَاءِ، هَذَا مَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْبَعْثِ مِنْهُمْ

ص: 266

وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا فَرَضُوا وُجُوَدَهَا، زَعَمَ مُجْرِمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(34: 35) وَقَوْلِهِ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)(41: 50) وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ كِبَارِ مُجْرِمِيهِمْ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِيهَا كَمَا يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَسَاسَ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ اللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَسَاطَةِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ وَالْحُظْوَةُ عِنْدَهُ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُدَنَّسَةٌ بِالْمَعَاصِي، بِخِلَافِ دِينِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْعَاصِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ تَائِبًا إِلَيْهِ طَالِبًا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ.

(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ جَهَالَتَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ: أَتُخَبِّرُونَ اللهَ تَعَالَى وَتُعْلِمُونَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَهُ أَنْ جَعْلَهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي قَضَاءِ حَاجِهِمْ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، وَفِي تَقْرِيبِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَالْوُسَطَاءِ عِنْدَ مُلُوكِ الْبَشَرِ، الْجَاهِلِينَ بِأُمُورِ رَعِيَّتِهِمْ وَالْعَاجِزِينَ

عَنْ تَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ وَسَاطَةِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ وَالْقُوَّادِ، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِهِمْ هَذَا دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. فَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْجَوَابِ مُبَيِّنٌ لِمَا فِي هَذَا الشِّرْكِ مِنْ إِهَانَةِ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَتَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِعَبِيدِهِ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الْعَاجِزِينَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تُشْرِكُونَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِلْجَوَابِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْ شِرْكِ الْجَمِيعِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ.

وَفِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ شُئُونَ الرَّبِّ وَسَائِرَ مَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ تَوْقِيفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْوُسَطَاءِ عِنْدَ اللهِ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّهُ عَيْنُ الشِّرْكِ. وَلَكِنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مَنْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ بِالرَّأْيِ. وَيُحَرِّفُونَ مَا يَنْقُضُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُبِيحُونَ دُعَاءَ الْمَوْتَى وَاسْتِغَاثَتَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِيهِمْ، وَبِأَنَّ الْإِفْرِنْجَ أَثْبَتُوا وُجُودَ الْأَرْوَاحِ وَعَلَاقَتَهَا بِالنَّاسِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّهُمْ، لَمْ يَقُولُوا إِنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ، أَوْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ لَهُمْ، وَلَوْ قَالُوا هَذَا لَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ قَوْلَهُمْ حُجَّةً نُعَارِضُ بِهَا نُصُوصَ دِينِنَا أَوْ نَتَأَوَّلُهَا لِتُوَافِقِهَا،

ص: 267

وَلِمَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ مَجَلَّةٌ تَنْشُرُ بِاسْمِهَا هَذِهِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَطْعَنُ عَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَعَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَخْذُ الدِّينِ كُلِّهِ عَنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، حَتَّى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.

(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السِّيَاقِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ لِلْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ إِلَّا كَدَأْبِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ،

وَلَمْ يَكُونُوا فِي اسْتِعْجَالِ نَبِيِّهِمُ الْعَذَابَ إِلَّا كَالَّذِينِ اسْتَعْجَلُوا رُسُلَهُمُ الْعَذَابَ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ فِيهِ بَيَانُ بَعْضِ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَلَا سِيَّمَا الْكُفَّارِ فِي الرُّعُونَةِ وَالْعَجَلَةِ، وَفِي الضَّرَاعَةِ إِلَى اللهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَفِي الْإِشْرَاكِ بِاللهِ بِدَعْوَى أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِوَجَاهَتِهِمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَمَا صَارُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، فَالتَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ.

(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا الْعَرَبُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا حُنَفَاءَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الَّذِي ابْتَدَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ وَصَنَعَ لَهُمُ الْأَصْنَامَ - كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - فَاخْتَلَفُوا بِأَنْ أَشْرَكَ بَعْضُهُمْ وَثَبَتَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ آخَرُونَ.

وَقِيلَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، إِنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ الْبَشَرِيُّ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْفِطْرَةِ، إِذْ كَانُوا يَعِيشُونَ عِيشَةَ السَّذَاجَةِ وَالْوَحْدَةِ كَأُسْرَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا فَصَارُوا عَشَائِرَ فَقَبَائِلَ فَشُعُوبًا تَخْتَلِفُ حَاجَاتُهَا وَتَتَعَارَضُ مَنَافِعُهَا، فَتَتَعَادَى وَتَتَقَاتَلُ فِي التَّنَازُعِ فِيهَا، فَبَعَثَ اللهُ فِيهِمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِزَالَةِ الِاخْتِلَافِ بِكِتَابِ اللهِ وَوَحْيِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ نَفْسِهِ أَيْضًا بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَاتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ (2: 213) وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا.

ص: 268

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أَيْ وَلَوْلَا كَلِمَةُ حَقٍّ فَاصِلَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فِي جَعْلِ جَزَاءِ النَّاسِ الْعَامِّ فِي الْآخِرَةِ، لَعَجَّلَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِ الْمُبْطِلِينَ الْبَاغِينَ مِنْهُمْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ:(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(93) وَمِثْلُهُ فِي سُوَرٍ أُخْرَى.

وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ الْمُفْضِي إِلَى الشِّقَاقِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا سِيَّمَا الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِإِزَالَةِ الشِّقَاقِ بِحُكْمِهِ، وَإِدَالَةِ الْوَحْدَةِ

وَالْوِفَاقِ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَحِكْمَتُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (213) وَفِي غَيْرِهَا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ حِكْمَتِهِ وَحِكْمَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (11: 118) إِلَخْ.

(وَيَقُولُونَ لَوْلَا أَنْزِلُ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ) .

الْكَلَامُ فِي مُنْكِرِي الْوَحْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، حَكَى عَنْهُمْ عَجَبَهُمْ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِبُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ مُطَالَبَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، الدَّالِّ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌّ مِنْ كَلَامِ اللهِ عز وجل، أَوْ تَبْدِيلِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَلِمْتَ. ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاحْتِجَاجَ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ بِعَدَمِ إِنْزَالِ رَبِّهِ عَلَيْهِ آيَةً كَوْنِيَّةً غَيْرَ هَذَا الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ حِكَايَاتِ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَعْمَالِهِمْ فِي جُحُودِ الرِّسَالَةِ، وَمِنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، لَا عَلَى آخَرِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا)(18) خَاصَّةً لِقُرْبِهِ وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ؛ فَإِنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَا غَيْرُ مُشَارِكٍ لِلْمَحْكِيِّ قَبْلَهُ فِي خَاصَّةِ مَوْضُوعِهِ أَوْ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا عَلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنْ طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ تَبْدِيلِهِ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، لِبُعْدِهِ وَلِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي حِكَايَةِ ذَاكَ بِالْمَاضِي وَهُوَ:(قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)(15) وَحِكَايَةِ هَذَا بِالْمُضَارِعِ إِلَخْ.

ص: 269

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَرْجِيحِهِ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي هُنَاكَ، وَإِنَّمَا آثَرَ الْمُضَارِعَ عَلَى الْمَاضِي لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهَا مِنْ دَأْبِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَتِهَا الشَّنِيعَةِ اهـ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي التَّرْجِيحِ وَبَاعَدَ، وَإِنْ سَدَّدَ فِي التَّعْلِيلِ وَقَارَبَ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ فِي هَذَا

السِّيَاقِ حِكَايَةُ أَنْوَاعِ جُحُودِهِمْ فِي جُمْلَتِهَا، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ فِي هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا وَفِيمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)(38) وَقَوْلِهِ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(48) إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي الْجُحُودِ؛ فَإِنَّ اقْتِرَاحَ نُزُولِ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ عَلَيْهِ قَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ، وَذُكِرَ فِي سُورٍ مِنْهَا مَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ (يُونُسَ) وَمِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بِشَوَاهِدِهِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ هَكَذَا.

وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ قَدْ قَالُوا وَلَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم آيَةٌ كَوْنِيَّةٌ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُنَا عَنْهُمْ، حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ هَذَا الِاقْتِرَاحَ هُنَا مُجْمَلًا وَأَجَابَ عَنْهُ جَوَابًا مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ سَبَقَ مُفَصَّلًا فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا كُفَّارُ الْإِفْرِنْجِ وَتَلَامِيذُهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ مِصْرَ، فَقَالُوا فِي مِثْلِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي مَكَّةَ يَفِرُّ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْمُشْرِكِينَ (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) وَالْآيَاتُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَبِيَدِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهَا خَوَارِقُ فَوْقَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَالْغَيْبُ لِلَّهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ قَدَّرَ إِنْزَالَ آيَةٍ عَلِيَّ فَهُوَ يَعْلَمُ وَقْتَهَا وَيُنَزِّلُهَا فِيهِ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لِمَا يَفْعَلُهُ بِي وَبِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ رَمْيِهِ صلى الله عليه وسلم بِافْتِرَاءِ الْقُرْآنِ:(قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(46: 9) وَيُفَسِّرُ مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(102) وَفِيهِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُوَ قِسْمَانِ: عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِمَنْ أُوتُوا مَا اقْتَرَحُوا عَلَى رُسُلِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ فَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، وَعَذَابُ مَنْ لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ وَهُوَ خِذْلَانُهُمْ وَنَصْرُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.

حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمُ اقْتِرَاحَ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مُبْهَمَةٍ فِي بَعْضِ السُّورِ، وَاقْتِرَاحَ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، مِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْحِجْرُ (15: 6 - 8) فَالْأَنْعَامُ (6: 8 و9 39 - 41 و109 و111) فَالْأَنْبِيَاءُ (21: 5) فَالْعَنْكَبُوتُ

(29: 50) فَالرَّعْدُ (13: 7 و27) وَفِيهَا أَجْوِبَةٌ أُخْرَى، فَأَمَّا الْأَنْعَامُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِكَوْنِ الْآيَاتِ لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا عَلَى الْجُحُودِ فَتَحِقُّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَنَافِي مُرَادَ

ص: 270

اللهِ تَعَالَى مِنْ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءَيْنِ 7 و8 مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا فَيُرَاجَعْ، ثُمَّ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ:(مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)(21: 6) ثُمَّ أَجَابَ عَنْهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ لَمَ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)(29: 51) ؟

لَكِنَّهُ كَانَ قَدْ فَصَّلَ مُقْتَرَحَاتِهِمْ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا فِي السُّوَرِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ:(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (25: 7 و8) ؟ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) أَنَّهُمْ طَالَبُوهُ صلى الله عليه وسلم بِوَاحِدَةٍ مِنْ بِضْعِ آيَاتٍ وَعَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى إِجَابَةِ طَلَبِهِمْ، فَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَا صَرَّفَهُ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ جَمِيعِ ضُرُوبِ الْأَمْثَالِ:(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا)(17: 90) إِلَخْ. الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ، ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:(قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)(17: 93 و95) أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ فِي جَوَابِهِمْ، تَسْبِيحَ التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِالْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِسُنَنِ الْكَوْنِ، وَأَنَّ آفَتَهُمْ هِيَ آفَةُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْهُدَى، وَأَنَّهُ مَتَى تَبَيَّنَ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ اتِّبَاعُهُ لِذَاتِهِ، فَاحْتَقَرُوا الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَاقْتَرَحُوا أَنْ تَجِيئَهُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ فِيهَا كَالْبَشَرِ يُمْكِنُهُمُ التَّلَقِّي عَنْهُمْ لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إِذَا نَزَّلَ الْمَلَكَ فَهُوَ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالْعَذَابِ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَشَرًا، وَإِذًا لَاحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ مِثْلُهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِمْ لِلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: (مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ

إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) (15: 7 و8) وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)(6: 8 و9) .

وَلَقَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) حُجَّةً أُخْرَى فِي حِكْمَةِ عَدَمِ نُزُولِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَيْهِ أَوْ سَبَبَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ:(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)(17: 59) أَيْ وَمَا صَرَفَنَا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ اللَّاتِي اقْتَرَحَتْهَا قُرَيْشٌ، إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَمْثَالُهُمْ فِي الطَّبْعِ وَالْعَادَةِ كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَّهَا لَوْ أُرْسِلَتْ لَكَذَّبُوا بِهَا تَكْذِيبَ أُولَئِكَ وَاسْتَوْجَبُوا

ص: 271

عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُنَا، وَقَدْ قَضَيْنَا أَلَّا نَسْتَأْصِلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أُمَّةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْبَاقِيَةُ، وَأَنَّهُ هُوَ رَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ يُولَدُ لَهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، فَنَذْكُرُهُ مَعَ عِبَارَةِ الْبَيْضَاوِيِّ الْوَجِيزَةِ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ:

(وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ) لِسُؤَالِهِمْ: مُبْصِرَةً بَيِّنَةً ذَاتَ إِبْصَارٍ أَوْ بَصَائِرَ أَوْ جَاعِلَتَهُمْ ذَوِي بَصَائِرَ فَظَلَمُوا بِهَا أَيْ فَكَفَرُوا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ عَقْرِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ أَيِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا تَخْوِيفًا (17: 59) مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصَلِ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا نَزَلَ اهـ.

وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْفُرْقَانِ وَقَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ مُوسَى فِي مَوْلِدِهِ وَنَشْأَتِهِ وَفِرَارِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِلَى مَدْيَنَ وَبَعْثَتِهِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ إِلَخْ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي آخِرِهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا، فَهِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ (28: 44 - 46) مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّهَا فِي (مَبَاحِثِ الْوَحْيِ ج 11 تَفْسِيرٍ) ثُمَّ قَالَ: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)(28: 47 و48) إِلَخْ.

فَجُمْلَةُ مَا وَرَدَ فِي اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْ مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مُقَرِّرٌ؛ لِمَا عُلِمَ بِالْقَطْعِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ حُجَّتَهُ عَلَى رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هَذَا الْقُرْآنَ، الْمُشْتَمِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْإِصْلَاحِيَّةِ

وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَإِعْجَازِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْهِدَايَةِ إِلَى آخَرِ مَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الِاسْتِطْرَادِيِّ الَّذِي عَقَدْنَاهُ لِإِثْبَاتِ الْوَحْيِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (ج 11 تَفْسِيرٍ) وَقَدْ آتَى اللهُ رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ آيَاتٍ أُخْرَى عِلْمِيَّةً وَكَوْنِيَّةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا حُجَّةً عَلَى رِسَالَتِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِالتَّحَدِّي بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ لِضَرُورَاتٍ اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْأُمَّةِ إِلَيْهَا كَاسْتِجَابَةِ بَعْضِ أَدْعِيَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ سَابِقًا.

وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وَقَدْ يُعَارِضُهُ آيَةُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ مَعَ مَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آيَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فَكَانَ فِرْقَتَيْنِ، وَلَكِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي انْشِقَاقِهِ عِلَلًا فِي مَتْنِهَا وَأَسَانِيدِهَا، وَإِشْكَالَاتٍ عِلْمِيَّةً وَعَقْلِيَّةً وَتَارِيخِيَّةً فَصَّلْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ

ص: 272

الثَّلَاثِينَ مِنَ الْمَنَارِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمُؤَيَّدَةُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الصَّرِيحِ فِي حَصْرِ مُعْجِزَةِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُرْآنِ، وَكَوْنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ تَقْتَضِي إِجَابَةُ مُقْتَرِحِيهَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَتِهِ شَيْءٌ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَمَرِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا لِإِتْمَامِ التَّفْسِيرِ بِفَضْلِهِ.

(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ

عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .

لَمَّا كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اقْتِرَاحِهِمُ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ يَتَضَمَّنُ - بِمَعُونَةٍ مَا يُفَصِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ - أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لَا يَقْتَنِعُونَ بِالْآيَاتِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهَا بِأَعْيُنِهِمْ يُكَابِرُونَ حِسَّهُمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ، ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لَهُ فِي آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا، وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْمَكْرِ فِيهَا وَكَوْنِهَا لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا فَقَالَ:

(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ مُنْتَظِمَةٌ مَعَ أُخْتَيْهَا فِي الْآيَتَيْنِ 12 و15 فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَالذَّوْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: إِدْرَاكُ الطَّعْمِ بِالْفَمِ، وَالْمُدْرِكُ لَهُ

ص: 273

عَصَبٌ خَاصٌّ فِي اللِّسَانِ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِدْرَاكِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ كَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْمُؤْلِمَاتِ كَالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ، وَالضَّرَّاءُ الْحَالَةُ مِنَ الضُّرِّ الْمُقَابِلِ لِلنَّفْعِ، وَيُقَابِلُهَا السَّرَّاءُ مِنَ السُّرُورِ، أَيْ وَإِذَا كَشَفْنَا ضَرَّاءَ مَسَّ النَّاسَ أَلَمُهَا، بِرَحْمَةٍ مِنَّا أَذَقْنَاهُمْ لَذَّتَهَا عَلَى أَتَمِّهَا؛ لِأَنَّ الشُّعُورَ بِهَا عَقِبَ زَوَالِ ضِدِّهَا يَكُونُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ _ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ((إِذَا)) هَذِهِ تُسَمَّى الْفُجَائِيَّةُ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْمَكْرِ، وَأَسْرَعُوا بِالْمُفَاجَأَةِ بِهِ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ، فَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ مَطَرًا أَحْيَا الْأَرْضَ، وَأَنْبَتَ الزَّرْعَ، وَدَرَّ بِهِ الضَّرْعُ بَعْدَ جَدَبٍ وَقَحْطٍ أَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، قَالُوا: مُطِرْنَا بِالْأَنْوَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ نَجَاةً مِنْ هَلَكَةٍ وَأَعْوَزَتْهُمْ أَسْبَابُهَا، عَلَّلُوهَا بِالْمُصَادَفَاتِ، وَإِذَا كَانَ سَبَبَهَا دُعَاءُ نَبِيِّهِمْ أَنْكَرُوا

إِكْرَامَ اللهِ لَهُ وَتَأْيِيدَهُ بِهَا، كَمَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ عَقِبَ آيَاتِ مُوسَى، وَكَمَا فَعَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ إِثْرَ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُمْ بِدُعَائِهِ، فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَجُحُودًا وَمَكْرًا وَكَنُودًا.

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجُهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجَهْدِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(44: 10 و11) فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَقِ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ. فَقَالَ: ((مُضَرُ؟)) مُتَعَجِّبًا.؟ وَفِي رِوَايَةٍ فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللهَ، فَدَعَا لَهُمْ فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَمُطِرُوا، فَعَادُوا إِلَى حَالِهِمْ وَمَكْرِهِمُ الْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(8: 30) الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ آيَةِ 7: 99 وَآيَةِ (3: 54) مَعْنَى الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ وَكَوْنِهِ حَسَنًا وَسَيِّئًا وَمَعْنَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَكْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّدْبِيرِ الْخَفِيِّ الَّذِي يُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَسِبُهُ وَلَا يَتَوَقَّعُهُ، وَأَنَّ مَكْرَهُ تَعَالَى وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَكُلُّهُ حَقٌّ وَعَدْلٌ وَحُسْنٌ، وَلَكِنْ مَا يَسُوءُ النَّاسَ مِنْهُ يُسَمُّونَهُ شَرًّا وَسُوءًا، وَإِنْ كَانَ جَزَاءً عَدْلًا، وَيُرَاجَعْ تَحْقِيقُهُ فِي الْجُزْءِ 3 و9 مِنَ التَّفْسِيرِ (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسْرِعُونَ فِي الْمَكْرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُفَاجَأَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَسْرَعُ مَكْرًا مِنْكُمْ؛ إِذْ سَبَقَ فِي تَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَتَقْدِيرِهِ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَنْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَى مَكْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ:(إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) يَعْنِي الْحَفَظَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِإِحْصَاءِ

ص: 274

أَعْمَالِ النَّاسِ وَكَتْبِهَا لِلْحِسَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَكِتَابَةُ الْمَكْرِ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابَةِ مُتَعَلِّقِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تُكْتَبَ نِيَّتُهَا وَهِيَ الْمَعْنَى

الْمَصْدَرِيُّ لِلْمَكْرِ.

وَالْجُمْلَةُ تَتِمَّةُ الْجَوَابِ الَّذِي لَقَّنَهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ عز وجل بِلَفْظِهِ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا بِمَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّبْلِيغِ لَفْظُ " قُلْ " وَهُوَ خِطَابُ اللهِ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَقُولِهِ الْخَاصِّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ:(قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ)(109: 1) وَأَمْثَالُهُ الْكَثِيرَةُ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَهُمُ الْآيَةَ بِرُمَّتِهَا: مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ كُلِّهَا لَا وَحْدَهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي أَمْثَالِهِ.

فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ كَلِمَةَ: ((اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)) مِنْ قَبْلِ نَفْسِهِ؛ فَيَسْتَشْكِلَ الِالْتِفَاتُ فِيهَا عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي: (إِنَّ رُسُلَنَا) بَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَصْوِيرِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ ((إِنَّ رُسُلَهُ يَكْتُبُونَ)) إِلَخْ؛ لِأَنَّ فِي ضَمِيرَ الْجَمْعِ مِنْ تَصْوِيرِ الْعَظْمَةِ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَظِيمِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ، مَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ سَيِّدَةِ اللُّغَاتِ، الَّتِي اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَاتِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِأَنَّهَا تَفُوقُ جَمِيعَ لُغَاتِهِمْ، فِي التَّعْبِيرِ عَنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَمِثْلُ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْكَهْفِ:(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)(18: 109) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ (يَمْكُرُونَ) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْغَائِبِينَ كَالْحَاضِرِينَ.

وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابَةِ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ لِأَعْمَالِ النَّاسِ وَحِكْمَتِهَا فِي تَفْسِيرِ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً (6: 61) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَشَرَحْنَا قَبْلَهَا مَسْأَلَةَ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ كُلِّهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)(6: 59) مِنْهَا فَيُرَاجِعُ الْمَوْضُوعُ كُلُّهُ فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّابِعِ مَنْ شَاءَ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ فَحَسْبُهُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْأَعْمَالَ كِتَابَةً غَيْبِيَّةً لَمْ يُكَلِّفْنَا اللهُ تَعَالَى مَعْرِفَةَ صِفَتِهَا، وَإِنَّمَا كَلَّفَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ لَهُ نِظَامًا حَكِيمًا فِي إِحْصَائِهَا؛ لِأَجْلِ مُرَاقَبَتِنَا لَهُ فِيهَا؛ لِنَلْتَزِمَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْخَيْرَ وَنَجْتَنِبَ أَضْدَادَهَا.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ: (أَسْرَعُ) فِيهَا عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ: سَرُعَ كَضَخُمَ وَحَسُنَ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِعٌ وَسَرِيعٌ وَسَرَاعٌ وَالْمُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ الرُّبَاعِيُّ أَسْرَعَ، وَفِي اللِّسَانِ أَنْ سِيبَوَيْهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَسْرَعَ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَتَكَلُّفُهُ كَأَنَّهُ أَسْرَعَ

ص: 275

الْمَشْيَ أَيْ عَجَّلَهُ، وَأَمَّا سَرُعَ فَكَأَنَّهَا غَرِيزَةٌ، وَأَنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ اسْتَعْمَلَ أَسْرَعَ مُتَعَدِّيًا، انْتَهَى. وَجَوَّزَ بَعْضُ النُّحَاةِ كَوْنَ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِثْلِ ((أَسْرَعُ)) مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا لَمْ تَكُنْ هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ.

ثُمَّ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) السَّيْرُ الْمُضِيُّ وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَالتَّسْيِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ يَسِيرُ بِتَسْخِيرِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ مَا يَسِيرُ عَلَيْهِ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ مَرْكَّبَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ، أَيْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّيْرِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ (وَزَادَنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْقِطَارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ الْبُخَارِيَّةَ وَالطَّيَّارَاتِ الَّتِي تَسِيرُ فِي الْجَوَاءِ)(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أَيْ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي إِحْدَى حَوَادِثِ سَيْرِكُمُ الْبَحْرِيِّ رَاكِبِينَ فِي الْفُلْكِ الَّتِي سَخَّرَهَا لَكُمْ، وَالْفُلْكُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ الْمُفْرَدَةِ وَلِجَمْعِهَا وَهُوَ السُّفُنُ وَالسَّفَائِنُ (مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ وَاحِدٌ) وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَمْعُ إِذْ قَالَ:(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أَيْ وَجَرَتْ هَذِهِ الْفُلْكُ بِمَنْ فِيهَا بِسَبَبِ رِيحٍ طَيِّبَةٍ، أَيْ رُخَاءٍ مُوَاتِيَةٍ لَهُمْ فِي جِهَةِ سِيَرِهِمْ، وَالطِّيبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُوَافِقُ الْغَرَضَ وَالْمَنْفَعَةَ؛ يُقَالُ: رِزْقٌ طَيِّبٌ، وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ، وَبَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَشَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ:(بِهِمْ) الْتِفَاتٌ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَائِدَتُهُ _ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ _ الْمُبَالَغَةُ، كَأَنَّهُ يَذْكُرُ لِغَيْرِهِمْ حَالَهُمْ لِيُعْجِبَهُمْ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا لِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَفَرِحُوا بِهَا لِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالِانْتِعَاشِ وَالْأَمْنِ مِنْ دُوَارِ الْبَحْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَنْظَرِهِ الْجَمِيلِ، فِي ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْعَلِيلِ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ

أَيْ جَاءَتِ الْفُلْكَ أَوِ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ، أَيْ لَاقَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ قَوِيَّةٌ.

يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ أَيْ تَعْصِفُ الْأَشْيَاءَ فَتَكُونُ كَعَصْفِ النَّبَاتِ وَهُوَ الْحُطَامُ الْمُتَكَسِّرَةُ مِنْهُ: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَيْ وَاضْطَرَبَ الْبَحْرُ وَتَمَوَّجَ سَطْحُهُ كُلُّهُ، فَتَلَقَّاهُمْ مَوْجُهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي بِتَأْثِيرِ الرِّيحِ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا يَهُبُّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ كَالرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، وَمِنْهَا النَّكْبَاءُ وَهِي الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَمِنْهَا الْمُتَنَاوِحَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَمِنْهَا الْإِعْصَارُ وَهِي الرِّيحُ الَّتِي تَدُورُ فَتَكُونُ عَمُودِيَّةً فَيَرْتَفِعُ بِهَا مَا تَدُورُ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحَصَى مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَاءِ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ بِمَا عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مَنْ سَمَكٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي مَكَانٍ آخَرَ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أَيِ اعْتَقَدُوا اعْتِقَادًا رَاجِحًا أَنَّهُمْ هَلَكُوا بِإِحَاطَةِ الْمَوْجِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا يُحِيطُ الْعَدُوُّ الْمُحَارِبُ بِعَدُوِّهِ إِذْ يُطَوِّقُهُ بِمَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ سُبُلَ النَّجَاةِ. ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَاصِفِ يَهْبِطُ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبَحْرِ تَارَةً كَأَنَّهُمْ سَقَطُوا فِي هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَثِبَ بِهِمْ إِلَى أَعْلَى غَوَارِبِ الْمَوْجِ كَأَنَّهُمْ فِي قُنَّةِ جَبَلٍ شَاهِقٍ أَصَابَهُ رَجْفَةُ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةٍ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هَذَا جَوَابٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) إِلَخْ، أَيْ حَتَّى إِذَا مَا نَزَلَ بِهِمْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ

ص: 276

نُذُرِ الْعَذَابِ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ دُونَ النَّجَاةِ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ، دَعَوُا اللهَ فِي كَشْفِهِ عَنْهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَا يَتَوَجَّهُونَ مَعَهُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا نِدٍّ وَلَا شَرِيكٍ، مِمَّنْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَيْهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ، عَازِمِينَ عَلَى طَاعَتِهِ قَائِلِينَ:(لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ نُقْسِمُ لَكَ يَا رَبَّنَا لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ التَّهْلُكَةِ أَوِ الْعَاصِفَةِ لَنَكُونَنَّ لَكَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ لِنَعْمَائِكَ لَا نَكْفُرُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا نُشْرِكُ بِكَ أَحَدًا، وَلَا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا، وَلَا نَتَوَجَّهُ فِي تَفْرِيجِ كُرُوبِنَا وَقَضَاءِ حَاجِنَا إِلَى وَثَنٍ وَلَا صَنَمٍ، وَلَا إِلَى وَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَلَا مَلِكٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بَيَانٌ صَرِيحٌ لِكَوْنِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَدْعُونَ فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بِهِمْ إِلَّا اللهَ رَبَّهُمْ، وَلَكِنْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِنْ مُسْلِمِي هَذَا الزَّمَانِ بِزَعْمِهِمْ لَا يَدْعُونَ عِنْدَ أَشَدِّ الضِّيقِ إِلَّا مَعْبُودِيهِمْ مِنَ الْمَيِّتِينَ، كَالْبَدَوِيِّ وَالرِّفَاعِيِّ وَالدُّسُوقِيِّ

وَالْجِيلَانِيِّ وَالْمَتْبُولِيِّ وَأَبِي سَرِيعٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَتَجِدُ مِنْ حَمْلَةِ الْعَمَائِمِ الْأَزْهَرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا سِيَّمَا سَدَنَةِ الْمَشَاهِدِ الْمَعْبُودَةِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِأَوْقَافِهَا وَنُذُورِهَا، مَنْ يُغْرِيهِمْ بِشِرْكِهِمْ وَيَتَأَوَّلُهُ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَالتَّوَسُّلِ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ حِكَايَةً يَتَنَاقَلُونَهَا رُبَّمَا تَكَرَّرَتْ فِي الْقُطْرَيْنِ لِتُشَابُهِ أَهْلِهِمَا وَأَكْثَرِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ فِي خُرَافَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ جَمَاعَةً رَكِبُوا الْبَحْرَ فَهَاجَ بِهِمْ حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ فَصَارُوا يَسْتَغِيثُونَ مُعْتَقَدِيهِمْ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَا سَيِّدُ يَا بَدَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ يَصِيحُ يَا رِفَاعِيُّ، وَآخَرُ يَهْتِفُ: يَا عَبْدَ الْقَادِرِ يَا جِيلَانِيُّ. . . . . إِلَخْ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مُوَحِّدٌ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا فَقَالَ: يَارَبِّ أَغْرِقْ أَغْرِقْ، مَا بَقِيَ أَحَدٌ يَعْرِفُكَ.

وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ السَّيِّدُ حَسَنُ صِدِّيقٍ الْهِنْدِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ تَفْسِيرِهِ فَتْحِ الرَّحْمَنِ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ يُجَابُ دُعَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا شَابَهَهَا. فَيَا عَجَبًا لِمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَوَائِفَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَمْوَاتِ، فَإِذَا عَرَضَتْ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ، دَعَوُا الْأَمْوَاتَ وَلَمْ يُخْلِصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ إِلَيْنَا تَوَاتُرًا يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ، فَانْظُرْ هَدَاكَ اللهُ مَا فَعَلَتْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ؟ وَأَيْنَ وَصَلَ أَهْلُهَا؟ وَإِلَى أَيْنَ رَمَى بِهِمُ الشَّيْطَانُ؟ وَكَيْفَ اقْتَادَهُمْ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْقَادُوا لَهُ انْقِيَادًا مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) .

وَقَالَ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأُلُوسِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ:

((أَيْ دَعَوْهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ لِرُجُوعِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ لَا مُتَصَرِّفَ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ الْمَرْكُوزُ فِي طَبَائِعِ الْعَالَمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ

ص: 277

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ

وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَرَّ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنْجِنِي فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ مَا يُنْجِينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللهُمَّ إِنَّ لَكَ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِيَ فِي يَدِهِ فَلْأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عِكْرِمَةَ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ وَأَخَذَتْهُمُ الرِّيحُ فَجَعَلُوا يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُونَهُ قَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا مَكَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، قَالَ: فَهَذَا إِلَهُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ فَارْجِعُوا بِنَا، فَرَجَعَ وَأَسْلَمَ، ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ الدُّعَاءِ فَقَطْ بِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِهِ تَعَالَى أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَكُونُونَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَدْعُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ إِذَا اعْتَرَاهُمْ أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَخَطْبٌ جَسِيمٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، دَعَوْا مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الْخِضْرَ وَإِلْيَاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَادِي أَبَا الْخَمِيسِ وَالْعَبَّاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْرَعُ إِلَى شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الْأُمَّةِ، وَلَا تَرَى فِيهِمْ أَحَدًا يَخُصُّ مَوْلَاهُ، بِتَضَرُّعِهِ وَدُعَاهُ، وَلَا يَكَادُ يَمُرُّ لَهُ بِبَالٍ، أَنَّهُ لَوْ دَعَا اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ يَنْجُو مِنْ هَاتِيكَ الْأَهْوَالِ، فَبِاللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ قُلْ لِي أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَهْدَى سَبِيلًا، وَأَيُّ الدَّاعِيَيْنِ أَقُومُ قِيلًا! وَإِلَى اللهِ تَعَالَى الْمُشْتَكَى مِنْ زَمَانٍ عَصَفَتْ فِيهِ رِيحُ الْجَهَالَةِ وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُ الضَّلَالَةِ، وَخُرِّقَتْ سَفِينَةُ الشَّرِيعَةِ، وَاتُّخِذَتِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِلنَّجَاةِ ذَرِيعَةً، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعَارِفِينَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَحَالَتْ دُونَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ صُنُوفُ الْحُتُوفِ اهـ.

أَقُولُ - يَعْنِي الشِّهَابُ الْأَلُوسِيُّ رحمه الله إِنَّ فُشُوَّ هَذَا الشِّرْكِ فِي النَّاسِ عَامَّتِهِمْ، وَشُيُوخِ الْبِدَعِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حُكَّامِهِمْ، جَعَلَ نَهْيَ الْعَارِفِينَ عَنْهُ، وَأَمْرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَذِّرَةِ، الَّتِي يُخْشَى عَلَى الْمُجَاهِرِ بِهَا الْحُتُوفُ

وَالْهَلَكَةُ. وَنَحْنُ مَا أَمْكَنَنَا هَذِهِ الْمُجَاهَرَةُ فِي مِصْرَ إِلَّا بِمَا رَسَخَ فِيهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِتَفَرْنُجِ الْحُكُومَةِ. وَلَمَّا جَهَرْتُ بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَرْسٍ عَامٍّ بِالْمَسْجِدِ الْحُسَيْنِيِّ سَنَةَ 1316 هَاجَ عَلَيَّ النَّاسُ هَيْجَةً شُؤْمَى، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْتُلَنِي جَهْرًا، فَمَا يَقُولُ شَيْخُ الْأَزْهَرِ وَمُحَرِّرُو مَجَلَّةِ الْمَشْيَخَةِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فِي السَّيِّدِ الْأَلُوسِيِّ وَفِي السَّيِّدِ حَسَنِ صِدِّيقٍ؟ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَطْعَنَ هَذِهِ الْمَجَلَّةُ فِي دِينِهِمَا وَعَقِيدَتِهِمَا كَمَا طَعَنَتْ عَلَى دِينِ الْإِمَامِ الشَّوْكَانِيِّ فِي جُزْئِهَا الَّذِي صَدَرَ أَثْنَاءَ كِتَابَتِنَا لِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

ص: 278

(اهْتِدَاءُ بَارِجٍ إِنْكِلِيزِيٍّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا)

سَاقَ اللهُ تَعَالَى نُسْخَةً مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ إِلَى بَارِجٍ مِنْ رَبَابِينِ الْبَوَاخِرِ الْكُبْرَى الَّتِي تَمْخُرُ الْبِحَارَ بَيْنَ إِنْكِلْتِرَةَ وَالْهِنْدِ، فَرَأَى فِيهَا تَرْجَمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ فَرَاعَتْهُ بَلَاغَةُ وَصْفِهَا لِطُغْيَانِ الْبَحْرِ وَاصْطِخَابِهِ، وَمَا تَفْعَلُهُ الرِّيَاحُ الْمَوْسِمِيَّةُ الْعَاتِيَةُ بِالْبَوَاخِرِ وَالْبَوَارِجِ الْعَظِيمَةِ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ، فَطَفِقَ يَتَأَمَّلُ سَائِرَ الْآيَاتِ فِي وَصْفِ الْبَحْرِ، وَالسَّفَائِنِ الْكُبْرَى فِيهِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَظِيرٌ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ)(55: 19 - 24) وَرَأَى أَنَّ الْمُتَرْجِمَ الْإِنْكِلِيزِيَّ يَنْقُلُ عَنْ أَشْهَرِ تَفَاسِيرِ الْقُرْآنِ لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَ افْتِتَاحِ الْعَرَبِ لِلْمَمَالِكِ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْبِحَارِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرَفُونَ مَا عَرَفَهُ الْإِنْكِلِيزُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، أَنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْبِحَارِ الْحُلْوَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبِحَارِ الْمَالِحَةِ، فَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مُجْتَمَعِهِمَا الصَّادِقِ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بِزَعْمِهِمْ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحُ فَقَطْ، غَافِلِينَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)(35: 12) وَنَبَّهَ نَظَرَهُ تَشْبِيهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتِ بِالْأَعْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ)(42: 32، 33) وَالْعَلَمُ الْجَبَلُ، وَأَصْلُهَا أَعْلَامُ الطَّرِيقِ الْعَالِيَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْمَسَالِكُ، أَطَالَ الْفِكْرَ هَذَا

الرُّبَّانُ الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَتَعَمَّدَ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ ثُغُورِ الْهِنْدِ، فَسَأَلَهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم سَافَرَ فِي الْبِحَارِ؟ قَالُوا: لَا إِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ سَافَرَ فِي الْبَحْرِ قَطُّ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِهَذَا النَّبِيِّ الْعَظِيمِ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّشْرِيعِ وَالتَّهْذِيبِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْفِكْرَةِ مِنْ كُلِّ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَسْلَمَ عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَظَلَّ زَمَنًا طَوِيلًا يَتَعَبَّدُ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أُتِيحَ لَهُ تَرْكُ عَمَلِهِ فِي الْبِحَارِ فَأَقَامَ فِي مِصْرَ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ وَعَاشَرَ فُضَلَاءَ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ مِسْتَرْ عَبْدُ اللهِ بِرَاوِنْ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَا قَدْ أَدْرَكْتُهُ وَعَرَفْتُهُ، وَلَا يَزَالُ فِي مِصْرَ مَنْ يَعْرِفُهُ وَقَدْ ضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِهِ الْمَثَلَ فِي صَلَاتِهِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الْبَحْرِ بِقَدْرِ مَا يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ بِكُلِّ خُشُوعٍ وَتَوَجُّهٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فِي كَلَامٍ لَهُ فِي رُوحِ الصَّلَاةِ وَمَغْزَاهَا، وَصُورَتِهَا وَأَرْكَانِهَا، قَالَ: قَدْ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ أَقْرَبَ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَقَبُولِهِ مِنَ الصَّلَاةِ الصُّورِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، الَّتِي يُمَثِّلُهَا مَنْ لَا يَخْطُرُ فِي قُلُوبِهِمْ فِيهَا أَنَّهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى اللهِ وَمُنَاجُونَ لَهُ، مَعَ اسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ إِلَخْ.

ص: 279

قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ إِذَا هُمْ يُفَاجِئُونَ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَهْبِطُونَ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ وَالْإِفْسَادُ، يَمْنَعُونَ فِي ذَلِكَ وَيُصِرُّونَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ الْبَغْيِ طَلَبُ مَا زَادَ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، إِلَى الْإِفْرَاطِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ وَالِاخْتِلَالِ، مِنْ بَغَى الْجُرْحُ إِذَا زَادَ حَتَّى تَرَامَى إِلَى الْفَسَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَغَتِ السَّمَاءُ، إِذَا تَجَاوَزَتْ فِي الْمَطَرِ الْحَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَإِمْدَادِ الْيَنَابِيعِ، وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَجَاوَزَتْ فِي بُضْعِهَا الْحَقَّ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِ إِلَى الْفُجُورِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَمَا وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَتَكُونُ الصِّفَةُ كَاشِفَةً لِلْوَاقِعِ لِلتَّذْكِيرِ بِقُبْحِهِ وَسُوءِ حَالِ أَهْلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَغْيُ - وَهُوَ تُجَاوُزُ حَدِّ الِاعْتِدَالِ - بِحَقٍّ إِذَا كَانَ عِقَابًا عَلَى مِثْلِهِ أَوْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، كَمَا يَقَعُ فِي الْحُرُوبِ وَقِتَالِ الْبُغَاةِ مِنِ اضْطِرَارِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ، إِلَى تَجَاوُزِ الْحُدُودِ فِي أَثْنَاءِ الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ

الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)(42: 39 - 42) وَقَالَ فِي بَيَانِ أُصُولِ الْجَرَائِمِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)(7: 33) إِلَخْ.

(يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ حِكَايَةِ الْمَثَلِ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْبُغَاةِ أَيْنَمَا كَانُوا، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وُجِدُوا، مَبْدُوءًا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يَصِيحُ بِهِ الْوَاعِظُ الْمُنْذِرُ بِالْبَعِيدِ فِي مَكَانِهِ، أَوِ الْغَافِلِ الَّذِي يُشْبِهُ الْغَائِبَ فِي حَاجَتِهِ إِلَى مَنْ يَصِيحُ بِهِ لِيُنَبِّهَهُ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الضَّالُّونَ عَنْ رُشْدِهِمْ، الْغَافِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، حَسْبُكُمْ بَغْيًا عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْكُمْ، وَغُرُورًا بِكِبْرِيَائِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، إِنَّمَا بَغْيُكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ لِأَنَّ عَاقِبَةَ وَبَالِهِ عَائِدَةٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ تَبْغُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِكُمْ أَوْ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ، كَقَوْلِهِ:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(4: 29) الْمُرَادُ بِهِ: وَلَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: أَيْ حَالَ كَوْنِ بَغْيِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، فَهُوَ يَنْقَضِي وَعَقَابِيلُهُ بَاقِيَةٌ، وَأَقَلُّهَا تَوْبِيخُ الْوِجْدَانِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ((مَتَاعَ)) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ أَيْ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ هَذَا التَّمَتُّعِ الْقَلِيلِ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا وَحْدَنَا فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دَائِمًا مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْبَاطِلِ مُصِرِّينَ فَنُجَازِيكُمْ بِهِ.

دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْبَغْيَ يُجَازَى أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ إِنْذَارُ أَهْلِهِ الرُّجُوعَ إِلَى اللهِ، وَإِنْبَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ بِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ يُعَجِّلُ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ

ص: 280

فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ النَّجَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ((احْذَرُوا الْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ هِيَ أَحْضُرُ مِنْ عُقُوبَةِ الْبَغْيِ)) ! ! وَالتِّرْمِذِيُّ

وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ: ((أَسْرَعُ الْخَيْرِ ثَوَابًا الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَأَسْرَعُ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ)) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: ((لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي)) وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ:((لَدُكَّ الْبَاغِي مِنْهُمَا)) أَخْرَجَهُ ابْنٌ لَالٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلَاثٌ هُنَّ رَوَاجِعُ عَلَى أَهْلِهَا. الْمَكْرُ وَالنَّكْثُ وَالْبَغْيُ)) ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)(10: 23)، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (35: 43) ، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) (48: 10) وَالْمُرَادُ نَكْثُ الْعُهُودِ مَعَ اللهِ أَوْ مَعَ النَّاسِ.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَبْغِ وَلَا تَكُنْ بَاغِيًا)) فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِثْلَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

وَأَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، إِلَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْعُمْرَانِ وَطَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّتِي تُثْبِتُهَا وَقَائِعُ التَّارِيخِ، فَهِي الَّتِي تُفَسِّرُ لَنَا أَنَّ الْبَغْيَ - وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ ضُرُوبِ الظُّلْمِ لِلنَّاسِ - يَرْجِعُ عَلَى فَاعِلِهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَإِيقَادِ نِيرَانِ الْفِتَنِ وَالثَّوْرَاتِ فِي الْأَقْوَامِ، فَالْفَرْدُ الَّذِي يَبْغِي عَلَى مِثْلِهِ يَخْلُقُ لَهُ بَغْيُهُ عَدُوًّا أَوْ أَعْدَاءً مِمَّنْ يَبْغِي عَلَيْهِمْ، وَمِمَّنْ يَكْرَهُونَ الْبَغْيَ وَأَهْلَهُ، فَوُجُودُ الْأَعْدَاءِ وَالْمُبْغِضِينَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعُقُوبَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا إِيذَاءَ الْبَاغِي لِعَجْزِهِمْ، فَكَيْفَ إِذَا قَدَرُوا وَفَعَلُوا وَهُوَ الْغَالِبُ؟ وَأَمَّا بَغْيُ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ عَلَى الْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ فَأَهْوَنُ عَاقِبَتِهِ عَدَاوَتُهُمْ وَالطَّعْنُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تُفْضِي إِلَى اغْتِيَالِ أَشْخَاصِهِمْ، أَوْ إِلَى ثَلِّ عُرُوشِهِمْ وَالْقَضَاءِ عَلَى حُكْمِهِمْ، إِمَّا بِثَوْرَةٍ مِنَ الشَّعْبِ تَسْتَبْدِلُ بِهَا عَرْشًا بِعَرْشٍ، أَوْ نَوْعًا مِنَ الْحُكْمِ بِنَوْعٍ آخَرَ، وَإِمَّا بِإِغَارَةِ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى الدَّوْلَةِ الَّتِي يُضْعِفُهَا الْبَغْيُ تَسْلُبُهَا اسْتِقْلَالَهَا، وَتَسْتَوْلِي عَلَى بِلَادِهَا، وَلَا تَنْسَ مَا تَكَرَّرَ عَلَيْكَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ ذُنُوبَ الْأَفْرَادِ مِنْ بَغْيٍ وَظُلْمٍ وَغَيْرِهِمَا لَا يَطَّرِدُ الْعِقَابُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ ذُنُوبِ الْأُمَمِ

وَالدُّوَلِ، فَإِنَّ عِقَابَهَا أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا، وَإِنَّمَا يُوَفَّى كُلُّ أَحَدٍ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ.

ص: 281

(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا تَسْتَغِيثُ رَبَّهَا مِنْ بَغْيِ دُوَلِ أُورُبَّةَ وَظُلْمِهَا، فَمَا لَنَا لَا نَرَى بَغْيَهَا يَعُودُ وَبَالُهُ عَلَيْهَا، وَمَا لَنَا لَا نَرَى وَعِيدَهُ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ نَازِلًا بِهَا، وَمُدِيلًا لِلشُّعُوبِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَظْلُومَةِ مِنْهَا وَمِنْ شُعُوبِهَا الْمُؤَيِّدَةِ لَهَا؟ .

(قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَا جَاءَ إِلَّا مِنَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَالْجَهْلِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْعُمْرَانِ، فَإِنَّ فِي بِلَادِ هَذِهِ الدُّوَلِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ وَالْجَوَائِحِ وَالْفَقْرِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا فِي بَعْضِ بِلَادِ الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ قَتَلَتْ مِنْ رِجَالِهَا فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ الْعَامَّةِ، أَضْعَافَ مَنْ قَتَلَتْهُمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا مَنْ أَهْلِ الشَّرْقِ مُنْذُ اعْتَدَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَرَّبَتْ مِنْ عُمْرَانِهَا أَكْثَرَ مِمَّا خَرَّبَتْ فِي الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَسِرَتْ مِنْ أَمْوَالِهَا فِي أَرْبَعِ سِنِينَ أَضْعَافَ مَا رَبِحَتْ مِنَ الشَّرْقِ فِي مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّ مَا بَيْنَ شُعُوبِهَا بَعْضِهَا لِبَعْضٍ مِنَ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ لِلْوَثَبَانِ، وَالْفَتْكِ بِالْأَرْوَاحِ وَتَدْمِيرِ الْعُمْرَانِ، لَأَشَدُّ مِمَّا فِي قُلُوبِ شُعُوبِ الشَّرْقِ لِظَالِمِيهِمْ وَمُسْتَذِلِّيهِمْ مِنْهُمْ - فَهَذَا بَعْضُ انْتِقَامِ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ الْمُشَاهَدِ.

فَأَمَّا الْجَوَائِحُ السَّمَاوِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَهَا إِلَى أَسْبَابِهَا مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ، فَمَكْرُهُمْ فِي آيَاتِهِ أَشَدُّ مِنْ مَكْرِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَأَمَّا الْمَصَائِبُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَوَخَّوْنَ تَخْفِيفَهَا، وَتَلَافِيَ شُرُورِهَا، بِالْمُفَاوَضَاتِ وَالْمُؤْتَمَرَاتِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ.

وَأَمَّا مَا نَتَمَنَّاهُ مِنَ الْإِدَالَةِ لِشُعُوبِنَا مِنْهُمْ فَلَا نَزَالُ غَيْرَ أَهْلٍ لَهُ لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّخَاذُلِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا هَدَاهَا اللهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْبَابِ السِّيَادَةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَشَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا لِآيَاتِ كِتَابِهِ مِرَارًا، وَمِنَ الْمُكَابَرَةِ لِلْحِسِّ أَنْ نُنْكِرَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي بِلَادِنَا مِنْ عُمْرَانٍ فَهُوَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جُلُّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَأَنَّ مَنْ يُسْتَخْدَمُونَ مِنْ مُلُوكِنَا وَأُمَرَائِنَا وَحُكَّامِنَا هُمْ شَرٌّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ، بَلْ لَمْ يَسُودُونَا وَيَغْلِبُونَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِنَا، إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ سَادَتِنَا وَكُبَرَائِنَا إِيَّاهُمْ عَلَيْنَا (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (8: 53) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (فِي ص 32 - 41 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . تَعْلَمْ أَنَّنَا إِذَا غَيَّرْنَا مَا بِأَنْفُسِنَا الْآنَ، بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنَا مِنْ إِيمَانٍ وَأَخْلَاقٍ

تَتْبَعُهَا الْأَعْمَالُ، وَأَوَّلُهَا الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا سُلِبَ مِنَّا يَرْجِعُ إِلَيْنَا، وَنُزَادُ عَلَيْهِ بِالسِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِنَا، وَلَوِ اتَّبَعُوا هُمْ كِتَابَنَا كُلَّهُ لَأَصْلَحُوا الْأَرْضَ كُلَّهَا.

ضَرَبَ اللهُ هَذَا الْمَثَلَ هُنَا لِلْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ مِنَ الْبَاغِينَ فِي الْأَرْضِ وَالظَّالِمِينَ لِلنَّاسِ، فَذَكَرَ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي دُعَائِهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ لَهُ لَئِنْ أَنْجَاهُمْ مِنْهَا، لَيَكُونُنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ عَلَيْهَا، وَضَرَبَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَقَالَ:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(29: 65)

ص: 282

وَضَرَبَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ النَّاسِ فَقَالَ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(31: 31 و32) الْخَتَّارُ الْكَفُورُ هُنَا: ضِدٌّ مُقَابِلٌ: لِلصَّبَّارِ الشَّكُورِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَالْخَتْرُ: الْغَدْرُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ ضَعْفُ الْإِرَادَةِ.

وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، وَعَنِ الْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ، وَعَنِ الْخَتَّارِينَ الْفَاقِدِينَ لِفَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يَدْعُونَهُ فِي شِدَّةِ الضِّيقِ وَمُسَاوَرَةِ خَطَرِ الْبَحْرِ لَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِمْ لَهُمْ، وَتَوَسُّلِهِمْ بِهِمْ وَاتِّخَاذِهِمْ وُسَطَاءَ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْتَرِفُونَ هَذَا الشِّرْكَ وَمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ إِسْنَادِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ الْحَقِيقِيِّ فِي أَوْقَاتِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ مُنَغِّصَاتِهَا، وَأَنَّ الَّذِينَ يَثْبُتُونَ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ هُمُ الْمُقْتَصِدُونَ، أَيِ الْمُعْتَدِلُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ فَلَا تُقَنِّطُهُمُ الشِّدَّةُ، وَلَا تُبَطِّرُهُمُ النِّعْمَةُ.

وَلَكِنْ يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا مَنْ هُمْ أَشَدُّ شِرْكًا وَكُفْرًا بِالنِّعَمِ وَالْمُنْعِمِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَدْعُونَ غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ فِي أَشَدِّ أَوْقَاتِ الضِّيقِ وَالْخَطَرِ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُوَحِّدُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْمَوْرُوثَةِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)(47: 19) وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .

ص: 283

لَمَّا كَانَ سَبَبُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَإِفْسَادِ الْعُمْرَانِ، هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي حُبِّ التَّمَتُّعِ بِمَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّاتِ، ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بَلِيغًا يَصْرِفُ الْعَاقِلَ عَنِ الْغُرُورِ بِهَا، وَيَهْدِيهِ إِلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا، وَاجْتِنَابِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَشْبِيهِ زِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا فِي افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهِمَا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بِحَالِ الْأَرْضِ يَسُوقُ اللهُ إِلَيْهَا الْمَطَرَ فَتُنْبِتُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الَّذِي يَسُرُّ النَّاظِرِينَ بِبَهْجَتِهِ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ جَائِحَةٌ تَحُسُّهُ وَتَسْتَأْصِلُهُ قُبَيْلَ بُدُوِ صَلَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، قَالَ عز وجل:

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ لَا شَبَهَ لَهَا فِي صُورَتِهَا وَمَآلِهَا إِلَّا مَاءُ الْمَطَرِ فِي جُمْلَةِ حَالِهِ الْآتِيَةِ (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) أَيْ فَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنَ النَّبَاتِ تَشَابَكَتْ بِسَبَبِهِ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي تَجَاوُرِهَا وَتَقَارُبِهَا، عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) بَيَانٌ لِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ وَكَوْنِهَا شَتَّى كَافِيَةً لِلنَّاسِ فِي أَقْوَاتِهِمْ وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَكُلِّ مَرَامِي آمَالِهِمْ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) أَيْ حَتَّى كَانَتِ الْأَرْضُ بِهَا فِي خُضْرَةِ زُرُوعِهَا السُّنْدُسِيَّةِ، وَأَلْوَانِ أَزْهَارِهَا الرَّبِيعِيَّةِ، كَالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتْ حُلِيَّهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحُلَلَهَا مِنَ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنِ بِالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ، فَتَحَلَّتْ وَازَّيَّنَتْ بِهَا اسْتِعْدَادًا لِلِقَاءِ الزَّوْجِ - وَلَا تَغْفُلْ عَنْ حُسْنِ

الِاسْتِعَارَةِ فِي أَخْذِ الْأَرْضِ زِينَتَهَا، حَتَّى كَانَ اسْتِكْمَالُ جَمَالِهَا، كَأَنَّهُ فِعْلُ عَاقِلٍ حَرِيصٍ عَلَى مُنْتَهَى الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ فِيهَا (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (27: 88) وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِثَمَرَاتِهَا، وَادِّخَارِ غَلَّاتِهَا، أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَيْ نَزَلَ بِهَا فِي هَذَا الْحَالِ أَمْرُنَا الْمُقَدَّرُ لِإِهْلَاكِهَا؛ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوْ نَهَارًا وَهُمْ غَافِلُونَ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا أَيْ كَالْأَرْضِ الْمَحْصُودَةِ الَّتِي قُطِعَتْ وَاسْتُؤْصِلَ زَرْعُهَا، فَالْحَصِيدُ يُشَبَّهُ بِهِ الْهَالِكُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، كَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ الْمُهْلَكَةِ:(جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ)(21: 15) وَيُشْبِهُ هَذَا الْهَلَاكُ فِي نُزُولِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَتَوَقَّعُهُ فِيهِ أَهْلُهُ قَوْلُهُ: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضَحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(7: 97 و98)(كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أَيْ هَلَكَتْ فَجْأَةً فَلَمْ يَبْقَ مِنْ زُرُوعِهَا شَيْءٌ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُنْبِتْ وَلَمْ تَمْكُثْ قَائِمَةً نَضِرَةً بِالْأَمْسِ، يُقَالُ: غَنِيَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ

ص: 284

طَوِيلًا كَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ الْهَالِكِينَ فِي أَرْضِهِمْ:(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)(7: 92) وَالْأَمْسُ: الْوَقْتُ الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالْأَمْسُ مَثَلٌ فِي الْوَقْتِ الْقَرِيبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ آنِفًا انْتَهَى. وَأَمَّا أَمْسُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ فَهُوَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ كَهَذَا الْمَثَلِ فِي جَلَائِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِحَقِيقَةِ حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغُرُورِ النَّاسِ فِيهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، عِنْدَ تَعَلُّقِ الْآمَالِ بِنَوَالِهَا، نُفَصِّلُ الْآيَاتِ فِي حَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَأَمْثَالِ الْوَعْظِ وَالتَّهْذِيبِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِيهَا، وَيَزِنُونَ أَعْمَالَهُمْ بِمَوَازِينِهَا، فَيَتَبَيَّنُونَ رِبْحَهَا وَخُسْرَانَهَا.

وَالْعِبْرَةُ لِمُسْلِمِي عَصْرِنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَمْثَالِهَا، الَّتِي اهْتَدَى بِهَا الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ فَخَرَجَ مِنْ شِرْكِهِ وَخُرَافَاتِهِ وَأُمِّيَّتِهِ وَبَدَاوَتِهِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحَضَارَةِ، ثُمَّ اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا الْمَلَايِينُ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَشَارَكَتْهُ فِي هَذِهِ السَّعَادَةِ وَالنِّعَمِ _ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْهَا إِلَّا تَرْتِيلَهَا بِالنَّغَمَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاسِمِ

وَالْمَآتِمِ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّفَكُّرُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَاهْتَدَوْا، وَإِذًا لَعَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يَشْكُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ الشَّقَاءِ بِالْأَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالرَّذَائِلِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْعَدَاوَاتِ الْقَوْمِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الدَّوْلِيَّةِ، فَإِنَّمَا سَبَبُهُ التَّنَافُسُ فِي مَتَاعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَلْتَزِمَ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَصْرِفَ جُلَّ مَالِهِ وَهِمَّتِهِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقُوَّةِ دَوْلَتِهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِآخِرَتِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.

وَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ، وَهُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، إِلَّا عُلَمَاءُ السُّوءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ، وَزَعْمُهُمُ الْبَاطِلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْبَشَرِ أَحَدٌ أَهْلًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَبِبَيَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الِاجْتِهَادَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَصْبَحَ ضَرْبًا مِنَ الْمُحَالِ، وَقَدْ أَنْشَأَتْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَهْدِ - وَهِيَ أَكْبَرُ الْمَعَاهِدِ الدِّينِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً شَهْرِيَّةً بَاسِمِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) تُصَرِّحُ بِهَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَتَطْعَنُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَإِلَى تَرْكِ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَنِ، وَإِنَّهَا لَدَرْكَةٌ مِنْ عَدَاوَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَبْلُغُوا قَعْرَهَا إِلَّا بِخِذْلَانٍ مِنَ اللهِ.

ص: 285

(وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .

لَمَّا بَيَّنَ عز وجل غُرُورَ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَوَصْفِ حَالِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ فِيهَا فَقَالَ:

(وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ

وَقَرِينَةُ الْمُقَابَلَةِ أَيْ ذَاكَ الْإِيثَارُ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَالْإِسْرَافُ وَالْبَغْيُ فِيهِ، هُوَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَيَسُوقُ مُتَّبِعِيهِ إِلَى النَّارِ، دَارِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَاللهُ يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَهِي الْجَنَّةُ، وَفِي الْمُرَادِ بِـ ((السَّلَامِ)) الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ ((الدَّارُ)) وُجُوهٌ يَصِحُّ أَنْ تُرَادَ كُلُّهَا (أَوَّلُهَا) أَنَّهُ السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ وَالْمَعَايِبِ، وَالنَّقَائِصِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْخِصَامِ، (الثَّانِي) أَنَّهُ تَحِيَّةُ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ لِأَهْلِهَا، وَتَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ الدَّالَّةُ عَلَى تَحَابِّهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّ ((السَّلَامَ)) مِنْ أَسْمَائِهِ عز وجل، وَأُضِيفَتْ دَارُ النَّعِيمِ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَدْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَمَالِ التَّنْزِيهِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ إِضَافَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى ضَمِيرِ الذَّاتِ (دَارِي) .

(وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ إِلَى دُخُولِ ((دَارِ السَّلَامِ)) وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْوِيقٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ عَقَائِدُهُ وَفَضَائِلُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَأَحْكَامُهُ، وَالْهِدَايَةُ فِي الْأَصْلِ الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ، وَتَكُونُ بِالتَّشْرِيعِ وَهُوَ بَيَانُهُ، وَهِيَ عَامَّةٌ، وَبِالتَّوْفِيقِ لِلسَّيْرِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِقَامَةِ

ص: 286

الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُسْتَعِدِّينَ لِذَلِكَ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَهِي الْمُرَادَةُ هُنَا وَلِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالْمَشِيئَةِ.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) هَذَا بَيَانٌ لِصِفَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، فَوَصَلُوا بِالسَّيْرِ عَلَيْهِ إِلَى غَايَتِهِ وَهِيَ ((دَارُ السَّلَامِ)) أَيْ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا الْمَثُوبَةُ ((الْحُسْنَى)) أَيِ الَّتِي تَزِيدُ فِي الْحُسْنِ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَهِيَ مُضَاعَفَتُهَا بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ:(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(53: 31) وَلَهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى هَذِهِ الْحُسْنَى، وَهِيَ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ مُضَاعَفَتِهَا الَّتِي هِيَ مِنْ جَزَائِهَا مَهْمَا تَكُنْ حَسَنَةً، كَمَا قَالَ:(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)(4: 173) وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَدِيدَةِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هِي النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ الرُّوحَانِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمُتَّقُونَ الْمُحْسِنُونَ الْعَارِفُونَ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ص 112 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) بِمَا يُقَرِّبُهُ

مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ، وَيَدْحَضُ شُبُهَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُنْكِرِينَ لَهُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ مُحَالٌ عَقَلًا، وَمَا هَذَا الْمُحَالُ إِلَّا نَظَرِيَّاتُ عُقُولِهِمُ الَّتِي تَقِيسُ عَالَمَ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ عُلُومِ الْمَادَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ يَقْبَلُهُ عَقْلٌ مِنَ الْعُقُولِ الْمُقَيَّدَةِ بِتِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْكَلَامِ الْجَهْمِيِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَالَمُ الْغَيْبِ الْإِلَهِيِّ مُقَيَّدًا بِهَا؟ !

وَثَمَّ وَرَاءَ الْعَقْلِ عِلْمٌ يَدُقُّ عَنْ مَدَارِكِ غَايَاتِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ

(وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) رَهِقَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ (كَتَعِبَ) أَدْرَكَهُ وَرَهِقَهُ الشَّيْءُ كَالدِّينِ وَالذُّلُّ غَشِيَهُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ حَتَّى غَطَّاهُ وَحَجَبَهُ:(وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا)(18: 73) لَا تُكَلِّفْنِي مَا يَعْسُرُ عَلَيَّ، وَالْقَتَرُ: الدُّخَانُ السَّاطِعُ مِنَ الشِّوَاءِ وَالْحَطَبِ وَكُلُّ غَبَرَةٍ فِيهَا سَوَادٌ أَيْ لَا يَغْشَى وُجُوهَهُمْ فِي الْآخِرَةِ شَيْءٌ مِمَّا يَغْشَى وُجُوهَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ مِنَ الْكُسُوفِ وَالظُّلْمَةِ وَالذِّلَّةِ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ دَارِ السَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ، خَالِدُونَ مُقِيمُونَ فِيهَا لَا يَبْرَحُونَهَا وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا جَزَاءً وِفَاقًا، لَا يُزَادُونَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ بِسَيِّئَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أَيْ تَغْشَاهُمْ ذِلَّةُ الْفَضِيحَةِ وَكُسُوفُ الْخِزْيِ بِمَا يُظْهِرُهُ حِسَابُهُمْ مِنْ شِرْكٍ وَظُلْمٍ وَزُورٍ وَفُجُورٍ (مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ) مَا لَهُمْ مِنْ أَحَدٍ وَلَا مِنْ شَيْءٍ يَعْصِمُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، كَالَّذِينِ اتَّخَذُوهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَزَعَمُوهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ. وَانْتَحَلُوهُمْ مِنَ الْوَسَائِلِ وَالْوُسَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَنْقَطِعُ فِيهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَأَنَّى تُفِيدُ فِيهِ الْمَزَاعِمُ الشِّرْكِيَّةُ الْوَهْمِيَّةُ:(يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(82: 19)

ص: 287

أَوْ مَا لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَنْ فَضْلِهِ مِنْ عَاصِمٍ يَحْفَظُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ كَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، كَالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَى مِنْ عِبَادِهِ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الْخَاصَّةَ لَا نَصِيبَ فِيهَا لِمُنْتَحِلِي الشَّفَاعَةِ الشِّرْكِيَّةِ، الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لِشُفَعَائِهِمْ تَأْثِيرًا فِي مَشِيئَةِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ، حَتَّى يَحْمِلُوهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ لَوْلَا شَفَاعَتُهُمْ، فَيَجْعَلُونَ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ مَعْلُولَةً تَابِعَةً لِمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا

شَفَاعَةُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحَةُ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ وَلِمَرْضَاتِهِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(21: 28)(كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) أَيْ كَأَنَّمَا قُدَّ لِوُجُوهِهِمْ قِطَعٌ مِنْ أَدِيمِ اللَّيْلِ، حَالَةَ كَوْنِهِ حَالِكًا مُظْلِمًا، لَيْسَ فِيهِ بَصِيصٌ مِنْ نُورِ قَمَرٍ طَالِعٍ، وَلَا نَجْمٍ ثَاقِبٍ، فَأُغْشِيَتْهَا قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ، فَصَارَتْ ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَإِنَّهُ لَتَشْبِيهٌ عَظِيمٌ فِي بَلَاغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي خِذْلَانِهِمْ وَفَضِيحَتِهِمُ الَّتِي تَكْسِفُ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَوَادَ وُجُوهِهِمْ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، خَالِدُونَ فِيهَا لَا يَبْرَحُونَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوًى سِوَاهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ يَدْخُلُهَا بَعْضُ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا اجْتَرَحُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا.

هَذَا الْوَصْفُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ لَهُ نَظِيرٌ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْمَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(8: 38 - 42) وَفِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)(75: 22 - 25) وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ تُرَجِّحُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْحُسْنَى فِي آيَةِ يُونُسَ هِيَ مَرْتَبَةُ النَّظَرِ إِلَى الرَّبِّ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا وَأَوْلَادَنَا وَأَهْلَ بَيْتِنَا وَإِخْوَانِنَا الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِهَا.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .

ص: 288

هَذَا لَوْنٌ آخَرُ مِنْ أَلْوَانِ الْبَيَانِ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا

التَّكْرَارِ الْمُخْتَلِفِ الْأَسَالِيبِ وَالْأَلْوَانِ وَأَمْثَالِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِفَرِيقَيِ النَّاسِ الَّذِينَ ضَرَبْنَا لَهُمْ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَبَيَّنَّا مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، أَوِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ:(هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ)(25: 17)(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ) أَيْ ثُمَّ نَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ وُقُوفٍ طَوِيلٍ لَا يُخَاطَبُ فِيهِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآيَاتِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوهُ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا يُفْعَلُ بِكُمْ: وَأَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ أَيِ الْزَمُوهُ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، أَيِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ؛ لِنَفْصِلَ بَيْنَكُمْ فِيمَا كَانَ مَنْ سَبَبِ عِبَادَتِكُمْ لَهُمْ وَمَا يَقُولُ كُلٌّ مِنْكُمْ فِيهَا فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ أَيْ فَرَّقْنَا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَمَنْ أَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللهِ، وَمَيَّزْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَالتَّزْيِيلُ مِنْ زَالَهُ يَزَالُهُ كَنَالَهُ يَنَالُهُ بِمَعْنَى نَحَّاهُ (وَهُوَ يَأْتِي) وَزَايَلْتُهُ فَارَقْتُهُ وَتَزَيَّلُوا تَمَيَّزُوا بِافْتِرَاقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَاخْتِلَاطِ مُؤْمِنِيهِمْ بِكُفَّارِهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ:(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(48: 25) أَوِ الْمُرَادُ مِنَ التَّزْيِيلِ وَالتَّفْرِيقِ تَقْطِيعُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الصِّلَاتِ وَمَا لِلْمُشْرِكِينَ فِي الشُّرَكَاءِ مِنَ الْآمَالِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، وَالْعِبَادَةُ الشِّرْكِيَّةُ أَنْوَاعٌ وَالْمَعْبُودَاتُ وَالْمَعْبُودُونَ أَنْوَاعٌ يَصِحُّ فِي بَعْضِهِمْ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ؛ وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ مَعْنَى حَشْرِ الْفَرِيقَيْنِ وَحِسَابِهِمْ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، بَعْضُهَا فِي عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةِ الْجِنِّ، وَبَعْضُهَا فِي عِبَادَةِ الْبَشَرِ، وَمَا اتُّخِذَ لَهُمْ مِنَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ، وَمِثْلُهَا الْقُبُورُ الْمُعَظَّمَةُ وَسَنُشِيرُ إِلَى شَوَاهِدِهِ:(وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) أَيْ مَا كُنْتُمْ تَخُصُّونَنَا بِالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَهْوَاءَكُمْ وَشَهَوَاتِكُمْ وَشَيَاطِينَكُمُ الْمُغْوِيَةَ لَكُمْ، وَتَتَّخِذُونَ أَسْمَاءَنَا وَتَمَاثِيلَنَا هَيَاكِلَ وَمَوَاسِمَ لِمَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْعُبُودِيَّةِ الصَّادِقَةِ لِلْمَعْبُودِ الْحَقِّ، الَّذِي يُطَاعُ وَيُعْبَدُ لِأَنَّهُ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْخَلْقِ، وَبِيَدِهِ تَدْبِيرُ الْأَمْرِ، وَمَصَادِرُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.

(فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أَيْ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا وَحَكَمًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَهُوَ الْعَلِيمُ بِحَالِنَا وَحَالِكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ أَيْ إِنَّنَا كُنَّا فِي غَفْلَةٍ عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَا نَنْظُرُ إِلَيْهَا وَلَا نُفَكِّرُ فِيهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا عَدَمُ الرِّضَا بِهَا.

(هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَهُوَ مَوْقِفُ الْحِسَابِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوِ الْيَوْمِ تَخْتَبِرُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْ عَابِدَةٍ وَمَعْبُودَةٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَجَاحِدَةٍ وَشَاكِرَةٍ وَكَافِرَةٍ، مَا قَدَّمَتْ فِي حَيَاتِهَا الدُّنْيَا مِنْ عَمَلٍ، وَمَا كَانَ لِكَسْبِهَا فِي صِفَاتِهَا مِنْ أَثَرٍ، مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ

ص: 289

بِمَا تَرَى مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِهِ ثَمَرَةً طَبِيعِيَّةً لَهُ، لَا شَأْنَ فِيهِ لِوَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا مَعْبُودٍ وَلَا شَرِيكٍ. وَهُنَالِكَ مَوَاقِفُ وَأَوْقَاتٌ أُخْرَى لَا سُؤَالَ فِيهَا وَلَا جِدَالَ، تُغْنِي فِيهَا دَلَالَةُ الْحَالِ عَنِ الْمَقَالِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) أَيْ أُرْجِعُوا إِلَى اللهِ الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ، دُونَ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، وَالْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَقَوْلِهِ:(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ)(5: 48 و105، 11: 4)، (إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) (6: 164، 39: 7) ، (إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) (6: 108) (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(24: 42، 35: 18)(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(5: 18، 42: 15، 64: 3)(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ وَضَاعَ وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَنْصُرُهُمْ وَلَا يُنْقِذُهُمْ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(82: 19) .

هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَوْقِفِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الشُّرَكَاءِ، وَالْمَرْءُوسِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، وَالْمُتَكَبِّرِينَ مَعَ الضُّعَفَاءِ وَالْمُضِلِّينَ مَعَ الضَّالِّينَ، وَالْغَاوِينَ مَعَ الْمُغْوِينَ، قَدْ تَكَرَّرَ بَيَانُهَا فِي سُوَرٍ أُخْرَى مُجْمَلًا مُبْهَمًا، وَفِي بَعْضِهَا مُفَصَّلًا وَمُبَيَّنًا فَمِنْهَا مَا يَسْأَلُ اللهُ فِيهِ الْعَابِدِينَ، وَمِنْهَا مَا يَسْأَلُ فِيهِ الْمَعْبُودِينَ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَمِنْهَا مَا عَيَّنَ فِيهِ اسْمَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَبَرَّأُ الْمُضِلُّونَ مِنَ الضَّالِّينَ، فَتُرَاجَعُ فِيهَا سُورَةُ الْفُرْقَانِ 25: 17 - 19 وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ 6: 22 - 24 وَسُورَةُ سَبَأٍ 34: 40 - 42 وَسُورَةُ الْقَصَصِ 28:62 - 64 وَمِنْهَا مَا يَتَنَاقَشُ فِيهَا الْفَرِيقَانِ فَرَاجِعْ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ 14: 21 و22 وَسُورَةَ الصَّافَّاتِ 37: 22 و23 فَبِمُرَاجَعَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَآيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ 2: 166، 167 وَمَعَ تَفْسِيرِنَا لِهَاتَيْنِ (ج2) يَتَبَيَّنُ لَكَ مَا يُفَسِّرُ بِهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا التَّكْرَارِ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي دَلَّلْنَا عَلَيْهِ آنِفًا.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) .

ص: 290

هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَيَلِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِمَا يُنْبِتُهُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ نَجْمِهِ وَشَجَرِهِ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَتَأْكُلُ أَنْعَامُكُمْ؟ (وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) بَلْ قُلْ لَهُمْ أَيْضًا: مَنْ يَمْلِكُ مَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ أَنْتُمْ وَغَيْرُكُمْ مِنْ حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ، الَّتِي لَوْلَاهَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ شَيْئًا، بَلْ تَكُونُ الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ وَكَذَا الشَّجَرُ خَيْرًا مِنْكُمْ بِاسْتِغْنَائِهَا عَمَّنْ يَقُومُ بِضَرُورَاتِ مَعَاشِهَا، مَنْ يَمْلِكُ خَلْقَ هَذِهِ الْحَوَاسِّ وَهِبَتِهَا لِلنَّاسِ، وَحِفْظِهَا مِنَ الْآفَاتِ وَخَصَّ هَاتَيْنِ الْحَاسَّتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا مَدَارَ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَكَمَالَ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَحْصِيلَ الْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ، يَشْعُرُ بِذَلِكَ الْمَسْئُولُونَ بِمُجَرَّدِ إِلْقَاءِ السُّؤَالِ، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا فِيهِ تَفَكُّرًا ازْدَادُوا عِلْمًا وَإِعْجَابًا وَإِكْبَارًا لِإِنْعَامِ اللهِ تَعَالَى بِهِمَا وَإِيمَانًا بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِدْرَاكَ الْكَلَامِ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَمَا يَرْسُمُهُ صَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْهَوَاءِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ الَّتِي يُدْلِي بِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَتَتَكَيَّفُ بِهَا كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ (أَيِ الْهَوَاءُ) فَتُقْرَعُ بِهِ طَبْلَةُ كُلِّ أُذُنٍ مِنْ آذَانِ السَّامِعِينَ وَإِنْ كَثُرُوا،

فَيَنْقُلُهَا الْعَصَبُ الْمُتَّصِلُ بِهَا إِلَى مَرْكَزِ إِدْرَاكِ الْكَلَامِ مِنْ دِمَاغِهِ، فَيُدْرِكُ مَعْنَاهَا الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِهَا بِأَقْوَى مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ قَرَأَهَا مَخْطُوطَةً فِي كِتَابٍ، لِمَا لِجَرْسِ الصَّوْتِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ، فَمَنْ ذَا الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْآيَاتِ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أَلْهَمَهَا إِيدَاعَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْوَاتِ وَمَنْ ذَا الَّذِي وَضَعَ هَذَا النِّظَامَ فِي الْهَوَاءِ؟ .

ثُمَّ إِذَا ازْدَادَ عِلْمًا بِإِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِلْمُبْصِرَاتِ، وَمَا لَهَا مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، وَمَا لِلْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ مِنَ الشَّكْلِ الْمُحَدَّبِ، وَمَا لَهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ، الْمُوَافِقَةِ لِسُنَنِ اللهِ فِي النُّورِ الَّذِي تُدْرِكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ، مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْأَسْفَارِ وَمُوجَزٌ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ، ازْدَادَ يَقِينًا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا الْمَشْغُولُونَ عَنْ عَظَمَةِ الصَّانِعِ بِعَظَمَةِ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَدْ وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّ إِدْرَاكَهُ لِجِنْسٍ وَاحِدٍ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَجَمَعَ الْبَصَرَ لِتَعَدُّدِ أَجْنَاسِ الْمُبْصَرَاتِ.

(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أَيْ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَمْلِكُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَيُخْرِجُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فِيمَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَجَدَّدُ، وَفِيمَا لَا تَعْرِفُونَ؟ فَمِمَّا كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ النَّبَاتَ يُخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ

ص: 291

بَعْدَ إِحْيَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَاءِ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ، أَوِ النَّابِعِ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ سَلَكَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا كَمَا قَالَ:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ)(39: 21) الْآيَةَ بَلْ كَانَتِ الْحَيَاةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ قِسْمَيْنِ: حَيَاةُ النَّبَاتِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ، وَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ وَالْإِحْسَاسُ وَالْحَرَكَةُ بِالْإِرَادَةِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ وَصْفَ الْأَرْضِ بِالْحَيَاةِ مَجَازًا وَلَمْ يَكُونُوا يَصِفُونَ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ بِالْحَيَاةِ كَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَبَيْضِ الْحَيَوَانِ وَمَنِيِّهِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِخْرَاجَ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِخُرُوجِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ وَالطَّائِرِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَعَكْسِهِمَا وَمَا يُشَابِهُهُمَا، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَتَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَرَحْمَتِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ وَضْعَ قَوَاعِدَ فَنِّيَّةٍ لِلْحَيَاةِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَحْدِيدَ وَظَائِفِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِمَا يَتَّفِقُ وَقَوَاعِدَ الْفُنُونِ وَتَجَارِبَ الْعُلُومِ الَّتِي تَزْدَادُ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا

يُثْبِتُونَ أَنَّ فِي أُصُولِ النَّبَاتِ مِنْ بَذْرٍ وَنَوَى وَبَيْضٍ وَمَنِيٍّ حَيَاةً، فَهُمْ يُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا خَرَجَتْ مِنْ مَادَّةٍ مَيِّتَةٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ عِنْدَهُمْ كَانَتْ كُتْلَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً انْفَصَلَتْ مِنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَارَتْ مَاءً، ثُمَّ نَبَتَتِ الْيَابِسَةُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ تَكَوَّنَ مِنَ الْمَاءِ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ فِي أَطْوَارٍ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ الْغِذَاءَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يُحْرَقُ بِالنَّارِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ دَمٌ، وَمِنْ هَذَا الدَّمِ يَكُونُ الْبَيْضُ وَالْمَنِيُّ الْمُشْتَمِلَانِ عَلَى مَادَّةِ الْحَيَاةِ، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ مَوَادِّ الْبَدَنِ الْحَيَّةِ تَمُوتُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ مَعَ الْبُخَارِ وَالْعَرَقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُفْرِزُهُ الْبَدَنُ وَيَلْفِظُهُ، وَيَتَجَدَّدُ فِيهِ مَوَادٌّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ تَحُلُّ مَحَلَّ مَا انْدَثَرَ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: إِثْبَاتُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَتَدْبِيرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَامٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَنِّ وَمُحْدَثَاتِ الْعِلْمِ، بَلْ تَزِيدُهُ كَمَالًا لِلْمُؤْمِنِ الْمُعْتَبِرِ، وَقَدْ تَكُونُ حِجَابًا لِغَيْرِهِ تَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ، فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى مِنْ خَلْقِ اللهِ الْحَيِّ لِذَاتِهِ الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ.

وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَوِيَّيْنِ مِنْهُمَا، كَخُرُوجِ الْمُؤْمِنِ مِنْ سُلَالَةِ الْكَافِرِ، وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَالْبَرِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَعَكْسِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 27) الْوَارِدِ فِيهَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِهَا. وَهُنَاكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه وَكَذَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَرَاجِعْهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا يُنَاسِبُ مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 292

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِمَا أَوْدَعَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ السُّنَنِ وَقَدَّرَهُ مِنَ النِّظَامِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّدْبِيرِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أَيْ فَسَيَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الْخَمْسِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللهُ رَبُّ

كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ؛ إِذْ لَا جَوَابَ غَيْرُهُ وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لِحَمْلِهِمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:(فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ فَقُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَتَعْلَمُونَ هَذَا وَتُقِرُّونَ بِهِ، فَلَا تَتَّقُونَ سُخْطَ اللهِ وَعِقَابَهُ لَكُمْ بِشِرْكِكُمْ بِهِ، وَعِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَيْئًا، وَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا كُلِّهَا؟ ! .

(فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ فَذَلِكُمُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ اللهُ رَبُّكُمْ، أَيِ الْمُرَبِّي لَكُمْ بِنِعَمِهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِكُمْ، الْحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْحَيُّ بِذَاتِهِ، الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ، الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَفِي الْجُمْلَةِ إِدْمَاجٌ بِمَا يُسَمُّونَهُ الِاحْتِبَاكَ، أَيْ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الْبَاطِلُ؟ وَمَاذَا بَعْدَ الْهُدَى إِلَّا الضَّلَالُ؟ وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَالْعَقَائِدِ، فَالَّذِي يَفْعَلُ تِلْكَ الْأُمُورَ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَالْقَوْلُ بِرُبُوبِيَّةِ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يُعْبَدُ بِحَقٍّ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ هِي الْهُدَى، فَمَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْوُسَطَاءِ ضَلَالٌ، فَكُلُّ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ مَعَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ مُبْطِلٌ ضَالٌّ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ وَتَتَحَوَّلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا كَانَ بِهِ اللهُ هُوَ الرَّبَّ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْحَقُّ، الَّذِي يُعْبَدُ بِالْحَقِّ، هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَمَا بَالُكُمْ تُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؟ فَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى وَلَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ .

فَالْآيَةُ تُقَرِّرُ أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، الَّذِينَ أَخَذُوا عَقِيدَتَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَجَهِلُوا عَقَائِدَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَفْهُومَيِ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ إِنَّمَا وَحَّدَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ الشَّرْعِيِّ، لَا فِي الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ.

وَفِي الْآيَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ وَالْعِلْمِ، أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فِيهِمَا

ص: 293

ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ. وَفِيهَا مِنْ حَسَنَاتِ الْإِيجَازِ فِي التَّعْبِيرِ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَدِيعِ بِالِاحْتِبَاكِ، وَهُوَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْآيَةِ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ.

(كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي حَقَّتْ بِهِ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي وَحْدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ لَيْسَ بَعْدَهُ لِتَارِكِهِ إِلَّا الْبَاطِلُ، وَالْهُدَى لَيْسَ وَرَاءَهُ لِلنَّاكِبِ عَنْهُ إِلَّا الضَّلَالُ ((حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) : أَيْ سُنَّتُهُ أَوْ وَعِيدُهُ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، أَيْ خَرَجُوا مِنْ حَظِيرَةِ الْحَقِّ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ الْحَقِّ. فَفِي كَلِمَةِ الرَّبِّ وَجْهَانِ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَلِمَةُ التَّكْوِينِ، وَهِيَ سُنَّتُهُ فِي الْفَاسِقِينَ الْخَارِجِينَ مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ، الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ؛ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْعَمَلِ فَقَوْلُهُ:(أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) عَلَى هَذَا بَيَانٌ لِلْكَلِمَةِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، أَيِ اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُنَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى مَهْمَا تَكُنْ آيَاتُهُمْ بَيِّنَةً، وَحُجَجُهُمْ قَوِيَّةً ظَاهِرَةً، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْعًا قَهْرِيًّا مُسْتَأْنَفًا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ تَرْجِيحًا لِلْكُفْرِ عَلَيْهِ.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)(10: 96 و97) .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا كَلِمَةُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِوَعِيدِ الْفَاسِقِينَ الْكَافِرِينَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)(32: 20) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)(40: 6) وَيَكُونُ قَوْلُهُ: (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) عَلَى هَذَا تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَوْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.

وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ حَقٌّ ظَاهِرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ هُنَا.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (كَلِمَةُ) فِي آيَتَيْ يُونُسَ وَآيَةِ غَافِرٍ بِالْجَمْعِ (كَلِمَاتُ) وَلِأَجْلِ ذَلِكَ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِالتَّاءِ الْمَبْسُوطَةِ (كَلِمَتُ) وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجَمْعِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بِوَجْهَيْهِ قَدْ تَعَدَّدَ وَتَكَرَّرَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ.

ص: 294

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) .

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لَمْ يَعْطِفْ هَذَا الْأَمْرَ وَلَا مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ تَلْقِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الِاحْتِجَاجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَلَاغَةِ فِيهِ الْفَصْلُ كَأَمْثَالِهِ مِمَّا يُسْرَدُ سَرْدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ. أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: هَلْ أَحَدٌ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَهُ هَذَا الشَّأْنُ فِي الْكَوْنِ، وَهُوَ بَدْءُ الْخَلْقِ فِي طَوْرٍ ثُمَّ إِعَادَتُهُ فِي طَوْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَصْنَامِ الْمَنْصُوبَةِ، أَوْ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهَا حَالَّةٌ فِيهَا، أَوْ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مِمَّا لَا يُجِيبُونَ عَنْهُ كَمَا أَجَابُوا عَنْ أَسْئِلَةِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ - لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ تَفْعَلُ ذَلِكَ - لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ (قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فَأَدْمَجَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ، فَإِنَّ الرَّبَّ الْقَادِرَ عَلَى بَدْءِ الْخَلْقِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَتِهِ بِالْأَوْلَى، عَلَى أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ هُوَ إِعَادَتُهُ تَعَالَى لِلْأَحْيَاءِ

الْحَيَوَانِيَّةِ دُونَ مَا دُونَهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ، فَهُمْ يُشَاهِدُونَ بَدْءَ خَلْقِ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ عِنْدَمَا يُصِيبُهَا مَاءُ الْمَطَرِ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ، وَمَوْتَهُ بِجَفَافِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ ثُمَّ إِعَادَتَهُ بِمِثْلِ مَا بَدَأَهُ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْبَدْءَ وَالْإِعَادَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ كُلًّا مِنْهُمَا، فَهُمْ أَسْرَى الْحِسِّ وَالْعِيَانِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا أَحَدًا مِنْهُمْ حَيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ فَقَدُوا الْعِلْمَ بِبُرْهَانِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّنَا لَا نَزَالُ نَرَى أَمْثَالًا لَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّمُوا الْمَنْطِقَ وَطُرُقَ الِاسْتِدْلَالِ. وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ

ص: 295

مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى جَهْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيُنَبِّهَهُمْ لِلتَّفْكِيرِ فِي أَمْرِهِمْ بِقَوْلِهِ:(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي الْفِطْرَةِ وَخَاصَّةِ الْعَقْلِ فِي التَّفْكِيرِ، لِلْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْمَصِيرِ؟ .

