الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، فَذَاكَ نَعِيٌ عَلَيْهِمْ بِمَا أَضَاعُوا وَحَرَّفُوا، وَهَذَا إِلْزَامٌ بِمَا حَفِظُوا وَعَرَفُوا،
يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ أَيْ جِنْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوِ التَّوْرَاةَ خَاصَّةً آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْهُ مِنْ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَاتِّقَاءِ الشِّرْكِ كُلِّهِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَا يُغَذِّي ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَيُقَوِّيهِ مِنْ تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، أَيْ: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصِدُ مِنْ إِرْسَالِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي طُرُقِ حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَهِدَايَتِهِمْ بِهَا وَتَرْقِيَتِهِمْ فِي مَعَارِجِهَا بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ بِالتَّدْرِيجِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، كَمَا أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنْ جَمِيعِ الْحُكُومَاتِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الدُّوَلُ فِي الْقَوَانِينِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ وَلَا الصَّوَابِ أَنْ تُنْكِرَ الْأُمَّةُ تَغْيِيرَ حَاكِمٍ جَدِيدٍ لِبَعْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُ إِذَا كَانَ يُوَافِقُهُ فِي جَعْلِهِ مُقَرِّرًا لِلْعَدْلِ مُقِيمًا لِمِيزَانِهِ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا كَانَ أَوْ أَكْمَلَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُسَمَّى مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ لَا مُكَذِّبًا وَلَا مُخَالِفًا، فَالْقُرْآنُ قَرَّرَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيسَى وَصَدَّقَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَوَبَّخَ الْأَقْوَامَ الْمُدَّعِينَ لِأَتْبَاعِهِمْ عَلَى إِضَاعَتِهِمْ لِبَعْضِ مَا جَاءُوا بِهِ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ، وَعَلَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ بِمَا هُوَ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَهُمْ هَدَمُوا الْأَسَاسَ الْأَعْظَمَ لِلدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَيُذْكَرُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، فَتَصْدِيقُ الْقُرْآنِ لِمَا مَعَهُمْ لَا يُنَافِي مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِضَاعَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّفْرِيطِ.
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَيْ: آمِنُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ نُنْزِلَ بِكُمْ هَذَا الْعِقَابَ، وَهُوَ طَمْسُ الْوُجُوهِ وَرَدُّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، فَالطَّمْسُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ إِزَالَةُ الْأَثَرِ بِمَحْوِهِ، أَوْ خَفَائِهِ كَمَا تُطْمَسُ آثَارُ الدَّارِ، وَأَعْلَامُ الطُّرُقِ بِنَقْلِ حِجَارَتِهَا أَوْ بِالرِّمَالِ تَسْفُوهَا الرِّيَاحُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ (10: 88)، أَيْ: أَزِلْهَا وَأَهْلِكْهَا، وَالطَّمْسُ عَلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ (36: 66) ، يَصْدُقُ بِإِزَالَةِ نُورِهَا وَبِغُؤُرِهَا وَمَحْوِ حَدَقَتِهَا، وَكَذَلِكَ طَمْسُ النُّجُومِ، وَالْوَجْهُ يُطْلَقُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَنِ وَوَجْهِ النَّفْسِ،
وَهُوَ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَمِنْهُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ (3: 20)، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ (31: 22)، وَقَوْلُهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (30: 30)، وَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ ـ بِضَمَّتَيْنِ ـ وَهُوَ الْخَلْفُ وَالْقَفَا، وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَرَاءِ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْحِسِّيَاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ الِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ الْفِرَارُ مِنْهُ.
وَمِنَ الثَّانِي: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
(47:
25) ،
فَظَاهِرُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ هُنَا: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ مَقَاصِدِكُمُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا فِي كَيْدِ الْإِسْلَامِ، وَنَرُدَّهَا خَاسِئَةً حَاسِرَةً إِلَى الْوَرَاءِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ عَلَيْكُمْ وَفَضِيحَتِكُمْ فِيمَا تَأْتُونَهُ بِاسْمِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَانَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْقُوَّةِ، فَهَذَا مَا نُفَسِّرُهَا بِهِ عَلَى جَعْلِ الطَّمْسَ وَالرَّدَّ عَلَى الْأَدْبَارِ مَعْنَوِيَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَلَكِنْ أَوْجَزَ فَقَالَ: نَطْمِسَ وُجُوهًا عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فِي الضَّلَالَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ فَنُعْمِيهَا عَنِ الْحَقِّ وَنُرْجِعُهَا كُفَّارًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي أَنْ نَرُدَّهُمْ عَنِ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ، فَقَدْ رَدَّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ عِنْدَ اللهِ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (7: 159) ، فَحَذَّرَهُمْ مِنْ إِرْجَاءِ الْإِيمَانِ وَالتَّسْوِيفِ بِهِ أَنْ يَطُولَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ، فَيَصْعُبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ، وَيَضْعُفَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِقَبُولِهِ بِتَعَلُّقِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِجَاهِهِمْ فِيهِ.
وَجَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ حِسِّيًّا ظَاهِرِيًّا فَقَالَ: الْمَعْنَى نَطْمِسُ آثَارَهُمْ مِنَ الْحِجَازِ وَنَرُدُّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ بِالْجَلَاءِ إِلَى فِلَسْطِينَ وَالشَّامِ، وَهِيَ بِلَادُهُمُ الَّتِي جَاءُوا الْحِجَازَ مِنْهَا، وَرَوَاهُ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ وُجُوهِهِمْ فِي أَقْفِيَتِهِمْ، وَفَهِمَ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ بِالْمَسْخِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ وَقَدْ آمَنَ بَعْضُهُمْ، وَالْوَجْهُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ
أَوَّلًا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، فَقَالَ: طَمْسُ الْوَجْهِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ مَا يُغَطِّيهِ فَيَمْنَعَ صَاحِبَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى مَقْصِدِهِ، وَمَتَّى بَطَلَ التَّوَجُّهُ الصَّحِيحُ إِلَى الْمَقْصِدِ امْتَنَعَ السَّعْيُ إِلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْوُصُولِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخِذْلَانُ وَالْخَيْبَةُ، أَيْ: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ نُعَمِّيَ عَلَيْكُمُ السَّبِيلَ بِمَا نُبَصِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِشُئُونِكُمْ وَنُغْرِيهِمْ بِكُمْ فَتُرَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكِمْ بِأَنْ يَكُونَ سَعْيُكُمْ إِلَى غَيْرِ خَيْرِكُمْ.
وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ وُجُوهًا أُخْرَى، مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ الرُّؤَسَاءُ أَيْ: قَبْلَ أَنْ نُزِيلَ وَجَاهَتَهُمْ وَعِزَّهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ تَقْبِيحُ صُورَتِهَا كَمَا يُقَالُ: طَمَسَ اللهُ وَجْهَهُ وَقَبَّحَ اللهُ وَجْهَهُ بِمَعْنَى تَقْبِيحِ صُورَتِهَا، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِمَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الذُّلِّ وَالْكَآبَةِ يُغْلَبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ.
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ هَدَّدَهُمْ بِالطَّمْسِ، أَوِ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِذْلَالُ الْمَعْنَوِيُّ، ثُمَّ أَنْفَذَ الثَّانِيَ أَيْ: عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الطَّمْسَ بِمَعْنَى الْمَسْخِ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْخِذْلَانِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجِوَارِهَا إِلَى الشَّامِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَصَلَ
حَتْمًا وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَرَدَّ أَهْلُ السَّبْتَ أَنَّ اللهَ أَهْلَكَهُمْ، فَمَعْنَى اللَّعْنَةِ هُنَا الْإِهْلَاكُ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اللَّعْنِ هُنَا عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ تَقَعُوا فِي إِحْدَى الْهَاوِيَتَيْنِ: الْخَيْبَةِ وَالْخِذْلَانِ، وَفَسَادُ الْأَمْرِ وَذَهَابُ الْعِزَّةِ بِاسْتِيلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ ـ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أُجْلُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَخُذِلُوا فِي كُلِّ أَمْرِهِمْ ـ أَوِ الْهَلَاكُ وَقَدْ وَقَعَ بِقَتْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى وَهَلَاكِهَا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا أَيْ: وَاقِعًا، أَيْ: شَأْنُهُ أَنْ يُفْعَلَ حَتْمًا، وَالْمُرَادُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عز وجل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ (36: 82) .
إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا.
رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (39: 53) ، قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَلَاهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: وَالشِّرْكُ بِاللهِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَالشِّرْكُ بِاللهِ؟ فَسَكَتَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فِي رَجُلٍ شَكَا ابْنَ أَخِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي عَنِ الْحَرَامِ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ رضي الله عنه إِذْ أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَخَافَ أَلَّا يُقْبَلَ إِسْلَامُهُ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مُحَاوَرَةً وَمُرَاجَعَةً عَزَاهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةُ وَحْشِيٍّ، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ لَمَّا أَخْلَفَهُ مَوْلَاهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ عِتْقِهِ، وَرَاجَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي إِسْلَامِهِ، فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ اللهَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ كَانَ يُدَاعِبُ وَحْشِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيَسْتَمِيلُهُمْ بِآيَةٍ بَعْدَ آيَةٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ، فَالْكَلَامُ مُلْتَئِمٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، فَهُوَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ الْيَهُودِ وَأَنَّ عُمْدَتَهُمْ
فِي تَكْذِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْرِيفُ أَحْبَارِهِمْ لِلْكِتَابِ، وَاتِّبَاعُهُمْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (9: 31) ، وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِهَا الْمَرْفُوعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْبَعُونَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى أَصْلِ الْكِتَابِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; إِذِ الشِّرْكُ بِاللهِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِمَادِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا، أَوْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ
بَعْضِ النَّاسِ فِي التَّشْرِيعِ كَالْعِبَادَاتِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِثْبَاتُ الشِّرْكِ لِلْيَهُودِ هُنَا وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُنَافِي تَسْمِيَتَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: إِيمَانًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; إِذْ لَا يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشِّرْكِ.
أَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ حَقِيقَةَ الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ: الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الشُّعُورِ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ: الْأَخْذُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَنْ بَعْضِ الْبَشَرِ دُونَ الْوَحْيِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِآيَةِ التَّوْبَةِ بِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (9: 31) ، فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اتِّخَاذَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَذَا إِثْبَاتٌ لِطُرُوءِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عُنْوَانًا لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ وَلِيُمَيِّزَهُمْ عَنْ مُشْرِكِي الْوَثَنِيِّينَ، وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَدْ سَرَى مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عُرِفَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ بِنَبْذِ الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ كَطَوَائِفِ الْبَاطِنِيَّةِ (رَاجِعْ مَبَاحِثَ الشِّرْكِ فِي ص 57، 68 و354 - 360 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي وَفِي ص 24، 45، 325، 347 مِنْ جُزْئِهِ الثَّالِثِ، 82 مِنْ جُزْئِهِ الْخَامِسِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ) وَبِإِثْبَاتِ الشِّرْكِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُغُرَّنَّكُمُ انْتِمَاؤُكُمْ إِلَى الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ هَدَمْتُمْ أَسَاسَ دِينِهِمْ بِالشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ مَغْفِرَةِ الشِّرْكِ، فَهِيَ أَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَتَطْهِيرِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ، وَالشَّرَكُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَهْبِطُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ وَأَفْكَارُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ، وَمِنْهُ تَتَوَلَّدُ جَمِيعُ الرَّذَائِلِ وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُفْسِدُ الْبَشَرَ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمْعِيَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِمْ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ أَوْ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ دُونَهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ إِلَى
مَرْتَبَةٍ يُقَدِّسُونَهَا وَيَخْضَعُونَ
لَهَا وَيَذِلُّونَ بِدَافِعِ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا ذَاتُ سُلْطَةٍ عُلْيَا فَوْقَ سُنَنِ الْكَوْنِ وَأَسْبَابِهِ، وَأَنَّ إِرْضَاءَهَا وَطَاعَتَهَا هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ شُعْبَةٌ مِنْهَا لِذَاتِهَا، فَهَذِهِ الْخَلَّةُ الدَّنِيئَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اسْتِبْدَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِالْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَاسْتِعْبَادِهِمْ إِيَّاهُمْ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ بِالْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْحَقِيرِ، وَنَاهِيكَ بِمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَاشِيَةِ مِنَ الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالدَّنَاءَةِ وَالتَّمَلُّقِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يُنَاقِضُ الشِّرْكَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْتَاقِ الْإِنْسَانِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَجَعْلِهِ حُرًّا كَرِيمًا عَزِيزًا لَا يَخْضَعُ خُضُوعَ عُبُودِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ إِلَّا لِمَنْ خَضَعَتْ لِسُنَنِهِ الْكَائِنَاتُ، بِمَا أَقَامَهُ فِيهَا مِنَ النِّظَامِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلِسُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ يَخْضَعُ، وَلِشَرِيعَتِهِ الْعَادِلَةِ الْمُنَزَّلَةِ يَتْبَعُ، وَإِنَّمَا خُضُوعُهُ هَذَا خُضُوعٌ لِعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، لَا لِأَمْثَالِهِ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَأَقْرَانِهِ، وَأَمَّا طَاعَتُهُ لِلْحُكَّامِ فَهِيَ طَاعَةٌ لِلشَّرْعِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَالنِّظَامِ الَّذِي يَرَى فِيهِ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ جِنْسِهِ، لَا تَقْدِيسًا لِسُلْطَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُمْ، وَلَا ذُلًّا وَاسْتِخْذَاءً لِأَشْخَاصِهِمْ، فَإِنِ اسْتَقَامُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَعَانَهُمْ، وَإِنْ زَاغُوا عَنْهَا اسْتَعَانَ بِالْأُمَّةِ فَقَوَّمَهُمْ، كَمَا قَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ نَصْبِ الْأُمَّةِ لَهُ وَمُبَايَعَتِهَا إِيَّاهُ:" وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي "، فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْمُوَحِّدِينَ مَعَ حُكَّامِهِمْ، وَهَكَذَا يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي دُنْيَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، كَمَا يَكُونُونَ أَشْقِيَاءَ بِالشِّرْكِ الْجَلِيِّ أَوِ الْخَفِيِّ.
وَأَمَّا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَشَقَاؤُهَا فَهُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى، وَالْمَدَارُ فِيهِمَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ أَيْضًا، إِنَّ رُوحَ الْمُوَحِّدِينَ تَكُونُ رَاقِيَةً عَالِيَةً لَا تَهْبِطُ بِهَا الذُّنُوبُ الْعَارِضَةُ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي تَهْوِي فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُشْرِكِينَ، فَمَهْمَا عَمِلَ الْمُشْرِكُ مِنَ الصَّالِحَاتِ تَبْقَى رُوحُهُ سَافِلَةً مُظْلِمَةً بِالذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَا تَرْتَقِي بِعَمَلِهَا إِلَى الْمُسْتَوَى الَّذِي تَنْعَمُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُوَحِّدِينَ الْعَالِيَةُ فِي أَجْسَادِهِمُ الشَّرِيفَةِ، وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ، فَإِنَّ ذُنُوبَهُمْ لَا تُحِيطُ بِأَرْوَاحِهِمْ، وَظُلْمَتَهَا لَا تَعُمُّ قُلُوبَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعِزِّ الْإِيمَانِ وَرِفْعَتِهِ يَغْلِبُ خَيْرُهُمْ عَلَى شَرِّهِمْ، وَلَا يَطُولُ
الْأَمَدُ وَهُمْ فِي غَفْلَتِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (7: 201) ، يُسْرِعُونَ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِتْبَاعِ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (11: 114) ، فَإِذَا ذَهَبَ أَثَرُ السَّيِّئَةِ مِنَ النَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغُفْرَانَ، فَكُلُّ سَيِّئَاتِ الْمُوَحِّدِينَ قَابِلَةٌ لِلْمَغْفِرَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ أَيْ: يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُذْنِبِينَ،
وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُوَافِقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ (تُرَاجَعُ الْفَهَارِسُ عِنْدَ مَادَّةِ مَشِيئَةٍ) وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا بِقَوْلِنَا: وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ إِلَخْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا يَشَاءُ غُفْرَانَهُ، وَلِسُنَنِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا سُنَنُهُ تَعَالَى فِيمَا لَا يَغْفِرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ فَتَظْهَرُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَتِلْكَ هِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَتُوبُ مِنْهَا صَاحِبُهَا وَلَا يُتْبِعُهَا بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزِيلُ أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ السَّيِّئُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ عَلَى الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرَتُّبِ آثَارِهَا فِي النَّفْسِ عَلَيْهَا كَمَا تُؤَثِّرُ الْحَرَارَةُ فِي الزِّئْبَقِ فِي الْأُنْبُوبَةِ فَيَتَمَدَّدُ وَيَرْتَفِعُ، وَتُؤَثِّرُ فِيهِ الْبُرُودَةُ فَيَتَقَلَّصُ وَيَنْخَفِضُ، فَهَذَا مِثَالُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ مَادَّةَ ذَنْبٍ وَعِقَابٍ وَجَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ) .
وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى بَلَاغَتِهَا وَظُهُورِهَا أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَالْمَذَاهِبِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوهُ بِجُمْلَتِهِ وَيُفَسِّرُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، بَلْ نَظَرُوا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَّتِهَا، وَحَاوَلُوا حَمْلَهَا عَلَى مَقَالَاتِهِمْ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ الشِّرْكَ وَغَيْرَ الشِّرْكِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا لَا يُغْفَرَانِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ وَجَوَازِ غُفْرَانِهَا كُلِّهَا مَا اجْتُنِبَ الشِّرْكُ، وَذَاكَ يَقُولُ: إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مُغْرِيَةً بِالْمَعَاصِي مُجَرِّئَةً عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُحَدِّدُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتْمًا لِإِفْسَادِهِ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ فِي إِفْسَادِ النَّفْسِ، فَمَغْفِرَتُهُ مُمْكِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، فَمِنْهُ
مَا يَكُونُ تَأْثِيرُهُ السَّيِّئُ فِي النَّفْسِ قَوِيًّا يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ضَعِيفًا يُغْفَرُ بِالتَّأْثِيرِ الْمُضَادِّ لَهُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ ـ رَاجِعْ تَفْسِيرَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ (4: 17) ، إِلَخْ ص 440 - 452 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ عَدَمِ غُفْرَانِ الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِأَنْ يَجْعَلَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً مَا مَعَهُ ـ دَعِ الْإِلْحَادَ بِإِنْكَارِ سُلْطَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ النِّظَامِ الْبَدِيعِ فِي الْكَوْنِ - سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الشَّرِكَةُ بِالتَّأْثِيرِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، أَوْ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، مَنْ يُشْرِكْ بِهِ فِي ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا، أَيِ: اخْتَرَعَ ذَنْبًا مُفْسِدًا عَظِيمَ الْفُحْشِ وَالضَّرَرِ سَيِّئَ الْمَبْدَأِ وَالْأَثَرِ، تُسْتَصْغَرُ فِي جَنْبِ عَظَمَتِهِ جَمِيعُ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَلَّا يُغْفَرَ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ قَدْ يَمْحُوهُ الْغُفْرَانُ، وَالِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى يَفْرِي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الْقَطْعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْإِفْسَادِ ; لِأَنَّ قَطْعَ الشَّيْءِ الصَّحِيحِ مُفْسِدٌ لَهُ،
وَالشِّرْكُ بِالْقَوْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذِبًا وَبِالْفِعْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا فَسَادًا، قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْيُ قَطْعُ الْجِلْدِ لِلْخَرَزِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْإِفْرَاءُ:(قَطْعُهُ) لِلْإِفْسَادِ، وَالِافْتِرَاءُ فِيهِمَا وَفِي الْإِفْسَادِ أَكْثَرُ، وَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْكَذِبِ وَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ.
كَانَتِ الْيَهُودُ تُفَاخِرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرَهُمْ بِنَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ شَعْبَ اللهِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (5: 18)، وَقَوْلُهُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى (2: 111)، وَقَوْلُ الْيَهُودِ خَاصَّةً: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (2: 80) ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا تَزْكِيَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ،
قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّا لَنُعَلِّمُ أَبْنَاءَنَا التَّوْرَاةَ صِغَارًا فَلَا تَكُونُ لَهُمْ ذُنُوبٌ، وَذُنُوبُنَا مِثْلُ ذُنُوبِ أَبْنَائِنَا مَا عَمِلْنَا بِالنَّهَارِ كُفِّرَ عَنَّا بِاللَّيْلِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى، وَرَجَّحَ أَنَّ تَزْكِيَتَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا لَا ذُنُوبَ لَهَا وَلَا خَطَايَا، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
أَمَّا مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ فَقَدْ ذُكِرَ قَرِيبًا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ تَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَجْعَلُهَا زَاكِيَةً أَيْ طَاهِرَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَصْلُ الزَّكَاءِ وَالزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالْبَرَكَةُ فِي الزَّرْعِ، وَمِثْلُهُ كُلُّ نَافِعٍ، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْمِيَةِ فَضَائِلِهَا وَخَيْرَاتِهَا، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِاجْتِنَابِ الشُّرُورِ الَّتِي تُعَارِضُ الْخَيْرَ وَتَعُوقُهُ، وَهَذِهِ التَّزْكِيَةُ مَحْمُودَةٌ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (91: 9)، أَيْ: نَفْسَهُ.
وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ ادِّعَاءُ الزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ، وَمَدْحِهَا وَلَوْ بِالْحَقِّ، وَلَتَزْكِيَتُهَا بِالْبَاطِلِ أَشَدُّ قُبْحًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّزْكِيَةِ مَصْدَرُهُ الْجَهْلُ وَالْغُرُورُ، وَمِنْ آثَارِهِ الْعُتُوُّ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أَيْ: لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِتَزْكِيَتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ لَا تُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّكُمْ سَتَكُونُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ دُونَ غَيْرِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ شَهَادَةِ كِتَابَةٍ لَهُمْ بِمُوَافَقَةِ عَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (53: 32) .
وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: وَلَا يَظْلِمُ اللهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ خَلْقِهِ
شَيْئًا مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَوْ حَقِيرًا كَالْفَتِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ أَصْلَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى النَّقْصِ، أَيْ: لَا يَنْقُصُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ شَيْئًا مَا بِعَدَمِ تَزْكِيَتِهِ إِيَّاهُمْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَزْكِيَتِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِمَا تَكُونُ بِهِ النَّفْسُ زَكِيَّةً مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَنِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَتِيلُ: مَا يَكُونُ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ مِثْلَ الْخَيْطِ، وَمَا تَفْتِلُهُ بَيْنَ أَصَابِعِكَ مِنْ وَسَخٍ أَوْ خَيْطٍ، وَتَضْرِبُ الْعَرَبُ بِهِ الْمَثَلَ فِي الشَّيْءِ الْحَقِيرِ فَهُوَ بِمَعْنَى إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (4: 40) ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَخِذْلَانُ الْمُلَوَّثِينَ بِرَذِيلَةِ الشِّرْكِ
فِي الدُّنْيَا بِالْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ انْحِطَاطِهِمْ، وَعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِهَا لَا يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ اللهِ عز وجل لَهُمْ وَنَقْصِهِ إِيَّاهُمْ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِنُقْصَانِ دَرَجَاتِ أَعْمَالِهِمْ، وَعَجْزِهَا عَنِ الْعُرُوجِ بِأَرْوَاحِهِمْ، بَلْ بِتَدْسِيَتِهَا لِنُفُوسِهِمْ، لِتَزْكِيَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالْقَوْلِ الْبَاطِلِ دُونَ الْفِعْلِ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا (6: 132) ، كَدَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي مِيزَانِهَا، وَدَرَجَاتِ الرُّطُوبَةِ فِي مِيزَانِهَا، فَمَا كَلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الْأُولَى يَغْلِي بِهَا الْمَاءُ، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا يَكُونُ بِهَا جَلِيدًا، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ يَنْزِلُ بِهَا الْمَطَرُ، وَكَدَرَجَاتِ امْتِحَانِ طُلَّابِ الْعُلُومِ فِي الْمَدَارِسِ، أَوِ الْأَعْمَالِ فِي الْحُكُومَةِ لَا يُنَالُ الْفَوْزُ فِيهَا إِلَّا بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى الْمُحَدَّدِ أَدْنَاهَا وَأَعْلَاهَا بِالْحِكْمَةِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْزِي كُلَّ عَامِلِ خَيْرٍ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا ; لِأَنَّ لِعَمَلِهِ أَثَرًا فِي نَفْسِهِ يَكُونُ مَنَاطَ الْجَزَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَصِلْ تَأْثِيرُ عَمَلِ الْمُشْرِكِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ عَمَلَهُ يَنْفَعُهُ بِكَوْنِ عَذَابِهِ أَقَلَّ مِنْ عَذَابِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَ عَمَلِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا رَجُلَانِ يَشْرَبَانِ الْخَمْرَ، أَحَدُهُمْ مُقِلٌّ وَالْآخَرُ مُكْثِرٌ، فَضَرَرُ الْمُكْثِرِ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ ضَرَرِ الْمُقِلِّ، وَآخَرَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الشُّرْبِ وَلَكِنْ بِنْيَةُ أَحَدِهِمَا قَوِيَّةٌ تُقَاوِمُ الضَّرَرَ أَنْ يَفْتِكَ بِالْجِسْمِ، وَبِنْيَةُ الْآخَرِ ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ الْمُقَاوَمَةَ، فَإِنَّ ضَرَرَ هَذَا مِنَ الشُّرْبِ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ ذَاكَ.
كَذَلِكَ الرُّوحُ الْقَوِيَّةُ السَّلِيمَةُ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةُ الْإِيمَانِ الْمُزَكَّاةُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا تَهْبِطُ بِهَا السَّيِّئَةُ الْوَاحِدَةُ وَالسَّيِّئَتَانِ إِلَى دَرَجَةِ الْأَشْرَارِ الْفُجَّارِ فَتَجْعَلَهَا شَقِيَّةً مِثْلَهُمْ، بَلْ يَغْلِبُ خَيْرُهَا عَلَى الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهَا، فَيُزِيلُهُ أَوْ يُضْعِفُهُ حَتَّى يَكُونَ ضَرَرُهَا غَيْرَ مُهْلِكٍ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ قَدْ يُعَذَّبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِذَنْبِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَالِدِينَ.
وَالْعِبْرَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ هِيَ وُجُوبُ اتِّقَاءِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِقُرُونٍ، وَاتِّقَاءُ مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْقَوْلِ وَاحْتِقَارِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي انْجَرَّ إِلَى احْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْغُرُورِ
وَتِلْكَ التَّزْكِيَةِ الْبَاطِلَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ غَلَبَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ الْعَظِيمَ الْحَكِيمَ لَا يُحَابِي فِي سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ مُسْلِمًا وَلَا يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا؛ لِأَجْلِ اسْمِهِ وَلَقَبِهِ، أَوْ لِانْتِسَابِهِ بِالِاسْمِ إِلَى أَصْفِيَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ كَانَتْ سُنَنُهُ حَاكِمَةً عَلَى أُولَئِكَ الْأَصْفِيَاءِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى إِنَّ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ قَدْ شُجَّ رَأْسُهُ وَكُسِرَتْ سِنُّهُ، وَرُدِيَ فِي الْحُفْرَةِ يَوْمَ أُحُدٍ لِتَقْصِيرِ عَسْكَرِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نِظَامِ الْحَرْبِ، فَإِلَى مَتَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْغُرُورُ بِالِانْتِمَاءِ إِلَى هَذَا الدِّينِ، وَأَنْتُمْ لَا تُقِيمُونَ كِتَابَهُ وَلَا تَهْتَدُونَ بِهِ، وَلَا تَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ النُّذُرِ، أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ عَادَتِ الْكَرَّةُ إِلَى تِلْكَ الْأُمَمِ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مَا تَرَكُوا الْغُرُورَ، وَاعْتَصَمُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بِمَا جَرَى عَلَيْهِ نِظَامُ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، حَتَّى مَلَكَتْ دُوَلُ الْأَجَانِبِ أَكْثَرَ بِلَادِكُمْ، وَقَامَ الْيَهُودُ الْآنَ لِيُجْهِزُوا عَلَى الْبَاقِي لَكُمْ، وَيَسْتَرِدُّوا الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَيُقِيمُوا فِيهَا مُلْكَهُمْ؟ ! فَاهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ الْحَكِيمِ وَبِسُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، وَاتْرُكُوا وَسَاوِسَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَبُثُّونَ فِيكُمْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ فَيَصْرِفُونَكُمْ عَنْ قُوَاكُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَنِ الِاهْتِدَاءِ بِكَلَامِ رَبِّكُمْ إِلَى الِاتِّكَالِ عَلَى الْأَمْوَاتِ، وَالِاسْتِمْسَاكِ بِحَبْلِ الْخُرَافَاتِ، وَيَشْغَلُونَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ بِمَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالصَّلَوَاتِ، وَمَا غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا سَلْبُ أَمْوَالِكُمْ، وَحِفْظُ جَاهِهِمُ الْبَاطِلِ فِيكُمْ، أَفِيقُوا أَفِيقُوا، تَنَبَّهُوا تَنَبَّهُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَتِيلًا، فَمَا زَالَ مُلْكُكُمْ، وَلَا ذَهَبَ عِزُّكُمْ، إِلَّا بِتَرْكِ هِدَايَةِ رَبِّكُمْ، وَاتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنْكُمْ.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ أَيِ: انْظُرْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ كَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُهُ الْخَاصُّ وَأَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً يَخْرُجُونَ فِيهَا عَنْ نِظَامِ سُنَنِهِ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ.
وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا أَيْ: وَكَفَى بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ آثَامِهِمْ إِثْمًا بَيِّنًا ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً مُخَالِفَةً لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّتِي عَامَلَ بِهَا غَيْرَهُمْ،
وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ جَاهِلُونَ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْإِثْمُ عَلَى الْكَذِبِ خَاصَّةً، وَعَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِثْمُ وَالْآثَامُ: اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، يَعْنِي عَنِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَيَّنَ صِدْقَ ذَلِكَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ; إِذْ قَالَ تَعَالَى: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (2: 219) ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ، وَالْغُرُورَ بِالدِّينِ وَالْجِنْسِ، مِمَّا يُبَطِّئُ عَنِ الْعَمَلِ النَّافِعِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا بِالْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْحُسْنَى وَزِيَادَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (2: 219) ، أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ لَفْظُ " الْإِثْمِ " إِلَّا عَلَى مَا كَانَ ضَارًّا، وَأَيُّ ضَرَرٍ أَكْبَرُ مِنْ ضَرَرِ الْغُرُورِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالدَّعْوَى وَالتَّبَجُّحِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ فِي بَعْضِ
الْبِلَادِ؟ ! يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَدْحِهَا، وَيَتْرُكُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَرْفَعُهَا وَتُعْلِيهَا، وَقَدْ تَرَكَ الْيَهُودُ ذَلِكَ مُنْذُ قُرُونٍ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ لِمِلَّتِهِمْ، وَهُمْ سَاكِتُونَ سَاكِنُونَ، وَلَا يَدَّعُونَ وَلَا يَتَبَجَّحُونَ، فَاعْتَبِرُوا أَيُّهَا الْغَافِلُونَ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الْمُنْصَبِرَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ
أَهْلُ الْحَجِيجِ، وَأَهْلُ السَّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (108: 3)، وَنَزَلَتْ فِيهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيرًا وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عُمَارَةَ، وَهَوْدَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مَنْ بُنِيَ النَّضِيرِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ الْأُولَى، فَاسْأَلُوهُمْ: أَدِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنِ اتَّبَعَهُ! ! فَأَنْزَلَ اللهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، إِلَى قَوْلِهِ: مُلْكًا عَظِيمًا اهـ، مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى عِنْدَ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ،
وَوَقَائِعُ هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَمُحَاجَّةُ الْيَهُودِ وَبَيَانُ أَحْوَالِهِمْ لَمْ يُفَصَّلْ إِلَّا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ بَعْدَ ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَيْدِهِمْ فِيهَا وَفِي جِوَارِهَا، فَفِي الرِّوَايَةِ خَلْطٌ سَبَبُهُ اشْتِبَاهُ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السِّيَاقُ كُلُّهُ قَدْ نَزَلَ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا ; إِذْ نَقَضَ الْيَهُودُ عَهْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّحَدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ هُوَ تَفْضِيلُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِالتَّفْضِيلِ بِالْقَوْلِ عِنْدَ النِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ لِحَرْبِ الْمُؤْمِنِينَ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ إِضْلَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَ " الْجِبْتُ " قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: أَصْلُهُ الْجِبْسُ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ سِينًا، وَمَعْنَاهُ فِيهِمَا الرَّدِيءُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى السَّاحِرِ، وَعَلَى الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حَبَشِيُّ الْأَصْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُ السَّاحِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ الْأَصْنَامُ، وَعَنْ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ السِّحْرُ.
وَ " الطَّاغُوتُ ": مِنْ مَادَّةِ الطُّغْيَانِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ [ص 20 ج 3 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، بِأَنَّهُ كُلُّ مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ، وَرَئِيسٍ يُقَلَّدُ، وَهَوًى يُتَّبَعُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الطَّاغُوتَ: الشَّيْطَانُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الطَّاغُوتَ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا الْكَذِبَ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، وَقِيلَ: الطَّاغُوتُ: الْكُهَّانُ، وَقِيلَ: الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ: صَنَمَانِ كَانَا لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ سَجَدُوا لَهُمَا مَرْضَاةً لِقُرَيْشٍ وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ لِيَتَّحِدُوا مَعَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي حَدِيثِ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ:" الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ " وَفَسَّرَ الْعِيَافَةَ بِالْخَطِّ، وَهُوَ ضَرْبُ الرَّمْلِ، وَتُطْلَقُ الْعِيَافَةُ عَلَى التَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ بِمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَفَاءَلْتُ فِي أَنْ تَبْذُلِي طَارِفَ الْوَفَا
…
بِأَنْ عَنَّ لِي مِنْكِ الْبَنَانُ الْمُطَرَّفُ
وَفِي عَرَفَاتٍ مَا يُخْبِرُ أَنَّنِي
…
بِعَارِفَةٍ مِنْ طِيبِ قَلْبِكِ أُسْعَفُ
وَأَمَّا دِمَاءُ الْهَدْيِ فَهْوَ هَدْيٌ لَنَا
…
يَدُومُ وَرَأْيٌ فِي الْهَوَى يَتَأَلَّفُ
فَأَوْصَلَتَا مَا قُلْتُهُ فَتَبَسَّمَتْ
…
وَقَالَتْ أَحَادِيثُ الْعِيَافَةِ زُخْرُفُ
وَالطِّيَرَةُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: هُوَ الضَّرْبُ بِالْحَصَا أَوِ الْوَدَعِ، أَوْ حَبِّ الْفُولِ، أَوِ الرَّمْلِ لِمَعْرِفَةِ الْبَخْتِ وَمَا غَابَ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا
مِنَ الدَّجَلِ وَالْحِيَلِ، فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الْجِبْتِ هُوَ الدَّجَلُ وَالْأَوْهَامُ وَالْخُرَافَاتُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الطَّاغُوتِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ مُثَارَاتِ الطُّغْيَانِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ لَمْ تَنْظُرْ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ كَيْفَ حُرِمُوا هِدَايَتَهُ؟ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَنْصُرُونَ أَهْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، وَحَقِّيَّةِ أَصْلِ كُتُبِهِمْ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا أَيْ: لِأَجْلِهِمْ وَفِي شَأْنِهِمْ وَالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أَيْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى وَأَرْشَدُ طَرِيقًا فِي الدِّينِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ اللهَ وَصَفَ الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ بِتَعْظِيمِهِمْ غَيْرَ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَعْصِيَتِهِمَا وَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ بِاللهِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَإِنَّ دِينَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَعْدَلُ وَأَصْوَبُ مِنْ دِينِ أَهْلِ التَّصْدِيقِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ انْطَلَقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَاسْتَجَاشَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَغْزُوهُ وَقَالَ: إِنَّا مَعَكُمْ نُقَاتِلُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَكْرًا مِنْكُمْ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا فَاسْجُدْ لِهَذَيْنَ الصَّنَمَيْنِ، وَأُمِرَ بِهِمَا فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالُوا: نَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ؟ فَنَحْنُ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ ـ النَّاقَةَ الضَّخْمَةَ السَّنَامِ ـ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ رَحِمَهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى، وَمِنْهَا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ مَا كَانَ حِينَ أَتَاهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيِّينَ فَهَمُّوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى مَا هَمُّوا مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فَهَرَبَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَعَاهَدَهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: نَحْنُ قَوْمٌ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ الْمَاءَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنُعَمِّرُ بَيْتَ رَبِّنَا، وَنَعْبُدُ آلِهَتَنَا الَّتِي كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَمُحَمَّدٌ يَأْمُرُنَا أَنْ نَتْرُكَ هَذَا وَنَتَّبِعَهُ، قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى.
