المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أَنْ يَجْعَلُوا أَوَّلَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ - تفسير المنار - جـ ٥

[محمد رشيد رضا]

الفصل: أَنْ يَجْعَلُوا أَوَّلَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

أَنْ يَجْعَلُوا أَوَّلَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (4:‌

‌ 29)

، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُحْصَنَاتُ: جَمْعُ مُحْصَنَةٍ بِفَتْحِ الصَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْصَنَ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ كَسْرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْفَتْحُ عَنْهُ، وَالْإِحْصَانُ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَنِيعُ الْمَحْمِيُّ، فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ الشَّدِيدِ، وَيُقَالُ: حَصُنَتِ الْمَرْأَةُ ـ بِضَمِّ الصَّادِ ـ حِصْنًا وَحَصَانَةً، أَيْ: عَفَّتْ فَهِيَ حَاصِنٌ وَحَاصِنَةٌ وَحَصَانٌ وَحَصْنَاءُ ـ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ـ قَالَ الشَّاعِرُ:

حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ

وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ

وَيُقَالُ: أُحْصِنَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حِصْنِ الرَّجُلِ وَحِمَايَتِهِ، وَيُقَالُ: أَحْصَنَهَا أَهْلُهَا إِذَا زَوَّجُوهَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمُتَزَوِّجَةِ أَنْ تُحَصِّنَ نَفْسَهَا فَتَكْتَفِيَ بِزَوْجِهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى الرِّجَالِ لِأَجْلِ حَاجَةِ الطَّبِيعَةِ، وَتُحَصِّنَ زَوْجَهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُعَوَّلُ فِي الْإِحْصَانِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ ـ بِفَتْحِ الصَّادِ ـ اسْمُ فَاعِلٍ نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَلُّ أَفْعَلَ اسْمُ فَاعِلِهِ بِالْكَسْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ: أَحْصَنَ، أَلْفَجَ إِذَا ذَهَبَ مَالُهُ، وَأَسْهَبَ إِذَا كَثُرَ كَلَامُهُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْعَفِيفَةَ يُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِفَتْحِ الصَّادِ - وَمُحْصِنَةٌ - بِكَسْرِهَا - وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ فَيُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِالْفَتْحِ - لَا غَيْرَ، وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْمَشْهُورُونَ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَقِيلَ: هُنَّ الْحَرَائِرُ، وَقِيلَ: عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُنَّ الْحَرَائِرُ الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَسَيَأْتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَا يُرَجِّحُهُ، وَلِمَاذَا قَالَ: مِنَ النِّسَاءِ وَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُغْنِيَةٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ: تَأْكِيدُ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَرَ قَوْلَهُ كَافِيًا وَافِيًا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِغُمُوضِ

النُّكْتَةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَنْ يُفَسِّرُهَا لِي لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، أَيْ: لَسَافَرَ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ يَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا ; فَإِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَفِيفَاتُ، أَوِ الْمُسْلِمَاتُ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ هُنَا: مِنَ النِّسَاءِ، لَتَوَهَّمَ أَنَّ (الْمُحْصَنَاتِ) إِنَّمَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا كُنَّ مُسْلِمَاتٍ، فَأَفَادَ هَذَا الْقَيْدُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ، أَيْ أَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ مُحْتَرَمٌ مُطْلَقًا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، فَيَحْرُمُ تَزَوُّجُ أَيَّةِ امْرَأَةٍ فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ وَحِصْنِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ

ص: 4

أَيْ: إِلَّا مَا سَبَيْتُمْ مِنْهُنَّ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ تُدَافِعُونَ فِيهَا عَنْ حَقِيقَتِكُمْ، أَوْ تُؤَمِّنُونَ بِهَا دَعْوَةَ دِينِكُمْ، وَرَأَيْتُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَلَّا تُعَادَ السَّبَايَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْحَلُّ عَقْدُ زَوْجِيَّتِهِنَّ وَيَكُنَّ حَلَالًا لَكُمْ بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحَرُّجُ الصَّحَابَةِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِسَبَايَا (أَوْطَاسٍ) وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِاشْتِرَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِوَضْعِ الْحَامِلِ لِحَمْلِهَا وَحَيْضِ غَيْرِهَا، ثُمَّ طُهْرِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ مَنْ سُبِيَ مَعَهَا زَوْجُهَا لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي الْحِلِّ اخْتِلَافَ الدَّارِ: دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ لَا دَخْلَ فِي حِلِّ السَّبَايَا، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ أَنَّ مَنْ سُبِيَتْ دُونَ زَوْجِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَحِلُّ لِلسَّابِي بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا لِلشَّكِّ فِي حَيَاةِ زَوْجِهَا، أَيْ: وَعَدَمُ الطَّمَعِ فِي لُحُوقِهِ بِهَا إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ بَقِيَ حَيًّا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ، وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ فِي حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّأْنُ الْغَالِبُ أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِنَّ وَيَفِرَّ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ حَتَّى لَا يَعُودَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَفَالَةُ هَؤُلَاءِ السَّبَايَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ الْفِسْقِ، كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَهُنَّ وَلِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ـ أَوْ أَكْثَرَـ كَافِلٌ يَكْفِيهَا هَمَّ الرِّزْقِ وَبَذْلَ الْعِرْضِ لِكُلِّ طَالِبٍ، وَلَا يَخْفَى

مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى بِلَادِهِنَّ فَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا حَيًّا عَادَتْ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا مَفْقُودًا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ أَوْ كَانَ شَرُّ فِسْقِهَا عَلَى قَوْمِهَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ مَا فَرَضَ السَّبْيَ وَلَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَّمَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَتَّى لِلسَّبَايَا أَنْفُسِهِنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَأْصِلَ الْحَرْبُ جَمِيعَ الرِّجَالِ مِنْ قَبِيلَةٍ مَحْدُودَةِ الْعَدَدِ مَثَلًا، فَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ تُرَدَّ السَّبَايَا إِلَى قَوْمِهِنَّ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ وَجَبَ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ دِينِيَّةً - كَمَا قَيَّدْنَا - فَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ لِمَطَامِعِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ الْمُلُوكِ فَلَا يُبَاحُ فِيهَا السَّبْيُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:

الْمُحْصَنَاتُ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ بِالسَّبْيِ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ وَأَزْوَاجُهُنَّ كُفَّارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ يَشْمَلُ الْمَمْلُوكَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْتَرِشَهَا بِالْإِجْمَاعِ! فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُمُومَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْبِبَّاتِ، وَسَكَتَ عَنِ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُتَزَوِّجَاتِ ; لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِالْمَمْلُوكَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ، وَالذَّوْقِ وَالْعَقْلِ، فَهُوَ كَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ; وَلِذَلِكَ شَدَّدَ فِيهِ - كَمَا يَأْتِي - وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ التَّنْزِيلِ اهـ.

ص: 5

أَقُولُ: وَالَّذِي تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي أَنَّ الْمُرَادَ بِـ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ هُنَا نُشُوءُ الْمِلْكِ وَحُدُوثُهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ لَا يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ، فَالْمَعْنَى: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ أَيِ الْمُتَزَوِّجَاتُ إِلَّا مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْمِلْكُ، وَإِنَّمَا يَطْرَأُ الْمِلْكُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ بِالسَّبْيِ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ الَّتِي زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَالزَّوَاجُ فِيهَا هُوَ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمِلْكِ بِجَعْلِ الْمِلْكِ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ كَانَ بَائِعًا أَوْ وَاهِبًا مَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي صَارَ حَقَّ الزَّوْجِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمِلْكَ الْجَدِيدَ يُبْطِلُ نِكَاحَهَا فَتُطَلَّقُ عَلَى زَوْجِهَا وَتَحِلُّ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ عَمَلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْلَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ

بِزَوَاجِ الْأَمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ إِنَّمَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ مَا يَمْلِكُ، لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا يَعُمُّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْعَفِيفَاتِ وَالْحَرَائِرَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَعُمُّ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالتَّسَرِّي، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ كُلُّ أَجْنَبِيَّةٍ إِلَّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ بِمِلْكِ الْعَيْنِ الَّذِي يَتْبَعُهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ مُفَسِّرِي التَّابِعِينَ، وَفُقَهَائِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا تَرَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ كَافِرَةً وَسَبَاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا بِالسَّبْيِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: كَتَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ النِّسَاءِ كِتَابًا مُؤَكَّدًا ; أَيْ: فَرَضَهُ فَرْضًا ثَابِتًا مُحْكَمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ فِيهِ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (4: 26) .

وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، [4: 23) (فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْطُوفًا عَلَى " كَتَبَ " الْمُقَدَّرَةِ النَّاصِبَةِ لِقَوْلِهِ: كِتَابَ اللهِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَلَا مَانِعَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى حُرِّمَتْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هُنَاكَ هُوَ الْمُحَلِّلُ هُنَا وَهُوَ اللهُ عز وجل: وَالْمُرَادُ بِـ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ الْمُبِينُ تَحْرِيمُهُ هُوَ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا فَحْوَاهُ فَهُوَ لِكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ، وَلَا قِيَاسٍ وَاضِحٍ، جَعَلَ وَرَاءَهُ خَارِجًا عَنْ مُحِيطِ مَدْلُولِهِ وَإِفَادَتِهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لَيْسَ وَرَاءَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (4: 23) ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ مُحَرَّمَاتِ الرَّضَاعِ سَبْعًا كَمُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ.

ص: 6

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَبَقِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ غَيْرُ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ، وَمِثْلُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، وَقَدْ

قَالَ: إِنَّهُ أُحِلَّ لَنَا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ آنِفًا وَنَحْوُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِجْمَاعًا أَوْ بِنُصُوصٍ أُخْرَى كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالْمُشْرِكَةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْضَهُ، فَدَخَلَ فِي الْأُمَّهَاتِ الْجَدَّاتُ، وَفِي الْبَنَاتِ بَنَاتُ الْأَوْلَادِ إِلَخْ، وَبَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى مُطَلِّقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَالسِّرُّ فِي النَّصِّ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ يُعْلِمُنَا بِالنَّصِّ عَلَى الْوَاقِعِ أَلَّا نَتَعَرَّضَ إِلَّا لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَخَيَّلَةَ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ لَهَا وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ (4: 22) ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيَانًا لَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا حُرِّمَ لِسَبَبٍ آخَرَ كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا ذُكِرَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمْ لَا، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا هَاهُنَا جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعَةِ وَالصِّهْرِ، وَهُوَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلُّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمُحَرَّمَاتِ بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ كَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِلَخْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ حِلُّ مَا حُرِّمَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى لِسَبَبٍ عَارِضٍ يَزُولُ بِزَوَالِهِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ لِلْمُتَعَلِّمِ عِنْدَمَا تَقْرَأُ لَهُ كِتَابَ الطَّهَارَةِ: لَا تَلْبَسْ ثَوْبًا مُتَنَجِّسًا، ثُمَّ تَقُولَ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللِّبَاسِ: لَا تَلْبَسِ الْحَرِيرَ وَلَا الْمَنْسُوجَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَالْبَسْ كُلَّ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّيَابِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيهَا، فَهَلْ تُدْخِلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّوْبَ الْمُنَجَّسَ؟ لَا. لَا، إِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَسْمَحُ لَهُ السِّيَاقُ، وَالْمَقَامُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، فَإِذَا كَانَ السِّيَاقُ فِي نَوْعٍ لَهُ جِنْسٌ أَوْ أَجْنَاسٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خُرُوجَ الْعَامِّ عَنْ سِيَاقِ النَّوْعِ وَتَنَاوُلَهُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ السَّافِلِ أَوِ الْعَالِي لِذَلِكَ النَّوْعِ، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْبُسْتَانِ لِلْفَعَلَةِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الْأَشْجَارَ غَيْرَ الْمُثْمِرَةِ لِتَكُونَ خَشَبًا: لَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ الصَّغِيرَ وَاقْطَعُوا كُلَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْكُلِّيَّةِ أَفْرَادُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ

