المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بِمَا بَيَّنَّا بِهِ وِلَايَةَ اللهِ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ لِعِبَادِهِ، وَوِلَايَتَهُمْ لَهُ، - تفسير المنار - جـ ١١

[محمد رشيد رضا]

الفصل: بِمَا بَيَّنَّا بِهِ وِلَايَةَ اللهِ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ لِعِبَادِهِ، وَوِلَايَتَهُمْ لَهُ،

بِمَا بَيَّنَّا بِهِ وِلَايَةَ اللهِ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ لِعِبَادِهِ، وَوِلَايَتَهُمْ لَهُ، أَوْ لِلشَّيْطَانِ وَالطَّاغُوتِ، وَوِلَايَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَضَلَالِ بَعْضِهِمْ بِجَعْلِ وِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةَ بِهِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ، (وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَوْلِيَاءَ اللهِ بِمَا يَسْلُبُهُمُ اسْتِحْقَاقَ هَذَا اللَّقَبِ، وَذَكَرْنَا فِي شَوَاهِدِ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ.

أَوْلِيَاءُ اللهِ أَضْدَادُ أَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، وَالْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَهُمْ دَرَجَاتٌ أَعْلَاهُمْ دَرَجَةً هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُبِّهِ وَالْحُبِّ فِيهِ، وَالْوِلَايَةِ لَهُ، فَلَا يَتَّخِذُونَ لَهُ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِ، وَلَا يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَلَا وَكِيلًا وَلَا نَصِيرًا فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ تَوْفِيقِهِمْ لِإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَيَتَوَلَّوْنَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى:(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(6: 51) وَقَالَ:

(مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ)(32: 4) وَقَالَ: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)(33: 17) وَقَالَ فِي آيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مِنْهَا: (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا)(33: 3، 48) وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي تَوَلِّيهِمْ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَتَوَلِّيهِ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ.

وَحَسْبُنَا هُنَا مَا نَفَاهُ عَنْهُمْ وَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ ثُمَّ مَا زَفَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ، فَأَمَّا مَا نَفَاهُ مُخْبِرًا بِهِ عَنْهُمْ فَقَوْلُهُ:(لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وَهُوَ مَا نَفَاهُ عَنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَالْمُصْلِحِينَ وَالْمُتَّقِينَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ (رَاجِعْ 2:‌

‌ 62

، 5: 69 و6: 48، 7: 35، 49 وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا) فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ هَذَا عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فَلَا خَوْفَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ وَيُرْهَقُونَ بِهِ مِمَّا يَخَافُ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَالظَّالِمُونَ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ إِبْعَادِهِمْ عَنْ جَهَنَّمَ:(لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)(21: 103) الْآيَةَ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوا وَرَاءَهُمْ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا يَخَافُونَ مِمَّا يَخَافُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَعَبِيدِ الدُّنْيَا مِنْ مَكْرُوهٍ يُتَوَقَّعُ كَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، قَالَ:(فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(3: 175) أَوْ بَخْسٍ فِي الْحُقُوقِ أَوْ رَهَقٍ يَغْشَاهُمْ بِالظُّلْمِ وَالذُّلِّ، قَالَ:(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا)(72: 13)(وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ ذَهَابِ مَحْبُوبٍ وَقَعَ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ: (لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)(57: 23) وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ فِي الدُّنْيَا كَخَوْفِ الْكُفَّارِ وَلَا يَحْزَنُونَ كَحُزْنِهِمْ، وَسَنَذْكُرُ نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا أَصْلُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَهُوَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ أَصْبَرَ النَّاسِ وَأَرْضَاهُمْ بِسُنَنِ اللهِ، اعْتِقَادًا وَعِلْمًا بِأَنَّهُ إِذَا ابْتَلَاهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يُخِيفُ أَوْ يُحْزِنُ فَإِنَّمَا يُرَبِّيهِمْ بِذَلِكَ لِتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ وَتَمْحِيصِهَا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الَّذِي يَزْدَادُ بِهِ أَجْرُهُمْ كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ.

ص: 341

وَأَمَّا مَا وَصَفَهُمْ وَعَرَّفَهُمْ بِهِ فَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ النَّفْسِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ. أَيْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَلَكَةِ التَّقْوَى لَهُ عَزَّ

وَجَلَّ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عَمَلٍ. وَعَبَّرَ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا بِالْيَقِينِ، لَمْ يُزَلْزِلْهُ شَكٌّ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالتَّدْرِيجِ، وَعَنْ تَقْوَاهُمْ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ التَّقْوَى تَتَجَدَّدُ دَائِمًا بِحَسَبِ مُتَعَلَّقَاتِهَا: مِنْ كَسْبٍ وَحَرْبٍ، وَشَهْوَةٍ وَغَضَبٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِيهَا أَنَّهَا اتِّقَاءُ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَفِعْلِ مُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ، وَاتِّقَاءِ مُخَالَفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ مِنْ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَسِيَادَةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَهَمِّهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(8: 29) .

وَأَمَّا الْبُشْرَى الَّتِي زَفَّهَا إِلَيْهِمْ فَهِيَ قَوْلُهُ: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) الْبُشْرَى: الْخَبَرُ السَّارُّ الَّذِي تَنْبَسِطُ بِهِ بَشَرَةُ الْوَجْهِ فَيَتَهَلَّلُ وَتَبْرُقُ أَسَارِيرُهُ. وَهَذِهِ الْبُشْرَى مُبَيَّنَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مُتَعَلِّقُهَا الَّذِي يُبَشَّرُونَ بِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا بُشِّرُوا بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَهُمُّهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّصْرِ، وَبِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَبِاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ وَسُنَنَهُ، وَنَصَرُوا دِينَهُ وَأَعْلَوْا كَلِمَتَهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمِنْ أَكْمَلِهَا وَأَجْمَعِهَا لِمَعَانِي الْآيَةِ لِأَكْمَلِهِمْ قَوْلُهُ:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)(41: 30 - 32) الْمَشْهُورُ فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِهِ لِمَا فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَمَدَّ بِهِمْ أَصْحَابَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ:(وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (8: 10) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)(8: 12) وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ إِلْهَامُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ

التِّرْمِذِيَّ وَالنَّسَائِيِّ ((إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلِكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلِكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَيَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)) .

(لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) أَيْ لَا تَغْيِيرَ وَلَا خُلْفَ فِي مَوَاعِيدِ اللهِ عز وجل، وَمِنْهَا هَذِهِ الْبِشَارَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْبُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَعْلُوهُ فَوْزٌ وَإِنَّمَا هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الْحَقِّ، وَالتَّقْوَى الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ.

ص: 342

مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْأَوْلِيَاءِ:

ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعْضَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ، وَأَقْرَبُ مَا رَوَوْهُ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْأَوْلِيَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ:((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ عِبَادًا يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ)) قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ ((هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللهِ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ)) ثُمَّ قَرَأَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(62) أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرٍ الْعِجْلِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتُهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضَعْفِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِثْلِ سَنَدِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي زُرْعَةَ وَعَمْرٍو، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَمْ أَرَهُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ وَمَا كُلُّ مَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ بِصَحِيحٍ، وَمَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، مُوَافِقٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ: إِنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ شَيْطَانِيٌّ.

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا ((يَأْتِي مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ قَوْمٌ لَمْ تَتَّصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللهِ، وَتَصَافَوْا فِي اللهِ، يَضَعُ

اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) وَالْحَدِيثُ مُطَوَّلٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَفِيهِ مَقَالٌ لَهُمْ أَهْوَنُهُ مَا اكْتَفَى بِهِ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ وَهُوَ أَنَّهُ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَذَكَرَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: أَنَّهُ مِمَّا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ يَرْوِي الْمُنْكَرَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ سَاقِطٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: ضَعِيفٌ جِدًّا.

وَوَرَدَ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ مَرْفُوعَةٍ وَآثَارٌ فِي تَفْسِيرِ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ. وَعَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِآيَةِ ((حَمِ)) السَّجْدَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا مَعَ تَفْسِيرِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ هُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ لِرُؤْيَتِهِمْ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ أَوْلِيَاءَ اللهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِيٌّ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ. فَهَذِهِ خُلَاصَةُ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ.

وَإِنَّنَا لَمْ نَرَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَوْلِيَاءِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُ إِلَى

ص: 343

كَلَامِ اللهِ عز وجل إِلَّا حَدِيثَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِحَرْبٍ)) إِلَخْ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي سَنَدِهِ غَرَابَةٌ كَمَتْنِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، خَرَّجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدٍ وَلَيْسَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مَعَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَخْلَدٍ الْقَطْوَانِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا لَهُ مَنَاكِيرُ (ثُمَّ قَالَ) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَخْلُو كُلُّهَا مِنْ مَقَالٍ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ اخْتِلَافًا فِي أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي خَالِدٍ، وَمِنْهُ تَصْرِيحُ جَمَاعَةٍ بِرِوَايَتِهِ لِلْمَنَاكِيرِ وَمِنْهُ: فِي (الْمِيزَانِ) لِلذَّهَبِيِّ قَالَ: أَبُو حَاتِمٍ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: فِي حَدِيثِهِ بَعْضُ الْمَنَاكِيرِ وَهُوَ عِنْدَنَا فِي عِدَادِ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ سَعْدٍ: كَانَ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ مُتَشَيِّعًا

مُفْرِطًا فِي التَّشَيُّعِ وَكَتَبُوا عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْجُرْحِ وَغَيْرَهُ فِي مُقَدِّمَةِ (فَتْحِ الْبَارِي) وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ التَّشَيُّعَ لَا يَضُرُّ مِثْلَهُ، وَأَمَّا الْمَنَاكِيرُ فَقَدْ تَتَبَّعَهَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِهِ وَأَوْرَدَهَا فِي كَامِلِهِ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا أَخْرَجَهُ لَهُ الْبُخَارِيُّ (قَالَ) بَلْ لَمْ أَرَ لَهُ عِنْدَهُ مِنْ أَفْرَادِهِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)) الْحَدِيثَ اهـ.

(أَقُولُ) وَأَمَّا الْغَرَابَةُ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) إِلَى آخَرِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَقَدْ أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ وَبَيَّنْتُ أَمْثِلَةَ تَأْوِيلٍ لَهُ عِنْدِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حُبِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ تَفْسِيرِ (9: 24 ص 214 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) فَرَاجِعْهُ يُغْنِكَ عَنْ ذِكْرِهِ كُلِّهِ هُنَا.

(أَوْلِيَاءُ الْخَيَالِ وَأَوْلِيَاءُ الطَّاغُوتِ وَالشَّيْطَانِ)

ذَلِكَ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَتَيْنِ بِشَوَاهِدَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْقُرْآنُ خَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَصَحُّهُ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ وَخَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعَزَّرْنَاهُ بِأَمْثَلِ مَا رُوِيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِيهِمَا، فَأَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ يَشْهَدُ لَهُمْ كِتَابُهُ بِالْوِلَايَةِ لَهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ الْمُتَّقُونَ، وَلَكِنِ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ عَالَمٌ خَيَالِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ، لَهُمْ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَوْقَ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللهِ وَأَخْبَارِ رَسُولِهِ الصَّادِقَةِ فِي أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُرْسَلِينَ، بَلْ فَوْقَ كُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ جَمِيعُ الْوَثَنِيِّينَ آلِهَتَهُمْ وَأَرْبَابَهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَيَنْقُلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعَاوَى عَنْ بَعْضِ مَنِ اشْتُهِرُوا بِالْوِلَايَةِ مِمَّنْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي التَّارِيخِ، وَمَنْ لَا ذِكْرَ لَهُمْ إِلَّا فِي كُتُبِ الْأَدْعِيَاءِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِهِمْ، مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ بِالْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ الطَّرِيقِ، يَنْقُلُونَ عَنْهُمْ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مَزَاعِمَهُمُ الْخُرَافِيَّةَ الشِّرْكِيَّةَ كَمَا تَرَى فِيمَا نَنْقُلُهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْآتِيَةِ:

وَلَئِنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَحَدِيثِ نَبِيِّهِمْ مُفَسِّرٌ أَوْ مُحَدِّثٌ

ص: 344

لَيَقُولُنَّ هَذَا ضَالٌّ مُضِلٌّ مُنْكِرٌ لِلْكَرَامَاتِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَقَرَءُوا عَلَيْهِ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(62) وَهَلْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (2: 62) وَغَيْرِهِ مِمَّا أَوْرَدْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ آنِفًا، نَعَمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ دَرَجَاتٌ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى أَدْنَاهَا وَأَعْلَاهَا، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَفْسِيرِ (9: 24) .

هَذِهِ الْوِلَايَةِ الْخَيَالِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ مِنْ مُحْدَثَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَلْبَسُوهَا أَوَّلًا ثَوْبَ الشَّرِيعَةِ وَجَعَلُوا لِلشَّرِيعَةِ مُقَابِلًا سَمَّوْهُ الْحَقِيقَةَ، ثُمَّ صَارُوا يُلْبِسُونَهَا عَلَيْهَا لَبْسًا، وَيَبْعُدُونَ بِهَا عَنْهَا مَعْنًى وَحِسًّا بِقَدْرِ مَا يَبْعُدُونَ عَنِ الِاتِّبَاعِ، وَيُوغِلُونَ فِي الِابْتِدَاعِ، وَاعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ بِسِيرَةِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِينَ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ وَالسَّرِيِّ السَّقَطِيِّ وَمَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَالْجُنَيْدِ وَالشِّبْلِيِّ وَجُمْهُورِ رِجَالِ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ، وَمِثْلِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ وَسِيرَةِ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ قَدْ رَوَوُا الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الِاعْتِصَامَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَحْذَرُونَ وَيُحَذِّرُونَ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْبِدَعِ، وَيَحُثُّونَ عَلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ وَحُفَّاظِ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ كَالْأَرْبَعَةِ وَطَبَقَتِهِمْ، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غُلَاةِ مُتَصَوِّفَةِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَالدَّجَّالِينَ أَصْحَابِ الدَّعَاوَى الْعَرِيضَةِ وَالْخُرَافَاتِ الشَّنِيعَةِ مِثْلُ مَا بَيْنَ صُوفِيَّةِ الْبُرْهُمِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكِتَابِهِمُ (الْفِيدَا) وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ.

أَمْرِرْ بِبَصَرِكَ عَلَى طَبَقَاتِ الشَّعَرَانِيِّ الْكُبْرَى، فَإِنَّكَ لَا تَرَى فِيهَا فَرْقًا كَبِيرًا بَيْنَ سِيرَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَأَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ انْظُرْ فِي سِيرَةِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى ثُمَّ قَرْنِ الْمُؤَلِّفِ وَهُوَ الْعَاشِرُ وَتَأَمَّلْ وَوَازِنْ تَرَ فِي أَوْلِيَاءِ الشَّعَرَانِيِّ الْمَجَانِينَ وَالْمُجَّانَ وَالْقَذِرِينَ الَّذِينَ تَتَنَاثَرُ الْحَشَرَاتُ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَلِحَاهُمْ وَثِيَابِهِمُ الَّتِي لَا يَغْسِلُونَهَا حَتَّى تَبْلَى أَوْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً تَجِدْ ذَلِكَ الْبَوْنَ الشَّاسِعَ فِيهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُفَضِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الِاتِّحَادَ بِاللهِ أَوِ الْأُلُوهِيَّةَ.

تَأَمَّلْ مَا كَتَبَهُ فِي تَرْجَمَةِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْأَرْبَعَةَ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَنْفَعُ النَّاسَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ إِلَّا الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيَّ، وَتَجِدُ أَنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ كَانَ يُوَبِّخُهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ، وَيُخَاطِبُونَهُ بِلَقَبِ الدَّجَّالِ وَيَرْمُونَهُ

بِالْجَمْعِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَأَمَّا الدُّسُوقِيُّ فَكَتَبَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعَجَمِيِّ وَالسُّرْيَانِيِّ وَالْعِبْرَانِيِّ وَالزَّنْجِيِّ وَسَائِرِ لُغَاتِ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ، وَنَقَلَ عَنْهُ كِتَابًا مِنْ هَذِهِ اللُّغَاتِ أَرْسَلَهُ إِلَى أَحَدِ مُرِيدِيهِ، وَهُوَ خَلْطٌ مُخْتَرَعٌ لَيْسَ مِنْهَا فِي شَيْءٍ وَسَلَامًا مِثْلَهُ أَرْسَلَهُ مَعَ أَحَدِ الْحُجَّاجِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 345

مِنْهُ قَوْلُهُ: ((موز الرموز، عموز النهوز، سلاحات أفق، فردنانية امق، شوامق اليرامق حيد وفرقيد وفرغاط الْأَسْبَاط، إِلَخْ، فَمَا مَعْنَى هَذَا وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلنَّاسِ فِيهِ؟ .

وَنَقَلَ عَنْهُ كَلَامًا مِنَ الْمَعْهُودِ مِنْ أَمْثَالِهِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ، فَمِنَ الْحَقِّ النَّافِعِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَغْلِبْ عَلَيْهِمُ الْأَحْوَالُ لَمَا قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا صَحِيحَ الْمَأْثُورِ، وَمِنَ الضَّارِّ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى الْمُصَدِّقِينَ بِوِلَايَةِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ دِينَهُمْ وَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ رضي الله عنه يَقُولُ: أَنَا مُوسَى عليه السلام فِي مُنَاجَاتِهِ، أَنَا عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي حَمَلَاتِهِ أَنَا كُلُّ وَلِيٍّ فِي الْأَرْضِ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ، أُلْبِسُ مِنْهُمْ مَنْ شِئْتُ، أَنَا فِي السَّمَاءِ شَاهَدْتُ رَبِّي وَعَلَى الْكُرْسِيِّ خَاطَبْتُهُ أَنَا بِيَدِيَّ أَبْوَابُ النَّارِ غَلَّقْتُهَا، وَبِيَدِيَّ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ فَتَّحْتُهَا، مَنْ زَارَنِي أَسْكَنْتُهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:

(وَاعْلَمْ يَا وَلَدِي أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ مُتَّصِلُونَ بِاللهِ، وَمَا كَانَ وَلِيٌّ مُتَّصِلٌ بِاللهِ إِلَّا وَهُوَ يُنَاجِي رَبَّهُ كَمَا كَانَ مُوسَى عليه السلام يُنَاجِي رَبَّهُ، وَمَا مِنْ وَلِيٍّ إِلَّا وَهُوَ يَحْمِلُ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَحْمِلُ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَأَوْلِيَاءُ اللهِ أَشْيَاخًا فِي الْأَزَلِ، بَيْنَ يَدَيْ قَدِيمِ الْأَزَلِ، وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ اللهَ عز وجل خَلَقَنِي مِنْ نُورِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَنِي أَنْ أَخْلَعَ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ بِيَدِي فَخَلَعْتُ عَلَيْهِمْ بِيَدِي، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَقِيبٌ عَلَيْهِمْ فَكُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخِي عَبْدُ الْقَادِرِ خَلْفِي وَابْنُ الرِّفَاعِيِّ خَلْفَ عَبْدِ الْقَادِرِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لِي: ((يَا إِبْرَاهِيمُ سِرْ إِلَى مَالِكٍ وَقُلْ لَهُ يُغْلِقِ النِّيرَانَ، وَسِرْ إِلَى رَضْوَانَ وَقُلْ لَهُ يَفْتَحُ الْجِنَانَ، فَفَعَلَ مَالِكٌ مَا أُمِرَ بِهِ، وَرَضْوَانَ مَا أُمِرَ بِهِ)) إِلَخْ وَلَهُ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ.

وَذَكَرَ الشَّعَرَانِيُّ أَنَّهُ أَطَالَ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِطَالَةِ، تُعْطِي

الرُّتْبَةُ صَاحِبَهَا أَنْ يَنْطِقَ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ فَلَا يَنْبَغِي مُخَالَفَتُهُ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ مُثْبِتَ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْمُنْكَرَةَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنْ شُئُونِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَكْرَمِ رُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى النَّصِّ الصَّرِيحِ دُونَ مُنْكِرِهِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَسَنَذْكُرُ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الدَّعَاوَى فِي إِفْسَادِ الدِّينِ، وَإِضْلَالِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

جَاءَ فِي كُتُبِ الرِّفَاعِيَّةِ أَنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ مَسَّ بِيَدِهِ سَمَكَةً، فَأَرَادُوا شَيَّهَا بِالنَّارِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا النَّارُ. فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَعَدَنِي الْعَزِيزُ أَنَّ كُلَّ مَا لَمَسَتْهُ يَدُ هَذَا اللَّاشِ حَمِيدٌ لَا تَحْرِقُهُ النَّارُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَجَاءَ فِيهَا أَنَّ سَيِّدِي أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ كَانَ يُمِيتُ وَيُحْيِي

ص: 346

وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي، وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى مَقَامٍ صَارَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي رِجْلِهِ كَالْخَلْخَالِ وَفِي الْبَهْجَةِ الرِّفَاعِيَّةِ أَنَّ سَيِّدَهُمْ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ بَاعَ بُسْتَانًا فِي الْجَنَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ وَذَكَرَ لَهُ حُدُودًا أَرْبَعَةً. وَقَدْ نَقَلْتُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي كِتَابِي (الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مُحَاكَمَةِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ) .

وَجَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ مَنَاقِبِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ أَنَّهُ مَاتَ بَعْضُ مُرِيدِيهِ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَبَكَتْ فَرَقَّ لَهَا فَطَارَ وَرَاءَ مَلَكِ الْمَوْتِ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ يَحْمِلُ فِي زِنْبِيلٍ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَرْوَاحِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ رُوحَ مُرِيدِهِ أَوْ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ فَامْتَنَعَ، فَجَذَبَ الزِّنْبِيلَ مِنْهُ فَأَفْلَتَ فَسَقَطَ جَمِيعُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَرْوَاحِ فَذَهَبَتْ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَصَعِدَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ وَشَكَا لَهُ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ الْقَادِرِ فَأَجَابَهُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِمَا امْتَنَعْنَا مِنْ نَقْلِهِ، إِذْ نَقَلْنَا هَذِهِ الْخُرَافَةَ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُجَلَّدِ التَّاسِعِ مِنَ الْمَنَارِ تَنْزِيهًا وَأَدَبًا مَعَ رَبِّنَا عز وجل.

وَنَقَلْنَا ثَمَّ أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهِنْدَ ذَاكِرًا مَنَاقِبَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فَقَالَ إِنَّ حِدَأَةً خَطَفَتْ قِطْعَةَ لَحْمٍ مِمَّا ذُبِحَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي مَوْلِدِهِ - كَمَا كَانُوا يَذْبَحُونَ لِلْأَصْنَامِ - فَوَقَعَتْ عَظْمَتُهَا فِي مَقْبَرَةٍ فَغَفَرَ اللهُ تَعَالَى لِجَمِيعِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا كَرَامَةً لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَيَا وَيْلَ مَنْ يُنْكِرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ فَيُسْتَهْدَفُ لِرَمْيِهِ بِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى

(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(10: 62) وَإِنْكَارِ الْكَرَامَاتِ وَقَوْلِ اللَّقَانِيِّ:

وَأَثْبِتَنْ لِلْأَوْلِيَا الْكَرَامَهْ

وَمَنْ نَفَاهَا فَانْبِذَنْ كَلَامَهُ

وَمِنْ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ بِزَعْمِهِمْ ادِّعَاءُ الْوَحْيِ وَلَا يُنَافِيهَا عِنْدَهُمْ مُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ وَعِلْمُ الْغَيْبِ، وَمِلْكُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَتَدْبِيرُ الْأَمْرِ، وَتَرْكُ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ إِلَّا صُورِيَّةً لِمَصْلَحَةٍ وَكَذَا الْكُفْرُ الصَّرِيحُ كَمَا تَرَى فِي الشَّوَاهِدِ الْآتِيَةِ:

(الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ كَرَامَاتُ وَلِيٍّ شَيْطَانِيٍّ مُوَحِّدِ أُلُوهِيَّةِ إِبْلِيسَ) .

قَالَ الشَّعَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْحَضَرِيِّ: ((كَانَ مِنْ أَصْحَابِ جَدِّي رضي الله عنهما، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا دَامَ صَاحِيًا، فَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِ الْحَالُ تَكَلَّمَ بِأَلْفَاظٍ لَا يُطِيقُ أَحَدٌ سَمَاعَهَا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يُرَى فِي كَذَا كَذَا بَلَدًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ السَّرَسِيُّ أَنَّهُ جَاءَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَأَلُوهُ الْخُطْبَةَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ فَطَلَعَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ ثُمَّ قَالَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا إِبْلِيسُ عليه الصلاة والسلام. فَقَالَ النَّاسُ: كَفَرَ، فَسَلَّ السَّيْفَ وَنَزَلَ فَهَرَبَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنَ الْجَامِعِ فَجَلَسَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إِلَى أَذَانِ الْعَصْرِ، وَمَا تَجَرَّأَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَامِعَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ فَأَخْبَرَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَنَّهُ خَطَبَ عِنْدَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ، قَالَ فَعَدَدْنَا لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ثَلَاثِينَ خُطْبَةً، هَذَا وَنَحْنُ نَرَاهُ جَالِسًا عِنْدَنَا فِي بَلَدِنَا.

ص: 347

((وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقَلَعِيُّ أَنَّ السُّلْطَانَ قَايْتَبَايْ كَانَ إِذَا رَآهُ قَاصِدًا لَهُ تَحَوَّلَ وَدَخَلَ الْبَيْتَ خَوْفًا أَنْ يَبْطِشَ بِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا أَمْسَكَ أَحَدًا يُمْسِكُهُ مِنْ لِحْيَتِهِ وَيَصِيرُ يَبْصُقُ عَلَى وَجْهِهِ وَيَصْفَعُهُ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ إِطْلَاقُهُ، وَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَكْبَرُ النَّاسِ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ ضَرْبِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَكْمُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكُونَ مَقَامُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ عَلَى الدَّوَامِ، وَكَانَ يَقُولُ الْأَرْضُ بَيْنَ يَدَيَّ كَالْإِنَاءِ الَّذِي آكُلُ مِنْهُ، وَأَجْسَادُ الْخَلَائِقِ كَالْقَوَارِيرِ أَرَى مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ، تُوُفِّيَ رضي الله عنه سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمَائَةٍ رضي الله عنه اهـ. ص 94 ج 2 طَبَقَاتٍ.

(أَقُولُ) لَوْلَا أَنَّ سُلْطَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَجْنُونٌ بِالْخُرَافَاتِ مِثْلُهُمْ، لَمَا كَانَ لِمِثْلِ هَذَا الْمَجْنُونِ مَأْوًى إِلَّا الْبِيمَارَسْتَانُ يَكُفُّ كُفْرَهُ وَشَرَّهُ عَنْهُمْ.

(الشَّاهِدُ الثَّانِي كَرَامَةُ وَلِيِّ الْعَاهِرَاتِ وَالزُّنَاةِ الْفَاعِلِ بِالْأَتَانِ)

قَالَ فِي تَرْجَمَةِ مَنْ سَمَّاهُ (سَيِّدِي عَلِيُّ وَحِيشٍ مِنْ مَجَاذِيبِ النِّحَارِيَّةِ) كَانَ رضي الله عنه مِنْ أَعْيَانِ الْمَجَاذِيبِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، وَكَانَ يَأْتِي مِصْرَ وَالْمَحَلَّةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ وَلَهُ كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ، وَاجْتَمَعْتُ بِهِ يَوْمًا فِي خَطٍّ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ فَقَالَ لِي: وَدِّينِي لِلزَّلَبَانِيِّ فَوَدَّيْتُهُ لَهُ فَدَعَا لِي وَقَالَ: اللهُ يُصَبِّرُكَ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنَ الْبَلْوَى. وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الطَّنِيخِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: كَانَ الشَّيْخُ وَحِيشٌ رضي الله عنه يُقِيمُ عِنْدَنَا فِي الْمَحَلَّةِ فِي خَانِ بَنَاتِ الْخَطَأِ (أَيِ الْعَاهِرَاتِ) وَكَانَ كُلُّ مَنْ خَرَجَ يَقُولُ لَهُ قِفْ حَتَّى أَشْفَعَ فِيكَ عِنْدَ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ، فَيَشْفَعُ فِيهِ، وَكَانَ يَحْبِسُ بَعْضَهُمُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يُجَابَ فِي شَفَاعَتِهِ، وَقَالَ يَوْمًا لِبَنَاتِ الْخَطَأِ: اخْرُجُوا فَإِنَّ الْخَانَ رَائِحٌ يُطْبِقُ عَلَيْكُمْ فَمَا سَمِعَ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ وَوَقَعَ عَلَى الْبَاقِي فَمِتْنَ كُلُّهُنَّ، وَكَانَ إِذَا رَأَى شَيْخَ بَلَدٍ أَوْ غَيْرَهُ يُنْزِلُهُ مِنْ عَلَى الْحِمَارَةِ وَيَقُولُ لَهُ امْسِكْ رَأْسَهَا حَتَّى أَفْعَلَ فِيهَا: فَإِنْ أَبَى شَيْخُ الْبَلَدِ تَسَمَّرَ فِي الْأَرْضِ لَا يَسْتَطِيعُ يَمْشِي خُطْوَةً، وَإِنْ سَمَحَ حَصَلَ لَهُ خَجَلٌ عَظِيمٌ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ أَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرْتُ عَنْهُ سَيِّدِي مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَقَالَ: هَؤُلَاءِ يُخَيِّلُونَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَلَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ)) اهـ. (ص 129 مِنْهُ) وَوِلَايَةُ هَذَا الْمَجْنُونِ أَنَّهُ قَوَّادٌ لِلْعَاهِرَاتِ بِضَمَانِهِ الْمَغْفِرَةَ لِمَنْ يَفْجُرُ بِهِنَّ بِشَفَاعَتِهِ، وَأَضَلُّ مِنْهُ عُلَمَاءُ الْخُرَافَاتِ الْمُدَّعُونَ لِكَرَامَتِهِ.

(الشَّاهِدُ الثَّالِثُ وِلَايَةُ مَجْنُونٍ مُعَارِضٍ لِلْقُرْآنِ بِالْكُفْرِ وَالْهَذَيَانِ)

قَالَ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ شَعْبَانَ الْمَجْذُوبِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّصْرِيفِ بِمِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيٍّ الْخَوَّاصِّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُطْلِعُهُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِهَا وَأَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُهُ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ) وَكَانَ يَقْرَأُ سُوَرًا غَيْرَ السُّوَرِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى

ص: 348

كَرَاسِيِّ الْمَسَاجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَ الْعَامِّيُّ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ لِشَبَهِهَا بِالْآيَاتِ فِي الْفَوَاصِلِ.

((وَقَدْ سَمِعْتُهُ مَرَّةً يَقْرَأُ عَلَى بَابِ دَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ فِي الْبُيُوتِ فَصَغَيْتُ إِلَى مَا يَقُولُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَمَا أَنْتُمْ فِي تَصْدِيقِ هُودٍ بِصَادِقِينَ، وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ لَنَا قَوْمًا بِالْمُؤْتَفِكَاتِ يَضْرِبُونَنَا، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَنَا وَمَا لَنَا مِنْ نَاصِرِينَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ

اجْعَلْ ثَوَابَ مَا قَرَأْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ الْعَزِيزِ فِي صَحَائِفِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ - إِلَى آخَرِ مَا قَالَ)) .

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا دَائِمًا إِلَّا أَنَّهُ يَسْتُرُ سَوْأَتَيْهِ بِقِطْعَةِ جِلْدٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لِأَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ كُلَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا قَالَ: ((وَكَانَتِ الْخَلَائِقُ تَعْتَقِدُهُ اعْتِقَادًا زَائِدًا لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ أَنَّ أَحَدًا يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَالِهِ، بَلْ يَعُدُّونَ رُؤْيَتَهُ عِيدًا عِنْدَهُمْ تَحْنِينًا عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَاتَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَتِسْعِمِائَةٍ)) اهـ ص 160 مِنْهُ.