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ بَيَّنَّا سُوءَ حَالِهِمْ هُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، أَيِ: اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَكُونُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ وَالْكُفْرِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَيْ: وَمَنْ يَلْعَنْهُ اللهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَلَنْ يَنْصُرَهُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ ; إِذْ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخِذْلَانُ وَالِانْكِسَارُ نَصِيبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، أَيْ: بِمَثَارِ الدَّجَلِ
وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، أَيْ مُجَاوَزَةُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ مُقَاوَمَةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ
وَالِاعْتِدَالِ فِي سِيَاسَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِسَيْرِهِمْ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ لَعْنِ اللهِ لِلْأُمَمِ هُوَ إِيمَانُهَا بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ وَالطُّغْيَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاجْتِنَابِهِمْ ذَلِكَ، وَتَدُلُّ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ عَلَى أَنَّ الْأُمَمَ الْمَغْلُوبَةَ تَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ مِنَ الْأُمَمِ الْغَالِبَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَلْيُحَاسِبِ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) ، لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ صِدْقُهُمْ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنْ عَدَمِهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُعَوِّلُونَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ عَلَيْهِ.
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ قَالُوا: إِنَّ أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ لِلْإِضْرَابِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضْرَابِ هُنَا: الِانْتِقَالُ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَتَفْضِيلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْأَثَرَةِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ أَمْ إِذَا وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ تَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ [رَاجِعْ ص 24 ج 2 مِنَ التَّفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْإِنْكَارِ، وَالتَّوْبِيخُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ كَمَا لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْكِتَابِ، بَلْ فَقَدُوا الْمُلْكَ كُلَّهُ بِظُلْمِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ فإذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَيْ: وَلَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ لَسَلَكُوا فِيهِ طَرِيقَ الْبُخْلِ وَالْأَثَرَةِ بِحَصْرِ مَنَافِعِهِ وَمَرَافِقِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطُونَ النَّاسَ نَقِيرًا مِنْهُ إِذْ ذَاكَ، وَالنَّقِيرُ: هُوَ النُّقْرَةُ أَوِ النُّكْتَةُ فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرِ، وَهِيَ الثَّقْبَةُ الَّتِي تَنْبُتُ مِنْهَا النَّخْلَةُ شُبِّهَتْ بِمَا نُقِرَ بِمِنْقَارِ الطَّائِرِ أَوْ مِنْقَارِ الْحَدِيدِ الَّذِي تُحْفَرُ بِهِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَالنَّقِيرُ كَالْفَتِيلِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ (49) يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَالْحَقِيرِ التَّافِهِ، وَيُطْلَقُ النَّقِيرُ أَيْضًا عَلَى مَا نُقِرَ، أَيْ حُفِرَ مِنَ الْحَجَرِ أَوِ الْخَشَبِ فَجُعِلَ إِنَاءً يُنْبَذُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِالْقِطْمِيرِ وَهِيَ الْقِشْرَةُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي عَلَى النَّوَاةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّمْرَةِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ أَصْحَابُ أَثَرَةٍ شَدِيدَةٍ وَشُحٍّ مُطَاعٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا صَارَ لَهُمْ مُلْكٌ حَرَصُوا عَلَى مَنْعِ النَّاسِ أَدْنَى النَّفْعِ وَأَحْقَرَهُ، فَكَيْفَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظْهَرَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ وَيَكُونَ لِأَصْحَابِهِ مِلْكٌ يَخْضَعُ لَهُمْ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَزَالُ غَالِبَةً عَلَى الْيَهُودِ ظَاهِرَةً فِيهِمْ، فَإِنْ
تَمَّ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ مُلْكِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُمْ يَطْرُدُونَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا نَقِيرًا مِنْ نَوَاةٍ أَوْ مَوْضِعَ زَرْعِ نَخْلَةٍ، أَوْ نُقْرَةً فِي أَرْضٍ أَوْ جَبَلٍ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ الْآنَ وَحَاوَلُوا قَبْلَ الْآنِ ذَلِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَالنَّجَّارُ الْيَهُودِيُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَعْمَلُ لَكَ الْعَمَلَ بِأُجْرَةٍ أَقَلَّ مِنَ الْأُجْرَةِ الَّتِي يَرْضَى بِهَا الْمُسْلِمُ
أَوِ النَّصْرَانِيُّ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَلَعَلَّ جَمْعِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةَ وَالْخَيْرِيَّةَ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالدَّلَائِلُ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ يُحَاوِلُونَ امْتِلَاكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَحِرْمَانَ غَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ فِيهَا، يَفْعَلُونَ هَذَا وَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ " هَذَا وَمَا كَيْفَ لَوْ ".
وَهَلْ يَعُودُ إِلَيْهِمُ الْمُلْكُ كَمَا يَبْغُونَ؟ الْآيَةُ لَا تُثْبِتُ ذَلِكَ وَلَا تَنْفِيهِ، وَإِنَّمَا تُبَيِّنُ مَا تَقْتَضِيهِ طِبَاعُهُمْ فِيهِ لَوْ حَصَلَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا (سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَمُتَعَلِّقُونَ بِأَمْوَالِهِمْ فِي كُلِّ الْمَمَالِكِ، وَمِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَالزِّرَاعَةِ، وَقَدْ ضَعُفَ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا دِينِيًّا أَنَّهُمْ سَيُقِيمُونَ الْمُلْكَ، أَوْ سَوْفَ يُقِيمُونَهُ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقَدِ ادَّخَرُوا لِذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا، فَيَجِبُ عَلَى الْعُثْمَانِيِّينَ أَلَّا يُمَكِّنُوا لَهُمْ فِي فِلَسْطِينَ وَلَا يُسَهِّلُوا لَهُمْ طُرُقَ امْتِلَاكِ أَرْضِهَا، وَكَثْرَةَ الْمُهَاجَرَةِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَطَرًا كَبِيرًا كَمَا نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَقَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ الْيَهُودَ حَكَمُوا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مِنَ الْحَسَدِ وَالْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فَهُمْ فِي شَرِّ حَالٍ، وَيَعِيبُونَ مَنْ هُمْ فِي أَحْسَنِ حَالٍ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يَضِيقَ فَضْلُ اللهِ بِعِبَادِهِ، وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فَضْلٌ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغُرُورِ بِنَسَبِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ مَعَ سُوءِ حَالِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ غَرَّرَ هَؤُلَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ تَغْرِيرًا، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فِي هَذَا الْكَوْنِ فَهُمْ يَمْنَعُونَ النَّاسَ، فَلَا يُؤْتُونَهُمْ مِنْهُ نَقِيرًا، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ أَيِ: الْعَرَبُ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا وَالْعَرَبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ كَانَتْ ظَهَرَتْ تَبَاشِيرُ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ فِيهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ ; فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ، وَكَانَتْ شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَوِيَتْ، فَالْآيَةُ مُبَشِّرَةٌ لَهُمْ بِالْمُلْكِ الَّذِي يَتْبَعُ النُّبُوَّةَ وَالْحِكْمَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَ الْيَهُودِ يَوْمَئِذٍ كَانَ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ: إِمَّا غُرُورٌ خَادِعٌ يَظُنُّونَ مَعَهُ أَنَّ فَضْلَ اللهِ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَرَحْمَتَهُ تَضِيقُ عَنْ غَيْرِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِمَّا حُسْبَانُ أَنَّ مُلْكَ الْكَوْنِ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَحُونَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَوْ حَقِيرًا كَالنَّقِيرِ، وَإِمَّا حَسَدُ الْعَرَبِ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُلْكِ الَّذِي ظَهَرَتْ مَبَادِئُ عَظَمَتِهِ، انْتَهَى مَا قَالَهُ فِي الدَّرْسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ.
وَأَقُولُ: فَسَّرُوا الْحَسَدَ بِأَنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا الْمُسْتَحِقِّ لَهَا، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ
فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (2: 109) ، وَفِي سُورَةِ الْفَلَقِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُمُ الْيَهُودُ، فَهُوَ لَمْ يُسْنِدِ الْحَسَدَ إِلَى غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ ـ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُمُ الْمُلْكُ ـ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَتَهُ إِلَيْهِمْ وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَسْبِقَهُمُ الْعَرَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّصَارَى يَوْمَئِذٍ يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَتِّعُونَ بِمُلْكٍ وَاسِعٍ، وَلَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ الَّتِي قَامَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَقٌّ، وَلَا أَنَّهَا تَسْتَتْبِعُ مُلْكًا؛ فَإِنَّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ حَقِّيَّةُ الدَّعْوَةِ صَارَ مُسْلِمًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ مِمَّنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ حَقِّيَّةُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، وَمَنَعَ الْحَسَدُ بَاقِيَ الرُّؤَسَاءِ أَنْ يُؤْمِنُوا وَتَبِعَهُمُ الْعَامَّةُ تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَقَلَّمَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُمْ مِثْلُ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، فَالْحَسُودُ يُؤْثِرُ هَلَاكَ نَفْسِهِ عَلَى انْقِيَادِهَا لِمَنْ يَحْسُدُهُ؛ لِأَنَّ الْحَسَدَ يُفْسِدُ الطِّبَاعَ، وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ حَسَدُوهُ وَحَسَدُوا قَوْمَهُ الْعَرَبَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَسْبَقُ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ.
وَرَدَ فِي بَعْضِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لَمْ يَجِدُوا مَطْعَنًا يَقُولُونَهُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا تَعَدُّدَ أَزْوَاجِهِ، وَقِيلَ: حَسَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ تَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِمْ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَ لَهُمْ أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا رَدَّ عَلَيْهِمُ اسْتِبْعَادَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ فِي غَيْرِ آلِ إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى آلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالنُّبُوَّةَ فَضْلًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ يُعْطَى ذَلِكَ لِآلِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَا حَجْرَ عَلَى فَضْلِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَضْلُ الْإِلَهِيُّ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ سَلَفٌ فِيهِ، فَلِلْعَرَبِ هَذَا السَّلَفُ ; عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ وَإِلَّا لَكَانَتْ هَذِهِ الْعَطَايَا قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ فُرُوعِهِ أَزَلِيَّةً، فَإِيتَاءُ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ الْفَضْلَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ وَالِاخْتِيَارِ وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ عز وجل، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَزَايَا وَفَضَائِلَ فِيمَنْ يُعْطِيهِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ مَنْ يَكْتَسِبُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَزَايَا مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْفَضْلِ، وَالنُّبُوَّةِ وَمُقَدَّمَاتِهَا بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ.
أَمَّا كَثْرَةُ النِّسَاءِ، لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام فَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ (ص) وَأَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ أَتْبَاعُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ أَكْثَرَهُنَّ لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ، وَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ مِنْ كِتَابِهِمُ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ: 11: 1 وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ مُوآبِيَاتٍ وَعَمُونِيَاتٍ وَأَدُومِيَاتٍ وَصَيْدُونِيَاتٍ
وَحَثَيَاتٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهَؤُلَاءِ بِالْمَحَبَّةِ وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ وَثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ السَّرَارِي فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ " إِلَى آخِرِ مَا هُنَاكَ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ عليه السلام وَبَرَّأَهُ اللهُ.
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ الْمُقَدَّمُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ بِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، أَيْ:
مِنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، يُقَالُ: صَدَّ الرَّجُلُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: صَدَّ غَيْرَهُ عَنْهُ إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَنَفَّرَهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، أَيْ مِنْ آلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقِيلَ: إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: إِلَى الْكِتَابِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُلْكِ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَهِيَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَيَانِ أَسْرَارِ الْكِتَابِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْمُلْكِ فَهُوَ الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِهِ، وَهَكَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيُعْرِضُ عَنْهُ آخَرُونَ.
وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا أَيْ: نَارًا مُسَعَّرَةً لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ وَآثَرَ إِرْضَاءَ حَسَدِهِ وَالْعَمَلَ بِمَا يُزَيِّنُهُ لَهُ عَلَى اتِّبَاعُ الْحَقِّ، فَهُوَ لَا يَزَالُ يُغْرِيهِ بِنَصْرِ الْبَاطِلِ وَمُعَانِدَةِ الْحَقِّ حَتَّى يُدَسِّيَ نَفْسَهُ وَيُفْسِدَهَا وَيَهْبِطَ بِهَا إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ وَهَاوِيَةِ النَّكَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِجَهَنَّمَ وَبِالسَّعِيرِ وَهِيَ بِئْسَ الْمَثْوَى وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَتَوَعَّدَ مَنْ صَدَّ عَنْهُ بِسَعِيرِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا وَنَقَلُوا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ " سَوْفَ " تَأْتِي لِلتَّهْدِيدِ وَتَنُوبُ عَنْهَا " السِّينُ " وَيَسْتَشْهِدُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ـ أَيْ عَلَى سَوْفَ وَبِمَا بَعْدَهَا عَلَى السِّينِ ـ وَلَكِنْ وَرَدَ دُخُولُ
السِّينِ عَلَى الْفِعْلِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ وَالصَّوَابُ أَنَّ السِّينَ وَسَوْفَ عَلَى مَعْنَاهُمَا الْمَشْهُورِ فِي إِفَادَةِ التَّنْفِيسِ وَالتَّأْخِيرِ، وَاشْتُقَّ لَفْظُ التَّسْوِيفِ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ مِنْ سَوْفَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَشْكَلَ التَّسْوِيفَ هُنَا، وَلَوْ نَظَرُوا فِي مِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ لَرَأَوْا أَنَّ حُصُولَهُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا جِدًّا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ بِهِ، عَلَى أَنَّ لِلتَّرَاخِي وَالْبُعْدِ مَعْنًى آخَرَ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْمَقَامِ فِي الْخِطَابِ، فَإِذَا نُظِرَ إِلَى حَالِ الْمَغْرُورِينَ ـ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ ـ الَّذِينَ صَرَفَهُمْ غُرُورُهُمْ وَطُغْيَانُهُمْ بِعِزَّتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَصَدُّوا عَنْهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا هُمْ فِيهِ، يَرَاهُمْ بِهَذَا الْغُرُورِ بُعَدَاءَ جِدًّا عَنْ تَصَوُّرِ الْوَعِيدِ وَالتَّفْكِيرِ فِيهِ، فَيَكُونُ هَذَا التَّسْوِيفُ مَرْعِيًّا فِيهِ حَالُهُمْ لِيَتَفَكَّرُوا فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ.
أَقُولُ: قَدْ تَرَكْتُ هُنَا فِي مُذَكِّرَتِي الَّتِي كَتَبْتُهَا فِي دَرْسِهِ بَيَاضًا بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: " تُصَوِّرُ الْوَعِيدَ وَالتَّفْكِيرَ فِيهِ "، وَلَا أَذْكُرُ مَاذَا كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ فِيهَا وَلَا يَظْهَرُ لِي الْآنَ وَجْهُ اسْتِشْكَالِ التَّأْخِيرِ، وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ التَّسْوِيفَ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَيْسَ خَاصًّا بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللهِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّةِ دِينِهِ مُطْلَقًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقُرْآنُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ وَأَوْضَحُهَا، وَنُصْلِيهِمْ نَارًا مَعْنَاهُ نَجْعَلُهُمْ يَصْلَوْنَهَا، أَيْ: يَدْخُلُونَهَا وَيُعَذَّبُونَ بِهَا [رَاجِعْ بَحْثَ الصَّلْيِ وَالْإِصْلَاءِ فِي ص 323 ج 4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] .
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نُضْجُ الْجُلُودِ هُوَ نَحْوُ نُضْجِ الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فَقْدِ التَّمَاسُكِ الْحَيَوِيِّ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ لِأَنَّ النُّضْجَ يُذْهِبُ الْقُوَّةَ الْحَيَوِيَّةَ الَّتِي بِهَا الْإِحْسَاسُ، فَإِذَا بَقِيَتْ نَاضِجَةً يَقِلُّ الْإِحْسَاسُ بِمَا يَمَسُّهَا أَوْ يَزُولُ ; لِذَلِكَ تَتَبَدَّلُ بِهَا جُلُودًا حَيَّةً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ لِأَنَّ الذَّوْقَ وَالْإِحْسَاسَ يَصِلُ إِلَى النَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ فِي الْجِلْدِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِتَبْدِيلِ الْجُلُودِ دَوَامُ الْعَذَابِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ، فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ وَهْمًا رُبَّمَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِالْقِيَاسِ عَلَى
مَا يَعْهَدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنَّ الَّذِي يَتَعَوَّدُ الْأَلَمَ يَقِلُّ شُعُورُهُ بِهِ وَيَصِيرُ عَادِيًّا عِنْدَهُ، كَمَا نَرَى مِنْ حَالِ الرَّجُلِ تُعْمَلُ لَهُ عَمَلِيَّةٌ جِرَاحِيَّةٌ وَتَتَكَرَّرُ، فَإِنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأَوْلَى يَتَأَلَّمُ أَلَمًا شَدِيدًا، ثُمَّ لَا يَزَالُ التَّأَلُّمُ يَخِفُّ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى نَرَاهُ لَا يُبَالِي، وَهَكَذَا نُشَاهِدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يَطُولُ أَمْرُهَا.
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُضْجَ الْجُلُودِ مِنَ الْعَذَابِ ـ إِنْ كَانَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا ـ يَكُونُ هُوَ أَثَرُ لَفْحِ النَّارِ بِسَمُومِهَا لِأَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (23: 104) ، وَمَتَى لُفِحَ الْجِلْدُ مِرَارًا يَبْطُلُ إِحْسَاسُهُ وَيَنْفَصِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ وَيَتَرَبَّى تَحْتَ جِلْدٍ آخَرَ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا.
ثُمَّ تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ عَنِ اسْتِشْكَالِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِتَعْذِيبِ الْجُلُودِ الْجَدِيدَةِ مَعَ أَنَّ الْعِصْيَانَ لَمْ يَكُنْ بِهَا، وَلَمْ أَكْتُبْ مَا قَالَهُ وَلَا أَتَذَكَّرُهُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْجَوَابِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَدَلَ يَكُونُ عَيْنَ الْأَصْلِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مَادَّتِهِ، وَغَيْرَهُ فِي صُورَتِهِ، وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ بَعْدَ هَذَا الْجَوَابِ جَوَابًا ثَانِيًا: وَهُوَ أَنَّ الْمُعَذَّبَ هُوَ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ الْجِلْدُ مَا كَانَ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّتِهِ بَلْ هُوَ كَالشَّيْءِ الزَّائِدِ الْمُلْتَصِقِ بِهِ، وَثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُلُودِ السَّرَابِيلُ، قَالَ: وَطَعَنَ فِيهِ الْقَاضِي بِمُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ، وَرَابِعًا: هُوَ أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُرَادُ وَصْفُهُ بِالدَّوَامِ: كُلَّمَا انْتَهَى فَقَدِ ابْتَدَأَ، وَكُلَّمَا انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ فَقَدِ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا يَعْنِي كُلَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَضِجُوا وَاحْتَرَقُوا وَانْتَهَوْا إِلَى الْهَلَاكِ أَعْطَيْنَاهُمْ قُوَّةً جَدِيدَةً مِنَ الْحَيَاةِ بِحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمُ الْآنَ حَدَثُوا وَوُجِدُوا، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ دَوَامَ الْعَذَابِ وَعَدَمَ انْقِطَاعِهِ، انْتَهَى تَصْوِيرُهُ لِهَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُوَافِقُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْعِبَارَةِ وَرَأَيْتُ أَنَّهُ صَوَّرَهَا بِمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ إِلَى الْعَقْلِ وَاللَّفْظِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَجْهًا خَامِسًا وَرَدَّهُ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ.
وَقَدْ رَدَّ الْأَلُوسِيُّ الْإِشْكَالَ مِنْ أَصْلِهِ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مِمَّا لَا يَكَادُ يَسْأَلُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ فَاضِلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِصْيَانَ الْجِلْدِ وَطَاعَتَهُ وَتَأَلُّمَهُ وَتَلَذُّذَهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنِ سَائِرِ الْجَمَادَاتِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِالْآلَةِ ; فَيَدُ قَاتِلِ النَّفْسِ ظُلْمًا مَثَلًا آلَةٌ لَهُ كَالسَّيْفِ الَّذِي
قَتَلَ بِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِأَنَّ الْيَدَ حَامِلَةٌ لِلرُّوحِ وَالسَّيْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِإِعَادَةِ الْيَدِ بِذَاتِهَا وَإِحْرَاقِهَا دُونَ إِعَادَةِ السَّيْفِ وَإِحْرَاقِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى النَّفْسِ الْحَسَّاسَةِ بِأَيِّ بَدَنٍ حَلَّتْ وَفِي أَيِّ جَسَدٍ كَانَتْ، وَكَذَا يُقَالُ فِي النَّعِيمِ اهـ.
وَقَدْ أُيِّدَ هَذَا الرَّأْيُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي كِبَرِ أَجْسَادِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: " وَلَوْلَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ بِحَيْثُ صَارَ إِنْكَارُهُ كُفْرًا لَمْ يَبْعُدْ عَقْلًا الْقَوْلُ بِالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الرُّوحَانِيَّيْنِ فَقَطْ، وَلَمَا تَوَقَّفَ الْأَمْرُ عَقْلًا عَلَى إِثْبَاتِ الْأَجْسَامِ فِعْلًا، وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذَا أَنِّي أَقُولُ بِاسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ مَعَاذَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنِّي أَقُولُ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى إِعَادَتِهِ وَإِنْ أَمْكَنَتْ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا الْبَابِ مُتَعَارِضَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى إِعَادَةِ
الْأَجْسَامِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ إِعْدَامِهَا، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ مِثْلِهَا وَفَنَاءِ الْأُولَى، وَلَا أَرَى بَأْسًا ـ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ ـ فِي اعْتِقَادِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ اهـ، وَلَهُ الْحَقُّ فِي رَدِّ الْإِيرَادِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَقَلَّ فِي بَعْضِ الْقَوْلِ وَقَلَّدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي بَعْضٍ آخَرَ كَإِعَادَةِ الْمَعْدُومِ، وَلِهَذَا الْبَحْثِ مَوْضِعٌ آخَرُ نُحَرِّرُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي تَذُوقُ الْعَذَابَ كَلِمَةُ (لِيَذُوقُوا) وَلَمْ يَقِلْ " لِتَذُوقَ " أَيِ الْجُلُودُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ تَنَاوُلُ شَيْءٍ قَلِيلٍ بِالْفَمِ لِيُعْرَفَ طَعْمُهُ فَلَا يُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ الْعَذَابِ الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ أَوْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ الْمَذُوقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَلَا زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ اهـ.
وَلَسْتُ أَدْرِي مَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَذَابِ يُسَمَّى أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ قَلِيلًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ " يَذُوقُوا " وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْقُرْآنُ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي الْعَذَابِ كَثِيرًا! فَاخْتِيَارُهُ مَقْصُودٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَشَدُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَهْمَا كَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ الْمُعَذَّبِينَ شَدِيدًا بَالِغًا مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الشِّدَّةِ
كَأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ ذَوْقِ طَعْمِ الرَّحْمَةِ ; عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِمْ مَوْثِقٌ مِنَ اللهِ بِنَجَاتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَجَعَلَ سُنَّتَهُ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا مُطَّرِدَةً لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَغْلِبَهُ فَيَبْطُلَ اطِّرَادُهَا؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا جَعَلَ دُخُولَ الْجَنَّةِ جَزَاءَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ; إِذِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَكْفِي لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمَرْءُ عَقِبَ إِيمَانِهِ فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِظُهُورِ آثَارِ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ " سَوْفَ " أَبْلَغُ مِنَ " السِّينِ " فِي التَّنْفِيسِ وَسِعَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْمُضَارِعِ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَيَرَى ابْنُ هِشَامٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَاعِدَةِ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَتْ سَوْفَ أَكْثَرَ حُرُوفًا كَانَ مَعْنَاهَا فِي الِاسْتِقْبَالِ أَوْسَعَ، وَلَا يَدَ عَلَى هَذَا مِنْ نُكْتَةٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ وَعَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: سَنُدْخِلُهُمْ وَكَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالْفَرِيقَيْنِ يُعَجِّلُ لِأَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ
وَلَا يُعَجِّلُ لِأَهْلِ الْعَذَابِ عَذَابَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِدَادِ وَقْتِ التَّوْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْخُلُودُ: طُولُ الْمُكْثِ، وَأَكَّدَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: أَبَدًا أَيْ: دَائِمًا.
لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ قَالُوا: أَيْ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعُيُوبِ وَالْأَدْنَاسِ، أَيْ: سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2: 25] ، وَهُنَاكَ كَلَامٌ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَعْنَى مُصَاحَبَتِهِنَّ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَنَّةَ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ لَيْسَ كَعَالَمِ الدُّنْيَا.
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قَالَ الرَّاغِبُ: الظِّلُّ أَعَمُّ مِنَ الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: ظِلُّ اللَّيْلِ وَظِلُّ الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ الشَّمْسُ: ظِلٌّ، وَلَا يُقَالُ: الْفَيْءُ، إِلَّا لِمَا زَالَتْ عَنْهُ
الشَّمْسُ، وَيُعَبَّرُ بِالظِّلِّ عَنِ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَعَنِ الرَّفَاهَةِ، وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْ كَلَامِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِمْ: أَظَلَّنِي فُلَانٌ أَيْ: حَرَسَنِي وَجَعَلَنِي فِي ظِلِّهِ أَيْ: عِزِّهِ وَمَنَعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَظِلٍّ ظَلِيلٍ أَيْ: فَائِضٍ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا كِنَايَةٌ عَنْ غَضَارَةِ الْعَيْشِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ هِيَ السَّبَبُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لَفْظَ الظِّلِّ بِمَعْنَى النَّعِيمِ، وَالظِّلُّ صِفَةٌ اشْتُقَّتْ مِنْ لَفْظِ الظِّلِّ يُؤَكَّدُ بِهَا مَعْنَاهُ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، أَيْ: ظِلٌّ وَارِفٌ فَيْنَانُ، لَا يُصِيبُ صَاحِبَهُ حَرٌّ، وَلَا سَمُومٌ، وَدَائِمٌ لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ كَمَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ سبحانه وتعالى جِدُّهُ وَثَنَاؤُهُ.
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا أَسَاسُ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُهُمَا لَكَفَتَا الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ إِذَا هُمْ بَنَوْا جَمِيعَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ لِنُزُولِهِمَا أَسْبَابًا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ
السَّبَبَ الْخَاصَّ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْخِطَابِ، قَالَ فِي لُبَابِ النُّقُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: أَرِنِي الْمِفْتَاحَ ـ أَيْ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ ـ فَلَمَّا بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَاتِ الْمِفْتَاحَ يَا عُثْمَانُ، فَقَالَ: هَاكَ أَمَانَةَ اللهِ، فَقَامَ فَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِرَدِّ الْمِفْتَاحِ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَعْطَاهُ
الْمِفْتَاحَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ.
وَأَخْرَجَ شُعْبَةُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ:" نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، أَخَذَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ بِهِ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَنَاوَلَهُ الْمِفْتَاحَ "، قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ "، قُلْتُ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ اهـ.
أَقُولُ: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم تَلَاهَا يَوْمَئِذٍ اسْتِشْهَادًا، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ عُمَرُ أَنَّهُ سَمِعَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَصَحَّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ ذُهِلَ عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا وَرَدَ فِي ذِكْرِ مَوْتِهِ حَتَّى قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (3: 144) ، الْآيَةَ فَتَذَكَّرَ، وَذُهِلَ عَنْ آيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا (4: 20) ، حَتَّى ذَكَّرَتْهُ بِهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي رَاجَعَتْهُ فِي مَسْأَلَةِ تَحْدِيدِ الْمُهُورِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ ـ وَكُلُّ أَحَدٍ عُرْضَةٌ لِلنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَصِحُّ وَإِنِ اعْتَمَدَهَا الْجَلَالُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ قَالُوا: إِنَّ أَوْهَى طُرُقِ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ طَرِيقُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالُوا: فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَرْوَانُ الصَّغِيرُ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ فَإِنْ كَانَ حَجَّاجٌ هَذَا هُوَ الْمِصِّيصِيَّ الْأَعْوَرَ فَقَدْ كَانَ ثِقَةً وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْهُ وَلَكِنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ.
وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ بَحْثٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَوْ أَعْطَاهُ لِلْعَبَّاسِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا إِلَّا مَا لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ يَكُونُ هُوَ أَهْلَهُ وَأَحَقَّ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (33: 6) ، بَلْ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ كَانَ الْمِفْتَاحُ مِفْتَاحَ بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ نَفْسِهِ وَنَزَعَ مِلْكَهُ مِنْهُ وَأَعْطَاهُ آخَرَ، بَلِ الْحُكَّامُ الْآنَ فِي جَمِيعِ الْمَمَالِكِ يَنْزِعُونَ مِلْكَ مَنْ يَرَوْنَ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ فِي نَزْعِ مِلْكِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُعْطُونَهُ ثَمَنَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا بَيَّنَهُ ـ حَتَّى تَفْضِيلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْهِدَايَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ـ أَدَّبَنَا بِهَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي، وَأَمَرَنَا بِالْأَمَانَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ بِمُنَاسَبَةٍ قَوِيَّةٍ تَجْعَلُ السِّيَاقَ كَعِقْدٍ مِنَ الْجَوْهَرِ مُتَنَاسِبِ اللَّآلِئِ، فَسَوَاءٌ صَحَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حِكَايَةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ أَوْ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّ صِحَّتَهُ لَا تَضُرُّ بِالْتِئَامِ السِّيَاقِ وَلَا بِعُمُومِ الْحُكْمِ، إِذِ السَّبَبُ الْخَاصُّ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْحُكْمِ.
وَالْأَمَانَةُ حَقٌّ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَيُودَعُهُ لِأَجْلِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ كَالْمَالِ وَالْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُودَعُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ قَدْ تَعَاقَدَ مَعَ الْمُودِعِ عَلَى ذَلِكَ بِعَقْدٍ قَوْلِيٍّ خَاصٍّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُوَدَعِ عِنْدَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ كَذَا إِلَى فُلَانٍ مَثَلًا، أَمْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ هُوَ بِمَثَابَةِ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْأَفْرَادُ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، فَالَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ قَدْ أُودِعَ أَمَانَةً وَأُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ بِالتَّعَامُلِ وَالْعُرْفِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَيُفِيدَ النَّاسَ وَيُرْشِدَهُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ الْعَامَّ عَلَى النَّاسِ بِهَذَا التَّعَامُلِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ شَرْعًا وَعُرْفًا بِنَصِّ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (3: 187) ، وَلِذَلِكَ عُدَّ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ خَائِنِينَ بِكِتْمَانِ صِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَمَانَةَ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْدَعَ الْمَالَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَتَوَقَّفَ أَدَاءُ أَمَانَةِ الْعِلْمِ عَلَى تَعَرُّفِ الطُّرُقِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ هَذِهِ الطُّرُقُ لِأَجْلِ السَّيْرِ فِيهَا، وَإِعْرَاضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ الَّتِي تَتَأَدَّى بِهَا هَذِهِ الْأَمَانَةُ بِالْفِعْلِ هُوَ ابْتِعَادٌ عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، وَإِخْفَاءُ الْحَقِّ بِإِخْفَاءِ وَسَائِلِهِ هُوَ عَيْنُ الْإِضَاعَةِ لِلْحَقِّ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْجَهْلَ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَاشِيًا بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتُبْدِلَتْ بِهِ الشُّرُوعُ وَالْبِدَعُ، وَرَأَيْنَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُعَلِّمُوهُمْ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فَيُمْكِنُنَا أَنْ نَجْزِمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، وَهِيَ مَا اسْتُحْفِظُوا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِ اسْتِبَانَةِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ذَلِكَ بِسُهُولَةٍ وَقُرْبٍ، فَهُمْ خَوَنَةُ النَّاسِ وَلَيْسُوا بِالْأُمَنَاءِ.
أَقُولُ: يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْرِفُوا الطُّرُقَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى
إِيصَالِ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ وَقَبُولِهِ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا أَمَانَةُ الْمَالِ، فَفِي هَذَا الْعَصْرِ تُؤَدَّى الْأَمْوَالُ إِلَى أَصْحَابِهَا بِطُرُقٍ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، مِنْهَا التَّحْوِيلُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَرِيدِ، وَمِنْهَا الْمَصَارِفُ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ تُوجَدُ طُرُقٌ لِنَشْرِ الْعِلْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَسْهَلُ مِنَ الطُّرُقِ السَّابِقَةِ، فَمَنْ أَبَى سُلُوكَهَا لَا يُعْذَرُ بِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ لِأَمَانَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ، وَرُبَّمَا قَيَّدُوا هَذَا بِمَا إِذَا فُقِدَ
مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِفْتَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا مَنْ قَالَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَسَعُ النَّاسَ جَهْلُهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ ; وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ، وَالْمَجْهُولُ لَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، أَفَيُتْرَكُ الْجَاهِلُونَ بِالسُّنَنِ الْعَامِلُونَ بِالْبِدَعِ حَتَّى يَطْرُقُوا أَبْوَابَ الْعُلَمَاءِ فِي بُيُوتِهِمْ أَوْ مَدَارِسِهِمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ؟ !
وَلَا يَخْرُجُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ تَبِعَةِ الْكِتْمَانِ وَالْخِيَانَةِ فِي أَمَانَةِ اللهِ بِتَصَدِّيهِمْ لِتَدْرِيسِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعَقَائِدِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ لَا تَفْهَمُهَا الْعَامَّةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا مَعْرِفَتُهَا ; لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِلْمِ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ دَائِمًا، وَمِنْهَا مَا تَمُرُّ الْأَعْصَارُ وَلَا يَقَعُ، بَلْ مِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَصَدَّوْا لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَهْلُهُ وَأَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الَّذِي قَالَ:
لَوْ صَحَّ مِنْكَ الْهَوَى أُرْشِدْتَ لِلْحِيَلِ
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا: وَكَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ لَهُ طُرُقٌ: مِنْهَا الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ وَالْقَضَاءُ، وَمِنْهَا تَحْكِيمُ الْمُتَخَاصِمِينَ لِشَخْصٍ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَكُلُّ
مَنْ يَحْكُمُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْعَدْلِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (16: 90) ، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (5: 8)، وَقَوْلُهُ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (4: 135) ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا حَدَّ الْعَدْلِ وَلَا تَفْسِيرَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ تَفْسِيرٌ لَهُ أَيْضًا، وَالْعَدْلُ وَقْفٌ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِيَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (5: 1) ، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُوَفِّيَ بِمَا نَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (2: 188) ، الْآيَةَ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَرِشْوَةَ الْحُكَّامِ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ تَطْبِيقُ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّطْبِيقُ ظَاهِرًا، وَقَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قِيَاسٍ وَاسْتِنْبَاطٍ وَإِجْهَادٍ لِلْفِكْرِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ.
وَالرُّكْنُ الثَّانِي لِلْعَدْلِ - هَكَذَا عَبَّرَ تَارَةً بِالنَّوْعِ وَتَارَةً بِالرُّكْنِ - يَتَأَلَّفُ مِنْ أَمْرَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : فَهْمُ الدَّعْوَى مِنَ الْمُدَّعِي وَالْجَوَابِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ مَوْضِعَ مَا بِهِ التَّنَازُعُ
وَالتَّخَاصُمُ بِأَدِلَّتِهِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ.