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) ؟ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ شَأْنٍ آخَرَ مِنْ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَهُوَ الْهِدَايَةُ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا حِكْمَةُ الْخَلْقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا عَقِبَهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ)(26: 78)(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(20: 50)، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (87: 2، 3) وَهِيَ أَنْوَاعُ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ، وَهِدَايَةِ الْحَوَّاسِ، وَهِدَايَةِ الْعَقْلِ، وَهِدَايَةِ التَّفَكُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِكُلِّ ذَلِكَ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ، وَهُوَ لِلنَّوْعِ الْبَشَرِيِّ فِي جُمْلَتِهِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ، وَهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ الْمُوصِّلِ بِالْفِعْلِ إِلَى الْغَايَةِ بِتَوْجِيهِ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَتَسْهِيلِ سَبِيلِهِ وَمَنْعِ الصَّوَارِفِ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، بِادِّعَاءِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةِ التَّشْرِيعِ، لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) فِعْلُ الْهُدَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (1: 6)، (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (48: 2) (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(29: 69) وَيَتَعَدَّى بِإِلَى كَقَوْلِهِ: (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(6: 87)، (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (5: 16) (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)(72: 2)، (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) (38: 22) وَبِاللَّامِ كَقَوْلِهِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)(7: 43)(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(17: 9)، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) (49: 17) فَتَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ تُفِيدُ اتِّصَالَ الْهِدَايَةِ بِمُتَعَلِّقِهَا مُبَاشَرَةً، وَتَعْدِيَتُهُ بِـ ((اللَّامِ)) تُفِيدُ التَّقْوِيَةَ أَوِ الْعِلَّةَ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَبِـ ((إِلَى)) لِلْغَايَةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْهِدَايَةُ، فَهِيَ تَشْمَلُ مُقَدِّمَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مُوَصِّلَةً إِلَى الْمُنْتَهَى الْمَقْصُودِ لِلْهَادِي السَّائِقِ إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ مَجْهُولًا لِمُطِيعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ:(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(22: 4) وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ بِهِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الدَّقِيقَةِ الْعَالِيَةِ. وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْحَرْفَيْنِ، وَبَيْنَ تَرْكِ التَّعْدِيَةِ وَهُوَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكُلٌّ مِنْهَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فَهَاكَهُ فَلَمْ نَرَ أَحَدًا بَيَّنَهُ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ عَدَّاهُ بِإِلَى فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ؛ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الْمُتَّخَذِينَ بِالْبَاطِلِ يَدُلُّ النَّاسَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَنْتَهِي سَالِكُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَهُوَ التَّشْرِيعُ، فَهُوَ يَنْفِي الْمُقَدِّمَاتِ وَنَتَائِجَهَا، وَالْأَسْبَابَ وَمُسَبِّبَاتِهَا، وَلَوْ عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ لَمَا أَفَادَ

ص: 296

إِلَّا إِنْكَارَ هِدَايَةِ الْإِيصَالِ إِلَى الْحَقِّ بِالْفِعْلِ، دُونَ هِدَايَةِ التَّشْرِيعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَدَّاهُ بِاللَّامِ لَكَانَ بِمَعْنَى تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ أَوْ لِإِنْكَارِ هِدَايَةٍ يُقْصَدُ بِهَا الْحَقُّ إِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ وَأَبْلَغُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، وَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ بِمَعْنَيَيْهَا عَلَى مَذْهَبِنَا الَّذِي اتَّبَعْنَا فِيهِ الْإِمَامَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ، يَكُونُ مَعْنَاهُ: قُلِ اللهُ يَهْدِي لِمَا هُوَ الْحَقُّ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ: أَيْ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) قَرَأَ (يَهِدِّي) يَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي كَمَا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ لُغَةِ الْكَلِمَةِ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ كَيَرْمِي، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا نَصًّا وَاقْتِضَاءً: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِي لَهُ وَيَهْدِيهِ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ فِيمَا يُشَرِّعُهُ، أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ وَلَا هُوَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ، أَيِ اللهُ تَعَالَى

إِذْ لَا هَادِيَ غَيْرُهُ؟ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مَنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُمُ الْهِدَايَةَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ عليهم السلام، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِهِدَايَةِ اللهِ وَوَحْيِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ سُورَتِهِمْ:(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)(21: 73) وَقَالَ النَّحَّاسُ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْمَعَ، فَمَعْنَى (إِلَّا أَنْ يُهْدَى) لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُهْدَى انْتَهَى. فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ الَّتِي يَظْهَرُ لِلْمُدَقِّقِينَ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ بَدَائِعِهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ مَا فَاتَ أَسَاطِينَ بُلَغَاءِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا قَبْلَهُ.

(فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي جَعْلِهِمْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُمْ مِنَ الْعَجْزِ الْمُطْلَقِ شُرَكَاءَ مَعَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْرَدَهُ بِاسْتِفْهَامَيْنِ تَقْرِيعِيَّيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ، وَمَاذَا حَلَّ بِكُمْ حَتَّى اتَّخَذْتُمْ شُرَكَاءَ هَذِهِ حَالُهُمْ وَصِفَتُهُمْ، فَجَعَلْتُمُوهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمُ الَّذِي لَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُدَبِّرَ وَلَا هَادِيَ لَكُمْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سِوَاهُ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهِمْ، وَبِمَا زَعَمْتُمْ مِنْ وَسَاطَتِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ؟ .

وَمِنَ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ بِهَا الْمَعْنَى، قِرَاءَةُ ((يَهِدِّي)) الْمُشَدَّدَةِ الدَّالِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ بِنَقْلِ حَرَكَةِ التَّاءِ فِي أَصْلِهَا (يَهْتَدِي) إِلَى الْهَاءِ وَإِدْغَامِهَا فِيهَا، وَقِرَاءَتِهَا بِكَسْرِهِمَا مَعًا فَالْهَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْيَاءُ لِمُنَاسَبَتِهَا لَهَا، وَقِرَاءَتُهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ لِمُنَاسَبَةِ الدَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ بِلَادِنَا.

(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ الِاعْتِقَادِيَّةِ، فِي إِثْرِ إِقَامَةِ أَنْوَاعِ

ص: 297

الْحُجَجِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، بِأُسْلُوبِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ، وَالْهَادِيَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي شُرَكَائِهِمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ فِي الْعَقَائِدِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ وَعُلُوِّ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ فِي شِرْكِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِ رَبِّهِمْ، وَلَا فِي إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الظَّنِّ، قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ تَنْكِيرُهُ، وَذَلِكَ كَاسْتِبْعَادِ غَيْرِ

الْمَأْلُوفِ، وَقِيَاسِ الْغَائِبِ وَالْمَجْهُولِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْمَعْرُوفِ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ ثِقَةً بِهِمْ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى بَاطِلٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَضَلَالٍ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَكْثَرِ فَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ وَالْهُدَى، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِمَّا عَبَدُوا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَشْفَعُ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ، وَضَنًّا بِرِيَاسَتِهِمْ وَزَعَامَتِهِمْ أَنْ يَهْبِطُوا مِنْهَا إِلَى اتِّبَاعِ مَنْ دُونَهُمْ ثَرْوَةً وَقُوَّةً وَمَكَانَةً فِي قَوْمِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ بِالْأَكْثَرِ جَاءَ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَإِنَّهُ تَارَةً يَحْكُمُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَتَارَةً يَسْتَثْنِي مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْإِطْلَاقِ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ مِنْ قَبْلُ. فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْأَكْثَرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ يَقِلُّ فِيهِمْ ذُو الْعِلْمِ، فَإِنْ قِيلَ: وَمَا حُكْمُ اللهِ فِي الظَّنِّ؟ فَالْجَوَابُ: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) مِنَ الْإِغْنَاءِ وَلَوْ قَلِيلًا، أَيْ لَا يَجْعَلُ صَاحِبَهُ غَنِيًّا بِعِلْمِ الْيَقِينِ فِي الْحَقِّ، فَيَكُونُ أَيِ الظَّنُّ بَدَلًا مِنَ الْيَقِينِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُطْلَبُ فِيهِ الْيَقِينُ كَالدِّينِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي ثُبُوتِهِ وَتَحَقُّقِهِ، وَالْمَظْنُونُ وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا عِنْدَ صَاحِبِهِ عُرْضَةٌ لِلشَّكِّ، يَتَزَلْزَلُ وَيَزُولُ إِذَا عَصَفَتْ بِهِ أَيُّ عَاصِفَةٍ مِنَ الشُّبَهَاتِ، وَالْإِغْنَاءُ يَتَعَدَّى بِـ ((عَنْ)) كَقَوْلِهِ:(مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ)(7: 48)(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)(69: 28)(فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ)(11: 101) وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِـ ((مِنْ)) وَفِي مِثْلِهِ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي ظِلِّ دُخَانِ النَّارِ (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (77: 31) وَقَوْلِهِ فِي الضَّرِيعِ مِنْ طَعَامِ أَهْلِهَا: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(88: 7) فَعُدِّيَ بِـ ((مِنْ)) لِإِفَادَةِ الْقِلَّةِ أَوْ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْبَدَلِ أَيْ إِنَّ ظِلَّ دُخَانِ النَّارِ لَا وَارِفَ يَمْنَعُ الْحَرَّ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ بِأَنْ يُقَلِّلَهُ أَوْ يُزِيلَهُ وَيَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِنَّ الضَّرِيعَ الَّذِي هُوَ طَعَامُ أَهْلِ النَّارِ لَا يُسْمِنُ الْبَدَنَ بِالتَّغْذِيَةِ الْكَافِيَةِ، وَلَا يُقَلِّلُ الْجُوعَ أَوْ يُزِيلُهُ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنَ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ التَّغْذِيَةِ.

وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا وَفِي سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ وَاجِبٌ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُقَلِّدَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَدْخُلُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الْإِيمَانُ بِوُجُوبِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِيمَانُ بِتَحْرِيمِ الْمَحْظُورَاتِ الْقَطْعِيَّةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْيَقِينَ الْمَشْرُوطَ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ

شَرْعًا هُوَ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ

ص: 298

الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا شَكَّ مَعَهُ - لَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ نُظَّارِ الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤَلَّفُ مِنْ عِلْمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ يَكْفِي فِيهَا الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ، فَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِيمَانُ بِالْمَظْنُونِ، بَلِ التَّصْدِيقُ بِالْمَظْنُونِ لَا يُسَمَّى إِيمَانًا. وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ خُرُوجًا مِنَ الْحَيْرَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِهَوَى النَّفْسِ.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) هَذِهِ قَضِيَّةٌ ثَانِيَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ خَاصَّةٌ بِالْعَمَلِ، شَأْنُهَا أَنْ يُسْأَلَ عَنْهَا بَعْدَ الْقَضِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِمُقْتَضَى اعْتِقَادَاتِهِمُ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْهَا بِحَسَبِهِ، فَالْجَزَاءُ عَلَى مُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ الْقَطْعِيِّ بِصِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَجُحُودٍ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ. وَيَلِيهِ التَّكْذِيبُ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ كَالتَّقْلِيدِ. وَمِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الصَّدُّ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعِهِ، وَمِنْهَا سَائِرُ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْقَتْلِ وَالْفَاحِشَةِ وَالسُّكْرِ وَالرِّبَا إِلَخْ.

وَالْعِبْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا، وَهُمَا مِنْ آيَاتِهِ الْمُحْكَمَاتِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ مِنْ حَيَاتِهِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلَهَا بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي كُلِّ اعْتِقَادٍ، وَالْهُدَى وَهُوَ الصَّلَاحُ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَبِنَاؤُهُمَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْخَرْصِ وَالْوَهْمِ، فَالْعِلْمُ الْمُفِيدُ لِلْحَقِّ وَالْمُبَيِّنُ لِلْهُدَى فِي الدِّينِ هُوَ مَا كَانَ قَطْعِيَّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى، وَهُوَ الشَّرْعُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَهُوَ مَنَاطُ وَحْدَتِهِمْ، وَرَابِطَةُ جَامِعَتِهِمْ، وَمَا دُونَهُ مِمَّا لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ، اجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فِي الْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَاجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ، مَعَ تَقْيِيدِهِمْ فِيهِ بِالشُّورَى فِي اسْتِبَانَةِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعِهِ.

وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ، فَحَكَمَ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْعَادَاتِ الْمُبَاحَةِ فِي الْأَصْلِ كَلِعْبِ الشَّطْرَنْجِ، وَكَذَا الْمُسْتَحَبَّةِ كَمُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ لِزَوْجِهِ، وَسَمَاعِ الْغَنَاءِ، بِشُبْهَةِ أَنَّهَا مِنَ الْبَاطِلِ أَوْ مِنَ الضَّلَالِ، وَلَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ

فَضْلًا عَنْ قَطْعِيٍّ وِفَاقًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ الْمُخَالِفِ فِيهِ لِلرِّوَايَةِ عَنْ إِمَامِهِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُنْتَمِينَ فِي الْفِقْهِ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ، فَقَدْ حَرَّمُوا عَلَى النَّاسِ مَا لَا يُحْصَى بِالرَّأْيِ وَالْأَقْيِسَةِ الْوَهْمِيَّةِ، الَّتِي هِيَ دُونَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، وَهَدْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشُّبَهَاتِ الِاحْتِيَاطُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ:((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيَّنٌ)) الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَاسْتِفْتَاءُ (الْوِجْدَانِ) لِحَدِيثِ:((اسْتَفْتِ نَفْسَكَ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ.

ص: 299

وَإِنَّمَا الْبَاطِلُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا ثَبَتَ بُطْلَانُهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ قَطْعِيٍّ، كَمَا أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مَا ثَبَتَتْ حَقِّيَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَبَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ هِيَ مَا لَا دَلِيلَ فِيهِ بِخِلَافِ الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْعَمَلِيَّةِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ وَهُوَ النَّافِعُ، وَمِنْهُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فَرْضِهِ وَعَنْ تَحْرِيمِهِ وَعَنْ قَوَاعِدِ حُدُودِهِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:((وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي تَفْسِيرِ: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(5: 101) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّادِسِ.