(أَقُولُ) إِذَا كَانَ الشَّعَرَانِيُّ مِنْ أَكْبَرِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ وَمُؤَلِّفِيهِ يَعُدُّ هَذَا الْمَجْنُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَيَتَرَضَّى عَنْهُ كُلَّمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ شَيْخُهُ عَلِيٌّ الْخَوَاصُّ يَتَلَقَّى عَنْهُ حَلَّ مُشْكِلَاتِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى كَشْفِهِ، فَهَلْ نَكُونُ مُخْطِئِينَ إِذَا قُلْنَا إِنَّ جَمِيعَ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ كَانُوا خُرَافِيِّينَ مَجَانِينَ مِثْلَهُ، وَأَيُّ قِيمَةٍ كَانَتْ فِي عَصْرِهِ لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ؟ وَهَلْ يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُنُونَ كَانَ تَخَبُّطًا شَيْطَانِيًّا لَا جَذْبًا إِلَهِيًّا أَقْوَى مِنْ مُعَارَضَةِ صَاحِبِهِ لِلْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيُّ مِمَّا سَمِعَهُ وَرَآهُ مِنْهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنَ الْهَذَيَانِ؟ .

(شَوَاهِدُ أُخْرَى عَنِ الْمَعْرُوفِ بِالتِّجَانِيِّ تَابِعَةٌ لِمَا قَبْلَهَا)

كَانَ مِنْ فَسَادِ هَذَا التَّصَوُّفِ الَّذِي بَثَّهُ الشَّعَرَانِيُّ وَأَمْثَالُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، أَنْ وُجِدَ فِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ شَيْخٌ اسْمُهُ الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ التِّجَانِيُّ، صَارَ لَهُ طَرِيقَةٌ مِنْ أَشْهَرِ الطُّرُقِ امْتَدَّتْ مِنَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى إِلَى السُّودَانِ الْفَرَنْسِيِّ وَالْجَزَائِرِ فَتُونُسَ فَمِصْرَ، وَصَارَ لَهَا مِئَاتُ الْأُلُوفِ مِنَ الْأَتْبَاعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُرَافَاتِ وَالِابْتِدَاعِ وَتَفْضِيلِ شَيْخِهَا نَفْسَهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أَقْطَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَذَا الْأَنْبِيَاءِ بِأُمُورٍ مِنْهَا ضَمَانُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَلِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يُكْرِمُهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ وَلَوْ بِالطَّعَامِ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَعَاصِيهِمْ وَتَبِعَاتِهِمْ تُغْفَرُ لَهُمْ لِأَجْلِهِ إِلَخْ، كَانَ الْغَرَضُ مِنْ طَرِيقَتِهِ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَطَعَامِهِمْ وَالْجَاهَ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِجَمِيعِ صُوفِيَّةِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَلَّفَ أَحَدُ أَتْبَاعِهِ كِتَابًا كَبِيرًا فِي مَنَاقِبِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَأَوْرَادِهِ تَلَقَّاهَا مِنْ لِسَانِهِ وَقَلَمِهِ، هَدَمَ بِهَا هَدْيَ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ تَلَقَّاهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَسَمَّاهُ (جَوَاهِرَ الْمَعَانِي) وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ مِنْهُ:

ص: 349

(الشَّاهِدُ الرَّابِعُ ضَمَانُ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالتِّجَانِيِّ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ) .

قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.

((قَالَ رضي الله عنه أَخْبَرَنِي سَيِّدُ الْوُجُودِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا قَالَ لِي: أَنْتَ مِنَ الْآمَنِينَ وَكُلُّ مَنْ رَآكَ مِنَ الْآمَنِينَ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ بِخِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَكُلُّ مَنْ أَطْعَمَكَ (!) يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ.

(ثُمَّ قَالَ) فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا صَدَرَ لِي مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَحَبَّةِ وَصَرَّحَ لِي بِهَا تَذَكَّرْتُ الْأَحْبَابَ وَمَنْ وَصَلَنِي إِحْسَانُهُمْ، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِي بِخِدْمَةٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ لِي نُحَاسِبُكَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ إِنْ دَخَلْنَا النَّارَ وَأَنْتَ تَرَى، فَأَقُولُ لَهُمْ: لَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْمَحَبَّةَ سَأَلْتُهُ لِكُلِّ مَنْ أَحَبَّنِي وَلَمْ يُعَادِنِي بَعْدَهَا، وَلِكُلِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فَأَكْثَرَ وَلَمْ يُعَادِنِي (؟) بَعْدَهَا، وَآكَدُ ذَلِكَ مِنْ أَطْعَمَنِي طَعَامَهُ (! !) قَالَ: كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ)) .

((قَالَ: وَسَأَلْتُهُ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ مْنَ أَخَذَ عَنِّي ذِكْرًا أَنْ تُغْفَرَ لَهُمْ جَمِيعُ ذُنُوبِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَنْ تُؤَدَّى عَنْهُمْ تَبَعَاتُهُمْ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِ اللهِ لَا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَنْ يَرْفَعَ اللهُ عَنْهُمْ مُحَاسَبَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونُوا آمَنِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ فِي أَوَّلِ الزُّمْرَةِ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مَعِي فِي عِلِّيِّينَ فِي جِوَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي صلى الله عليه وسلم: ضَمِنْتُ لَهُمْ هَذَا كُلَّهُ ضَمَانَةً لَا تَنْقَطِعُ حَتَّى تُجَاوِرَنِي أَنْتَ وَهُمْ فِي عِلِّيِّينَ.

(قَالَ الْمُؤَلِّفُ) ثُمَّ اعْلَمْ أَنِّي بَعْدَ مَا كَتَبْتُ هَذَا مِنْ سَمَاعِهِ وَإِمْلَائِهِ عَلَيْنَا رضي الله عنه مِنْ حَفْظِهِ وَلَفْظِهِ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا أَرْسُمُهُ، مِنْ خَطِّهِ، وَنَصِّهِ:

((أَسْأَلُ مِنْ فَضْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَضْمَنَ لِي دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ أَنَا وَكُلُّ أَبٍ وَأُمٍّ وَلَدَنِي مِنْ أَبَوَيَّ إِلَى أَوَّلِ أَبٍ وَأُمٍّ لِي فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جِهَةِ أَبِي وَمِنْ جِهَةِ أُمِّي، وَجَمِيعُ مَا وَلَدَ آبَائِي وَأُمَّهَاتِي مِنْ أَبَوَيَّ إِلَى الْجَدِّ الْحَادِي عَشَرَ وَالْجَدَّةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (؟) مِنْ جِهَةِ أَبِي وَمِنْ جِهَةِ أُمِّي مِنْ كُلِّ مَا تَنَاسَلَ مِنْهُمْ (؟) مِنْ وَقْتِهِمْ إِلَى أَنْ يَمُوتَ سَيِّدُنَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ مِنْ جَمِيعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَالصِّغَارِ

وَالْكِبَارِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ بِإِحْسَانٍ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فَأَكْثَرَ، مِنْ خُرُوجِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي إِلَى مَوْتِي، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَلَيَّ مَشْيَخَةٌ فِي عِلْمٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ سِرٍّ مِنْ كُلِّ مَنْ لَمْ يُعَادِنِي مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا مَنْ عَادَانِي أَوْ أَبْغَضَنِي فَلَا، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّنِي وَلَمْ يُعَادِنِي (؟) وَكُلُّ مَنْ وَالَانِي وَاتَّخَذَنِي شَيْخًا أَوْ أَخَذَ عَنِّي ذِكْرًا، وَكُلُّ مَنْ زَارَنِي وَكُلُّ مَنْ خَدَمَنِي أَوْ قَضَى لِي حَاجَةً أَوْ دَعَا لِي، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ خُرُوجِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي إِلَى مَوْتِي وَآبَائِهِمْ (؟) وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَوَالِدِي أَزْوَاجِهِمْ يَضْمَنُ لِي سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ

ص: 350

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ أَمُوتَ أَنَا وَكُلُّ حَيٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُؤَمِّنَنَا اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ عَذَابِهِ، وَعِقَابِهِ وَتَهْوِيلِهِ وَتَخْوِيفِهِ وَرُعْبِهِ وَجَمِيعِ الشُّرُورِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْمُسْتَقَرِّ فِي الْجَنَّةِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَلِجَمِيعِهِمْ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ وَأَنْ تُؤَدِّيَ عَنِّي وَعَنْهُمْ جَمِيعَ تَبِعَاتِنَا وَتَبِعَاتِهِمْ، وَجَمِيعَ مَظَالِمِنَا وَمَظَالِمِهِمْ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِ اللهِ لَا مِنْ حَسَنَاتِنَا، وَأَنْ يُؤَمِّنَنِي اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ مُحَاسَبَتِهِ وَمُنَاقَشَةِ سُؤَالِهِ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُظِلَّنِيَ اللهُ وَجَمِيعَهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُجِيزَنِي رُبِّيَ أَنَا وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ عَلَى الصِّرَاطِ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ عَلَى كَوَاهِلِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنْ يَسْقِيَنِيَ اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ حَوْضِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُدْخِلَنِي رَبِّي وَجَمِيعَهُمْ جَنَّتَهُ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ فِي أَوَّلِ الزُّمْرَةِ الْأُولَى وَأَنْ يَجْعَلَنِي رَبِّي وَجَمِيعَهُمْ مُسْتَقِرِّينَ فِي الْجَنَّةِ فِي عِلِّيِّينَ مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ وَمِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ. أَسْأَلُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ بِاللهِ أَنْ يَضْمَنَ لِي وَلِجَمِيعِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ كُلَّ مَا طَلَبْتُهُ مِنَ اللهِ لِي وَلَهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِكَمَالِهِ كُلِّهِ، ضَمَانًا يُوَصِّلُنِي وَجَمِيعَ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَى كُلِّ مَا طَلَبْتُهُ مِنَ اللهِ لِي وَلَهُمْ (كَذَا بِهَذَا التَّكْرَارِ) فَأَجَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ الشَّرِيفِ: كُلُّ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ضَمِنْتُهُ لَكَ ضَمَانَةً لَا تَتَخَلَّفُ عَنْكَ وَعَنْهُمْ أَبَدًا إِلَى أَنْ تَكُونَ أَنْتَ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتَ فِي جِوَارِي فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَضَمِنْتُ لَكَ جَمِيعَ مَا طَلَبْتَ مِنَّا ضَمَانَةً لَا يُخْلَفُ عَلَيْكَ الْوَعْدُ فِيهَا وَالسَّلَامُ، انْتَهَى بِحُرُوفِهِ وَلَحْنِهِ وَتَكْرَارِهِ مِنْ ص 91 و92 ج1 - قَالَ الْمُؤَلِّفُ:

ثُمَّ قَالَ رضي الله عنه وَكُلُّ هَذَا وَقَعَ يَقَظَةً لَا مَنَامًا. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ وَجَمِيعُ الْأَحْبَابِ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَى رُؤْيَتِي إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى رُؤْيَتِي مَنْ لَمْ يَكُنْ حَبِيبًا يَعْنِي تَابِعًا وَلَا آخِذًا

عَنِّي ذِكْرًا وَلَا أَكَلْتُ طَعَامَهُ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ ضَمِنَهُمْ لِي بِلَا شَرْطِ رُؤْيَةٍ مَعَ زِيَادَةِ أَنَّهُمْ مَعِي فِي عِلِّيِّينَ)) وَلَوْ رُوِيَ هَذَا عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ قَالَ التِّجَانِيُّ: وَأَمَّا مَنْ رَآنِي فَقَطْ غَايَتُهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي عِلِّيِّينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ ذَكَرْتُهُمْ وَهُمْ أَحْبَابُنَا وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَمَنْ أَخَذَ عَنَّا ذِكْرًا فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ فِي عِلِّيِّينَ مَعَنَا. وَقَدْ ضُمِنَ لَنَا هَذَا بِوَعْدٍ صَادِقٍ لَا خُلْفَ فِيهِ إِلَّا أَنِّي اسْتَثْنَيْتُ مَنْ عَادَانِي بَعْدَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِحْسَانِ فَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُتَمَسِّكِينَ بِمَحَبَّتِنَا فَأَبْشِرُوا بِمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ لِجَمِيعِ الْأَحْبَابِ قَطْعًا اهـ.

وَهَاهُنَا ذَكَرَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ الْعَظِيمَةَ الْمِقْدَارِ، وَهِيَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ لِمَنْ ذَكَرَهُمْ، لَمْ تَقَعْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ قَبْلَهُ إِلَخْ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَضْمَنْ مِثْلَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رضي الله عنهم حَتَّى الْعَدَدِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ مَا زَعَمَ

ص: 351

التِّجَانِيُّ أَنَّهُ ضَمِنَهُ لِمَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَلَا يُوجَدُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ قَاعِدَةُ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ أَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ، فَمَنْ تُضَاعَفُ حَسَنَاتُهُمْ تُضَاعَفُ سَيِّئَاتُهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي خِطَابِ نِسَائِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.

وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(26: 214) جَمَعَهُمْ وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُمْ: ((اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) قَالَ هَذَا لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ رضي الله عنهما وَلِبِنْتِهِ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ عليها السلام، فَكَلَامُ التِّجَانِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ أَتْبَاعِهِ وَأَقَارِبِهِ وَمُحِبِّيهِ وَالْمُحْسِنِينَ إِلَيْهِ يَكُونُونَ فِي عِلِّيِّينَ فَوْقَ أَتْبَاعِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُحِبِّيهِمْ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ لِلْجَنَّاتِ السَّبْعِ أَحَدٌ يَسْكُنُهُنَّ وَهُوَ افْتِرَاءٌ لَمْ يَتَجَرَّأْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَازِفِينَ قَبْلَهُ.

(الشَّاهِدُ الْخَامِسُ عَنْهُ تَفْضِيلُ أَوْرَادِهِ الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْمَأْثُورَةِ) .

ذَكَرَ مُؤَلَّفُ هَذَا الْكِتَابِ صَلَاةً عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْفَاتِحِ، وَغَلَا فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ يَقَظَةً بِهَا وَالْغُلُوِّ فِي ثَوَابِهَا وَهَذَا نَصُّهَا:

((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ، وَالْخَاتَمِ لِمَا سَبَقَ، نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، وَالْهَادِي

إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ الْعَظِيمِ)) وَذَكَرَ أَنَّ شَيْخَهُ التِّجَانِيَّ كَانَ يَقْرَؤُهَا ثُمَّ تَرَكَهَا لِصَلَاةٍ أُخْرَى الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا بِسَبْعِينَ أَلْفَ خَتْمَةٍ مِنْ دَلَائِلِ الْخَيْرَاتِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَقَالَ فِي ص 96 مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَا نَصُّهُ:

((فَلَمَّا أَمَرَنِي عليه السلام بِقِرَاءَتِهَا سَأَلْتُهُ عَنْ فَضْلِهَا فَأَخْبَرَنِي أَوَّلًا بِأَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تَعْدِلُ مِنَ الْقُرْآنِ سِتَّ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَخْبَرَنِي ثَانِيًا أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا تَعْدِلُ مَنْ كُلِّ تَسْبِيحٍ وَقَعَ فِي الْكَوْنِ وَمِنْ كُلِّ ذِكْرٍ وَمِنْ كُلِّ دُعَاءٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَمِنَ الْقُرْآنِ سِتَّةَ آلَافِ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَذْكَارِ)) .

(قَالَ)((وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَدْعِيَاءِ (كَذَا) دُعَاءُ السَّيْفِيِّ، فَفِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ ثَوَابُ صَوْمِ رَمَضَانَ وَقِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعِبَادَةُ سَنَةٍ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ سَيِّدُنَا عَنْ سَيِّدِ الْوُجُودِ.

((وَأَعْظَمُ مِنْ دُعَاءِ السَّيْفِيِّ دُعَاءُ: يَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ إِلَخْ. وَأَنَّهُ هَدِيَّةٌ مِنْ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتْ مَلَائِكَةُ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ عَلَى أَنْ يَصِفُوهُ لَمَا وَصَفُوهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ يَصِفُ مَا لَا يَصِفُهُ الْآخَرُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ فِيهِ: ((أُعْطِيهِ مِنَ الثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا خَلَقْتُ فِي سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَفِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفِي الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَعَدَدِ الْقَطْرِ وَالْمَطَرِ وَالْبِحَارِ، وَعَدَدِ الْحَصَى وَالرَّمْلِ،)) وَمِنْ جُمْلَتِهَا

ص: 352

أَيْضًا أَنَّ اللهَ يُعْطِيهِ ثَوَابَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّ اللهَ يُعْطِيهِ ثَوَابَ سَبْعِينَ نَبِيًّا كُلُّهُمْ بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (قَالَ) وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي صَحِيفَةِ عُمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ إِلَخْ.

وَصَرَّحَ الْمُؤَلِّفُ بِأَنَّ هَذَا الْكَذِبَ أَمْلَاهُ شَيْخُهُ التِّجَانِيُّ. ثُمَّ قَالَ عَنْ شَيْخِهِ:

((وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ فَإِنِّي سَأَلْتُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَأَخْبَرَنِي أَوَّلًا أَنَّهَا بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، فَقُلْتُ لَهُ هَلْ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ أَجْرُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مُفْرَدَةً؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا مَعْنَاهُ: نَعَمْ يَحْصُلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا أَجْرُ مَنْ صَلَّى بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مُفْرَدَةٍ.

وَسَأَلْتُهُ: هَلْ يَقُومُ مِنْهَا طَائِرٌ الَّذِي لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ إِلَخْ. الْحَدِيثَ. أَمْ يَقُومُ مِنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَثَوَابِ تَسْبِيحِهِمْ لِقَارِئِهَا؟ فَقَالَ: بَلْ يَقُومُ مِنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

وَقَالَ فِي ص 97 فَسَأَلْتُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ تَعْدِلُ أَرْبَعَمِائَةِ غَزْوَةٍ

كُلُّ غَزْوَةٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَمِائَةِ حَجَّةٍ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: بَلْ صَحِيحٌ فَسَأَلْتُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَدَدِ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ هَلْ يَقُومُ مِنْ صَلَاةِ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ مَرَّةً أَرْبَعُمِائَةِ غَزْوَةٍ أَمْ يَقُومُ أَرْبَعُمِائَةِ غَزْوَةٍ صَلَاةً مِنَ السِّتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ عَلَى انْفِرَادِهَا أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ غَزْوَةٍ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ صَلَاةَ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنَ السِّتِّمِائَةِ أَلْفٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ غَزْوَةٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِهَا، أَيْ بِالْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ مَرَّةً حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ مَا إِذَا صَلَّى بِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ مِنْ كُلِّ جِنٍّ وَإِنْسٍ وَمَلَكٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَالَمِ إِلَى وَقْتِ تَلَفُّظِ الذَّاكِرِ بِهَا، أَيْ كَأَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ صَلَاةٍ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مِنْ جَمِيعِ صَلَاةِ الْمُصَلِّينَ عُمُومًا: مَلَكًا وَجِنًّا وَإِنْسًا وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ غَزْوَةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْ ذَلِكَ بِزَوْجَةٍ مِنَ الْحُورِ وَمَحْوِ عَشْرِ سَيِّئَاتٍ وَثُبُوتِ عَشْرِ حَسَنَاتٍ وَرَفْعِ عَشْرِ دَرَجَاتٍ، وَأَنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى صَاحِبِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ (قَالَ الشَّيْخُ رضي الله عنه فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا بِقَلْبِكَ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَقُومُ لَهَا عِبَادَةٌ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَكَيْفَ مَنَّ صَلَّى بِهَا مَرَّاتٍ مَاذَا لَهَا مِنَ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ وَهَذَا حَاصِلٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا اهـ.

ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ الْجُنُونِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا دِمَاغُهُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْعُقُولِ، وَمِنْهَا مَا عَدَّهُ مِنْ ثَوَابِ مَلَايِينِ الْأُمَمِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يُفَضَّلْ عَلَيْهَا إِلَّا الدُّعَاءُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ هَذَا بِزَعْمِهِمْ (اهم سقك حلع يص) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي ص 102 مَا نَصُّهُ:(فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ رضي الله عنه عَدَدُ أَلْسِنَةِ الطَّائِرِ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ إِلَخْ الْحَدِيثَ أَلْفُ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ ثَمَانِيَ مَرَاتِبَ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ سَبْعَ مَرَاتِبَ وَسَبْعَمِائَةِ

ص: 353

أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ خَمْسَ مَرَاتِبَ فَهَذَا مَجْمُوعُ عَدَدِ أَلْسِنَتِهِ، وَكُلُّ لِسَانٍ يُسَبِّحُ اللهَ تَعَالَى بِسَبْعِينَ أَلْفَ لُغَةٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَكُلُّ ثَوَابِهَا لِلْمُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَرَّةٍ، هَذَا فِي غَيْرِ الْيَاقُوتَةِ الْفَرِيدَةِ وَهِي الْفَاتِحُ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ، وَأَمَّا فِيهَا فَإِنَّهُ يُخْلَقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَسُبْحَانُ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ وَلَا عِلَّةٍ اهـ. مَنْ خَطِّ سَيِّدِنَا وَحَبِيبِنَا وَخَازِنِ سِرِّ سَيِّدِنَا أَبِي عَبْدِ اللهِ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ الْمِشْرِيِّ حَفِظَهُ اللهُ اهـ.

(الشَّاهِدُ السَّادِسُ عَنِ التِّجَانِيِّ دَعْوَاهُ مَوْتَ مَنْ يَكْرَهُهُ كَافِرًا)

وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ الْمُخَالِفَةِ لِعَقَائِدِ جَمِيعِ السَّلَفِ وَحُفَّاظِ السُّنَنِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ، مَا نَعْهَدُ مِثْلَهُ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ وَسَائِرِ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَلِعِلْمِ التِّجَانِيِّ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالضَّرُورِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَنْ أَصُولِ طَرِيقَتِهِمُ التَّسْلِيمَ لَهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَقَدْ بَالَغَ التِّجَانِيُّ فِيمَا يُلَقِّنُهُ لِأَتْبَاعِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، حَتَّى زَعَمَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَكَرِهَ عَمَلَهُ أَوْ طَعَنَ فِيهِ أَوْ أَبْغَضَهُ يَمُوتُ كَافِرًا قَطْعًا ; وَهَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ كَدَعْوَى دُخُولِ أَتْبَاعِهِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ الْجَنَّةَ قَطْعًا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقَطْعِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ. وَإِنَّمَا الْقَطْعِيُّ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّ الْخَوَاتِيمَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى.

وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ أَتْبَاعًا فِي مِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ لَمَا سَوَّدْنَا صَحَائِفَ هَذَا التَّفْسِيرِ بِذِكْرِ خُرَافَاتِهِ وَضَلَالَاتِهِ، وَقَدِ اسْتَفْتَانِي بَعْضُ الْمُنْكِرِينَ لِدَعْوَاهُمْ تَلَقِّيَ شَيْخِهِمْ لِأَوْرَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَقَظَةِ، وَحُضُورَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَجَالِسِ حَضْرَتِهِمْ، عَنْ دَعْوَى رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَقَظَةِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُ، فَأَفْتَيْتُ فِي الْمَنَارِ بِبُطْلَانِهَا، فَلَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَجَلَّةِ مَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فَاسْتَفْتَوْهَا فِي ذَلِكَ فَأَفْتَاهُمْ مُفْتِيهَا الدِّجَوِيُّ الدَّجَّالُ بِمَا يَتَّخِذُونَهُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ مَا افْتَرَاهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يَرُدُّونَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ، وَالْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَعَدَّى فِيهَا مَا صَحَّ مِنْهَا عَنِ الْمَعْصُومِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

هَذَا وَإِنِّي لَا أَجْهَلُ أَنَّ لِلتِّجَانِيَّةِ فِي الْمَغْرِبِ وَالسُّودَانِ الْفَرَنْسِيِّ، حَسَنَاتٍ فِي مُقَاوَمَةِ التَّنْصِيرِ وَالِاسْتِعْمَارِ الْمُعَادِي لِلْإِسْلَامِ كَالْقَادِرِيَّةِ وَالسَّنُوسِيَّةِ، وَلَكِنَّ كِتَابَهُمْ (جَوَاهِرَ الْمَعَانِي) قَدْ فَضَحَهُمْ فَضَائِحَ لَا يَقْبَلُهَا مُسْلِمٌ يَعْرِفُ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ، وَسَتَعْلَمُ قِيمَةَ حَسَنَاتِهِمْ وَغَيْرَهَا مِمَّا سَنَنْقُلُهُ فِي كَرَامَاتِ أَمْثَالِهِمْ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.

ص: 354

(تَقْلِيدُ الْبَابِ وَالْبَهَاءِ وَالْقَادْيَانِيُّ لِغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ)

(فِي دَعْوَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ)

قَدْ جَرَّأَ هَؤُلَاءِ الْغُلَاةُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ إِخْوَانَهُمْ فِي الِابْتِدَاعِ عَلَى دَعْوَى الْوَحْيِ وَالتَّلَقِّي عَنِ اللهِ تَعَالَى كَالْأَنْبِيَاءِ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهُمُ النُّبُوَّةَ نَفْسَهَا، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْأُلُوهِيَّةَ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنْ كَلَامِ الْبَابِ مُؤَسِّسِ فَرْقَةِ الْبَابِيَّةِ، وَالْبَهَاءِ مُؤَسِّسِ دِيَانَةِ الْبَهَائِيَّةِ عَلَى أَنْقَاضِ، الْبَابِيَّةِ، وَغُلَامِ أَحْمَدِ الْقَادَيَانِيِّ - مَسِيحِ الْهِنْدِ الدَّجَّالِ - أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَدِ ادَّعَوُا الْوَحْيَ مِنَ اللهِ لَهُمْ، وَتَجِدُ كَلَامَهُمْ فِي الْغُلُوِّ فِي أَنْفُسِهِمْ مَمْزُوجًا بِاصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ، فَلَمْ يُفْسِدِ الْإِسْلَامَ عَلَى أَهْلِهِ بِدَعَةٌ وَلَا فَلْسَفَةٌ وَلَا رِوَايَةٌ وَلَا رَأْيٌ، كَمَا أَفْسَدَ أَدْعِيَاءُ الْوِلَايَةِ وَالْكَشْفِ، فَإِنَّ أَصْلَ هَذَا الدِّينِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِإِجْمَاعِ أَهْلِهِ، وَبِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا، فَأَمَّا الْبَابِيَّةُ فَقَدِ انْحَصَرُوا فِي الْبَهَائِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ كَانَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَكْبَرِ الدُّهَاةِ يَسُوسُهُمْ فَمَاتَ فَانْحَطَّ شَأْنُهُمْ، وَوَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى الزَّعَامَةِ وَظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ تَلْبِيسُهُمُ الْبَاطِنِيُّ فَقَلَّمَا يَنْخَدِعُ بِدَعْوَتِهِمْ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَزَعِيمُهُمُ الْوَارِثُ لَهُ قَدْ تَرَبَّى تَرْبِيَةً إِنْكِلِيزِيَّةً مَفْضُوحَةً، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَأْوِيلَاتِ عَبَّاسٍ أَفَنْدِي الصُّوفِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ.

وَأَمَّا الْقَادَيَانِيَّةُ فَقَدْ نَشِطُوا لِلدَّعَايَةِ وَهُمْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يُوجِدُوا فِي بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَوْجَدَتِ الْمَسِيحِيَّةُ فِي الْيَهُودِ، أَعْنِي إِحْدَاثَ مِلَّةٍ جَدِيدَةٍ تُسَمَّى الْمَسِيحِيَّةَ الْأَحْمَدِيَّةَ، وَسَيَفْتَضِحُونَ ; لِأَنَّ زَعِيمَهُمْ وَمَسِيحَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ، وَالْعَصْرُ يُطْلَبُ تَجْدِيدًا لِلْإِسْلَامِ لَا تَقْدِيسَ فِيهِ إِلَّا لِلَّهِ، وَجَمِيعُ كُتُبِ مَسِيحِهِمْ غُلَامِ أَحْمَدَ تَدُورُ عَلَى تَقْدِيسِ نَفْسِهِ كَالْبَهَاءِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَخْلُفْهُ رَجُلٌ دَاهِيَةٌ كَعَبَّاسٍ عَبْدِ الْبَهَاءِ، يُخْفِي كُتُبَهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ وَيَتَصَرَّفُ فِي التَّأْوِيلِ لِدَعْوَتِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّهَاءِ وَكَيْفَ يَتَسَنَّى لَهُمْ إِخْفَاءُ كُتُبِهِ، وَقَدْ طَبَعَهَا وَنَشَرَهَا فِي عَصْرِهِ، وَفِيهَا أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى ضَلَالِهِ وَإِضْلَالِهِ، وَخِزْيِهِ وَنَكَالِهِ؟ .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ ثَلَاثُ فِرَقٍ: صُوفِيَّةُ الْأَخْلَاقِ الْمُهْتَدِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَهُمْ مِنْ خِيَارِ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصُوفِيَّةُ الْفَلْسَفَةِ

الْهِنْدِيَّةِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ صُوفِيَّةَ الْحَقَائِقِ، وَغُلَاتُهُمْ كَغُلَاةِ الشِّيعَةِ الْبَاطِنِيَّةِ شَرُّ الْمُبْتَدِعَةِ الْهَادِمِينَ لِلدِّينِ، وَصُوفِيَّةُ التَّقْلِيدِ وَهُمْ أَهْلُ الطَّرَائِقِ وَالزَّوَايَا الْكُسَالَى، وَإِنْ هُمْ إِلَّا صُوفِيَّةُ أَكْلٍ وَاحْتِفَالَاتٍ، وَبِدَعٍ وَخُرَافَاتٍ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَهَاكَ مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ رَأْيِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، فِي أَوْلِيَاءِ اللهِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِشَوَاهِدَ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

ص: 355

(كِتَابُ الْفُرْقَانِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ)

(اسْتِمْتَاعُ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَمَثُّلُهُمْ بِصُوَرِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ)

هَذَا الْكِتَابُ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، بَيَّنَ فِيهِ تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَبَاحِثِهِ مُلَابَسَةُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ لِلنَّاسِ وَتَلْبِيسُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَظُهُورُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي صُوَرِ مَشَايِخِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْخِضْرِ وَالْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَالْإِيحَاءُ إِلَى بَعْضِهِمْ فِيمَا يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ، وَظُهُورُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِيمَا هُوَ نَافِعٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مَبَاحِثِ التَّفْسِيرِ وَهَدْيِ السُّنَّةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَاسْتِخْدَامِ الْجِنِّ وَالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَحِكَايَاتُ اسْتِخْدَامِ الْجِنِّ كَثِيرَةٌ فِي قَدِيمِ الْأُمَمِ كُلِّهَا وَحَدِيثِهَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَدَّعُونَهَا أَوْ كُلُّهُمْ دَجَّالُونَ مُحْتَالُونَ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَتَمَثَّلُونَ لَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَقِّقٌ وَصِدِّيقٌ لَا يَرْمِي الْقَوْلَ عَلَى عَوَاهِنِهِ.