(ثَانِيهِمَا) : اسْتِقَامَةُ الْحَاكِمِ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَمِنَ الْهَوَى بِأَنْ يَكْرَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمِيلُ إِلَى الْآخَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ لِلنَّاسِ أَيْضًا، فَكُلٌّ مِنْ رُكْنَيِ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللهُ الْعَدْلَ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ; لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِنَفْسِهِ كَالنُّورِ.
وَلَكَ ـ وَقَدْ فَهِمْتَ مَا قُلْنَاهُ ـ أَنْ نَقُولَ: الْعَدْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِقَامَةِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْهُمَا فَهُوَ ظُلْمٌ، فَإِذَا أَخَّرَ الْقَاضِي النَّظَرَ فِي الْقَضِيَّةِ اتِّبَاعًا لِرُسُومٍ وَعَادَاتٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا إِقَامَةُ الْعَدْلِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلِ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدَّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ الْمُرَادُ، أَوْ أَخَّرَ الْحُكْمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُحَاكَمَةِ، وَاسْتِيفَاءِ أَسْبَابِهَا هَلْ يَكُونُ مُقِيمًا لِلْعَدْلِ؟ (قالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا فِي الدَّرْسِ فَضَجَّ الْحَاضِرُونَ بِقَوْلِ: لَا لَا) إِذَا عَلِمْنَا هَذَا وَتَأَمَّلْنَا فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَجْرِي عِنْدَنَا الْيَوْمَ فَهَلْ نَرَاهَا جَارِيَةً عَلَى أُصُولِ الْعَدْلِ (قَالُوا: لَا لَا) .
نَجِدُ مَحَاكِمَنَا الشَّرْعِيَّةَ تَشْتَرِطُ فِي تَوْجِيهِ الدَّعْوَى، وَفِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ شُرُوطًا
وَأَلْفَاظًا مُعَيَّنَةً كَلَفْظِ: أَشْهَدُ، وَلَفْظِ هَذَا أَوِ الْمَذْكُورِ وَتَبْيِينِ النَّقْدِ وَذِكْرِ الْبَلَدِ الَّذِي ضُرِبَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَفْهُومًا مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْتَلِفُ فِي فَهْمِهِ الْقَاضِي وَلَا الْخَصْمُ، فَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ كَثِيرًا مَا تَحُولُ دُونَ الْعَدْلِ إِذْ تُرَدُّ الدَّعْوَى مِنْ أَصْلِهَا أَوِ الشَّهَادَةُ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا لِلْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا وَإِنْ أَدَّتْ مَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَفَهْمِ الشَّرِيعَةِ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ إِضَاعَةِ الْعَدْلِ، وَلَا عُذْرَ لِلنَّاسِ بِالْجَهْلِ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ الشَّرِيعَةِ وَإِزَالَةُ كُلِّ مَا يَحُولُ دُونَ فَهْمِهَا مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ، وَلَوْ كُنَّا نُقِيمُ الْعَدْلَ لَمَا كُنَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُوءِ الْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي دَرْسٍ آخَرَ: إِنَّهُ اطَّلَعَ بَعْدَ الدَّرْسِ الْأَوَّلِ ـ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ بِمَا رَأَيْتَ ـ عَلَى كِتَابِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَإِذَا هُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَوَسَّعَ فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَمَانَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللهُ فِي أَيْدِي الْحُكَّامِ، وَمِنْهَا أَلَّا يُوَلُّوا الْأُمُورَ إِلَّا خِيَارَ النَّاسِ الصَّالِحِينَ لَهَا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْهَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ ـ أَيْ بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَهُ ـ " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ "، أَيْ: سَاعَةَ قِيَامَةِ الْأُمَّةِ وَهَلَاكِهَا ; لِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سَاعَةً، أَيْ: وَقْتًا تَهْلِكُ فِيهِ أَوْ يَذْهَبُ اسْتِقْلَالُهَا.
أَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَمْ يَتَجَلَّ تَمَامَ التَّجَلِّي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ وَنُفَصِّلُهُ فِي مَسَائِلَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الْأَمَانَةِ:
الْأَمَانَةُ مَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَمْنِ وَهُوَ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَعَدَمُ الْخَوْفِ يُقَالُ: أَمِنْتُهُ ـ كَسَمِعْتُهُ ـ عَلَى الشَّيْءِ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ (12: 64) ،
وَيُقَالُ: أَمِنَهَا بِكَذَا وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (3: 75)، وَيُقَالُ: ائْتَمَنَ فُلَانًا، أَيْ: عَدَّهُ أَوِ اتَّخَذَهُ أَمِينًا، وَائْتَمَنَهُ عَلَى الشَّيْءِ كَأَمِنَهُ عَلَيْهِ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (2: 283) ، وَكُلُّ أَمَانَةٍ يَجِبُ حِفْظُهَا، وَمِنْهَا مَا يُحْفَظُ فَقَطْ كَالسِّرِّ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبُو يُعْلَى فِي مَسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ، وَأَشَارَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الِائْتِمَانِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَعُرْفٍ وَقَرِينَةٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتَقَدَّمَ تَصْرِيحُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ، وَمِنْهَا، أَيِ ـ الْأَمَانَةِ ـ مَا يُحْفَظُ لِيُؤَدَّى إِلَى صَاحِبِهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الَّذِي ائْتَمَنَكَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ لِأَجْلِهِ، وَيُسَمَّى
مَا يَحْفَظُ الْأَمَانَةَ وَيُؤَدِّيهَا حَفِيظًا وَأَمِينًا وَوَفِيًّا، وَيُسَمَّى مَنْ لَا يَحْفَظُهَا أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا خَائِنًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (8: 27) ، فَمَنْ خَانَ عَالِمًا كَانَ مِنَ الْعُصَاةِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْعَدْلِ:
الْعَدْلُ ـ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ـ الْمِثْلُ، وَالْعَدِيلُ: الْمَثِيلُ قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَفُلَانٌ يَعْدِلُ فُلَانًا أَيْ يُسَاوِيهِ، وَيُقَالُ مَا يَعْدِلُكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ، أَيْ: مَا يَقَعُ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَوْقِعَكَ، وَعَدَلَ الْمَكَايِيلَ وَالْمَوَازِينَ سَوَّاهَا، وَعَدَلَ الشَّيْءَ يَعْدِلُهُ عَدْلًا وَعَادَلَهُ وَازَنَهُ، وَعَادَلْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَعَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ إِذَا سَوَّيْتُ بَيْنَهُمَا، وَتَعْدِيلُ الشَّيْءِ تَقْوِيمُهُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ تَقْوِيمُكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَجْعَلُهُ لَهُ مِثْلًا، وَالْعَدْلُ وَالْعِدْلُ وَالْعَدِيلُ سَوَاءٌ، أَيِ: النَّظِيرُ وَالْمَثِيلُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمِثْلُ وَلَيْسَ بِالنَّظِيرِ عَيْنِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا (5: 95)، قَالَ مُهَلْهِلٌ:
عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ
…
إِذَا ظَهَرَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُورِ
وَالْعَدْلُ ـ بِالْفَتْحِ ـ أَصْلُهُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: عَدَلْتُ بِهَذَا عَدْلًا حَسَنًا، نَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْمِثْلِ؛ لِتُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدْلِ الْمَتَاعِ كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ رَزَانٌ، وَعَجْزٌ رَزِينٌ لِلْفَرْقِ (ثُمَّ قَالَ) : وَالْعِدْلُ بِالْكَسْرِ: نِصْفُ الْحِمْلِ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيِ الْبَعِيرِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَدْلُ اسْمُ حِمْلٍ مَعْدُولٍ يُحْمَلُ آخَرُ مُسَوًّى بِهِ، وَالْجَمْعُ أَعْدَالٌ وَعُدُولٌ عَنْ سِيبَوَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْعَدِيلَتَانِ الْغِرَارَتَانِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُعَادِلُ صَاحِبَتَهَا، الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ عَدَلْتُ الْجُوَالِقَ عَلَى الْبَعِيرِ أَعْدِلُهُ عَدْلًا، يُحْمَلُ عَلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ وَيُسَوَّى بِآخَرَ، ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَدَلُ ـ مُحَرَّكٌ ـ تَسْوِيَةُ الْأُونَيْنِ وَهُمَا الْعَدَلَانِ، وَيُقَالُ: عَدَلْتُ أَمْتِعَةَ الْبَيْتِ إِذَا جَعَلْتُهَا أَعْدَالًا مُسْتَوِيَةً لِلِاعْتِكَامِ يَوْمَ الظَّعْنِ، وَالْعَدِيلُ الَّذِي يُعَادِلُكَ فِي الْمَحْمَلِ اهـ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَوَّلِينَ هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْمُعَاصِرِينَ فِي الْجَزِيرَةِ وَسُورِيَّةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ تَحَرِّي الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِأَلَّا يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ قَطُّ، بَلْ يَجْعَلُهُمَا سَوَاءً كَالْعَدْلَيْنِ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْعَدْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ ; فَإِنَّ هَذَا ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ
ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ، وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعَدْلِ، بَلِ الْعَدْلُ يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كُلُّ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ وَيَتَخَاصَمُونَ فِيهَا قَدْ بُيِّنَتْ أَحْكَامُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا بُيِّنَ فِيهِمَا كَانَ خَيْرَ عَوْنٍ عَلَى الْعَدْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَمَا لَمْ يُبَيَّنْ يَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ يَتَحَرَّوْا فِيهِ الْمُسَاوَاةَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمُ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا اجْتِهَادُهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ بَيَانُ مَا يَجِبُ مِنَ اتِّبَاعِ أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا حَكَمَا بِهِ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ فِيمَا لَمْ يَحْكُمَا بِهِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا، قَالَ: وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَيُحِبُّ أَنْ يَغْلِبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّتَهُ وَلَا شَاهِدًا شَهَادَتَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعِيَ الدَّعْوَى وَالِاسْتِحْلَافَ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ، وَلَا يُلَقِّنَ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَوْ لَا يَشْهَدُوا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضِيفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْآخَرِ، وَلَا يُجِيبُ هُوَ إِلَى ضِيَافَةِ أَحَدِهِمَا وَلَا إِلَى ضِيَافَتِهِمَا مَا دَامَا مُتَخَاصِمَيْنِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ لَا يُضِيفُ الْخَصْمَ إِلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْحَاكِمِ بِحُكْمِهِ إِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَأَلَّا يَمْتَزِجَ ذَلِكَ بِغَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (4: 58) ، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْوَاعُ الْأَمَانَةِ:
الْأَمَانَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ ; وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ فِي الْآيَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ (8: 27)، وَسُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَعَارِجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (23: 8، 70: 32) ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَمَانَةَ الْعِلْمِ، وَأَمَانَةَ الْمَالِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ ثَلَاثًا:
(إِحْدَاهَا أَمَانَةُ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ) : وَهِيَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ حِفْظَهُ مِنَ الِائْتِمَارِ
بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ
عَمًّا نَهَاهُ عَنْهُ، وَاسْتِعْمَالُ مَشَاعِرِهِ وَجَوَارِحِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ، فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا خِيَانَةٌ لِلَّهِ عز وجل، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
ثَانِيهَا: (أَمَانَةُ الْعَبْدِ مَعَ النَّاسِ) وَيَدْخُلُ فِيهَا رَدُّ الْوَدَائِعِ وَعَدَمُ الْغِشِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَحِفْظُ السِّرِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لِآحَادِ النَّاسِ، وَلِلْحُكَّامِ، وَلِلْأَهْلِ وَالْأَقْرَبِينَ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ " عَدْلُ الْأُمَرَاءِ مَعَ رَعِيَّتِهِمْ، وَعَدْلُ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْعَوَامِّ بِأَلَا يَحْمِلُوهُمْ عَلَى التَّعَصُّبَاتِ الْبَاطِلَةِ، بَلْ يُرْشِدُوهُمْ إِلَى اعْتِقَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ تَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ "، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ الْعَامَّةَ مَسَائِلَ الْخِلَافِ الَّتِي تُثِيرُ التَّعَصُّبَ بَيْنَهُمْ، وَالَّذِينَ لَا يُعَلِّمُونَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنْ أُمُورِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ، وَمَا يَنْفَعُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي تُقَوِّي إِيمَانَهُمْ وَتُنَفِّرُهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَتُرَغِّبُهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، كُلُّ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْخَائِنِينَ لِلْأُمَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَسَّمَ إِلَى أَقْسَامٍ، فَيُجْعَلَ رِعَايَةُ أَمَانَةِ الْحُكَّامِ قِسْمًا، وَرِعَايَةُ أَمَانَةِ الْأَقْرَبِينَ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي قِسْمًا، وَرِعَايَةُ أَمَانَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالصِّهْرِ قِسْمًا، وَمِنْهَا أَلَّا يُفْشِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ سِرَّ الْآخَرِ، وَلَا سِيَّمَا السِّرُّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِمَا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَادَةً مِنْهُمَا سِوَاهُمَا، وَرِعَايَةُ أَمَانَاتِ سَائِرِ النَّاسِ قِسْمًا.
ثَالِثُهَا: (أَمَانَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ) وَعَرَّفَهَا الرَّازِيُّ بِأَلَّا يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ إِلَّا مَا هُوَ الْأَنْفَعُ وَالْأَصْلَحُ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَلَّا يُقَدَّمَ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى مَا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ.
أَقُولُ: وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَجْمَلَهُ تَوَقِّي الْإِنْسَانِ لِأَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَمَانَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَلُّمِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ حِفْظِ الصِّحَّةِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْأَمْرَاضِ الْوَبَائِيَّةِ الْمُنْتَشِرَةِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ نَفْعُ بَعْضِ مَا يُعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرَضِ كَتَلْقِيحِ الْجُدَرِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الْمَرَضِ، وَتَفْصِيلُ رِعَايَةِ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ يَطُولُ، وَسَنُعِيدُ الْبَحْثَ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ إِنْ أَنْسَأَ اللهُ فِي الْعُمْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ الْأَمْرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْأَحْكَامِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَالتَّخَاصُمِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَنَاءَ يَقُومُونَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ بِوَازِعِ الْفِطْرَةِ
وَالدِّينِ، وَالْخِيَانَةُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي الْأُمَّةِ الْمُتَدَيِّنَةِ إِلَّا شُذُوذًا، وَقَلَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ إِذَا رَاعَى النَّاسُ أَمَانَاتِهِمْ وَأَدَّوْهَا إِلَى أَهْلِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَرَدَ فِي الْأَمَانَةِ عِدَّةُ آيَاتٍ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا، وَوَرَدَ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُشَدِّدَةٌ فِي وُجُوبِ رِعَايَتِهَا وَأَدَائِهَا وَتَشْنِيعِ الْخِيَانَةِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا، مِنْهَا حَدِيثُ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ، مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ رُسْتَهْ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ أَبِي الْحَسَنِ الزُّهْرِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ) فِي الْإِيمَانِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي التَّوْبِيخِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَمِنْهَا حَدِيثُ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَرَمَزَ لَهُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ بِالصِّحَّةِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يَتَّخِذُوا الْأَمَانَةَ مَغْنَمًا وَالزَّكَاةَ مَغْرَمًا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي حِكْمَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْأَمَانَةِ وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا وَمَضَرَّةِ الْخِيَانَةِ: ذَكَرَ حَكِيمُ الْإِسْلَامِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْأَفْغَانِيُّ فِي رِسَالَتِهِ (الرَّدِّ عَلَى الدَّهْرِيِّينَ) الَّتِي أَلَّفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَتَرْجَمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ تِلْمِيذُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الدِّينَ قَدْ أَفَادَ النَّاسَ ثَلَاثَ عَقَائِدَ وَثَلَاثَ خِصَالٍ أَقَامُوا بِهَا بِنَاءَ مَدَنِيَّتِهِمْ، وَمِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوِ الصِّفَاتِ: الْأَمَانَةُ: وَهَاكَ مَا قَالَهُ فِيهَا فَهُوَ يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ:
" مِنَ الْمَعْلُومِ الْجَلِيِّ أَنَّ بَقَاءَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَائِمٌ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فِي مَنَافِعِ الْأَعْمَالِ، وَرُوحُ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ إِنَّمَا هِيَ الْأَمَانَةُ، فَإِنْ فَسَدَتِ الْأَمَانَةُ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ بَطَلَتْ صِلَاتُ الْمُعَامَلَةِ وَانْبَتَرَتْ حِبَالُ الْمُعَاوَضَةِ، فَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَعِيشَةِ، وَأَفْضَى ذَلِكَ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْفَنَاءِ الْعَاجِلِ.
" ثُمَّ مِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ الْأُمَمَ فِي رَفَاهَتِهَا، وَالشُّعُوبَ فِي رَاحَتِهَا وَانْتِظَامِ أَمْرِ مَعِيشَتِهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحُكُومَةِ بِأَيِّ أَنْوَاعِهَا، إِمَّا جُمْهُورِيَّةً، أَوْ مَلَكِيَّةً مَشْرُوطَةً، أَوْ مَلَكِيَّةً مُقَيَّدَةً،
وَالْحُكُومَةُ فِي أَيِّ صُوَرِهَا لَا تَقُومُ إِلَّا بِرِجَالٍ يَلُونَ ضُرُوبًا مِنَ الْأَعْمَالِ فَمِنْهُمْ حُرَّاسٌ عَلَى حُدُودِ الْمَمْلَكَةِ يَحْمُونَهَا مِنْ عُدْوَانِ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا، وَيُدَافِعُونَ فِي الْوَالِجِ فِي ثُغُورِهَا، وَحَفَظَةٌ فِي دَاخِلِ الْبِلَادِ يَأْخُذُونَ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِمَّنْ يَهْتِكُ سِتْرَ الْحَيَاءِ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاعْتِدَاءِ مِنْ فَتْكٍ أَوْ سَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الشَّرْعِ، وَعُرَفَاءُ الْقَانُونِ يَجْلِسُونَ عَلَى مِنَصَّاتِ الْأَحْكَامِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَالْحُكْمِ فِي الْمُنَازَعَاتِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ يُحَصِّلُونَ مِنَ الرَّعَايَا مَا فَرَضَتْ عَلَيْهِمُ الْحُكُومَةُ مِنْ خَرَاجٍ مَعَ مُرَاعَاةِ قَانُونِهَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يُسْتَحْفَظُونَ مَا يُحَصِّلُونَ فِي خَزَائِنِ الْمَمْلَكَةِ، وَهِيَ خَزَائِنُ الرَّعَايَا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَفَاتِيحُهَا بِأَيْدِي خَزَنَتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى صَرْفَ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ لِلرَّعِيَّةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الِاقْتِصَادِ وَالْحِكْمَةِ، كَإِنْشَاءِ الْمَدَارِسِ، وَالْمَكَاتِبِ، وَتَمْهِيدِ الطُّرُقِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَإِقَامَةِ الْجُسُورِ، وَإِعْدَادِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَيُؤَدِّي أَرْزَاقَ سَائِرِ الْعَامِلِينَ فِي شُئُونِ الْحُكُومَةِ مِنَ الْحُرَّاسِ وَالْحَفَظَةِ وَقُضَاةِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ حَسْبَمَا عُيِّنَ لَهُمْ، وَهَذِهِ الطَّبَقَاتُ مِنْ رِجَالِ الْحُكُومَةِ الْوَالِينَ عَلَى أَعْمَالِهَا إِنَّمَا تُؤَدِّي كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْهَا عَمَلَهَا الْمَنُوطَ بِهَا بِحُكْمِ
الْأَمَانَةِ، فَإِنْ خَزِيَتْ أَمَانَةُ أُولَئِكَ الرِّجَالِ وَهُمْ أَرْكَانُ الدَّوْلَةِ سَقَطَ بِنَاءُ السُّلْطَةِ وَسُلِبَ الْأَمْنُ، وَرَاحَتِ الرَّاحَةُ مِنْ بَيْنِ الرَّعَايَا كَافَّةً وَضَاعَتْ حُقُوقُ الْمَحْكُومِينَ، وَفَشَا فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالتَّنَاهُبُ وَوَعِرَتِ طُرُقُ التِّجَارَةِ، وَتَفَتَّحَتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَخَوَتْ خَزَائِنُ الْحُكُومَةِ، وَعُمِّيَتْ عَلَى الدَّوْلَةِ سُبُلُ النَّجَاحِ ; فَإِنْ حَزَبَهَا أَمْرٌ سُدَّتْ عَلَيْهَا نَوَافِذُ النَّجَاةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْمًا يُسَاسُونَ بِحُكُومَةٍ خَائِنَةٍ، إِمَّا أَنْ يَنْقَرِضُوا بِالْفَسَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُمْ جَبَرُوتُ أُمَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُمْ يَسُومُونَهُمْ خَسْفًا، وَيَسْتَبِدُّونَ فِيهِمْ عَسْفًا فَيَذُوقُونَ مِنْ مَرَارَةِ الْعُبُودِيَّةِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَرَارَةِ الِانْقِرَاضِ وَالزَّوَالِ.
" وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْتِعْلَاءَ قَوْمٍ عَلَى آخَرِينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاتِّحَادِ آحَادِ الْعَامِلِينَ وَالْتِئَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِبِنْيَةِ قَوْمِهِ كَالْعُضْوِ لِلْبَدَنِ، وَلَنْ يَكُونَ هَذَا الِاتِّحَادُ حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانَةُ قَدْ مَلَكَتْ قِيَادَهُمْ، وَعَمَّتْ بِالْحُكْمِ أَفْرَادَهُمْ.
" فَقَدْ كَشَفَ الْحَقُّ أَنَّ الْأَمَانَةَ دِعَامَةُ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ، وَمُسْتَقَرُّ أَسَاسِ الْحُكُومَاتِ، وَبَاسِطُ ظِلَالِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، وَرَافِعُ أَبْنِيَةِ الْعِزِّ وَالسُّلْطَانِ، وَرُوحُ الْعَدَالَةِ وَجَسَدُهَا، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِدُونِهَا.
" وَإِلَيْكَ الِاخْتِيَارُ فِي فَرْضِ أُمَّةٍ عَطَّلَتْ نُفُوسَهَا مِنْ حِلْيَةِ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْجَلِيلَةِ، فَلَا تَجِدُ فِيهَا إِلَّا آفَاتٍ جَائِحَةً وَرَزَايَا قَاتِلَةً، وَبَلَايَا مُهْلِكَةً، وَفَقْرًا مُعْوِزًا، وَذُلًّا مُعْجِزًا، ثُمَّ لَا تَلْبَثُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ تَبْتَلِعَهَا بَلَالِيعُ الْعَدَمِ، وَتَلْتَهِمَهَا أُمَّهَاتُ اللهِيمِ اهـ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (16: 90)، وَقَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (49: 9)، وَالْإِقْسَاطُ هُوَ: الْعَدْلُ، وَقَوْلُهُ آمِرًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنِكُمْ (42: 15)، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا (4: 135) ، الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (5: 8) ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ هُنَا وَلَا الْآيَاتِ الْمُحَرِّمَةِ لِلظُّلْمِ الْمُتَوَعِّدَةِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمُسْلِمُونَ مَأْمُورُونَ بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (6: 152) ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ وَهُوَ هُنَا: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ
وَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعِظُكُمْ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ وَفَلَاحُكُمْ مَا عَمِلْتُمْ بِهِ مُهْتَدِينَ مُتَّعِظِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَلَا مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَلَا مِنْ نِيَّاتِكُمْ، فَلَا تَدَّعُوا مَا لَيْسَ فِيكُمْ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ وَلَا تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ; فَإِنَّهُ سَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ.
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَبِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ مُخَاطِبًا بِذَلِكَ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ، وَلَمَّا كَانَ يَدْخُلُ فِي رَدِّ الْأَمَانَاتِ تَوْسِيدُ الْأُمَّةِ أَمَرَّ الْأَحْكَامَ إِلَى أَهْلِهَا الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهَا، وَكَانَ يَجِبُ فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ مُرَاعَاةُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى
وَعَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَتَجَدَّدُ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، قَالَ عز وجل:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مُنَاسَبَةِ الِاتِّصَالِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَرَدَتَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ: إِنَّ الْكَافِرِينَ أَهْدَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَعْدَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَمِنَ الطَّاغُوتِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْأَصْنَامُ وَالْكُهَّانُ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ الْكَاهِنَ، وَيَجْعَلُونَهُ شَارِعًا وَيَقْتَسِمُونَ عِنْدَ الصَّنَمِ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ فَصْلًا فِي الْخُصُومَةِ.
وَقَدِ اتَّخَذَ الْيَهُودُ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ مِثْلَهُمْ، وَطَوَاغِيتُهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِأَهْوَائِهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُمْ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، مَعَ أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ فِيهَا حُكْمُ اللهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ أَعْلَمُ مِنَّا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمَصْلَحَتِنَا، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَنَا حَالَهُمْ وَقَرَنَهُ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ نَسِيرَ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى لَا نَضِلَّ كَمَا ضَلَّ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَفْرَادًا مِنْهُمْ أَرْبَابًا إِذْ جَعَلُوهُمْ شَارِعِينَ فَكَانُوا سَبَبَ طُغْيَانِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ سُمُّوا طَوَاغِيتَ.
ثُمَّ قَالَ: أَمَرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَهِيَ الْعَمَلُ بِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَبِطَاعَةِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ أَعَادَ لَفْظَ الطَّاعَةِ لِتَأْكِيدِ طَاعَةِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينُ تَوْحِيدٍ مَحْضٍ لَا يَجْعَلُ لِغَيْرِ اللهِ أَمْرًا، وَلَا نَهْيًا، وَلَا تَشْرِيعًا، وَلَا تَأْثِيرًا، فَكَانَ رُبَّمَا يُسْتَغْرَبُ فِي كِتَابِهِ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ غَيْرِ وَحْيِ اللهِ، وَلَكِنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ شَرْعَهُ لِلنَّاسِ رُسُلٌ مِنْهُمْ وَتَكَلَّفَ بِعِصْمَتِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُطَاعُوا فِيمَا يُبَيِّنُونَ بِهِ الدِّينَ وَالشَّرْعَ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَرَعَ لَنَا عِبَادَةَ الصَّلَاةِ، وَأَمَرَنَا بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا فِي الْكِتَابِ كَيْفِيَّتَهَا وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا، وَلَا رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَلَا تَحْدِيدَ أَوْقَاتِهَا فَبَيَّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) ، فَهَذَا الْبَيَانُ بِإِرْشَادٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَاتِّبَاعُهُ لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ وَلَا كَوْنَ الشَّارِعِ هُوَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ.
قَالَ: وَأَمَّا أُولُو الْأَمْرِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَاشْتَرَطُوا فِيهِمْ أَلَّا يَأْمُرُوا بِمُحَرَّمٍ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، وَالْآيَةُ مُطْلَقَةٌ، أَيْ:
وَإِنَّمَا أَخَذُوا هَذَا الْقَيْدَ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى كَحَدِيثِ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَحَدِيثِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ فِي الْحُكَّامِ فَأَوْجَبُوا طَاعَةَ كُلِّ حَاكِمٍ، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ، فَمَنْ يُطَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ وَمَنْ يُعْصَى؟ وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَنْبِطُوا الْأَحْكَامَ غَيْرَ الْمَنْصُوصَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ، وَقَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذِهِ الْعِصْمَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَصَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَمَعْنَى وَأُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يُنَاطُ بِهِمُ النَّظَرُ فِي أَمْرِ إِصْلَاحِ النَّاسِ، أَوْ مَصَالِحِ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ يَخْتَلِفُونَ أَيْضًا، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِطَاعَتِهِمْ بِدُونِ شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ؟
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ فَكَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ فَانْتَهَى بِهِ الْفِكْرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ، وَالْعُلَمَاءُ وَرُؤَسَاءُ الْجُنْدِ وَسَائِرُ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ النَّاسُ فِي الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ، أَوْ حُكْمٍ وَجَبَ أَنْ يُطَاعُوا فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مِنَّا، وَأَلَّا يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ وَلَا سُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عُرِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الْأَمْرِ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا لِأُولِي الْأَمْرِ سُلْطَةٌ فِيهِ وَوُقُوفٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِقَادِ الدِّينِيِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَقَطْ لَيْسَ لِأَحَدٍ رَأْيٌ فِيهِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي فَهْمِهِ.
فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمَلٍ مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنِ الشَّارِعِ ـ مُخْتَارِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ عَلَيْهِ بِقُوَّةِ أَحَدٍ وَلَا نُفُوذِهِ ـ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هُمْ مَعْصُومُونَ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ ; وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ الْأَمْرُ بِطَاعَتِهِمْ بِلَا شَرْطٍ مَعَ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَالِاتِّبَاعِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ كَالدِّيوَانِ الَّذِي أَنْشَأَهُ عَمَرُ بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي أُخِذَ بِهَا بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَعْتَرِضْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ: فَأَمْرُ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الثَّابِتَةِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا صلى الله عليه وسلم بِالْعَمَلِ هُمَا الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَمَا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ عَنْهُمَا يَنْظُرُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ النَّاسُ فِيهَا وَيَتْبَعُونَهُمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَشَاوَرُوا فِي تَقْرِيرِ مَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ، فَإِذَا اتَّفَقُوا وَأَجْمَعُوا وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا
فَقَدْ بَيَّنَ الْوَاجِبَ فِيمَا تَنَازَعُوا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، وَالسِّيرَةِ الْمُطَّرِدَةِ، فَمَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُمَا عُلِمَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَنَا، وَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ، وَمَا كَانَ مُنَافِرًا عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ وَوَجَبَ تَرْكُهُ وَبِذَلِكَ يَزُولُ التَّنَازُعُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ، وَهَذَا الرَّدُّ وَاسْتِنْبَاطُ الْفَصْلِ فِي الْخِلَافِ مِنَ الْقَوَاعِدِ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقِيَاسِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِي الْقِيَاسِ شُرُوطًا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعِلَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الرَّدِّ أَلَّا يَقَعَ خِلَافٌ فِي الدِّينِ وَالشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي أَحْكَامِهِمَا، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ، وَالْمُرَادُ أَلَّا يُفْضِيَ التَّنَازُعُ إِلَى اخْتِلَافِ التَّفَرُّقِ الَّذِي يُلْبِسُ الْمُسْلِمِينَ شِيَعًا وَيُذِيقُ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِالْآيَةِ فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا.
ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ أَنَّ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ كَوْنِهِمْ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ سَبَقَهُ إِلَيْهِ حَتَّى رَآهُ فِي تَفْسِيرِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَأَقُولُ: إِنَّ النَّيْسَابُورِيَّ قَدْ لَخَّصَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، بَلْ جَمِيعُ تَفْسِيرِهِ تَلْخِيصٌ لِتَفْسِيرِ الرَّازِيِّ مَعَ زِيَادَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ الْأُسْتَاذُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ عِبَارَةِ الرَّازِيِّ تُشْعِرُ بِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْأَحْكَامِ الظَّنِّيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَتَارَةً بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ يُسَمِّي أَهْلَ الْإِجْمَاعِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ بِالْفِعْلِ.
وَأَمَّا النَّيْسَابُورِيُّ فَعِبَارَتُهُ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ إِبْطَالِ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ فِي تَفْسِيرِ أُولِي الْأَمْرِ: " وَإِذَا
ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْصُومُ كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ مَا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ اهـ.
فَقَوْلُهُ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ الَّذِي أَدْخَلَ فِيهِ أُمَرَاءَ الْجُنْدِ وَرُؤَسَاءَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَحْفَظُ مَصَالِحَهَا، وَبِاتِّفَاقِهِمْ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِمْ، لَا لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يُقَرِّرُونَهُ.
وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَنْقُلَ بَعْضَ مَا قَالَهُ الرَّازِيُّ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ فِي عُرْفِ أَهْلِ السِّيَاسَةِ بِسُلْطَةِ الْأُمَّةِ، وَتَفْنِيدُهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، وَهُوَ مَا يَتَزَلَّفُ بِهِ الْمُتَزَلِّفُونَ إِلَيْهِمْ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَتْلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَسَامِعِ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي كُلِّ صَلَاةِ جُمُعَةٍ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ صَرَّحْنَا بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ فِي الْمَنَارِ وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ تَقْرِيرِ كَوْنِ الْجَزْمِ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ يَقْتَضِي عِصْمَتَهُمْ فِيمَا يُطَاعُونَ فِيهِ
مَا نَصُّهُ: " ثُمَّ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ إِمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا، وَإِيجَابُ طَاعَتِهِمْ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِنَا عَارِفِينَ بِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، (أَقُولُ: وَمِثْلُهُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْفِقْهِ) ، عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ (كَذَا) عَاجِزُونَ عَنِ اسْتِفَادَةِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِ لَيْسَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْأُمَّةِ، وَلَا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِهِمْ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْصُومُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ فِي أُولِي الْأَمْرِ أَرْبَعَةٌ:
1 -
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ.
2 -
أُمَرَاءُ السَّرَايَا (أَقُولُ: وَهُمْ قُوَّادُ الْعَسْكَرِ) عِنْدَ عَدَمِ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِيهِ أَيْ: فِي الْعَسْكَرِ.
3 -
عُلَمَاءُ الدِّينِ الَّذِينَ يُفْتُونَ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ.
4 -
الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ وَعَزَاهُ إِلَى الرَّافِضَةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَارَهُ إِيرَادَيْنِ أَوْ سُؤَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَتْ أَقْوَالُ الْأُمَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْتُمُوهُ خَارِجًا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَاطِلًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْتُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ أَوَامِرُهُمْ نَافِذَةٌ عَلَى الْخَلْقِ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أُولُو الْأَمْرِ، أَمَّا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ نَافِذٌ عَلَى الْخَلْقِ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْحُكَّامَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَبِرِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أُشْكِلَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأُمَرَاءِ لَا بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَالَغَ بِالتَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَطْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ.
قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلًا خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْأُمَّةِ، بَلْ كَانَ هَذَا اخْتِيَارًا لِأَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَتَصْحِيحًا لَهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ.
وَأَمَّا سُؤَالُهُمُ الثَّانِي فَهُوَ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، عَلَى أَنَّا نُعَارِضُ تِلْكَ الْوُجُوهَ بِوُجُوهٍ أُخْرَى أَقْوَى مِنْهَا:
فَأَحَدُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا عُلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَيْسَ إِلَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا قِسْمًا مُنْفَصِلًا عَنْ طَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، كَمَا أَنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ وَالْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالتِّلْمِيذِ لِلْأُسْتَاذِ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِسْمُ دَاخِلًا تَحْتَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أَمْكَنَ جَعْلُ هَذَا الْقِسْمِ مُنْفَصِلًا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهَذَا
أَوْلَى.
وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ يَقْتَضِي إِدْخَالَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْأُمَرَاءِ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانُوا مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُ الشَّرْطُ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ مُشْعِرٌ بِإِجْمَاعٍ مُقَدَّمٍ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ هَذَا التَّنَازُعِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا وَعِنْدَنَا أَنَّ طَاعَةَ الْإِجْمَاعِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَأَمَّا طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ فَغَيْرُ وَاجِبَةٍ قَطْعًا، بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّهَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِالظُّلْمِ، وَفِي الْأَقَلِّ تَكُونُ وَاجِبَةً بِحَسَبِ الظَّنِّ الضَّعِيفِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فَكَانَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالرَّسُولِ عَلَى الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَاجِرِ الْفَاسِقِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ " أُولِي الْأَمْرِ " عَلَيْهِمْ أَوْلَى.
قَالَ: وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ كَمَا تَقُولُهُ الرَّوَافِضُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَقُدْرَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهِمْ كَانَ هَذَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ إِذَا صِرْنَا عَارِفِينَ بِهِمْ وَبِمَذَاهِبِهِمْ صَارَ هَذَا الْإِيجَابُ مَشْرُوطًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ:
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَمَشْرُوطَةً مَعًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ أُولِي الْأَمْرِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَأُولُو الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ إِلَّا إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَحَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْفَرْدِ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى
الْإِمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ.