لَا جِنْسَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَعُمُّ الْمُثْمِرَ، وَمِثَلُ الثِّيَابِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَشْبَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مَعْنَاهُ: أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَبْتَغُوهُ

ص: 7

أَوْ إِرَادَةَ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ تَطْلُبُوهُ بِأَمْوَالِكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: أَحَلَّهُ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ أَحَلَّ لَكُمْ طَلَبَهُ بِأَمْوَالِكُمْ تَدْفَعُونَهَا مَهْرًا لِلزَّوْجَةِ، أَوْ ثَمَنًا لِلْأَمَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الْأَمَةِ كَمَا يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ لِقَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَإِنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِلْعَامِلِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُحْصِنِينَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ وَمَنْ تَطْلُبُونَهَا بِمَا لَكُمْ بِاسْتِغْنَاءِ كُلٍّ مِنْكُمَا بِالْآخَرِ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ ; فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَسُوقُ كُلَّ ذَكَرٍ بِدَاعِيَةِ النَّسْلِ إِلَى الِاتِّصَالِ بِأُنْثَى، وَكُلَّ أُنْثَى إِلَى الِاتِّصَالِ بِذَكَرٍ لِيَزْدَوِجَا وَيُنْتِجَا، وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي يَمْنَعُ هَذِهِ الدَّاعِيَةَ الْفِطْرِيَّةَ أَنْ تَذْهَبَ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَيَتَّصِلَ كُلُّ ذَكَرٍ بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ وَاتَتْهُ وَكُلُّ امْرَأَةٍ بِأَيِّ رَجُلٍ وَاتَاهَا، بِأَنْ يَكُونَ غَرَضُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمُشَارَكَةَ فِي سَفْحِ الْمَاءِ الَّذِي تُفْرِزُهُ الْفِطْرَةُ لِإِيثَارِ اللَّذَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْبَشَرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّاعِيَةُ الْفِطْرِيَّةُ سَائِقَةً لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسَيْنِ؛ لِأَنْ يَعِيشَ مَعَ فَرْدٍ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِيشَةَ الِاخْتِصَاصِ لِتَتَكَوَّنَ بِذَلِكَ الْبُيُوتُ وَيَتَعَاوَنَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمَا، فَإِذَا انْتَفَى قَصْدُ هَذَا الْإِحْصَانِ انْحَصَرَتْ طَاعَةُ الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي قَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ الْعَامُّ الَّذِي لَا تَنْحَصِرُ مَصَائِبُهُ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ أُمَّةُ فَرَنْسَا قَدْ قَلَّ فِيهَا النِّكَاحُ وَكَثُرَ السِّفَاحُ بِضَعْفِ الدِّينِ فِي عَاصِمَتِهَا (بَارِيسَ) وَأُمَّهَاتِ مُدُنِهَا، فَقَلَّ نَسْلُهَا، وَوَقَفَ نَمَاؤُهَا، وَفَتَكَ النِّسَاءُ، وَمَسَنَ الرِّجَالُ، وَضَعُفَتِ الدَّوْلَةُ فَصَارَتْ دُونَ خَصْمِهَا حَتَّى اضْطُرَّتْ إِلَى الِاعْتِزَازِ بِمُحَالَفَةِ دَوْلَةٍ مُضَادَّةٍ لَهَا فِي شَكْلِ حُكُومَتِهَا وَمَدَنِيَّتِهَا وَهِيَ الدَّوْلَةُ الرُّوسِيَّةُ، وَلَوْلَا الثَّرْوَةُ الْوَاسِعَةُ وَالْعُلُومُ الزَّاخِرَةُ وَالسِّيَاسَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ لَأَسْرَعَ إِلَيْهَا الْهَلَاكُ كَمَا أَسْرَعَ إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَثُرَ مُتْرَفُوهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الثَّابِتُ فِي سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ فَدَمَّرَهَا اللهُ تَدْمِيرًا، وَمَا أُرَاهَا إِلَّا أَوَّلَ دَوْلَةٍ تَسْقُطُ فِي أُورُوبَّا إِذَا ظَلَّ هَذَا الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ عَلَى هَذَا النَّمَاءِ فِيهَا.

وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَصْدَ الْإِحْصَانِ بِالرِّجَالِ، وَخَصَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالنِّسَاءِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ إِحْصَانَ الْمَرْأَةِ وَحِفْظَهَا أَنْ يَنَالَهَا أَحَدٌ سِوَاهُ؛ لِيَكُنَّ عَفِيفَاتٍ طَاهِرَاتٍ، وَلَا يَكُونُ التَّزَوُّجُ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَسَفْحِ الْمَاءِ وَإِرَاقَتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَجَلُ اهـ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَتَتِمُّ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ مَا قَصَّرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِحْصَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِعْطَاءِ الْمَرْأَةِ حَقَّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَعَمُّدُ التَّقْصِيرِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ الْفِسْقُ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِفْسَادَ الْبُيُوتِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْسَادُ الْأُمَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِمَمْلُوكَتِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا مِنَ الزِّنَا، فَهَلْ يَكْفِي هَذَا الْمَنْعُ فِي إِحْصَانِ الْأَمَةِ دُونَ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ، أَمْ يَقُولُونَ: إِنَّ شِرَاءَ الْإِمَاءِ لِأَجْلِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 8

وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ وَمُنْطَبِقًا عَلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ؟

الْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحِكَمِهِ الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى بَيْنَ الْأُمَمِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْعًا باتًّا وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ مَصَائِبَهُ وَمَهَّدَ السُّبُلَ لِمَنْعِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتٌ تَقْتَضِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ مَنْعَهُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ تُعَارِضُ الْمَنْعَ وَتُرَجِّحُ عَلَيْهِ، كَانَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَنْعُهُ ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ إِبْطَالِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحَلَّ إِبَاحَةِ الِاسْتِرْقَاقِ الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي يُحَارِبُنَا فِيهَا الْكُفَّارُ، وَنُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِنَا كَمَنْعِنَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَدْ خَيَّرَ اللهُ تَعَالَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا فِي أَسْرَى هَذِهِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (47: 4)، أَيْ: فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ وَتُطْلِقُوهُمْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، (47: 4) ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: آلَاتَهَا وَأَثْقَالَهَا الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا كَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَيْ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ اهـ، وَالْمُسَالِمُ مَنْ لَا يُحَارِبُ

الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، فَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى مِنَ الرِّجَالِ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُخْشَى أَنْ يَعُودُوا إِلَى حَرْبِنَا، أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا ضَرَرَ مِنْ إِطْلَاقِهِنَّ وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي اسْتِرْقَاقِهِنَّ؟ وَنَاهِيكَ بِالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَأْرِيثِ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَسَائِرِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَوْقَ كُلِّ ضَرَرٍ، وَمَفْسَدَتَهُ شَرٌّ مِنْ كُلِّ مَفْسَدَةٍ.

هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ هُنَا إِلَى مَسْأَلَةٍ يَجْهَلُهَا الْعَوَامُّ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُرُونُ لَا الْأَعْوَامُ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الشَّائِعَ الْمَعْرُوفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَوِ الْعُصُورِ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ، وَمَا كَانَ فِي بِلَادِ الْبِيضِ كَبَنَاتِ الشَّرَاكِسَةِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُبَعْنَ فِي الْآسِتَانَةِ جَهْرًا قَبْلَ الدُّسْتُورِ وَكُلُّهُنَّ حَرَائِرُ مِنْ بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ، وَمَعَ هَذَا كُنْتَ تَرَى الْعُلَمَاءَ سَاكِتِينَ عَنْ بَيْعِهِنَّ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ بِغَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحَتَّى لَوْ سَأَلْتَ الْفَقِيهَ عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ شَرْحِهَا لَهُ لَأَفْتَاكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِرْقَاقَ مُحَرَّمٌ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا قَالَ لَكَ: وَإِنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.

وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِأَحَدِ أَهْلِ الْآسِتَانَةِ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا وَسَأَلْتُهُ: هَلْ بَقِيَ لِهَذَا الرَّقِيقِ الْبَاطِلِ أَثَرٌ هُنَا بَعْدَ الدُّسْتُورِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ وَغَيْرُ رَسْمِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحِجَازِ أَيْضًا، وَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْمَلَ وَرَاءَ بَيَانِ حُرْمَةِ هَذَا الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ!

ص: 9

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ هُوَ التَّمَتُّعُ أَوْ طُولُ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ (9: 69)، أَيْ نَصِيبِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي اسْتَمْتَعْتُمْ لِلتَّأْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلطَّلَبِ الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ فِي مَعْنَاهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصِّيغَةِ لِلطَّلَبِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَالْأُجُورُ: جَمْعُ أَجْرٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَى فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، ثُمَّ خُصَّ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ

أَوْ غَلَبَ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْفَرِيضَةُ: الْحِصَّةُ الْمَفْرُوضَةُ أَيِ الْمُقَدَّرَةُ الْمُحَدَّدَةُ، مِنْ فَرْضِ الْخَشَبَةِ إِذَا حَزَّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَقَايِيسِ وَالْأَعْدَادِ بِفَرْضِ الْخَشَبِ، وَأَقْرَبُ شَاهِدٍ عِنْدِي عَلَى هَذَا مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ اللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ، حَيْثُ أُقِيمُ الْآنَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَبَائِعُ اللَّبَنِ بُلْغَارِيٌّ وَأَصْحَابُ الْبَيْتِ الَّذِي أُقِيمُ فِيهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ لِي مِنْهُ، وَيَفْرِضُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَرْضًا فِي خَشَبَةٍ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ يُحَاسِبُونَنِي وَيُحَاسِبُونَهُ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ.

وَيُطْلَقُ الْفَرْضُ وَالْفَرِيضَةُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِنَ التَّكَالِيفِ إِيجَابًا حَتْمًا ; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْخَشَبِ يَكُونُ قَطْعِيًّا لَا مَحَلَّ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى، فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا تَزَوُّجَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمُ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، أَيْ: تَزَوَّجْتُمُوهَا فَأَعْطُوهَا الْأَجْرَ وَالْجَزَاءَ بَعْدَ أَنْ تَفْرِضُوهُ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (4: 4) ، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاحِظَ فِي الْمَهْرِ غِنًى أَعْلَى مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ وَالْعِوَضِ؛ فَإِنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُلَاحَظَ فِيهِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَأَقُولُ: إِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ هُنَا أَجْرًا، أَيْ ثَوَابًا وَجَزَاءً لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَعْنَى سُكُونِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَارْتِبَاطِهِ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ، كَمَا لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ ص 300 ج2 [الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ] ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ دَرَجَةً هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ، وَرِيَاسَةِ الْمَنْزِلِ الَّذِي يُعَمِّرَانِهِ، وَالْعَشِيرَةِ الَّتِي يُكَوِّنَانِهَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ هُوَ فَاعِلَ الِاسْتِمْتَاعِ، أَيِ الِانْتِفَاعِ، وَهِيَ الْقَابِلَةُ لَهُ وَالْمُوَاتِيَةُ فِيهِ، فَرَضَ لَهَا سُبْحَانَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الِامْتِيَازِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلرَّجُلِ جَزَاءً وَأَجْرًا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهَا، وَيَتِمُّ بِهِ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَالْمَهْرُ لَيْسَ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ، وَلَا جَزَاءً لِلزَّوْجِيَّةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا سِرُّهُ وَحِكْمَتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهَا جَامِعٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ الْآنَ، وَلَمْ يَكُنْ خَطَرَ عَلَى بَالِي مِنْ قَبْلُ عَلَى وُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ.