وَالَّذِي أُرِيدُ أَنْ أُذَكِّرَ بِهِ كُلَّ مُسْلِمٍ هُنَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْآنَ فِي الْأَرْضِ دِينٌ مُتَّبَعٌ. وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ مُنَفَّذٌ، وَلَا نِظَامٌ حِزْبِيٌّ وَلَا جَمَاعِيٌّ مُلْتَزَمٌ يَفْرِضُ عَلَى النَّاسِ الْحَقَّ وَالْهُدَى فَرْضًا دِينِيًّا، وَالِاعْتِمَادُ فِي اسْتِبَانَتِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَحَصْرِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّرْجِيحِ فِيمَا سِوَاهُمَا.

وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْوِجْدَانِ فِي الشَّخْصِيَّاتِ، وَالشُّورَى فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَلَنْ يَصْلُحَ حَالُ الْبَشَرِ الْفَرْدِيُّ وَلَا الِاجْتِمَاعِيُّ وَالدَّوْلِيُّ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي فَرَضَهَا الْإِسْلَامُ، وَجَعَلَهَا دِينًا يُدَانُ اللهُ بِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَجَاوُزُهُ، وَقَدْ عَجَزَتْ عُلُومُ الْبَشَرِ عَلَى اتِّسَاعِهَا، وَعُقُولُهُمْ عَلَى ارْتِقَائِهَا عَنِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَهُمْ كُلَّمَا ازْدَادُوا عِلْمًا يَزْدَادُونَ بَاطِلًا وَضَلَالًا وَبَغْيًا، خِلَافًا لِدُعَاةِ حَضَارَتِهِمُ الْكَاذِبِينَ.

قَالَ شَيْخُ فَلَاسِفَةِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْقَرْنِ (وَهُوَ هِرْبِرْت سِبِنْسَر الْإِنْكِلِيزِيُّ) لِحَكِيمِ الْإِسْلَامِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ؟ إِنَّ فَكْرَةَ الْحَقِّ قَدْ زَالَتْ مِنْ عُقُولِ أُمَمِ أُورُبَّةَ أَلْبَتَّةَ، فَلَا يَعْرِفُونَ حَقًّا إِلَّا لِلْقُوَّةِ، وَإِنَّ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ قَدْ أَفْسَدَتْ أَخْلَاقَهُمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرَى مِنْ سَبِيلٍ إِلَى عِلَاجِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْضُهُمْ يَخْتَبِطُ بِبَعْضٍ - وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ الْحَرْبَ - لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمُ الْأَقْوَى لِيَسُودَ الْعَالَمَ.

وَقَدْ وَقَعَ مَا تَوَقَّعَهُ هَذَا الْحَكِيمُ فِي سَنَةِ 1903 بِالْحَرْبِ الْكُبْرَى مُدَّةَ أَرْبَعِ سِنِينَ (مِنْ 1914 - 1918) فَازْدَادَتِ الْأُمَمُ وَالدُّوَلُ شَقَاءً وَفَسَادًا وَطُغْيَانًا وَإِبَاحَةً، حَتَّى جَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ عُقَلَائِهِمْ بِأَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِهَذَا الْفَسَادِ فِي الْبَشَرِ إِلَّا الْهِدَايَةُ الرُّوحِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، وَسَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ مُؤْتَمَرًا عَامًّا فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِكَانِيَّةِ، وَلَنْ يَجِدُوا الْعِلَاجَ الْمَطْلُوبَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا فَصَّلْنَاهَا بِهِ فِي مَبَاحِثِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ جَمَعْنَاهُ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ مَعَ زِيَادَةٍ فِي تَفْصِيلِهِ، فَعَسَى أَنْ يَسْبِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ وَنَشْرِهِ.

ص: 300

(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) .

بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ عَاجِزًا كَغَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهِ، وَفِي عِلْمِهِ وَلُغَتِهِ - وَمَا تَلَاهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ فِي اتِّبَاعِ أَكْثَرِهِمْ لِأَدْنَى الظَّنِّ وَأَضْعَفِهِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ - عَادَ إِلَى تَفْنِيدِ رَأْيِهِمُ الْأَفِينِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ الضَّعِيفِ مِنَ الْأَكْثَرِينَ، وَالْجَحُودِ الْعِنَادِيِّ مِنَ الْأَقَلِّينَ، كَالزُّعَمَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ:(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ) النَّفْيُ هُنَا لِلشَّأْنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنْ نَفْيِ الشَّيْءِ مُبَاشَرَةً كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ أَعْرَبَهُ إِعْرَابًا آخَرَ لِقِصَرِ نَظَرِهِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ

فِي الرَّدِّ، أَيْ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فِي عُلُوِّ شَأْنِهِ، الْمُحَلَّى لَهُ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ، وَعُلُومِهِ الْعَالِيَةِ، وَحِكْمَتِهِ السَّامِيَةِ، وَتَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ، وَآدَابِهِ الْمُثْلَى، وَتَمْحِيصِهِ لِلْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَإِنْبَائِهِ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَجَعْلِ الْمَقْصِدِ مِنْ إِصْلَاحِهِ مَا بَيَّنَهُ آنِفًا مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَاجْتِنَابِ الضَّلَالِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالِاعْتِمَادِ فِيهِمَا عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ - مَا كَانَ وَمَا صَحَّ وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَفْتَرِيَهُ أَحَدٌ عَلَى اللهِ مِنْ دُونِهِ وَيُسْنِدَهُ إِلَيْهِ ; إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عز وجل عَلَيْهِ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَشَرًا يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، فَلَنْ يَكُونَ إِلَّا بَشَرًا أَرْقَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ الْحُكَمَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَكَذَا الْمَلَائِكَةِ وَمِثْلُهُ لَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ، بَلْ قَالَ أَشَدُّ الْكُفَّارِ عِنَادًا وَعَدَاوَةً لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكْذِبْ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ ! .

ص: 301

(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الَّذِي سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ لِرُسُلِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَالِ كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَّى الله عَلَيْهِمْ بِدَعْوَتِهِ إِلَى أُصُولِ دِينِ اللهِ الْإِسْلَامِ، الَّتِي دَعَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بَعْدَ أَنْ نَسِيَ بَعْضُ ذَلِكَ بَقَايَا أَتْبَاعِهِمْ وَضَلُّوا عَنْ بَعْضٍ، وَشَوَّهُوهُ بِالتَّقَالِيدِ الْمُبْتَدَعَةِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ تَصْدِيقَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ جَاءَ وَفَاقًا لِمَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ حَرَمِ اللهِ، وَلِمَا بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ)(7: 157) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ التَّاسِعِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ.

(وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ) الْإِلَهِيِّ أَيْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَا شَرَّعَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَكْتُبَ وَيَهْتَدِيَ بِهِ جَمِيعُ الْبَشَرِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ (لَا رَيْبَ فِيهِ) هُوَ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مَثَارٌ لِلشَّكِّ وَلَا مَوْضِعٌ لِلرَّيْبِ ; لِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالْهُدَى مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَحْيِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (4: 82) .

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ كَوْنِهِ أَجَلَّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُفْتَرَى لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، إِلَى حِكَايَةِ زَعْمِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْمُعَانِدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم افْتَرَاهُ،

وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، أَوِ التَّمْهِيدِ بِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِتَحَدِّي التَّعْجِيزِ، وَهُوَ:(قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعِلْمِهِ، مُفْتَرَاةٍ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا تَلْتَزِمُونَ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي أَخْبَارِهَا، (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) وَاطْلُبُوا لِلْمُظَاهَرَةِ لَكُمْ وَالْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُمْ مَنْ دُونِ اللهِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ مِثْلَكُمْ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(17: 88) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ يُونُسَ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي زَعْمِكُمْ أَنِّي افْتَرَيْتُهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ سُورَةٍ هُنَا يَصْدُقُ بِالْقَصِيرَةِ كَالطَّوِيلَةِ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 23) وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ لِنَوْعٍ مِنَ السُّورِ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كَالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُ وَعِيدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ تَتَعَلَّقُ تُهْمَتُهُ بِالْإِخْبَارِ لَا بِالْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ، أَيْ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا (يُونُسَ) فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْكِتَابِ أَوْ كِتَابٍ أَحْيَانًا وَيُرَادُ بِهِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ

ص: 302

(المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)(7: 1 و2) أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ كِتَابٌ إِلَخْ وَمِنْ تَنْكِيرِ لَفْظِ ((سُورَةٍ)) الْمُرَادِ بِهَا النَّوْعُ دُونَ الْوَحْدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)(47: 20) أَيْ يُفْرَضُ فِيهَا الْقِتَالُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:(فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ)(47: 20) الْآيَةَ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ مَا كَانَ لِعَاقِلٍ مِثْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ هَذَا التَّحَدِّيَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مُوقِنًا بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، لَا أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مِنْهُمْ وَلَا جَمَاعَاتُهُمْ وَلَا جُمْلَتُهُمْ، إِنْ

فُرِضَ إِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ وَمُظَاهَرَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُ وَأَلَّفَهُ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ بِرَأْيِهِ - كَمَا ارْتَأَى بَعْضُ الْمُعْجَبِينَ بِعَقْلِهِ وَذَكَائِهِ وَعُلُوِّ أَفْكَارِهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعُلَمَاءِ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ - لَكَانَ عَقْلُهُ وَذَكَاؤُهُ وَعُلُوُّ فِكْرِهِ مَانِعَاتٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْجَزْمِ بِعَجْزِ عُقَلَاءِ الْخَلْقِ مِنَ الْعَوَالِمِ الظَّاهِرَةِ ((الْإِنْسِ)) وَالْخَفِيَّةِ ((الْجِنِّ)) عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ مَا أَتَى هُوَ بِهِ ; فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ مُتَوَسِّطِ الذَّكَاءِ وَالْفِكْرِ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْأَمْرِ فَهُوَ يُمْكِنُ غَيْرَهُ، بَلْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَهَذِهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْعَقْلِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ كَغَيْرِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَهِيَ إِحْدَى حُجَجِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا لَهُ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ عَجْزَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ نَفْسِهِ، مُعْتَقِدًا، أَنَّهُ مِنْ رَبِّهِ. (قُلْنَا أَوَّلًا) إِنَّ دَعْوَى الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ بَاطِلَةٌ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَثَانِيًا) إِنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانُوا أَفْصَحَ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، يَعْتَمِدُونَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحَدِّيهِ لِلْعَرَبِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ إِجْمَالًا، أَوْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَبِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ فَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَيْ فِي أُمِّيَّتِهِ، وَبِمَا ظَهَرَ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ ; إِذْ لَوْ قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ لَفَعَلُوا ; لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي مِنْ أَعْدَائِهِ عَلَى تَكْذِيبِ دَعَوَاهُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اسْتِفْحَالِ قُوَّتِهِ، وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى بَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي مُكَافَحَتِهِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ تَحَدِّيهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ، وَتَحِدِّي بَعْضِ الدَّجَّالِينَ الْمَغْرُورِينَ بِبَعْضِ مَا هَذَوَا بِهِ مِنْ نَثْرٍ وَنَظْمٍ وَسَمَّوْهُ وَحْيًا، كَالْبَابِ وَالْبَهَاءِ وَالْقَادَيَانِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ سُخْرِيَةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ، وَقَدْ أَخْفَى الْبَهَائِيُّونَ كِتَابَهُ (الْأَقْدَسَ) عَنِ النَّاسِ.

ص: 303

ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى أَنَّ تَحَدِّيَ الْعَرَبِ إِنَّمَا كَانَ بِمَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ اللُّغَوِيَّةِ.

وَقَدْ صَنَّفُوا فِي بَيَانِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِهَا كُتُبًا مُسْتَقِلَّةً، وَلَمْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ مِنْ نَاحِيَتِهَا وَلَا سِيَّمَا نَظْمِهِ الْعَجِيبِ بَلَهَ النَّوَاحِي الْمَعْنَوِيَّةِ. (وَقَالُوا) إِنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، هُوَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَصْدِيقَهُ

لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ ((صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِّي)) وَلِذَلِكَ رَجَّحُوا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ وَضْعِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ.

وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي إِعْجَازِهِ بِالْبَلَاغَةِ قَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، حَتَّى الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِهِ وَامْتِيَازِهِ بِهَا مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا. قَالَ الْفَرِيقَانِ: إِنَّ لِكُلِّ بَلِيغٍ مِنْ فُصَحَاءِ كُلَّ أُمَّةٍ أُسْلُوبًا يَمْتَازُ بِهِ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ تَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ أَفْصَحَ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَمْتَازَ فِيهِمْ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ كَمَا امْتَازَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِأُسْلُوبٍ خَاصٍّ وَكَمَا امْتَازَ شَكْسِبِيرُ فِي شُعَرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَفِيكْتُورْ هُيُغُو فِي الشُّعَرَاءِ الْفَرَنْسِيسِ، فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي بَلَاغَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللهِ عز وجل.

(وَنَقُولُ) إِنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ يَذُوبُ فَيَزُولُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْأَشِعَّةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْ ضِيَاءِ شَمْسِ الْقُرْآنِ، فِي إِعْجَازَيْهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (15، 16) مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي إِحْدَى مُقَدِّمَاتِهِ: إِنَّ مُحَمِّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ أَفْصَحَ قُرَيْشٍ وَأَبْلَغَهَمْ فِي لُغَتِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ يُذْكَرُ فِي فُحُولِ فُصَحَائِهِمْ وَلَا فِي وَسَطِهِمْ بَلْ لَمْ يَكُنْ يُعَدُّ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا صَارَ كَلَامُهُ مُمْتَازًا بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، كَمَا اسْتَفَادَ مَنْ دُونَهُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ ظَلَّ كَكَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْبُعْدِ عَنْ مُشَابَهَةِ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ وَتَأْثِيرِهِ، وَهَذَا التَّفَاوُتُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ.

(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْ رَوْعَةِ الْبَلَاغَةِ وَبَرَاعَةِ النَّظْمِ لَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ. (قُلْنَا) لَكِنَّ النَّاسَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورِ الْقِصَارِ كَغَيْرِهَا، وَلِخَفَاءِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّ عَجْزَهُمْ كَانَ بِصَرْفِ اللهِ تَعَالَى لِقُدَرِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا كَانَ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ كَمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنِ الرَّازِيِّ وَوَجَّهْنَاهُ بِأَظْهَرِ مِمَّا وَجَّهَهُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ مِنْ تُهْمَةِ افْتِرَائِهِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَاةٍ خَاصًّا بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ كَالْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْحِجْرِ وَطَهَ

ص: 304