أَقُولُ: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ يَقُولُونَ: إِنَّ فَائِدَةَ اتِّبَاعِهِ إِنْقَاذُ الْأُمَّةِ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ وَضَرَرِ التَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَعَ وُجُودِ أُولِي الْأَمْرِ وَطَاعَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ كَأَنْ يَخْتَلِفَ أُولُو الْأَمْرِ فِي حُكْمِ بَعْضِ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ، وَالْخِلَافُ وَالتَّنَازُعُ مَعَ وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَكُونُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ عَلَى رَأْيِهِمْ.
وَحَصْرُ الرَّازِيِّ الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الصَّحَابَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَنْ مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ وَهِيَ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّهُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ الرَّازِيُّ يَعْنِي بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ فَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِمْ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَعْبِيرِهِ الْآخَرِ فَقَدْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ قَوْلَ ابْنِ كَيْسَانَ: إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَقَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ قَوْلًا إِلَّا وَتَجِدُ لِمَنْ قَبْلَهُ قَوْلًا بِمَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا مُفَصَّلًا حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّهُ يَضِيعُ وَلَا يَفْهَمُ الْجُمْهُورُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَهَذَا الرَّازِيُّ عَلَى إِسْهَابِهِ وَإِطْنَابِهِ فِي الْمَسَائِلِ لَمْ يَحُلَّ الْمَسْأَلَةَ كَمَا يَجِبُ، إِذْ عَبَّرَ تَارَةً بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَتَارَةً بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَهَذَا مَا فَهِمَهُ أَوِ اخْتَارَهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ يَكُونُ الرَّازِيُّ قَدْ حَقَّقَ مَسْأَلَةَ الْإِجْمَاعِ أَفْضَلَ التَّحْقِيقِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
قَالَ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: " وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِطُرُقٍ: أَحَدُهَا بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ " إِلَخْ، فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْجُنْدِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ وَدُهَمَاءَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ بِارْتِيَاحٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الْعَارِفُونَ بِالْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ وَاتِّفَاقَهُمْ مَيْسُورٌ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ بِمَعْنَى
إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِرِمَّتِهَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَتَحَقَّقُ بِإِجْمَاعِ
الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفِقْهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَعْرِفُوا، وَأَنْ يَجْتَمِعُوا وَأَنْ تَعْلَمَ الْأُمَّةُ بِإِجْمَاعِهِمْ وَتَثِقَ بِهِمْ.
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَالْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ أُصُولَ الدِّينِ وَشَرِيعَتَهُ وَالْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَهِيَ:
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ وَالْعَمَلُ بِهِ هُوَ طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى.
الْأَصْلُ الثَّانِي: سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَالْعَمَلُ بِهَا هُوَ طَاعَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: إِجْمَاعُ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالرُّؤَسَاءِ فِي الْجَيْشِ، وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَكَذَا رُؤَسَاءُ الْعُمَّالِ، وَالْأَحْزَابِ، وَمُدِيرُو الْجَرَائِدِ الْمُحْتَرَمَةِ وَرُؤَسَاءُ تَحْرِيرِهَا، وَطَاعَتُهُمْ حِينَئِذٍ هِيَ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ.
الْأَصْلُ الرَّابِعُ: عَرْضُ الْمَسَائِلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.
فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَصَادِرُ الشَّرِيعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ جَمَاعَةٍ يَقُومُونَ بِعَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُتَنَازَعُ فِيهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَلْ يَكُونُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ أَوْ مِمَّنْ يَخْتَارُهُمْ أُولُو الْأَمْرِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ؟ سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ الْحُكْمُ بِمَا يُقَرِّرُهُ أُولُو الْأَمْرِ وَتَنْفِيذُهُ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مُؤَلَّفَةً مِنْ جَمَاعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ:
الْأُولَى: جَمَاعَةُ الْمُبَيِّنِينَ لِلْأَحْكَامِ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْهَيْئَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ.
وَالثَّانِيَةُ: جَمَاعَةُ الْحَاكِمِينَ وَالْمُنَفِّذِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْهَيْئَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ.
وَالثَّالِثَةُ: جَمَاعَةُ الْمُحَكِّمِينَ فِي التَّنَازُعِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةً مِنَ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى.
وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ قَبُولُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالْخُضُوعُ لَهَا سِرًّا وَجَهْرًا، وَهِيَ لَا تَكُونُ بِذَلِكَ خَاضِعَةً خَانِعَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا خَارِجَةً مِنْ دَائِرَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي شِعَارُهُ إِنَّمَا الشَّارِعُ هُوَ اللهُ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (12: 40) ، فَإِنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ إِلَّا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى أَوْ حُكْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِإِذْنِهِ، أَوْ حُكْمِ نَفْسِهَا الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ لَهَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّذِينَ وَثِقَتْ بِهِمْ وَاطْمَأَنَّتْ بِإِخْلَاصِهِمْ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهِمْ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ خَاضِعَةً
لِوِجْدَانِهَا لَا تَشْعُرُ بِاسْتِبْدَادِ أَحَدٍ فِيهَا، وَلَا بِاسْتِذْلَالِهِ وَاسْتِعْبَادِهِ لَهَا، بَلْ يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ لِحُكُومَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَقِيَّةٌ: أَنَّهَا أَعَزُّ النَّاسِ نُفُوسًا وَأَرْفَعُهُمْ رُؤُوسًا، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وَلَا بُدَّ لَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَرِّرَ مَسْأَلَةَ التَّنَازُعِ مِنْ فَتْحِ بَابِ الْبَحْثِ فِي اجْتِمَاعِ أُولِي الْأَمْرِ
وَتَقْرِيرِهِمْ لِلْأَحْكَامِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ مَعْنَاهُ أَصْحَابُ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي حُكْمِهَا وَإِدَارَةِ مَصَالِحِهَا، وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (42: 38) ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شُورَى بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ تُمَثِّلُ الْأُمَّةَ وَيَكُونَ رَأْيُهَا كَرَأْيِ مَجْمُوعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ لِعِلْمِهِمْ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَغَيْرَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَلِمَا لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ مِنَ الثِّقَةِ بِهِمْ وَالِاطْمِئْنَانِ بِحُكْمِهِمْ، بِحَيْثُ تَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهِ عَامِلَةً بِحُكْمِ نَفْسِهَا وَخَاضِعَةً لِقَلْبِهَا وَضَمِيرِهَا، وَمَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَجْتَمِعُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يَجْمَعُهُمْ، وَلِمَاذَا لَمْ يُوضَعْ لَهُمْ نِظَامٌ فِي الْإِسْلَامِ كَنِظَامِ مَجَالِسِ الشُّورَى، الَّتِي تُسَمَّى مَجَالِسَ النُّوَّابِ فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ؟
بَحَثْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (3: 159) ، فَبَيَّنَّا الْحُكْمَ وَالْأَسْبَابَ لِعَدَمِ وَضْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا النِّظَامَ، وَكَيْفَ كَانَتْ خِلَافَةُ الرَّاشِدِينَ بِالشُّورَى بِحَسَبِ حَالِ زَمَانِهِمْ، وَكَيْفَ أَفْسَدَ الْأُمَوِيُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكُومَةَ الْإِسْلَامِ وَهَدَمُوا قَوَاعِدَهَا وَسَنُّوا لِلْمُسْلِمِينَ سُنَّةَ الْحُكُومَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمُؤَيَّدَةِ بِعَصَبِيَّةِ الْحَاكِمِ، فَعَلَيْهِمْ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَفْوَةُ مَا هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُوضَعَ لَهُ نِظَامٌ مُوَافِقٌ لِحَالِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ وَأُولُو الْأَمْرِ فِيهِمْ مَحْصُورُونَ فِي الْحِجَازِ وَيُجْعَلَ عَامًّا لِكُلِّ زَمَانٍ، وَلَوْ وَضَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَاتَّخَذُوهُ دِينًا وَتَقَيَّدُوا بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَافِقَ كُلَّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَكَانَ إِذَا عَمِلَهُ بِاجْتِهَادِهِ غَيْرَ عَامِلٍ بِالشُّورَى، وَإِذَا عَمِلَهُ بِالشُّورَى جَازَ أَنْ يَكُونَ رَأْيُ الْمُسْتَشَارِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ـ فَيَكُونَ رَأْيُهُمْ قَيْدًا لِلْمُسْلِمِينَ مَدَى الدَّهْرِ، وَيَتَّخِذُونَهُ
دِينًا كَمَا اتَّخَذُوا كَثِيرًا مِنْ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ [رَاجِعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي ص 163 وَمَا بَعْدَهَا ج4 ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] .
فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هَدَانَا إِلَى أَفْضَلِ وَأَكْمَلِ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ لِنَبْنِيَ عَلَيْهَا حُكُومَتَنَا وَنُقِيمَ بِهَا دَوْلَتَنَا، وَوَكَلَ هَذَا الْبِنَاءَ إِلَيْنَا فَأَعْطَانَا بِذَلِكَ الْحُرِّيَّةَ التَّامَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ الْكَامِلَ فِي أُمُورِنَا الدُّنْيَوِيَّةِ وَمَصَالِحِنَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَنَا شُورَى بَيْنَنَا يَنْظُرُ فِيهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَكَانَةِ الَّذِينَ نَثِقُ بِهِمْ، وَيُقَرِّرُونَ لَنَا فِي كُلِّ زَمَانٍ مَا تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَتُنَا وَتَسْعَدُ أُمَّتُنَا، لَا يَتَقَيَّدُونَ فِي ذَلِكَ بِقَيْدٍ إِلَّا هِدَايَةَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهِمَا قُيُودٌ تَمْنَعُ سَيْرَ الْمَدَنِيَّةِ أَوْ تُرْهِقُ الْمُسْلِمِينَ عُسْرًا فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ أَسَاسُهُمَا الْيُسْرُ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَحَظْرُ الضَّارِّ، وَإِبَاحَةُ النَّافِعِ، وَكَوْنُ مَا حُرِّمَ
لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَمُرَاعَاةُ الْعَدْلِ لِذَاتِهِ، وَرَدُّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَلَكِنَّنَا مَا رَعَيْنَا هَذِهِ الْهِدَايَةَ حَقَّ رِعَايَتِهَا فَقَيَّدْنَا أَنْفُسَنَا بِأُلُوفٍ مِنَ الْقُيُودِ الَّتِي اخْتَرَعْنَاهَا وَسَمَّيْنَاهَا دِينًا، فَلَمَّا أَقْعَدَتْنَا هَذِهِ الْقُيُودُ عَنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُمْرَانِ صَارَ حُكَّامُنَا الَّذِينَ خَرَجُوا بِنَا عَنْ هَذِهِ الْأُسُسِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا رَضُوا بِالْقُعُودِ وَاخْتَارُوا الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ بِمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى قُيُودِهِمُ التَّقْلِيدِيَّةِ مُحَافِظُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَائِلِينَ: إِنَّ الْمَوْتَ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْحَيَاةِ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ حُكُومَتِهِمْ، وَفَرِيقًا رَأَوْا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوَانِينِهِمُ الْأَسَاسِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ، فَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِجَهْلِهِ حُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْإِسْلَامُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، فَكِتَابُ اللهِ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَنُورُهُ مُتَأَلِّقٌ لَا يَخْفَى، وَإِنْ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَلْفَ حِجَابٍ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (6: 149) .
لَيْسَ بَيْنَ الْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ الَّذِي قَرَّرَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا، وَبَيْنَ الْقَوَانِينِ الْأَسَاسِيَّةِ لِأَرْقَى حُكُومَاتِ الْأَرْضِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَّا فَرْقٌ يَسِيرٌ، نَحْنُ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَأَثْبَتُ فِي الِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ إِذَا نَحْنُ عَمِلْنَا بِمَا هَدَانَا إِلَيْهِ رَبُّنَا.
هُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَصْدَرَ الْقَوَانِينِ الْأُمَّةُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ آنِفًا، وَالْمَنْصُوصُ قَلِيلٌ جِدًّا.
وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْأُمَّةِ مَنْ يُمَثِّلُهَا فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مَا يُقَرِّرُونَهُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَرَّرَتْهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا عَلِمْتَ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِالِانْتِخَابِ وَلَهُمْ فِيهِ طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَنَحْنُ لَمْ يُقَيِّدْنَا الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَنَا أَنْ نَسْلُكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ مَا نَرَاهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصِدِ، وَلَكِنَّهُ سَمَّى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ أُولِي الْأَمْرِ أَيْ: أَصْحَابِ الشَّأْنِ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي مَصَالِحِهَا وَتَطْمَئِنُّ هِيَ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُونَ مَحْصُورِينَ فِي مَرْكَزِ الْحُكُومَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا كَانُوا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَالسِّتَّةُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ عُمَرُ لِلشُّورَى فِي انْتِخَابِ خَلَفٍ لَهُ كَانُوا هُمْ أُولِي الْأَمْرِ ; وَلِذَلِكَ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ بِانْتِخَابِهِمْ، وَلَوْ بَايَعَ غَيْرُهُمْ أَمِيرًا لَمْ يُبَايِعُوهُ لَانْشَقَّتِ الْعَصَا وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ، وَقَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْبِلَادِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ جَمْعِهِمْ وَلَهُمْ أَنْ يَضَعُوا قَانُونًا لِذَلِكَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا تَفَرَّقُوا وَجَبَ عَلَى الْحُكُومَةِ تَنْفِيذُ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْأُمَّةِ الطَّاعَةُ، وَلَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوا الْحَاكِمَ الَّذِي لَا يُنَفِّذُ قَانُونَهُمْ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي نَعُدُّهُ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِنَا.
وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا يَجِبُ الْعَمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عِنْدَنَا يُرَدُّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُعْرَضُ عَلَى أُصُولِهِمَا وَقَوَاعِدِهِمَا،
فَيُعْمَلُ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَهُمَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ لَيْسَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ رَأْيِ الْأَقَلِّينَ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ حَيْثُ يَتَكَوَّنُ الْأَكْثَرُ مِنْ حِزْبٍ يَنْصُرُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَتَوَاضَعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ أَقَلِّهِمْ لِأَكْثَرِهِمْ فِي خَطَئِهِمْ، فَإِذَا كَانَ أَعْضَاءُ الْمَجْلِسِ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ يَتَّبِعُونَ حِزْبًا مِنَ الْأَحْزَابِ، وَأَرَادَ زُعَمَاءُ هَذَا الْحِزْبِ تَقْرِيرَ مَسْأَلَةٍ، فَإِذَا أَقْنَعُوا بِالدَّلِيلِ أَوِ النُّفُوذِ سِتِّينَ مِنْهُمْ يَتْبَعُهُمُ الْخَمْسُونَ الْآخَرُونَ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خَطَأَهُمْ، فَإِذَا خَالَفَهُمْ سَائِرُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ عَدَدُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَ الْمَسْأَلَةِ 140 وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ حَقِيقَتَهَا سِتُّونَ، وَهُمْ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ وَتُنَفِّذُ بِرَأْيِهِمْ.
الْأَكْثَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِّيَّةَ وَالْإِصَابَةَ فِي الْحُكْمِ، وَلَا هِيَ بَالَتِي تَطْمَئِنُّ الْأُمَّةُ إِلَى رَأْيِهَا، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ مَسْأَلَةً مَالِيَّةً أَوْ عَسْكَرِيَّةً مَثَلًا لَيْسَ
فِيهِمُ الْعَدَدُ الْكَافِي مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا، فَيَظْهَرُ لِلْجُمْهُورِ خَطَؤُهَا فَتَتَزَلْزَلُ ثِقَتُهُ بِمَجْلِسِ الْأُمَّةِ وَيُفْتَحُ بَابُ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ، وَيُخْشَى أَنْ تَتَأَلَّفَ الْأَحْزَابُ لِلْمُقَاوَمَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ الْجُمْهُورُ الْمُخَالِفُ عَلَى الْقَبُولِ إِكْرَاهًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ لِلْعَصَبِيَّةِ الْغَالِبَةِ، لَا لِلْأُمَّةِ الْمُتَّحِدَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَتَطَّلَعَ رُؤُوسُ الْفِتَنِ وَهَذَا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ فِي أَسَاسِ الْحُكْمِ وَأُصُولِ السُّلْطَةِ، لِئَلَّا تَهْلِكَ الْأُمَّةُ بِقِيَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا شَدِيدًا فَيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ مَقَاتِلِهَا، وَقَدْ نُهِينَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا حِكْمَةُ عَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ عَلَى جَمَاعَةٍ يَرُدُّونَهَا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَحْكُمُونَ فِيهَا بِقَوَاعِدِهِمَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا تَرْضَى بِفَصْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَمَا تُؤَيِّدُهُ بِدَلِيلِهِ، وَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ فَقَطْ أَمْ مِنْ طَبَقَاتِ أُولِي الْأَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أُولُو الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ أُولُو الْأَمْرِ مُخَيَّرِينَ فِي طَرِيقَةِ رَدِّ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَسَاطَةِ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنِ اتَّضَحَ الْأَمْرُ بِرَدِّهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ حَتْمًا، وَإِلَّا كَانَ الْمُرَجَّحُ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي تَرْجِيحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ بِبَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُبْنَى تَرْجِيحُهُ؟ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَّحَ فِي أُحُدٍ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ، وَرَجَّحَ فِي بَدْرٍ الرَّأْيَ الْمُوَافِقَ لِرَأْيِهِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَكْثَرِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَلَا مَجَالَ فِي هَذَا لِلتَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ غَيْرُ أُولِي الْأَمْرِ أَيِ الْعَامَّةُ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا
يَخْتَصُّ بِأَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْمَلُ فِيهِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُمْ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تُقِيمَ مَنْ يَحْكُمُ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ بِرَدِّهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأْتِي هُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَالتَّنَازُعُ مِنَ النَّزْعِ وَهُوَ الْجَذْبُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَجْذِبُ الْآخَرَ إِلَى رَأْيِهِ،
أَوْ يَجْذِبُ حُجَّتَهُ مِنْ يَدِهِ وَيُلْقِي بِهَا، وَالْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَفَرُّقٌ وَلَا خِلَافٌ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (42: 13) ، لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: آيَةُ الِاسْتِنْبَاطِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (4: 83) ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ هُوَ الْمَسَائِلُ الْعَامَّةُ كَمَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَأَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَنْبَغِي لَهَا الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ اسْتِنْبَاطِهِ وَإِقْنَاعِ الْآخَرِينَ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِي أَنْ يَكُونَ أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّسُولِ مُلُوكٌ وَلَا أُمَرَاءُ، وَأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْعَارِفِينَ بِأَحْكَامِ الْفَتْوَى فَقَطْ ; لِأَنَّ مَسَائِلَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلْأُمَّةِ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرَّأْيِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَلَا الِاجْتِهَادُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إِلَخْ، أَوْ رُدُّوا الشَّيْءَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِلَخْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُؤْثِرُ عَلَى حُكْمِ اللهِ شَيْئًا، وَالْمُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَهْتَمُّ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ أَشَدَّ مِنَ اهْتِمَامِهِ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا، فَلَوْ كَانَ لَهُ هَوًى فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَتْرُكُهُ لِحُكْمِ اللهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَوْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُؤْثِرُ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَهْوَائِهِ وَحُظُوظِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِيهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِيمَانًا يُعْتَدُّ بِهِ.
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا هَذَا بَيَانٌ لِفَائِدَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَوْ هَذَا الرَّدِّ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ بَيَانِ فَائِدَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ الْجَامِعِ بَيْنَ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي شَرَّعْنَاهُ لَكُمْ فِي تَأْسِيسِ حُكُومَتِكُمْ، وَإِصْلَاحِ أَمْرِكُمْ، أَوْ ذَلِكَ الرَّدُّ لِلشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ خَيْرٌ لَكُمْ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسَاسٍ لِحُكُومَتِكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَلَمْ يَشْرَعْ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ
مِنَ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ إِلَّا مَا هُوَ قِيَامٌ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ خَيْرًا فِي نَفْسِهِ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ مَآلًا وَعَاقِبَةً ; لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عِرْقَ التَّنَازُعِ وَيَسُدُّ ذَرَائِعَ الْفِتَنِ وَالْمَفَاسِدِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قِيلَ إِنَّ الشَّرْطَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرِ وَهُوَ الرَّدُّ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَذْكِيرُهُمْ بِاللهِ حَتَّى لَا يَسْتَعْمِلُوا شَهَوَاتِهِمْ وَحُظُوظَهُمْ فِي الرَّدِّ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ تَهْدِيدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ يُخَالِفُ أَمْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَوَامِرِ، وَإِخْرَاجٌ لَهُ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ خَيْرًا: أَنَّهُ أَنْفَعُ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَلَوْ جَرَى الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الشَّقَاءِ، فَقَدْ رَأَيْنَا كَيْفَ سَعِدَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ، وَكَيْفَ شَقِيَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَاسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَحْسَنَ تَأْوِيلًا فَهُوَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَكُونُ صُوَرًا مَعْقُولَةً وَعِبَارَاتٍ مَقُولَةً حَتَّى يُعْمَلَ بِهَا فَتَظْهَرَ فَائِدَتُهَا وَأَثَرُهَا، فَعِلْمُنَا بِالْآخِرَةِ لَيْسَ إِلَّا صُوَرًا ذِهْنِيَّةً لَا نَعْرِفُ الْحَقَائِقَ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا صِرْنَا إِلَيْهَا.
أَقُولُ: تِلْكَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَدَنِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ الْقَضَائِيَّةُ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَلَا تُبْصِرُ فِيهَا غِلًّا وَلَا قَيْدًا، وَلَيْسَ فِيهَا عُسْرٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَا مَجَالَ فِيهَا لِلِاضْطِرَابِ وَالْهَرْجِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا إِلَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حَالُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ، إِذْ لَمْ تَكْتَحِلْ بِمِثْلِ عَدْلِهِمْ عَيْنُ الدُّنْيَا إِلَى الْآنِ.
وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ لَنَا بِالْإِسْلَامِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَوَضَعَ لَنَا أُصُولَ الْكَمَالِ لِلشَّرِيعَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَوَكَلَ إِلَيْنَا أَمْرَ التَّرَقِّي فِيهَا بِمُرَاعَاةِ تِلْكَ الْأُصُولِ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا بَعْدَ اتِّسَاعِ مُلْكِ الْإِسْلَامِ وَدُخُولِ الْمَمَالِكِ الْعَامِرَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهَا الْمَدَنِيَّةُ فِي دَائِرَةِ سُلْطَانِهِ أَنْ نَرْتَقِيَ فِي نِظَامِ الْحُكُومَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَيَكُونَ خَلَفُنَا فِيهَا أَرْقَى مِنْ سَلَفِنَا لِمَا لِلْخَلَفِ مِنْ أَسْبَابِ وَوَسَائِلِ هَذَا التَّرَقِّي، وَلَكِنَّهُمْ حَوَّلُوا الْحُكُومَةَ عَنْ أَسْبَابِ الشُّورَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَضَاعُوا الْأُصُولَ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَجَرَى أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَفْرَادُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَإِنْ كَانُوا جَائِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْفِقْهِ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهُمْ قَدِ انْقَرَضُوا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُفَهُمْ أَحَدٌ وَأَنَّ
الْإِجْمَاعَ خَاصٌّ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ خَاصٌّ بِهِمْ، وَمَهْمَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى اسْتِنْبَاطِ أَحْكَامٍ لِوَقَائِعَ وَأَقْضِيَةٍ جَدِيدَةٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَنْبِطَ لَهَا حُكْمًا، وَأَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلُ بِمَا يَهْدِيَانِ إِلَيْهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَلِّدَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ شَاءُوا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَيَتَّبِعُوا الْحُكَّامَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا ضَرَرَ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ شِيَعًا، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ كَلِمَتُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا وَفِي الْعِبَادَاتِ حَتَّى صَارَ الْحَنَفِيُّ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى مَذْهَبِهِ فَلَا يُصَلِّي هَذَا الْحَنَفِيُّ مَعَهُمْ حَتَّى يَجِيءَ إِمَامُ مَذْهَبِهِ فَيَأْتَمَّ بِهِ.
وَقَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ عِنْدَ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْمُقَلَّدُونَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَمَا بَعْدَهَا، وَلَكِنَّ الزَّمَانَ مَا وَقَفَ حَتَّى صَارَ حُكَّامُهُمْ فَرِيقَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَارَ النَّاسُ يَنْسُبُونَ كُلَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ وَالْجَهْلِ وَالْفَقْرِ إِلَى دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَسَرَى هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَى الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ عُلُومَ أُورُبَّا وَقَوَانِينَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ مَرَقَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَفَضَّلَ تِلْكَ الْقَوَانِينَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هِيَ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ شَيْئًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَذَا الْفِقْهِ فِي السِّيَاسَةِ وَأَحْكَامِ الْعُقُوبَاتِ، وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهَا الْقَوَانِينَ الْأُورُبِّيَّةَ، فَصَارَتْ حُكُومَتُهُمْ أَمْثَلَ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَوِيَتْ بِذَلِكَ حُجَّةُ أَهْلِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَظَنُّوا أَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا، وَقَامَ طُلَّابُ إِصْلَاحِ الْحُكُومَةِ فِي الدَّوْلَتَيْنِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَالْإِيرَانِيَّةِ مِنَ الْمُتَفَرْنِجِينَ يَطْلُبُونَ تَقْلِيدَ الْإِفْرِنْجِ فِي إِصْلَاحِ قَوَانِينِ حُكُومَتَيْهِمَا ; لِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ مِنْ أُصُولِ حُكُومَةِ الشُّورَى وَتَفْوِيضِهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتُعَوِّلُ عَلَى رَأْيِهِمْ.
إِذَا كَانَ فُقَهَاؤُهُمْ لَا يُبَالُونَ بِمَا يَقُولُ فِينَا أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَجْلِهِمْ وَلِأَجْلِ بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُبَالُوا وَلَا يَرْضَوْا بِأَنْ يُنْسَبَ الْجُمُودُ إِلَى أَصْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، نَعَمْ إِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأُصُولَ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْآنَ وَلَا قَبْلَ الْآنِ بِقُرُونٍ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِلْإِجْمَاعِ وَلَا لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَامَ الْمُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِهَذَا
الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَالَهُمْ لَا تَتَغَيَّرُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
ثُمَّ أَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ لَا يَتَجَلَّى مَعْنَاهَا تَمَامَ التَّجَلِّي وَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلَّا بِهَا، فَنَأْتِي بِمَا يَفْتَحُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَكْرَارِ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ.
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي أُولِي الْأَمْرِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ:
أُولُو الْأَمْرِ فِي كُلِّ قَوْمٍ وَكُلِّ بَلَدِ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ مَعْرُوفُونَ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْسَعُ مَعْرِفَةً وَأَخْلَصُ فِي النَّصِيحَةِ، وَقَدْ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُونَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفُتُوحَاتِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ فِي مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ (الْخَلِيفَةِ) وَفِي الشُّورَى، وَفِي السِّيَاسَةِ، وَالْإِدَارَةِ وَالْقَضَاءِ، فَأَمَّا الْبَيْعَةُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى الْبَعِيدِ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَرُؤُوسِ النَّاسِ فِي الْبِلَادِ مَنْ يَأْخُذُ بَيْعَتَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ـ وَكَانَ لَهُ عَصَبَةٌ قَوِيَّةٌ ـ قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي حَرْبِهِ وَقَدْ كَانَ
فِي أَتْبَاعِهِ مَنْ هُوَ حَسَنُ النِّيَّةِ، كَمَا كَانَ فِيهِمْ مُحِبُّ الْفِتْنَةِ، وَمَنْ قَالَ فِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ:" أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ "، وَلَوْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ فِي عُنُقِهِ لَمَا كَانَ ثَمَّ مَجَالٌ لِاشْتِبَاهِ مَنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي أَمْرِهِ.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَكَانُوا يَجْمَعُونَ لَهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَرُؤَسَاءِ النَّاسِ، فَيَأْخُذُونَ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.
رَوَى الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: " كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ خَصْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللهِ نَظَرَ هَلْ كَانَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ سُنَّةٌ، فَإِنْ عَلِمَهَا قَضَى بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهَا خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَتَانِي كَذَا وَكَذَا فَنَظَرْتُ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْطُ، فَقَالُوا: نَعَمْ قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَأْخُذُ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّنَا، وَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَفْعَلُ
ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ شَيْئًا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ نَظَرَ هَلْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ فِيهِ قَضَاءٌ فَإِنْ وَجَدَهُ قَضَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ وَاسْتَشَارَهُمْ فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ "، فَلْيَتَأَمَّلِ الْفَقِيهُ تَفْرِقَةَ أَبِي بَكْرٍ بَيْنَ مَنْ يُسْأَلُ عَنِ الرِّوَايَةِ لِقَضَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ مَنْ يُسْتَشَارُ فِي وَضْعِ حُكْمٍ جَدِيدٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِهِ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَكَانَ يَسْأَلُ عَنْهَا عَامَّةَ النَّاسِ، وَأَمَّا الِاسْتِشَارَةُ فَكَانَ يَجْمَعُ لَهَا الرُّءُوسَ وَالْعُلَمَاءَ وَهُمْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي مَا كَانَ يَعْمَلُ الْخَلِيفَتَانِ إِذَا اخْتَلَفَ أُولَئِكَ الْمُسْتَشَارُونَ فِي الْقَضِيَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " أَنِ اقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ أَقْضِيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ أَمْرِ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ مَا قَضَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ وَاسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ " اهـ، وَالرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ، وَفِيهَا مِنَ الْغَرَابَةِ لَفْظُ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَكُنْ وَقْتَئِذٍ أَئِمَّةٌ مُتَعَدِّدُونَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَضَائِهِمْ لِبِنَائِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو سَعِيدٍ فِي الْقَضَاءِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ عَرَضَ لِي أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قَضَاءٌ فِي أَمْرِهِ وَلَا سُنَّةٌ كَيْفَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: تَجْعَلُونَهُ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعَابِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْضِ فِيهِ بِرَأْيِكَ خَاصَّةً، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " تَجْعَلُونَهُ " وَالْعَدْلُ بِهِ عَنْ " تَجْعَلُهُ " ـ وَالْخِطَابُ لِلْمُفْرَدِ ـ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ
مِنْ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَحِكَمِهَا، لَا عِلْمَ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَسْمِيَةٌ مُحْدَثَةٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ رُءُوسُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفِقْهِ غَالِبًا.
وَأَمَّا اسْتَشَارَتُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ فَمِثَالُهَا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ
وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَرَى أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ.
فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعْوَتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تَقُدْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ أَيْ: مُسَافِرٌ، وَالظَّهْرُ: ظَهْرُ الرَّاحِلَةِ، فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ ـ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ ـ أَيِ الْوَبَاءِ ـ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ انْصَرَفَ اهـ.
أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حَكَّمَ مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ أَنْفَذَهُ، وَهَذَا نَحْوُ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونُوا مُحِيطِينَ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ قَضَاءٍ وَعَمَلٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْأُصُولِيُّونَ فِي صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِ.
كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمُ الْعَادِلُونَ يَعْرِفُونَ رُءُوسَ النَّاسِ، وَأَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَالدِّينِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ فَيَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا رَقِيبَةً عَلَى أَمِيرِهَا يُرَاجِعُهُ حَتَّى أَضْعَفُ رِجَالِهَا وَنِسَائِهَا فِيمَا يُخْطِئُ فِيهِ، كَمَا رَاجَعَتِ الْمَرْأَةُ
عُمَرَ فِي الصَّدَاقِ، فَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ وَإِصَابَتِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَيْفَ بِأُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ؟ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَصَبِيَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِيهِمْ إِلَّا مَا كَانَ لِعُثْمَانَ مِنْ عَصَبِيَّةِ بَنِي أُمُيَّةَ، وَلَمْ يُرِدْ هُوَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِقُوَّتِهِمْ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَلَمَّا أَخَذَتْهُ الْأُمَّةُ بِظُلْمِهِمْ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ شَيْئًا، فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا مُخْلِصِينَ فِي مُشَارَكَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي الْحُكْمِ، وَالتَّقَيُّدِ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَا نُصْفَ فِيهِ لِقُوَّةِ دِينِهِمْ ا; وَلِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ مُتَعَيَّنًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ـ وَالْإِسْلَامُ فِي عُنْفُوَانِ قَوَّتِهِ ـ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ عَصَبِيَّةً يَسْتَبِدُّ بِهَا دُونَ أُولِي الْأَمْرِ إِنْ شَاءَ ـ عَلَى أَنَّهُ لِقُوَّةِ دِينِهِ لَا يَشَاءُ ـ وَهَذِهِ الْحَالُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي حَالَتْ دُونَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى وَضْعِ أُولِي الْأَمْرِ لِنِظَامٍ يَكْفُلُ دَوَامَ الْعَمَلِ بِالشُّورَى الشَّرْعِيَّةِ، وَتَقْيِيدِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَالِ أُولِي الْأَمْرِ بَعْدَ الرَّاشِدِينَ:
بَنُو أُمَيَّةَ هُمُ الَّذِينَ زُعْزَعُوا بِنَاءَ السُّلْطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الشُّورَى ; إِذْ كَوَّنُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَصَبِيَّةً هَدَمُوا بِهَا سُلْطَةَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحِيلَةِ وَالْقُوَّةِ وَحَصَرُوهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ الْأَمِيرُ مُقَيَّدًا بِسُلْطَةِ قَوْمِهِ لَا بِسُلْطَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجُوا عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ جَاءَ الْعَبَّاسِيُّونَ بِعَصَبِيَّةِ الْأَعَاجِمِ مِنَ الْفُرْسِ فَالتُّرْكِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّغَلُّبِ بَيْنَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ بِعَصَبِيَّاتِهِمْ مَا كَانَ، فَلَمْ تَكُنِ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَسَاسِهَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ، بَلْ جَعَلَتْ أُولِي الْأَمْرِ كَالْعَدَمِ فِي أَمْرِ السُّلْطَةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ تَحَرِّي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْعَدْلِ وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَكَانَتْ أَحْكَامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَأَحْكَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي الْعَدْلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ أَمَانَةَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى إِلَى أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ عَصَبِيَّةَ قَوْمِهِ كَانَتْ مُحْتَكِرَةً لَهَا حُبًّا فِي السُّلْطَةِ وَالرِّيَاسَةِ، ثُمَّ كَانَتْ سُلْطَةُ الْمُلُوكِ الْعُثْمَانِيِّينَ بِعَصَبِيَّتِهِمُ الْقَوْمِيَّةِ، وَقُوَّةِ جُيُوشِهِمِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْإِنْكِشَارِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، أَصْحَابِ الْفِقْهِ وَالرَّأْيِ، الَّذِينَ هُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بَلْ كَانُوا أَخْلَاطًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ يَأْخُذُهُمُ السَّلَاطِينُ وَيُرَبُّونَهُمْ تَرْبِيَةً حَرْبِيَّةً، ثُمَّ كَوَّنُوا جُنْدًا إِسْلَامِيًّا، ثُمَّ جُنْدًا مُخْتَلِطًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُولُو الْأَمْرِ فِي زَمَانِنَا وَكَيْفَ يَجْتَمِعُونَ:
ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَانِنَا هَذَا هُمْ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ وَرُؤَسَاءُ الْجُنْدِ وَالْقُضَاةُ وَكِبَارُ التُّجَّارِ
وَالزُّرَّاعُ، وَأَصْحَابُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَمُدِيرُو الْجَمْعِيَّاتِ وَالشَّرِكَاتِ، وَزُعَمَاءُ الْأَحْزَابِ وَنَابِغُو الْكُتَّابِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْمُحَامِينَ ـ وُكَلَاءُ الدَّعَاوَى ـ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ
فِي مَصَالِحِهَا وَتَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فِي مُشْكِلَاتِهَا حَيْثُ كَانُوا، وَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يَعْرِفُونَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ عِنْدَهُمْ وَيُحْتَرَمُ رَأْيُهُ فِيهِمْ، وَيَسْهُلُ عَلَى رَئِيسِ الْحُكُومَةِ فِي كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَعْرِفَهُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَهُمْ لِلشُّورَى إِنْ شَاءَ، وَلَكِنَّ الْحُكَّامَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مُؤَيَّدُونَ بِقُوَّةِ الْجُنْدِ الَّذِي تُرَبِّيهِ الْحُكُومَةُ عَلَى الطَّاعَةِ الْعَمْيَاءِ حَتَّى لَوْ أَمَرَتْهُ أَنْ يَهْدِمَ الْمَسَاجِدَ، وَيَقْتُلَ أُولِي الْأَمْرِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَ أُمَّتِهِ لَفَعَلَ، فَلَا يَشْعُرُ الْحَاكِمُ بِالْحَاجَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ إِلَّا لِإِفْسَادِهِمْ وَإِفْسَادِ النَّاسِ بِهِمْ، وَلَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقْرُبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ إِلَّا الْمُتَمَلِّقُ الْمُدْهِنُ، وَقَدْ جَرَتِ الدُّوَلُ الَّتِي بَنَتْ سُلْطَتَهَا عَلَى أَسَاسِ الشُّورَى أَنْ تَعْهَدَ إِلَى الْأُمَّةِ بِانْتِخَابِ مَنْ تَثِقُ بِهِمْ لِوَضْعِ الْقَوَانِينِ الْعَامَّةِ لِلْمَمْلَكَةِ، وَالْمُرَاقِبَةِ عَلَى الْحُكُومَةِ الْعُلْيَا فِي تَنْفِيذِهَا، وَمَنْ تَثِقُ بِهِمْ لِلْمَحَاكِمِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَجَالِسِ الْإِدَارِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الِانْتِخَابُ شَرْعِيًّا عِنْدَنَا إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْأُمَّةِ الِاخْتِيَارُ التَّامُّ فِي الِانْتِخَابِ بِدُونِ ضَغْطٍ مِنَ الْحُكُومَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا وَلَا تَرْغِيبٍ وَلَا تَرْهِيبٍ، وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنْ تَعْرِفَ الْأُمَّةُ حَقَّهَا فِي هَذَا الِانْتِخَابِ وَالْغَرَضَ مِنْهُ، فَإِذَا وَقَعَ انْتِخَابُ غَيْرِهِمْ بِنُفُوذِ الْحُكُومَةِ أَوْ غَيْرِهَا كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنْتَخَبِينَ سُلْطَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً شَرْعًا بِحُكْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي بَابِ سُلْطَةِ التَّغَلُّبِ، فَمَثَلُ مَنْ يَنْتَخِبُ رَجُلًا لِيَكُونَ نَائِبًا عَنِ الْأُمَّةِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ السُّلْطَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ وَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى هَذَا الِانْتِخَابِ، كَمَثَلِ مَنْ يَتَزَوَّجُ أَوْ يَشْتَرِي بِالْإِكْرَاهِ لَا تَحِلُّ لَهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا سِلْعَتُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ اشْتِرَاطَ حُرِّيَّةِ الِانْتِخَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّ الْإِجْمَالَ لَا يُغْنِي فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنِ التَّفْصِيلِ.