وَهَلْ يُعْطَى هَذَا الْأَجْرُ الْمَفْرُوضُ وَالْمَهْرُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَوْ بَعْدَهُ؟

إِذَا قُلْنَا:

ص: 10

إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي: اسْتَمْتَعْتُمْ لِلطَّلَبِ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَمَنْ طَلَبْتُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا أَوْ تَنْتَفِعُوا بِتَزَوُّجِهَا فَأَعْطُوهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَفْرِضُونَهُ لَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَرِيضَةً تَفْرِضُونَهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِلطَّلَبِ، يَكُونُ الْمَعْنَى فَمَنْ تَمَتَّعْتُمْ بِتَزَوُّجِهَا مِنْهُنَّ بِأَنْ دَخَلْتُمْ بِهَا أَوْ صِرْتُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الدُّخُولِ بِهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَعْطُوهَا مَهْرَهَا عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوِ افْرِضُوهُ لَهَا فَرِيضَةً، أَوْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَرِيضَةً لَا هَوَادَةَ فِيهَا، أَوْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَهْرِ فَرِيضَةً مِنْكُمْ أَوْ مِنْهُ تَعَالَى، فَالْمَهْرُ يُفْرَضُ وَيُعَيَّنُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِيتَاءً وَإِعْطَاءً حَتَّى قَبْلَ الْقَبْضِ، يَقُولُونَ حَتَّى الْآنَ: عَقَدَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةَ وَأَمْهَرَهَا بِأَلْفٍ أَوْ أَعْطَاهَا عَشَرَةَ آلَافٍ مَثَلًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَيْضًا: فَرَضَ لَهَا كَذَا فَرِيضَةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنَّ الَّذِي فَرَضَ الْفَرِيضَةَ هُوَ الزَّوْجُ بِتَقْدِيمِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (2: 236)، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ (2: 237) ، فَالْمَهْرُ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ بِفَرْضِهِ وَتَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ وَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُعْطَى، وَالْعَادَةُ أَنْ يُعْطَى كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يُجِبُ كُلُّهُ إِلَّا بِالدُّخُولِ ; لِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لَا كُلُّهُ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمَرْأَةِ بِمُعَجَّلِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا، أَوْ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالدُّخُولِ، بَلْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ الْمَعْهُودِ فَيَغْلِبُ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً.

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ تَعَالَى إِذَا تَرَاضَيْتُمْ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهَا أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا أَوْ حَطِّهَا كُلِّهَا، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ تَكُونُوا فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ تَصْلُحُ بِهَا شُئُونُكُمْ، وَتَرْتَقِي بِهَا أُمَّتُكُمْ، وَالشَّرْعُ يَضَعُ لَكُمْ قَوَاعِدَ الْعَدْلِ، وَيَهْدِيكُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِحِكْمَتِهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ صَلَاحَ حَالِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ يُرِيدُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَجْرًا يُكَافِئُهَا بِهِ عَلَى قَبُولِ قِيَامِهِ وَرِيَاسَتِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذِنَ

لَهُ وَلَهَا فِي التَّرَاضِي عَلَى مَا يَرَيَانِ الْخَيْرَ فِيهِ لَهُمَا وَالِائْتِلَافَ وَالْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمَا.

هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ ; فَإِنَّهَا قَدْ بَيَّنَتْ مَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا حُرِّمَ فِيمَا قَبْلَهَا وَفِي صَدْرِهَا، وَبَيَّنَتْ كَيْفِيَّتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ وَبِأَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِحْصَانَ دُونَ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِسَفْحِ الْمَاءِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ " نِكَاحُ الْمُتْعَةِ ": وَهُوَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلًا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ رُوِيَتْ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَبِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ

ص: 11

فِي الْمُتْعَةِ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ شَاذَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ قُرْآنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا صَحَّتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ مِنْ مِثْلِ هَذَا آحَادًا، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فَهْمٌ لِصَاحِبِهِ، وَفَهْمُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ حُجَّةً فِي الدِّينِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ النَّظْمُ وَالْأُسْلُوبُ يَأْبَاهُ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالنِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ لَا يَقْصِدُ الْإِحْصَانَ دُونَ الْمُسَافَحَةِ، بَلْ يَكُونُ قَصْدُهُ الْأَوَّلُ الْمُسَافَحَةَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَوْعٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا مِنَ التَّنَقُّلِ فِي دِمَنِ الزِّنَا ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ لِرَجُلٍ فَتَكُونُ كَمَا قِيلَ:

كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةٍ

فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ

ثُمَّ إِنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى هَذَا، كَقَوْلِهِ عز وجل فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (23: 5 - 7)، أَيِ: الْمُتَجَاوِزُونَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُمْ إِلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ لَا تُعَارِضُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَلْ هِيَ بِمَعْنَاهَا فَلَا نَسْخَ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَمَتَّعُ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً فَيَكُونُ لَهَا عَلَى الرَّجُلِ مِثْلُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشِّيعَةِ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا أَحْكَامَ الزَّوْجَةِ وَلَوَازِمَهَا، فَلَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْأَرْبَعِ اللَّوَاتِي تَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ، بَلْ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْكَثِيرِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا يَقُولُونَ بِرَجْمِ الزَّانِي الْمُتَمَتِّعِ إِذْ لَا يَعُدُّونَهُ مُحْصَنًا، وَذَلِكَ قَطْعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْتَمْتِعِينَ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ صَرِيحٌ مِنْهُمْ، وَنَقَلَ عَنْهُمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَ لَهَا إِرْثٌ وَلَا نَفَقَةٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عِدَّةٌ! وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا شِبْهَ دَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يُرَخِّصُ لِأَصْحَابِهِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا نَهْيًا مُؤَبَّدًا، وَأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لِلْعِلْمِ بِمَشَقَّةِ اجْتِنَابِ الزِّنَا مَعَ الْبُعْدِ عَنْ نِسَائِهِمْ فَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ خَلِيَّةٍ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا وَأَقَامَ مَعَهَا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ تَصَدِّيهِ لِلزِّنَا بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَمِيلَهَا، وَيَرَى أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْمُتْعَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَقْرُبُ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي مَنْعِ الزِّنَا مَنْعًا بَاتًّا كَمَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكِلْتَا الْفَاحِشَتَيْنِ كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فُشُوَّ الزِّنَا كَانَ فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ بِالْمُتْعَةِ لَمْ تُنْسَخْ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ وَالِاخْتِيَارِ، لَا فِي حَالِ الْعَنَتِ وَالِاضْطِرَارِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَسْفَارِ، وَأَشْهَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ

ص: 12

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ فِيهَا قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاكَ الرُّكْبَانُ، وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ، قَالَ: وَمَا قَالُوا؟ قُلْتُ: قَالُوا:

قَدْ قُلْتُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ

يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ

هَلْ لَكَ فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ

تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ

فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ! وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا تَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيزُهَا إِلَّا لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَعَجَزَ عَنِ التَّزَوُّجِ الَّذِي مَبْنَى عَقْدِهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا مَفَرَّ لَهُ مِنَ الزِّنَا إِلَّا بِهَذَا الزَّوَاجِ الْمُوَقَّتِ، وَرَوَوْا أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ خَطَّأَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي رَأْيِهِ هَذَا، فَرَجَعَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلَدَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ مُقِيمٌ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ:

إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (23: 6) ، فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ، وَبِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مَكِّيَّةٌ، وَبِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي التَّارِيخِ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُسَافِرُ إِلَى الْبَلَدِ فَيُقِيمُ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مُعَرَّضِينَ لِلْقَتْلِ أَيْنَمَا ثُقِفُوا، نَعَمْ إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَيْسَ مُحَالًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَرِدْ بِهِ رِوَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ عَنْ أَحَدٍ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ كَانَ شَائِعًا، فَعِبَارَةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَتِمُّ عَلَيْهَا وَتَشْهَدُ أَنَّهَا لُفِّقَتْ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَالْإِنْصَافُ أَنَّ مَجْمُوعَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَلَى فَتْوَاهُ بِالْمُتْعَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ مُعَارَضٌ بِالنُّصُوصِ، وَيُقَابِلُهُ اجْتِهَادُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْعُمْدَةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا وُجُوهٌ، (أَوَّلُهَا) : مَا عَلِمْتَ مِنْ مُنَافَاتِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، إِنْ لَمْ نَقُلْ لِنُصُوصِهِ، (وَثَانِيهَا) : الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَمَعَ مُتُونَهَا وَطُرُقَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَإِلَى شَرْحِ النَّوَوِيِّ لَهُ، وَكَذَا شَرْحُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ لِلْبُخَارِيِّ (وَثَالِثُهَا) : نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا فِي خِلَافَتِهِ وَإِشَادَتُهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ وَإِقْرَارُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ عَلَى مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْجِعُونَهُ إِذَا أَخْطَأَ، وَمِنْهُ مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (4: 20) ، [رَاجِعْ ص 375

ص: 13

وَمَا بَعْدَهَا جـ4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، فَقَدْ خَطَّأَتْهُ امْرَأَةٌ فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهَا وَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنَ الشِّيعَةِ: إِنَّهُمْ سَكَتُوا تَقِيَّةً، وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه:" أَنَا مُحَرِّمُهَا "، فَقَالُوا: إِنَّهُ حَرَّمَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَوْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى نَصٍّ لَذَكَرَهُ، وَأُجِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيِّ، فَيَظْهَرُ أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ اللَّفْظَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ لَفْظُهُ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُبَيِّنٌ تَحْرِيمَهَا أَوْ مُنَفِّذٌ لَهُ، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِسْنَادُ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَالْإِبَاحَةِ إِلَى مُبَيِّنِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالُوا: حَرَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّبِيذَ، وَأَحَلَّهُ أَوْ أَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لَمْ يَعْنُوا أَنَّهُمَا شَرَّعَا ذَلِكَ

مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ بَيَّنُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وَقَدْ كُنَّا قُلْنَا فِي " مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ " الَّتِي نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ: إِنَّ عُمَرَ مَنَعَ الْمُتْعَةَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ فَنَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّاهِدِ وَالْمِثَالِ، لَا التَّمْحِيصِ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ.