وَمِمَّا قَالَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رُؤْيَةُ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ الْخِضْرُ وَإِنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُمْ وَيَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ شَيْطَانٌ لَا الْخِضْرُ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَمِثْلُ ذَلِكَ ظُهُورُ الْمَسِيحِ عليه السلام لِكَثِيرٍ مِنَ النَّصَارَى عَقِبَ رَفْعِهِ وَبَعْدَهُ إِلَى الْآنِ ثُمَّ قَالَ:

((وَأَصْحَابُ الْحَلَّاجِ لَمَّا قُتِلَ كَانَ يَأْتِيهِمْ مَنْ يَقُولُ أَنَا الْحَلَّاجُ فَيَرَوْنَهُ فِي صُورَتِهِ،

وَكَذَلِكَ شَيْخٌ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهُ الدِّسُوقِيُّ بَعْدَ أَنْ مَاتَ كَانَ يَأْتِي أَصْحَابَهُ مِنْ جِهَتِهِ رَسَائِلُ وَكُتُبٌ مَكْتُوبَةٌ، وَأَرَانِي صَادِقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَرَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْجِنِّ - وَقَدْ رَأَيْتُ خَطَّ الْجِنِّ غَيْرَ مَرَّةٍ - وَفِيهِ كَلَامٌ مِنَ الْجِنِّ، وَذَاكَ الْمُعْتَقِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْخَ حَيٌّ، وَكَانَ يَقُولُ انْتَقَلَ ثُمَّ مَاتَ، وَكَذَلِكَ شَيْخٌ آخَرُ كَانَ بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ لَهُ خَوَارِقُ مِنَ الْجِنِّ، وَقِيلَ: كَانَ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ فِي صُورَتِهِ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ. وَالَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاءَ عَلِيٍّ أَوْ بَقَاءَ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ قَدْ كَانَ يَأْتِي إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ جِنِّيٌ فِي صُورَتِهِ، وَهَكَذَا مُنْتَظَرُ الرَّافِضَةِ قَدْ يَرَاهُ أَحَدُهُمْ أَحْيَانًا وَيَكُونُ الْمَرْئِيُّ جِنِّيًّا.

((فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاقِعٌ كَثِيرًا، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَوْمُ أَجْهَلَ كَانَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ، فَفِي الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي النَّصَارَى، وَهُوَ فِي النَّصَارَى كَمَا هُوَ فِي الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ يُسْلِمُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ وَيَتُوبُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ يَكُونُونَ أَضَلَّ مِنْ أَصْحَابِهَا فَيَنْتَقِلُونَ بِسَبَبِهَا إِلَى مَا هُوَ

ص: 356

خَيْرٌ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، كَالشَّيْخِ الَّذِي فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ مِنَ الْإِنْسِ قَدْ يَأْتِيهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْلِمُونَ وَيَصِيرُونَ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا وَإِنْ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَاسِدًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ)) وَهَذَا كَانَ كَالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَيَقْوَى بِهَا قُلُوبُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا بَاطِلَةً فَغَيْرُهَا أَبْطَلُ مِنْهَا وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ دَرَجَاتٌ، فَيَنْتَفِعُ بِهَا أَقْوَامٌ يَنْتَقِلُونَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، ((وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى الْكَفَّارِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ وَصَارُوا مُسْلِمِينَ مُبْتَدِعِينَ، وَهُوَ

خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدْ يَغْزُو غَزْوًا يَظْلِمُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ وَيَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ خَلْقٍ كَثِيرٍ كَانُوا كُفَّارًا فَصَارُوا مُسْلِمِينَ، وَذَاكَ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ خَيْرٌ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ، قَدْ يَسْمَعُهَا أَقْوَامٌ فَيَنْتَقِلُونَ بِهَا إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ كَذِبًا وَهَذَا كَالرَّجُلِ يُسْلِمُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَرَهْبَةً مِنَ السَّيْفِ، ثُمَّ إِذَا أَسْلَمَ وَطَالَ مُكْثُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، فَنَفْسُ ذُلِّ الْكُفْرِ عَلَيْهِ وَانْقِهَارِهِ وَدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَبْقَى كَافِرًا، فَانْتَقَلَ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَخَفَّ الشَّرُّ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ أَدْخَلَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، وَاللهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَعْلِيلِهَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَعَا الْخَلْقَ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ، وَنَقَلَ كُلَّ شَخْصٍ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (46: 19) وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَرُدُّونَ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ وَبِدَعَةً بِبِدْعَةٍ، لَكِنْ قَدْ يَرُدُّونَ بَاطِلَ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِبَاطِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا مُبْتَدِعًا، وَأَخَصُّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُرُدُّ الْبِدَعَ الظَّاهِرَةَ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ بِبِدْعَةٍ أَخَفَّ مِنْهَا وَهِيَ بِدْعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَصْنَافَ الْبِدَعِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.

(أَقُولُ) كُلُّ الْمُشَاهَدَاتِ الَّتِي نَقَلَ خَبَرَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ هُنَا مَشْهُورَةٌ عَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَأَهْلِ عَصْرِنَا، وَقَدْ نَقَلَ عَنِ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتُونَ الْمَهْدِيَّ الْمُنْتَظَرَ فِي بَعْضِ الْمُشْكِلَاتِ، فَيَضَعُونَ

ص: 357

وَرَقَةَ الِاسْتِفْتَاءِ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ يَجِدُونَ الْفَتْوَى مَكْتُوبَةً عَلَيْهَا وَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ أَوْ أَقْوَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَارِ، وَمِنْ هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ حِيَلِ شَيَاطِينِ النَّاسِ وَتَزْوِيرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ.

(بَعْضُ حِكَايَاتِ النَّصَارَى الْمُعَاصِرِينَ فِي رُؤْيَةِ الْمَسِيحِ وَمَرْيَمَ عليهما السلام .

إِنَّ الَّذِينَ يَتَرَاءَى لَهُمُ الْمَسِيحُ أَوْ أُمُّهُ عليهما السلام أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْقِدِّيسِينَ عِنْدَهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ الرِّجَالِ الْمَشْهُورِينَ بِهَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ رَشِيدٌ بِكُّ مُطْرَانُ وَهُوَ وَجِيهٌ سُورِيٌّ مِنْ بَعْلَبَكَّ مَشْهُورٌ يُقِيمُ فِي أُورُبَّةَ وَيَكُونُ غَالِبًا فِي (بَارِيسَ) فَهُوَ يَرَى أَوْ يَتَرَاءَى لَهُ مِثَالُ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ فِي الْيَقَظَةِ كَثِيرًا وَيَسْأَلُهَا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ فَتُجِيبُهُ. وَحَدَّثَنِي الْأَمِيرُ شَكِيبُ أَرْسَلَانُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهَا مَرَّةً عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَأَجَابَتْهُ مُثْنِيَةً عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم ثَنَاءً عَظِيمًا لَمْ أَحْفَظْهُ.

وَقَرَأْتُ فِي جَرِيدَةِ مِرْآةِ الْغَرْبِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ فِي (نِيويُورْكَ) فِي مَارِسَ سَنَةَ 1933 رِسَالَةً مِنْ عَمَّانَ عَاصِمَةِ إِمَارَةِ شَرْقِ الْأُرْدُنِّ كُتِبَتْ فِي 26 مِنْ كَانُونَ الثَّانِي (يَنَايِرَ) سَنَةَ 1923 (الْمُوَافِقِ 29 رَمَضَانَ سَنَةَ 1351) مُلَخَّصُهَا أَنَّ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً فِي عَمَّانَ اسْمُهَا حِنَّةُ بِنْتُ إِلْيَاسَ غَابِي الْمُلَقَّبِ صِهْرَ اللهِ مُتَزَوِّجَةً وَلَهَا أَوْلَادٌ وَأَخٌ، فَقِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالتَّقْوَى عَرَضَ لَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَنِصْفٍ نَزِيفٌ دَمَوِيٌّ عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَأُرِيدَ عَمَلُ عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ لَهَا فَأُرْشِدَتْ إِلَى التَّوَجُّهِ أَوَّلًا إِلَى الطَّبِيبِ السَّمَاوِيِّ، فَدَعَتْ يَسُوعَ لَيْلًا ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الْكَنِيسَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ لِتُصَلِّيَ وَهِيَ فِي حَالِ غَيْبُوبَةٍ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَا، فَرَأَتِ الْكَنِيسَةَ خَالِيَةً وَشَاهَدَتْ فِي الْهَيْكَلِ شَخْصًا يُحِيطُ بِهِ نُورٌ عَظِيمٌ فَاشْتَدَّ خَوْفُهَا وَرُعْبُهَا، فَدَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: لَا تَخَافِي أَنَا الْمَسِيحُ، فَرَكَعَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ وَقَالَتْ لَهُ اشْفِنِي يَا سَيِّدُ، فَقَالَ لَهَا: حَسَبُ إِيمَانِكِ يَكُونُ لَكِ، فَبَرِئَتْ وَقَرَّرَ الْأَطِبَّاءُ بَعْدَ فَحْصِهَا أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ حَاجَةٌ إِلَى الْعَمَلِيَّةِ الْجِرَاحِيَّةِ فَازْدَادَتْ عِبَادَةً وَتَقْوَى.

((وَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ ك2 مِنْ ((يَنَايِرَ)) شَعَرَتْ فِي مُنْتَصَفِ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ بِيَدٍ تَهُزُّهَا مِنَ الْكَتِفِ، فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا فَإِذَا نُورٌ عَظِيمٌ فِي الْغُرْفَةِ وَفِي وَسَطِ النُّورِ شَخْصُ الْمَلَاكِ يَقُولُ لَهَا: سَيَحْدُثُ ضِيقٌ عَظِيمٌ فِي الْعَالَمِ، وَلَكِنْ لَا تَخَافُوا وَسَتَكُونُ لَكُمْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ - وَكَانَ بِيَدِهِ كَأْسٌ فَغَمَسَ الْيَدَ الْأُخْرَى فِي الْكَأْسِ وَبِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَضَعَ عَلَى جَبِينِهَا عَلَامَةً ثُمَّ تَرَكَهَا وَقَالَ: اعْطُوا مَجْدَ اللهِ فَقَامَتْ وَصَارَتْ تُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَالٍ فَهَبَّ أَهْلُهَا وَقَالُوا لَهَا: مَاذَا جَرَى لَكِ؟ فَقَالَتْ:

أَلَمْ تَرَوُا النُّورَ وَتَسْمَعُوا الصَّوْتَ؟ قَالُوا لَا، قَالَتْ: جِيئُونِي بِالضَّوْءِ، فَلَمَّا أَحْضَرُوا الْقِنْدِيلَ رَأَوْا فِي جَبِينِهَا عَلَامَةَ طَائِرٍ يُشْبِهُ النَّسْرَ صَافًّا جَنَاحَيْهِ مُمْتَدًّا عَلَى طُولِ جَبِينِهَا وَعَرْضِهِ (أَيْ جَبْهَتِهَا) وَلَيْسَ مَاسًّا لِلْحَاجِبَيْنِ وَلَا شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَوْنُهُ عُنَّابِيٌّ كَالدَّمِ وَرَسْمُهُ مُتْقَنٌ كَأَنَّهُ رَسْمُ فَنَّانٍ عَظِيمٍ)) .

ص: 358

وَقَالَتْ كَاتِبَةُ الرِّسَالَةِ: إِنَّ أَهْلَ عَمَّانَ لَمَّا عَلِمُوا بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَقَبَلَ النَّاسُ مِنْ وَطَنِيِّينَ وَأَجَانِبَ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ فَشَاهَدُوا هَذَا الرَّسْمَ وَعُنِيَ الْأَطِبَّاءُ بِإِزَالَتِهِ فَعَجَزُوا، وَإِنَّ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا يُعَدُّونَ بِالْمِئَاتِ، ثُمَّ نَقَلَتْ عَنْ قِسِّيسٍ مَعْرُوفٍ جَاءَ مِنْ نَابْلُسَ وَكَتَبَ عَنْهَا مَا يَأْتِي مُلَخَّصًا:

(قَالَتْ إِنَّهُ ظَهَرَ لَهَا الْمَلَاكُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ السَّابِعَةِ مِنَ الشَّهْرِ نَفْسِهِ (يَنَايِرَ) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبِينِهَا فَزَالَتِ الْعَلَامَةُ، فَقَالَتْ لَهُ يَارَبِّ ارْفَعِ الضَّيِّقَ عَنِ الْعَالَمِ، فَقَالَ:((سَيَرَوْنَ)) أَعْمَالَ اللهِ)) قَالَتْ: ارْحَمْنَا يَا رَبِّ، قَالَ:((تَكْفِيكُمْ نِعْمَتِي)) وَفِي ثَانِي لَيْلَةٍ أَفَاقَ أَهْلُهَا فَوَجَدُوهَا وَاقِفَةً تَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرَانِيِّ فَكَتَبُوا مَا قَالَتْهُ وَتَرْجَمُوهُ بِالنَّهَارِ فَإِذَا هُوَ تَسْبِيحٌ وَتَمْجِيدٌ لِلَّهِ ثُمَّ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي اللَّيَالِي التَّالِيَةِ بِاللُّغَاتِ الْأَلْمَانِيَّةِ وَالْفَرَنْسِيَّةِ وَالطَّلْيَانِيَّةِ وَفِي الْخَامِسَةِ وَثُلُثٍ بِالْعَرَبِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، وَكَانَتْ تَرْتِيلَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْ نَظْمِهَا وَقَوْلِهَا ((اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِي يَا رَبِّي، خُذْنِي يَا رَبِّي، خُذْنِي إِلَى أُورْشَلِيمَ)) ثُمَّ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. إِلَّا أَنَّ الْمَلَاكَ ظَهَرَ لَهَا لَيْلَةَ 17 مِنَ الشَّهْرِ وَوَضَعَ عَلَيْهَا الْعَلَامَةَ وَقَالَ: ((لِتَكُنْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ مُبَارَكَةً ثُمَّ اخْتَفَى، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَمَحَا الْعَلَامَةَ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَبِلَفْظِهِ إِلَّا تَصْحِيحَ كُلَيْمَاتٍ قَلِيلَةٍ.

(أَقُولُ) سُئِلَ بَعْضُ أُدَبَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَمَّانَ كِتَابَةً عَنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، وَعَمَّا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ مِنْ رُؤْيَةِ مَوْتَى مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ وَلَا لَفَائِفُهُمْ فَأَنْكَرَهَا. وَقَدْ سَبَقَ لِي تَحْقِيقٌ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ مُلَخَّصُهُ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَخَيُّلٌ وَلَّدَتْهُ الْأَوْهَامُ يُشْبِهُ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ رُؤْيَةٌ لِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ بِأَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ جِدًّا لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ التَّجَرُّدِ مِنْ كَثَافَةِ الْحِسِّ، وَمِنْهَا مَا يَتَمَثَّلُ بِصُورَةٍ مَادِّيَّةٍ كَثِيفَةٍ كَمَا صَحَّ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لِلْمَلَكِ

وَلِلْجِنِّ، وَالْمُشْتَغِلُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِمُعَالَجَةِ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ يُسَمُّونَ صَاحِبَ الِاسْتِعْدَادِ الْخَاصِّ لِرُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ بِالْوَسِيطِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ أُولُو كَذِبٍ وَحِيَلٍ وَتَلْبِيسٍ، وَأَنَّ أَقَلَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ، وَلَا سِيَّمَا شَيَاطِينِ الْمَوْتَى وَقُرَنَائِهِمُ الْعَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِمْ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ يَقُولُ مَا قَرَأْتَ آنِفًا، وَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وُقُوعَهُ لِكِبَارِ شُيُوخِهِمْ، بَلْ أَثْبَتُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَرَاءَى لَهُمْ وَيُلَقِّنُهُمْ كَلَامًا مُدَّعِيًا أَنَّهُ رَبُّهُمْ، كَمَا حَكَاهُ الشَّعَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْقُطْبَ الْغَوْثَ الْأَكْبَرَ.

وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ رَأَى نُورًا عَظِيمًا مَلَأَ الْأُفُقَ وَسَمِعَ مِنْهُ صَوْتًا يُخَاطِبُهُ بِأَنَّهُ رَبُّهُ وَقَدْ أَحَلَّ لَهُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَالَ لَهُ: اخْسَأْ يَا لِعَيْنُ، فَتَحَوَّلَ النُّورُ ظَلَامًا وَدُخَانًا، وَقَالَ لَهُ قَدْ نَجَوْتَ مِنِّي بِفَقِهِكَ إِلَخْ. وَأَنَّهُ فَتَنَ بِهَذَا كَثِيرِينَ مِنْ كِبَارِ الشُّيُوخِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ قَدِ ادَّعَوْا أَنَّ اللهَ خَاطَبَهُمْ بِالْحَقَائِقِ وَكَشَفَ لَهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْشِفْهُ لِغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُمْ يَتَعَارَضُونَ فِي دَعَاوِيهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

ص: 359

وَلِلشَّيْخِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الشَّعَرَانِيِّ كِتَابٌ صَغِيرٌ سَمَّاهُ (الْأَنْوَارَ الْمُقَدَّسَةَ، فِي بَيَانِ آدَابِ الْعُبُودِيَّةِ) مَطْبُوعٌ مَعَ كِتَابِهِ الطَّبَقَاتِ، ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ سَمِعَ وَهُوَ فِي حَالَةٍ بَيْنِ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ هَاتِفًا يَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ يَقُولُ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْحَقِّ سبحانه وتعالى كَلَامًا ذَكَرَهُ قَالَ: ((فَمَا اسْتَتَمَّ هَذَا الْكَلَامُ وَبَقِيَ عِنْدِي شَهْوَةُ نَفْسٍ لِمَقَامٍ مِنْ مَقَامِ الْأَوْلِيَاءِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى مُرَادِهِمْ بِالْهَاتِفِ وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ((خَوْفًا أَنْ يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ مِنَ الْقَاصِرِينَ الَّذِينَ لَا مَعْرِفَةَ عِنْدِهِمْ بِمَرَاتِبِ الْوَحْيِ أَنَّ ذَلِكَ وَحَيٌّ كَوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَقُولُ: ((اعْلَمْ أَنَّ الْهَاتِفَ الْمَذْكُورَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ وَلِيًّا أَوْ مِنْ صَالِحِي الْجِنِّ أَوْ هُوَ الْخِضْرُ عليه السلام أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخِضْرَ عليه السلام حَيٌّ بَاقٍ لَمْ يَمُتْ، وَقَدِ اجْتَمَعْنَا بِمَنِ اجْتَمَعَ بِهِ وَبِالْمَهْدِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُمَا طَرِيقَ الْقَوْمِ إِلَخْ.

ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ الْوَحْيَ أَقْسَامًا وَضُرُوبًا كَثِيرَةً وَذَكَرَ مِنْهَا الْكَهَانَةَ وَالزَّجْرَ - أَيْ وَهُوَ أَسْفَلَهَا - وَوَحْيَ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ الْخَاصَّ بِالْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَمَا بَيْنَهُمَا.

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْإِخْوَانِ سَأَلَهُ أَنْ يُمْلِيَ عَلَيَّ إِلْقَاءَ الْهَاتِفِ الَّذِي سَمِعَهُ جُمْلَةً

مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ آدَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَآدَابِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَآدَابِ الْفُقَرَاءِ عُمُومًا وَخُصُوصًا ((وَمَا يَدْخُلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الدَّسَائِسِ فِي مَقَاصِدِهِمْ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْ عِبَادِ اللهِ)) وَهَذَا مَحَلُّ الشَّاهِدِ.

وَأَقُولُ: إِنَّ هَاتِفَهُ الَّذِي جَعَلَهُ الْأَصْلَ لِهَذَا التَّأْلِيفِ هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الشَّيْطَانِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلشَّرْعِ الْمَعْصُومِ، بَلْ فِي هَذَا الْكِتَابِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لَهُ وَكَذَا كِتَابِهِ الطَّبَقَاتِ فَهِيَ مَنْ أَشَدِّ الْكُتُبِ إِفْسَادًا لِلدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَآدَابِهِ بِمَا فِيهَا مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ، فَقَدْ أَصْبَحَ الْمَلَايِينُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُشْرِكِينَ بِاللهِ تَعَالَى بِعِبَادَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَقَبُولِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ، وَهُمْ يَتَّبِعُونَ الدَّجَّالِينَ وَمُدَّعِي عِلْمِ الْغَيْبِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِالْكَرَامَاتِ أَوِ اسْتِخْدَامِ الْجِنِّ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَسْلُبُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيَهْتِكُونَ أَعْرَاضَهُمْ، وَفِي نَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْجِنَّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَأَصْبَحَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ وَتَرَبَّوْا تَرْبِيَةً اسْتِقْلَالِيَّةً، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ خُرَافِيٌّ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ.

عَلَى أَنَّ مِنْ دُعَاةِ الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ التَّصَوُّفِ مَنْ أَلْبَسُوا دَعَايَتَهُمْ ثَوْبَ الْمَدَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَهُمْ يَبُثُّونَهَا فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ كَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ الْأَحْمَدِيَّةِ، وَكُلُّ خِلَابَتِهِمْ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْوَحْيَ وَادَّعَوُا الْأُلُوهِيَّةَ مِنْ طَرِيقِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَدْ جَعَلَهَا اللهُ وَسَطَا بَيْنَ الْغَالِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، مِنَ الْمُعَطَّلِينَ وَالْمُشْرِكِينَ،

ص: 360

فَهِيَ لَا تَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، وَلَا تُؤْمِنُ بِوَحْيٍ وَلَا نُبُوَّةٍ لِأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَلَا بِتَشْرِيعٍ دِينِيٍّ إِلَّا مَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ، وَلَا بِوِلَايَةٍ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَقَدْ صَارَ الْمُعْتَصِمُونَ بِهَذَا فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْبِلَادِ، الَّتِي انْتَشَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَسَادُ، جَمَاعَاتٍ قَلِيلَةَ الْأَفْرَادِ، فَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهَا اللهُ ضَاعَ فِيهَا الْإِسْلَامُ.

(اسْتِطْرَادٌ، فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ)

(مِنْ طَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ)

أَيُّهَا الْقَارِئُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ، قَدْ آنَ أَنْ أُصَارِحَكَ بِمَسَائِلَ مُخْتَصَرَةٍ هِيَ ثَمَرَةُ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَعِبَادَةٍ وَرِيَاضَةٍ وَتَصَوُّفٍ وَتَعْلِيمٍ وَتَصْنِيفٍ وَمُنَاظَرَاتٍ وَمُحَاجَّةٍ فِي مُدَّةِ نِصْفِ قَرْنٍ كَامِلٍ، لَمْ يَشْغَلْنِي عَنْهَا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا شَاغِلٌ، وَإِنَّهَا لَكَلِمَاتٌ فِي حَقِيقَةِ دِينِ اللهِ وَعُلَمَائِهِ وَعِبَادِهِ صَادِرَةٌ عَنْ بَصِيرَةٍ وَتَجْرِبَةٍ، فَتَأَمَّلْهَا بِإِخْلَاصٍ وَاسْتِقْلَالِ فِكْرٍ، وَلَا يَصُدَنَّكَ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا لِذَاتِهَا وَالِاعْتِمَادِ فِي ثُبُوتِهَا عَلَى مَصَادِرِهَا، حِرْمَانُ الْمُعَاصِرَةِ، وَاحْتِقَارُ الْأَحْيَاءِ، وَتَقْدِيسُ شُهْرَةِ الْأَمْوَاتِ، وَاتِّهَامُ قَائِلِهَا بِالْغُرُورِ وَالدَّعْوَى، فَإِنْ عَرَضَ لَكَ رَيْبٌ أَوْ شُبْهَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَارْجِعْ إِلَى مَصَادِرِهَا وَدَلَائِلِهَا، أَوِ ارْجِعْ إِلَى كَاتِبِهَا فَاسْأَلْهُ عَنْهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَرَضَكَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، دُونَ التَّعَصُّبِ وَالْجَدَلِ، أَوِ التَّحَرُّفِ لِمَذْهَبٍ أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ.

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) أَنَّ هَذَا الدِّينَ (الْإِسْلَامَ) وَحْيٌ إِلَهِيٌّ إِلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ ظَهَرَ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ ; لِيُعَلِّمَهَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيَهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ، فَيَجْعَلَهَا بِهِ مُعَلِّمَةً وَهَادِيَةً لِجَمِيعِ شُعُوبِ التَّعْطِيلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْحَضَارَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ أَكْمَلَ هَذَا الدِّينَ لِعِبَادِهِ فِي آخِرِ عُمْرِ نَبِيِّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ بَعْدَهُ عَقِيدَةً وَلَا عِبَادَةً وَلَا تَحْرِيمًا دِينِيًّا مُطْلَقًا، وَلَا تَشْرِيعًا مَدَنِيًّا، إِلَّا مَا أَذِنَ بِهِ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَسَاسِ نُصُوصِهِ وَقَوَاعِدِهِ، فَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ وَأَفْقَهَهُمْ بِهِ وَأَصَّحَهُمْ دَعْوَةً إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهُمْ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ رضي الله عنهم فَهَذِهِ إِحْدَى مُعْجِزَاتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ وَضْعًا بَشَرِيًّا لَكَانَ كَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ مَبَادِئُهَا الْأُولَى نَاقِصَةً ثُمَّ تَنْمَى (وَفِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ اشْتُهِرَتْ تَنْمُو) وَتَتَكَامَلُ بِالتَّدْرِيجِ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ فِي عُلُومِ الْبَشَرِ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مِنَ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّوَاهِدِ الْعَمَلِيَّةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اهْتَدَوْا بِإِرْشَادِهِ إِلَى الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الْعَالَمِ السَّمَاوِيِّ وَالْأَرْضِيِّ، وَلَا سِيَّمَا نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَعُلُومِهِ وَفَلْسَفَتِهِ وَأَدْيَانِهِ وَنُظُمِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَآدَابِ شُعُوبِهِ فَازْدَادُوا بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِّيَّةِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَظَهَرَ لِلرَّاسِخِينَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الْأَوَّلُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ نُصُوصَهُ الْقَطْعِيَّةَ مِنَ الْعَقَائِدِ

ص: 361

وَالْآرَاءِ وَالْأَفْكَارِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمِنْهُ جَمِيعُ نَظَرِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْعَقْلِيَّةِ، وَكَشْفُ فَلْسَفَةِ الصُّوفِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْبَشَرِ كَافَّةً أَنْ يَقْصُرُوا هِدَايَةَ الدِّينِ عَلَى نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُتَّبَعَةِ، وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ وَجُمْهُورِ عِتْرَتِهِ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ فُشُوِّ الِابْتِدَاعِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْمِلَّةِ، ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ مِنْ مُجْتَهَدِي الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَعْذُرَ بَعْضُهَمْ بَعْضًا فِيمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَسَائِلِ غَيْرِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الدِّينِ فَلَا يَجْعَلُوهُ سَبَبًا لِلتَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ، بِالتَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ ; لِئَلَّا يَكُونُوا مِمَّنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِيهِمْ:(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(6: 159) فَاسْتَحَقُّوا وَعِيدَ قَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)(6: 65) وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(3: 105) .

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ الْبِدَعَ الَّتِي فَرَّقَتِ الْأُمَّةَ فِي أُصُولِ دِينِهَا وَجَعَلَتْهَا شِيَعًا تُؤْثِرُ كُلُّ شِيعَةٍ أَتْبَاعَ زُعَمَائِهَا وَمَذَاهِبِهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَدْيِ سَلَفِهِ الصَّالِحِ بِالتَّأْوِيلِ، مِنْ حَيْثُ تَدَّعِي أَنَّ أَئِمَّتَهَا أَعْلَمُ مِنْ مُخَالِفِيهِمْ بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مُؤَيَّدٌ بِالْكَشْفِ وَبَعْضَهُمْ بِالْعِصْمَةِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُقَلَّدُوا وَيُتَّبَعُوا، وَلَكِنَّ الْأَعْلَمَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالتَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا تُفْهَمُ النُّصُوصُ بِقَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا بِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِهَذِهِ الْبِدَعِ الْمُفَرِّقَةِ ثَلَاثُ مَثَارَاتٍ مِنْ أَرْكَانِ حَضَارَةِ الْأُمَمِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: السِّيَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَالْعِلْمُ الْعَقْلِيُّ وَالْعُرْفَانُ

وَفَلْسَفَةُ التَّعَبُّدِ وَالْوِجْدَانِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ دَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ الْمُسَمَّى بِالْكَشْفِ، وَالْكَرَامَاتِ الشَّامِلَةِ لِدَعْوَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ، وَنَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا كَلِمَةً:

(1)

السِّيَاسَةُ الدَّوْلِيَّةُ وَكَانَ مَثَارَهَا الْأَوَّلَ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، ثُمَّ كَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَقَدْ زَالَتِ الْخِلَافَةُ وَضَاعَتْ سِيَادَةُ الْأُمَّةِ مِنْ أَكْثَرِ الْعَالَمِ، وَمَفَاسِدُهَا لَا تَزَالُ مَاثِلَةً، بِمَا لِلزُّعَمَاءِ الْمُسْتَغِلِّينَ لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ، وَإِنَّهَا لَعَصَبِيَّةٌ قَضَتْهَا السِّيَاسَةُ، وَسَتَقْضِي عَلَيْهَا السِّيَاسَةُ، وَقَدْ زَالَتِ السُّلْطَةُ الدِّينِيَّةُ مِنْ بَعْضِ مَمَالِكِ الْمُسْلِمِينَ وَبَقِيَ لَهَا بَقِيَّةٌ فِي بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا مُذَبْذَبَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَلَا مَحَلَّ لِبَسْطِ ذَلِكَ هُنَا وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ. إِلَّا التَّذْكِيرُ بِأَنَّ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذَاهِبِ السُّنَّةِ قَدْ غَلَبَهُمْ جَهَلَةُ الْأَعَاجِمِ عَلَى خِلَافَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلُوهَا عَصَبِيَّةً وِرَاثِيَّةً، فَلَمْ يَعْمَلُوا أَيَّ عَمَلٍ لِتَقْوِيَتِهَا بَعْدَ ضَعْفِهَا، وَلَا لِإِحْيَائِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَمْ يَضَعُوا نِظَامًا لِلِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرْصَةِ كَمَا فَعَلَ الْكَاثُولِيكُ بِنِظَامِ الْفَاتِيكَانِ الْبَابَوِيِّ، وَكَانَتِ الزَّيْدِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ الْمُعْتَدِلَةِ أَشَدَّ حَزْمًا وَاعْتِصَامًا مِنْهُمْ بِنَصْبِ إِمَامٍ بَعْدَ إِمَامٍ لَهُمْ فِي جِبَالِ الْيَمَنِ يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ بَيْدَ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي وَضْعِ نِظَامٍ لِتَعْمِيمِ الدَّعْوَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْقُوَّةِ.

ص: 362

وَلَكِنَّ غُلَاةَ الشِّيعَةِ نَقَضُوا أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَسَاسِهِ بِدَعَايَةِ عِصْمَةِ الْأَئِمَّةِ، وَتَأْوِيلِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَانَ هَذَا أَصْلَ كُلِّ ابْتِدَاعٍ مُخْرِجٍ مِنَ الْمِلَّةِ، إِذِ انْتَهَى بِأَهْلِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْوَحْيِ وَادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْمِلَّةِ سِرًّا فَعَلَانِيَةً.