خَاطَبَ اللهُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بِإِقَامَةِ الْقَوَاعِدِ الْأَرْبَعِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِلْمُخَاطَبِينَ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ لِإِقَامَتِهَا، فَالْوَاجِبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ مُطَالَبَتُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا يُتْرَكُ الْأَمْرُ فَوْضَى، ثُمَّ يُبْحَثُ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، أَوِ الِاجْتِهَادِ وَعَنِ اسْتِنْبَاطِ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي رِوَايَةِ الرُّوَاةِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَسَكَتَ النَّاسُ عَنْ كَذَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَعْرِفُ فِيهَا خِلَافًا فَهِيَ إِجْمَاعِيَّةٌ،
كَمَا وَقَعَ مُنْذُ زَمَنِ الرِّوَايَةِ وَالتَّدْوِينِ وَالتَّصْنِيفِ إِلَى الْيَوْمِ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أُولِي الْأَمْرِ هُنَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ الَّتِي يَنُوطُ فِيهَا الِاسْتِنْبَاطَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (4: 83) ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَجْمَعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ لِتَرُدَّ إِلَيْهِمْ فِيهِ الْمَسَائِلَ الْمُتَنَازَعَ فِيهَا وَالْمَسَائِلَ الْعَامَّةَ مِنْ أَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ؛ لِيَحْكُمُوا فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ تَجِبُ عَلَى الْحُكُومَةِ وَأَفْرَادِ الْأُمَّةِ إِذَا هُمْ أَجْمَعُوا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْمَحْكُومِ رَدُّ الْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ وَالْمُتَنَازَعِ فِيهَا إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِطَلَبِ الْأُمَّةِ، أَوْ بِطَلَبِ الْحُكُومَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ هُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِذَا انْتَخَبَتِ الْأُمَّةُ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْتُمْ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ، وَالنَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُمْ أُولُو الْأَمْرِ، لِيَكُونُوا هُمُ الْمُسْتَنْبِطِينَ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَوَانِينِ، وَالْمُشْرِفِينَ عَلَى الْحُكَّامِ وَالْمُسْتَشَارِينَ لَهُمْ، أَيَكُونُ أُولُو الْأَمْرِ مَنْ وَصَفْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَخِبْهُمُ الْأُمَّةُ، أَمْ يَكُونُونَ هُمُ الْمُنْتَخَبِينَ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّةِ وَإِنْ فَقَدُوا تِلْكَ الصِّفَاتِ؟ .
أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ الْأُمَّةَ إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَمُخْتَارَةً فِي الِانْتِخَابِ عَالِمَةً بِالْغَرَضِ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَخِبَ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْمَكَانَةِ الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ عِنْدَهَا ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَتُهَا الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا هَدَاهَا اللهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فَانْتِخَابُهَا إِيَّاهُمْ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِثِقَتِهَا بِهِمْ وَلِعِلْمِهَا بِهَدْيِ دِينِهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِمَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرَ مُخْتَارَةٍ فِي الِانْتِخَابِ فَلَا يَكُونُ لِانْتِخَابِهَا صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْمُذْعِنَةُ لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ وَنَهْيِهِ الْعَالِمَةُ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ فِيهِ، وَلَعَلَّ جَهْلَ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ لِأُولِي الْأَمْرِ، كَانَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ فِي عَدَمِ الْعَمَلِ بِقَاعِدَةِ الِانْتِخَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيَجِبُ انْتِخَابُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَتِهَا الْعَامَّةِ أَمْ يُكْتَفَى بِبَعْضِهِمْ؟ أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِأَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ بِرِضَى الْبَاقِينَ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْمَمْلَكَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مِائَةِ مَدِينَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَشَرَةٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يَثِقُ أَهْلُهَا بِعِلْمِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، وَيَنْقَادُونَ لَهُمْ يَكُونُ مَجْمُوعُ أُولِي
الْأَمْرِ أَلْفَ نَسَمَةٍ، فَإِذَا هُمُ اخْتَارُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِانْتِخَابِ، أَوِ الْقُرْعَةِ مِائَةً أَوْ مِائَتَيْنِ لِلْقِيَامِ بِمَا ذُكِرَ حَصَلَ الْمَقْصِدُ بِذَلِكَ وَكَانَ مَا يُقَرِّرُونَهُ إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى الْبَاقِينَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِمَكَانِهِمْ كَالشُّورَى فِي الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ، وَهَذَا مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ:
بَيَّنَّا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ هِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمُبَيَّنَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَطَبَّقَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ـ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ ـ وَجَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ لَعَمْرِي أَقْوَى دَلَالَةً عَلَيْهِ مِنْ آيَةِ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى (4: 115) ، الْآيَةَ، بَلْ لَا تَدُلُّ هَذِهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَجَعَلُوا مَعْنَى رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْقِيَاسَ الْأُصُولِيَّ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ هُمُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي أَعْضَاءِ مَجْلِسِ النُّوَّابِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ فِي عُرْفِ
الْعُثْمَانِيِّينَ بِالْمَبْعُوثِينَ وَفِي أَعْضَاءِ الْمَحَاكِمِ وَالْمَجَالِسِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ صِفَةٌ تَشْرِيعِيَّةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَقَدْ عَلِمْتَ رَأْيَنَا فِيهِ وَسَنَزِيدُكَ إِيضَاحًا.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ فَمَا مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ؟ قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الدَّلَالَتَيْنِ، فَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللهِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ الرَّسُولِ لَا مَحَالَةَ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ اللهِ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ كَلَامِهِ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَرَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، وَجَزْمُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُمَثِّلُ الْأُمَّةَ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِعَادَةً لِعَيْنِ مَا مَضَى وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ طَلَبَ حُكْمِهِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَدَّ حُكْمِهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ عَلَى الْأَخِيرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَيْهِمَا وَعَدَمَ الْحُكْمِ فِيهِ بِشَيْءٍ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَجَابَ عَنْهُمَا بِإِسْهَابِهِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ عِبَارَةَ النَّيْسَابُورِيِّ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَرَدِّ هَذَيْنِ الْإِيرَادَيْنِ ـ وَإِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا ـ لِأَنَّهُ اخْتَصَرَ فِيهَا مَا طَالَ بِهِ الرَّازِيُّ، قَالَ بَعْدَ مَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ أُولِي الْأَمْرِ غَيْرُ مَا ادَّعَاهُ: " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْصُومُ
كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ، فَالْمُرَادُ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهُوَ الْمُدَّعَى.
قَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ رَدِّهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ رَدَّهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا كَانَ تَكْرَارًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَفْوِيضَ عِلْمِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْإِهْمَالَ وَتَفْتَقِرُ إِلَى قَطْعِ مَادَّةِ الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَلَا الْإِحَالَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ رَدًّا إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ.
" فَحَاصِلُ الْآيَةِ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ لِمَنْ عَدَا الرَّسُولَ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ لِمَا سِوَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِطَاعَتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَدَارِكِهَا ـ إِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ وَاشْتِبَاهٌ فِي النَّاسِ فِي حُكْمِ وَاقِعَةٍ مَا ـ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا لَهَا وُجُوهًا مِنْ نَظَائِرِهَا وَأَشْبَاهِهَا، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ "، انْتَهَى كَلَامُ النَّيْسَابُورِيِّ، وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ رَدَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَتَحَقَّقُ بِعَرْضِهِ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ كَالْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، وَكَمَنْعِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الْمَحْظُورِ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمَحْظُورِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا، وَيَلِي هَذَا عَرْضُ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّدِّ هُنَا: رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَمَّا مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ غَيْرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيُرَدُّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِآيَةِ الِاسْتِنْبَاطِ [4: 83] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِجْمَاعُ وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَرَأَيْتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَرَّحُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْأُصُولِيُّ فَمَا هُوَ تَعْرِيفُهُ؟
الْإِجْمَاعُ فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ: " هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهَدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ أَيِّ أَمْرٍ كَانَ، فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوِ الْأَكْثَرَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ الْمُقَلِّدِينَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، كَالَّذِينِ يَكْفُرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ، وَالَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ جِنْسِيَّةً لَهُمْ لَا دِينًا، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ عَصْرًا خَلَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ (كَمَا يَقُولُ
جَمَاهِيرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ) ، وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ عَرَضَتْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ كُلِّهِمْ لَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا يَقُولُ مُتَفَقِّهَتُنَا: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ كُلُّهُمْ عُصَاةً لِلَّهِ تَعَالَى بِاجْتِهَادِهِمْ هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُتَنَطِّعُ مِنْ هَؤُلَاءِ
الْمُتَفَقِّهَةِ: إِنَّهُمْ إِذَا اسْتَحَلُّوا وَضْعَ الْحُكْمِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَعَدَّهُ شَرْعِيًّا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّنَطُّعِ الَّذِي يُجِيزُ عَقْلُ صَاحِبِهِ خَطَأَ الْمَلَايِينِ، وَيَقُولُ بِعِصْمَةِ الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ وِفَاقَ الْعَوَامِّ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِيَصِحَّ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ، إِذْ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ فِي التَّعْرِيفِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَعَبَّرَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ " بِمُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ " لِصِدْقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يَعُمُّ، وَأَرَادَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا اثْنَانِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَجْمَعَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِجْمَاعِهِمَا بِشَرْطِهِ، وَلَوْ كَانَا امْرَأَتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَهُنَاكَ خِلَافَاتٌ أُخْرَى فِي قُيُودِ الْحَدِّ وَمَفْهُومِهَا وَفِي مَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ فِي كَشَّافِ اصْطِلَاحَاتِ الْفُنُونِ: الِاجْتِهَادُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْمُسْتَفْرِغُ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ التَّحْصِيلِ يُسَمَّى مُجْتَهِدًا، ثُمَّ قَالَ: فَائِدَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ شَرْطَانِ:
الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ الْبَارِئِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَتَصْدِيقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُعْجِزَاتِهِ وَسَائِرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عِلْمُ الْإِيمَانِ، كُلُّ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى مَا هُوَ دَأَبُ الْمُتَبَحِّرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَدَارِكَ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَامِهَا وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا وَتَفَاصِيلِ شَرَائِطِهَا وَمَرَاتِبِهَا، وَجِهَاتِ تَرْجِيحِهَا عِنْدَ تَعَارُضِهَا وَالتَّفَصِّي عَنِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا، فَيُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الرُّوَاةِ، وَطُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَقْسَامِ النُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ مِنَ اللُّغَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ فَيَكْفِيهِ عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَا يَضُرُّهُ الْجَهْلُ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، هَذَا كُلُّهُ خُلَاصَةُ مَا فِي الْعَضُدِيِّ وَحَوَاشِيهِ وَغَيْرِهَا اهـ.
وَإِنَّنِي أَذْكُرُ لَكَ خُلَاصَةَ مَا فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ
عِنْدَهُمْ هُوَ الْفَقِيهُ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا ذَا مَلَكَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْمَعْلُومَ، فَقِيهَ النَّفْسِ، عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، أَيِ ـ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ـ ذَا دَرَجَةٍ وُسْطَى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونِهَا مِنَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَلَاغَةِ، وَالْأُصُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي زَمَانِنَا الرُّجُوعُ إِلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَيْ: إِلَى مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَمَا يَصِحُّ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَلَا الذُّكُورَةُ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَلَّفَ الْمُجْتَهِدُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ.
أَقُولُ: لَيْسَ تَحْصِيلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِالْأَمْرِ الْعَسِيرِ وَلَا بِالَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اشْتِغَالٍ أَشَقَّ مِنَ اشْتِغَالِ الَّذِينَ يُحَصِّلُونَ دَرَجَاتِ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ فِي
الْأُمَمِ الْحَيَّةِ كَالْحُقُوقِ وَالطِّبِّ وَالْفَلْسَفَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ التَّقْلِيدِ مَنَعُوهُ فَلَا تَتَوَجَّهُ نُفُوسُ الطُّلَّابِ إِلَى تَحْصِيلِهِ.
وَظَاهِرٌ أَنَّ تَعْرِيفَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ لِلْإِجْمَاعِ وَتَخْصِيصَهُ بِالْمُجْتَهِدِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْعَالِمِينَ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ، لَا يَعْرِفُونَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَسَائِلِ الْأَمْنِ، وَالْخَوْفِ، وَالسِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَالْأَمْوَالِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ، بَلْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمُ الَّذِي اشْتَرَطُوهُ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَجَدَّدَ لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ طُرُقِ الْمُعَامَلَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى فَيَقِيسُوهُ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْرِيفِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُونَ مَعْصُومِينَ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يُسَمَّى إِجْمَاعًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ إِجْمَاعَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَغَلَا بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَقَالُوا: إِنَّ عِصْمَتَهُمْ كَعِصْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِيهِ، فَقَالُوا: فِعْلُهُمْ كَفِعْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ خِلَافًا لِلْبَاقِلَّانِيِّ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ وُقُوعَ الْخَطَأِ مِنْهُمْ مُحَالٌ، أَخَذُوا هَذَا مِنْ كَوْنِ الْأُمَّةِ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ، عَلَى أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ خَطَأَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا إِذَا خَلَتْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ، وَنَحْمَدُهُ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآرَاءُ مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ الْبَاحِثِينَ، حَتَّى مَنَعَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاجْتِمَاعَ أَلْبَتَّةَ
وَأَحَالَهُ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَعْتَدَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَاعْتَدَّ بَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَبَعْضُهُمْ مُوَافَقَةَ الْعَوَامِّ.
وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ نَقُولُ: إِنَّ حَصْرَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُمْكِنُ، وَالْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ لَا يُمْكِنُ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأُصُولِيَّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِذَا أَمْكَنَ فَالْعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ دُونَ الْقَوْلِيِّ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَالْقَوْلَ الثَّالِثَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ يُقَالُ: السُّكُوتِيُّ لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْقَوْلِ مِنْ زَيْدٍ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنْهُ، وَكَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ السَّلَفِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَهُمْ فِيهَا، وَهَذَا غَيْرُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ.
وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، لَعَلَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ ـ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ـ وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ النَّاسَ
اخْتَلَفُوا أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ " نَقَلَ هَذَا فِي الْمُسَوَّدَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ " أَجْمَعُوا " إِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ أَجْمَعُوا فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا كَانَ (أَحْسَنَ) قَالَ فِي الْمُسَوَّدَةِ: وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا كَذِبٌ، مَا عَلَّمَهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْتَمِعُونَ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: إِجْمَاعُ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، وَحَمَلَ الْقَاضِي إِنْكَارَ أَحْمَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْوَرَعِ، وَحَمَلَهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى إِجْمَاعِ الْمُخَالِفِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، أَوْ بَعْدَهُمْ، وَبَعْدَ التَّابِعِينَ، أَوْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا أَوَّلُوا كَلَامَهُ الْمَقْرُونَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَرُدُّ تَأْوِيلَهُمْ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ لَفْظُ الْإِجْمَاعِ كَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ غَدَاةِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِإِجْمَاعِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مُقَيَّدٌ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي نَفَاهُ.
كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَيَظُنُّ
بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُ فَنِّ الْأُصُولِ الَّذِي حَدَثَ بَعْدَهُمْ، وَلِهَذَا ظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَلَفَ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْإِجْمَاعِ تَارَةً وَإِنْكَارِهِ تَارَةً أُخْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
الْإِجْمَاعُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الْأَمْرِ وَإِحْكَامُهُ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: أَجْمَعُوا الْأَمْرَ وَالرَّأْيَ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ إِذَا أَحْكَمُوهُ وَضَمُّوا مَا انْتَشَرَ وَتَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَزَمُوا عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ إِلَّا بَعْدَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّدْقِيقِ وَالْمُرَادَّةِ فِي الشُّورَى، قَالَ تَعَالَى فِي حِكَايَةٍ عَنْ نُوحٍ عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (10: 71) ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا الْإِمْضَاءُ وَالتَّنْفِيذُ، وَقَالَ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ (12: 12)، وَقَالَ حِكَايَةً لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ (20: 64) ، وَالْإِجْمَاعُ لِلْأَمْرِ يَكُونُ مِنَ الْوَاحِدِ وَمِنَ الْجَمْعِ.
قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ الْإِجْمَاعُ: إِحْكَامُ النِّيَّةِ وَالْعَزِيمَةِ، أَجْمَعْتُ الرَّأْيَ وَأَزْمَعْتُهُ وَعَزَمْتُ عَلَيْهِ بِمَعْنًى، وَمِنْهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:" أَجْمَعَتْ صَدَقَةً " وَفِي حَدِيثِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ: " مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا " أَيْ: مَا لَمْ أَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَأَجْمَعَ أَمْرَهُ جَعَلَهُ جَمِيعًا بَعْدَ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، قَالَ: وَتَفَرُّقُهُ أَنَّهُ جَعَلَ يُدِيرُهُ فَيَقُولُ مَرَّةً: أَفْعَلُ كَذَا، وَمَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ مُحْكَمٍ أَجْمَعَهُ أَيْ: جَعَلَهُ جَمِيعًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُقَالُ: أُجْمِعَتِ النَّهْبُ، وَالنَّهْبُ إِبِلُ الْقَوْمِ أَغَارَ عَلَيْهَا اللُّصُوصُ، وَكَانَتْ
مُتَفَرِّقَةً فِي مَرَاعِيهَا فَجَمَعُوهَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لَهُمْ، ثُمَّ طَرَدُوهَا وَسَاقُوهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ قِيلَ: أَجْمَعُوهَا. . . وَالْإِجْمَاعُ أَنْ تَجْمَعَ الشَّيْءَ الْمُتَفَرِّقِ جَمِيعًا، فَإِذَا جَعَلْتَهُ جَمِيعًا بَقِيَ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكَدْ يَتَفَرَّقُ كَالرَّأْيِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ الْمَمْضِيِّ، وَأَجْمَعَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ إِذَا سَالَ رَغَابُهَا وَجِهَادُهَا كُلُّهَا، وَفَلَاةٌ مُجَمَّعَةٌ وَمُجَمِّعَةٌ (بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ) يَجْتَمِعُ فِيهَا الْقَوْمُ، وَلَا يَتَفَرَّقُونَ
خَوْفَ الضَّلَالِ وَنَحْوَهُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْمَعُهُمُ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ هُوَ اتِّفَاقَ النَّاسِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِحْكَامُ الْأَمْرِ الْمُتَفَرِّقِ وَعَزْمُهُ لِئَلَّا يَتَفَرَّقَ، وَيَكُونُ مِنَ الْوَاحِدِ وَأَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَقُومَ بِهِ كُلُّ أَهْلِ الشَّأْنِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يُبْرِمَهُ مَنْ يَمْتَنِعُ التَّفَرُّقُ بِإِبْرَامِهِمْ لَهُ، فَرُجُوعُ عَمَرَ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ عَنِ الْوَبَاءِ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الْأُصُولِيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ:" اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّالِحُونَ " وَفِي لَفْظٍ: " مَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْبِيرِ بِإِجْمَاعِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ: مَا جَزَمُوا بِهِ وَعَزَمُوهُ بِالْعَمَلِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ إِجْمَاعِ الْأُصُولِ الَّذِي مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّفِقَ جَمِيعُ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أُلُوفًا كَثِيرَةً لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ دَعْوَى الْعِلْمِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِهِ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ غَيْرُهُ.
وَمَا زَالَ أَهْلُ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ يَبْحَثُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ زُرْتُ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ فِي الْعِيدِ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَلْفَيْتُ عِنْدَهُ أَحْمَدَ فَتْحِي بَاشَا زُغْلُول الْعَالِمَ الْقَانُونِيَّ وَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ، وَأَنْ يُعْلَمَ بِهِ مَعَ عَدَمِ حَصْرِ أَهْلِهِ وَلَا تَعَارُفِهِمْ؟ وَرَأَيْتُ الْأُسْتَاذَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَافَقَهُ عَلَى اسْتِنْكَارِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ فِي الْإِجْمَاعِ هُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعُلَمَاءُ النَّابِغُونَ الْمَوْثُوقُ بِهِمْ وَيَتَذَاكَرُوا فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا، وَيَكُونُ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَجْمَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْعَقِدَ إِجْمَاعٌ آخَرُ مِنْهُمْ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا حَسَنٌ لَوْ كَانَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجْمَاعِ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِمْ بَعْضُهُمْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ بِمَنْ يُمَثِّلُهَا وَهُمْ أُولُو الْأَمْرِ بِمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِرَارًا وَلَا بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ، وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ وَمَا أَجْمَعُوا هُمْ عَلَيْهِ إِذَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّ وُجُوبَ طَاعَتِهِمْ لِأَجْلِ الْمُصْلِحَةِ، لَا لِأَجْلِ الْعِصْمَةِ
كَمَا قِيلَ فِي الْأُصُولِ، وَالْمَصْلَحَةُ تَظْهَرُ وَتَخْفَى وَتَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ مَا حَظَرَهُ السَّلَفُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي كَانُوا يَعْنُونَ بِهِ مَا جَرَى عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَكَذَا التَّابِعُونَ مِنْ هَدْيِ الدِّينِ بِغَيْرِ خِلَافٍ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَرَى أَنَّ أَحْمَدَ كَانَ عَلَى هَذَا، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَّفِقَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يُعْزَى إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ سُكُوتٍ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي خَبَرِ الْقُرُونِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ؟ .
وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى دَعْوَى عَدَمِ جَوَازِ مُضَادَّةِ الْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعٍ قَبْلَهُ بِحَدِيثِ: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مَرْفُوعًا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: لَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَجَاءَ الْمَرْفُوعُ بِلَفْظِ: سَأَلْتُ رَبِّي أَلَّا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَعْطَانِيهَا وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا فِي إِجْمَاعِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِي لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَالْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُعَدُّ ضَالًّا وَإِنَّمَا يُعَدُّ عَامِلًا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَأُ اجْتِهَادِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ وَيُصَلِّي عِدَّةَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ كَانَ خَطَأً، فَإِنَّ صِلَاتَهُ صَحِيحَةٌ، فَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا كَمَا تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ الْقَضَائِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الِاجْتِهَادُ الْعَامُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَذُكِرَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ مَضَادَّةَ الْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعٍ قَبْلَهُ فِيهِ خِلَافُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَصْرِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ مُغَيًّا بِوُجُودِ الثَّانِي، وَفِي الْمُسَوَّدَةِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ قَالَ: يَجُوزُ تَرْكُ مَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ بِالْإِجْمَاعِ إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، مِثْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ فِيهَا ـ أَيْ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ـ خَرَجَ مِنْهَا بَلْ وَجَبَ وَبِهِ قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُنْتَقَلُ مِنَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ مُخَالَفَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ، وَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ
تَمَسُّكٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي مَدْلُولِ النَّصِّ، فَالْأَقْوَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقِيَاسُ الْأُصُولِيُّ:
عَرَّفَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ ـ تَبَعًا لِلْبَاقِلَّانِيِّ ـ بِأَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ لِمُسَاوَاتِهِ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ مُسَاوَاةُ فَرْعٍ الْأَصْلَ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، فَمَنَعَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُطْلَقًا، وَابْنُ عَبْدَانَ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ دَاوُدُ غَيْرَ الْجَلِيِّ مِنْهُ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ وَالتَّقْدِيرَاتِ، وَقَوْمٌ
فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، وَقَوْمٌ فِي أُصُولِ الْعِبَادَاتِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَعَلَى الْأَخِيرِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَرْكَانُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ:
1 -
الْأَصْلُ الْمُشَبَّهُ بِهِ، أَيِ: الْمَقِيسُ عَلَيْهِ.
2 -
حُكْمُ الْأَصْلِ، قَالُوا: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ.
3 -
الْفَرْعُ الْمُشَبَّهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمَقِيسُ، وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُ تَمَامِ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيهِ.
4 -
الْعِلَّةُ، قَالُوا: وَهِيَ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ.
أَقُولُ: وَفِيهَا مُعْتَرَكُ الْأَنْظَارِ، فَمِنْهَا مَا هُوَ بَدِيهِيٌّ كَكَوْنِ الْإِسْكَارِ هُوَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلٌ، وَلَا نَقْلٌّ، كَالْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا: الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالطَّعْمُ، وَقَدِ اكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْعِلَّةِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ التَّشْبِيهِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ حَتَّى يَجُوزَ الرَّدُّ وَالْحَمْلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَا يَظْهَرُ حَمْلُ الْأَمْرِ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ عَلَى عَرْضِهِ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْعِلَلِ وَالتَّشْبِيهَاتِ الَّتِي لَا نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا هِيَ مُتَبَادَرَةٌ مِنْهُمَا، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ التَّنَازُعَ، بَلْ رُبَّمَا يَزِيدُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَحْصُورًا فِي طَلَبِ النُّصُوصِ فِي نَفْسِ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ مَا يَشْمَلُ رَدَّهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمَا أَوْ قَوَاعِدِهِمَا الْعَامَّةِ وَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ عِلَلِ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِلتَّنَازُعِ فِيهِ مَجَالٌ.
هَذَا وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِ الْأُصُولِيِّينَ لِلِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَهُمُ الْإِحَاطَةُ بِمَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ كَافِيَةٌ لِمَا يَنْبَغِي الْعِلْمُ بِهِ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَقُضَاتِهِمْ، فَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ
يَسْأَلُونَ عَنِ السُّنَّةِ وَقَضَاءِ النَّبِيِّ مَنْ حَضَرَ وَلَا يَسْتَقْصُونَ فِي الطَّلَبِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا عَمِلُوا بِالرَّأْيِ الَّذِي مَنَاطُهُ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَأَصْحَابُهُ فِي وَاقِعَةِ الْوَبَاءِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِمَا عِنْدَهُ فِيهَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَكِنَّ طَلَبَ النُّصُوصِ مِنَ الْكُتُبِ الْآنَ أَسْهَلُ مِنْ طَلَبِهِ مِنَ النَّاسِ قَبْلَ تَدْوِينِ الْحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ الطَّلَبِ التَّامِّ لِلنُّصُوصِ؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ:
الْأُولَى: الْحُكْمُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ مِنَ النُّصُوصِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِلَا تَرَدُّدٍ.
الثَّانِيَةُ: الْحُكْمُ بِهِ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْ نُصُوصٍ لَا يَعْرِفُهَا مَعَ رَجَاءِ الْوُجُودِ لَوْ طَلَبَهَا، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْحَنَفِيَّةِ تَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ،
وَلِهَذَا جَعَلُوا الْقِيَاسَ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ التَّيَمُّمَ إِلَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ الْمَاءِ فَكَذَا النَّصُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: مَا تَصْنَعُ بِالْقِيَاسِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُغْنِيكَ عَنْهُ! وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أُمٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ أَهْلِ الرَّأْيِ، لَكِنْ يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي طَلَبِ النُّصُوصِ وَطَلَبِ الْحُكْمِ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ بِحُضُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ: وُجُودُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ النَّصِّ.
الثَّالِثَةُ: إِذَا أَيِسَ مِنَ الظَّفَرِ بِنَصٍّ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُهُ فَهُنَاكَ يَجُوزُ بِلَا تَرَدُّدٍ، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: بِنَاءُ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ:
إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اجْتِهَادَ أُولِي الْأَمْرِ هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا أَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ وَجَبَ عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَعَلَى حُكَّامِهَا الْعَمَلُ بِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ خَاصٌّ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا بِالْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ دُونَ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ إِذَا لَمْ تُرْفَعْ إِلَى الْقَضَاءِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَى قَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَحِفْظِهَا وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَإِزَالَتِهَا، وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ أَنَّ جَعْلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَيِ - الْمُطْلَقَةِ - أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ خَاصٌّ بِالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهَا عِنْدَ التَحْقِيقِ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا حَدِيثُ: لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِي عَنْ عُبَادَةَ،
وَعَلَّمَ السُّيُوطِيُّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْحُسْنِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَهَا دَلَائِلُ أُخْرَى أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا فِي مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَتَقْدِيمُ كُلِّ مَا فِيهِ الْيُسْرُ عَلَى الْأُمَّةِ وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ، التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ، وَهُوَ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى التَّعَارُضِ بَيْنَ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ مُؤَيَّدَةٌ بِهَا، وَقَلَّمَا تَرَى فِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَحْثًا مُشَبَّعًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الشَّرِيعَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّكَ لَتَرَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ لَا يُبَالُونَ بِتَقْدِيمِ نُصُوصِ عُلَمَاءِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا تُحْفَظُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، فَمَا بَالُكَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا تَوَسَّعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَوَسَّعَ فِيهَا نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ تُوُفِّيَ سَنَةَ 716 هـ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ نَشَرْنَا كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ الْعَاشِرِ مِنَ الْمَنَارِ، وَقَاعِدَتُهُ: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ مُقَدَّمَةٌ حَتَّى عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا ـ بِحَسَبِ الْعُرْفِ ـ بِأَنَّهَا السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ كَالتِّجَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الرِّبْحِ، وَبِحَسَبِ الشَّرْعِ: بِأَنَّهَا السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً، وَأَوْرَدَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَوْجُهٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (10: 57، 58)، وَأَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَائِلَ كَثِيرَةً أَصْرَحُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَالْكَلَامُ فِي تَفْضِيلِ ذَلِكَ بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ يَطُولُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي كِتَابٍ خَاصٍّ، وَلَعَلَّنَا نُوَفَّقُ لِبَيَانِهِ فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ الَّتِي نُودِعُهَا كُلِّيَّاتِ فِقْهِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ الْعُلْيَا.
عَلَى أَنَّ الطُّوفِيَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى وُجُوهِ تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ بَلْ ذَكَرَ دَلَائِلَ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَرَدَّ مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَبَيْنَ مَا تَتَعَارَضُ بِهِ الْمَصَالِحُ، وَطُرُقَ التَّرْجِيحِ فِيهَا، فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ فِي الْمُجَلَّدِ الْعَاشِرِ (مِنَ الْمَنَارِ مِنْ ص 745 - 770) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ـ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْجَمَاعَةِ بِمَعْنَى الْإِجْمَاعِ:
بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ، وَيُقَابِلُهُ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ اللَّذَانِ نَهَى الله عَنْهُمَا وَرَسُولُهُ نَهْيًا شَدِيدًا.
وَمِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ حَتَّى يُرَاجِعَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامُ جَمَاعَةٍ فَإِنَّ مَوْتَتَهُ مَوْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَبِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ فَارَقَ الْإِسْلَامَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ أَيْضًا بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ: يَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَرْفَجَةَ بِزِيَادَةِ:" وَالشَّيْطَانُ مَعَ مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ " وَحَدِيثُ: " لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا، وَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ " رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ ذِكْرُ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ مِنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: " بَابُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ "، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ: وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَنِي اللهُ بِهِنَّ: السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ ; فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، وَفِي خُطْبَةِ عُمَرَ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي خَطَبَهَا فِي الْجَابِيَةِ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُرَادُ الْبَابِ الْحَضُّ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (2: 143) ، وَشَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ، وَقَدْ ثَبَتَتْ
لَهُمْ هَذِهِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: وَسَطًا وَالْوَسَطُ الْعَدْلَ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ كُلِّ عَصْرٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ مُتَابَعَةُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - أَيِ الْبُخَارِيِّ - وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَرْجَمَ عَلَيْهَا احْتَجَّ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، أَيْ عُدُولًا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ عُصِمُوا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ فِي الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ:" عُصِمُوا " إِلَخْ، مَمْنُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَقُولُ: إِنَّ التَّعْدِيلَ لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُمَثِّلُ الْأُمَّةَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُنَاطُ بِهِمْ أَمْرُهَا وَيَجِبُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوهُ وَعَزَمُوهُ لَا الْمُجْتَهِدُونَ، خَاصَّةً الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْأُصُولِ الَّذِينَ قَدْ يَكُونُونَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ أَوْ هَاتَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِمَا نَصُّ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فَلِلَّهِ دَرُّ ابْنِ بَطَّالٍ فَقَدْ جَاءَ بِالْحَقِّ، وَمَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (42: 38)، مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ: وَكَانَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وُضِعَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ عَمَلًا بِالنَّصِّ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ عز وجل اهـ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أُولِي الْأَمْرِ:
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ، قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَاعَةُ الْأُمَّةِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا قِيَامَتُهَا أَيْ: تَدُولُ دَوْلَتُهَا عَلَى حَدِّ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، وَفِي " إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ ": أَنَّ الْقِيَامَةَ قِيَامَتَانِ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى وَهِيَ قِيَامَةُ أَفْرَادِ النَّاسِ بِالْمَوْتِ، وَالْقِيَامَةُ الْكُبْرَى وَهِيَ قِيَامَتُهُمْ كُلِّهِمْ بِانْتِهَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَالدُّخُولِ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قِيَامَةَ الْجَمَاعَاتِ
كَقِيَامَةِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّجَوُّزُ بِالسَّاعَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْقِيَامَةِ ; فَإِنَّ الْقِيَامَةَ مِنَ الْقِيَامِ، وَهِيَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (83: 6) ، وَأَمَّا السَّاعَةُ فَهِيَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مُطْلَقًا، وَلَا يَزَالُ النَّاطِقُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: جَاءَتْ سَاعَةُ فُلَانٍ، أَوْ جَاءَ وَقْتُهُ، وَالْقَرِينَةُ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَتِلْكَ
السَّاعَةِ، وَإِنَّ خُرُوجَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ يَدِ أَهْلِهِ ـ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ كَمَا يَجِبُ ـ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَمْرِهِمْ وَمُدْنٍ لِلسَّاعَةِ الَّتِي يَهْلِكُونَ فِيهَا بِالظُّلْمِ، أَوْ بِخُرُجِ الْأَمْرِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُفْرِدَاتِ الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُ لَهُ فِي تَفْسِيرِ السَّاعَاتِ تَقْسِيمًا ثُلَاثِيًّا: السَّاعَةُ الْكُبْرَى بَعْثُ النَّاسِ لِلْحِسَابِ، وَالْوُسْطَى مَوْتُ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ، وَالصُّغْرَى مَوْتُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، وَحُمِلَ عَلَى الْأَخِيرِ بَعْضُ الْآيَاتِ.
تَوْسِيدُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَمْرَهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارِهَا، وَهِيَ عَالِمَةٌ بِحُقُوقِهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَعْلِهَا حَيْثُ جَعَلَهَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُسْلِبُهَا الْمُتَغَلِّبُونَ هَذَا الْحَقَّ بِجَهْلِهَا وَعَصَبِيَّتِهِمُ الَّتِي يَعْلُو نُفُوذُهَا نُفُوذَ أُولِي الْأَمْرِ، حَتَّى لَا يَجْرُؤَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، أَوْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلسَّجْنِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَتْلِ.
هَذَا مَا كَانَ وَهَذَا هُوَ سَبَبُ سُقُوطِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ الْوَاسِعَةِ، وَذَهَابِ تِلْكَ الدُّوَلِ الْعَظِيمَةِ وَوُقُوعِ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ وِصَايَةِ الدُّوَلِ الْعَزِيزَةِ، الَّتِي لَمْ تَعْتَزَّ وَتَقْوَ إِلَّا بِجَعْلِ أَمْرِهَا بِيَدِ الْأُمَّةِ، وَتَوْسِيدِ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِرْشَادِ دِينِهِمْ، وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ تَرْكُ أُصُولِ الشُّورَى وَتَقْدِيسِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ بَعْدَ أَنْ حَجَبُوا الْأُمَّةَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا فَجَهِلَتْ حُقُوقَهَا، ثُمَّ أَفْسَدُوا عَلَيْهَا بَعْضَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهَا، وَأَسْقَطُوا قِيمَةَ الْآخَرِينَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَكَايِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
نَعَمْ، كَانَ الْجَهْلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الَّذِي مَكَّنَ لِأَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّدْرِيجِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَصَبِيَّةِ قَرِيبًا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي احْتِرَامِ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ لِدِينِهِمْ وَعِلْمِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَقْوَى الْعَصَبِيَّةُ عَلَيْهِمْ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ بَعْدَهُ، دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَقَالُوا: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ وَأَعَادَ قَوْلَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، وَنَظَمَ ذَلِكَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي فَقَالَ:
مُلَّ الْمُقَامُ فَكَمْ أُعَاشِرُ أُمَّةً
…
أَمَرَتْ بِغَيْرِ صَلَاحِهَا أُمَرَاؤُهَا
ظَلَمُوا الرَّعِيَّةَ وَاسْتَجَازُوا كَيْدَهَا
…
فَعَدَوْا مَصَالِحَهَا وَهُمْ أُجَرَاؤُهَا
وَقَدْ عُنِيَ الْمُلُوكُ الْمُسْتَبِدُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَذْبِ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِمْ بِسَلَاسِلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرُّتَبِ وَالْمَنَاصِبِ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ انْجِذَابًا، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.
وَضَعَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الرَّسْمِيُّونَ قَاعِدَةً لِأُمَرَائِهِمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ هَدَمُوا بِهَا الْقَوَاعِدَ الَّتِي قَامَ بِهَا أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ كَالْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ فَاقِدِينَ لِلشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَاشْتِرَاطِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنْ صَرَّحَ
بِهَا أَئِمَّةُ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ، قَالُوا: يَجُوزُ إِذَا فَقَدَ الْحَائِزُونَ لِتِلْكَ الشُّرُوطِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمُ الْعِلْمُ الِاسْتِقْلَالِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِجَوَازِ تَقْلِيدِ الْجَاهِلِ ـ أَيِ: الْمُقَلِّدِ ـ وَعَدُّوهُ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَأَطْلَقَ الْكَثِيرُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَذَلِكَ مِنْ تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ الَّذِي يُقَرِّبُ خُطُوَاتِ سَاعَةِ هَلَاكِ الْأُمَّةِ، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا ذَهَابُ الْأَمَانَةِ وَظُهُورُ الْخِيَانَةِ، وَلَا خِيَانَةَ أَشَدُّ مِنْ تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى الْجَاهِلِينَ، رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنِ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، وَأَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ مُقَدِّمَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ انْتَظِرِ السَّاعَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِضَاعَتُهَا؟ فَقَالَ:" إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
أَطْلَقَ أَعْوَانُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَوْلِيَةِ الْجَاهِلِ، وَكَذَا فَاقِدُ غَيْرِ الْعِلْمِ مِنْ شُرُوطِ الْوِلَايَاتِ كَالْعَدَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يُصَرِّحِ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ ضَرُورَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ إِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهَا أَوْ دُنْيَاهَا أَنْ تَسْعَى فِي إِقَامَتِهِ، وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُحَقِّقِينَ ذَهَبَ قَوْلُهُ فِي الْجُمْهُورِ الْجَاهِلِ عَبَثًا، وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا تَكُونُ آثِمَةً إِذَا فَقَدَ أُولُو الْأَمْرِ وَالْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ مَا يَجِبُ
فِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيَجِبُ عَلَيْهَا السَّعْيُ وَالْعَمَلُ لِإِيجَادِ الصَّالِحِينَ لِذَلِكَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ أَمْرَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي تَحْكُمُ بِفَقْدِ تِلْكَ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، أَوْ بَعْضِهَا وَتُقَدِّرُهُ بِقَدْرِهِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ: الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَوَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، أَوِ الْوَاجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ، إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا ; لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا اهـ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُسِّدَ أَمْرُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا بِجَهْلِ أُولِي الْأَمْرِ وَضَعْفِهِمْ، ثُمَّ بِإِفْسَادِ الْأُمَرَاءِ لَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ وَتُعِيدَ إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ لِيُعِيدُوا إِلَيْهَا حَقَّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ:
اسْتَدَلَّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِالْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهَا غَيْرُهُمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بَرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، أَيْ: إِلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مَشْرُوعًا لَقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَقِيسُوهُ عَلَى أَشْبَاهِهِ أَوْ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا أُصُولِيًّا فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا فِي مَنْعِهِ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ، أَمَّا كَوْنُهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ، فَلِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ جَوَازِ التَّنَازُعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ قَبْلَ عِلْمِ الْمُتَنَازِعِينَ بِهِ، فَإِذَا تَحَرَّوْا رَدَّ الْمَسْأَلَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِغَيْرِ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا
لَيْسَتْ نَصًّا عَلَى مَنْعِهِ فَلِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِذَا حُمِلَ عَلَى مُمَاثِلِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ مَعَ عِلَّتِهَا بِالنَّصِّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى ذَلِكَ النَّصِّ.
نَعَمْ، إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ عَلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ ـ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ ـ كَمَا نَرَاهُ كَثِيرًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، يَقُولُونَ: هَذَا جَائِزٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ كَذَا، وَمِثْلُهُ الْقِيَاسُ بِالْعِلَلِ الْمُنْتَزَعَةِ عَنْ بُعْدٍ بِالتَّمَحُّلِ الَّذِي يُوجَدُ فِي النَّصِّ مَا يَنْفِيهِ وَلَا يُوجَدُ مَا يُثْبِتُهُ، وَمِنْهُ قِيَاسُ الدَّمِ عَلَى الْبَوْلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا لَمَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ النُّصُوصُ لِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ فِيهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الدِّمَاءَ كَانَتْ تَسِيلُ كَثِيرًا مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَجْسَادِ الطَّاهِرَةِ؛ دِفَاعًا عَنِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَإِعْلَاءً لِكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَفِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقِيَاسِ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَقَدْ قَاسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم وَتَبِعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَلَا يُعَارِضُ ثُبُوتَ الْقِيَاسِ الْعَمَلُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِيَاسَ فِي الدِّينِ بَاطِلٌ بِنَصِّ الْأَحَادِيثِ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَحَدِيثُ: إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ نَصِّ الشَّارِعِ، وَأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ أَلَّا تَكُونَ تَكَالِيفُهَا كَثِيرَةً، فَتَكْثِيرُهَا بِقِيَاسِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَهُ اللهُ فِيهَا مِنَ الْيُسْرِ، وَلِنُصُوصِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ عُمُومِ الْقُرْآنِ ; إِذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ إِلَّا مُبَيِّنًا
لِلْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا
قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (5: 101، 102) ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَفْوِ وَتَأْكِيدُهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْحِلْمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ شَبِيهًا بِالْمَنْصُوصِ، بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ حِينَ كَانَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ ـ أَيْ وَقْتَ شُرِّعَ الدِّينُ لَكَانَ الْجَوَابُ إِلْحَاقَهُ بِالْمَنْصُوصِ وَزِيَادَةَ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَإِنَّمَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ عَفْوًا مِنْهُ تَعَالَى وَرَحْمَةً بِنَا، وَلِنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، وَتَفْسِيرُ رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِهِ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ وَالْأَحَادِيثَ خَاصَّةٌ بِأَمْرِ الدِّينِ الْمَحْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِحَيْثُ يَزِيدُ فِيهَا عِبَادَةً، أَوْ يُحَرِّمُ شَيْئًا لَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَجَرَّأَ عَلَيْهِ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، فَكَمْ قَالُوا ـ وَلَا نَزَالُ نَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ ـ هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، بِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ وَالتَّهَجُّمَ عَلَى شَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يَأْخُذُ الْإِسْلَامَ عَنْهُمْ يَرَاهُ غَيْرَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الْيُسْرِ وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ، يَرَاهُ دِينًا لَا يَكَادُ يُحْتَمَلُ مِنْ شِدَّةِ الضِّيقِ وَالْعُسْرِ وَكَثْرَةِ التَّكَالِيفِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي قَدْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ بِهِ فَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ تَعَالَى الِاجْتِهَادَ فِيهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ كُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا بِالنُّصُوصِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي زَعْمِ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَظْهَرُ مِنْ سَابِقَتِهَا فِي جَعْلِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى ضِدِّ الْمُرَادِ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِأَرْكَانِ الِاجْتِهَادِ وَشَارِعَةٌ لَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ حُجَّةً عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ، فَزَعَمُوا أَنَّ تَفْسِيرَ أُولِي الْأَمْرِ بِالْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ الَّذِينَ فَسَّرُوا بِذَلِكَ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، لَا أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ مُجْتَهِدٍ يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنَّ طَاعَةَ أَفْرَادِ الْمُجْتَهِدِينَ تَتَعَارَضُ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَطَاعَةَ الْجَمِيعِ إِذَا أَجْمَعُوا هِيَ الْمُمْكِنَةُ، عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ غَيْرُ الِاتِّبَاعِ، قَالَ صَاحِبُ " فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ " مَا نَصُّهُ:
" وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُقَلِّدَةُ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالُوا: وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ـ أَيْ مَعًا ـ وَلَكِنْ أَيْنَ هَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْمُقَلِّدِينَ؟ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا إِذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ،
وَأَيْضًا الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا أَرْشَدُوا غَيْرَهُمْ إِلَى تَرْكِ تَقْلِيدِهِمْ، وَنَهَوْهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَطَاعَتُهُمْ تَرْكُ تَقْلِيدِهِمْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى التَّقْلِيدِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ لَكَانَ يُرْشِدُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا طَاعَةَ لَهُ بِنَصِّ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ الْحُجَجَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ هَذَا الْإِرْشَادُ مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ آرَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَهُمْ، فَمَا عَمِلُوا بِهِ عَمِلُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ لَمْ يَعْمَلُوا، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، بَلْ مِنْ شَرْطِ التَّقْلِيدِ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ إِمَامِهِ رَأْيَهُ وَلَا يُعَوِّلَ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَلَا يَسْأَلَهُ عَنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَإِنْ سَأَلَهُ عَنْهُمَا خَرَجَ عَنِ التَّقْلِيدِ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُطَالَبًا بِالْحُجَّةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْأَمْرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةِ الَّذِينَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَعْظَمُ مِمَّا قَالَ، وَالْجَمَاهِيرُ مُتَّبِعَةٌ لَهُمْ مَعَ نَقْلِهِمُ الْإِجْمَاعَ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ جَاهِلٌ لَا رَأْيَ لَهُ وَلَا يُؤْخَذُ بِكَلَامِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَهَافُتَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ـ مَرَاتِبُ الطَّاعَاتِ الثَّلَاثُ فِي الْآيَةِ وَنُكْتَةُ تَكْرَارِ لَفْظَةِ الطَّاعَةِ:
قَدْ رَأَى الْقَارِئُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي نُكْتَةِ تَكْرَارِ لَفْظِ أَطِيعُوا فِي جَانِبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم دُونَ أُولِي الْأَمْرِ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّكْتَةُ ظَاهِرَةً عِنْدِي، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ مَعَ تَكْرَارِ لَفْظِ الطَّاعَةِ وَعَدَمِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا عَسِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ فَرْقٌ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ فَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِعَادَةَ كَلِمَةِ أَطِيعُوا تَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الطَّاعَتَيْنِ، كَأَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى طَاعَةَ مَا نَزَّلَ اللهُ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَالثَّانِيَةُ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَقَدْ يُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ مَا وَرَدَ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْقَضِيَّةِ يُنْظَرُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَقْضِي بِمَا فِيهَا، وَهَذَا مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمْ وَعُمَّالُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَعَبَّرْنَا عَنْهَا بِالْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ، وَعَطَفَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ أَطِيعُوا لِأَنَّهُمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَيْ: إِنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي اجْتِهَادِهِمْ بَدَلٌ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي اجْتِهَادِهِ وَحَالَّةٌ مَحَلَّهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَا لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ كَعِصْمَتِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْمُصْلَحَةَ وَارْتِقَاءَ الْأُمَّةِ وَسَلَامَتَهَا مِنَ الِاسْتِبْدَادِ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ لِنُذَكِّرَ النَّاسَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَقُولُوا بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي اجْتِهَادِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ شَيْئًا مِمَّا عَاتَبَهُمْ فِيهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِمْ وَلَمْ يُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ لِخَلَفِهِمْ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمَزِيَّةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ؟
وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ مِنْ جَعْلِ السُّنَّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَجَّحُ دَائِمًا عِنْدَ التَّعَارُضِ.
هَذَا مَا فُتِحَ بِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ طَبْعِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَكِيمَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَجَلَّى بِهِ مَعْنَاهَا، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ طَاعَةُ اللهِ بِالْعَمَلِ بِكِتَابِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَطَاعَةُ جَمَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ ـ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَرُؤَسَائِهَا الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَهَا ـ فِيمَا يَضَعُونَهُ لَهَا بِالشُّورَى مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَمِنْهَا الصِّحِّيَّةُ وَالْعَسْكَرِيَّةُ، وَإِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَ أُولِي الْأَمْرِ، أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَجَمَاعَاتِهَا فِي شَيْءٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَظْهَرُ لِلْمُتَنَازِعِينَ أَوْ لِمَنْ يُحَكِّمُونَهُمْ فِي فَصْلِ النِّزَاعِ مِنَ النُّصُوصِ، أَوْ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ فِيهِمَا أَوِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ فِيهِمَا، وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الرَّازِيِّ وَالنَّيْسَابُورِيِّ: إِنَّ هَذَا الرَّدَّ خَاصٌّ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّنَازُعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُتَنَازِعُونَ، كَمَا اخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى عُمَرَ فِي الدُّخُولِ
عَلَى مَكَانِ الطَّاعُونِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الَّذِي رَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَلَوْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَبْلَ تَحْكِيمِ عُمَرَ لِمَشَايِخِ قُرَيْشٍ، وَرَوَى لَهُمُ الْحَدِيثَ لَعَمِلُوا بِهِ وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى التَّحْكِيمِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُسْتَقِلُّونَ مَا حَقَّقْنَاهُ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(تَنْبِيهٌ) : تَكَرَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ " النَّصِّ " مُعَرَّفًا وَمُضَافًا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَعْنَى عِبَارِتِهِمَا لَا النَّصِّ الْأُصُولِيِّ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا.
قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" كَانَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فِيهِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، أَوْ سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الْجُلَاسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَرَافِعُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِشْرٌ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ فَدَعَاهُمْ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْكُهَّانِ حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:" كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أُحَاكِمُكَ إِلَى أَهْلِ دِينِكَ، أَوْ قَالَ: إِلَى النَّبِيِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ فَاخْتَلَفَا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْتِيَا كَاهِنًا فِي جُهَيْنَةَ فَنَزَلَتْ " اهـ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْيَهُودَ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إِلَخْ، وَذَكَرَ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ قَدْ خَانُوا بِجَعْلِهِمُ الْكَافِرِينَ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِيمَا يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ مُخْتَارِينَ لَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَبِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فِي مُقَابَلَةِ طَاعَةِ أُولَئِكَ لِلطَّاغُوتِ وَإِيمَانِهِمْ بِهِ، وَبِالْجِبْتِ وَاتِّبَاعِهِمْ لِلْهَوَى.
وَبَعْدَ هَذَا بَيَّنَ لَنَا حَالَ طَائِفَةٍ أُخْرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا، وَمِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ امْتِثَالُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الَّذِي عَلَيْهِ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةً لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَمْنَعُنَا اخْتِلَافُهَا وَتَشَتُّتُ رِوَايَتِهَا أَنْ نَجْزِمَ بِوَاحِدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا نَسْتَرْشِدُ بِمَجْمُوعِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ " الطَّاغُوتَ " مَصْدَرُ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَنْ جَاءَتِ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ بِالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَرَأْتَ آنِفًا، وَمَنْ قَصَدَ التَّحَاكُمَ إِلَى أَيِّ حَاكِمٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالْبَاطِلِ وَيَهْرُبَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالطَّاغُوتِ، وَلَا كَذَلِكَ الَّذِي يَتَحَاكَمُ إِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ يُتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ رَاغِبٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الطَّاغُوتِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ الْكَثِيرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ تَحَاكُمِ الْمُتَخَاصِمِينَ إِلَى الدَّجَّالِينَ كَالْعَرَّافِينَ وَأَصْحَابِ الْمَنْدَلِ وَالرَّمْلِ وَمُدَّعِي الْكَشْفِ، وَيَخْرُجُ الْمُحَكَّمُ فِي الصُّلْحِ، وَكُلُّ مَا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ.
أَقُولُ: وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ مِنْ أَمْرِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَيَأْتُونَ بِمَا يُنَافِي الْإِيمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَأَحْوَالُ الْأُمَمِ تَكُونُ مُتَشَابِهَةً؛ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ أَطْوَارِ الْبَشَرِ، فَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ بِكُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ وَالْعَمَلَ بِمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ تِلْكَ الرُّسُلِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ رَاسِخٍ فِي نَفْسِ مُدَّعِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِضِدِّ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى؟ هَكَذَا كَانَ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ جَمِيعُ الْيَهُودِ حَتَّى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ وَيُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَهَكَذَا كَانَ فِي مُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أَنْزِلُ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرْغَبُونَ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَهَكَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ لَا يَكُونُونَ كُلُّهُمْ عُدُولًا صَادِقِينَ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَا يَكُونُونَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ أَوْ فَاسِقِينَ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَأَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا عُدُولًا، وَالْقُرْآنُ يَصِفُ بَعْضَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُسَجِّلُ عَلَى بَعْضِهِمُ النِّفَاقَ.
وَالزَّعْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقَوْلُ وَالدَّعْوَى، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا أَمْ بَاطِلًا، قَالَ أُمُيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي شِعْرٍ لَهُ:
سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ مَا زَعَمَ
، يُرِيدُ مَا وَعَدَ، وَأَرَى أَنَّ الْقَافِيَةَ اضْطَرَّتْهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ هُنَا، وَمَا هُوَ بِمَكِينٍ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، وَقَالَ اللَّيْثُ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ إِذَا قِيلَ: ذَكَرَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يُسْتَيْقَنُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِذَا شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يَدِرْهُ لَعَلَّهُ كَذِبٌ أَوْ بَاطِلٌ، قِيلَ: زَعَمَ فُلَانٌ كَذَا، وَقِيلَ: الزَّعْمُ الظَّنُّ، وَقِيلَ: الْكَذِبُ، وَكُلُّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ بِنَظَرِ الْقَائِلِ إِلَى بَعْضِ كَلَامِ الْعَرَبِ دُونَ بَعْضٍ، وَالَّذِي يَنْظُرُ فِي مَجْمُوعِ اسْتِعْمَالَاتِهَا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيمَا لَا يُجْزَمُ بِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الزَّعْمُ حِكَايَةُ قَوْلٍ يَكُونُ مَظَنَّةً لِلْكَذِبِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَمُّ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَزِيدُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِهَا، قَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ (64: 7)، وَقَالَ: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ
مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (6: 94)، وَقَالَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ، فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (17: 56) ، وَقَالَ: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (18: 52) ، وَبَقِيَ آيَاتٌ أُخْرَى مُسْتَعْمَلَةً هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، فَلُغَةُ الْقُرْآنِ أَنَّ الزَّعْمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الزَّاعِمِينَ وَلَا يُقِرُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ فِي التَّنْزِيلِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ، فَهَذَا التَّنْزِيلُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِنَصِّ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (1: 36) ، الْآيَةَ، وَهِيَ نَصٌّ فِي أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَتْبَاعَهُ بِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى (2: 256) ، إِلَخْ الْآيَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ تَدَّعِي أَلْسِنَتُهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، وَتَدُلُّ أَفْعَالُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَإِيمَانِهِمْ بِالطَّاغُوتِ وَإِيثَارِهِمْ لِحُكْمِهِ.
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ ـ الَّذِي هُوَ دَاعِيَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ ـ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَقِّ مَسَافَةً بَعِيدَةً فَيَكُونَ ضَلَالُهُمْ عَنْهُ مُسْتَمِرًّا؛ لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ بُعْدِهِمْ عَنْهُ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَحَاكِمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ؟ قَالَ: تِلْكَ عُقُوبَةٌ عُوقِبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ خَرَجُوا عَنْ هِدَايَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ فَإِذَا كُنَّا قَدْ تَرَكْنَا هَذِهِ الْهِدَايَةَ لِلْقِيلِ وَالْقَالِ وَآرَاءِ الرِّجَالِ مِنْ قَبْلِ أَنْ نُبْتَلَى بِهَذِهِ الْقَوَانِينِ وَمُنَفِّذِيهَا، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ آرَاءِ فُلَانٍ وَآرَاءِ فُلَانٍ وَكُلُّهَا آرَاءٌ مِنْهَا الْمُوَافِقُ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا الْمُخَالِفُ لَهَا؟ وَنَحْنُ الْآنَ مُكْرَهُونَ عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى يُقَالُ فِيهِ، أَيْ: فِي أَهْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ (16: 106) ، الْآيَةَ، وَانْظُرْ إِلَى مَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْنَا
إِلَى الْآنَ كَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ الْوَالِدِينَ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ فَهَلْ نَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؟ إِذَا تَنَازَعَ عَالِمَانِ مِنَّا فِي مَسْأَلَةٍ، فَهَلْ يَرُدَّانِهَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ أَمْ يَرُدَّانِهَا إِلَى قِيلٍ وَقَالَ؟ فَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الْحَمَلُ، وَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الصَّاوِي، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، انْتَهَى مَا كَتَبَهُ عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَكَتَبْتُ فِي آخِرِهِ يَوْمَئِذٍ " يُحَرَّرُ الْمَوْضُوعُ " وَمُرَادُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ مَعَ وُجُودِ نَصٍّ فِيهَا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ، أَوْ مَا قَضَى بِهِ صلى الله عليه وسلم بِإِذْنِ اللهِ عز وجل، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَرَكُوا مَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَفِي رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهِمَا، بَلْ عَمِلُوا بِآرَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ، وَيُسَمُّونَهُمْ عُلَمَاءَ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ نَصُّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُخَالِفًا لَهُ، وَيُحَرِّمُونَ الرُّجُوعَ إِلَى هَذِهِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْمَمْنُوعِ عِنْدَهُمُ الَّذِي يُعَدُّ الْمُتَصَدِّي لَهُ ضَالًّا مُضِلًّا فِي نَظَرِهِمْ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ اجْتِنَابُ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَرَأْيٍ أَنْ سَلِسَ الْمُسْلِمُونَ لِحُكَّامِهِمْ فِي مِثْلِ مِصْرَ، حَتَّى انْتَقَلُوا بِهِمْ مِنَ الْحُكْمِ يَقُولُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْفِقْهِ وَيَأْخُذُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمُ ابْتِدَاءً ـ وَافَقَ
نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمْ خَالَفَهَا ـ إِلَى الْحُكْمِ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ وَاضِعِي الْقَوَانِينِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَحَاكِمُونَ إِلَى رِجَالِ الْقَانُونِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْآنَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْكِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِي مَحَاكِمِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْكِيمِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ ; لِأَنَّهُمْ فِي هَذَا تَحْتَ سَيْطَرَةِ الْأَجَانِبِ الْأَقْوِيَاءِ، وَأَمَّا فِي ذَاكَ فَلَيْسُوا تَحْتَ سَيْطَرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، فَإِذَا أَرَادَ عُلَمَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِيهِمْ ذَلِكَ نَفَذَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ وَالَّذِينَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْقَوَانِينَ الْمِصْرِيَّةَ يُوَافِقُونَ فِي أَكْثَرِهَا الشَّرْعَ وَيَبْنُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِحَسَبِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُلْصِقُونَ رَأْيَهُمْ بِالشَّرْعِ كَالْفُقَهَاءِ، وَمُرَاعَاةُ الْمُصْلِحَةِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي الْمَنْصُوصِ وَفِي الْمَوْكُولِ إِلَى الرَّأْيِ، وَالنَّاسُ يَقْبَلُونَ آرَاءَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْفِقْهِ، وَلَوْ فِيمَا يُخَالِفُ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; لِأَنَّهُمْ يُلْصِقُونَهَا بِالشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ يَدَّعُونَ أَنَّهَا اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَكِنْ لَا اجْتِهَادَ مَعَ النَّصِّ، وَرُبَّمَا كَانَ
الْعَامِلُ بِالرَّأْيِ ـ لَا يُسَمِّيهِ دِينًا ـ أَقَلَّ جِنَايَةً عَلَى الشَّرْعِ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ يُسَمِّيهِ دِينًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَ أَحَدٍ، أَوْ يَعْمَلُوا بِرَأْيِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ حُكْمٌ فِي كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَةِ، إِلَّا فِيمَا رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ، وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِمَا فَالْعَمَلُ فِيهِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِشَرْطِهِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ دَائِمًا بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ لِكُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، هَذَا هُوَ مَا كَانَ يُرِيدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْعِبَارَةِ الَّتِي قَالَهَا فِي دَرْسِهِ بِالْأَزْهَرِ، وَمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ، نَعَمْ إِنَّ مَنْ يَضَعُونَ الْأَحْكَامَ لِمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُشْتَرَطُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالنُّصُوصِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَعِلَلِهَا حَتَّى لَا يُخَالِفُوهَا وَلِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ رَدُّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهَا، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ بِهَذَا أَيْضًا.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ نِفَاقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ كِتَابِ اللهِ، وَحُكْمِ رَسُولِهِ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَحُكْمُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا مَا بُيِّنَتِ الدَّعْوَى عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِهِ بِشَرِيعَتِهِ فَقَدْ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ بِجَهْلِ الْقَاضِي بِالْحُكْمِ، أَوْ بِتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى، يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ لِنَعْمَلَ بِهِ وَنُحَكِّمَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَإِلَى الرَّسُولِ لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا بِمَا أَرَاهُ اللهُ، رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ أَيْ رَأَيْتَهُمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ ـ جَاءَ بِالظَّاهِرِ بَدَلَ الضَّمِيرِ لِيُبَيِّنَ حَالَهُمْ وَحَالَ أَمْثَالِهِمْ بِالنَّصِّ وَيُبْنَى عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَثَرُهُ ـ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا
أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ وَيَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِكَ إِعْرَاضًا مُتَعَمَّدًا مِنْهُمْ، وَهُوَ هُنَا مِنْ " صَدَّ " اللَّازِمِ، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَنْ صَدَّ وَأَعْرَضَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَمْدًا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ دَعْوَتِهِ إِلَيْهِ وَتَذْكِيرِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَافِقًا لَا يُعْتَدُّ بِمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيمَا اسْتَبَانَ حُكْمُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ وَوُعِظُوا بِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى
هَذَا الصُّدُودِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهَوَاتِهِمْ، وَأُلْفَتُهُمْ لِلْبَاطِلِ، وَعَدُوُّ الْحَقِّ يُعْرِضُ عَنْهُ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، قَالَ: ثُمَّ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ سَخَافَتَهُمْ وَجَهْلَهُمْ وَعَدَمَ طَاقَتِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى هَذَا الصُّدُودِ، فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَخْ، أَيْ لَوْ عَقَلُوا لَالْتَزَمُوا مَا أَظْهَرُوا قَبُولَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِيمَانِ لَيَتِمَّ لَهُمُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ التى اخْتَارُوا فِيهَا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ لَا تَدُومُ لَهُمْ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْهَا فَيَقَعُوا فِي مُصَابٍ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْتَذِرُوا عَنْ صُدُودِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ إِذَا أَطْلَعَكَ اللهُ عَلَى شَأْنِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَهُمْ يُكَذِّبُ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ؟ إِنَّهُمْ إِذَنْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ وَالْإِذْلَالَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ بِشَارَةً بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ سَيَقَعُونَ فِي مُصِيبَةٍ تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَكْشِفُ سِرَّهُمْ، وَهَلْ يَتُوبُونَ حِينَئِذٍ وَيَجِيئُونَكَ أَمْ لَا؟ وَيَقُولُ غَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِشَيْءٍ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ نَاجِزٌ لِأَمْرِهِمْ، وَإِيذَانٌ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَإِرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، مُسْتَحِقُّونَ لِمَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام.
أَقُولُ: أَشَارَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَنَاقَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَهْمٌ شَاذٌّ فَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَالْمَعْنَى: رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِلَخْ.
أَيْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَيْكَ يَصُدُّونَ عَنْكَ فِي غَيْبَتِكَ، ثُمَّ يَجِيئُونَكَ يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ فِي حَضْرَتِكَ، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ! أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَالشِّدَّةِ! وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْوَاحِدِيَّ قَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَأَقُولُ: لَا عَجَبَ إِذَا اخْتَارَهَا وَإِنْ كَانَ النَّظْمُ الْكَرِيمُ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَقَدْ خَطَرَتْ فِي بَالِ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَهْمًا لِلْكَلَامِ، وَهَلْ عَثَرَ مُتَقَدِّمٌ عَثْرَةً وَلَمْ يَعْثُرْ وَرَاءَهُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَوْ تَكَلُّفًا لِلْعِثَارِ؟ ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ الْكَلَامَ هُنَا عَلَى مَعْنَى
الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةً، وَخَلَطَ بِهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعْدِ
بِبَيَانِ نِفَاقِهِمْ، وَإِغْرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعِقَابِهِمْ، وَفِي الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ مِنْهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَسُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَسُّعِ الَّذِي يَضِيعُ مَعَهُ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ:
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ حَالُهُمْ وَحَالُ أَمْثَالِهِمْ؟ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي أَمْرِهِمْ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ! أَيْ مَا عَمِلُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ بِبَاعِثِ النِّفَاقِ الظَّاهِرِ، وَالْخُبْثِ الْبَاطِنِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارٌ سَيِّئَةٌ، وَتَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ ضَارَّةٌ لَا يُمْكِنُ كِتْمَانُهَا، وَلَا يَسْتَغْنِي صَاحِبُهَا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ فِيهَا بِقَوْمِهِ وَأَوْلِيَاءِ أَمْرِهِ، فَالْآيَةُ تُنْذِرُ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِ النِّفَاقِ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالِاعْتِذَارِ لَهُ وَالْحَلِفِ عَلَى ذَلِكَ لِيُصَدِّقَهُ، فَإِنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ، أَوْ كَيْفَ تُعَامِلُهُمْ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ عِلْمِكَ بِمَا كَانَ مِنْ صُدُودِهِمْ عَنْكَ فِي وَقْتِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْكَ، هَلْ تَعْطِفُ عَلَيْهِمْ وَتَقْبَلُ قَوْلَهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمُ الْمُصِيبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا بِارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا؟ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، أَيْ: يُخَادِعُونَكَ بِالْحَلِفِ بِاللهِ إِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِمَا عَمِلُوا مِنَ الصُّدُودِ أَوْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْمُصِيبَةُ إِلَّا إِحْسَانًا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَوْفِيقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَصْمِهِمْ بِالصُّلْحِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِمُرِّ الْحَقِّ لَا تُرَاعِي فِيهِ أَحَدًا، فَلَمْ نَرَ ضَرَرًا فِي اسْتِمَالَةِ خُصُومِنَا بِقَبُولِ حُكْمِ طَوَاغِيتِهِمْ، وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مَنْفَعَتِنَا وَمَنْفَعَتِهِمْ.
سَأَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ كَيْفَ تَكُونُ الْمُعَامَلَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَمْهِيدًا لِبَيَانِ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْحِقْدِ وَالْكَيْدِ تَرَبُّصَ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِيُظْهِرُوا عَدَاوَتَهُمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ أَيْ فَظَاعَتِهِ وَكِبَرِهِ، وَلَا يَزَالُ مِثْلُهَا مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يَعْظُمُ شَأْنُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَمَسَرَّةٍ وَحُزْنٍ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُحِبُّهُ وَيَحْفَظُ وُدَّهُ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي لَكَ، أَيْ:
وَيَقُولُ فِي الْعَدُوِّ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَبِيرٌ جِدًّا لَا يَعْرِفُهُ كَمَا هُوَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيِ: اصْرِفْ وَجْهَكَ عَنْهُمْ وَلَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ وَعِظْهُمْ بِبَيَانِ سُوءِ حَالِهِمْ لَهُمْ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَهُ فِيهَا.