وَتَقُولُ الشِّيعَةُ: إِنَّ لَدَيْهِمْ رِوَايَاتٍ عَنْ آلِ الْبَيْتِ عليهم السلام قَاطِعَةً بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَأَسَانِيدِهَا لِنَحْكُمَ فِيهَا فَأَيْنَ هِيَ؟ وَلَكِنْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ إِمَامَ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ مَعَ الْمُحَرِّمِينَ لَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْغُلَاةِ فِي التَّعَصُّبِ مِنْهُمْ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ الْخَصْمِ؛ وَلِأَنَّ شِيعَتَهُ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِهِ، وَيُجِيبُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَمُغَالَطَةٌ ; فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَتِ الشِّيعَةُ بِهَا شِيعَةً، وَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يُهِمُّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحَرِّرَ الرِّوَايَةَ فِيهَا عَنْ عُلَمَاءِ الصَّاحِبَةِ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كَوْنِ عَلِيٍّ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رُوَاةَ الْأَحَادِيثِ الْمُدَوَّنَةِ فِي دَوَاوِينِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ قِسْمَانِ: مِنْهُمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ مَذْهَبًا فَيُتَّهَمُوا بِتَأْيِيدِهِ بِالرِّوَايَاتِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَالرِّوَايَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَإِلَّا مَا صَحَّ مِنْهَا يَذْهَبُونَ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْمَذَاهِبِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، وَقَدْ كَانَ عُدُولُهُمْ يَرْوُونَ مَا يُوَافِقُهَا وَمَا يُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ اللهَ بِالصِّدْقِ فِي الرِّوَايَةِ وَيَكِلُونَ إِلَى فُقَهَائِهِمْ بَيَانَ مَعْنَاهَا وَتَرْجِيحَ الْمُتَعَارَضِ مِنْهَا، بَلْ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ طَعْنٍ فِي بَعْضِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ، فَعَدَالَةُ الرُّوَاةِ هِيَ الْعُمْدَةُ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى قَوَاعِدِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَرَاجِمِ الرِّجَالِ وَتَمْحِيصِ مَا قِيلَ فِي جَرْحِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ كَانَتْ سَبَبًا لِلْوَضْعِ وَالْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ نَقْدَ الرُّوَاةِ الْمُقَلِّدِينَ هُوَ أَهَمُّ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْمُتْعَةِ لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ عَدَّلَ الْمُحَدِّثُونَ

ص: 14

مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَثِيرًا مِنَ الشِّيعَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَا سَعَةَ فِي التَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ بَلْ أَخْشَى أَنْ أَكُونَ قَدْ خَرَجْتُ بِهَذَا الْبَحْثِ عَنْ مِنْهَاجِي فِيهِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ

الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ تَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَادِيهِمْ، عَلَى أَنَّنِي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى غَيْرِ مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَقَدْ بَدَأْتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْبَحْثِ وَأَنَا أَنْوِي أَلَّا أَكْتُبَ فِيهِ إِلَّا بِضْعَةَ أَسْطُرٍ ; لِأَنَّنِي لَا أُرِيدُ تَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِي الرِّوَايَاتِ هُنَا، وَلَيْسَ عِنْدِي حَيْثُ أَكْتُبُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ فَأُرَاجِعَهَا فِيهِ، وَلَكِنْ مَا كَتَبْتُهُ هُوَ صَفْوَتَهَا وَصَفْوَةَ مَا قَالُوهُ فِيهَا، فَإِنِ اطَّلَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلشِّيعَةِ بِأَسَانِيدِهَا، فَرُبَّمَا نَكْتُبُ فِي ذَلِكَ مَقَالًا نُمَحِّصُ فِيهِ مَا وَرَدَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَعْتَقِدُ مِنْ قَوَاعِدِ التَّعَرُّضِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَنْشُرُ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.

هَذَا، وَإِنَّ تَشْدِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي مَنْعِ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ النِّكَاحِ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَكُونُ صَحِيحًا إِذَا نَوَى الزَّوْجُ التَّوْقِيتَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ كِتْمَانَهُ إِيَّاهُ يُعَدُّ خِدَاعًا وَغِشًّا، وَهُوَ أَجْدَرُ بِالْبُطْلَانِ مِنَ الْعَقْدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْقِيتُ، وَيَكُونُ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ إِلَّا الْعَبَثَ بِهَذِهِ الرَّابِطَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِيثَارُ التَّنَقُّلِ فِي مَرَاتِعِ الشَّهَوَاتِ بَيْنَ الذَوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى ذَلِكَ غِشًّا وَخِدَاعًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَذَهَابِ الثِّقَةِ حَتَّى بِالصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالزَّوَاجِ حَقِيقَتَهُ، وَهُوَ إِحْصَانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَإِخْلَاصُهُ لَهُ وَتَعَاوُنُهُمَا عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ صَالِحٍ بَيْنَ بُيُوتِ الْأُمَّةِ.

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ الِاسْتِطَاعَةُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي طَوْعِكَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِكَ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْإِطَاقَةِ، وَالطَّوْلُ: الْغِنَى وَالْفَضْلُ مِنَ الْمَالِ وَالْحَالِ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَالْمُحْصَنَاتُ: فُسِّرَتْ هُنَا بِالْحَرَائِرِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْفَتَيَاتِ وَهُنَّ الْإِمَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ كَانَتْ عِنْدَهُمْ دَاعِيَةَ الْإِحْصَانِ، وَالْبِغَاءُ شَأْنُ الْإِمَاءِ، قَالَتْ

هِنْدُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟ وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُنَّ بِهَذَا اللَّقَبِ إِرْشَادٌ إِلَى تَكْرِيمِهِنَّ ; فَإِنَّ الْفَتَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ وَعَلَى الْكَرِيمَةِ السَّخِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُعَبِّرُوا عَنْ عَبِيدِكُمْ وَإِمَائِكُمْ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ، بَلْ بِلَفْظِ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ الْمُشْعِرِ بِالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ مُبَلِّغُ الْقُرْآنِ وَمَبَيِّنُهُ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ:" لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلَا يَقُلِ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي ; لِيَقْلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلِيَقُلِ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ هُوَ اللهُ عز وجل " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ أَيْضًا إِلَى زِيَادَةِ تَكْرِيمِ الْأَرِقَّاءِ إِذَا كَبِرُوا فِي السِّنِّ بِتَقْلِيلِ الْخِدْمَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ.

ص: 15

وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فِي الْمَالِ أَوِ الْحَالِ لِنِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ، أَوْ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ اسْتِطَاعَةَ طَوْلٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الطَّوْلِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا نِكَاحَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأُمِرْتُمْ أَنْ تَقْصِدُوا بِالِاسْتِمْتَاعِ وَالِانْتِفَاعِ بِنِكَاحِهِنَّ الْإِحْصَانَ لَهُنَّ وَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلْيَنْكِحِ امْرَأَةً مِنْ نَوْعِ مَا مَلَكْتُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ، أَيْ: إِمَائِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ تَبَعًا لِجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ كَوْنِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ النِّكَاحَ الثَّابِتَ، لَا الْمُتْعَةَ الَّتِي هِيَ اسْتِئْجَارٌ عَارِضٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الِانْتِفَاعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلِ الَّذِي شَكَا مِنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِطَلَاقِهَا:" فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ تُجِيزُ الْمُتْعَةَ بِالْحَرَائِرِ لَمَا كَانَ لِوَصْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَا فَائِدَةٌ، وَأَيُّ امْرِئٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُتْعَةَ لِعَدَمِ الطَّوْلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ فَيَجْعَلَ بِهَا نَسْلَهُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَسْتَطِيعُهَا لِعَدَمِ رَغْبَةِ النِّسَاءِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعَارِ، قُلْنَا: إِنْ صَحَّ أَنَّ هَذَا مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فَهُوَ لَا يُفِيدُ هَذَا الْقَائِلَ ; لِأَنَّ سَبَبَ عَدِّ الْمُتْعَةِ عَارًا فِي الْغَالِبِ هُوَ تَحْرِيمُهَا، وَمَنْ لَا يُحَرِّمُهَا كَالشِّيعَةِ فَإِنَّمَا يُبِيحُونَهَا فِي الْغَالِبِ اعْتِقَادًا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ لِغَلَبَةِ شُعُورِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ عَارِ الْمُتْعَةِ، وَقَلَّمَا يَتْرُكُهُ أَحَدٌ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَنْ يَتْرُكُهُ تَدَيُّنًا فِي الْغَالِبِ، وَخَوْفًا مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَى الْمُتْعَةِ أَقْدَرَ، وَمِنَ الْغَفْلَةِ أَنْ تُقَيَّدَ الْأَحْكَامُ

بِعَادَاتِ بَعْضِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ كَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ حَتَّى مِنَ التَّشْرِيعِ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الطَّوْلَ هُنَا بِالْمَالِ الَّذِي يُدْفَعُ مَهْرًا، وَهُوَ تَحَكُّمٌ ضَيَّقُوا بِهِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الطُّولِ بِالضَّمِّ، فَمَعْنَاهَا الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ، وَالْفَضْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالطَّبَقَاتِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ الْمَهْرَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ دِينَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُرِيدِ الزَّوَاجِ:" الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ:" تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ "، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ بِالْتِمَاسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَتَزَوَّجَ بَعْضُهُمْ بِنَعْلَيْنِ، وَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُقَيِّدِ السَّلَفُ الْمَهْرَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَتَفْسِيرُ الطَّوْلِ بِالْغِنَى لَا يُلَائِمُ تَحْدِيدَ الْمُحَدِّدِينَ ; فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَجِدُ أَمَةً يَرْضَى أَنْ يُزَوِّجَهَا سَيِّدُهَا بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ نَعْلَيْنِ، وَفَسَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ـ أَوْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ـ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ يَسْتَمْتِعُ بِنِكَاحِهَا بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مُتَزَوِّجًا امْرَأَةً حُرَّةً مُؤْمِنَةً فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، فَحَاصِلُهُ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرَّةِ

ص: 16

وَالْأَمَةِ (قَالَ) : وَالطَّوْلُ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَهُوَ الْفَضْلُ وَالسَّعَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالْمَادِّيَّةُ، فَقَدْ يَعْجِزُ الرَّجُلُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِحُرَّةٍ، وَهُوَ ذُو مَالٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُعْتَادِ لِنُفُورِ النِّسَاءِ مِنْهُ لِعَيْبٍ فِي خَلْقِهِ أَوْ خُلُقِهِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِ الْمَهْرِ مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، فَإِنَّ لَهَا حُقُوقًا كَثِيرَةً فِي النَّفَقَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْأَمَةِ مِثْلُ تِلْكَ الْحُقُوقِ كُلِّهَا، فَفَقْدُ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ لَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُؤْمِنَاتِ لَيْسَ بِقَيْدٍ فِي الْحَرَائِرِ وَلَا فِي الْإِمَاءِ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُنَّ أُولَئِكَ الْوَثَنِيَّاتُ اللَّوَاتِي لَا كِتَابَ لِقَوْمِهِنَّ، وَسَكَتَ عَنْ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ لَا يَشْمَلُهُنَّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ص 282 ج 2 تَفْسِيرٌ - فَكَانَ الزَّوَاجُ مَحْصُورًا فِي الْمُؤْمِنَاتِ، فَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ، أَيْ: وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَرَّضِينَ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِحِلِّ زَوَاجِهِنَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ

قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْوَصْفِ بِالْمُؤْمِنَةِ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْجِيحِهَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.

أَقُولُ: فِي هَذَا أَحْسَنُ تَخْرِيجٍ وَتَوْجِيهٍ لِمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُمْ يَبْنُونَهُ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ بَلْهَ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَظَاهِرُ وَصْفِ الْفَتَيَاتِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَدْ أَحَلَّ اللهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ـ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ ـ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُنَّ الْعَفَائِفُ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ نَاسِخَةً لِمَفْهُومِهِ، أَوْ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ خَاصٌّ، وَعِنْدِي أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ تَارَةً يَكُونُ مُرَادًا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ أَوِ انْسَخْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ الْفُقَرَاءِ تَعَيَّنَ أَلَّا يُوَزَّعَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ مَقْصُودَةٌ لِمَعْنًى فِيهَا كَانَ هُوَ سَبَبَ الْعَطَاءِ، وَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى الْخَدَمِ الْوَاقِفِينَ بِالْبَابِ، جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا لِلْوَاقِفِ مِنْهُمْ وَالْقَاعِدِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ هَاهُنَا ذُكِرَتْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ الْمُعْتَادِ لَا لِمَعْنًى فِي الْوُقُوفِ يَقْتَضِي الْعَطَاءَ، فَبِالْقَرَائِنِ تُعْرَفُ الصِّفَةُ الَّتِي يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَالصِّفَةُ الَّتِي لَا يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مِنَ الْقَرِينَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْوَصْفِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ إِلَّا الْمُشْرِكَاتُ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِنَصِّ آيَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَوْلَا الْقَيْدُ هُنَا لَتُوُهِّمَ نَسْخُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَا الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَفَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ الْمُشْرِكَاتِ حَلَالٌ فَاسْتَمْتَعُوا بِهِنَّ يَوْمَ أَوْطَاسٍ، فَالْمَفْهُومُ هُنَا خَاصٌّ بِالْمُشْرِكَاتِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فَحَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ حَتَّى يُؤْمِنَّ ; لِأَنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً

ص: 17

خَاصَّةً بِالْعَرَبِ وَهِيَ عَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ؛ لِيَكُونُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يُقِرُّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَيَرْضَى مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ; وَلِذَلِكَ أَجَازَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُوَادَّتِهِمْ أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ وَيَتَزَوَّجُوا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَقَرَّ الْمَجُوسَ عَلَى دِينِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ رَفَعَ شَأْنَ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَسَاوَى بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْإِيمَانِ وَدَرَجَاتِ قُوَّتِهِ، وَكَمَالِهِ، فَرُبَّ أَمَةٍ أَكْمَلَ إِيمَانًا مِنْ حُرَّةٍ فَتَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، أَيْ: فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ تَعُدُّوا نِكَاحَ الْأَمَةِ عَارًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الْإِيمَانِ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (3: 195)، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (9: 71)، وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (9: 67) ، إِلَخْ، وَقِيلَ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي النَّسَبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَرَى فَالْإِيمَانُ هُوَ الْمُرَادُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَنْكِحَ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصُ الشِّرْكِ وَنَقْصُ الرِّقِّ.