(2)

النَّظَرِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَتَحْكِيمُهَا فِي النُّصُوصِ النَّقْلِيَّةِ، وَكَانَ أَضَرَّهَا وَشَرَّهَا ذَلِكَ التَّنَازُعُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الِاتِّبَاعِ وَعَلَى رَأْسِهِمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدُعَاةِ الِابْتِدَاعِ مِنْ مُتَكَلِّمِي نُظَّارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَلَوْلَا تَدَخُّلُ سُلْطَانِ الْعَبَّاسِيِّينَ فِي نَصْرِ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ، لَمَا وَصَلَتْ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ مِنَ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ، وَقَدْ ضَعُفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا دُوَلٌ تَنْصُرُ بَعْضَ أَهْلِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَتَى تَوَطَّدَتْ حُرِّيَّةُ الْعِلْمِ كَانَ النَّصْرُ وَالْفَلْجُ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيَمُوتُ مَا بَقِيَ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ بِمَوْتِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَى قَوَاعِدِهَا

وَنَظَرِيَّاتِهَا، بَلْ هِيَ قَدْ مَاتَتْ وَصَارَتْ مِنْ مَوَارِيثِ التَّارِيخِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَاتَ هُوَ وَإِنْ بَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَيَخْلُفُهُ عِلْمٌ آخَرُ فِي حِرَاسَةِ الْعَقَائِدِ مِنْ شُبُهَاتِ الْعِلْمِ وَفَلْسَفَةِ هَذَا الْعَصْرِ، مَعَ إِبْقَاءِ الْخَلْطِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَقَائِدِ الدِّينِ وَمُحَاوَلَةِ تَحْكِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، كَمَا فَعَلَ نُظَّارُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ فَجَنَوْا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا أَضْعَفَ سُلْطَانَ الدِّينِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، بِمَا يُوقِفُهَا عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْفَضِيلَةِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، وَأَضْعَفَ سُلْطَانَ الْعِلْمِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ إِظْهَارُ سُنَنِ اللهِ فِي الْعَالَمِ وَتَسْخِيرِ قُوَى الطَّبِيعَةِ لِمَنَافِعِ النَّاسِ، وَفِاقًا لِمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلَوْ بَقِينَا عَلَى تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَهَانَ الْأَمْرُ ; لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى قَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ نَبَتَتْ نَابِتَةٌ وَدَعَايَةٌ لِتَحْكِيمِ نَظَرِيَّاتِ الْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ وَالنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا بِتَأْوِيلٍ يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَأُصُولَ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ يَتْرُكُ مَدْلُولَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ وَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مِنْهَا، وَلِبَعْضِ الدُّعَاةِ إِلَى هَذَا الْإِلْحَادِ فِي مِصْرَ كُتُبٌ تُطْبَعُ وَمَقَالَاتٌ تُنْشَرُ فِي الصُّحُفِ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا، وَمَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ تُقِرُّهَا لِأَنَّهَا لَا تَفْهَمُهَا.

(3)

دَعْوَى الْكَرَامَاتِ وَالْكَشْفِ، وَتَحْكِيمُهُ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَعِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ وَتَفْسِيرِ نُصُوصِهِ، وَفِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ نَجَمَتِ الْبِدَعُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ صَغِيرَةً كَقُرُونِ الْمَعْزِ ثُمَّ كَبِرَتْ فَصَارَتْ كَقُرُونِ الْوُعُولِ الَّتِي تُنَاطِحُ الصُّخُورَ، هَاجَمَهَا عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ يُؤَيِّدُهُمُ الْخُلَفَاءُ وَالْمُلُوكُ فَانْهَزَمَتْ أَمَامَهُمْ، حَتَّى إِذَا مَا ضَعُفَ الْعِلْمُ فَصَارَ تَقْلِيدِيًّا، وَضَعُفَ الْحُكْمُ فَصَارَ إِرْثًا جَهْلِيًّا، وَصَارَ صُوفِيَّةُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مِثْلِ الشَّعَرَانِيِّ وَسَلَاطِينُ مِصْرَ مِثْلَ قَايْتَبَايْ، خَضَعَتْ رِقَابُ الْمُسْلِمِينَ لِوِلَايَةِ مِثْلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْحَضَرِيِّ الَّذِي يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُهُمْ فَيَقُولُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا إِبْلِيسُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

ص: 363

وَالسَّلَامُ)) ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَسُلُّ السَّيْفَ فَيَهْرُبُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَتَجَرَّأْ أَحَدٌ عَلَى دُخُولِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَيَزْعُمُ الشَّعَرَانِيُّ أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ الشَّيْطَانِيَّ نَفْسَهُ قَدْ خَطَبَ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ فِي

ثَلَاثِينَ مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِالصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَالشَّيَاطِينِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا.

وَمِثْلُهُ ذَلِكَ الْوَلِيُّ الَّذِي كَانَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِالْهَذَيَانِ، وَالْوَلِيُّ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ فِي مَاخُورِ الْمُومِسَاتِ ; لِيَشْفَعَ لِكُلِّ مَنْ يَأْتِيهِنَّ عِنْدَ اللهِ وَيُمْسِكُهُ عِنْدَهُنَّ إِلَى أَنْ يُخْبِرَهُ كَشْفُهُ الشَّيْطَانِيَّ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِ فِيهِ وَمَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ. وَكَانَ مِنْ كَرَامَاتِهِ إِتْيَانُ الْأَتَانِ - فَهَذَا الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَالْإِلْحَادُ وَمُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ، وَاجْتِرَاحُ كَبَائِرِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، كُلُّهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَمْثَالِهِ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَيُطِيعُ أَمْرَهُمْ رَضْوَانُ خَازِنُ الْجِنَانِ، وَمَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، كَمَا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيُّ عَنِ الدُّسُوقِيِّ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَدْ رَسَخَتْ هَذِهِ الْخُرَافَاتُ فِي قُلُوبِ الْمَلَايِينِ مِنْ مُسْلِمِي مِصْرَ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ، فَهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ.

وَإِنَّكَ لِتَجِدُ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا هَذَا الْبَيَانَ فِي صَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(39: 34، 42: 22) فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ الْخَيَالِيِّينَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ كُلَّ مَا أَرَادُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا يَزْعُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ مِنْهُمْ أَقْطَابًا مُتَصَرِّفِينَ (أَوْ مُدْرِكِينَ) بِالْكَوْنِ كُلِّهِ، وَهَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ وَتَحْرِيفٌ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِمَا هُوَ شِرْكٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فِي جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، لَا فِي أَوْلِيَاءِ الْخَيَالِ الْخُرَافِيِّ الْمَزْعُومِ، رَاجِعْ سُورَةَ النَّحْلِ (16: 30 - 32) وَسُورَةَ الْفُرْقَانِ (25: 15، 16) وَسُورَةَ الزُّمَرِ (39: 33، 34) وَسُورَةَ الشُّورَى (42: 22) وَسُورَةَ ق (50: 31 - 35) .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ عَلَى النَّهْجِ الَّذِي اهْتَدَى بِهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحُ لَا يَقُومُ لِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا كَشْفِيَّةٌ بَاطِنَةٌ، وَلَوْ صَحَّ أَنَّهَا مِنَ الْإِسْلَامِ لَكَانَ مَا جَاءَ الرَّسُولَ نَاقِصًا ثُمَّ كَمَلَ بِهَا.

(بُطْلَانُ تَأْوِيلِ النُّصُوصِ لِلنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، بَلَهَ الْبَاطِنِيَّةِ)

أَمَّا النَّظَرِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يَتَأَوَّلُ النُّصُوصَ لِأَجْلِهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهَا وَبُطْلَانُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا لِعُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ وَفَلَاسِفَتِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْمُسَلَّمَةِ الْيَوْمَ لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهَا فِي بَابِهَا، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُعَدُّ مِنَ الْحَقَائِقِ الْقَطْعِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا، بَلْ كُلُّهَا قَابِلَةٌ لِلنَّقْضِ وَالْبُطْلَانِ،

ص: 364

كَمَا ثَبَتَ بُطْلَانُ مِثْلِهَا مِنْ مُسَلَّمَاتِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ إِلَى السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذَا الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ الْمِيلَادِيِّ، الَّتِي تَرَجَّحَ فِيهَا أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ مَظَاهِرِ الْمَادَّةِ وَالْقُوَّةِ هُوَ مَظْهَرٌ لِتَرْكِيبٍ خَاصٍّ مَجْهُولٍ لِجُزْئَيِ الْكَهْرَبَاءِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكَلِمَتَيِ (الْبُرُوتُونِ وَالْإِلِكْتِرُونِ) فَبَطَلَتْ بِهَذَا جَمِيعُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْمَادَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِذَنْ تَأْوِيلُ نَصٍّ دِينِيٍّ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ فِي خَبَرٍ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، لِنَظَرِيَّةٍ ظَنِّيَّةٍ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنَ الرَّأْيِ الْبَشَرِيِّ؟ .

وَإِذَا بَطَلَ تَأْوِيلُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَوَاعِدِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَمُرَاعَاةِ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ، وَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمُخَالَفَةِ لِأَصْلٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَبَطَلَ تَأْوِيلُ الْمُعَاصِرِينَ لِمَا يُخَالِفُ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ، فَأَجْدَرُ بِتَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ بُطْلَانًا لِأَنَّهَا تَحْكُمُ فِي اللُّغَةِ بِمَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مُفْرَدَاتُهَا، وَلَا قَوَاعِدُ نَحْوِهَا وَبَيَانِهَا، وَنَاقِضَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ الْقَطْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا لِلتَّحْرِيفِ فِيهِ، كَتَأْوِيلِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ السَّابِقَيْنِ، وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ اللَّاحِقَيْنِ، الْبَهَائِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى أُلُوهِيَّةِ الْبَهَاءِ، وَالْقَادَيَانِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى نُبُوَّةِ مِيرْزَا غُلَامِ أَحْمَدَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَدِلُّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مُخَالِفًا لِلُغَتِهِمَا عَلَى دِينِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي غَايَتُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ النَّاسُ وَيُقَدِّسُوهُ.

بُطْلَانُ الْأَخْذِ بِالْكَشْفِ فِي الدِّينِ:

وَأَمَّا الْكَشْفُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ إِدْرَاكِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا مُطَّرِدٌ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ إِدْرَاكَاتٌ نَاقِصَةٌ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ، وَقَدْ عُرِفَتْ أَسْبَابُهُ الطَّبِيعِيَّةُ وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ فِطْرِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَسْبِيٌّ وَصِنَاعِيٌّ، كَالتَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَمُرَاسَلَةَ الْأَفْكَارِ، وَيُشَبِّهُونَهُ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ بِخُطُوطِ الْأَسْلَاكِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ وَبِدُونِهَا، وَهُوَ يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ صُوفِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِصُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يَعْتَرِفُونَ بِتَلْبِيسِ الشَّيَاطِينِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَقِلَّةٌ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْكَشْفِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى حَقِيقِيًّا إِلَّا مَا وَافَقَ نَصًّا قَطْعِيًّا.

وَمِنْ دَلَائِلِ الْخَطَأِ وَالتَّلْبِيسِ وَالتَّخَيُّلَاتِ فِي الْكَشْفِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ النُّورَانِيَّ تَعَارُضُ أَهْلِهِ وَتَنَاقُضُهُمْ فِيهِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِيهِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ مَعْلُومَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ وَالْخُرَافِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَتَرَى بَعْضَهُمْ يَذْكُرُ فِي كَشْفِهِ جَبَلَ قَافٍ الْمُحِيطَ بِالْأَرْضِ وَالْحَيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي تَرْجَمَةِ الشَّعَرَانِيِّ لِلشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كَشْفِهِ الْأَفْلَاكَ وَكَوَاكِبَهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْيُونَانِيَّةِ الْبَاطِلَةِ أَيْضًا. وَأَكْثَرُهُمْ يَذْكُرُونَ فِي كَشْفِهِمُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ، فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى الْمَفْتُونِينَ بِكَشْفِهِمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ

ص: 365

قَالُوا: إِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ صَحَّ فِي كَشْفِنَا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي رِوَايَاتِكُمْ، وَكَشْفُنَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعِلْمُكُمْ ظَنِّيٌّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَشْفًا هَذَا شَأْنُهُ وَشَأْنُ أَهْلِهِ إِنْ صَحَّ أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا لَا يُخَالِفُ نُصُوصَ الشَّرْعِ وَعَقَائِدَهُ وَأَحْكَامَهُ، فَلَا يَصِحُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُصَدِّقَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُهُمَا، وَأَنْ يُثْبِتَ مَنْ أَمْرِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِمَا، وَمَا أَغْنَانَا عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَفِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ الْإِلْهَامَ - وَهُوَ الْكَشْفُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ، ((لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِعَدَمِ ثِقَةِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا بِخَوَاطِرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ)) أَيْ وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا بِهِ الْأُصُولَ كَمَا خَالَفُوا النُّصُوصَ.

الْكَرَامَاتُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ فَضْلًا عَنِ الْعِصْمَةِ:

وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ فَهِيَ نَوْعٌ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي تُرْوَى عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ إِنَّهَا تَقَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالنَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ، وَيَخْتَلِفُ اسْمُهَا بِاخْتِلَافِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَتُسَمَّى مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ إِذَا تَحَدَّى بِهَا، وَكَرَامَةً لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ، وَمَعُونَةً لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِدْرَاجًا لِلْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ.

وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكُبْرَى مَا قَلَّمَا كَانَ مِثْلُهُ فِي الْمُعْجِزَاتِ حَتَّى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَقَالَ أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفُونَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَعْتَدُّوا بِهِ (أَوْ كَلِمَةً بِهَذَا الْمَعْنَى) حَتَّى تَرَوْهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلَّاطُونَ مِنْهُمْ، فَفِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ (الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ) لِلشَّعْرِانِيِّ ((وَظُهُورُ الْكَرَامَاتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ مَضْبُوطًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ بِوِلَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِيهِ أَحَدٌ)) إِلَخْ. وَهَذَا عَيْنُ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.

وَمِنْ خَلْطِهِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي طَبَقَاتِهِمْ مُخَالِفٌ لِشَرْطِهِ، فَهُوَ يُبْطِلُ وِلَايَةَ أَكْثَرِ رِجَالِ أَهْلِهَا مِنَ الْعُقَلَاءِ فَضْلًا عَنِ الْمَجَاذِيبِ الْمَجَانِينِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ.

وَمِنْهُ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْهُ: ((فَلَوْ رَأَيْنَا الصُّوفِيَّ يَتَرَبَّعُ فِي الْهَوَاءِ لَا يُعْبَأُ بِهِ إِلَّا إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُخَاطِبًا بِتَرْكِهَا كُلَّ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حَالَةً أَسْقَطَتْ عَنْهُ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ أَمَارَةٍ تُصَدِّقُهُ عَلَى دَعْوَاهُ فَهُوَ كَاذِبٌ، كَمَنْ يَشْطَحُ مِنْ شُهُودٍ فِي حَضْرَةٍ خَيَالِيَّةٍ عَلَى اللهِ وَعَلَى أَهْلِ اللهِ، وَلَا يَرْفَعُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ رَأْسًا، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ عَقْلِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُ، فَهَذَا مَطْرُودٌ عَنْ بَابِ الْحَقِّ، مُبَعْدٌ

ص: 366

عَنْ مَقْعَدِ صِدْقٍ، وَحَرَامٌ عَلَى الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمِثْلِ هَذَا)) اهـ. وَهُوَ يُخَالِفُ هَذَا الْحَقَّ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.

ثُمَّ قَالَ (فِي آخِرِ ص 8 مِنْهُ) وَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ خَالَفَهُمَا خَرَجَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ رضي الله عنه، فَلَا تَظُنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَحَالِ غَالِبِ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى التَّصَوُّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتُسِيءَ الظَّنَّ بِهِمْ، إِنَّمَا كَانُوا رضي الله عنهم عَالِمِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، قَائِمِينَ صَائِمِينَ زَاهِدِينَ وَرِعِينَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَرَاجِمِهِمْ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْهُمْ، فَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ إِذِ ادَّعَى أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا رَاجِعِينَ الْقَهْقَرَى وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) الْحَدِيثَ اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ قَدْ ذَرَّ قَرْنُهُ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَظَهَرَ الشُّذُوذُ فِي الْمُنْتَحِلِينَ لَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ 202 هـ. إِذَا تَصَوَّفَ الرَّجُلُ فِي الصَّبَاحِ لَا يَأْتِي الْمَسَاءُ - أَوْ قَالَ الْعَصْرُ - إِلَّا وَهُوَ مَجْنُونٌ. وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ 241 هـ. بَعْدَهُ عَلَى خِيَارِهِمْ، وَنَهَى عَنْ قِرَاءَةِ كُتُبِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ عَلَى الْتِزَامِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ الْحَارِثُ فِي سَنَةِ 243 هـ. وَهُوَ أُسْتَاذُ أَكَابِرِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الشَّعَرَانِيَّ يَعُدُّ أَهْلَ قَرْنِهِ الْعَاشِرِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالصُّوفِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُدُّ أَهْلَ الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَوَّلَ الْمُتَشَبِّهِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرُورِ مِنَ الْإِحْيَاءِ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ وَعَدَّ مِنْهُمْ فِرَقًا مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ 505 هـ. وَكَانَ قَدْ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ عُلُومِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَانْقَطَعَ إِلَى عِلْمِ السُّنَّةِ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةِ 737 هـ. تَكَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ وَبَيَّنَ مَا لَهُمْ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَفَنَّدَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَامَ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مِدْرَهُ السُّنَّةِ الْأَكْبَرُ، وَقَامِعُ الْبِدَعِ الْأَقْهَرُ، أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ، نَبَذَ مَنْ قَبْلَهِ، وَأَغْنَى عَمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَعَلَى كُتُبِهِ وَكُتُبِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمُعَوَّلُ.

ص: 367

تَفْضِيلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ:

وَمِمَّا كَتَبَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِنَ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَبَاطِيلِ قَوْلُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ - مَا نَصُّهُ:

((وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا مَتَّ بِالْإِرْثِ لِلْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ رَوَوُا الْأَحَادِيثَ بِالسَّنَدِ الْمُتَّصِلِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، فَلَهُمْ حَظٌّ فِي الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُمْ نَقْلَةُ الْوَحْيِ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْفُقَهَاءِ بِلَا مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ، فَلَا يُحْشَرُونَ مَعَ الرُّسُلِ إِنَّمَا يُحْشَرُونَ فِي عَامَّةِ النَّاسِ، فَلَا يَنْطَبِقُ اسْمُ الْعُلَمَاءِ حَقِيقَةً إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَغَيْرُهُمْ مَنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَيُحْشَرُونَ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ وَيَتَمَيَّزُونَ عَنْهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ لَا غَيْرَ كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُمَيَّزُونَ عَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّنْيَا، لَا غَيْرَ)) اهـ.

وَلَكِنَّ بَعْضَ مَنْ يُسَمَّوْنَ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِنَا يُفَضِّلُونَ خُرَافَاتِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَصَوِّفَةِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ إِلَى الْعَاشِرَةِ وَآرَاءَ مُقَلِّدِي الْفُقَهَاءِ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ - وَهِي السُّفْلَى - عَلَى عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَائِهِ وَحُكَمَائِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَكُلِّ مَنْ يَهْتَدِي بِالْحَدِيثِ قَوْلًا وَكِتَابَةً بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ! ! .

إِقْرَارُ مُتَقَدِّمِي الصُّوفِيَّةِ وَمُتَأَخَّرِيهِمْ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ:

تَوَاتَرَ عَنْ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ أَصْلَ طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُوَافَقَةُ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ الشَّاذِّينَ الَّذِينَ خَلَطُوا الْبِدَعَ بِالسُّنَنِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ اللهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ مُبَاشَرَةً، وَأَنَّ عُلَمَاءَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ الْمَيِّتِينَ كَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَذَا أَسَاسُ الِابْتِدَاعِ بَلِ الْمُرُوقِ مِنَ الدِّينِ. وَمِمَّا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيِّ عَنِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الدُّسُوقِيِّ مِنَ الْخَلْطِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَا نَصُّهُ:

((وَكَانَ رضي الله عنه يَقُولُ أَسْلَمُ التَّفْسِيرِ مَا كَانَ مَرْوِيًّا عَنِ السَّلَفِ، وَأَنْكَرُهُ مَا فُتِحَ بِهِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَوْلَا مُحَرِّكُ قُلُوبِنَا لَمَا نَطَقْتُ إِلَّا بِمَا

وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ، فَإِذَا حَرَّكَ قُلُوبَنَا وَارِدٌ اسْتَفْتَحْنَا بَابَ رَبِّنَا وَسَأَلْنَاهُ الْفَهْمَ فِي كَلَامِهِ فَنَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا يَفْتَحُهُ عَلَى قُلُوبِنَا، فَسَلِّمُوا لَنَا تَسْلَمُوا، فَإِنَّنَا فَخَّارَةٌ فَارِغَةٌ، وَالْعِلْمُ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى)) اهـ.

أَقُولُ: مِنْ أَيْنَ نَعْلَمُ أَوْ يَعْلَمُونَ هُمْ أَنَّ خَوَاطِرَهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْوَارِدَاتِ مِنَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ لَا مِنَ الْوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَكَيْفَ نُسَلِّمُ لَهُمْ مَا لَا نَعْلَمُ، وَالْإِلْهَامُ الصَّحِيحُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ؟ ثُمَّ كَيْفَ لَا نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ، وَمُوَافِقًا لِإِلْحَادِ الْبَاطِنِيَّةِ أَوْ بِدَعِ الْخَلَفِ، وَإِنَّا وَإِيَّاهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْخِلَافُ فِيهِ؟

ص: 368

فَثَبَتَ إِذًا أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، هُمْ مَنْ عَرَّفَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ الْحَقِّ:(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وَأَنَّهُمْ دَرَجَاتٌ كَمَا بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)(35: 32) فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: مَنْ يُقَصِّرُ فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَلَوْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْفَضَائِلِ، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنْ يَتْرُكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، وَالتَّكَمُّلِ بِالْفَضَائِلِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّأَدُّبِ وَالتَّأْدِيبِ، حَتَّى يَكُونَ إِمَامًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ وَالصِّدِّيقِينِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَةُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَرَاجِعْ سُورَتَيِ الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ، فَفِيهِمَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)(4: 69) وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِدُعَائِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (1: 6، 7) .

وَبِهَذَا تَقُومُ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْعَالَمِينِ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَكْمَلَهُ لَنَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ اللهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِيهِ بِفَلْسَفَتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ أَوْ بِمَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْكَشْفِ لَمَا صَحَّتْ شَهَادَةُ اللهِ بِإِكْمَالِهِ، وَلَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا كُلُّ غَرَضِنَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَقَدْ أُظْهِرَ بِهِ الْحَقُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

(وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَّاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) .

ص: 369

بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالَ أَوْلِيَائِهِ وَصِفَتَهُمْ وَمَا بَشَّرَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَكَوْنَهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِهِ فِيمَا بَشَّرَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لَهَا فِيمَا أَوْعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَنَصْرِ مَنْ آمَنَ لَهُ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَأَنْصَارُ دِينِهِ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَكَانَتِ الْعِزَّةُ أَيِ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ فِي مَكَّةَ لَا تَزَالُ لِلْمُشْرِكِينَ بِكَثْرَتِهِمُ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ، وَكَانُوا لِغُرُورِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِوَعْدِ اللهِ وَكَانَ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ صلى الله عليه وسلم بِالطَّبْعِ كَمَا قَالَ:(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ)(6: 33) الْآيَةَ. قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لَهُ وَمُؤَكَّدًا وَعْدَهُ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَوَعِيدَهُ لِأَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ.

وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ مِنْ قَوْلِهِمُ الَّذِي يَقُولُونَهُ فِي تَكْذِيبِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَحَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ هَذَا النَّهْيِ بِقَوْلِهِ:(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أَيْ إِنَّ الْغَلَبَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَنَعَةَ لِلَّهِ جَمِيعَهَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنْهَا، فَهُوَ يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَتْ لِلْكَثْرَةِ دَائِمًا كَمَا يَدَّعُونَ، فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَقَدْ وَعَدَ بِهَا رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَاتَّبَعُوهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ:(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(58: 21) وَ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(40: 51) وَ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(63: 8) فَعِزَّتُهُ تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ لَهُ، وَعِزَّةُ رَسُولِهِ

وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَمِنْهُ عز وجل، كَمَا قَالَ:(وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)(3: 26) وَقَرَأَ نَافِعٌ (يُحْزِنْكَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَحْزَنَهُ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقُرِئَ (أَنَّ الْعِزَّةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنَّ لِحَذْفِ لَامِهَا، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (هُوَ السَّمِيعُ) لِمَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبٍ بِالْحَقِّ وَادِّعَاءٍ لِلشِّرْكِ (الْعَلِيمُ) بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ إِيذَاءٍ وَكَيْدٍ وَمَكْرٍ، فَهُوَ يُذِلُّهُمْ وَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ، وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ آخَرُ فِي تَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسْلِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم وَتَأْكِيدُ وَعْدِهِ بِالْعِزَّةِ وَوَعِيدَ تَكْذِيبِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْعِزَّةِ لَهُ جَمِيعًا وَالْجَزَاءِ بِيَدِهِ بِقَوْلِهِ مُسْتَأْنِفًا أَيْضًا وَمُفْتَتِحًا بِأَدَاةِ التَّنَبُّهِ:

(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) مِنْ عَابِدٍ وَمَعْبُودٍ فَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَمْلُوكُونَ لَهُ (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ) لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِي النَّوَازِلِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ وَالْوَسَائِلِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ يَنْفَعُونَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ وَشُفَعَاءَ عِنْدَهُ، فَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ وَبِتَمَاثِيلِهِمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، الَّذِينَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ

ص: 370

مِنْ رَعَايَاهُمْ إِلَّا بِوَسَائِلِ حُجَّابِهِ وَوُسَائِطِهِ وَوُزَرَائِهِ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أَيْ وَمَا هُمْ فِي اتِّبَاعِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِلَّا يَخْرُصُونَ خَرْصًا، أَيْ يَحْزِرُونَ حَزْرًا، أَوْ يَكْذِبُونَ كَذِبًا، أَصْلُ الْخَرَصِ: الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسٍ مِنْ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ ذِرَاعٍ، بَلْ هُوَ كَخَرَصِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْحَبِّ فِي الزَّرْعِ، وَلِكَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهِ أُطْلِقَ عَلَى لَازِمِهِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْكَذِبُ، فَالظَّنُّ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْ أَضْعَفِ الظَّنِّ وَأَبَعْدِهِ عَنِ الْحَقِّ، مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ قِيَاسِ الرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ سَمِعْتُهُ مِنْ جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْجَاهِلِينَ لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْحِيدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَنْ يُلَقَّبُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْبَاشَوَاتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي وَسَائِلِهِمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّهُمْ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ أَحَدًا فَإِنَّهُ يَقَبْلُ وَسَاطَتَهُ

وَشَفَاعَتَهُ، فَيَقِيسُونَ تَأْثِيرَ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُ تَعَالَى، عَلَى تَأْثِيرِ أَصْدِقَاءِ الْمُلُوكِ وَالْوُجَهَاءِ وَمَعْشُوقِيهِمْ فِي قَبُولِهِمْ مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ، وَيَجْهَلُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الذَّاتِيِّ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الْعَادِلَةِ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ وَأَنَّ جَمِيعَ أَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لَهُ:(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)(17: 57) أَيْ إِنَّ أَقْرَبَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِهِمْ كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ دُونَهَمْ هُمْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ رَاجِينَ خَائِفِينَ، لَا كَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا يَقُومُ أَمْرُ مَلِكِهِمْ بِدُونِهِمْ، وَمَعْشُوقِيهِمُ الَّذِينَ لَا يَتِمُّ تَمَتُّعُهُمُ الشَّهْوَانِيُّ إِلَّا بِهِمْ.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَفْيِ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ؛ أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْوَقْتَ قَسَمَيْنِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ بِدُونِ مُسَاعِدٍ وَلَا شَفِيعٍ، بَلْ بِمَحْضِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ: أَحَدُهُمَا اللَّيْلُ جَعَلَهُ مُظْلِمًا لِأَجْلِ أَنْ تَسْكُنُوا فِيهِ بَعْدَ طُولِ الْحَرَكَةِ وَالتَّقَلُّبِ فِي الْأَرْضِ، تَسْتَرِيحُونَ مِنَ التَّعَبِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَثَانِيهِمَا النَّهَارُ جَعَلَهُ مُضِيئًا ذَا إِبْصَارٍ لِتَنْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَتَقُومُوا بِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعُمْرَانِ وَالْكَسْبِ، وَالشُّكْرِ لِلرَّبِّ، فَالْمُبْصِرُ هُنَا مُعْطَى الْإِبْصَارِ سَبَبَهُ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (17: 12) الْآيَةَ. وَالثَّانِي قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)(17: 59) أَيْ آيَةً مُفِيدَةً لِلْبَصِيرَةِ وَالْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ:(فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)(27: 13) .

وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ وَأَبْصَرَ النَّهَارُ وَأَضَاءَ بِمَعْنَى صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ وَذَا إِبْصَارٍ

ص: 371

وَذَا ضِيَاءٍ اهـ. وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّذْكِيرُ فِي التَّنْزِيلِ بِآيَاتِ اللهِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ خَلْقِهِمَا وَتَقْدِيرِهِمَا وَمَنَافِعِ النَّاسِ فِيهِمَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ احْتِبَاكٌ وَهُوَ أَنَّهُ حَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنْ آيَتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأُخْرَى وَالْعَكْسُ، وَفِي قَوْلِهِ

تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) مِثْلُهُ، أَيْ إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ لَدَلَائِلَ بَيِّنَاتٍ، وَآيَاتٍ أَيَّ آيَاتٍ، عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ بِحِكَمِهِ تَعَالَى وَنَعَمِهِ فِيهَا سَمَاعَ فِقْهٍ وَتَدَبُّرٍ، وَيُبْصِرُونَ مَا فِي الْكَائِنَاتِ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ إِبْصَارَ تَأَمُّلٍ، ذَكَرَ الْآيَاتِ السَّمْعِيَّةَ الْمُنَاسِبَةَ لِلَّيْلِ الَّذِي قَدَّمَ ذِكْرَهُ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلنَّهَارِ وَتَذْكِيرٌ بِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ الْإِيجَازِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَقَامِ الْإِطْنَابِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(28: 71 - 73) وَأَحْسِنْ بِذَلِكَ الْإِطْنَابِ تَفْسِيرًا لِمَا هُنَا مِنَ الْإِيجَازِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِعُهُ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِعْجَازِ.

(قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يَفْلَحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعِهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ حِكَايَةٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى قَرِيبٍ مِنْ كُفْرِ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ لَهُ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا، وَقَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَحَكَاهُ عَنْهُمْ مَفْصُولًا لَا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مُسْتَقِلٌّ وَتَعَقَّبَهُ بِالْإِبْطَالِ.

(قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ، وَقَالَتِ

النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ (وَيَرَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ عُزَيْرًا هُوَ أُوزِيرُوسُ أَحَدُ آلِهَةِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ)(سُبْحَانَهُ) كَلِمَةُ التَّسْبِيحِ مَعْنَاهَا التَّنْزِيهُ

ص: 372

وَالتَّقْدِيسُ، أَيْ تَسْبِيحًا لَهُ عز وجل عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَتُقَالُ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ، وَيَصِحُّ هُنَا جَمْعُ الْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَقَفَّى عَلَى هَذَا التَّنْزِيهِ وَالتَّعَجُّبِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَقَالَ:(هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أَيْ هُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَنِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِلْكٌ وَعَبِيدٌ لَهُ لَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إِلَى شَيْءٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَا يُشْبِهُهُ أَوْ يُجَانِسُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَالْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ لِأُمُورٍ مِنْهَا بَقَاءُ ذِكْرِهِ بِهِ وَبِذَرِّيَّتِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ قُوَّةٌ وَعُصْبَةٌ لَهُ يَعْتَزُّ بِهِ هُوَ وَعَشِيرَتُهُ، وَمِنْهَا أَنَّ وُجُودَهُ زِينَةٌ لَهُ فِي دَارِهِ يَلْهُو بِهِ فِي صِغَرِهِ، وَيُفَاخِرُ بِهِ أَقْرَانَهُ فِي كِبَرِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِقَضَاءِ مَصَالِحِهِ وَتَنْمِيَةِ ثَرْوَتِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِهِ وَبِرِّهِ، عِنْدَ عَجْزِهِ أَوْ فَقْرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا)((إِنْ)) هُنَا نَافِيَةٌ وَ ((مِنْ)) مُؤَكِّدَةٌ لِهَذَا النَّفْيِ مُفِيدَةٌ لِعُمُومِهِ، وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، وَالْجُمْلَةُ تَجْهِيلٌ لَهُمْ وَرَدٌّ عَلَيْهِمْ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَقُولُونَهُ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَعِلْمٍ وَلَا وَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَتُعَارِضُونَ بِهِ هَذَا الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللهِ وَغِنَاهُ الْمُطْلَقُ عَنِ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ الْمَالِكَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَبْكِيتٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى أَقْبَحِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ مَجِيءِ مَا يَنْقُضُهُ مِنَ الْعِلْمِ الْبُرْهَانِيِّ، وَالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ قَاطِعٍ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا غَيْرُ سَائِغٍ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ عَنِ الْكُفَّارِ عَامَّةً وَعَنِ النَّصَارَى خَاصَّةً فِي سُورِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ، وَسَيَأْتِي فِي سُوَرٍ أُخْرَى مَعَ إِبْطَالِهِ وَتَفْنِيدِهِ بِالدَّلَائِلِ وَوُجُوهِ

الْحُجَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسَالِيبِ، أَوِ التَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ، وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ.

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بِاتِّخَاذِهِمُ الشُّرَكَاءَ لَهُ، أَوْ بِزَعْمِهِمُ اتِّخَاذَهُ وَلَدًا لِنَفْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، أَوْ بِدَعْوَى وِلَايَتِهِمْ وَإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَسْرَارِ خَلْقِهِ وَتَصْرِيفِهِ لَهُمْ فِي مُلْكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ 17، 59، 60 (لَا يُفْلِحُونَ) أَيْ لَا يَفُوزُونَ بِمَا يُؤَمِّلُونَ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالتَّمَتُّعِ بِنَعِيمِهَا بِشَفَاعَةِ الْوَلَدِ أَوِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ لَهُ تَعَالَى أَوْ فِدَائِهِمْ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.

(مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا) هَذَا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ قَدْ يَرُدُّ عَلَى نَفْيِ فَلَاحِهِمْ بِالْإِطْلَاقِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا، وَالْمُفْتَرُونَ عَلَى اللهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ الْجَاهِلِينَ،

ص: 373

لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ لَا يَزَالُونَ جَاهِلِينَ يَخْضَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الزُّعَمَاءِ الْمُلَبِّسِينَ، فَهُوَ يَقُولُ: هَذَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ - أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا حَقِيرٌ يَتَلَهَّوْنَ بِهِ فِي حَيَاةٍ قَصِيرَةٍ، فَأَمَّا قِلَّتُهُ وَحَقَارَتُهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهَا تَنْكِيرُهُ مَعَ الْقَرِينَةِ، وَأَمَّا قِصَرُ الْحَيَاةِ الَّتِي يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَمَعْلُومٌ بِالِاخْتِيَارِ، فَمَهْمَا يَبْلُغْ هَذَا الْمَتَاعُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَالِ وَعَظَمَةِ الْجَاهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ لِلصَّادِقِينَ الْمُتَّقِينَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَهُمْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ:(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالِ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْعَرْضِ (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) بِآيَاتِنَا وَنِعَمِنَا، وَبِالِافْتِرَاءِ عَلَيْنَا، وَتَكْذِيبِ رُسُلِنَا أَوِ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فِي الْحِسَابِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّنَا لَا نَظْلِمُهُمْ شَيْئًا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) .

هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ أَتَمَّ الِاتِّصَالِ، بِتَفْصِيلِهِ لِبَعْضِ مَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالٍ، وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا وَسَائِرِ مَنْ تَبْلُغُهُمُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَخْذُلُهُمْ وَيَنْصُرُ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا نَصَرَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى أَقْوَامِهِمُ الْمُجْرِمِينَ، فَأَهْلَكَهُمْ وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِهَا قَوْلُهُ:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)(13)

ص: 374

إِلَى آخَرِ الْآيَةِ 14 ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(39) ثُمَّ قَالَ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)(47) جَاءَ هَذَا فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَى الْوَحْيِ، وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ وَرَأْيِهِ وَكَلَامِهِ، وَالْحُجَجِ عَلَى مَضْمُونِ الدَّعْوَى مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالتَّفَنُّنِ فِيهَا، وَالتَّكْرَارِ الْبَلِيغِ لِمَقَاصِدِهَا، وَإِنْذَارِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَصِّلَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَجَاءَ بِهِ مَعْطُوفًا لِأَنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِهِ مُتَمِّمٌ لَهُ بِخِلَافِ سَرْدِ قَصَصِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حَيْثُ بَدَأَهُ بِقَوْلِهِ:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)(7: 59) لِأَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ أُورِدَتْ هُنَاكَ مُسْتَقِلَّةً،

لَا تَفْسِيرًا، وَلَا تَفْصِيلًا لِمُجْمَلٍ قَبْلَهَا، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً بِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ مَوْضُوعِهَا الْعَامِّ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا كَانَتِ الْبَلَاغَةُ فَلْسَفَةً عَقْلِيَّةً نَفْسِيَّةً، قَالَ عز وجل:

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أَيْ وَاقْرَأْ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ مِنْ قَوْمِكَ، فِيمَا أَوْعَدْتُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللهِ لَهُمْ عَلَى سَابِقِ سُنَّتِهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ مِنْ قَبْلِكَ، خَبَرَ نُوحٍ ذِي الشَّأْنِ الْعَظِيمِ:(إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ) أَيْ نَبَأَهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَكَذَّبُوهُ، (فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَاهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) - لَا جَمِيعَ أَنْبَاءِ قِصَّتِهِ مَعَهُمْ (الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَوُضِعَتْ بَعْدَهَا فِي الْمُصْحَفِ) لِيَعْلَمُوا مِنْ هَذَا النَّبَأِ الْخَاصِّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي نَصْرِ رُسُلِهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، فَيُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَقِلَّةِ مَنِ اتَّبَعَكَ وَضَعْفِهِمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءَ سَيَكُونُونَ خَلَائِفَ الْأَرْضِ فِي قَوْمِهِمْ وَغَيْرِ قَوْمِهِمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، قَالَ نُوحٌ عليه السلام لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ طَالَ مُكْثُهُ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ فَمَلُّوا مَقَامَهُ، وَسَئِمُوا وَعْظَهُ وَائْتَمَرُوا بِهِ: يَا قَوْمِي إِنْ كَانَ قَدْ كَبُرَ أَيْ شَقَّ وَعَظُمَ عَلَيْكُمْ قِيَامِي فِيكُمْ، أَوْ مَكَانِي مِنَ الْقِيَامِ بِمَا أَقُومُ بِهِ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَتَذْكِيرِي إِيَّاكُمْ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي ثَوَابِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُجْرِمِينَ - التَّذْكِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفِي الْآفَاقِ فَيُدْرِكُهَا الْعَقْلُ وَتَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، حَتَّى يَكُونَ بَيَانُهَا تَذْكِيرًا أَوْ كَالتَّذْكِيرِ لِمَنْ فَقِهَهَا بِشَيْءٍ كَانَ يَعْرِفُهُ بِالْقُوَّةِ، فَعَرَفَهُ بِالْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ التَّالِيَةِ قَوْلُهُ لَهُمْ:(وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ)(11: 34) الْآيَةَ (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَضْعِفُونَهُمْ، أَيْ إِنْ كَانَ كَبُرَ

ص: 375

عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَأَرَدْتُمُ التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِالْإِيقَاعِ بِي، فَإِنَّنِي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى

اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ رِسَالَتَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِي (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) مِنْ أَجْمَعَ الْأَمْرَ كَالسَّفَرِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، قِيلَ أَصْلُهُ جَمْعُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الشَّيْءِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ لَمْ يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَيْ أَجْمِعُوا مَا تُرِيدُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ لِيُعِينُوكُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ كَمَا أَدْعُو رَبِّي وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ: (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) الَّذِي تَعْتَزِمُونَهُ (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أَيْ خَفِيًّا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَيْرَةِ أَوِ اللَّبْسِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ فِي الْإِنْقَاذِ، بَعْدَ الْعَزْمِ وَالْإِجْمَاعِ، بَلْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِيهِ لِكَيْلَا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ بِظُهُورِ الْخَطَأِ أَوِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ هُوَ الصَّوَابَ (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) ذَلِكَ الْأَمْرَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ وَاعْتِزَامِهِ وَبَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا غُمَّةَ فِيهَا وَلَا الْتِبَاسَ بِأَنْ تُنَفِّذُوهُ بِالْفِعْلِ، فَالْقَضَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الشَّيْءِ وَتَنْفِيذِهِ وَإِتْمَامِهِ وَمِنْهُ:(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ)(28: 29)(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)(33: 23) وَ (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا)(33: 37) وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى لِإِفَادَةِ إِبْلَاغِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ آيَةَ رَقْمِ 11 (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ، وَإِذَا عُدِّيَ هَذَا بِإِلَى يُفِيدُ تَبْلِيغَ خَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ)(17: 4) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(15: 66) ، (وَلَا تُنْظِرُونِ) أَيْ لَا تُمْهِلُونِي بِتَأْخِيرِ هَذَا الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا.

هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَبْلَغِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عِبَارَةً، وَأَجْمَعِهَا عَلَى إِيجَازِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ وَثِقَتِهِمْ بِاللهِ عز وجل، وَشَجَاعَتِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ وَالرَّجَاءِ فِيمَا سِوَاهُ، وَبَيَانِ خَاتَمِهِمْ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَقْوَامِهِمْ، وَحَسُنِ وَعْظِهِ لَهُمْ بِوَحْيِ رَبِّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَضْرِبُ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُمْ مَثَلَ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي غُرُورِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِرَسُولِهِ وَلِمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلِمَا

يَعْتَزُّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الرَّسُولَيْنِ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَالْجَزْمِ بِإِهْلَاكِ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَأَصْحَابَ السُّلْطَانِ فِيهَا. صَوَّرَتِ الْآيَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْبُلَغَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِمُطَالَبَةِ نُوحٍ عليه السلام لِقَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ - الْمَشْهُورُ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَظَوَاهِرِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ - بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْإِيقَاعِ بِهِ وَاكْتِفَاءِ أَمْرِهِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ دَعْوَتِهِ، مُطَالَبَةَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الْمُذِلِّ بِبَأْسِهِ، وَالْمُعْتَصِمِ بِإِيمَانِهِ بِوَعْدِ رَبِّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، لِلضَّعِيفِ الْعَاجِزِ عَنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ اسْتِيفَائِهِ لِجَمِيعِ أَسْبَابِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ، إِذْ أَمَرَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى بِإِجْمَاعِ

ص: 376

أَمْرِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِهَا مُتَفَرِّقًا بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَضُمُّوا إِلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ النَّفْسِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ قُوَّةَ الْإِيمَانِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِشُرَكَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ الْمُجَمَّعَةُ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوَهْنُ أَوِ الْعِلَلُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْفَسْخِ قَبْلَ التَّنْفِيذِ، نَهَاهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي أَجْمَعُوا شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْخَفَاءِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ إِجْمَاعَ الْعَزْمِ فِي الْأَمْرِ لَا يَكُونُ بَعْدَ الْجَزْمِ بِالْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ الْبَاعِثِ إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ غُمَّةً امْتَنَعَ إِجْمَاعُهُ كَمَا يَمْتَنِعُ إِجْمَاعُ الصِّيَامِ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ إِذَا غُمَّ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَمْرُ بِإِجْمَاعِ الْأَمْرِ يُغْنِي عَنِ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ غُمَّةً، فَمَا حِكْمَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الرُّتْبَةِ؟ (قُلْتُ) : يَكْفِي فِي إِجْمَاعِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيقَاعِ بِنُوحٍ عليه السلام أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ غَيْرُ مُعَارَضَةٍ بِمَفْسَدَةٍ أَرْجَحَ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْحَيْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَسْخِ أَوِ التَّرَدُّدِ فَمِنْ ثَمَّ اقْتَضَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُؤَكِّدَ بِهَذَا النَّهْيِ عَنِ الْغُمَّةِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ وَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْطِفَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَتَهُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ قَضَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَتَنْفِيذِهِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَمْرِ

الْأَوَّلِ وَالنَّهْيِ كِلْتَيْهِمَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا مَعًا بِـ (ثُمَّ) ، وَأُكِّدَ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِنْظَارِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ الَّتِي تُفِيدُ مُطْلَقَ الْجَمْعِ لِاتِّحَادِ زَمَنِهِمَا وَرُتْبَتِهِمَا فَلَا تَرْتِيبَ بَيْنِهِمَا.

وَقَرَأَ نَافِعٌ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْجَمْعِ، أَيِ اجْمَعُوا مَا تَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ:(وَشُرَكَاءَكُمْ) مَفْعُولًا بِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، لَا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ (وَشُرَكَاؤُكُمْ) بِالرَّفْعِ أَيْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَلَا تُتْلَى فِي الصَّلَاةِ، وَقُرِئَ ((أَفْضُوا إِلَيَّ)) مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ الْوُصُولُ وَالِانْتِهَاءُ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أَيِ انْصَرَفْتُمْ عَنِّي مُصِرِّينَ عَلَى إِعْرَاضِكُمْ عَنْ تَذْكِيرِي (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أَيْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ عَلَى هَذَا التَّذْكِيرِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَةِ وَالنُّصْحِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْرِ وَالْمُكَافَآتِ فَتَتَوَلَّوْا لِثِقَلِهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ فَيَضُرُّنِي أَنْ يَفُوتَ عَلَيَّ وَأُحْرَمَهُ فَأُبَالِيَ بِتَوَلِّيكُمْ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي وَثَوَابِي عَلَى دَعْوَتِكُمْ وَتَذْكِيرِكُمْ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، فَهُوَ يُوَفِّينِي إِيَّاهُ سَوَاءٌ آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيِ الْمُنْقَادِينَ الْمُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ لِمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَسْلَمْتُمْ أَمْ كَفَرْتُمْ، فَلَا أَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (11: 88) .

ص: 377

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أَيْ فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ لَهُمُ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى حَقِّيَّةِ دَعْوَتِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مَنْ كُلِّ خَوْفٍ مِنْهُمْ إِذَا كَذَّبُوا، وَرَجَاءٍ فِيهِمْ إِذَا آمَنُوا، فَنَجَّيْنَاهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا بِأَمْرِنَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَفْظُ ((الْفُلْكِ)) هُنَا مُفْرَدٌ وَهُوَ السَّفِينَةُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ أَيْضًا كَمَا قَالَ:(وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ)(16: 14) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْقَرَائِنِ، إِنْ لَمْ تُوصَفْ بِالْجَمْعِ كَالْمَوَاخِرِ (وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ) يَخْلُفُونَ الْمُكَذِّبِينَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا عَلَى قِلَّتِهِمْ (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ وَأَوْعَدَهُمُ الْعَذَابَ، أَيْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)

أَيْ فَانْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِعَيْنِ بَصِيرَتِكَ وَعَقْلِكَ، كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَنْذَرَهُمْ رَسُولُهُمْ وُقُوعَ عَذَابِ اللهِ عَلَيْهِمْ فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ، فَكَذَا تَكُونُ عَاقِبَةُ مَنْ يُصِرُّونَ عَلَى تَكْذِيبِكَ مِنْ قَوْمِكَ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ عَاقِبَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَكَ.

قَدَّمَ ذِكْرَ تَنْجِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِخْلَافَهُمْ عَلَى إِغْرَاقِ الْمُكَذِّبِينَ وَقَطْعِ دَابِرِهِمْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي سِيَاقِ صِدْقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا تَقْدِيمُ مِصْدَاقِ الْوَعْدِ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَسْرِيَةِ حُزْنِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَمِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا كَوْنُهُ هُوَ الْأَظْهَرَ فِي الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا (أَيِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ) مِنَ اللهِ تَعَالَى الْقَادِرِ عَلَى إِيقَاعِهِمَا، عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمَغْرُورُونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّةِ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَخِلَافُ الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ أَنَّهَا تُصِيبُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ عَلَى سَوَاءٍ، فَلَا تَمْيِيزَ فِيهَا وَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَكَانَ آيَةً لَهُمْ، فَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللهِ عَلَى وَفْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ لَمَا هَلَكَ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ، وَنَجَا أَفْرَادٌ قَلِيلُونَ لَهُمْ صِفَةٌ خَاصَّةٌ أَخْرَجَهُمْ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِخَبَرِ رَسُولِهِمْ، وَمَا سِيقَ هَذَا النَّبَأُ هُنَا إِلَّا لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَغَفَلَ عَنْهُ الْبَاحِثُونَ عَنْ نُكْتَةِ الْبَلَاغَةِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الْمَوْصُولِ فَقَالُوا: إِنَّهَا تَعْجِيلُ الْمَسَرَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِيذَانُ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُقَدِّمَةٌ عَلَى الْعَذَابِ وَلَكِنْ مَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ لِذَاتِهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مُلْهِمِ الصَّوَابِ.

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسَلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) .

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةً أُخْرَى مَنْ عِبَرِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَسُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمْ، تَكْمِلَةً لِمَا بَيَّنَهُ فِي حَالِ قَوْمِ نُوحٍ مَعَ رَسُولِهِمْ، عَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ فَيَعْلَمُوا كَيْفَ

ص: 378

يَتَّقُونَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ سُوءٍ وَضُرٍّ عُلِمَ سَبَبُهُ أَمْكَنَ اتِّقَاؤُهُ بِاتِّقَاءِ سَبَبِهِ، إِذَا كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ الِاخْتِيَارِيِّ كَالْكُفْرِ وَالِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ.

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ) أَيْ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا مِثْلَهُ

إِلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مِثْلَ قَوْمِهِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ خَبَرِهِمْ مَعَهُمْ، وَلِهَذَا أَفْرَدَ كَلِمَةَ (قَوْمِهِمْ) فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ: أَرْسَلَنَا كُلَّ رَسُولٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ كَهُودٍ إِلَى عَادٍ وَصَالِحٍ إِلَى ثَمُودَ، وَلَمْ يُرْسَلْ رَسُولٌ مِنْهُمْ إِلَى كُلِّ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ إِلَّا شُعَيْبًا، أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدِينَ وَإِلَى جِيرَانِهِمْ أَصْحَابِ الْمُؤْتَفِكَةِ لِاتِّحَادِهِمَا فِي اللُّغَةِ وَالْوَطَنِ، وَإِنَّمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً (فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أَيْ فَجَاءَ كُلُّ رَسُولٍ مِنْهُمْ قَوْمَهُ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ وَصِحَّةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، بِحَسْبِ أَفْهَامِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ:(فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ قَبْلُ مِمَّنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي سَبَبِ كُفْرِهِ، وَهُوَ اسْتِكْبَارُ الرُّؤَسَاءِ، وَتَقْلِيدُ الدَّهْمَاءِ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أَيْ مِثْلُ هَذَا الطَّبْعِ، وَعَلَى غِرَارِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي اطَّرَدَتْ فِيهِمْ، (نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) مَثَلُهُمْ فِي كُلِّ قَوْمٍ كَقَوْمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذَا كَانُوا مِثْلَهُمْ:(وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)(17: 77) وَ (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا)(33: 62، 48: 23) فَأَمَّا الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا شَيْئًا غَيْرَ مَا رَسَخَ فِيهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا مِمَّا يُخَالِفُهُ كَقَبُولِ الْجَاهِلِ الْمُقَلِّدِ الدَّلِيلَ الْعِلْمِيَّ عَلَى بُطْلَانِ اعْتِقَادِ التَّقْلِيدِيِّ وَرُجُوعِ الْمُعَانِدِ عَنْ عِنَادِهِ وَكِبَرِهِ النَّفْسِيِّ (وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِهَا مَا سَبَقَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورِ النِّسَاءِ وَالْأَعْرَافِ وَالتَّوْبَةِ، وَمَثَلُهُ تَفْسِيرُ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ آيَةَ (7) .

وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ الَّذِي صَارَ وَصْفًا ثَابِتًا لِهَؤُلَاءِ (الْمُعْتَدِينَ) فَمَعْنَاهُ تَجَاوُزُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا، فَالطَّبْعُ الْمَذْكُورُ أَثَرٌ طَبَعِيٌّ لِلْحَالَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِوَصْفِ الِاعْتِدَاءِ، وَلَيْسَ عِقَابًا أُنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ أَيْ جَدِيدًا) خَلَقَهُ اللهُ لِمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ بِكُفْرِهِمْ وَلَمَا كَانَ فِيهِ عِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ، بَلْ لَكَانَ حُجَّةً لَهُمْ، وَقَدْ فَهِمَتْ قُرَيْشٌ وَسَائِرُ الْعَرَبِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مُتَكَلِّمُو الْجَبْرِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَهُوَ أَنَّهَا وَصْفٌ لِلْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَسَنَّتُهُ تَعَالَى فِي دَوَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَوَامِ الْآخَرِ، لَا بِذَاتِهِ وَكَوْنِهِ خَلْقِيًّا لَا مَفَرَّ مِنْهُ، بَلِ الْمَفَرُّ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ مُمْكِنٌ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُعَانِدِ لِعِنَادِهِ وَالْمُقَلِّدِ لِتَقْلِيدِهِ، إِيثَارًا لِلْحَقِّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، فَهِمُوا هَذَا فَاهْتَدَى الْأَكْثَرُونَ بِالتَّدْرِيجِ، وَهَلَكَ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا.

ص: 379

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ بِآيَتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) .

هَذِهِ قِصَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مُلَخَّصَةً هُنَا فِي 19 آيَةً مُفَصَّلَةً مُرَتَّبَةً كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ مِنْهَا فِي اسْتِكْبَارِ فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى مِنَ السِّحْرِ، وَتَعْلِيلِ تَكْذِيبِهِمْ لَهُ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اتِّبَاعَهُ تَحْوِيلٌ لَهُمْ عَنِ التَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنِ الْآبَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْلُبُ سُلْطَانَهُمْ مِنْهُمْ وَيَنْفَرِدُ هُوَ وَأَخُوهُ بِمَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ الْمُخْتَصَرَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَاكَ تَفْسِيرَهُنَّ بِالِاخْتِصَارِ:

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) أَيْ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ - الَّذِينَ بَعَثْنَاهُمْ إِلَى أَقْوَامِهِمْ - مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنِ مِصْرَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ أَرْكَانُ دَوْلَتِهِ، وَإِلَى قَوْمِهِمُ الْقِبْطِ بِالتَّبَعِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ لَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكُفْرِهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِإِيمَانِهِمْ أَنْ آمَنُوا (بِآيَاتِنَا) أَيْ بَعَثْنَاهُمَا مُؤَيِّدَيْنِ بِآيَاتِنَا التِّسْعِ الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أَيْ فَاسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ، أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ كِبْرًا وَعُلُوًّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَصِنَاعَةِ السِّحْرِ، وَكَانُوا

قَوْمًا رَاسِخِينَ فِي الْإِجْرَامِ وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(27: 14) .

(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ) وَهُوَ آيَاتُنَا الدَّالَّةُ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ (مِنْ عِنْدِنَا) وَوَحْيِنَا

ص: 380

إِلَى مُوسَى كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهَا، الْمُبْطِلِ لِادِّعَاءِ فِرْعَوْنَ لَهُمَا بِقَوْلِهِ:(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(79: 24) وَقَوْلِهِ: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)(28: 38)(قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ أَقْسَمُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ إِنَّمَا هُوَ سِحْرٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا السِّحْرُ صِنَاعَةٌ بَاطِلَةٌ هُمْ أَحَذَقُ النَّاسِ بِهَا، فَكَيْفَ يَتَّبِعُونَ مَنْ جَاءَ يُنَازِعُهُمْ سُلْطَانَهُمْ بِهَا، فَمَاذَا قَالَ لَهُمْ مُوسَى؟ .

(قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ) أَيْ قَالَ لَهُمْ مُتَعَجِّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَقُولُونَ هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ لِلْحَقِّ الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ أَبَعْدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ كَيْدِ السِّحْرِ الْبَاطِلِ، لَمَّا جَاءَكُمْ وَعَرَفْتُمُوهُ وَاسْتَيْقَنَتْهُ أَنْفُسُكُمْ، حَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ:(إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مُنْكِرًا لَهُ مُتَعَجِّبًا مِنْهُ: (أَسِحْرٌ هَذَا) أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ مِنْ آيَاتِ اللهِ بِأَعْيُنِكُمْ، وَتَرْجُفُ مِنْ عَظَمَتِهِ قُلُوبُكُمْ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سِحْرًا مِنْ جِنْسِ مَا تَصْنَعُهُ أَيْدِيكُمْ، (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَكُمْ أَنَّ السَّاحِرِينَ لَا يَفُوزُونَ فِي أُمُورِ الْجِدِّ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ دَعْوَةِ دِينٍ وَتَأْسِيسِ مُلْكٍ وَقَلْبِ نِظَامٍ، وَهُوَ مَا تَتَّهِمُونَنِي بِهِ عَلَى ضَعْفِي وَقُوَّتِكُمْ، لِأَنَّ السِّحْرَ أُمُورُ شَعْوَذَةٍ وَتَخْيِيلٍ، لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفْتَضِحَ وَتَزُولَ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا جَوَابُهُمْ لَهُ:

(قَالُوا أَجِئْتِنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْرِيطٍ وَتَقْرِيرٍ، تُجَاهَ مَا أَوْرَدَهُ مُوسَى مِنَ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، فَحَوَاهُ أَتُقِرُّ وَتَعْتَرِفُ بِأَنَّكَ جِئْتَنَا لِتَصْرِفَنَا وَتَحَوُّلِنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ

آبَاءَنَا وَأَجْدَادَنَا مِنَ الدِّينِ الْقَوْمِيِّ الْوَطَنِيِّ لِنَتِّبِعَ دِينَكَ وَتَكُونَ لَكَ وَلِأَخِيكَ كِبْرِيَاءُ الرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ كِبْرِيَاءِ الْمُلْكِ وَالْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ التَّابِعَةِ لَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ كُلِّهَا؟ يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَكَ مِنْ دَعْوَتِكَ إِلَّا هَذَا وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِهِ اعْتِرَافًا. جَعَلُوا الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالدَّعْوَةِ وَالْغَرَضَ مِنْهَا لِمُوسَى لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي لَهُمْ بِالذَّاتِ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ أَخَاهُ فِي ثَمَرَةِ الدَّعْوَةِ وَفَائِدَتِهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِالضَّرُورَةِ (وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ وَمَا نَحْنُ بِمُتَّبِعِينَ لَكُمَا اتِّبَاعَ إِيمَانٍ وَإِذْعَانٍ فِيمَا يُخْرِجُنَا مِنْ دِينِ آبَائِنَا الَّذِي تُقَلِّدُهُ عَامَّتُنَا، وَيَسْلُبُنَا مُلْكَنَا الَّذِي تَتَمَتَّعُ بِكِبْرِيَائِهِ خَاصَّتُنَا - وَهُمُ الْمَلِكُ وَأَرْكَانُ دَوْلَتِهِ وَبِطَانَتُهُ وَحَوَاشِيهِ - وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يَمْنَعَانِ جَمِيعَ الْأَقْوَامِ مِنَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُصْلِحِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ.

ص: 381

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي خُلَاصَةِ مَا قَاوَمَ بِهِ فِرْعَوْنُ دَعْوَةَ مُوسَى لِتَأْيِيدِ ادِّعَائِهِ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَصَرْفِ قَوْمِهِ عَنِ اتِّبَاعِهِ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ السِّحْرِ وَآيَاتِ اللهِ لَهُ.

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) أَيْ ذَاكَ مَا قَالَهُ مَلَأُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ بِحَضْرَتِهِ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ بَعْدَ مَا رَأَوْا مِنْ إِصْرَارِ مُوسَى عَلَى دَعْوَتِهِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِالتَّصْرِيحِ لَهُ بِمَا يَدْعُونَ أَوْ يَظُنُّونَ مِنْ مُرَادِهِ:(ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ وَاسِعِ الْعِلْمِ رَاسِخٍ فِيهِ مُتْقِنٍ لِلسِّحْرِ بِالْعَمَلِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)(6: 37) .

(فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ) الْمَطْلُوبُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ (قَالَ لَهُمْ مُوسَى) بَعْدَ أَنْ خَيَّرُوهُ بَيْنَ أَنْ يُلْقِيَ مَا عِنْدَهُ أَوَّلًا أَوْ يُلْقُوا هُمْ مَا عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سُورَتَيِ

الْأَعْرَافِ وَطَهَ (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْطَالُ الْبَاطِلِ وَإِظْهَارُ الْحَقِّ.

(فَلَمَّا أَلْقَوْا) مَا أَلْقَوْهُ مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمُ الصِّنَاعِيَّةِ السِّحْرِيَّةِ (قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ وَأَلْقَيْتُمُوهُ أَمَامَنَا هُوَ السِّحْرُ لَا مَا جِئْتُ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَسَمَّاهُ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ سِحْرًا (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أَيْ سَيُظْهِرُ بُطْلَانَهُ لِلنَّاسِ وَأَنَّهُ صِنَاعَةٌ خَادِعَةٌ، لَا آيَةٌ خَارِقَةٌ صَادِعَةٌ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةُ لِبَيَانِ مَا يُوقِنُ بِهِ مُوسَى مِنْ مَآلِ هَذَا السِّحْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا لِمَا قَبْلَهَا وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ الَّذِي هُوَ السِّحْرُ، إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَعَلَّلَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ:(إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) وَهُوَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي تَنَازُعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا سِحْرُهُمْ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ وَفَسَادٌ، أَيْ لَا يَجْعَلُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ صَالِحًا، وَالسِّحْرُ مِنْ عَمَلِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْمُفْسِدِينَ.

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) أَيْ يُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ الْخَلْقِ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى مَا يُعَارِضُهُ مِنَ الْبَاطِلِ بِكَلِمَاتِهِ التَّكْوِينِيَّةِ وَهِيَ مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يُوجِبُهَا إِلَى رُسُلِهِ

ص: 382

وَمِنْهَا وَعْدُهُ بِنَصْرِي عَلَى فِرْعَوْنَ وَإِنْقَاذِ قَوْمِي مِنْ عُبُودِيَّتِهِ وَظُلْمِهِ (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) كَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ (8: 7، 8) .

(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لِمَنِ الْمُسْرِفِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيَانِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ اللهُ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ مِصْرَ، فِي إِثْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.

(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الْمُتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي أَنَّ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ السَّبَبِيَّةِ أَوِ التَّفْرِيعِ، أَيْ إِنَّ إِصْرَارَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِمُوسَى بَعْدَ خَيْبَةِ السَّحَرَةِ وَظُهُورِ حَقِّهِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، ثُمَّ عَزْمَهُ عَلَى قَتْلِهِ كَمَا أَنْبَأَ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)(40: 26) يَعْنِي بِالْفَسَادِ الثَّوْرَةَ وَالْخُرُوجَ عَلَى السُّلْطَانِ - كَمَا قَتَلَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ السَّحَرَةِ.