أَقُولُ: أَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ فَهُوَ يُحْدِثُ فِي نُفُوسِهِمُ الْهَوَاجِسَ وَالْخَوْفَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَسْبَابِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَلَا جَازِمِينَ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الْوَحْيِ ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يَحْذَرُونَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَوْا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَعْذَارِهِمُ الْمُؤَكَّدَةِ بِأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ وَالْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ الظُّنُونَ: لَعَلَّهُ عَرَفَ مَا نُسِرُّ فِي نُفُوسِنَا، لَعَلَّ سُورَةً نَزَلَتْ نَبَّأَتْهُ بِمَا فِي قُلُوبِنَا، لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَاخِذَنَا بِمَا فِي بَوَاطِنِنَا، وَهَذِهِ الظُّنُونُ تَعِدُهُمُ التَّأَمُّلَ فِيمَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَعْظِ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي [ص 321 ج2 طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ] ، ـ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا فَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، كَأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ فِي عَقَائِدِهَا، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الْأَعْمَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِرْآةُ الْبَاطِنِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الذَّبْذَبَةَ لَمْ تَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ فِيمَا يُهِمُّهُمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِهَا فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ، وَهَمٍّ مُلَازِمٍ، وَهِيَ شَرٌّ لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَقِيلَ: فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَاهُ فِي السِّرِّ دُونَ الْمَلَأِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي السِّرِّ يَبْلُغُ مِنَ النَّفْسِ مَا لَا يَبْلُغُهُ الْكَلَامُ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ خَالِيًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِكَ مَا يَشْغَلُ غَيْرَهُ مِنْ ذَهَابِ نَفْسِهِ وَرَاءَ تَأْثِيرِ حَدِيثِكَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الَّذِينَ سَمِعُوهُ: هَلْ يَحْتَقِرُونَهُ بِهِ، هَلْ يُحَدِّثُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ؟ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَأَنْ يَقُولَ إِذَا قِيلَ
لَهُ فِيهِ أَوِ احْتُقِرَ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يَغُوصُ فِيهَا وَيَبْلُغُ غَايَةَ مَا يُرَادُ بِهِ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَذْهَبَهُمْ - وَلَا سِيَّمَا فِي الْجَوَازِ وَاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ - وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَهُ إِلَّا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَامِلِ، وَتَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فِي الظُّرُوفِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ ثَالِثٌ، فَالْوَعْظُ: النُّصْحُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ: مَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمُعَامَلَتِهِمْ فِيهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ طُولَهُ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ.
وَفِي الْآيَةِ شَهَادَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَتَفْوِيضُ أَمْرِ الْوَعْظِ وَالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ بِاخْتِلَافِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهِيَ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْحِكْمَةِ وَوَضْعِ الْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَا بِمَعْنَى إِيتَاءِ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ فَضِيلَةً إِلَّا وَأُوتِيَ مِثْلَهَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَشَهَادَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَإِنَّمَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَشْهُورًا بَيْنَ قَوْمِهِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْ مَظْهَرِ فَصَاحَتِهِمْ وَبَلَاغَتِهِمْ وَهُوَ الشِّعْرُ وَالْخَطَابَةُ
وَالْمُمَاتَنَةُ ـ الْمُغَالَبَةُ ـ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ، وَإِنَّمَا صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّتُهُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْبَلَاغَةِ أَظْهَرَ وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَمَرَّنَ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَزَاوَلَهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ حَتَّى ارْتَقَى فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْقِمَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي لَا يُطَاوَلُ فِيهَا، هَذِهِ هِيَ حُجَّتُنَا الْمُؤَيَّدَةُ بِسِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مَعْدُودًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي بُلَغَاءِ الْقَوْمِ بِالشِّعْرِ وَلَا الْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْفُلُ بِمُفَاخَرَاتِهِمْ وَمُمَاتَنَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالصِّدْقِ، وَأَمَّا دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا كَالْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا قَدْ كَمَّلَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا وَبِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا فَنُصُوصُ الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي مِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (4: 113) .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: " وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ وَبَلَاغَةُ الْقَوْلِ فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ سَلَاسَةَ طَبْعٍ، وَبَرَاعَةَ
مَنْزَعٍ، وَإِيجَازَ مَقْطَعٍ، وَنَصَاعَةَ لِفَظٍّ، وَجَزَالَةَ قَوْلٍ، وَصِحَّةَ مَعَانٍ، وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ، أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَعَلِمَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ، يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا، وَيُحَاوِرُهَا بِلُغَتِهَا، وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا، حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شَرْحِ كَلَامِهِ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ تَأَمُّلِ حَدِيثِهِ وَسِيَرِهِ، عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ، وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ كَكَلَامِهِ مَعَ ذِي الْمِعْشَارِ الْهَمْدَانِيِّ وَطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ، وَقَطَنِ بْنِ حَارِثَةَ الْعُلَيْمِيِّ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ وَمُلُوكِ الْيَمَنِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُتَمِّمٌ لِسِيَاقِ وُجُوبِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُؤْثِرُ عَلَيْهِ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَنْبَغِي لِلرَّسُولِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ
فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ لِلْمَقْتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضُوا بِحُكْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّنَا أَرْسَلْنَا هَذَا الرَّسُولَ عَلَى حُكْمِنَا، وَسُنَّتُنَا فِي الرُّسُلِ قَبْلَهُ أَنَّنَا لَا نُرْسِلُهُمْ إِلَّا لِيُطَاعُوا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ صَدَّ عَنْهُمْ وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمْ، أَوْ رَغِبَ عَنْ حُكْمِهِمْ كَانَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِنَا وَسُنَّتِنَا فِيهِمْ مُرْتَكِبًا أَكْبَرَ الْآثَامِ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللهِ لِلِاحْتِرَاسِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ قُيُودِ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةِ الذَّاهِبَةِ بِظُنُونِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ الرَّسُولَ يُطَاعُ لِذَاتِهِ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ، فَهُوَ عز وجل يَقُولُ: إِنَّ الطَّاعَةَ الذَّاتِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ
تَعَالَى رَبِّ النَّاسِ وَخَالِقِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ تُطَاعَ رُسُلُهُ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ بِإِذْنِهِ وَإِيجَابِهِ.
أَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ رَسُولٍ أَبْلَغُ فِي اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: " وَمَا أَرْسَلْنَا رَسُولًا "، فَكُلُّ رَسُولٍ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِيجَابُ طَاعَةِ الرَّسُولِ تُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ ; فَالرَّسُولُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا لِشَرِيعَةٍ.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْإِذْنَ بِالْإِرَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ، وَهُوَ مِمَّا تُجَادِلُ فِيهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْجِدَالِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ إِعْلَامٌ بِإِجَازَتِهِ وَالرُّخْصَةِ فِيهِ نَحْوَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ اهـ، وَقَوْلُهُ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ وَإِلَّا فَالْإِذْنُ فِي اللُّغَةِ كَالْأَذَانِ وَالْإِيذَانِ لِمَا يُعْلَمُ بِإِدْرَاكِ حَاسَّةِ الْأُذُنَيْنِ أَيْ: بِالسَّمْعِ، فَقَوْلُهُ: لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ مَعْنَاهُ بِإِعْلَامِهِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ وَحْيُهُ وَطَرَقَ آذَانَكُمْ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ هَذَا السِّيَاقِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَمَا صَرَفَ الرَّازِيَّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيهِيِّ إِلَّا انْصِرَافُ ذَكَائِهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْجُبَّائِيِّ دُونَ فَهْمِ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا بِمَا تُعْطِيهِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى.
وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِطَاعَتِهِمْ مُطْلَقًا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلَوْ أَتَوْا بِمَعْصِيَةٍ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِطَاعَتِهِمْ فِيهَا، فَتَكُونُ بِذَلِكَ وَاجِبَةً، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ أَوْ يَحْكُمُونَ بِهِ، فَالْمُمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمُوا أَوْ يَأْمُرُوا بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا أَفْعَالُهُمُ الَّتِي لَمْ يَأْمُرُوا بِهَا وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهَا فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ فِي نَفْسِهَا، كَالتَّهَجُّدِ الَّذِي كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا خَصَائِصُ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ.
وَمِنْ أَوَامِرِهِ وَأَحْكَامِهِ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعَةِ، أَوِ الدَّعْوَى وَحْيٌ مُنَزَّلٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِيهِ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ
فِيهِ، وَقَدْ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم
فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَسْأَلَةِ الْإِذْنِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَكِنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ لَيْسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي شَيْءٍ، فَهُوَ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ مُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، أَيْ وَلَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنْ حُكْمِكَ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ عِنْدَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ، مِنْ ذَنْبِهِمْ وَنَدِمُوا أَنِ اقْتَرَفُوهُ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، أَيْ دَعَا اللهَ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُمْ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا أَيْ لَتَقَبَّلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَتَمَّ الْقَبُولِ وَأَكْمَلَهُ، وَتَغَمَّدَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَغَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِهِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ كَثِيرًا مَهْمَا عَادَ صَاحِبُهَا، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَوَّابٍ رَحِيمٍ، وَإِنَّمَا قُرِنَ اسْتِغْفَارُهُمُ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ تَوْبَتِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ هَذَا لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ لَمْ يَتَعَدَّ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ فَيَكْفِي فِيهِ تَوْبَتُهُمْ، بَلْ تَعَدَّى إِلَى إِيذَاءِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولٌ لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَكَانَ لَا بُدَّ فِي تَوْبَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ؛ لِيَصْفَحَ عَنْهُمْ فِيمَا اعْتَدَوْا بِهِ عَلَى حَقِّهِ، وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ حُكْمِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ تَعْرِفُ نُكْتَةَ وَضْعِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ قَالَ: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، وَلَمْ يَقُلْ:" وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ "، فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي وَحْيِهِ وَمَا هَدَاهُ إِلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا فِي مَعْصِيَتِهِمْ عَلَى حُقُوقِهِ الشَّخْصِيَّةِ كَأَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقَالَ: وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَلَا صَحِيحَةً إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْضَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نُكْتَةَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِجْلَالَ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيذَانَ بِقَبُولِ اسْتِغْفَارِ صَاحِبِ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَعَدَمِ رَدِّ شَفَاعَتِهِ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ وَالْمَنْصِبُ هُوَ هُوَ فِي شَرَفِهِ وَعُلُوِّهِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا وَإِنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ
لَهُ فِيهِمْ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (9: 80) ، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ تَكُونُ مَقْبُولَةً حَتْمًا إِذَا كَمُلَتْ شَرَائِطُهَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَقِبَ الذَّنْبِ كَمَا يَدُلُّ الشَّرْطُ، وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ (4: 17) ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى تَرْكَ طَاعَةِ الرَّسُولِ ظُلْمًا لِلْأَنْفُسِ أَيْ إِفْسَادًا لِمَصْلَحَتِهَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هَادٍ إِلَى مَصَالِحِ النَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَهَذَا الظُّلْمُ يَشْمَلُ الِاعْتِدَاءَ وَالْبَغْيَ وَالتَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالِاسْتِغْفَارُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ، وَعَزْمُ التَّائِبِ عَلَى اجْتِنَابِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْعَوْدِ إِلَيْهِ مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ عَقِبَ الذَّنْبِ مِنْ دُونِ هَذَا التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ فَلَيْسَ اسْتِغْفَارًا حَقِيقِيًّا.
أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِلَفْظِ: " أَسْتَغْفِرُ اللهَ " لَا يُعَدُّ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ الْحَقِيقِيَّ يَنْشَأُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْعُرَ الْقَلْبُ أَوَّلًا بِأَلَمِ الْمَعْصِيَةِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهَا، وَبِالْحَاجَةِ إِلَى التَّزَكِّي مِنْ دَنَسِهَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مِنَ التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ إِلَى اللهِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعَزْمِ الْقَوِيِّ عَلَى اجْتِنَابِ سَبَبِ هَذَا الدَّنَسِ، وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَأَلِّمًا مِنَ الْقَذَرِ الْحِسِّيِّ مَنْ أَلِفَهُ وَعَرَّضَ بَدَنَهُ لَهُ إِذَا طَلَبَ غَسْلَهُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُ الِالْتِيَاثَ بِهِ وَلَا يَدْنُو مِنَ الْمَاءِ؟
وَقَالَ فِي اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مُشَارَكَةَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الدُّعَاءِ مَسْنُونَةٌ، وَأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرَعِ مِمَّا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْوَاحِدِ، فَدُعَاءُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ إِنْ كَانَ كُلُّ دَاعٍ مَوْعُودًا بِالِاسْتِجَابَةِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ: إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى، وَالْإِجَابَةُ الَّتِي وَعَدَ بِهَا: هِيَ الْإِثَابَةُ وَحُسْنُ الْجَزَاءِ، فَمَتَى أَخْلَصَ الدَّاعِي أَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي الدَّاءِ أَرْجَى لِلْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِينَ الْكَثِيرِينَ لِشَخْصٍ يُؤَدُّونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ بِسَبَبِهِ، أَيْ أَنَّ ذَنْبَهُ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ فِي شُعُورِهِمْ وَإِحْسَاسِهِمْ كُلِّهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالِاتِّحَادِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّ حَاجَتَهُ حَاجَتُهُمْ كُلِّهِمْ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الدَّاعِيَ وَالْمُسْتَغْفِرَ
لِأُولَئِكَ التَّائِبِينَ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ اسْتِغْفَارِهِمْ هُمْ، فَذَلِكَ مِنَ اشْتِرَاكِ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ مَعَ قُلُوبِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَطْهِيرِ اللهِ لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الذَّنْبِ وَطَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَنَاهِيكَ بِقُرْبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ رِضًا كَامِلًا، بِحَيْثُ يَشْعُرُ قَلْبُهُ الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِحَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَغْفِرَةِ لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، فَذَنْبُهُمْ ذَلِكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِضَمِّ اسْتِغْفَارِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ ذَنْبٍ كَذَلِكَ، بَلْ يُكْتَفَى فِي سَائِرِ الذُّنُوبِ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ حَيْثُ كَانَ، وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الذَّنْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ بُعْدُ مَنْ قَاسَ كُلَّ ذَنْبٍ عَلَى ذَنْبِ الرَّغْبَةِ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَإِيثَارِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَاسَ كُلَّ مُذْنِبٍ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ كُلِّ مُذْنِبٍ إِلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ وَاسْتِغْفَارَهُ عِنْدَهُ كَمَجِيءِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ لِيَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ.
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، وَالسِّيَاقُ مُحْكَمٌ مُتَّسِقٌ وَإِنْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا خَاصَّةً لِنُزُولِهَا، أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِرُبُوبِيَّتِهِ
لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مُخَاطِبًا لَهُ فِي ذَلِكَ خِطَابَ التَّكْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَسَمِ يُعَدُّ تَكْرِيمًا، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تُقْسِمُ بِرَبِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا غَضِبَتْ مَرَّةً أَقْسَمَتْ بِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ بَعْدَ رِضَاهَا، فَقَالَتْ:" إِنَّمَا أَهْجُرُ اسْمَكَ "، أَقْسَمَ تَعَالَى بِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْثَالَهُمْ، وَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْإِيمَانَ زَعْمًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَحِيحًا حَقِيقِيًّا ـ وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ ـ إِلَّا بِثَلَاثٍ:
الْأُولَى: أَنْ يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: فِي الْقَضَايَا الَّتِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا وَيَشْتَجِرُونَ فَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَقُّ فِيهَا لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، بَلْ يَذْهَبُ كُلٌّ مَذْهَبًا فِيهِ، فَمَعْنَى شَجَرَ: اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ فِيهِ، قِيلَ: إِنَّ شَجْرًا ـ مَصْدَرُ شَجَرَ ـ، وَالتَّشَاجُرُ وَالِاشْتِجَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الْمُتَدَاخِلِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سُمِّيَ الشَّجَرُ شَجَرًا لِاشْتِجَارِ أَغْصَانِهِ وَتَدَاخُلِهَا ـ وَقِيلَ: مِنَ الشِّجَارِ ـ كَكِتَابٍ ـ وَهُوَ خَشَبُ الْهَوْدَجِ لِاشْتِبَاكِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّجَرِ ـ بِالْفَتْحِ ـ وَهُوَ مَفْتَحُ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنَاسِبَةٌ، وَتَحْكِيمُهُ تَفْوِيضُ أَمْرِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ الْحَرَجُ: الضَّيقُ، وَالْقَضَاءُ: الْحُكْمُ، وَزَعَمُ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَهَذَا مِنْ دَعَاوِيهِمُ الَّتِي يَتَجَرَّءُونَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلَا عِلْمٍ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تُذْعِنُ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِكَ وَحُكْمِكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا ضِيقٌ وَلَا امْتِعَاضٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَيْهَا الْأَلَمُ وَالْحَرَجُ إِذَا خَسِرَتْ مَا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الْفَوْزِ، وَالْحُكْمِ لَهَا بِالْحَقِّ الْمُخْتَصَمِ فِيهِ، عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنِ الْحَرَجِ يُفَاجِئُ النَّفْسَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى وَجَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى التَّرَاخِي فَعَطَفَهُ بِـ ثُمَّ وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِحُكْمِ الرَّسُولِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُ فِيهِ، وَالسَّعَادَةَ فِي الْإِذْعَانِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ فِي إِيمَانِهِ ضَعْفٌ مَا ضَاقَ صَدْرُهُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ بِالذِّكْرَى وَيَنْحَى عَلَيْهَا بِاللَّوْمِ حَتَّى تَخْشَعَ وَتَنْشَرِحَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْهَوَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَفْيِ وِجْدَانِ الْحَرَجِ عَدَمُ الشَّكِّ فِي حَقِّيَّةِ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمُرِّ الْحَقِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، قَالَ هَذَا مَنْ قَالَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ ; لِأَنَّ وِجْدَانَ الْقَلْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الصَّوَابُ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا التَّسْلِيمُ هُنَا: الِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ
حَقِّيَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضِيقًا مِنْهُ يَنْقَادُ لَهُ بِالْفِعْلِ وَيُنَفِّذُهُ طَوْعًا، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مُؤَاخَذَةً فِي الدُّنْيَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى عَدَمِ مُعَارَضَةِ هَذَا بِفَتْوَاهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (9: 43)، وَقَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى (80: 1) ، إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ
مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ (66: 1) ، وَأَحَالَ عَلَى تَأْوِيلِهِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَشَكَّ فِي عِصْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُكْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ بِحَسَبِ صُورَةِ الدَّعْوَى وَظَاهِرِهَا لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَفِي مَعْنَاهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللهُ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ وَصَحَّحُوهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّهُ الرَّأْيُ هَلْ هُوَ عَنْ وَحْيٍ أَوْ رَأْيٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَطَاعُوا وَسَلَّمُوا تَسْلِيمًا، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا ذَكَرُوا مَا عِنْدَهُمْ، وَرُبَّمَا رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَيَا لَلَّهِ مَا أَكْمَلَ هَدْيَهُ، وَمَا أَجْمَلَ تَوَاضُعَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأُولَئِكَ الصَّحْبِ الْكَامِلِينَ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارَضُ وَلَا يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ، فَمَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَرَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ قِيَاسِهِ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطِيعٍ الرَّسُولَ، وَلَا مِمَّنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَمُخَالَفَةُ نَصِّ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ بِالْأَوْلَى عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ حُكْمُ اللهِ أَوْ حُكْمُ رَسُولِهِ فِي شَيْءٍ وَتَرَكَهُ إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَتَقَلَّدُ مَذْهَبَهُمْ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ عز وجل، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتْبَعَ الْعُلَمَاءَ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ يَتَّخِذَهُمْ شَارِعِينَ، وَيُقَدِّمَ أَقْوَالَهُمْ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ الْمَنْصُوصَةِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهُمْ بِتَلَقِّي هَذِهِ النُّصُوصِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى فَهْمِهَا لَا فِي آرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْمُعَارِضَةِ لِلنَّصِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ
عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَإِذَا
حَكَمَ لَكَ بِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ صَارَ حَلَالًا لَكَ أَنْ تَأْكُلَهُ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَنَّ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَحَدٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الدَّعْوَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ إِذَا أَخَذَهَا، فَمَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ عِنْدَهُ نَصٌّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْسَخُهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالِاحْتِمَالِ، وَبَقِيَ مُقَلِّدًا لِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ يَسْتَحِلُّ مَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا مُتَّصِفًا بِالْخِصَالِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ إِلَخْ، تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَهُوَ نَفْيٌ وَإِبْطَالٌ لِظَنِّ الظَّانِّينَ أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ يَكُونُونَ صَحِيحِي الْإِيمَانِ مُسْتَحِقِّينَ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهَا، لَا وَرَبِّكَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونُوا مُوقِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مُذْعِنِينَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، وَلَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَطَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الضِّيقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَاضِعًا لِلْحُكْمِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يُلَازِمُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَخْضَعْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي شَيْءٍ إِلَّا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرْضَى بِالْحَقِّ مَتَى عَرَفَهُ وَزَالَتِ الشُّبْهَةُ عَنْهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ فَحُكْمُ الرَّسُولِ يُرْضِيهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ مَنْ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ.
أَقُولُ: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَقَدْ أَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ مِنْهُ فِي لُبَابِ النُّقُولِ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ أَيِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْعَبَ الزُّبَيْرُ حَقَّهُ وَكَانَ كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلَّا وَرَبِّكَ
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْأَسْفَلُ، وَهَذِهِ عَيْنُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُخْتَصَرَةٌ، وَفِيهَا جَزْمٌ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنَ الرُّوَاةِ لِانْطِبَاقِ الْآيَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ.
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ وَالسِّيَاقُ لَمْ يَنْتَهِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ عَائِدٌ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ، إِذِ الْأَحْكَامُ لَيْسَتْ مَنُوطَةً بِذَوَاتِ الْمُكَلَّفِينَ وَشُخُوصِهِمْ، بَلْ بِصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَيْ: لَوْ أَمَرْنَاهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ أَيْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ الْمُحَقَّقِ أَوِ الْمَظْنُونِ ظَنًّا رَاجِحًا، وَقِيلَ: قَتْلُهَا هُوَ الِانْتِحَارُ، كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ تَوْبَةً إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوْ قُلْنَا لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ أَيْ: أَوْطَانِكُمْ وَهَاجِرُوا إِلَى بِلَادٍ أُخْرَى مَا فَعَلُوهُ أَيِ: الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْهِجْرَةِ مِنَ الْوَطَنِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " قَلِيلًا " بِالنَّصْبِ، قَالُوا: وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَمُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ ـ وَإِعْرَابُهُمَا ظَاهِرٌ ـ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ هُوَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالسَّهْلِ وَالشَّاقِّ، وَلَوْ قَتْلُ النَّفْسِ وَالْخُرُوجُ مِنَ الدَّارِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ ; لِأَنَّ الْجِسْمَ دَارُ الرُّوحِ، وَالْوَطَنَ دَارُ الْجِسْمِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ
وَغَرَضَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى نَارِ الْفِتْنَةِ ـ رِيَاءً وَتَقِيَّةً ـ فَيُطِيعُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ التَّعَرُّضُ لِلْقَتْلِ، وَالْجَلَاءُ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأَهْلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ (28) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ كَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ لَعَصَى الْكَثِيرُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُطِعْ إِلَّا الْقَلِيلُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ رِضْوَانَ اللهِ عَلَى حُظُوظِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَكْتُبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، بَلْ أَرْسَلْنَا خَاتَمَ رُسُلِنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي تَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ
فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِالضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ أَنْ عَصَوُا الرَّسُولَ، وَاتَّبَعُوا الطَّاغُوتِ، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَقْرُونَةِ بِحُكْمِهَا، وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ صَدَّ عَنْهَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي حِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَاعْتِزَازِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِقَاءِ أُمَّتِهِمْ، وَفِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، التَّثْبِيتُ: التَّقْوِيَةُ بِجَعْلِ الشَّيْءِ ثَابِتًا رَاسِخًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ وَإِتْيَانُ الْأُمُورِ الْمَوْعُوظُ بِهَا فِي الدِّينِ يَزِيدُ الْعَامِلَ قُوَّةً وَثَبَاتًا ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ الْمُبْهَمُ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، وَهِيَ الَّتِي تَطْبَعُ الْأَخْلَاقَ وَالْمَلِكَاتِ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ، وَتُبَدِّدُ الْمَخَاوِفَ وَالْأَوْهَامَ مِنْ نَفْسِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْبِرِّ آيَةٌ مِنْ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَقُرْبَةٌ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالرِّضْوَانِ، فَمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَا يَكُونُ عِلْمُهُ بِمَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ إِلَّا نَاقِصًا، وَكُلَّمَا اعْتَنَّ لَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْبَذْلِ تَحَدَّاهُ فِي نَفْسِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ وَالْبُخْلِ، كَالْخَوْفِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ، أَوْ نُقْصَانِ مَالِهِ عَنْ مَالِ بَعْضِ الْأَقْرَانِ، أَوْ تَعْلِيلِ النَّفْسِ بِادِّخَارِ مَا احْتِيجَ إِلَى بَذْلِهِ الْآنَ لِيُوضَعَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، فَإِذَا هُوَ اعْتَادَ الْبَذْلَ صَارَ السَّخَاءُ خُلُقًا لَهُ،
لَا يُثْنِيهِ وَسْوَاسٌ وَلَا خَوْفٌ، وَاتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ مَنَافِعِهِ، وَوُضِعَ الْمَالُ فِي خَيْرِ مَوَاضِعِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ الِامْتِثَالَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا يَتَضَمَّنُ الذِّكْرَى، وَتَصَوُّرَ احْتِرَامِ أَمْرِ اللهِ، وَالشُّعُورَ بِسُلْطَانِهِ، وَإِمْرَارَ هَذِهِ الذِّكْرَى عَلَى الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيُثْبِتُهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْمَرْءُ بِالشَّرِيعَةِ عَمَلًا صَحِيحًا انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ.
أَقُولُ: وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي التَّثْبِيتِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
1 -
أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى ثَبَاتِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ ; لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى مِثْلِهَا.
2 -
أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحَقُّ ثَابِتٌ وَالْبَاطِلُ زَائِلٌ.
3 -
أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ الْخَيْرَ أَوَّلًا، فَإِذَا حَصَّلَهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ ثَابِتًا بَاقِيًا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي " أَنَّ " وَ " أَوْ " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ نُونِ " أَنْ " وَضَمِّ وَاوِ
"
أَوْ " وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِكَسْرِهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عِنْدَ النُّحَاةِ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَإِجْرَاؤُهُمَا مَجْرَى الْهَمْزَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْفِعْلِ تُنْقَلُ حَرَكَةُ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو فَجَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّلْفِيقِ، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا فَعَلُوهُ يَعُودُ ضَمِيرُهُ إِلَى الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، أَوْ بِتَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ.
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، " إِذًا " حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّهَا هُنَا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالتَّثْبِيتِ؟ فَأُجِيبُ: هُوَ أَنْ نُؤْتِيَهُمْ أَيْ: نُعْطِيَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، إِلَخْ.
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا قِيلَ: إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ عِبَارَةٌ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُنَا هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ هِيَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي شَرَحَهَا الْأُسْتَاذُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالصِّرَاطُ هُنَا: هُوَ الصِّرَاطُ هُنَاكَ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا.
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ عِبَادُ اللهِ الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارُ، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَعَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُمُ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ إِلَخْ، وَكَانَ الظَّاهِرُ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنْ يُقَالَ: وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، صِرَاطَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ فَكَانُوا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ مَا هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ أُعِيدَ ذِكْرُ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُرَادُ فِي السِّيَاقِ، الَّذِي تَكُونُ سَعَادَةُ صُحْبَةِ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ جَزَاءً لَهُ، أَيْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الطَّاعَةَ تَصْدُقُ بِامْتِثَالِ أَمْرٍ وَاحِدٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ هُوَ مِمَّا اعْتَادُوهُ مِنَ اخْتِرَاعِ الْإِيرَادَاتِ وَالْأَجْوِبَةِ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ يَأْبَاهَا، فَهَذِهِ الطَّاعَةُ هِيَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا إِيثَارُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهِيَ الَّتِي عَلِمْنَا بِهَا أَنَّ الْعَمَلَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ أَوْ شَرْطٌ لَهُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِذْعَانِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ حَرَجٌ مِنْهُ وَيُسَلِّمُ لَهُ تَسْلِيمًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ فِي تَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَوْطَانِ.
ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ أَوْصَافٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فَرِيقَانِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي صِفَاتِهِمْ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِمْ، وَهَاكَ مَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ وَلَا جِنَايَةَ عَلَى اللُّغَةِ.
(الصِّدِّيقُونَ) جَمْعُ صِدِّيقٍ، وَهُوَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الصِّدْقُ وَعُرِفَ بِهِ كَالسِّكِّيرِ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السُّكْرُ، قَالَ الرَّاغِبُ: الصِّدِّيقُ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الصِّدْقُ، وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ لِمَنْ لَا يَكْذِبُ قَطُّ، وَقِيلَ: لِمَنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْكَذِبُ لِتَعَوُّدِهِ الصِّدْقَ، وَقِيلَ: بَلْ لِمَنْ صَدَقَ بِقَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَحَقَّقَ صِدْقَهُ بِقَوْلِهِ.
قَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (19: 41)، وَقَالَ: أَيْ فِي الْمَسِيحِ: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ (5: 75)، وَقَالَ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَالصِّدِّيقُونَ هُمْ قَوْمٌ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الذَّرِيعَةِ إِلَى مَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصِّدِّيقُونَ: هُمُ الَّذِينَ زَكَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَاعْتَدَلَتْ أَمْزِجَتُهُمْ، وَصَفَتْ سَرَائِرُهُمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمُجَرَّدِ عُرُوضِهِ لَهُمْ، فَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَيُبَالِغُونَ فِي صِدْقِ اللِّسَانِ وَالْعَمَلِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ مَا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ أَنَّهَا الْحَقُّ وَقَبِلَهَا وَصَدَّقَ بِهَا فَصَدَّقَ النَّبِيَّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ أَكْمَلَ الصِّدْقَ، وَيَلِيهِ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، فَإِنَّهُمُ انْقَادُوا إِلَى الْإِسْلَامِ بِسُهُولَةٍ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ الْآيَاتُ وَثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ تَمَامَ الظُّهُورِ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ـ وَعَدَّ آخَرِينَ مِنَ السَّابِقِينَ ـ وَدَرَجَةُ هَؤُلَاءِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، بَلِ الْأَنْبِيَاءُ صِدِّيقُونَ وَزِيَادَةٌ.
وَأَقُولُ: مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الرَّاغِبِ وَالْأُسْتَاذِ مِنْ كَوْنِ الصِّدِّيقِيَّةِ هِيَ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي تَلِي مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ فِي الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ قَدْ صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِلْغَزَالِيِّ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِيهِ، وَلَا غَرْوَ فَالصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ أُسُّ الْفَضَائِلِ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ وَالنِّفَاقَ أُسُّ الرَّذَائِلِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَخْذَ الصِّدِّيقِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَمَالِ الْإِيمَانِ بِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه صِدِّيقًا، وَقَدْ
وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَالَّتِي دُونَ الصِّحَاحِ فِي تَصْدِيقِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَذَّبَهُ النَّاسُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَا عَرَضْتُ الْإِسْلَامَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ نَظِرَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ " وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا كَلَّمْتُ فِي الْإِسْلَامِ أَحَدًا إِلَّا أَبَى عَلَيَّ، وَرَاجَعَنِي الْكَلَامَ إِلَّا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَإِنِّي لَمْ أُكَلِّمْهُ فِي شَيْءٍ إِلَّا قَبِلَهُ وَسَارَعَ إِلَيْهِ، وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه الْمُسَارَعَةَ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمَ التَّلَبُّثِ بِهِ، وَحَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ السَّذَاجَةِ وَضَعْفِ الرَّوِيَّةِ، وَيَنْقُضُ حُسْبَانَهُ كُلُّ مَا عُرِفَ مِنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ رَأْيًا، وَأَنْفَذِهِمْ بَصِيرَةً، وَأَصَحِّهِمْ حُكْمًا، وَأَقَلِّهِمْ خَطَأً، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قِيمَةَ الصِّدْقِ الصَّادِقُونَ، وَقَدْرَ الشُّجَاعَةِ الشُّجْعَانُ، وَحَقَائِقَ الْحِكْمَةِ الْحُكَمَاءُ، فَلَمَّا كَانَتْ مَرْتَبَةُ أَبِي بَكْرٍ قَرِيبَةً مِنْ مَرْتَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّدْقِ وَتَحَرِّي الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ رَكِبَ فِي سَبِيلِهِ الصِّعَابَ وَتَقَحَّمَ فِي الْأَخْطَارِ كَانَ السَّابِقَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَبَذْلِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي نَصْرِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ الدِّينَ صِدْقًا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (39: 33) نَعَمْ إِنَّ الصَّادِقَ يَكُونُ أَسْرَعَ إِلَى تَصْدِيقِ غَيْرِهِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ بَلِيدًا أَوْ سَاذَجًا غِرًّا صَدَّقَ غَيْرَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ ذَكِيًّا مُجَرِّبًا ـ كَأَبِي بَكْرٍ ـ لَمْ يُصَدِّقْ إِلَّا مَا هُوَ مَعْقُولٌ، وَمَنْ كَانَ كَبِيرَ الْعَقْلِ قَوِيَّ الْحَدْسِ يُدْرِكُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ إِلَّا بَعْدَ السِّنِينَ الطِّوَالِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِتَارِيخِ الْعَرَبِ وَأَنْسَابِهَا وَأَخْلَاقِهَا، وَظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي سِيَاسَتِهِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُرْتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، فَلَوْلَاهُ لَانْتَكَثَ فَتْلُ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتْهُ عَصَبِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَفَهَكَذَا تَكُونُ السَّذَاجَةُ وَضَعْفُ الرَّأْيِ وَالرَّوِيَّةِ! أَمْ ذَلِكَ مَا أَمْلَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْتَشْرِقِ كُرْهُ الْمُخَالِفِ، وَوَسْوَسَ بِهِ شَيْطَانُ الْعَصَبِيَّةِ؟ ؟
(الشُّهَدَاءُ) جَمْعُ شَهِيدٍ، وَبَيَّنَ الرَّازِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّهِيدِ هُنَا مَنْ قَتَلَهُ الْكَفَّارُ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ " وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَقْتُولَ الْكَافِرِ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ شَرَفٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْفُسَّاقِ، وَمَنْ لَا مَنْزِلَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى " وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارَ
يَقْتُلُونَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُ وَرَدَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّهِيدِ عَلَى الْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَالْغَرِيقِ، قَالَ: " فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْقَتْلِ، بَلْ نَقُولُ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَأُخْرَى بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْقِسْطِ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ (3: 18) ، وَيُقَالُ لِلْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللهِ شَهِيدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللهِ، وَشَهَادَتِهِ لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَإِذَا كَانَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (2: 143) .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِينَ يُؤَيِّدُونَ الْحَقَّ بِالشَّهَادَةِ لِأَهْلِهِ بِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ، وَيَشْهَدُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، وَدَرَجَتُهُمْ تَلِي دَرَجَةَ الصِّدِّيقِينَ، وَالصِّدِّيقُونَ شُهَدَاءُ وَزِيَادَةٌ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَحْوَالِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمْ حُجَّةُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُبْطِلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (2: 143) ، مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي، وَتَفْسِيرِ (2: 140) ، مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَيُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَيَتَوَهَّمُ أَسْرَى الِاصْطِلَاحَاتِ، وَرَهَائِنُ الْقُيُودِ الْمُسْتَحْدَثَاتِ، أَنَّ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ هُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ حَمَلَةُ الشَّهَادَاتِ، الَّذِينَ حَذَقُوا النِّقَاشَ فِي الْعِبَارَاتِ، وَالْجَدَلَ فِي مُصَارَعَةِ الشُّبُهَاتِ، وَجَمْعَ النُّقُولِ فِي تَلْفِيقِ الْمُصَنَّفَاتِ، كَلَّا؛ إِنَّ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ هُمْ أَعْلَامُ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، وَمُثُلُ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْمُسْتَقِلُّ بِالدَّلِيلِ وَإِنْ سَخِطَ الْمُقَلِّدُونَ، وَالْحَاكِمُ الْمُقِيمُ لِلْعَدْلِ، وَإِنْ كَثُرَ حَوْلَهُ الْجَائِرُونَ، وَالْمُصْلِحُ لِمَا فَسَدَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَإِنْ غَلَبَ الْمُفْسِدُونَ، وَالْبَاذِلُ لِرُوحِهِ حَتَّى يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَإِنْ أَحْجَمَ الْجُبَنَاءُ وَالْمُرَاءُونَ.