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أَيْ: فَإِذَا رَغِبْتُمْ فِي نِكَاحِهِنَّ ـ لَمَّا رَفَعَ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنِهِنَّ ـ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَهْلِ هُنَا الْمَوَالِي الْمَالِكُونَ لَهُنَّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ مَنْ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِينَ، فَلِلْأَبِ أَوِ الْجَدِّ، أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيِّ تَزْوِيجُ أَمَةِ الْيَتِيمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي الْفِقْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ فِي تَزْوِيجِ أَوْلِيَائِهَا لَهَا وَعَدَمِ تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنَ الْحُرَّةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنِ أَوْلِيَائِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ رِضَا الْمَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنْ تَوَلِّي وَلِيِّهَا فِي النَّسَبِ لِلْعَقْدِ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا فَالْمَوْلَى أَوِ الْقَاضِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ.

وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: وَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ، فَالْمَهْرُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهُوَ لَهَا لَا لِمَوْلَاهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَآتُوا أَهْلَهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ بِأَنَّ قَيْدَ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مُعْتَبَرٌ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَهْرَ عِنْدَهُنَّ هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ حَقِّهِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَهْرَ لَهَا لَا يُنْكِرُ أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ، وَكَوْنُ مِلْكِهِ لِسَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا يَرَى أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ حَقُّ الزَّوْجَةِ تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا وَيَكُونُ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا فِي مُقَابَلَةِ رِيَاسَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُ الْأَمَةِ الَّتِي يُزَوِّجَهَا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا

بِحَقِّ الْمِلْكِ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ لَهَا تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِذَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَمِلْكِ الْأَمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ لِمَهْرِهَا، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ

ص: 18

ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَوْ قَوَاعِدِ فِقْهِهِ؟ وَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ ـ مَعَ خُضُوعِهِ لِحُكْمِ رَبِّهِ ـ إِنْ شَاءَ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ، بَلْ فَتَاتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ مُكْتَفِيًا بِمَا قَرَّرَهُ لَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ امْتِلَاكِ ذُرِّيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الزَّوْجِ عِوَضًا مَالِيًّا وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مُتَعَلِّقًا بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ، وَبَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ، أَيْ: وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ فِي حُسْنِ التَّعَامُلِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِذْنِ الْأَهْلِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِيتَاءُ الْأُجُورِ بِالْمَعْرُوفِ مَعْنَاهُ بِالْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا كَمَا قَالَ فِي الْحَرَائِرِ: فَرِيضَةً لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِيهِ أَخَفُّ وَالْأَمْرَ أَهْوَنُ، وَالتَّسَاهُلُ فِي أُجُورِ الْإِمَاءِ مَعْهُودٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي إِعْطَائِهَا الْمَهْرَ مَعَ كَوْنِهَا لَا تَمْلِكُ ; لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يَقْبِضُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - أَوْ قَالَ: أَصْحَابِ مَالِكٍ - أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ جَارِيَتَهُ فَقَدْ جَعَلَ لِلزَّوْجِ ضَرْبًا مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا لَا يُشَارِكُهُ هُوَ فِيهِ، فَمَا تَأْخُذُهُ مِنَ الزَّوْجِ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَسْقَطَ السَّيِّدُ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْهُ، بَلْ يَكُونُ لَهَا وَحْدَهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، قَيْدٌ لِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ أَوْ لِقَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُتَزَوِّجَاتِ، أَيْ: أَعْطُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُتَزَوِّجَاتٍ مِنْكُمْ لَا مُسْتَأْجَرَاتٍ لِلْبِغَاءِ جَهْرًا وَهُنَّ الْمُسَافِحَاتُ، وَلَا سِرًّا وَهُنَّ مُتَّخِذَاتُ الْأَخْدَانِ، فَالْخِدْنُ: هُوَ الصَّاحِبُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكَانَ الزِّنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: سِرٌّ وَعَلَانِيَةٌ، وَعَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْخَاصُّ السِّرِّيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ خِدْنٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا فَلَا تَبْذُلُ نَفْسَهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْعَامُّ الْجَهْرِيُّ: هُوَ الْمُرَادُ بِالسِّفَاحِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْبِغَاءُ، وَكَانَ الْبَغَايَا مِنَ الْإِمَاءِ، وَكُنَّ يَنْصِبْنَ الرَّايَاتِ الْحُمْرَ لِتُعْرَفَ مَنَازِلُهُنَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَقُولُونَ:

إِنَّهُ لُؤْمٌ، وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ وَيَقُولُونَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلِتَحْرِيمِ الْقِسْمَيْنِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (6: 151) ، وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهِمْ لِزِنَا الْعَلَانِيَةِ اسْتِقْبَاحُهُ، وَعَدُّ مَا يَأْتِيهِ لَئِيمًا، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ مِنَ الزِّنَا مَعْرُوفَانِ الْآنَ وَفَاشِيَانِ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ وَالْبِلَادِ الَّتِي تُقَلِّدُ الْإِفْرِنْجَ فِي شُرُورِ مَدَنِيَّتِهِمْ كَمِصْرَ وَالْآسِتَانَةِ وَبَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَيُسَمِّي الْمِصْرِيُّونَ الْخِدْنَ بِالرَّفِيقَةِ، وَالتُّرْكُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّفِيقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمِثْلُهُمُ التَّتَرُ فِي رُوسْيَا فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْعُرْفِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَالْمُتَفَرْنِجِينَ مَنْ هُمْ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْسِنُونَ الزِّنَا السِّرِّيِّ وَيُبِيحُونَهُ، وَيَسْتَقْبِحُونَ الْجَهْرِيَّ وَقَدْ يَمْنَعُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمُّ شَرٌّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَكِنَّ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ

ص: 19

يَسْتَبِيحُونَهَا بِالْعَمَلِ دُونَ الْقَوْلِ! ! وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَخْدَعُهُ جَاهِلِيَّتُهُ فَتُوهِمُهُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ الدِّينِ إِذَا هُوَ اسْتَبَاحَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ بِالْعَمَلِ فَوَاظَبَ عَلَيْهَا بِلَا خَوْفٍ مِنَ اللهِ، وَلَا حَيَاءٍ، وَلَا لَوْمٍ مِنَ النَّفْسِ وَلَا تَوْبِيخٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَقُولَ هِيَ حَلَالٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ مَرَّةً عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْمُعَامَلَاتِ: إِنَّهَا مِنَ الرِّبَا، وَقَالَ: إِنَّنِي أَنَا آكُلُ الرِّبَا لَا أُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّنِي مُسْلِمٌ لَا أَقُولُ إِنَّهُ حَلَالٌ! ! فَكَأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا، وَبِأَنَّهُ فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَاسْتَحَبَّ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدُّوهَا، وَيَجْهَلُ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَوْجَبَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ، فَهَلْ صَلَحَتْ بِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ وَأَحْوَالُهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارُوا أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ؟ !

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَا فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنَ الْإِحْصَانِ، وَتَكْمِيلِ النُّفُوسِ بِالْعِفَّةِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَاخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَقَالَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ عَامَّةً، وَالْأَبْكَارَ مِنْهُمْ خَاصَّةً أَبْعَدُ مِنَ الرِّجَالِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ أَكْثَرَ تَعَرُّضًا لِخَدْشِ الْعِفَّةِ، وَانْقِيَادًا لِطَاعَةِ الشَّهْوَةِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ هُمُ الطَّالِبِينَ لِلنِّسَاءِ وَالْقَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ وَعَدَمِ السِّفَاحِ مِنْ قِبَلِهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا هُوَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِمَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يَشْتَرُونَهُنَّ لِأَجْلِ الِاكْتِسَابِ

بِبِغَائِهِنَّ، حَتَّى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ - رَأْسَ النِّفَاقِ - كَانَ يُكْرِهُ إِمَاءَهُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمْنَ عَلَى الْبِغَاءِ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنِ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (24: 33) ، وَلَمَّا كُنَّ أَيْضًا مَظَنَّةً لِلزِّنَا لِذُلِّهِنَّ وَضَعْفِ نُفُوسِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ رَجُلٍ إِلَى آخَرَ، فَلَمْ تَتَوَطَّنْ نُفُوسُهُنَّ عَلَى عِيشَةِ الِاخْتِصَاصِ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ يَرَى لَهُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُنَّ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهِنَّ، فَاشْتَرَطَ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُ أَمَةً أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً مَصُونَةً مِنَ الزِّنَا فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، يَكُونُ الْمُرَادُ: انْكِحُوهُنَّ مُحْصِنَاتٍ لَكُمْ وَلِأَنْفُسِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ يُمَكِّنَّ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ أَيَّ طَالِبٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَأَصْحَابٍ ـ أَوْ رُفَقَاءَ كَمَا فِي عُرْفِ الْمِصْرِيِّينَ ـ تَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِصَاحِبٍ.

ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: فَإِذَا فَعَلْنَ الْفِعْلَةَ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ الزِّنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِنَّ بِالزَّوَاجِ فَعَلَيْهِنَّ مِنَ الْعِقَابِ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْكَامِلَاتِ، وَهُنَّ الْحَرَائِرُ إِذَا زَنَيْنَ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:

ص: 20

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (24: 2) ، فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَتُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْحُرَّةِ أَبْعَدَ عَنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ، وَالْأَمَةُ عُرْضَةٌ لَهَا وَضَعِيفَةٌ عَنْ مُقَاوَمَتِهَا، فَرَحِمَ الشَّارِعُ ضَعْفَهَا فَخَفَّفَ الْعِقَابَ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي تِلْكَ ـ الْآيَةِ ـ آيَةِ الْجَلْدِ ـ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَافَّةً وِفَاقًا لِقَاعِدَةِ:" الْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا "، فَظَاهِرُهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُحَدُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَظَاهِرُ آيَةِ النُّورِ أَنَّهَا تُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُحْصَنَةً أَمْ أَيِّمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَيِّمُ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ لَكَانَ لِذَاهِبٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا خَصَّصَتِ الزَّانِيَةَ الْحُرَّةَ بِالْمُحْصَنَةِ لِلْمُقَابَلَةِ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَاءِ اللَّوَاتِي أُحْصِنَّ وَبَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْحَرَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ

مِنَ النِّسَاءِ بِالْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، قَالُوا: بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِمَاءِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِمَاءِ الْمُحْصَنَاتِ لَا مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدُوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِقَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَنْ تَزَوَّجَتْ مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ وَإِنْ آمَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَالْوَصْفُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْصَنَةَ بِالزَّوَاجِ هِيَ الَّتِي لَهَا زَوْجَ يُحْصِنُهَا، فَإِذَا فَارَقَهَا لَا تُسَمَّى مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُسَمَّى مُتَزَوِّجَةً، كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَالْمَرِيضُ إِذَا بَرِئَ لَا يُسَمَّى مَرِيضًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الَّذِينَ خَصُّوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْأَبْكَارِ: إِنَّهُنَّ قَدْ أَحْصَنَتْهُنَّ الْبَكَارَةُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْبَكَارَةَ حِصْنٌ مَنِيعٌ لَا تَتَصَدَّى صَاحِبَتُهُ لِهَدْمِهِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَهِيَ عَلَى سَلَامَةِ فِطْرَتِهَا وَحَيَائِهَا وَعَدَمِ مُمَارَسَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَمَا حَقُّهُ إِلَّا أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ حِصْنُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَكِنْ مَا بَالُ الثَّيِّبِ الَّتِي فَقَدَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِصْنَيْنِ تُعَاقَبُ أَشَدَّ الْعُقُوبَتَيْنِ إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؟ هَلْ يَعُدُّونَ الزَّوَاجَ السَّابِقَ مُحَصِّنًا لَهَا وَمَا هُوَ إِلَّا إِزَالَةٌ لِحِصْنِ الْبَكَارَةِ وَتَعْوِيدٌ لِمُمَارِسَةِ الرِّجَالِ! فَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِنِظَامِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الثَّيِّبِ الَّتِي تَأْتِي الْفَاحِشَةَ دُونَ عُقَابِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَكَذَا دُونَ عِقَابِ الْبِكْرِ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْأَشَدِّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ فِي الْيَمَنِ يُعَاقِبُونَ بِالْقَتْلِ كُلًّا مِنَ الْبِكْرِ وَالْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا زَنَتَا، وَلَا يُعَاقِبُونَ الثَّيِّبَ بِالْقَتْلِ وَلَا بِالْجَلْدِ ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَعْذُورَةً طَبْعًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْذُورَةً شَرْعًا.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم حَكَمَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ عِنْدَمَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِهِمَا إِذْ أَتَيَا الْفَاحِشَةَ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ خِلَافًا لِمَنِ اشْتَرَطَهُ، وَرُوِيَ

ص: 21

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ لَا يَغُوصُ عَلَيْهِ إِلَّا غَوَّاصٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (5: 15) ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَحَكَمَ بِهِ فَصَارَ مَشْرُوعًا لَنَا، وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، أَيْ: مِمَّا تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ،

ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَوُجُوبَ اتِّبَاعِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الرَّجْمِ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ بَعْدَ آيَةِ الْجَلْدِ، ثُمَّ رُفِعَتْ وَبَقِيَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ.

وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِ مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيِّ وَالْغَامِدِيَّةِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِالزِّنَا، وَلَكِنَّهُ أَرْجَأَ الْمَرْأَةَ حَتَّى وَضَعَتْ، وَأَرْضَعَتْ، وَفَطَمَتْ وَلَدَهَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَيَا وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَجْمَ امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَلَدَ الْغُلَامَ الْعَسِيفَ (الْأَجِيرَ) الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرَةٍ، وَرَجَمَ الْمَرْأَةَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَظَاهِرُ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَنَّ السَّائِلَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ كَانَ الْجَلْدُ نَاسِخًا لِلرَّجْمِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، أَمْ كَانَ الرَّجْمُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْجَلْدِ بِجَعْلِهِ خَاصًّا بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ بِالزَّوَاجِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ ضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَا يَقُولُ بِأَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ حَدِيثًا صَرِيحًا فِي رَجْمِ الْأَيِّمِ الثَّيِّبِ، وَسَأَتَتَبَّعُ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ النُّورِ وَأُحَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي الْعُمْرِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْأَمَةَ غَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ لَكِنْ يَجْلِدُهَا سَيِّدُهَا، قِيلَ: حَدًّا، وَقِيلَ: تَعْزِيرًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوْ أَقَلَّ، أَقْوَالٌ وَوُجُوهٌ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَيُعْلَمُ حُكْمُهُمْ مِنَ الْآيَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْإِمَاءِ بِشَرْطِهِ، وَقِيلَ: كَالْأَحْرَارِ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَالْجُهْدُ وَالْفَسَادُ، قِيلَ: أَصْلُهُ انْكِسَارُ الْعَظْمِ بَعْدَ الْجَبْرِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ جَائِزٌ لِمَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ، وَالْفَسَادَ مِنَ الْتِزَامِ الْعِفَّةِ وَمُقَاوَمَةِ دَاعِيَةِ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مُقَاوَمَةَ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى وَأَرْسَخُ شُئُونِ

الْحَيَاةِ قَدْ تُفْضِي إِلَى أَمْرَاضٍ عَصَبِيَّةٍ وَغَيْرِ عَصَبِيَّةٍ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَنَتِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ بِارْتِكَابِ الزِّنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَنَتَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِثْمِ لُغَةً، وَنَقُولُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ هُوَ الضَّرَرُ فَيَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْعَنَتَ أَشُدُّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

ص: 22

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنِ الْعَنَتِ، فَقَالَ: الْإِثْمُ، قَالَ نَافِعٌ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

رَأَيْتُكَ تَبْتَغِي عَنَتِي وَتَسْعَى

مَعَ السَّاعِي عَلَيَّ بِغَيْرِ ذَحْلِ

وَأَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: وَصَبْرُكُمْ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكُمْ، لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْكُمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْمَعَايِبِ كَالذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالِابْتِذَالِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدِ الْأَعْمَالِ، وَسَرَيَانِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ إِلَى أَوْلَادِهِنَّ بِالْوِرَاثَةِ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، فَقَدْ يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِفَتَاةِ فُلَانٍ الْفَاضِلِ الْمُهَذَّبِ، وَلَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِأَمَةِ فُلَانٍ اللَّئِيمِ أَوِ الْفَاسِقِ الزَّنِيمِ، وَمَنْ كَانَتْ لِلْفَاضِلِ الْيَوْمَ قَدْ تَكُونُ لِلْفَاسِقِ غَدًا، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ، وَإِذَا نَكَحَ الْحُرُّ الْأَمَةَ فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَهِيَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ; وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظُ " زَوْجٍ " لِاتِّحَادِهِ بِالْآخَرِ وَإِنْ كَانَ فَرْدًا فِي ذَاتِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَزَحَّفَ نَاكِحُ الْأَمَةِ عَنِ الزِّنَا إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ

تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ وَمَلَكَةِ الْعِفَّةِ وَتَحْكِيمِ الْعَقْلِ بِالْهَوَى، وَمِنْ عَدَمِ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ لِلرِّقِّ، وَلِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ بِالْإِرْثِ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ، فَهِيَ تَشْعُرُ دَائِمًا بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَيَرِثُ أَوْلَادُهَا إِحْسَاسَهَا وَوِجْدَانَهَا الْخَسِيسَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا، وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ وَكَانَتْ لَمْ

تَحِلَّ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ جَائِزَةً؟ !

وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لِمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، رَحِيمٌ بِهِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الذَّنْبِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخْتَمُ بِهَا الْآيَاتُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ تُخَصَّ بِمَا تَتَّصِلُ بِهِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عُرْضَةً لِلْهَفَوَاتِ وَاللَّمَمِ كَعَدَمِ الطَّوْلِ، وَاحْتِقَارِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَالطَّعْنِ فِيهِنَّ عِنْدَ الْحَدِيثِ فِي نِكَاحِهِنَّ، ثُمَّ عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِنَّ، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ اتِّقَاؤُهُ، ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُهُ مِنْهَا.

ص: 23

يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِأَنْ يُعَلِّلَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَيُبَيِّنَ حُكْمَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْلِيلُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَخْ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: مَا هِيَ حِكْمَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفَائِدَتُهَا لَنَا؟ وَهَلْ كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ إِيَّاهَا أَوْ مِثْلَهَا فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا كُلَّ امْرَأَةٍ، وَهَلْ كَانَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا عَنْهُ تَشْدِيدًا عَلَيْنَا، أَمْ تَخْفِيفًا عَنَّا؟ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً أَجْوِبَةَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَخْطُرَ بِالْبَالِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ، فَاللَّامُ نَاصِبَةُ بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ ـ كَمَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ ـ وَمِثْلُهُ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (61: 8) ، أَقُولُ: وَيَجْعَلُ الْبَصْرِيُّونَ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفًا، وَاللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: يُرِيدُ اللهُ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ; لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ بِهِ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُكُمْ وَقِوَامُ فِطْرَتِكُمْ، وَلَهُمْ فِي هَذِهِ اللَّامِ أَقْوَالٌ أُخْرَى.

وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ " لِيُبَيِّنَ " لِتَتَوَجَّهَ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ ثَنَايَا الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى بَعْضِ الْحِكَمِ فِي تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَقِبَ سَرْدِهَا، وَرَأَيْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ ذِكْرَهَا فَنَجْعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا كَتَبْنَا عَنْهُ فِي مُذَكِّرَتِنَا بَيَانَ عَاطِفَةِ الْأَبِ السَّائِقَةِ إِلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ وَهِيَ تُذَكِّرُ بِغَيْرِهَا مِنْ مَرَاتِبِ صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ بِالْإِيجَازِ، وَمَحَلُّ الْإِسْهَابِ فِيهِ كُتُبُ الْأَخْلَاقِ.

إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ بَيْنَ النَّاسِ ضُرُوبًا مِنَ الصِّلَةِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَأَقْوَى هَذِهِ الصِّلَاتِ صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَصِلَةُ الصِّهْرِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَمَّا صِلَةُ الْقَرَابَةِ فَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعَاطِفَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ، فَمَنِ اكْتَنَهَ السِّرَّ فِي عَطْفِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ دَاعِيَةً فِطْرِيَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِثْلَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ كَنَظَرِهِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ،

ص: 24

وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِهِ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ شُعُورًا بِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَنْشَأَ وُجُودِهِ وَمُمِدَّ حَيَاتِهِ، وَقِوَامَ تَأْدِيبِهِ وَعُنْوَانَ شَرَفِهِ، وَبِهَذَا الشُّعُورِ يَحْتَرِمُ الِابْنُ أَبَاهُ، وَبِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ يَعْطِفُ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ وَيُسَاعِدُهُ.

هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ أَنَّ عَاطِفَةَ الْأُمِّ الْوَالِدِيَّةَ أَقْوَى مِنْ عَاطِفَةِ الْأَبِ، وَرَحْمَتَهَا أَشَدُّ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَحَنَانَهَا أَرْسَخُ مِنْ حَنَانِهِ ; لِأَنَّهَا أَرَقُّ قَلْبًا وَأَدَقُّ شُعُورًا، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَتَكَوَّنُ جَنِينًا مِنْ دَمِهَا الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهَا، ثُمَّ يَكُونُ طِفْلًا يَتَغَذَّى مِنْ لَبَنِهَا، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ كُلِّ مَصَّةٍ مِنْ ثَدْيِهَا عَاطِفَةٌ جَدِيدَةٌ يَسْتَلُّهَا مِنْ قَلْبِهَا، وَالطِّفْلُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أُمِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحِبُّ أَبَاهُ وَلَكِنْ دُونُ حُبِّهِ لِأُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَرِمُهُ أَشَدَّ مِمَّا يَحْتَرِمُهَا، أَفَلَيْسَ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يُزَاحِمَ هَذَا الْحُبَّ الْعَظِيمَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ حُبُّ اسْتِمْتَاعِ الشَّهْوَةِ فَيَزْحَمَهُ وَيُفْسِدَهُ وَهُوَ خَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ بَلَى ; وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْأَشَدَّ الْمُقَدَّمَ فِي الْآيَةِ وَيَلِيهِ تَحْرِيمُ الْبَنَاتِ، وَلَوْلَا مَا عُهِدَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ وَالْعَبَثِ بِهَا وَالْإِفْسَادِ فِيهَا، لَكَانَ لِسَلِيمِ الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ ; لِأَنَّ فِطْرَتَهُ تُشْعِرُ بِأَنَّ النُّزُوعَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْتَحِيلَاتِ.

وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا تُشْبِهُ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ ; فَإِنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ يَسْتَوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِنَّهُمَا يَنْشَآنِ فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَعَاطِفَةُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَتْ أَقْوَى فِي أَحَدِهِمَا مِنْهَا فِي الْآخَرِ كَقُوَّةِ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُبُوَّةِ عَلَى عَاطِفَةِ الْبُنُوَّةِ ; فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ أُنْسُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أُنْسَ مُسَاوَاةٍ لَا يُضَاهِيهِ أُنْسٌ آخَرُ إِذْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْبَشَرِ صِلَةٌ أُخْرَى فِيهَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ الْكَامِلَةِ، وَعَوَاطِفِ الْوُدِّ وَالثِّقَةِ الْمُتَبَادَلَةِ، وَيُحْكَى أَنَّ امْرَأَةً شَفَعَتْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فِي زَوْجِهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَكَانَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ فَشَفَّعَهَا فِي وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَنْ يَبْقَى فَاخْتَارَتْ أَخَاهَا فَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ الْأَخَ لَا عِوَضَ عَنْهُ، وَقَدْ مَاتَ الْوَالِدَانِ، وَأَمَّا الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فَيُمْكِنُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمَا بِمِثْلِهِمَا، فَأَعْجَبَهُ هَذَا الْجَوَابُ، وَعَفَا عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ: لَوِ اخْتَارَتِ الزَّوْجَ لَمَا أَبْقَيْتُ لَهَا أَحَدًا، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ صِلَةَ الْأُخُوَّةِ صِلَةٌ فِطْرِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَشْتَهِي بَعْضُهُمُ التَّمَتُّعَ بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ عَاطِفَةَ الْأُخُوَّةِ تَكُونُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ عَلَى النَّفْسِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِسِوَاهَا مَعَهَا مَوْضِعٌ مَا سَلِمَتِ الْفِطْرَةُ، فَقَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِمُعْتَلِّي الْفِطْرَةِ مَنْفَذٌ لِاسْتِبْدَالِ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ بِعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ.

وَأَمَّا الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَهُنَّ مِنْ طِينَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَفِي الْحَدِيثِ " عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ "، أَيْ: هُمَا كَالصِّنْوَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ النَّخْلَةِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ

ص: 25

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ (2: 133) ، فَعَدُّوا إِسْمَاعِيلَ مِنْ آبَائِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخٌ لِإِسْحَاقَ فَكَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ بِهِ صِلَةُ الْعُمُومَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُبُوَّةِ، وَصِلَةُ الْخُئُولَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُمُومَةِ، قَالُوا: إِنَّ تَحْرِيمَ الْجَدَّاتِ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَدَاخِلٌ فِيهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْفِطْرَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَاطِفَةِ صِلَةِ الْعُمُومَةِ وَالْخُئُولَةِ، وَالتَّرَاحُمُ وَالتَّعَاوُنُ بِهَا وَأَلَّا تَنْزَويَ الشَّهْوَةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ.

وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهُمَا مِنَ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ كَنَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَجِدُ لَهَا هَذِهِ الْعَاطِفَةَ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا

صَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّقِيمَةِ إِلَّا أَنَّ عَاطِفَةَ هَذَا تَكُونُ كَفِطْرَتِهِ فِي سَقَمِهَا، نَعَمْ إِنَّ عَطْفَ الرَّجُلِ عَلَى بِنْتِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أُنْسِهِ بِبَنَاتِهِمَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَبَيْنَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْحُبَّ لِهَؤُلَاءِ حُبُّ عَطْفٍ وَحَنَانٍ، وَالْحُبُّ لِأُولَئِكَ حُبُّ تَكْرِيمٍ وَاحْتِرَامٍ، فَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْبُعْدِ عَنْ مَوَاقِعِ الشَّهْوَةِ مُتَكَافِئَانِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ; لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِهِمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَصِلَتُهُمَا أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ.

هَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي يَتَرَاحَمُ النَّاسُ بِهَا وَيَتَعَاطَفُونَ، وَيَتَوَادُّونَ وَيَتَعَاوَنُونَ بِمَا جَعَلَ اللهُ لَهَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَالْعَطْفِ وَالِاحْتِرَامِ، فَحَرَّمَ اللهُ فِيهَا النِّكَاحَ لِأَجْلِ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَاطِفَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَمَحَبَّتُهَا إِلَى مَنْ ضَعُفَتِ الصِّلَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ النَّسَبِيَّةُ بَيْنَهُمْ كَالْغُرَبَاءِ وَالْأَجَانِبِ، وَالطَّبَقَاتِ الْبَعِيدَةِ مِنْ سُلَالَةِ الْأَقَارِبِ، كَأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَبِذَلِكَ تَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ قُرَابَةُ الصِّهْرِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ كَقُرَابَةِ النَّسَبِ، فَتَتَّسِعُ دَائِرَةُ الرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ الرُّوحِيَّةُ فِي مُحَرَّمَاتِ الْقَرَابَةِ.

ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ هُنَالِكَ حِكْمَةً جَسَدِيَّةً حَيَوِيَّةً عَظِيمَةً جَدًا، وَهِيَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَقَارِبِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ سَبَبًا لِضَعْفِ النَّسْلِ، فَإِذَا تَسَلْسَلَتْ وَاسْتَمَرَّتْ يَتَسَلْسَلُ الضَّعْفُ وَالضَّوَى فِيهِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ ; وَلِذَلِكَ سَبَبَانِ:

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، أَنَّ قُوَّةَ النَّسْلِ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ الشَّهْوَةُ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ ضَعِيفَةً بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِكَرَاهَةِ تَزَوُّجِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ إِلَخْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ شُعُورٌ

ص: 26

فِي النَّفْسِ يُزَاحِمُهُ شُعُورُ عَوَاطِفِ الْقَرَابَةِ الْمُضَادَّةِ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُزِيلَهُ وَإِمَّا أَنْ يُزَلْزِلَهُ وَيُضْعِفَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.

وَالسَّبَبُ الثَّانِي: يَعْرِفُهُ الْأَطِبَّاءُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ بِمِثَالٍ تَقْرِيبِيٍّ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْفَلَّاحِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي يَتَكَرَّرُ زَرْعُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْحُبُوبِ فِيهَا يَضْعُفُ هَذَا الزَّرْعُ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ لِقِلَّةِ الْمَوَادِّ الَّتِي هِيَ قِوَامُ غِذَائِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى الَّتِي لَا يَتَغَذَّى مِنْهَا وَمُزَاحَمَتِهَا لِغِذَائِهِ أَنْ يَخْلُصَ لَهُ، وَلَوْ زُرِعَ ذَلِكَ الْحَبُّ فِي

أَرْضٍ أُخْرَى وَزُرِعَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْحَبِّ لَنَمَا كُلٌّ مِنْهُمَا، بَلْ ثَبَتَ عِنْدَ الزُّرَّاعِ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِذَارِ يُفِيدُ، فَإِذَا زَرَعُوا حِنْطَةً فِي أَرْضٍ وَأَخَذُوا بَذْرًا مِنْ غَلَّتِهَا فَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ يَكُونُ نُمُوُّهُ ضَعِيفًا وَغَلَّتُهُ قَلِيلَةً، وَإِذَا أَخَذُوا الْبَذْرَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى وَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَفْسِهَا يَكُونُ أَنْمَى وَأَزْكَى، كَذَلِكَ النِّسَاءُ حَرْثٌ كَالْأَرْضِ يُزْرَعُ فِيهِنَّ الْوَلَدُ، وَطَوَائِفُ النَّاسِ كَأَنْوَاعِ الْبِذَارِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أَفْرَادُ كُلِّ عَشِيرَةٍ مِنْ أُخْرَى لِيَزْكُوَ الْوَلَدُ وَيَنْجُبَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ مِنْ مِزَاجِ أَبَوَيْهِ وَمَادَّةِ أَجْسَادِهِمَا وَيَرِثُ مِنْ أَخْلَاقِهِمَا وَصِفَاتِهِمَا الرُّوحِيَّةِ وَيُبَايِنُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالتَّوَارُثُ وَالتَّبَايُنُ سُنَّتَانِ مِنْ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظَّهَا لِأَجْلِ أَنْ تَرْتَقِيَ السَّلَائِلُ الْبَشَرِيَّةُ، وَيَتَقَارَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَمِدَّ بَعْضُهُمُ الْقُوَّةَ وَالِاسْتِعْدَادَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّزَوُّجُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ يُنَافِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَنَّهُ ضَارٌّ بَدَنًا وَنَفْسًا، مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ مُخِلٌّ بِالرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَائِقٌ لِارْتِقَاءِ الْبَشَرِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تُطْلَبُ مُرَاعَاتُهَا فِي الْمَرْأَةِ أَلَّا تَكُونَ مِنَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، قَالَ: فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا أَيْ نَحِيفًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ وَلَكِنْ رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِآلِ السَّائِبِ:" اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا "، أَيْ: تَزَوَّجُوا الْغَرَائِبَ لِئَلَّا تَجِيءَ أَوْلَادُكُمْ نِحَافًا ضِعَافًا، وَعَلَّلَ الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّهْوَةَ إِنَّمَا تَنْبَعِثُ بِقُوَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالنَّظَرِ أَوِ اللَّمْسِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْإِحْسَاسُ بِالْأَمْرِ الْغَرِيبِ الْجَدِيدِ، فَأَمَّا الْمَعْهُودُ الَّذِي دَامَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ الْحِسُّ عَنْ تَمَامِ إِدْرَاكِهِ وَالتَّأَثُّرِ بِهِ وَلَا تَنْبَعِثُ بِهِ الشَّهْوَةُ اهـ، وَتَعْلِيلُهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ، وَالْعُمْدَةُ مَا قُلْنَاهُ.

وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (4: 23) ، وَيَزِيدُهُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ تِبْيَانًا فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِنَا أَنْ وَسَّعَ لَنَا دَائِرَةَ الْقَرَابَةِ بِإِلْحَاقِ الرَّضَاعَةِ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ بَدَنِ الرَّضِيعِ يَتَكَوَّنُ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ، وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَاكَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ.

وَأَشَرْنَا أَيْضًا إِلَى حِكْمَةِ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ

الرَّبِيبَةِ

ص: 27

وَهِيَ بِنْتُ الزَّوْجَةِ، وَأُمُّهَا أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ شَقِيقَةُ رُوحِهِ بَلْ مُقَوِّمَةُ مَاهِيَّتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمِّمَتُهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمُّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي الِاحْتِرَامِ، وَيَقْبُحُ جِدًّا أَنْ تَكُونَ ضَرَّةً لَهَا ; فَإِنَّ لُحْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْ عَشِيرَةٍ صَارَ كَأَحَدِ أَفْرَادِهَا وَتَجَدَّدَتْ فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةُ مَوَدَّةٍ جَدِيدَةٍ لَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّغَايُرِ وَالضِّرَارِ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا؟ كَلَّا، إِنْ ذَلِكَ يُنَافِي حِكْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَالْقَرَابَةِ، وَيَكُونُ سَبَبَ فَسَادِ الْعَشِيرَةِ، فَالْمُوَافِقُ لِلْفِطْرَةِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أُمُّ الزَّوْجَةِ كَأُمِّ الزَّوْجِ، وَبِنْتُهَا الَّتِي فِي حِجْرِهِ كَابْنَتِهِ مِنْ صُلْبِهِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زَوْجُ ابْنِهِ بِمَنْزِلَةِ ابْنِهِ، يُوَجِّهُ إِلَيْهَا الْعَاطِفَةَ الَّتِي يَجِدُهَا لِابْنَتِهِ، كَمَا يُنْزِلُ الِابْنُ امْرَأَةَ أَبِيهِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لِتَكُونَ الْمُصَاهَرَةُ لُحْمَةَ مَوَدَّةٍ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الضِّرَارِ وَالنَّفْرَةِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُبِيحَ نِكَاحَ مَنْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الزَّوْجَةِ كَأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا، أَوْ زَوْجَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَزَوْجَةِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ؟ وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ حِكْمَةَ الزَّوَاجِ هِيَ سُكُونُ نَفْسِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ مَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَقَالَ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) ، فَقَيَّدَ سُكُونَ النَّفْسِ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ وَتَزْدَادُ وَتَقْوَى بِالْوَلَدِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْإِسْهَابِ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ.

فَهَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَعْمُولَ لِيُبَيِّنَ لِنَلْتَمِسَهُ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ بِمَعُونَةِ إِرْشَادِنَا إِلَى كَوْنِ دِينِنَا دِينَ الْفِطْرَةِ بِقَوْلِهِ: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30: 30) ، فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ آيَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِثَمَانِي آيَاتٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51: 20، 21) ، وَقَدْ هَدَانَا بِذَلِكَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ إِلَى اسْتِقْلَالٍ فِي

طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَا قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٌ لِلْمُتَكَلِّفِينَ، وَلَا رُسُومَ عُرْفِيَّةٌ لِلْجَامِدِينَ.

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ ذَهَبْتُ إِلَى إِحْدَى دُورِ الْكُتُبِ فِي (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) حَيْثُ أَنَا فَرَاجَعْتُ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ الدَّهْلَوِيِّ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حُكْمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: وَالْأَصْلُ فِي التَّحْرِيمِ أُمُورٌ:

"

ص: 28

مِنْهَا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِالِاصْطِحَابِ وَالِارْتِبَاطِ، وَعَدَمِ إِمْكَانِ لُزُومِ السَّتْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَارْتِبَاطُ الْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الطَّبِيعِيِّ دُونَ الصِّنَاعِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ بِقَطْعِ الطَّمَعِ عَنْهُنَّ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ لَهَاجَتْ مَفَاسِدُ لَا تُحْصَى، وَأَنْتَ تَرَى الرَّجُلَ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَتَوَلَّهُ بِهَا، وَيَقْتَحِمُ فِي الْمَهَالِكِ لِأَجْلِهَا، فَمَا ظَنُّكَ فِيمَنْ يَخْلُو مَعَهَا وَيَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَأَيْضًا لَوْ فُتِحَ بَابُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَلَمْ يُسَدَّ، وَلَمْ تَقُمِ اللَّائِمَةُ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ سَبَبُ عَضْلِهِمْ إِيَّاهُنَّ عَمَّنْ يَرْغَبْنَ فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ بِيَدِهِمْ أَمْرُهُنَّ وَإِلَيْهِمْ إِنْكَاحُهُنَّ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ إِنْ نَكَحُوهُنَّ مَنْ يُطَالِبُهُمْ عَنْهُنَّ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِنَّ إِلَى مَنْ يُخَاصِمُ عَنْهُنَّ، وَنُظِرَ لِذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ عَضْلِهِمْ لِلْيَتَامَى الْغَنِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ قَالَ:

" وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ، فَإِنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْ تُشْبِهُ الْأُمَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سَبَبُ اجْتِمَاعِ أَمْشَاجِ بِنْيَتِهِ وَقِيَامِ هَيْكَلِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ جَمَعَتْ خِلْقَتَهُ فِي بَطْنِهَا وَهَذِهِ دَرَّتْ عَلَيْهِ سَدَّ رَمَقِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، فَهِيَ أُمٌّ بَعْدَ الْأُمِّ وَأَوْلَادُهَا إِخْوَةٌ بَعْدَ الْإِخْوَةِ، وَقَدْ قَاسَتْ فِي حَضَانَتِهِ مَا قَاسَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِهَا مَا ثَبَتَ، وَقَدْ رَأَتْ مِنْهُ فِي صِغَرِهِ مَا رَأَتْ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهَا وَالْوُثُوبُ عَلَيْهَا مِمَّا تَمُجُّهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَكَمْ مِنْ بَهِيمَةٍ عَجْمَاءَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى أُمِّهَا أَوْ إِلَى مُرْضِعَتِهَا هَذِهِ اللَّفْتَةَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ!

" وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَرْضِعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَيَشُبُّ فِيهِمُ الْوَلَدُ وَيُخَالِطُهُمْ كَمُخَالَطَةِ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُمْ لِلرَّضَاعَةِ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَالرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ وَكَوْنَ الْأَصْلِ فِي مِقْدَارِهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، وَالْخُمْسَ لِلِاحْتِيَاطِ ".

قَالَ: " وَمِنْهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ قَطْعِ الرَّحِمِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، فَإِنَّ الضَّرَّتَيْنِ تَتَحَاسَدَانِ وَيَنْجَرُّ الْبُغْضُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمَا، وَالْحَسَدُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ أَخْنَعُ وَأَشْنَعُ، وَقَدْ كَرِهَ

جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ ابْنَتَيِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِذَلِكَ، فَمَا بَالُكَ بِامْرَأَتَيْنِ أَيُّهُمَا فَرَضَ ذَكَرًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى كَالْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي الْجَمْعِ:

قَالَ: " وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ رَغْبَةٌ فِي زَوْجِ ابْنَتِهَا، وَلِلرِّجَالِ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَبَنَاتِ نِسَائِهِمْ، لَأَفْضَى إِلَى السَّعْيِ فِي فَكِّ ذَلِكَ الرَّبْطِ، أَوْ قَتْلِ مَنْ يَشِحُّ بِهِ، وَإِنْ أَنْتَ تَسَمَّعْتَ إِلَى قَصَصِ قُدَمَاءِ الْفَارِسِيِّينَ، وَاسْتَقْرَأْتَ حَالَ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّاشِدَةِ، وَجَدْتَ أُمُورًا عِظَامًا وَمَهَالِكَ وَمَظَالِمَ لَا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاصْطِحَابَ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَازِمٌ، وَالسِّتْرَ مُتَعَذَّرٌ،

ص: 29

وَالتَّحَاسُدَ شَنِيعٌ، وَالْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَازِعَةٌ، فَكَأَنَّ أَمْرَهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ ".

قَالَ: " وَمِنْهَا الْعَدَدُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ فِي الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ "، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ فِي التَّعَدُّدِ إِلَّا قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْأَرْبَعِ: " ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَدَدٌ يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَا دُونَ لَيْلَةٍ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْقَسْمِ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ: بَاتَ عِنْدَهَا، وَثَلَاثٌ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا فَوْقَهَا زِيَادَةُ الْكَثْرَةِ، اهـ، وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ مِنْ جـ 4 ص 282 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ.

قَالَ: " وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا (2: 221) ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ وَهِيَ تَخِفُّ فِي الْكِتَابِيَّةِ فَرَخَّصَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التَّنَاكُحُ مَعَهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ فَشَدَّدَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.

قَالَ: " وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَرْأَةِ أَمَةً لِآخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِينُ فَرْجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدِهَا، وَلَا اخْتِصَاصُهُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُصَدَّ سَيِّدُهَا عَنِ اسْتِخْدَامِهَا وَالتَّخَلِّي بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحُ أَضْعَفِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، فَإِنَّ هُنَالِكَ مِلْكَيْنِ: مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْبُضْعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى

الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآخَرِ الْمُسْتَتْبِعُ لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيفُ الْمُنْدَرِجُ، وَفِي اقْتِضَابِ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى قَلْبُ الْمَوْضُوعِ، وَعَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِهَا، وَعَدَمُ إِمْكَانِ ذَبِّ الطَّامِعِ فِيهَا هُوَ أَصْلُ الزِّنَا، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي كَانَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَهَا كَالِاسْتِبْضَاعِ كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها، فَإِذَا كَانَتْ فَتَاةً مُؤْمِنَةً بِاللهِ مُحَصِّنَةً فَرْجَهَا، وَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى نِكَاحِهَا لِمَخَافَةِ الْعَنَتِ، وَعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، خَفَّ الْفَسَادُ وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، انْتَهَى.

ثُمَّ ذَكَرَ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَشْغُولَةً بِنِكَاحِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، وَقَالَ فِي حِكْمَتِهِ:" فَإِنَّ أَصْلَ الزِّنَا هُوَ الِازْدِحَامُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا، وَغَيْرِ قَطْعِ طَمَعِ الْآخَرِ فِيهَا ".

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَيْضًا بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوَافِقَةِ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ أَنْ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَيْ: طُرُقُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي زَمَانِهِ، كَمَا قَالَ:

ص: 30

لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا 5: 48] ، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا فِي التَّوْحِيدِ، وَرُوحِ الْعِبَادَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَوِّمُ الْمَلَكَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ.

ثُمَّ قَالَ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: وَيُرِيدُ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا تَائِبِينَ مِمَّا سَلَفَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ كُنْتُمْ مُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ تَنْكِحُونَ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، وَلَا تُرَاعُونَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ تَجْدِيدِ قُرَابَةِ الصِّهْرِ، بِدُونِ تَنْكِيثٍ لِقُوَى رَوَابِطِ النَّسَبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ مَا هِيَ سَبَبٌ لَهُ مِنَ الْغُفْرَانِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ أَيْ: إِنَّهُ ذُو الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الثَّابِتَيْنِ اللَّذَيْنِ تَصْدُرُ عَنْهُمَا أَحْكَامُهُ، فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ الْوَاسِعَ مُحِيطٌ بِهَا وَحِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ تَقْضِي بِهَا.

وَقَوْلُهُ: وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبَةَ فِيهِ غَيْرُ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأُولَى الْقَبُولُ، وَبِالثَّانِيَةِ الْعَمَلُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الْقَبُولِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى ذُكِرَتْ

فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، فَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ يَكُونُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عَمَّا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَنْكِحَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الضَّارَّةِ، وَأَنَّ اللهَ شَرَعَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْنَدَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِيُبَيِّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ عَلَيْهِ دَائِمًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَابِلُهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِنَّا مُتَّبِعُو الشَّهَوَاتِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ عِلَّةً لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْكُمْ لِتَزْكُوَ نُفُوسُكُمْ وَتَطْهُرَ قُلُوبُكُمْ وَتَصْلُحَ أَحْوَالُكُمْ وَيُرِيدَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا عَنْ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ فَتُؤْثِرُوا دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ، فَلَا تُبَالُوا أَنْ تُقَطِّعُوا لِإِرْضَائِهَا وَشَائِجَ الْأَرْحَامِ، وَتُزِيلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ وَتَكُونُوا مِثْلَهُمْ، إِمَامُكُمُ الْمُتَّبَعُ هُوَ الشَّهْوَةُ، وَغَرَضُكُمْ مِنَ الْحَيَاةِ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ يَنْكِحُونَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَكَذَا الْأُخْتُ لِأَبٍ كَمَا نُقِلَ، وَقِيلَ: الْمَجُوسُ، وَالْمُخْتَارُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِذْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْكُمْ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ أَبَاحَ لَكُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، بَلْ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَطُّ، فَشَرِيعَتُكُمْ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ كَمَا وَرَدَ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَحْمِلُ ثِقَلَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ إِلَّا مَا فِي إِبَاحَتِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَ هَذَا تَرَى الزِّنَا يَفْشُو حَيْثُ يَضْعُفُ الدِّينُ حَتَّى لَا يَكَادَ النَّاسُ يَثِقُونَ بِنَسْلِهِمْ، وَحَتَّى تَكْثُرَ الْأَمْرَاضُ وَيَقِلَّ النَّسْلُ، وَيَسْتَشْرِيَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ الرِّجَالُ وَلَا يَزَالُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ، وَشِدَّةِ جُرْأَتِهِمْ، فَهُمْ

ص: 31