كُلُّ هَذَا أَوْقَعَ الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِ مُوسَى، فَمَا آمَنَ لَهُ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ الْأَحْدَاثُ مِنَ الْمُرَاهِقِينَ وَالشُّبَّانُ، وَقِيلَ: قَوْمُ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنَّ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَلَا يُقَالُ آمَنَ لَهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ مُؤْمِنًا، وَلَمْ يَكُونُوا صِغَارًا، وَالذُّرِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ الصِّغَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَأَصْلُهُ الْجَمْعُ. (عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أَيْ آمَنُوا عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، أَيْ أَشْرَافِ قَوْمِهِمُ الْجُبَنَاءِ الْمُرَائِينَ الَّذِينَ هُمْ عُرَفَاؤُهُمْ عِنْدَ

ص: 383

فِرْعَوْنَ فِيمَا يَطْلُبُ هُوَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ يَسْتَذِلُّونَ الشُّعُوبَ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ بِرُؤَسَاءَ وَعُرَفَاءَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: مَلَأُ فِرْعَوْنَ وَجَمْعُ ضَمِيرِهِ لِلتَّعْظِيمِ، عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لِمُوسَى وَاتِّبَاعِ دِينِهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالْإِرْهَاقِ. الْفُتُونُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ الشَّدِيدُ لِلْحَمْلِ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الِاضْطِهَادِ وَالتَّعْذِيبِ لِلِارْتِدَادِ عَنِ الدِّينِ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(8: 39)(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَاتٍ شَدِيدُ الْعُتُوِّ، مُسْتَبِدٌّ غَالِبٌ قَوِيُّ الْقَهْرِ فِي أَرْضِ مِصْرَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِعُلُوِّهِ قَهْرُهُ وَاسْتِبْدَادُهُ كَمَا حَكَى الله عَنْهُ بِقَوْلِهِ:

(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)(7:127)(وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أَيِ الْمُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، إِلَى الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ، وَالْعُدْوَانِ وَالْبَغْيِ، وَغَمْطِ الْحَقِّ وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ مَعْنَى الْكِبْرِيَاءِ.

(وَقَالَ مُوسَى) لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ وَقَدْ رَأَى خَوْفَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ مُرْشِدًا وَمُثْبِتًا لَهُمْ: (يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ حَقَّ الْإِيمَانِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، وَبِوَعْدِهِ فَثِقُوا، إِنْ كُنْتُمْ فِي إِيمَانِكُمْ مُسْتَسْلِمِينَ مُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ يَقِينًا إِذَا صَدَّقَهُ الْعَمَلُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِ جَمِيعِ قَوْمِهِ كَمَا قِيلَ، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ لِمُوسَى الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالِاتِّبَاعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وَهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً مِنَ الْأَصْنَامِ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعَجَلَ الْمَصْنُوعَ وَعَبَدُوهُ.

(فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِنْجَازُ الْوَعْدِ، وَصَرَّحُوا بِهِ فِي الْقَوْلِ، مَعَ الدُّعَاءِ بِأَنْ يَحْفَظَهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالدُّعَاءَ لَا يَصِحُّ وَلَا يُقْبَلُ فَيُسْتَجَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا أَوْ مُقَارَنًا لِاتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ، وَهُوَ أَنْ تَعْمَلَ مَا تَسْتَطِيعُ، وَتَطْلُبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُسَخِّرَ لَكَ مَا لَا تَسْتَطِيعُ، وَلَفْظُ (فِتْنَةٍ) هُنَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْفَاتِنِ وَالْمَفْتُونِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: رَبَّنَا لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا، وَلَا تَفْتِنَّا بِهِمْ فَنَتَوَلَّى عَنِ اتِّبَاعِ نَبِيِّنَا، أَوْ نَضْعُفَ فِيهِ فِرَارًا مِنْ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ لَنَا، وَلَا تَفْتِنْهُمْ بِنَا فَيَزْدَادُوا كُفْرًا وَعِنَادًا وَظُلْمًا بِظُهُورِهِمْ عَلَيْنَا، وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَمِنَ الْمَعْقُولِ وَالثَّابِتِ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ سُوءَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْحَقِّ فِي أَيِّ حَالٍ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ عَمَلٍ مَذْمُومٍ، يَجْعَلُهُمْ مَوْضِعًا أَوْ مَوْضُوعًا لَافِتَتَانِ الْكَفَّارِ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ بِهِمْ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا

أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) (6: 53) وَقَالَ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)(25: 20) فَكَيْفَ إِذَا خَذَلَ أَهْلَ الْحَقِّ حَقُّهُمْ، وَكَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ؟ .

ص: 384

(وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أَيْ نَجِّنَا مِنْ سُلْطَانِهِمْ وَحُكْمِهِمْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَافِرِ لَا يُطَاقُ، وَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فِي جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ:(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(60: 4، 5) وَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ بِهَذِهِ الْأُسْوَةِ وَتَجْدِيدِ الْإِنَابَةِ، وَتَكْرَارُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاشِعِينَ مُعْتَبِرِينَ مُسْتَعْبِرِينَ فَقَدْ أَصْبَحُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) يُقَالُ تَبَوَّأَ الدَّارَ: اتَّخَذَهَا مُبَوَّءًا أَوْ مَبَاءَةً أَيْ مَسْكَنًا ثَابِتًا وَمَلْجَأً يَبُوءُ إِلَيْهِ، أَيْ يَرْجِعَ كُلَّمَا فَارَقَهُ لِحَاجَةٍ، وَبَوَّأَهَا غَيْرَهُ، وَقَوْلُهُ:(أَنْ تَبَوَّآ) تَفْسِيرٌ لِأَوْحَيْنَا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى قُلْنَا لَهُمَا: اتَّخِذُوا لِقَوْمِكُمَا بُيُوتًا فِي مِصْرَ تَكُونُ مَسَاكِنَ وَمَلَاجِئَ يَبُوءُونَ إِلَيْهَا وَيَعْتَصِمُونَ بِهَا. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أَيْ مُتَقَابِلَةً فِي وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يُقَابِلُ الْإِنْسَانَ وَيَكُونُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَمِنْهُ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَخَصُّ وَيَصِحُّ الْجَمْعُ هُنَا بَيْنَ الْمَعْنِيِّينَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أَيْ فِيهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ الِاتِّحَادَ فِي الِاتِّجَاهِ يُسَاعِدُ عَلَى اتِّحَادِ الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حِكْمَةِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) وَحِكْمَةُ هَذَا أَنْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِتَبْلِيغِهِمَا إِيَّاهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ وَيَعْنِيهِمْ مِمَّا بُعِثَا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ إِنْجَاؤُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِاسْتِقْبَالِهَا وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِنَصٍّ:(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بِحِفْظِ اللهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِتْنَةِ فِرْعَوْنَ وَمِلْئِهِ الظَّالِمِينَ لَهُمْ وَتَنْجِيَتِهِمْ مِنْ ظُلْمِهِمْ. خَصَّ اللهُ مُوسَى بِهَذَا الْأَمْرِ (التَّبْشِيرِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ الْمَنُوطِ بِهِ، وَأَشْرَكَ هَارُونَ مَعَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ عَمَلِيٌّ هُوَ وَزِيرُهُ الْمُسَاعِدُ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ.

(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .

ص: 385

هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا الرَّابِطَتَانِ بَيْنَ سِيرَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي مِصْرَ، وَبَيْنَ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ لَهُ عَلَيْهِ وَإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَإِهْلَاكِهِ عِقَابًا لَهُ كَمَا وَقَعَ لِنُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ.

(وَقَالَ مُوسَى) بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ إِعْدَادًا دِينِيًّا دُنْيَوِيًّا، مُتَوَجِّهًا إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي إِتْمَامِ الْأَمْرِ، بَعْدَ قِيَامِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَسْبَابِ:(رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ إِنَّكَ أَعْطَيْتَ فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ وَكُبَرَاءَهُمْ دُونَ دُهَمَائِهِمْ - مِنَ الصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ وَالْجُنْدِ وَالْخَدَمِ - زِينَةً مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَالْآنِيَةِ وَالْمَاعُونِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ، وَأَمْوَالًا كَثِيرَةَ الْأَنْوَاعِ وَالْمَقَادِيرِ، يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيُنْفِقُونَ مِنْهَا فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِدُونِ حِسَابٍ (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ هَذَا الْعَطَاءِ إِضْلَالَ عِبَادِكَ عَنْ سَبِيلِكَ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِكَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الزِّينَةَ سَبَبُ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالطُّغْيَانِ عَلَى النَّاسِ، وَكَثْرَةَ الْأَمْوَالِ تُمَكِّنُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَتُخْضِعُ رِقَابَ النَّاسِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(96: 6، 7) وَذَلِكَ دَأْبُ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ، بِهِ تَشْهَدُ آثَارُهُمْ وَرِكَازُهُمُ الَّتِي لَا تَزَالُ تُسْتَخْرَجُ

مِنْ بِرَابِيهِمْ وَنَوَاوِيسِ قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا الَّذِي أَكْتُبُ فِيهِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتُحْفَظُ فِي دَارِ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيُوجَدُ مِثْلُهَا دُورٌ أُخْرَى فِي عَوَاصِمِ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ مَلْأَى بِأَمْثَالِهَا، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:(لِيُضِلُّوا) تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ وَهِي الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا أَثَرٌ وَغَايَةٌ فِعْلِيَّةٌ لِمُتَعَلِّقِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ لَا بِالسَّبَبِيَّةِ وَلَا بِقَصْدِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُوسَى عليه السلام: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)(28: 8) وَيُمَيَّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ كَيِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلَّةِ الْفِعْلِ بِالْقَرِينَةِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ هُنَا مِنْهَا وَحَمَلُوهَا عَلَى الِاسْتِدْرَاجِ، أَيْ آتَيْتَهُمْ ذَلِكَ لِكَيْ يُضِلُّوا النَّاسَ فَيَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ وَقَدْ يُعَزِّزُهُ قَوْلُهُ:(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) يُقَالُ: طَمَسَ الْأَثَرُ وَطَمَسَتْهُ الرِّيحُ إِذَا زَالَ حَتَّى لَا يُرَى أَوْ لَا يُعْرَفَ (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)(36: 66) وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْعَمَى وَبِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ)(43) وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَى هُنَا عَمَى الْبَصِيرَةِ لَا الْبَصَرِ وَالْمَعْنَى هُنَا: رَبَّنَا امْحَقْ أَمْوَالَهَمْ بِالْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُ حَرْثَهُمْ وَأَنْعَامَهُمْ وَتُنْقِصُ مَكَاسِبَهُمْ وَثَمَرَاتِهِمْ وَغَلَّاتِهِمْ فَيَذُوقُوا ذُلَّ الْحَاجَةِ (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا، وَزِدْهَا قَسَاوَةً وَإِصْرَارًا

ص: 386

وَعِنَادًا، حَتَّى يَسْتَحِقُّوا تَعْجِيلَ عِقَابِكَ فَتُعَاقِبَهُمْ (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) هَذَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ أَوْ دُعَاءٌ آخَرُ بِلَفْظِ النَّهْيِ مُتَمِّمٌ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَمَّنَ هَارُونُ عليهما السلام كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لَهُمَا بِقَوْلِهِ:

(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) أَيْ قُبِلَتْ، وَإِذَا قُبِلَتْ نُفِّذَتْ (فَاسْتَقِيمَا) عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْ إِعْدَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَامْضِيَا لِأَمْرِي وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ (وَلَا تَتَّبِعَانِّ

سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ وَلَا تَسْلُكَانِ طَرِيقَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ سُنَّتِي فِي خَلْقِي وَإِنْجَازِ وَعْدِي لِرُسُلِي، فَتَسْتَعْجِلَا الْأَمْرَ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَتَسْتَبْطِئَا وُقُوعَهُ فِي إِبَّانِهِ.

هَذَا - وَإِنَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مَا يُفَسِّرُ اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ، بِمَا يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا مِنْ إِرْسَالِ اللهِ النَّوَازِلَ عَلَى مِصْرَ وَأَهْلِهَا، وَلُجُوءِ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ إِلَى مُوسَى عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْهَا لِيَدْعُوَ رَبَّهُ فَيَكْشِفَهَا عَنْهُمْ فَيُؤْمِنُوا بِهِ، حَتَّى إِذَا مَا كَشَفَهَا قَسَّى الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَأَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) . إِلَى قَوْلِهِ: (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)(7: 133: 136) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الطَّمْسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ مِنْ أَبَاطِيلِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ)) وَأَمْثَالِهِ مِنْهَا (كَمَا نَرَى) صَدَّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَرَوْنَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ فِي وَقَائِعَ عَمَلِيَّةٍ وَأُمُورٍ حِسِّيَّةٍ.

(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكِ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) .

ص: 387

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ بِآخِرِ الْقِصَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ تَأْيِيدِ اللهِ لِمُوسَى وَأَخِيهِ الضَّعِيفَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَدَوْلَةً.

(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) يُقَالُ: جَازَ الْمَكَانَ وَجَاوَزَهُ وَتَجَاوَزَهُ إِذَا ذَهَبَ فِيهِ وَقَطَعَهُ حَتَّى خَلَّفَهُ وَرَاءَهُ. وَأَصْلُهُ مِنْ جَوْزِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَسَطُهُ، وَتَسْمِيَةُ الْجَوْزَاءِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَعَرُّضِهَا فِي جَوْزِ السَّمَاءِ أَيْ وَسَطِهَا، وَمُجَاوَزَةُ اللهِ الْبَحْرَ بِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ جَاوَزُوهُ بِمَعُونَتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِفْظِهِ، إِذْ كَانَ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عليه السلام بِفَرْقِهِ تَعَالَى بِهِمُ الْبَحْرَ وَانْفِلَاقِهِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ:(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا) أَيْ لَحِقَهُمْ فَأَدْرَكَهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا عَلَيْهِمْ لِيَفْتِكَ بِهِمْ، أَوْ يُعِيدَهُمْ إِلَى مِصْرَ حَيْثُ يَتَعَبَّدُهُمْ وَيَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أَيْ فَخَاضَ الْبَحْرَ وَرَاءَهُمْ حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْغَرَقِ:(قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) أَيْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَغْرَقَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَحْرَ لَمْ يُطْبِقْ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ بِالْحَقِّ إِلَّا الرَّبُّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ جَمَاعَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدَعْوَةِ مُوسَى: (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ وَأَنَا فَرْدٌ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُذْعِنِينَ لَهُ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، وَبَعْدَ مَا كَانَ مِنْ كُفْرِ الْجُحُودِ بِآيَاتِهِ وَالْعِنَادِ لِرَسُولِهِ. يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الْإِذْعَانُ وَالْخُضُوعُ بِالْفِعْلِ، بِدُونِ امْتِيَازٍ لِعَظَمَةِ الْمُلْكِ، وَكَانَ مِنْ قَبْلُ جَاحِدًا، أَيْ مُصَدِّقًا غَيْرَ مُذْعِنٍ وَلَا خَاضِعٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ وَفِي آلِهِ:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(27: 14) يَعْنِي آيَاتِ مُوسَى. وَهَذِهِ هِي الْعَاقِبَةُ، وَقَدْ أُجِيبَ فِيهَا فِرْعَوْنُ عَنْ دَعْوَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِي يَعْرِفُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ عليه السلام :

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أَيْ أَتُسْلِمُ الْآنَ أَوْ تَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَإِذْعَانَ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، حَيْثُ لَا مَحَلَّ لَهُ وَلَا إِمْكَانَ، بِمَا حَالَ دُونَهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلَهُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ الظَّالِمِينَ لِلْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ دَعْوَى الْإِسْلَامِ الْآنَ بَاطِلَةٌ، وَالْإِيمَانَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ مَعَ إِمْكَانِهِ لَا يُقْبَلُ،

فَكَيْفَ يُقْبَلُ وَقَدْ صَارَ اضْطِرَارًا لَا مَعْنَى لِقَبُولِهِ ; لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ لَا فِعْلٌ لِصَاحِبِهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَتَتْ وَحِيَاضُ الْمَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا

وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُكَذِّبِينَ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ بِمَا كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى اسْتِعْجَالِ عَذَابِهِ:(أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(51) وَسَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ مِنْهَا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ وُقُوعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ أَجَلِ الْقَوْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ مَوْتِ الشَّخْصِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ

ص: 388

تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)(4: 18) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِنَّمَا تَنْفَعُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ. عَلَى أَنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ، لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي ادِّعَائِهِ إِيَّاهُ أَوْ طَلَبِهِ لَهُ بِالْقَوْلِ، وَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مُوَطِّنٌ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ إِنْ نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو بِهَذَا أَنْ يُنَجِّيَهُ اللهُ تَعَالَى كَمَا نَجَّاهُ وَقَوْمَهُ مِنْ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْ عَذَابِ اللهِ حَلَّتْ بِهِ وَبِقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى:(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)(7: 134) وَلَكِنَّ تِلْكَ النَّوَازِلَ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ إِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى فَهِيَ غَايَتُهَا، وَلَمْ تَكُنْ عِقَابًا عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى كُفْرِ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، الَّذِي هُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَدَلُّهَا عَلَى خُبْثِ طَوِيَّةِ صَاحِبِهِ، كَهَذَا الْعِقَابِ الْأَخِيرِ بَعْدَ نَجَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ رَغْمَ أَنْفِهِ.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) قَالَ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِفِرْعَوْنَ: فَالْيَوْمَ نَجْعَلُكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِبَدَنِكَ، يَنْظُرُ إِلَيْكَ مَنْ كَذَّبَ بِهَلَاكِكَ) لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يَقُولُ: لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكَ مِنَ النَّاسِ عِبْرَةً يَعْتَبِرُونَ بِكَ فَيَنْزَجِرُونَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَالسَّعْيِ فِي أَرْضِهِ بِالْفَسَادِ. وَالنَّجْوَةُ: الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:

فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنَ بِنَجْوَتِهِ

وَالْمَسَّتِكُنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ

ثُمَّ ذَكَرَ رُوَاتِهِ عَمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: سُمِّيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ نَجْوَةً وَنَجَاةً وَزَادَ بَعْضُهُمْ: مَنْجًى - لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ يَنْجُو مِنَ السَّيْلِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ وَدَفَعَهُمْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ إِنْجَاءَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْغَرَقِ إِنَّمَا يَكُونُ بِخُرُوجِهِ حَيًّا بِبَدَنِهِ وَنَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي إِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَكُلُّ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ كَإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالتَّنْجِيَةِ تَهَكُّمٌ بِهِ، وَإِنَّ الْحِكْمَةَ بِذِكْرِ الْبَدَنِ أَنَّهُ يُخْرِجُ جَسَدَهُ سَالِمًا لِيُعْرَفَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَدَنِ الدِّرْعُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهَا فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْعِبْرَةِ أَنْ يَلْفِظَهُ الْبَحْرُ بِبَدَنِهِ لِيُعْرَفَ فَيَعْتَبِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي غَرَقِهِ، وَيَعْتَبِرَ الْقِبْطُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ دِرْعَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً وَإِنَّهَا مِنَ الْمُذَّهَبِ، أَوْ كَانَ لَهُ فَوْقَ دِرْعِ الزَّرَدِ دِرْعٌ أُخْرَى مِنَ الذَّهَبِ، وَلَكِنَّ الدُّرُوعَ تَقْتَضِي رُسُوبَ الْغَرِيقِ فِي الْبَحْرِ إِلَّا أَنْ يَجْرُفَهُ الْمَوْجُ. وَأَمَّا الْعِبْرَةُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَهِيَ أَعَمُّ: هِيَ مَا سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ مِنْ كَوْنِهَا شَاهِدًا كَالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِرُسُلِهِ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ، كَطُغَاةِ مَكَّةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ

ص: 389

هَذِهِ الْآيَاتُ بَلْ هَذِهِ السُّورَةُ كُلُّهَا لِإِقَامَةِ حُجَجِ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) تَعْرِيضٌ بِهِمْ وَأَكَّدَهُ هَذَا التَّأْكِيدَ لِمَا تَقْتَضِيهِ شِدَّةُ الْغَفْلَةِ مِنْ قُوَّةِ التَّنْبِيهِ، أَيْ إِنَّهُمْ لَشَدِيدُو الْغَفْلَةِ عَنْهَا عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهَا فَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِهَا وَنَتَائِجِهَا وَحِكَمِ اللهِ فِيهَا، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا يَمُرُّونَ عَلَيْهَا مُعْرِضِينَ كَمَا يَمُرُّونَ عَلَى مَسَارِحِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ ذَمٌّ لِلْغَفْلَةِ، وَعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي أَسْبَابِ الْحَوَادِثِ وَعَوَاقِبِهَا وَاسْتِبَانَةِ سُنَنِ اللهِ فِيهَا، لِلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ، كَلَّا إِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْغَافِلِينَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنْ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) .

هَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمُنْتَهَى الْعِبْرَةِ فِيهَا لِمُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْجَاحِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ الْمَغْرُورِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ، فِي مُوسَى وَالْجَاحِدِينَ لِآيَاتِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وَأَشَدَّ قُوَّةً، وَأَعْظَمَ زِينَةً وَأَوْفَرَ ثَرْوَةً، وَسُنَّةُ اللهِ فِي مُوسَى وَمَنْ قَبْلَهُ وَاحِدَةٌ، وَقِصَّتُهُ كَقِصَّةِ نُوحٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَأَمَّا نَصْرُ اللهِ لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَإِنْجَازُ وَعْدِهِ لَهُ، قَدْ جَرَى عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ فِي غَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا فِي صُورَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَهْلَكَ أَكْثَرَ زُعَمَاءِ أَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَخْضَعَ لَهُ الْآخَرِينَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لِأَتْبَاعِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْطَاهُمْ أَعْظَمَ مُلْكٍ فِي الْعَالَمِينَ، وَمِنْهُ مَا كَانَ أُعْطِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَهُوَ فِلَسْطِينُ. قَالَ:(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قُلْنَا آنِفًا: إِنَّ الْمُبَوَّأَ مَكَانُ الْإِقَامَةِ الْأَمِينُ. وَأُضِيفَ إِلَى الصِّدْقِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِهِ وَهُوَ مَنْزِلُهُمْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ الْجَنُوبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِفِلَسْطِينَ (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) فِيهِ، وَهِي الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي وَصْفِ أَرْضِهَا مِنْ كُتُبِهِمْ بِأَنَّهَا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْغَلَّاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَالْأَنْعَامِ، وَكَذَا صَيْدُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ مَا كَانَ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَمِنْ أَيْلُولَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعَرَبِ، بَعْدَ حِرْمَانِ الْيَهُودِ مِنْهُ تَصْدِيقًا لِوَعِيدِ أَنْبِيَائِهِمْ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى أَوَّلًا ثُمَّ بِكُفْرِهِمْ بِعِيسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ

ص: 390

النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَلِسَانِ مَنْ قَبْلَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَأُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ:(فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)

عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَوْ رِسَالَتُهُ أَوِ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ:(لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)(4: 166) وَقَوْلِهِ: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ)(11: 14) وَقَوْلِهِ: (بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ)(7: 52) فَقَدْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى بِشَارَةِ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.

وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: إِنَّ الْمُرَادَ هَنَا عِلْمُ الدِّينِ مُطْلَقًا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أُوتُوا الْكُتُبَ مِنْ وُجُوهٍ فَصَّلْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ فِي الِاخْتِلَافِ وَهِيَ (2: 213) وَفِي الْآيَةِ 19 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إِذْ جَعَلُوا الدَّوَاءَ عَيْنَ الدَّاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فَذْلَكَةُ هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي كَانَ ذِكْرُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ شَوَاهِدَ فِيهِ، وَهِيَ تَقْرِيرُ صِدْقِ الْقُرْآنِ فِي دَعْوَتِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَكَوْنِهِ لَا مَجَالَ لِلِامْتِرَاءِ فِيهِ، وَبَيَانِ الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَتَوْجِيهِ الِاعْتِبَارِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ مَقْرُونًا بِالْإِنْذَارِ، بِأُسْلُوبِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلَطُّفِ فِي الْعِبَارَةِ، عَلَى حَدِّ: إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) أَيْ فَإِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي

شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا فِي هَذِهِ الشَّوَاهِدِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّذِي ذُكِرَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيرِ الشَّكِّ فِي الشَّيْءِ

ص: 391

لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي احْتِمَالَ وُقُوعِهِ أَوْ ثُبُوتِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا، كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ لِابْنِهِ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَكُنْ شُجَاعًا أَوْ فَلَا تَكُنْ بَخِيلًا، أَوْ فَإِنَّكَ سَتَكُونُ أَوْ سَتَفْعَلُ كَذَا - بَلْ يَفْرِضُونَ سُؤَالَ الدِّيَارِ وَالْأَطْلَالِ أَيْضًا مِنْهُ قَوْلُ الْمَسِيحِ فِي جَوَابِ سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) (5: 116) وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مَحِلُّ الشَّاهِدِ، فَهُوَ عليه السلام يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَفْرِضُهُ لِيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَهُ لَعَلِمَهُ اللهُ مِنْهُ.

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجْرِي عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَيُشَكِّكُ تِلْمِيذَهُ أَوْ مُنَاظِرَهُ فِيمَا لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُمَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ حُكْمًا آخَرَ. وَيَجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِـ ((إِنِ)) الَّتِي وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ أَوْ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَقَعُ، دُونَ ((إِذَا)) الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي فِعْلِ شَرْطِهَا الْوُقُوعُ (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَشُكَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَسْأَلْ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَاهُ فَهْمًا لُغَوِيًّا، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ خَبَرًا قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ)) وَلَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُهُ، أَيْ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ حَقٌّ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ سُؤَالُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَالْآيَةُ بَلِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ كَوْنَ السُّؤَالِ مَفْرُوضًا فَرْضًا قَوْلُهُ:(لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْقَسَمِ مِنْ رَبِّهِ، تَجْتَثُّ احْتِمَالَ إِرَادَةِ الشَّكِّ وَالسُّؤَالِ بِالْفِعْلِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَزِيدُهَا تَأْكِيدًا قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أَيْ مِنْ فَرِيقِ

الشَّاكِّينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى السُّؤَالِ، وَهَذَا النَّهْيُ وَالَّذِي بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ فَرْضَ وُقُوعِ الشَّكِّ وَالسُّؤَالِ فِيمَا قَبْلَهُمَا عَنْهُ تَعْرِيضٌ بِالشَّاكِّينَ الْمُمْتَرِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْمِهِ.

(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالِمِينَ، وَأَنَّ الْمُمْتَرِينَ الشَّاكِّينَ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ كَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتٍ بِهَا، وَمَا لَهُ مِنْ رِبْحِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْمُؤْتَمَرِ الْمُنْتَهِي وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(34: 24، 25)

ص: 392

وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُوقِعٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي اسْتِمَالَةِ الْكَافِرِينَ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَضْمُونِ الدَّعْوَةِ.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ إِنَّ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ الدَّالَّةُ عَلَى سُنَّتِهِ فِيمَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِاهْتِدَاءِ، (لَا يُؤْمِنُونَ) لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَإِحَاطَةِ خَطَايَاهُمْ وَجَهَالَاتِهِمْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(لَا يُؤْمِنُونَ) لَا أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْعًا خَلْقِيًّا قَهْرِيًّا لَا كَسْبَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ. وَهَذَا بِمَعْنَى الْآيَةِ 33 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا.

(وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَآيَاتِ مُوسَى الَّتِي اقْتَرَحُوهَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَالْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ كَآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ بِإِعْجَازِهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَعَلَى حَقِّيَّةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَتُنْذِرُهُمْ إِيَّاهُ (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَذُوقُوهُ بِوُقُوعِهِ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ إِيمَانُهُمُ اضْطِرَارِيًّا لَا يُعَدُّ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِمْ،

وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ، بَلْ يُقَالُ لَهُمْ:(آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(51) كَمَا قِيلَ لِفِرْعَوْنَ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(91) .

(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةً آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ تَفْرِيعٌ عَلَى اللَّوَاتِي قَبْلَهُنَّ، وَتَكْمِيلٌ لَهُنَّ فِي بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَفِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُسْتَعِدِّينَ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَفِي تَعَلُّقِ مَشِيئَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَفْعَالِهِ وَأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَوُقُوعِهَا عَلَى وَفْقِهِمَا.

(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) لَوْلَا هَذِهِ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ،

ص: 393

وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا وَهُمْ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ بُعِثُوا فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ دُونَ الْبَادِيَةِ، أَيْ فَهَلَّا كَانَ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَقْوَامِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ آمَنَتْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمٌ مِنْهُمْ بَرُمَّتِهِمْ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ يَسْتَلْزِمُ الْجَحْدَ (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَكَانُوا عَلِمُوا بِقُرْبِهِ مِنْ خُرُوجِ نَبِيِّهِمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَلَامَاتِهِ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ صَرَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ نَبِيَّهُمْ خَرَجَ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَلَمْ تَتِمَّ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِذَهَابِهِ مُغَاضِبًا لَهُمْ عَلَى قُرْبِ وُقُوعِ الْعَذَابِ

كَمَا أَنْذَرَهُمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا فَكَشَفْنَاهُ عَنْهُمْ (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَمَتَّعْنَاهُمْ بِمَنَافِعِهَا إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ هُوَ عُمْرُهُمُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي يَعِيشُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْدَادِ بِنْيَتِهِ وَمَعِيشَتِهِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَجَلِ الَّذِي يُسَمَّى الطَّبِيعِيَّ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)(6: 2) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا مَحَلَّ لِلْبَحْثِ عَنْ تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ شَهَادَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْإِيمَانِ النَّافِعِ ظَاهِرَةٌ فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ، صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَابِقِ كُفْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُجَزَوْنَ بِغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ.

هَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَتِهَا، وَالْمُوَافِقُ لِلسِّيَاقِ وَلِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِنْذَارُهُمْ، وَحَضٌّ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَقَوْمِ يُونُسَ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الْخِزْيِ بِعِنَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا أَنْذَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ قُرْبَ وُقُوعِهِ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمُ اعْتَبَرُوا وَآمَنُوا قَبْلَ الْيَأْسِ، وَحُلُولِ الْبَأْسِ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى مَا ثَبَتَ مِنْ خَبَرِهِ عليه السلام فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي جُمْلَتِهِ لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) أَيْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ - أَنْ يُؤْمِنَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا لَا يَشِذُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَآمَنُوا، بِأَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ إِلْجَاءً، وَيُوجِرَهُ فِي قُلُوبِهِمْ إِيجَارًا، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ كَالْمَلَائِكَةِ لَا اسْتِعْدَادَ فِي فِطْرَتِهِمْ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا)(6: 107) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)(11: 118) وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللهُ أَلَّا يَخْلُقَ هَذَا النَّوْعَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْسَانِ الْمُسْتَعِدِّ بِفِطْرَتِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، الَّذِي يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الْمُسْتَطَاعَةِ لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَيُخَالِفُهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، لَفَعَلَ ذَلِكَ وَلَمَا وُجِدَ الْإِنْسَانُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يَخْلُقَ هَذَا

ص: 394

النَّوْعَ الْعَجِيبَ

وَيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، هَكَذَا خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ، مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ:(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَلَا مِنْ وَظَائِفِ الرِّسَالَةِ الَّتِي بُعِثْتَ بِهَا أَنْتَ وَسَائِرُ الرُّسُلِ:(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)(42: 48)(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)(50: 45) وَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ بِالْإِكْرَاهِ أَيْ لَا يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ وَلَا يُسْتَطَاعُ، ثُمَّ نَزَلَ عِنْدَ التَّنْفِيذِ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2: 256) أَيْ لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ بِهِ، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِنَا سَبَبَ نُزُولِهَا، وَهُوَ عَزْمُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ أَوْلَادٍ لَهُمْ كَانُوا تَهَوَّدُوا مِنَ الْجَلَاءِ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْحِجَازِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُخَيِّرُوهُمْ وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، لَكِنَّ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ لَا يَسْتَحُونَ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ رَمْيُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُخَيِّرُونَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيْفِ يَقُطُّ رِقَابَهُمْ، عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ:((رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ)) .

(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ وَلَا مِنْ شَأْنِهَا فِيمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ اسْتِقْلَالِهَا فِي أَفْعَالِهَا، وَلَا مِمَّا أَعْطَاهَا اللهُ مِنَ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هَدَاهَا مِنَ النَّجْدَيْنِ، وَمَا أَلْهَمَهَا مِنْ فُجُورِهَا وَتَقْوَاهَا الْفِطْرِيَّيْنِ، أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللهِ وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي اسْتِطَاعَةِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَهِيَ مُخْتَارَةٌ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي اخْتِيَارِهِمْ أَتَمَّ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مُقَيَّدَةٌ بِنِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ اسْتِطَاعَةُ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا النِّظَامِ الْعَامِّ، لَا الِاسْتِطَاعَةُ الْخَاصَّةُ الْمُوَافِقَةُ لَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(3: 145) أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْمَوْتِ شَهِيدًا أَوْ مُنْتَحِرًا بِمَا يَتَرَاءَى لَهُ مِنْ أَسْبَابِهِ، ثُمَّ لَا يَمُوتُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ لِمُعَارِضٍ مُنَافٍ فِي نِظَامِ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالرُّخْصَةِ فِي الْأَمْرِ أَيْ تَسْهِيلُهُ وَعَدَمُ الْمَانِعِ مِنْهُ.

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ دَلَالَةَ الضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ أَوِ النَّقِيضِ عَلَى النَّقِيضِ، أَيْ وَإِذْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ الَّتِي تَجْرِي بِقَدَرِهِ وَسُنَّتِهِ، فَهُوَ يَجْعَلُ الْإِذْنَ وَتَيْسِيرَ الْإِيمَانِ لِلَّذِينِ يَعْقِلُونَ آيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي خَلْقِهِ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الْأُمُورِ فَيَخْتَارُونَ خَيْرَ الْأَعْمَالِ عَلَى شَرِّهَا، وَيُرَجِّحُونَ نَفْعَهَا عَلَى ضُرِّهَا بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أَيِ الْخِذْلَانَ وَالْخِزْيَ الْمُرَجِّحَ لِلْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، (عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فَهُمْ لِأَفَنِ رَأْيِهِمْ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، يَخْتَارُونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْفُجُورَ عَلَى التَّقْوَى، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي الْكَلَامِ

ص: 395

عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، أَنَّ الرِّجْسَ لَفْظٌ يُعَبِّرُ عَنْ أَقْبَحِ الْخُبْثِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ مَبْعَثُ الشَّرِّ وَالْإِثْمِ.

(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ إِرْشَادٌ لِلْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ مِمَّا قَبْلَهَا أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، أَنْ خَلَقَهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَهُ الِاخْتِيَارُ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْحَرِيصَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِهِمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَحْدَهُ وَلَا عَلَى الْكُفْرِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِمْ عَلَى حُسْنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَمَا الرَّسُولُ إِلَّا بَشِيرٌ

وَنَذِيرٌ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلْعَقْلِ الْمُسْتَنِيرِ، فَالدِّينُ مُسَاعِدٌ لِلْعَقْلِ عَلَى حُسْنِ الِاخْتِيَارِ إِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَالتَّفْكِيرَ، وَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِهِمَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى هُدَاهُمْ: انْظُرُوا بِعُيُونِ أَبْصَارِكُمْ وَبَصَائِرِكُمْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْبَيِّنَاتِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ وَالْعَجِيبِ فِي شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، وَكَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا، وَبُرُوجِهَا وَمَنَازِلِهَا، وَلَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَسَحَابِهَا وَمَطَرِهَا، وَهَوَائِهَا وَمَائِهَا، وَبِحَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَأَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا، وَأَنْوَاعِ حَيَوَانَاتِهَا الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُبْصِرُونَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَوَحْدَةُ النِّظَامِ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، ثُمَّ انْظُرُوا مَاذَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ:(وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)(51: 20 و21) إِنَّهُ يُرِيكُمْ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ النَّفْيُ وَالِاسْتِفْهَامُ، وَالنُّذُرُ فِيهَا جَمْعُ نَذِيرٍ أَوْ إِنْذَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَى ظُهُورِ دَلَالَتِهَا، وَالنُّذُرَ التَّشْرِيعِيَّةَ عَلَى بَلَاغَةِ حُجَّتِهَا، لَا فَائِدَةَ فِيهِمَا وَلَا غِنَى لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ

ص: 396

بِاللهِ عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالْآيَاتِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْمَلَ الدَّلَالَةِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَفَائِدَةُ الْإِيمَانِ الْأُولَى تَوْجِيهُ عَقْلِ الْإِنْسَانِ إِلَى حُسْنِ الْقَصْدِ فِي نَظَرِهِ فِي الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا فِيمَا يُزَكِّي نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَيَرْفَعُهَا عَنْ أَرْجَاسِ الْأُمُورِ وَسَفْسَافِهَا، وَبِهَذَا تَفْهَمُ مَعْنَى جَعْلِ الرِّجْسِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ لَا يَعْقِلُونَ الْمَجَانِينَ الْفَاقِدِينَ لِغَرِيزَةِ الْعَقْلِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْعَقْلَ فِي أَفْضَلِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، الَّتِي تَجْعَلُهُمْ أَهْلًا لِإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَكَرَامَتِهِ، بِالْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ وَقَائِعَهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ مِمَّا بَلَغَهُمْ مَبْدَؤُهُ وَغَايَتُهُ، أَيْ مَا ثَمَّ شَيْءٌ آخَرُ يُنْتَظَرُ (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ مُنْذِرًا وَمُهَدَّدًا: إِذًا فَانْتَظِرُوا مَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَتِكُمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ، عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا وَعَدَ اللهُ وَصَدَقَ وَعْدَهُ لِلْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ سَيَكُونُونَ كَمُعَانَدِيهِمْ مِنَ الْهَالِكِينَ.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) هَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أَعْجَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ فِي الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ ذِكْرُ شَيْءٍ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَمْرٍ عَامٍّ كَسُنَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تُسْتَنْبَطُ مِنْ قِصَّةٍ أَوْ قِصَصٍ وَاقِعَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِجُمْلَةٍ مَعْطُوفَةٍ لَا يَصِحُّ عَطْفُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْجُمَلِ، فَيَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ وُجُوبُ عَطْفِهَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَامِّ، بِحَرْفِ الْعَطْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ، بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَقْدِيرُهُ هُنَا: تِلْكَ سُنَّتُنَا فِي رُسُلِنَا مَعَ قَوْمِهِمْ: يُبَلِّغُونَهُمُ الدَّعْوَةَ، وَيُقِيمُونَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَيُنْذِرُونَهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيُصِرُّ الْآخَرُونَ، فَنُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ (كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْجَاءُ نُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَنُهْلِكُ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَعْدًا حَقًّا عَلَيْنَا لَا نُخْلِفُهُ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (17: 77) وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ كَمَا قَالَ.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (نُنَجِّي رُسُلَنَا) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْجِيَةِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِالتَّخْفِيفِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْجَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوِ التَّكْرَارِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ فِي الْأُولَى لِكَثْرَةِ الْأَقْوَامِ.

ص: 397

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ بَعْدَهَا خَتْمٌ لِلسُّورَةِ بِالنِّدَاءِ الْعَامِّ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، أَجْمَلَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا فِي خَاتِمَتِهَا، كَمَا فَصَّلَتْ فِي جُمْلَتِهَا، قَالَ تَعَالَى:(قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ دِينِيَ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ ثَبَاتِي وَاسْتِقَامَتِي عَلَيْهِ، وَتَرْجُونَ تَحْوِيلِي عَنْهُ (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أَيْ فَلَا أَعْبُدُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَحَدًا مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ غَيْرَ اللهِ، مَنْ مَلَكٍ أَوْ بَشَرٍ ; أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، مِمَّا اتَّخَذْتُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ (وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أَيْ يَقْبِضُكُمْ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فَيُحَاسِبُكُمْ وَيَجْزِيكُمْ، وَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ غَيْرُهُ هَذَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ:(إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وَشَرْطُهُ يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي شَكِّهِمْ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَا يَشُكُّ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَزَلَّ دِينَهُ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكُّوا فِيهِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَتَأَلُّقِ نُورِهِ، كَمَا بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى

عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (2: 23) الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا. وَوَصْفُ اللهِ بِتَوَفِّيهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لِتَذْكِيرِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا وَعَدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي أَرْضِهِ، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ.

ص: 398

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أَيْ أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنْ أُقِيمَ وَجْهِيَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ حَالَةَ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اخْتِيرَ هُنَا صِيغَةُ الطَّلَبِ وَفِيمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَةِ هَذَا الْأَمْرِ بِالْمَاضِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمَوْعُودِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ، وَالطَّلَبُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَتِهِ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، مِنْ دَعْوَةِ هَذَا الدِّينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَسَائِرِ النَّاسِ - وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعْرَابِ كَمَا حَقَّقَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ - وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ لِلدِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الرُّومِ (30 - 43) عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ، وَفِي مَعْنَاهُ:(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)(6: 79) وَمِثْلُهُ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 112) وَآلِ عِمْرَانَ (3: 20) وَالنِّسَاءِ (4: 125) وَإِسْلَامُهُ إِلَى اللهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ (31: 22) وَكَذَا تَوْجِيهُ الْوَجْهِ الْحِسِّيِّ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي آيَاتِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وِجْهَةُ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ تَوَجَّهَ قَلْبُهُ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَلَا سِيَّمَا مُخِّ الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا وَهُوَ الدُّعَاءُ) إِلَى غَيْرِ اللهِ فَهُوَ عَابِدٌ لَهُ مُشْرِكٌ بِاللهِ، وَأَكَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ:(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَصْحَابِ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ يُوَجِّهُونَ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ تُصِيبُهُمْ، وَالْحَاجَةِ الَّتِي تَسْتَعْصِي عَلَى كَسْبِهِمْ، وَوُجُوهَهُمْ وَجُمْلَتَهُمْ إِلَى صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ فِي هَيَاكِلِهِمْ، أَوْ قُبُورِهِمْ فِي مَعَابِدِهِمْ، وَيَدْعُونَهُمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا بِشَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى سَبَبِهِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّهْيِ عَنْ مَثَلِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ:

(وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ) أَيْ وَلَا تَدْعُ غَيْرَهُ تَعَالَى (دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ فِي طَلَبِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ) لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بِوَسَاطَةِ الشُّفَعَاءِ - مَا لَا يَنْفَعُكَ إِنْ دَعْوَتَهُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِوَسَاطَتِهِ، وَلَا يَضُرُّكَ إِنْ تَرَكْتَ دُعَاءَهُ وَلَا إِنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا بِأَنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ فَإِنَّكَ أَيُّهَا الْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ طَغَامَةِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمُ الظُّلْمَ الْأَكْبَرَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ دُعَاءُ اللهِ وَحْدَهُ هُوَ أَعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَمُخُّهَا - كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ - كَانَ دُعَاءُ غَيْرِهِ هُوَ مُعْظَمُ الشِّرْكِ وَمُخُّهُ، كَمَا كَرَّرْنَا التَّصْرِيحَ بِهِ بِتَكْرَارِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاهِيَةِ عَنْهُ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(218) وَقَوْلُهُ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ)(49) وَقَوْلُهُ قَبْلَهُمَا: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)(12)

ص: 399

وَقَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْفُلْكِ (السَّفِينَةِ) الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ إِحَاطَةِ الْخَطَرِ بِهِمْ: (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(22) .

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي السُّورِ، كُرِّرَتْ لِأَجْلِ انْتِزَاعِ هَذَا الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ مِنْ قُلُوبِ الْجُمْهُورِ الْأَكْبَرِ، وَقَدِ انْتُزِعَ مِنْ قُلُوبِ الَّذِينَ أَخَذُوا دِينَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ جُلَّ عِبَادَتِهِمْ تَكْرَارُ تِلَاوَتِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ثُمَّ عَادَ بِقَضِّهِ وَقَضِيضِهِ إِلَى الَّذِينَ هَجَرُوا تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَهُمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُعَاشِرِينَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْخُرَافِيَّيْنِ الْأُمِّيَّيْنِ، الْجَاهِلِينَ، وَأَكْثَرُ الْقَارِئِينَ مِنْهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ يَأْخُذُونَهَا مِنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ مُتَأَخَّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَدَلِيَّةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْخُرَافِيَّةِ، وَلَا يَكَادُ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ يَخْلُو مِنْ قَبْرٍ مُشْرِفٍ مَشِيدٍ، تُوقَدُ عَلَيْهِ السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ، وَقَدْ لَعَنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَاعِلِيهَا، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ، يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ يُقِيمُونَ فِيهَا، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِالْهَدَايَا وَالنُّذُورِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَبِعَرَائِضِ

الِاسْتِغَاثَةِ وَالدُّعَاءِ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، لِيَكْشِفُوا عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَهَبُوا لَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنَ النَّفْعِ، وَمِنْ أَمَامِهِمْ وَوَرَائِهِمْ عَمَائِمُ مُكَوَّرَةٌ، وَلِحًى طَوِيلَةٌ أَوْ مُقَصَّرَةٌ، يُسَمُّونَ شِرْكَهُمُ الْأَكْبَرَ تَوَسُّلًا، وَاسْتِغَاثَتَهُمُ اسْتِشْفَاعًا، وَنُذُورَهُمْ لِغَيْرِ اللهِ صَدَقَاتٍ مَشْرُوعَةً، وَطَوَافَهُمْ بِالْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ زِيَارَاتٍ مَقْبُولَةً، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ، بَلْ يُحَرِّفُونَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنُّذُورِ لِلْأَوْثَانِ، وَالتَّعْظِيمِ لِلصُّلْبَانِ، كَأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللهِ جَائِزٌ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنَ الْبَلَاءِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِمِصْرَ أَنْ أَصْدَرَتْ لَهُمْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً دِينِيَّةً، تُفْتِيهِمْ بِشَرْعِيَّةِ كُلِّ هَذِهِ الْبِدَعِ الشَّرِكِيَّةِ الْقُبُورِيَّةِ، سَمَّتْهَا (نُورَ الْإِسْلَامِ) وَأَلَّفَ لَهُمْ أَحَدُ خُطَبَاءِ الْفِتْنَةِ كِتَابًا فِي هَذَا وَاطَأَهُ عَلَيْهِ وَأَمْضَاهُ لَهُ سَبْعُونَ عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ بِزَعْمِهِ، بَلْ طَبَعَ فِي طُرَّتِهِ خَوَاتِمَ بَعْضِهِمْ وَتَوَاقِيعَ آخَرِينَ مِنْهُمْ بِخُطُوطِهِمْ وَذَكَرَ جَمِيعَ أَسْمَائِهِمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَبِهِ وَحْدُهُ الْمُسْتَعَانُ لِإِنْقَاذِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى نَفْعِ هَذَا الدُّعَاءِ لِغَيْرِ اللهِ بِالتَّجَارِبِ، كَمَا يَحْتَجُّ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ وَالنَّصَارَى، فَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ:

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا دَاحِضَةٌ لِشُبْهَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ بِأَنَّهُمْ طَالَمَا اسْتَفَادُوا مِنْ دُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فَشُفِيَتْ أَمْرَاضُهُمْ، وَكُبِتَتْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَكُشِفَ الضُّرُّ عَنْهُمْ، وَأُسْدِيَ الْخَيْرُ إِلَيْهِمْ، يَقُولُ تَعَالَى لِكُلِّ مُخَاطَبٍ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ الْإِسْلَامِ، بِكَلَامِ اللهِ وَتَبْلِيغِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ:(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ)

ص: 400

أَيُّهَا الْإِنْسَانُ (بِضُرٍّ) كَمَرَضٍ يُصِيبُكَ بِمُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ، أَوْ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثَّمَرَاتِ بِأَسْبَابِهِ لَكَ فِيهِ عِبْرَةٌ، أَوْ ظُلْمٍ يَقَعُ عَلَيْكَ مِنَ الْحُكَّامِ الْمُسْتَبِدِّينَ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْمُعْتَدِينَ (فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) وَقَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يَعْرِفُهُ خَلْقُهُ بِتَجَارِبِهِمْ، كَكَشْفِ الْأَمْرَاضِ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، وَخَوَاصِّ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي تُدَاوَى بِهَا، وَتَجَارِبِ الْأَعْمَالِ الْجِرَاحِيَّةِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا أَهْلُهَا، فَعَلَيْكَ أَنْ تَطْلُبَهَا مِنْ أَسْبَابِهَا، وَتَكِلَ أَعْمَالَهَا إِلَى أَرْبَابِهَا، وَتَأْتِيَ سَائِرَ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا، مَعَ الْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ لِمُسَخِّرِهَا، فَإِنْ جَهِلْتَ الْأَسْبَابَ أَوْ أَعْيَاكَ أَمْرُهَا، فَتَوَجَّهْ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَادْعُهُ مُخْلِصًا لَهُ

الدِّينَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، يُسَخِّرْ لَكَ مَا شَاءَ أَوْ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ يَشْفِكَ مِنْ مَرَضِكَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ، كَمَا ضَرَبَ لَكَ الْأَمْثَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كِتَابِهِ (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) يَهَبْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ لَكَ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا سَعْيٍ مِنْكَ، (فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أَيْ فَلَا أَحَدَ وَلَا شَيْءَ يَرُدُّ فَضْلَهُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ حَتْمًا، فَلَا تَرْجُ الْخَيْرَ وَالنَّفْعَ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا تَخَفْ رَدَّ مَا يُرِيدُهُ لَكَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يُصِيبُ بِالْخَيْرِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِكَسْبٍ وَبِغَيْرِ كَسْبٍ وَبِسَبَبٍ مِمَّا قَدَّرَهُ فِي السُّنَنِ الْعَامَّةِ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، فَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ عَامٌّ بِعُمُومِ رَحْمَتِهِ، بِخِلَافِ الضُّرِّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، أَوِ الْعَامَّةِ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ، فَالْأَوَّلُ مَعْلُومٌ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تَعْرِضُ بِتَرْكِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْوِقَايَةِ جَهْلًا أَوْ تَقْصِيرًا، وَفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسُقُوطِ الدُّوَلِ الَّذِي يَقَعُ بِتَرْكِ الْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ، وَالثَّانِي كَالضَّرَرِ الَّذِي يَعْرِضُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، وَطُغْيَانِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَزَلَازِلِ الْأَرْضِ وَصَوَاعِقِ السَّمَاءِ (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وَلَوْلَا مَغْفِرَتُهُ الْوَاسِعَةُ وَرَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ لَأَهْلَكَ جَمِيعَ النَّاسِ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (42: 30) (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)(35: 45) .

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) .

ص: 401

هَذَا النِّدَاءُ خَاتِمَةُ الْبَلَاغِ لِلنَّاسِ كَافَّةً، بِمُقْتَضَى بِعْثَةِ الرَّسُولِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا فُصِّلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَسَائِرِ السُّوَرِ الْمُبَارَكَةِ.

(قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ فَسَمِعَ هَذِهِ الدَّعْوَةَ مِنْكَ، وَمَنْ سَتَبْلُغُهُ عَنْكَ: قَدْ

جَاءَكُمُ الْحَقُّ الْمُبَيِّنُ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ مِنْ رَبِّكُمْ، بِوَحْيِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَهُوَ الَّذِي افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مَجْهُولًا خَفِيًّا عَنْكُمْ، بِمَا جَهِلَ بَعْضُكُمْ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ الْأَقْدَمِينَ، وَمَا حَرَّفَ بَعْضُكُمْ وَجَهِلَ وَبَدَّلَ وَتَأَوَّلَ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَفَصَّلَهُ لَكُمْ هَذَا الْكِتَابُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أَيْ فَمَنِ اهْتَدَى بِمَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، فَإِنَّمَا فَائِدَةُ اهْتِدَائِهِ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِ السَّعَادَةَ فِي دُنْيَاهُ وَدِينِهِ، دُونَ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَلَا فِدَائِهِ وَلَا تَأْثِيرِهِ (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) أَيْ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ هَذَا الْحَقِّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ آيَاتِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَحُجَجِهِ فِيهِ بِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ضَلَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَفُوتُهُ مِنْ فَوَائِدِ الِاهْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِ وَجَرَائِمِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أَيْ وَمَا أَنَا بِمُوَكَّلٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِأُمُورِكُمْ، وَلَا مُسَيْطِرٍ عَلَيْكُمْ فَأُكْرِهَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَمْنَعَكُمْ بِقُوَّتِي مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَيْسَ عَلَيَّ هُدَاكُمْ، وَلَا أَمَلِكُ نَفْعَكُمْ وَلَا ضَرَّكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ لِمَنِ اهْتَدَى، وَنَذِيرٌ لِمَنْ ضَلَّ وَغَوَى، وَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ.

(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) فِي هَذَا الْقُرْآنِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَعْلِيمًا (وَاصْبِرْ) كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى مَا يُصِيبُكَ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللهِ، وَالْجِهَادِ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَيُنْجِزَ لَكَ مَا وَعَدَكَ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ كُلُّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ حُكْمٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَحْكُمُ بِالْبَاطِلِ لِجَهْلِهِ الْحَقَّ أَوْ لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَدِ امْتَثَلَ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ رَبِّهِ، وَصَبَرَ حَتَّى حَكَمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ لِهَذَا الدِّينِ، فَجَزَاهُ اللهُ عَنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ قَوْمِهِ، وَجَعَلَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِ، وَسُنَّتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِرْشَادًا وَتَعْلِيمًا، وَصَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

(تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ يُونُسَ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ تَفْصِيلًا)

وَيَلِيهِ بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْقَوَاعِدِ إِجْمَالًا

ص: 402

الْخُلَاصَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ لِسُورَةِ يُونُسَ عليه السلام

وَفِيهَا سِتَّةُ أَبْوَابٍ

(جَمِيعُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أُصُولِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ يُنْكِرُهَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَهِيَ: تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى، وَالْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ، وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الثَّلَاثَ وَيَمُدُّهَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَآيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَشُئُونُ الْبَشَرِ فِي صِفَاتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَمُحَاجَّةُ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سِيَّمَا هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَالْعِبْرَةُ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، فَهِيَ كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ إِلَّا أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْهَا وَمِنْ سَائِرِ السُّوَرِ إِثْبَاتًا لِلْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَتَحَدِّيًا بِالْقُرْآنِ وَبَيَانًا لِإِعْجَازِهِ وَحَقِّيَّتِهِ وَصِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ أَوِ الْعَقَائِدُ مُكَرَّرَةٌ فِيهَا بِالْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ، وَالنَّظْمِ الْبَلِيغِ، بِحَيْثُ يَحْدُثُ فِي نَفْسِ سَامِعِهَا وَقَارِئِهَا أَرْوَعُ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرِيرِ، وَإِنَّنِي أُوجِزُ فِي تَلْخِيصِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي أَبْوَابِهَا ; لِمَا سَبَقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْ بَسْطِهَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ مِنْ تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَسَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي امْتَازَتْ بِهَا عَلَى سَائِرِ السُّوَرِ) .

الْبَابُ الْأَوَّلُ

(فِي تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَصِفَاتِ عَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ، وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِيهِمْ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَعِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَوْهَامِهِمْ، وَفِي آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ كُلِّهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ)

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ)

أَجْمَعُ الْآيَاتِ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، الَّتِي خَاطَبَتِ النَّاسَ بِأَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَطْوَارًا فِي سِتَّةِ أَيَّامِ أَيْ أَزْمِنَةً، تَمَّ فِيهَا خَلْقُهَا وَتَكْوِينُهَا فَكَانَتْ مُلْكًا عَظِيمًا، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِ هَذَا الْمُلْكِ الِاسْتِوَاءَ اللَّائِقَ بِهِ، الدَّالَّ عَلَى عُلُوِّهِ الْمُطْلَقِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِهِ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَتَدْبِيرِ

الْأَمْرِ فِيهِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا شَرِيكٍ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ، مَا مِنْ شَفِيعٍ عِنْدَهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْأَمْرُ، وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ.

بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ تَعَالَى مُحْتَجًّا بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) 3 أَيْ فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ بِطَلَبِ شَفَاعَةٍ وَلَا دُعَاءٍ

ص: 403

وَلَا مَا دُونَهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ ; إِذْ لَا رَبَّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْعِبَادَةُ لِرَبِّ الْعِبَادِ دُونَ غَيْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِمَا فِي الْآيَاتِ 3 - 6 مِنَ الْآيَاتِ (الدَّلَائِلِ) الْكَوْنِيَّةِ.

ثُمَّ عَادَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَاصَّةُ فِي الْآيَةِ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(18) وَدَحَضَ هَذَا الْقَوْلَ مُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الشِّرْكِ.

ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ هَذَا بِمَا فِي الْآيَتَيْنِ 22 و23 مِنْ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالتَّجْرِبَةِ ; لِوُقُوعِهِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وَعَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ، وَهَاجَ بِهِمُ الْبَحْرُ وَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيَنْسَوْنَ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَطَرِ مَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ.

ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْآيَاتِ 31 - 36 وَإِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ فِي الْآيَةِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ)(49) .

ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ 55 أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ، مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَالْخَرَصَ.

ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَتَيْنِ 71 و85 أَنَّ كَمَالَ التَّوْحِيدِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ.

وَمِنْ شُئُونِ الرَّبِّ وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ 15 وَالْآيَةِ 109 أَنَّ الرَّسُولَ مُتَّبِعٌ لِمَا يُوحَى إِلَيْهِ عَمَلًا وَتَبْلِيغًا، لَا مُشَرِّعٌ مُسْتَقِلٌّ فِيهِ وَلَا مُتَحَوِّلٌ عَنْهُ.

وَفِي الْآيَتَيْنِ 59 و60 أَنَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ أَنْ يُحَرِّمَهُ عَلَيْهِمْ لِذَاتِهِ تَحْرِيمًا دِينِيًّا. وَأَنَّ مَنْ تَحَكَّمَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى حَقِّهِ تَعَالَى مُفْتَرٍ عَلَيْهِ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِ الذَّاتِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْعِزَّةِ وَالرَّحْمَةِ)

أَمَّا الْعِلْمُ فَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ)(61) إِلَخْ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَأَمَّلْ عَجَائِبَ بَلَاغَتِهَا، وَإِحَاطَتَهَا بِعَظَائِمِ الْأُمُورِ وَصَغَائِرِهَا، وَظَوَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَخَفَايَاهَا، وَذَرَّاتِ الْوُجُودِ قَرِيبِهَا وَبَعِيدِهَا جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، وَمَا تُدْرِكُهُ الْمَشَاعِرُ وَمَا لَا تُدْرِكُهُ مِنْ خَلَايَا مَرْكَبَاتِهَا وَدَقَائِقِ بَسَائِطِهَا. وَتَدَبَّرْ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِهَا كُلِّهَا، وَكِتَابَتَهُ لَهَا مِنْ قَبْلِ إِيجَادِهَا، وَشُهُودَهُ إِيَّاكَ فِي كُلِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنْهَا، تَجِدْهُ رَافِعًا لَكَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ.

ص: 404

ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ غَيْرَهُ بِمَا يَرْجُونَ مِنْ نَفْعِهِمْ لَهُمْ، وَكَشْفِهِمُ الضُّرَّ عَنْهُمْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ تَعَالَى مِنَ الْآيَةِ:(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)(18) تَعْلَمْ مِقْدَارَ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، بِمَا يَقُولُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، مِنْ تَصْغِيرِ أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالتَّوَجُّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ عَيْنُ الشِّرْكِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَأَمَّا صِفَةُ الْمَشِيئَةِ فَتَأَمَّلْ فِيهَا أَمْرَهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ فِي الْآيَةِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ)(16) إِلَخْ. وَفِي الْآيَةِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ)(49) تَعْلَمْ مِنْهُ قَدْرَ إِيمَانِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَشِيئَةِ رَبِّهِ عز وجل، ثُمَّ انْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى لَهُ:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)(99) تَعْلَمْ مِنْهُ كَيْفَ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مُخْتَلِفِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشِيئَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ لِأَعْظَمِهِمْ قَدْرًا وَفَضْلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ:(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(100) وَهُوَ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا مَشِيئَتُهُ فِي اخْتِيَارِهِمْ لِكُلٍّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمَا يَسْتَلْزِمَانِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْأَسْبَابِ الْمُقَيَّدَةِ بِسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ:(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)(107) الْآيَةَ: فَلَا يَقْدِرُ الْأَوْلِيَاءُ وَمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الشُّفَعَاءَ عَلَى النَّفْعِ وَلَا عَلَى الضُّرِّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِمَا الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَاضِعُ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ وَحْدَهُ،

وَالْمُرَادُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ سَدُّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ وَإِعْتَاقُ الْبَشَرِ مِنْ رِقِّهِ، بِاعْتِمَادِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى مَا وَهَبَهُمْ مِنَ الْقُوَى، وَطَلَبُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِهِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لَهُمْ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي تَسْخِيرِ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ نَرَى مَنْ سَرَتْ إِلَيْهِمْ عَدْوَى الْوَثَنِيَّةِ مِنْ أَهْلِهَا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ الْمُعْتَقَدِينَ فِيمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِكَسْبِهِمْ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمْ أَيْضًا. وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ قُدْرَتَهُمْ أَوْ قُدْرَةَ أَمْثَالِهِمْ كَالْأَطِبَّاءِ عَلَيْهِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مُعْتَقَدِيهِمُ - الْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْكَوْنِ بِزَعْمِهِمْ - أَقْرَبُ مَنَالًا، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مُكَرَّرًا اتِّبَاعًا لِكِتَابِهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا صِفَةُ الْعِزَّةِ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرٌ لَهَا إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(65) وَمَعْنَاهَا الْمَنَعَةُ وَالْقُوَّةُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يَغْلِبَ صَاحِبُهَا وَلَا يُغْلَبَ عَلَى أَمْرِهِ، وَيَنَالَ خَصْمُهُ مِنْهُ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْتَزُّونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ تُجَاهَ قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، فَيَطْعَنُونَ فِي الرَّسُولِ وَفِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَيُحْزِنُهُ صلى الله عليه وسلم مَا يَقُولُونَ، فَنَهَاهُ عز وجل عَنْ هَذَا الْحُزْنِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعِزَّةَ الْحَقَّ هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ كَتَبَهَا لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا

ص: 405

بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ السَّمْعَ وَالْعِلْمَ ; لِتَذْكِيرِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَمْعِهِ تَعَالَى لِأَقْوَالِهِمْ، كَإِحَاطَتِهِ عِلْمًا بِأَعْمَالِهِمْ، فَهُوَ قَدِيرٌ عَلَى إِعْزَازِهِ وَإِذْلَالِهِمْ.

وَأَمَّا صِفَةُ الرَّحْمَةِ فَقَدْ جَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِالْمَغْفِرَةِ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ 107 النَّاطِقَةِ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَذُكِرَتِ الرَّحْمَةُ بِآثَارِهَا وَمُتَعَلَّقَاتِهَا فِي الرِّزْقِ مِنَ الْآيَةِ 21. وَفِي خَصَائِصِ الْقُرْآنِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْآيَةِ 57 وَفِيمَا يَعُمُّهُمَا مِنَ الْآيَةِ 58 وَفِي التَّنْبِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَحُكْمِ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ 86 فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَعُمَّنَا بِأَنْوَاعِ رَحْمَتِهِ كُلِّهَا وَيَجْعَلَنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي تَقْدِيسِهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ وَغِنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ)

نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَوَاضِعَ: (أَوَّلُهَا) أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شُفَعَاءُ يَنْفَعُونَ مَنْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، فَيَكُونَ لِتَأْثِيرِهِمْ شِرْكٌ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى.

وَهَذِهِ شُبْهَةُ شِرْكِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ فَشَا فِي أَكْثَرِ النَّصَارَى وَكَذَا جُهَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ تَكْرَارًا، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ 18:(سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .

وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الشِّرْكِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ)(68) الْآيَةَ.

وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْآيَاتِ 44 و47 و52 و54.

(الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرِّزْقِ)

وَنُجْمِلُهَا فِي عِشْرِينَ مَسْأَلَةً

(1)

خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، أَيْ أَزْمِنَةٍ يُحَدِّدُ كُلًّا مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِ التَّكْوِينِ.

(2)

اسْتِوَاؤُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْخَلْقِ عَلَى عَرْشِهِ يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ لِلْعَالَمِ فِي جُمْلَتِهِ عَرْشًا هُوَ مَرْكَزُ التَّدْبِيرِ وَالنِّظَامِ الْعَامِّ لَهُ. (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فِي بَيَانِهِمَا وَمَا نُحِيلُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَاهُمَا) .

(3)

بَدْءُ الْخَلْقِ ثُمَّ إِعَادَتُهُ فِي الْآيَتَيْنِ 4 و34.

(4 - 6) جَعْلُ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرُهُ مَنَازِلِ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ.

ص: 406

(7)

اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ، وَبَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ 67.

(8)

مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي زِينَتِهَا وَغُرُورِ النَّاسِ بِهَا وَزَوَالِهَا فِي الْآيَةِ 24.

(9)

إِنْزَالُ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي الْآيَتَيْنِ 31 و59.

(10)

مِلْكُ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ فِي 31 أَيْضًا.

(11)

إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فِيهَا (31) .

(12)

تَدْبِيرُ أَمْرِ الْخَلْقِ فِي الْآيَتَيْنِ 3 و31.

(13)

كَوْنُ خَلْقِهِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ضِيَاءً وَنُورًا وَحُسْبَانًا بِالْحَقِّ لَا عَبَثًا، فِي الْآيَةِ 5.

(14)

هِدَايَتُهُ تَعَالَى إِلَى الْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ فِي الْآيَتَيْنِ 35 و36، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فِي 32، وَأَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فِي 82.

(15)

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ 55.

(16)

لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ 66.

(17)

الْأَمْرُ بِنَظَرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ 101.

(18)

سُرْعَةُ مَكْرِهِ تَعَالَى مِنْ إِحْبَاطِ مَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَالْإِمْلَاءُ لِلظَّالِمِينَ، فِي الْآيَةِ 21.

(19 و20) تَسْيِيرُهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ بَعْدَ الْيَأْسِ فِي الْآيَتَيْنِ 22، 33.

فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالْمُرْشِدَةُ إِلَى النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، تَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ هَذَا الدِّينِ بِالْعِلْمِ بِكُلِّ مَا خَلَقَ اللهُ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ، لِيَزْدَادُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ عِلْمًا بِدُنْيَاهُمْ، وَعِرْفَانًا وَإِيمَانًا بِرَبِّهِمْ، كُلَّمَا رَتَّلُوا كِتَابَهُ، وَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ:(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (38: 29) فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خِيَارِهِمْ وَأَبْرَارِهِمْ.

الْبَابُ الثَّانِي

فِي الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ

الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فَتَحْنَا لَهُ بَابًا خَاصًّا وَلَمْ نَذْكُرْهُ فِي صِفَاتِهِ عز وجل مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ، بَلْ مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهِ كِتَابًا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ. وَعَقِيدَةُ الْإِيمَانِ بِكُتُبِهِ تَعَالَى فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَنُلَخِّصُ مَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي عَشْرِ مَسَائِلَ.

ص: 407

(1)

افْتَتَحَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى كِتَابِهِ الْحَكِيمِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَثَنَّى فِي الَّتِي تَلِيهَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ مِنْ وَحْيِهِ إِلَى بَشَرٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لَهُمْ نَذِيرًا وَبَشِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَائِلَ هَذَا الْوَحْيِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ وَحْيٌ فَاضَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

وَعَقْلِهِ الْبَاطِنِ عَلَى لِسَانِهِ بِإِسْهَابٍ وَإِطْنَابٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا مُسْتَنْبَطًا مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعَالَمِ، فَنُشِيرُ إِلَى مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُ بِالْإِيجَازِ.

(2)

فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْهَا اقْتِرَاحُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ تَبْدِيلِهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ (وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ) .

(3 و4) فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا بَلَّغَهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، فَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يَتْلُوَهُ عَلَيْهِمْ لَمَا تَلَاهُ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يُدْرِيَهُمْ وَلَا يُعْلِمَهُمْ بِهِ لَمَا أَدْرَاهُمْ: فَهُوَ الَّذِي أَقْرَأَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(96: 1) وَ (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)(87: 6) وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمًا (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)(4: 113) وَ (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)(42: 52) إِلَخْ.

(5)

أَنَّهُ أَيَّدَ هَذَا بِالْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ لَبِثَ فِيهِمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ سِنُّ الْإِدْرَاكِ وَالصِّبَا فَالشَّبَابِ حَتَّى بَلَغَ أُشَدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَقْرَأُ وَلَا يُقْرِئُ، وَلَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يُعَلِّمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا (أَيِ الْآيَةِ 16) أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ حُكَمَاءِ التَّارِيخِ بِالتَّجَارِبِ وَالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَعَارِفِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، إِنَّمَا يَظْهَرَانِ وَيَبْلُغَانِ أَوْجَ قُوَّتِهِمَا مِنَ النَّشْأَةِ الْأُولَى إِلَى مُنْتَصَفِ الْعُشْرِ الثَّالِثِ مِنَ الْعُمُرِ، وَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ إِلَّا التَّمْحِيصُ وَالتَّكْمِيلُ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عِلْمٌ وَلَا بَيَانٌ وَلَا عَمَلٌ إِصْلَاحِيٌّ عَامٌّ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ إِلَّا بِهَذَا الْوَحْيِ الَّذِي فُوجِئَ بِهِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ،

وَيَلِيهَا فِي الْآيَةِ 17 أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا بِآيَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ لَا يُفْلِحُونَ، فَهَلْ يَرْتَكِبُ هَذَا الظُّلْمَ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا؟ وَلِمَاذَا يَرْتَكِبُهُ وَقَدْ عَرَفَ قُبْحَهُ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ نَشَأَ عَلَى الْتِزَامِ الصِّدْقِ صَغِيرًا، وَاشْتُهِرَ بِهِ وَبِالْوَفَاءِ عِنْدَ الْمُعَاشِرِينَ، حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ؟ .

(6)

فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّلَاثِينَ حِكَايَةٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)

وَأَمْرُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ بِتَحَدِّيهِمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَدَعْوَةِ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ

ص: 408

بِعِلْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِلَّا كَانُوا كَاذِبِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ افْتَرَاهُ ; إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَفْتَرِيَ الْإِنْسَانُ مَا هُوَ عَاجِزٌ كَغَيْرِهِ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَعْنَى التَّحَدِّي وَالْعَجْزِ، وَمَوْضُوعَ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ قِصَارُ السُّوَرِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا؟ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا تَجِدْ فِيهِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ) .

(7 و8) فِي الْآيَةِ 39 ذَكَرَ إِضْرَابَهُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ، إِلَى التَّكْذِيبِ الْمُقَيَّدِ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَفِي الْآيَةِ 40 كَوْنُهُمْ فَرِيقَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأُولَى مِنْهُمَا تَحْقِيقُ مَعْنَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَخَطَأُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ فِي فَهْمِ التَّأْوِيلِ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ، حَاشَ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ.

(9)

فِي الْآيَةِ 57 بَيَانُ أَنْوَاعِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ وَإِصْلَاحِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) .

(10)

فِي الْآيَتَيْنِ 108 و109 وَهُمَا خَاتِمَةُ السُّورَةِ خُلَاصَةُ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَمَوْضُوعُ الْأُولَى فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُمْ مُخْتَارُونَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالضَّلَالِ عَنْهُ، وَمَوْضُوعُ الثَّانِيَةِ أَمْرُ الرَّسُولِ بِاتِّبَاعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ تَبْلِيغًا وَعَمَلًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ.

الْبَابُ الثَّالِثُ

فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَفِيهِ فَصْلَانِ

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ)

(1)

فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ إِثْبَاتُ وَحْيِ الرِّسَالَةِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ رِجَالٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّ وَظِيفَتَهُمُ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ رُسُلًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يُسَمُّونَ آيَاتِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ سِحْرًا وَيُسَمُّونَهُ سَاحِرًا.

(2)

فِي الْآيَةِ 13 أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَهْلَكَ الْقُرُونَ (الْأُمَمَ) الْقَدِيمَةَ لَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ

بِالشِّرْكِ وَالْإِجْرَامِ، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَجَزَاهُمْ بِإِجْرَامِهِمْ.

(3)

فِي الْآيَةِ 49 أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالرُّسُلُ فِيهِ كَغَيْرِهِمْ كَمَا تَرَى فِي آيَاتِ تَوْحِيدِهِ.

(4)

فِي الْآيَةِ 47 أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، فَلَيْسَتِ الرِّسَالَةُ خَاصَّةً بِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا يَدَّعُونَ، وَلَا بِهِمْ وَبِالْعَرَبِ كَمَا تَوَهَّمَ آخَرُونَ، وَالشُّبْهَةُ عَلَى هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ

ص: 409

أَكْثَرَ أُمَمِ الْأَرْضِ وَثَنِيَّةٌ وَتَوَارِيخُهَا عَرِيقَةٌ فِي ذَلِكَ، كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْأَشُورِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ وَشُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ الْقَدِيمَةِ وَكَذَا قُدَمَاءِ أَمْرِيكَةَ. وَجَوَابُهَا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمَمِ لَهَا أَدْيَانٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهِي الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَدْ طَرَأَتْ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا التَّقَالِيدُ الْوَثَنِيَّةُ طُرُوءًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَمِ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ.

(5)

فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ عَانَدَهُ قَوْمُهُ قَضَى اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا فِي تَكْذِيبِ قَوْمِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، وَسَتُذْكَرُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي.

(6)

مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا قِصَّةُ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي خُلَاصَةِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَإِهْلَاكِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِالْغَرَقِ، وَإِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ 71 - 73 وَيَلِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بَعْدَهُ إِجْمَالًا، وَيَلِيهَا قِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَغَايَتُهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ أَتْبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِالْغَرَقِ، وَأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ إِلَى حِينٍ، وَهِيَ فِي الْآيَاتِ 75 - 93 وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ عليه السلام .

(7)

فِي الْآيَةِ 98 الْعِبْرَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِقَوْمِ يُونُسَ، بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِعِنَادِهِمْ لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ كَمَا اسْتَحَقَّهُ قَوْمُ يُونُسَ، وَأَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا قَبْلَ وُقُوعِ هَذَا الْعَذَابِ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ كَمَا نَفَعَ قَوْمَ يُونُسَ عليهما السلام.

(الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم)

وَسِيرَتِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَعَاصِمَةِ بِلَادِهِ، وَنَجْعَلُ آيَاتِهِ فِي أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا

(1)

فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْكَافِرِينَ أَنْكَرُوا دَعْوَةَ نُبُوَّتِهِ، وَعَجِبُوا مِنْهَا أَنْ كَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَسَمُّوا آيَتَهُ سِحْرًا وَنَبَزُوهُ بِلَقَبِ سَاحِرٍ مُبِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَعَلَى الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ صلى الله عليه وسلم وَشُبْهَةُ السِّحْرِ لَا تُخِيلُ (أَيْ لَا تَشْتَبِهُ؛ مِنْ أَخَالَ الْأَمْرُ إِذَا أَشْكَلَ وَاشْتَبَهَ) فِي الْقُرْآنِ كَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوهُ تَكَلُّفًا وَعِنَادًا.

(2)

فِي الْآيَةِ 15 أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ أَمْرُهُ أَوْ أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَفِي الْآيَةِ 16 الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا، وَيَلِيهَا تَأْيِيدُ الرَّدِّ.

(3)

فِي الْآيَةِ 20 اقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَجَوَابُهُ لَهُمْ: وَفِي الْآيَتَيْنِ 96، 97 أَنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ بِفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمْ كُلُّ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا وَمِمَّا لَمْ يَقْتَرِحُوا.

ص: 410

(4)

فِي الْآيَةِ 37 بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى مَنْ دُونِ اللهِ ; إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَأَنَّهُ تَصْدِيقٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَهُوَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا رَيْبَ فِيهِ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَدْرِي شَيْئًا مِمَّا نَزَلَ فِيهِ.

(5)

فِي الْآيَةِ 38 تَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا افْتَرَاهُ، وَهُوَ مُطَالَبَتُهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَاسْتِعَانَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ يَسْتَطِيعُونَ اسْتِعَانَتَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى.

(6)

فِي الْآيَةِ 39 الْإِضْرَابُ عَنِ التَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ إِلَى التَّكْذِيبِ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، وَهُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِقِسْمَيْهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ.

(7)

فِي الْآيَاتِ 40 - 45 أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَمُنَاقَشَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وَوَصْفُ حَالِ مَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا يَعْقِلُونَ الدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ وَلَا الْبَصَرِيَّةَ، وَإِبْهَامُ أَمْرِ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ هَلْ يَقَعُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِبْهَامِ لَهُ وَاسْتِعْجَالُهُمْ بِهِ،

وَكَوْنُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ يَوْمَئِذٍ - وَسُؤَالُهُمْ: أَحَقٌّ هُوَ؟ وَجَوَابُهُمْ بِالْقَسَمِ: (إِنَّهُ لَحَقٌّ) لِأَنَّ وَعْدَ اللهِ كُلَّهُ حَقٌّ، وَفِي تَفْسِيرِنَا لَهُ بَيَانُ قِلَّةِ الْكَذِبِ فِي الْعَرَبِ، وَاحْتِرَامُ الْقَسَمِ بِاللهِ تَعَالَى، وَاشْتِهَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِمْ مِنْ صِغَرِهِ.

(8)

بَعْدَ أَنْ أَيَّدَ اللهُ دَعَوْتَهُ صلى الله عليه وسلم بِقِصَّتَيْ نُوحٍ وَمُوسَى بِالْإِيجَازِ مُفَصَّلَةً، وَذَكَرَ مَنْ بَيْنَهُمَا بِالْإِشَارَةِ الْمُجْمَلَةِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَكٍّ مِنْهُ وَسَأَلَهُمْ لَأَجَابُوا: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ لَا مَوْضِعَ لِلِامْتِرَاءِ بِهِ.

(9)

كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحْزِنُهُ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ لَهُ وَكُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ 65 وَكَانَ يَتَمَنَّى إِيمَانَهُمْ كُلِّهِمْ فَجَاءَهُ فِي الْآيَاتِ 96 - 101 بَيَانُ سُنَّةِ اللهِ فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُمْ كُلَّهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَكَانُوا غَيْرَ هَذَا النَّوْعِ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ، وَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ عَلَى إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ لَا تَنْفَعُ إِلَّا الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، وَأَنَّ النَّجَاةَ لِرُسُلِ اللهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ.

(10)

خَتَمَ السُّورَةَ مِنَ الْآيَةِ 104 - 109 بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ، فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَعَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لَا وَكِيلٌ لِلَّهِ مُتَصَرِّفٌ فِي أَمْرِ عِبَادِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ حُكْمَهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

ص: 411

(11)

إِعْلَامُهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي الْآيَةِ 14 بِأَنَّهُ جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا بَعْدَ إِهْلَاكِ أَكْثَرِ الْقُرُونِ الْأُولَى مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُعَانِدِينَ لِرُسُلِهِمْ، وَتَحْرِيفِ آخَرِينَ لِأَدْيَانِهِمْ، وَنَسْخِهِ تَعَالَى لِمَا بَقِيَ مِنْهَا بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِهَذِهِ الْخِلَافَةِ فَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَعْمَلُونَ فِيهَا، وَأَخَّرْنَا هَذَا لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا وَعَدَهُمْ وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَهُمْ بِشَرْطِهِ فِي الْآيَةِ (24: 55) مِنْ سُورَةِ النُّورِ.

الْبَابُ الرَّابِعُ

فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَنُلَخِّصُ آيَاتِهِ فِي بِضْعَةِ أَنْوَاعٍ

(1)

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ ذِكْرُ رُجُوعِ النَّاسِ جَمِيعًا إِلَى اللهِ رَبِّهِمُ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ بِأَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ بِالْقِسْطِ، وَالْكَافِرِينَ بِمَا ذَكَرَهُ إِجْمَالًا، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا كَوْنَهُ بِالْقِسْطِ أَيْضًا كَمَا تَرَى بَيَانَهُ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ، وَكَوْنَ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُضَاعَفُ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِهَا.

(2)

فِي الْآيَاتِ 7 - 11 تَفْصِيلٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، مَعَ تَعْلِيلٍ طَبِيعِيٍّ عَقْلِيٍّ لِتَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فِي الْأَنْفُسِ، وِفَاقًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ جَزَاءَ الْآخِرَةِ أَثَرٌ لَازِمٌ لِسِيرَتِهَا فِي الدُّنْيَا، بِجَعْلِهَا أَهْلًا بِطَبْعِهَا وَصِفَاتِهَا لِجِوَارِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ أَوْ لِسُخْطِهِ.

(3)

فِي الْآيَاتِ 24 - 30 تَفْصِيلٌ آخَرُ مُوَضَّحٌ بِضَرْبِ الْمَثَلِ، فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالزِّيَادَةِ فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَ، وَكَوْنُ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ بِالْمِثْلِ، وَكَوْنُ كُلِّ نَفْسٍ تَبْلُو فِي الْآخِرَةِ مَا أَسْلَفَتْ فِي الدُّنْيَا، لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ أَحَدًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ.

(4)

فِي الْآيَاتِ 45 - 56 سِيَاقٌ رَابِعٌ مُفْتَتَحٌ بِالتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ، وَتَقْدِيرِ النَّاسِ لِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِسَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَخُسْرَانِ الْمُكَذِّبِينَ بِلِقَاءِ اللهِ، وَتَأْكِيدِ وَعْدِ اللهِ بِهِ، وَاسْتِبْطَائِهِمْ لَهُ، وَاسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ، وَاسْتِنْبَائِهِمُ الرَّسُولَ: أَحَقٌّ هُوَ؟ وَحَالِهِمْ عِنْدَ وُقُوعِهِ، وَتَمَنِّيهِمُ الِافْتِدَاءَ مِنْهُ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ، وَإِسْرَارِهِمُ النَّدَامَةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ، وَالْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وَهَذَا الْأَخِيرُ فِي الْآيَتَيْنِ 47 و54.

(5)

فِي الْآيَاتِ 62 - 64 ذِكْرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، (وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وَأَنَّ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(6)

فِي الْآيَتَيْنِ 69 و70 ذِكْرُ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ وَكَوْنِهِمْ لَا يُفْلِحُونَ، لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللهِ فَيُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ.

(7)

فِي الْآيَةِ 93 عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَنَجَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ

بَعْدَ هَلَاكِهِمْ،

ص: 412

أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَأَنَّ اللهَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

إِذَا عَدَدْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَجَدْتَهَا تَبْلُغُ زُهَاءَ الثُّلُثِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَكِنَّكَ لَا تَشْعُرُ عِنْدَمَا تَقْرَأُ السُّورَةَ أَنَّكَ تُكَرِّرُ مَعْنًى وَاحِدًا فِيهَا يَبْلُغُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَلْبِكَ وَيَمْلَؤُهُ إِيمَانًا بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَالْخَوْفِ مِنْ حِسَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ، وَمَا كَانَ التَّكْرَارُ إِلَّا لِأَجْلِ هَذَا، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَبْلَغُ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ كَهَذَا؟ لَا لَا.

الْبَابُ الْخَامِسُ

فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ وَخَلَائِقِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَسُنَنِ اللهِ فِيهَا وَهِيَ نَوْعَانِ

(النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الصِّفَاتُ الذَّمِيمَةُ الَّتِي تَجِبُ مُعَالَجَتُهَا بِالتَّهْذِيبِ الدِّينِيِّ)

(الْأُولَى: الْعَجَلُ وَالِاسْتِعْجَالُ) قَالَ اللهُ تَعَالَى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)(21: 37) وَقَالَ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)(17: 11) وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)(11) وَمِنْهَا اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَرَاهُ فِي سِيَاقِهِ مِنَ الْآيَتَيْنِ 50 و51.

(الثَّانِيَةُ: الظُّلْمُ) قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(14: 34) وَقَالَ فِي آيَةِ الْأَمَانَةِ: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)(33: 72) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْخَلِيقَةِ أَوِ الشِّيمَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 44 و85 و106.

(الثَّالِثَةُ: الْكُفْرُ بِاللهِ وَبِنِعَمِهِ) قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُورَتِهِ سُورَةِ الدَّهْرِ: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(76: 3) وَوَصَفَهُ بِالْكَفُورِ فِي سُورِ الْإِسْرَاءِ وَالْحَجِّ وَالشُّورَى، وَبِالْكَفَّارِ (بِالْفَتْحِ لِلْمُبَالَغَةِ) فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَذُكِرَتْ آنِفًا، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْكُفْرِ بِلَفْظِهِ وَمُشْتَقَّاتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَلِيلٌ، ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْكَافِرُونَ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ جَزَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآخِرَةِ

بِكُفْرِهِمْ، وَذُكِرَ فِي الْآيَةِ 86 فِي دُعَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالنَّجَاةِ مِنْ حُكْمِ الْكَافِرِينَ.

وَأَمَّا ذِكْرُهُ بِالْمَعْنَى فَهُوَ كَثِيرٌ فِيهَا، فَمِنْهُ مَا هُوَ بِلَفْظِ التَّكْذِيبِ وَعَدَمِ الرَّجَاءِ بِلِقَاءِ اللهِ،

ص: 413

وَمَا هُوَ بِلَازِمِهِ مِنَ الْفِسْقِ وَالْإِجْرَامِ وَالْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَكَذَا الظُّلْمِ الَّذِي خَصَصْنَاهُ بِالذِّكْرِ.

(الرَّابِعَةُ: الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى) وَهُوَ عَادَةٌ صَارَتْ وِرَاثِيَّةً فِي الْأُمَمِ، وَذُكِرَ فِي الْآيَاتِ 18 و28 و34 و35 و66 و71 وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ.

(الْخَامِسَةُ: الْجَهْلُ وَاتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْخَلِيقَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ غَرَائِزَهُ الْخِلْقِيَّةَ أَضْعَفُ مِنْ غَرَائِزِ الْحَشَرَاتِ وَالْعَجْمَاوَاتِ، وَجَعَلَ عِمَادَ أَمْرِهِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ التَّدْرِيجِيِّ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ:(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)(16: 78) وَآيَةِ الْأَمَانَةِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الظُّلْمِ. وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَتِّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(36) وَقَوْلُهُ: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)(66) .

(السَّادِسَةُ: الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ) وَالْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ مِمَّا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ، حَتَّى لَا تَعُودَ تَقَبْلُ مَا يُخَالِفُ تَقَالِيدَهَا الْمَوْرُوثَةَ وَالرَّاسِخَةَ بِمُقْتَضَى الْعَمَلِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى:(كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)(74) فَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ نَتِيجَةً مَعْلُولَةً لِاعْتِدَاءِ حُدُودِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِهَا، لَا كَمَا يَفْهَمُهُ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الصُّرَحَاءِ وَالْمُتَأَوِّلِينَ، وَغَايَةُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ الْقَلْبِيَّةِ النَّفْسِيَّةِ فِي الدُّنْيَا الْحِرْمَانُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُقْتَضَى كَلِمَةِ اللهِ فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ كَلِمَةِ التَّكْلِيفِ، لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ الْمُرْشِدَةِ لِلْفِطْرَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمَا هُوَ تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 23 و66 - 101.

(السَّابِعَةُ: الْغُرُورُ وَالْبَطَرُ بِالرَّخَاءِ وَالنِّعَمِ) فَهُمْ فِي أَثْنَائِهَا يَمْكُرُونَ فِي آيَاتِ اللهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا أَصَابَتْهُمُ الشَّدَائِدُ تَذَكَّرُوا وَأَخْلَصُوا فِي دُعَائِهِ، فَإِذَا كَشَفَهَا عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى شِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 21 - 23 و88.

نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوَائِلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِهَا مُشْرِكُونَ مُعَانِدُونَ كَافِرُونَ ظَالِمُونَ مُجْرِمُونَ جَاهِلُونَ، مُسْتَكْبِرَةٌ رُؤَسَاؤُهُمْ، مُقَلِّدَةٌ دُهَمَاؤُهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا تَقْدِيمَ الْإِنْذَارِ فِيهَا عَلَى التَّبْشِيرِ كَمَا تَرَاهُ فِي أَوَّلِهَا ; وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ الصِّفَاتِ وَالْخَلَائِقِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ النَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يُعْلَمُ أَكْثَرُهُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَكَوْنِ أَصْلِ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَوْنِهِ فُطِرَ عَلَى تَرْجِيحِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ،

ص: 414

أَوِ التَّجَارِبِ الْعَمَلِيَّةِ، وَكَوْنِ الدِّينِ مُؤَيِّدًا لِلْعَقْلِ، حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْهَوَى وَالْجَهْلُ.

فَتَأَمَّلِ الْأَصْلَ فِي تَكْوِينِ الْأُمَمِ وَوَحْدَتِهَا فِي فِطْرَتِهَا، ثُمَّ طُرُوءَ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ 19 - ثُمَّ انْظُرْ فِي مُقَدِّمَةِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي آخِرِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ 99 - 103 وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي اسْتِعْدَادِهِمُ الْمَذْكُورِ، وَكَوْنِهِ اخْتِيَارِيًّا لَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَتَعْبِيرَهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي تَرْجِيحِهِمُ الرِّجْسَ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِجَعْلِهِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا يَهْتَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِسُنَّتِهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ وَعَاقِبَةُ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ.

ثُمَّ تَأْمَّلْ خُلَاصَةَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ 104 إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي دِينِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَكَوْنِ الشَّكِّ جَهْلًا، وَكَوْنِهِمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ وَهْمًا، وَكَوْنِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكَوْنِهِمْ يَعْبُدُونَ مَنْ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَكَوْنِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ هُوَ الْحَقَّ، وَكَوْنِهِمْ مُخْتَارِينَ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، وَكَوْنِ مَا يَخْتَارُونَهُ إِمَّا لِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مُوَكَّلًا بِهِدَايَتِهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ.

وَهَذِهِ الْخُلَاصَةُ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، فَارْجِعْ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالدَّلَائِلِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مَغْرُوسَةٌ فِي أَعْمَاقِ أَنْفُسِهِمْ، وَبِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ فِي الْخَامِسَةِ:(يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وَفِي السَّادِسَةِ

(لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) وَخِطَابِهِ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ لِلْعَقْلِ بِقَوْلِهِ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وَفِي الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ لِلْفِكْرِ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ثُمَّ ارْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ إِقَامَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) الْآيَاتِ 35 - 39، ثُمَّ إِلَى بَيَانِهِ لَهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أُصُولِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْآيَةِ 57 وَمَا بَعْدَهَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ.

ص: 415

(الْبَابُ السَّادِسُ)

فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِي الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ (عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَأَخَّرْنَاهُ لِأَنَّهُ الثَّمَرَةُ وَالنَّتِيجَةُ وَهُوَ قِسْمَانِ:

(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ)

(1)

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) وَالصَّالِحَاتُ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَنْفُسُ الْأَفْرَادِ وَنِظَامُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْبُيُوتِ وَالْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ، هَذَا هُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ مُجْمَلًا، وَفُصِّلَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ بِحَسْبِ مَا كَانَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاحِ أَوِ الْإِصْلَاحِ فَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، فَإِمَّا فَاسِدٌ فِي أَصْلِهِ، وَإِمَّا أُدِّيَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ.

(2)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)(9) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا عَلَاقَةَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَوْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ هَذَا وَيَتَوَخَّهُ لَمْ يَفْقَهْ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ صَالِحًا يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَفِي أَمْثَالِهِمَا مِنْ طُولَى السُّورِ وَمِئِينِهَا وَمُفَصَّلِهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا (وَهِيَ سُورَةُ وَالْعَصْرِ) وَيُؤَيِّدُ هَذَا اتِّحَادُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْمَاصَدَقِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْهُومِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ 84 و90، فَمَفْهُومُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ الْإِذْعَانِيُّ الْجَازِمُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ،

وَمَفْهُومُ الْإِسْلَامِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَصِحُّ فَيَكُونُ إِسْلَامًا إِلَّا بِهِ.

(3)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)(26) ظَاهِرٌ فِي دَلَالَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مُضَاعَفَةِ هَذَا الْجَزَاءِ.

(4)

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّعْرِيفِ بِأَوْلِيَائِهِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(63) فَالتَّقْوَى جِمَاعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْحَسَنَةِ مَعَ اتِّقَاءِ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ السَّيِّئَةِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَبْسَطُهَا وَأَظْهَرُهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرَقَانًا)(8: 29) الْآيَةَ.

(5)

قَوْلُهُ حِكَايَةً لِوَصِيَّةِ مُوسَى لِقَوْمِهِ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(87) .

(الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي السَّيِّئَاتِ وَفِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا)

(6)

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، الرَّاضِينَ الْمُطَمْئِنِينَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا غَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِيهَا:(أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(8) .

(7)

قَوْلُهُ فِيمَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَيَدْعُونَهُ فِي الضَّرَّاءِ وَيَنْسَوْنَهُ فِي السَّرَّاءِ:(كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(12) .

ص: 416

(8)

قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ بَغْيِ النَّاسِ فِي السَّرَّاءِ وَغُرُورِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَوْنِ وَبَالِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْآيَاتِ 21 - 23 (وَهِيَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهَا) : (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(23) .

(9)

قَوْلُهُ: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(15) .

(10)

قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)(27) الْآيَةَ.

(11)

قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(52) .

(12)

قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(81) .

(13)

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(14) .

(14)

قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(41) .

(15)

قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)(61) .

(16)

قَوْلُهُ فِي الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)(108) .

فَنَسْأَلُ اللهَ عز وجل أَنْ يُصْلِحَ أَعْمَالَنَا، وَيَجْعَلَ خَيْرَهَا خَوَاتِيمَهَا.

وَهَذَا آخَرُ مَا نَخْتِمُ بِهِ خُلَاصَةَ هَذِهِ السُّورَةِ الْبَلِيغَةِ، وَنَضْرَعُ إِلَيْهِ عز وجل أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، مُفَصَّلًا وَمُجْمَلًا، كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي كُلِّ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ.

وَصَلَّى الله عَلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالْمُهْتَدِينَ مِنْ خَلْقِهِ

قَدْ جَعَلْنَا آخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ الْجُزْءِ الْحَادِيَ عَشَرَ

ص: 417