(الصَّالِحُونَ) هُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ نُفُوسُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا حُجَجًا
ظَاهِرِينَ كَالَّذِينِ قَبْلَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمُتَعَدِّي نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ، وَالْجَائِرِينَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُمُ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَيَكْفِي أَنْ تَغْلِبَ حَسَنَاتُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ وَأَلَّا يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ هُمْ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ،
وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَالرَّسُولَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ مِنْهُمْ، وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُ وَقَدْ خَتَمَ اللهُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْتَقِيَ فِي الِاتِّبَاعِ إِلَى دَرَجَةِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ: الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا أَيْ: إِنَّ مُرَافَقَةَ أُولَئِكَ الْأَصْنَافِ هِيَ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَرْغَبُ الْعَاقِلُ فِيهَا لِحُسْنِهَا، وَفِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَالرَّفِيقُ كَالصَّدِيقِ وَالْخَلِيطِ الصَّاحِبِ، وَالْأَصْحَابُ يَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَاسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ الرَّفِيقَ وَالرَّسُولَ الْبَرِيدَ مُفْرَدًا اسْتِعْمَالَ الْجَمْعِ أَوِ الْجِنْسِ، وَلِهَذَا حَسُنَ الْإِفْرَادُ هُنَا، وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ، وَحَسُنَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَهَلْ يُرَافِقُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقَهُ، إِذْ كَانَ مُشَاكِلَهُ وَضَرِيبَهُ، أَمْ يَتَّصِلُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْ فَوْقَهُ، وَلَوْ بَعْضَ الِاتِّصَالِ، الَّذِي يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْفَضْلِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَلَّا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُفَارِقَكَ فَإِنَّكَ لَوْ قَدِمْتَ لَرُفِعْتَ فَوْقَنَا وَلَمْ نَرَكَ، وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَى فَتًى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّ لَنَا مِنْكَ نَظْرَةً فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَرَاكَ فَإِنَّكَ فِي الْجَنَّةِ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - اهـ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ ضَعِيفَةُ السَّنَدِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِهَا الْمُتَّصِلَةَ بِهِ بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ.
وَأَمَّا مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي قُرْصَانَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حَشَرَهُ اللهُ مَعَهُمْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمْ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَقَدْ يَغُرُّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْفُسَهُمْ بِدَعْوَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا آيَةُ الْمَحَبَّةِ الطَّاعَةُ، وَالْآيَةُ قَدْ جَعَلَتْ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ جَزَاءَ الطَّاعَةِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (3: 31) ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ.
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ
مِنْ جَزَاءِ مَنْ يُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ هُوَ الْفَضْلُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْلُوهُ فَضْلٌ، فَإِنَّ الصُّعُودَ إِلَى إِحْدَى تِلْكَ الْمَرَاتِبِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُرَافَقَةِ أَهْلِهَا وَأَهْلِ مَنْ فَوْقَهَا فِي الْآخِرَةِ هُوَ مُنْتَهَى السَّعَادَةِ، فِيهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فَيَفْضُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ مِنَ اللهِ تَفَضَّلٌ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَثَانِيَهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: ذَلِكَ الْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ جَزَاءِ الْمُطِيعِينَ هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَيَرَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْفَضْلِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَزَاءً وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الْجَزَاءِ، سَمِّهِ جَزَاءً أَوْ لَا تُسَمِّهِ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا وَكَيْفَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِعِلْمِهِ بِالْأَعْمَالِ وَبِدَرَجَةِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنَ الْجَزَاءِ، وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى لِلْجَزَاءِ الْوِفَاقِ وَالْجَزَاءِ الْفَضْلِ وَلِزِيَادَةِ الْفَضْلِ، ذَلِكَ كُلُّهُ تَابِعٌ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ! فَهُوَ يُعْطِي بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَيَشَاءُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، فَالتَّذْكِيرُ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِي آخِرِ السِّيَاقِ يُشْعِرُنَا بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِنَا وَنِيَّاتِنَا لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ، لِيُحَذِّرَ الْمُنَافِقُونَ الْمُرَاءُونَ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَيَتُوبُونَ، وَلْيَطْمَئِنَّ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، لَعَلَّهُمْ يَنْشَطُونَ وَيَزْدَادُونَ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (4: 36) ، فِي مَوْضُوعٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْيَتَامَى مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالْإِرْثِ، وَالْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللهَ الْآيَةَ إِلَى هُنَا فِي مُطَالَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ وَالْأَرِقَّاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَأَحْكَامِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ تَثْبِيتِ النَّفْسِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا مَثَلَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ يَهْتَدُونَ بِهِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِمْ بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَرَدِّ مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَكَّدَ أَمْرَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَبَيَّنَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا عَمِلُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ صَلُحَ حَالُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُمْ وَصَارُوا مُتَّحِدِينَ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ وَحِفْظِ الْجَامِعَةِ، وَوَثِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَالدِّفَاعِ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا انْتِظَامُ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاحُ أُمُورِهِمُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
بَعْدَ بَيَانِ هَذَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُوَجِّهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ يَلِي اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَصْلَحَةٍ وَاحِدَةٍ وَانْتِظَامِ شُئُونِهِمْ وَصَلَاحِ حَالِهِمْ، وَهُوَ مَا يَتِمُّ لَهُمْ بِهِ الْأَمْنُ وَحُسْنُ الْحَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّنْزِيلِ
أَعْدَاءٌ يُنَاصِبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتِمُّ لَهُ نِظَامٌ فِي مَعِيشَتِهِ وَلَا هَنَاءٌ وَلَا رَاحَةٌ إِلَّا بِالْأَمْنَيْنِ كِلَيْهِمَا: الْأَمْنُ الدَّاخِلِيُّ، وَالْأَمْنُ الْخَارِجِيُّ، فَلَمَّا أَرْشَدَنَا اللهُ إِلَى مَا بِهِ أَمْنُنَا الدَّاخِلِيِّ أَرْشَدَنَا إِلَى مَا بِهِ أَمْنُنَا مَعَ الْخَارِجِينَ عَنَّا الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِي دِينِنَا، وَذَلِكَ إِمَّا بِمُعَاهَدَاتٍ تَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى دِينِنَا وَأَنْفُسِنَا وَمَصَالِحِنَا، وَإِمَّا بِاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ بِالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كَمَا يَأْتِي.
أَقُولُ: كَانَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا أَصْلَ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي آيَةِ الْأَمَانَاتِ وَالْعَدْلِ، وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إِلَخْ، وَكَانَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَثِيرًا مِنْ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ - كَمَا يُقَالُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ - ثُمَّ شَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ شَرَعَ يُبَيِّنُ لَنَا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْحَرْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَيُبَيِّنُ لَنَا الطَّرِيقَ الَّذِي نَسِيرُ عَلَيْهِ فِي حِفْظِ مِلَّتِنَا وَحُكُومَتِنَا الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْمُحْكَمَةِ الْحَكِيمَةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا فَقَالَ:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَذَرُ - بِالتَّحْرِيكِ - احْتِرَازٌ عَنْ مُخِيفٍ، وَقَالَ عز وجل: خُذُوا حِذْرَكُمْ، أَيْ: مَا فِيهِ الْحَذَرُ مِنَ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ اهـ، وَظَاهِرُهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَذَرِ بِالتَّحْرِيكِ وَالْحِذْرِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْحَذَرَ وَالْحِذْرَ الْخِيفَةُ، وَمَنْ خَافَ شَيْئًا اتَّقَاهُ بِالِاحْتِرَاسِ مِنْ أَسْبَابِهِ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: رَجُلٌ حَذِرٌ مُتَيَقِّظٌ مُحْتَرِزٌ وَحَاذِرٌ مُسْتَعِدٌّ، وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْإِثْرِ وَالْأَثَرِ وَالْمِثْلِ وَالْمَثَلِ، يُقَالُ: أَخَذَ حَذَرَهُ إِذَا تَيَقَّظَ وَاحْتَرَزَ مِنَ الْخَوْفِ كَأَنَّهُ جَعَلَ الْحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَقِي بِهَا نَفْسَهُ، وَالْمَعْنَى: احْذَرُوا وَاحْتَرِزُوا مِنَ الْعَدُوِّ وَلَا تُمَكِّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ السِّلَاحُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ
الْمَعْنَى: احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ، وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْحَذَرَ الْخِيفَةُ وَيَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ وَالِاسْتِعْدَادُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ: الِاحْتِرَازُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِاتِّقَاءِ شَرِّ الْعَدُوِّ وَذَلِكَ بِأَنْ نَعْرِفَ حَالَ الْعَدُوِّ وَمَبْلَغَ اسْتِعْدَادِهِ وَقُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَعْدَاءُ مُتَعَدِّدِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ، وَأَنْ تَعْرِفَ الْوَسَائِلَ لِمُقَاوَمَتِهِمْ إِذَا هَجَمُوا، وَأَنْ يُعْمَلَ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا أَنِسَ غِرَّةً مِنَّا هَاجَمَنَا،
وَإِذَا لَمْ يُهَاجِمْنَا بِالْفِعْلِ كُنَّا دَائِمًا مُهَدَّدِينَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ نُهَدَّدْ فِي نَفْسِ دِيَارِنَا كُنَّا مُهَدَّدِينَ فِي أَطْرَافِهَا، فَإِذَا أَقَمْنَا دِينَنَا أَوْ دَعَوْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَارِضَنَا فِي ذَلِكَ، وَإِذَا احْتَجْنَا إِلَى السَّفَرِ إِلَى أَرْضِهِ كُنَّا عَلَى خَطَرٍ، وَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا حِذْرَكُمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ (8: 60) ، إِلَخْ، وَعَلَى النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلْفَهْمِ أَنْ تَبْحَثَ فِي كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ حَالِ الْعَدُوِّ، وَمَعْرِفَةُ أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ، طُرُقِهَا وَمُضَايِقِهَا وَجِبَالِهَا وَأَنْهَارِهَا، فَإِنَّنَا إِذَا اضْطُرِرْنَا فِي تَأْدِيبِهِ إِلَى دُخُولِ بِلَادِهِ فَدَخَلْنَاهَا وَنَحْنُ جَاهِلُونَ لَهَا كُنَّا عَلَى خَطَرٍ، وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ:" قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا "، وَتَجِبُ مَعْرِفَةُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضِنَا بِالْأَوْلَى حَتَّى إِذَا هَاجَمَنَا فِيهَا لَا يَكُونُ أَعْلَمُ بِهَا مِنَّا.
وَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ مَعْرِفَةُ الْأَسْلِحَةِ وَاتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْهَنْدَسَةِ وَالْكِيمْيَاءِ وَالطَّبِيعَةِ وَجَرِّ الْأَثْقَالِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، ذَلِكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحَذَرَ، أَيْ: وَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِمَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْوِقَايَةُ وَالِاحْتِرَازُ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِحَسَبِهِ، يُرِيدُ رحمه الله تَعَالَى -: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ اتِّخَاذُ أُهْبَةِ الْحَرْبِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهِ مِنَ الْمَدَافِعِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْبَنَادِقِ وَالْبَوَارِجِ الْمُدَرَّعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَكَذَلِكَ الْمَنَاطِيدِ الْهَوَائِيَّةِ وَالطَّيَّارَاتِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِصُنْعِ هَذِهِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ وَغَيْرِهَا وَمَا يَلْزَمُ لَهَا، وَالْعِلْمُ بِسَائِرِ الْفُنُونِ وَالْأَعْمَالِ الْحَرْبِيَّةِ وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ الْأُخَرِ كَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَخَرْتِ الْأَرْضِ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَارِفِينَ بِأَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَكَانَ لِلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ فِي مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِالْأَخْبَارِ، وَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِنَقْضِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ اسْتَعَدَّ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ لِظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِنَكْثِهِمْ لَمْ يُفْلِحْ وَكَانَ جَوَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ لَهُ وَاحِدًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِخَالِدٍ يَوْمَ حَرْبِ الْيَمَامَةِ: حَارِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحَارِبُونَكَ بِهِ، السَّيْفُ بِالسَّيْفِ
وَالرُّمْحُ بِالرُّمْحِ "، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَلِيلَةٌ، فَالْقَوْلُ وَعَمَلُ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْعَدُوِّ وَقُوَّتِهِ.
أَقُولُ: تَعَرَّضَ الرَّازِيُّ هُنَا لِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَمَا عَسَى أَنْ يُقَالَ مِنْ عَدَمِ نَفْعِ الْحَذَرِ وَكَوْنِهِ عَبَثًا، قَالَ: وَعَنْهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: الْمَقْدُورُ كَائِنٌ وَالْهَمُّ الْفَضْلُ، وَقِيلَ أَيْضًا:" الْحَذَرُ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ "، فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ بَطُلَ الْقَوْلُ بِالشَّرَائِعِ ; فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّحْقِيقِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَدَرٍ كَانَ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ أَيْضًا دَاخِلًا فِي الْقَدَرِ، فَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ:" أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْحَذَرِ " كَلَامًا مُتَنَاقِضًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَذَرُ مُقَدَّرًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ الطَّاعِنِ فِي الْحَذَرِ؟ انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ.
أَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ ابْتُلُوا بِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ كَمَا ابْتُلِيَ بِهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ شُفِيَ غَيْرُهُمْ مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ بِحَقِيقَتِهَا، فَلَمْ يَعُدْ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِمْ فِي تَرْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَلَمَّا يَشْفِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ كَشَفْنَا الْغِطَاءَ عَنْ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمْ نَرَ بُدًّا مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَا لِأَنَّ مِثْلَ الرَّازِيِّ ذَكَرَهَا بَلْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمْسَوْا أَقَلَّ النَّاسِ حَذَرًا مِنَ الْأَعْدَاءِ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ بِلَادِهِمْ ذَهَبَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَذْكُرُونَ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ أَمْرَ اللهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا يَمْتَثِلُونَ، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَهُمْ يَسُلُّونَ فِي وَجْهِكَ كَلِمَةَ الْقَدَرِ، وَمِثْلَ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الرَّازِيُّ.
أَمَّا حَدِيثُ: الْمَقْدُورُ كَائِنٌ إِلَخْ، فَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُهُ فِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعُبِ وَالْقَدَرِ مَرْفُوعًا: لَا تُكْثِرُ هَمَّكَ مَا قُدِّرَ يَكُنْ وَمَا تُرْزَقُ يَأْتِكَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:" وَقِيلَ أَيْضًا " فَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَصَحَّحَهُ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ، وَتَسَاهُلُ الْحَاكِمِ فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ، وَالرَّازِيُّ لَيْسَ مِنْ رِجَالِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُ رَأَى بِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ أَوْ مُضَعَّفٌ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَمْرِ فِيهَا، وَكَيْفَ يَقُولُ اللهُ: خُذُوا حِذْرَكُمْ، وَيَقُولُ رَسُولُهُ: إِنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْقَدَرِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ!
وَإِنِّي عَلَى اسْتِبْعَادِي لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَمَيْلِي إِلَى أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ
أَفْسَدُوا بَأْسَ الْأُمَّةِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، أَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ، فَإِنَّ اللهَ أَمَرَنَا بِالْحَذَرِ لِنَدْفَعَ عَنَّا شَرَّ الْأَعْدَاءِ وَنَحْفَظَ حَقِيقَتَنَا لَا لِنَدْفَعَ الْقَدَرَ وَنُبْطِلَهُ، وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ جَرَيَانِ الْأُمُورِ بِنِظَامٍ يَأْتِي فِيهِ الْأَسْبَابُ عَلَى قَدْرِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْحَذَرُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الْقَدَرِ لَا بِمَا يُضَادُّهُ.
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ مَا هُوَ الْغَايَةُ لَهُ وَالْمَقْصِدُ مِنْهُ أَوِ الْمُتَمِّمُ لَهُ، فَقَالَ: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا، النَّفْرُ: الِانْزِعَاجُ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَى الشَّيْءِ، كَالْفَزَعِ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَى الشَّيْءِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَمِنَ الْأَوَّلِ وَلَقَدْ صَرَفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذْكُرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (17: 41) ، وَهُمْ إِنَّمَا يَنْفِرُونَ عَنِ الْقُرْآنِ لَا إِلَيْهِ، وَمِنَ الثَّانِي النَّفْرُ إِلَى الْحَرْبِ وَفِيهِ آيَاتٌ، وَكَانُوا إِذَا اسْتَنْفَرُوا النَّاسَ لِلْحَرْبِ يَقُولُونَ: النَّفِيرُ النَّفِيرُ، وَالثُّبَاتُ: جَمْعُ ثُبَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُنْفَرِدَةُ، وَالْمَعْنَى فَانْفِرُوا جَمَاعَةً فِي إِثْرِ جَمَاعَةٍ بِأَنْ تَكُونُوا فَصَائِلَ وَفِرَقًا، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ كَثِيرًا أَوْ كَانَ مَوْقِعُ الْعَدُوِّ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْغَالِبُ، أَوِ انْفِرُوا كُلُّكُمْ مُجْتَمِعِينَ، إِذَا قَضَتِ الْحَالُ بِذَلِكَ، أَوِ الْمَعْنَى فَانْفِرُوا سَرَايَا وَطَوَائِفَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ نَفِيرًا عَامًا، وَيَجِبُ هَذَا إِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ أَرْضَنَا كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النَّفْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ ثُبَاتٍ جَمَاعَاتٍ، وَلَا تَتَقَيَّدُ الْجَمَاعَةُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَجَمِيعًا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّ أَخْذَ الْحَذَرِ لَيَشْمَلُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةَ سَوْقِ الْجَيْشِ وَقِيَادَتِهِ وَهُوَ النَّفْرُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ يُتَسَاهَلُ فِيهِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ فَأَمَرَ بِهِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَكَانَ الِاجْتِهَادُ فِي أَخْذِ الْحَذَرِ مِمَّا قَدْ يَقِفُ دُونَهُ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفْرَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَى مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ أَنْ يُرْسَلَ الْجَيْشُ جَمَاعَاتٍ وَفِرَقًا كَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ حَتَّى الْآنَ، فَإِذَا احْتِيجَ فِي الْمُقَاوَمَةِ إِلَى نَفْرِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَخُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ وَجَبَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ النَّفْرُ عَلَى كَيْفِيَّتَيْنِ الْأُولَى: أَنْ يُقَسَّمَ الْجَيْشُ إِلَى فِرَقٍ وَسَرَايَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَسِيرَ خَمِيسًا وَاحِدًا، لَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْأَوَّلُ.
قَالَ: وَيَتَوَقَّفُ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مُسْتَعِدَّةً دَائِمًا لِلْجِهَادِ بِأَنْ يَتَعَلَّمَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فُنُونَ الْحَرْبِ وَيَتَمَرَّنُوا عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُعَافَاةَ مِنَ الْخِدْمَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَيْسَتْ شَرَفًا بَلْ هِيَ إِبَاحَةٌ لِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ.
أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِيهِ اقْتِنَاءُ السِّلَاحِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ وَالتَّمَرُّنِ عَلَى الرَّمْيِ بِالْمَدَافِعِ وَبِبُنْدُقِ الرَّصَاصِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، كَمَا كَانُوا يَتَمَرَّنُونَ عَلَى رَمْيِ السِّهَامِ، وَقَدْ قَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا وَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ مَنْ يُعَيِّبُونَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ حَرْبِيَّةٌ، فَصَارَتْ أُمَّةُ السَّلَامِ بِدَعْوَاهَا قُدْوَةً لِأُمَّةِ الْحَرْبِ فِي الْحَرْبِ وَآلَاتِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تُقِيمَ هَذَا الْوَاجِبَ بِنَفْسِهَا لَا أَنْ تَبْقَى فِيهِ عَالَةٌ عَلَى غَيْرِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُوَاتِيَهَا وَتُسَاعِدَهَا عَلَيْهِ، وَأَنْ تُلْزِمَهَا إِيَّاهُ إِذَا هِيَ قَصَّرَتْ فِيهِ.
وَإِنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَضِعَافُ
الْإِيمَانِ وَالْجُبَنَاءِ وَهُمُ الْأَقَلُّ، فَالْمُنَافِقُونَ يَرْغَبُونَ عَنِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَيُدَافِعُوا عَنْهُ وَيَحْمُوا بَيْضَتِهِ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَيُبْطِئُونَ غَيْرَهُمْ عَنِ النَّفْرِ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُونَ يُبْطِئُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ، وَالتَّبَطُّؤُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِبْطَاءِ وَعَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْبُطْءِ مَعًا، وَالْبُطْءُ التَّأَخُّرُ عَنِ الِانْبِعَاثِ فِي السَّيْرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَيْ: يُبْطِئُ هُوَ عَنِ السَّيْرِ إِبْطَاءً لِضَعْفٍ فِي إِيمَانِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ التَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ وَتِكْرَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَى الْبُطْءِ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ، وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ:" بَطَّأَ " بِالتَّشْدِيدِ (لَازِمٌ) بِمَعْنَى أَبْطَأَ وَقَدْ شَرَحَ اللهُ حَالَ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ الضُّعَفَاءِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِزْعَاجًا إِلَى تَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا فَقَالَ:
فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا فَشُكْرُهُ لِلَّهِ عَلَى عَدَمِ شُهُودِهِ لِتِلْكَ الْحَرْبِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ كَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا أَيْ لَيَقُولَنَّ قَوْلَ مَنْ لَيْسَ مِنْكُمْ، وَلَا جَمَعَتْهُ مَوَدَّةٌ بِكُمْ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ بِذَلِكَ الْفَضْلِ فَوْزَهُمْ، فَهُوَ قَدْ نَسِيَ أَنَّهُ كَانَ أَخًا لَكُمْ، وَكَانَ
مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَكُمْ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَّا ضَعْفُ إِيمَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّيَهُ بَعْدَ الظَّفَرِ أَوِ الْغَنِيمَةِ لَوْ كَانَ مَعَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ عَقْلِهِ وَكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ تُشِيرُ إِلَيْهِمُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ.
هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ، رَجَّحُوهُ بِكَوْنِ الْخِطَابِ لِلَّذِينِ آمَنُوا ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ وَلَمْ يَقُلْ: " فِيكُمْ "، وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكَمَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (9: 38) .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِئِينَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لَهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَهْمَا كَانَ ضَعِيفَ الْإِيمَانِ لَا يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَعُدُّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، بَلْ يَسْتَحِي مِنَ اللهِ عز وجل وَيَلُومُ نَفْسَهُ إِنْ أَطَاعَتْ دَاعِيَ الْجُبْنِ وَيَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ شَدِيدَ الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْفَوْزِ وَالْغَنِيمَةِ، فَالْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ سَوَاءٌ كَانَ التَّبَطُّؤُ فِيهَا لَازِمًا بِمَعْنَى الْإِبْطَاءِ أَوْ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ - تَعَالَى - كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَالظَّاهِرُ هُنَا مَعْنَى الْإِبْطَاءِ عَنِ الْخُرُوجِ ; إِذْ لَوْ بَطَّأَ غَيْرَهُ وَخَرَجَ هُوَ لَكَانَ قَدْ شَهِدَ الْحَرْبَ فَلَا مَعْنَى لِسُرُورِهِ إِذَا أُصِيبُوا، وَلَا لِتَمَنِّيهِ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ إِذَا ظَفِرُوا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أَبْطَأَ يُبْطِئُ غَيْرُهُ بِإِبْطَائِهِ إِذْ يَكُونُ قُدْوَةً رَدِيئَةً لِمِثْلِهِ مِنْ مُنَافِقٍ أَوْ جَبَانٍ، وَيُبْطِئُهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ
بِهَذَا الذَّنْبِ، فَإِنَّ الْفَضِيحَةَ وَالْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ أَشَدُّ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُذْنِبُونَ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عِقَابُهُمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا تَتَأَلَّفُ الْعِصَابَاتُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا الْحُكَّامُ، وَلَفْظُ التَّبَطُّئِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ يُبْطِئُ غَيْرُهُ بِسَبَبِ إِبْطَائِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهِ.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اخْتَارُوا أَنَّ الْمُبْطِئَ هُوَ الْمُنَافِقُ قَدْ أَجَابُوا عَنْ جَعْلِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُمْ: مِنْكُمْ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِالزَّعْمِ وَالدَّعْوَى أَوْ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْاكَمُهُمْ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ وَالِاخْتِلَاطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
يَجْزِمُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّبَطُّئِ عَنِ الْقِتَالِ بِكُلٍّ مِنْ مَعْنَيَيْهِ مَعَ ذَيْنِكَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَعِنْدَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ مَنْ يُبْطِئُ وَيَقُولُ ذَلِكَ
لَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ وَلَا عِنَايَةٌ بِأَمْرِ دِينِهِ، وَإِنَّمَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَهَوَاتُهُ وَرِبْحُهُ مِنَ الدِّينِ حَتَّى إِنَّهُ يَعُدُّ مُصِيبَةَ الْمُسْلِمِينَ نِعْمَةً إِذَا لَمْ يُصِبْهُ سَهْمٌ مِنْهَا، فَلْيُحَاسِبِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْفُسَهُمْ، وَلْيَزِنُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ إِيمَانَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ، وَذَكَرَ الْمَوَدَّةَ هُنَا نَكِرَةً مَنْفِيَّةً فِي سِيَاقِ التَّشْبِيهِ فِي أَوْجِ الْبَلَاغَةِ الْأَعْلَى فَهِيَ كَلِمَةٌ لَا تُدْرِكُ شَأْوَهَا أُخْرَى وَلَا تَنْتَهِي إِلَى غَوْرِهَا فِي التَّأْثِيرِ، ذَلِكَ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةٌ مَا مَعْدُودٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَبِنَصِّ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ: تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ، وَكَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَكَانَ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ التَّمَنِّي الَّذِي يُشْعِرُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرَى نِعْمَةَ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَةً وَفَضْلًا عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَصْدُرَ عَمَّنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ مَا وَلَوْ قَلِيلَةً فِي زَمَنٍ مَا وَلَوْ بَعِيدًا، أَعْنِي أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْمَوَدَّةِ كَانَ فِي وَقْتٍ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ التَّمَنِّي، وَفِي هَذَا مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ بِأَلْطَفِ الْقَوْلِ وَأَرَقِّ الْعِبَارَةِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ بُلَغَاءُ الْبَشَرِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ: أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ مَنْ يَذُوقُهُ التَّأْثِيرَ الَّذِي لَا يَدْنُو مِنْ مِثْلِهِ النَّبْزُ بِالْأَلْقَابِ وَالطَّعْنُ بِهَجْرِ الْقَوْلِ، التَّأْثِيرَ الَّذِي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي حَقِيقَةِ حَالِهِ، وَمُعَاتَبَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الرَّجَاءِ تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَرَجَعَ كُلُّهُ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِ، هَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، وَبِاللهِ مَا أَعْجَبَ التَّشْبِيهَ فِيهَا وَنَفْيَ الْكَوْنِ وَتَنْكِيرَ الْمَوَدَّةِ إِنَّكَ إِنْ تُعْطِ ذَلِكَ حَقَّهُ مِنَ التَّأَمُّلِ، وَيُؤْتِكَ ذَوْقُ الْكَلَامِ قِسْطَهُ مِنَ الْبَلَاغَةِ، فَقَدِ أُوتِيتَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَكَشَفَ لَكَ عَنْ سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ) بِالتَّاءِ، وَالْبَاقُونَ " يَكُنْ " بِالْيَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، فَتَأْنِيثُ الْفِعْلِ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وَلَكِنَّ التَّأْنِيثَ فِيهِ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، وَلِهَذَا جَازَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ
وَحَسُنَ، وَيَكْثُرُ مِثْلُهُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الْفَصْلِ أَيْ: إِذَا فَصَلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ أَوِ اسْمِهِ فَاصِلٌ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (10: 57) ، وَمِنَ الثَّانِي: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (2: 275) ، ذَكَرَ الْفِعْلَ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاعِلِهِ بِالضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ.
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.
أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ أَعْدَاءِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَهْلِهَا بِالِاسْتِعْدَادِ التَّامِّ لِلْحَرْبِ، وَبِالنَّفْرِ وَكَيْفِيَّةِ تَعْبِئَةِ الْجَيْشِ وَسَوْقِهِ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُبْطِئِينَ عَنِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهَا لَا تَتَّفِقُ مَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ يُرَغِّبُ فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَلَى الْفَخْرِ بِالْقُوَّةِ وَالْغَلَبِ فَقَالَ:
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - حَالَ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ دَلَّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ
تَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ ذَنْبِ الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ، وَلَوْ عَمِلُوا كُلَّ صَالِحٍ وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُكَفِّرًا
لِخَطِيئَتِهِمْ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالِانْتِصَارُ لَهُ، فَمِنْهُ إِعْلَاءُ كَلِمَةَ اللهِ وَنَشْرُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ دِفَاعُ الْأَعْدَاءِ، إِذَا هَدَّدُوا أَمْنَنَا، أَوْ أَغَارُوا عَلَى أَرْضِنَا أَوْ نَهَبُوا أَمْوَالَنَا، أَوْ صَادَرُونَا فِي تِجَارَتِنَا، وَصَدُّونَا عَنِ اسْتِعْمَالِ حُقُوقِنَا مَعَ النَّاسِ، فَسَبِيلُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْيِيدِ الْحَقِّ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يَبِيعُونَ قَوْلًا وَاحِدًا بِلَا احْتِمَالٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ فِيهِ مُطَّرِدٌ فَفِي سُورَةِ يُوسُفَ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ (12: 20)، أَيْ: بَاعُوهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (2: 102)، أَيْ: بَاعُوهَا وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ (2: 207) ; أَيْ يَبِيعُهَا، وَالْبَاءُ فِي صِيغَةِ الْبَيْعِ تَدْخُلُ عَلَى الثَّمَنِ دَائِمًا، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَبْذُلَهَا وَيَجْعَلَ الْآخِرَةَ ثَمَنًا لَهَا وَبَدَلًا عَنْهَا فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أَقُولُ: إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا فِي يَشْرُونَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الِابْتِيَاعِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِنَا الْآنَ الشِّرَاءُ، وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ شَرَى يَشْرِي يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى ابْتَاعَ، وَإِنَّ اللَّفْظَ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَيْعُ فَهُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْكَامِلِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِابْتِيَاعُ فَهُوَ لِأُولَئِكَ الْمُبْطِئِينَ لِيَتُوبُوا، وَذَهَبَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِسِلْعَةٍ دُونَ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِدَرَاهِمَ، وَالْقُرْآنُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ شَرَى يَشْرِي بِمَعْنَى بَاعَ يَبِيعُ، وَاشْتَرَى يَشْتَرِي بِمَعْنَى ابْتَاعَ يَبْتَاعُ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الْفَصِيحُ وَإِنْ وَرَدَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ:" شَرَيْتُ بُرْدًا " بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ فِي الشِّعْرِ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ يُذْكَرُ الثَّمَنُ أَوِ الْبَدَلُ وَقَدْ يُسْكَتُ عَنْهُ وَهُوَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ دَائِمًا سَوَاءٌ اسْتُعْمِلَ الشِّرَاءُ أَوِ الْبَيْعُ فِي الْحِسِّيَّاتِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّاتِ.
وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ وَمَتَى كَانَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ - لَا لِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ وَالْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ - فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِظَفَرِ عَدُوِّهِ بِهِ فَفَاتَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا بَدَلًا مِمَّا فَاتَهُ وَهُوَ إِذَا ظَفِرَ وَغَلَبَ عَدُوَّهُ لَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَالَهُ
بِكَوْنِ قِتَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ لَا فِي سَبِيلِ الْهَوَى وَالطَّمَعِ.
وَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْخِطَابِ لِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، أَيْ: وَمَاذَا ثَبَتَ لَكُمْ مِنَ الْأَعْذَارِ فِي حَالِ تَرْكِ الْقِتَالِ حَتَّى تَتْرُكُوهُ؟ أَيْ: لَا عُذْرَ لَكُمْ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِقَامَةِ التَّوْحِيدِ مَقَامَ الشِّرْكِ، وَإِحْلَالِ الْخَيْرِ مَحَلَّ الشَّرِّ، وَوَضْعِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، فِي مَوْضِعِ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أَيْ: فِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ وَأَخَصُّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْقَاذُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ ظُلْمِ الْأَقْوِيَاءِ الْجَبَّارِينَ، وَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدِ اسْتَذَلَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَنَالُوا مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْقَهْرِ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - لَا لِلْمُنَافِقِينَ - وَالْمُسْتَضْعَفُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَحْصُورُونَ فِي مَكَّةَ يَضْطَهِدُهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَظْلِمُونَهُمْ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ سَبِيلًا خَاصًّا عَطَفَهُ عَلَى سَبِيلِ اللهِ مَعَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ إِثَارَةُ النَّخْوَةِ، وَهَزُّ الْأَرْيَحِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَإِيقَاظُ شُعُورِ الْأَنَفَةِ وَالرَّحْمَةِ ; وَلِذَلِكَ مَثَّلَ حَالَهُمْ بِمَا يَدْعُو إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَقَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلْيًا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا، أَقُولُ: بَيَّنَ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مِنْ قَوْمِهِمْ - لِأَجْلِ دِينِهِمْ - كُلَّ عَوْنٍ وَنَصِيرٍ، وَحُرِمُوا كُلَّ مُغِيثٍ وَظَهِيرٍ، فَهُمْ لِتَقَطُّعِ أَسْبَابِ الرَّجَاءِ بِهِمْ يَسْتَغِيثُونَ رَبَّهُمْ، وَيَدْعُونَهُ لِيُفَرِّجَ كَرْبَهُمْ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ وَطَنُهُمْ لِظُلْمِ أَهْلِهَا لَهُمْ، وَيُسَخِّرَ لَهُمْ بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ لِيُهَاجِرُوا إِلَيْكُمْ وَيَتَّصِلُوا بِكُمْ ; فَإِنَّ رَابِطَةَ الْإِيمَانِ أَقْوَى مِنْ رَوَابِطِ الْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ فَلْيَكُنْ كُلٌّ مِنْكُمْ وَلِيًّا لَهُمْ وَنَصِيرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ مِنْ ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْذِيبِهِمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فِي تَفْسِيرِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (2: 191) ، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهِجْرَةِ وَمَا كُلُّ أَحَدٍ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ رضي الله عنه هَاجَرَا لَيْلًا، وَلَوْ ظَفِرُوا بِهِمَا لَقَتَلُوهُمَا إِنِ اسْتَطَاعُوا،
وَكَانُوا يَصُدُّونَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَيُعَذِّبُونَ مُرِيدَهَا عَذَابًا نُكْرًا، وَمَا كَانَ سَبَبُ شَرْعِ الْقِتَالِ إِلَّا عَدَمَ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَظُلْمَ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ، وَمَا أَفَاضَتْ بِهِ الْآيَاتُ مِنْ بَيَانِهِ، يَقُولُ الْجَاهِلُونَ وَالْمُتَجَاهِلُونَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ نُشِرَ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ، فَأَيْنَ كَانَتِ الْقُوَّةُ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ؟ !
الْقِتَالُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ قَبِيحٌ، وَلَا يُجِيزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ ارْتِكَابَ الْقَبِيحِ إِلَّا لِإِزَالَةِ شَرٍّ أَقْبَحَ مِنْهُ، وَالْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا وَغَايَاتِهَا، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ حِكْمَةَ الْقِتَالِ وَكَوْنِهِ لِلضَّرُورَةِ وَإِزَالَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِدَالَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ هُنَا بِبَيَانِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِ الْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظُّلْمِ، حَتَّى أَكَّدَهُ بِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ، مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ مَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارُ لِأَجْلِهِ، فَقَالَ:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ تَقَدَّمَ أَنَّ الطَّاغُوتَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، إِلَى الْبَاطِلِ
وَالظُّلْمِ وَالشَّرِّ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُؤْمِنُونَ الْقِتَالَ - وَالْكَافِرُونَ لَا يَتْرُكُونَهُ - لَغَلَبَ الطَّاغُوتُ وَعَمَّ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (2: 251) ، فَغَلَبَتِ الْوَثَنِيَّةُ الْمُفْسِدَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَمَّ الظُّلْمُ بِعُمُومِ الِاسْتِبْدَادِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا لِأَنَّهُ يُزَيِّنُ لِأَصْحَابِهِ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ وَالشَّرَّ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، فَيُوهِمُهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ، وَفِيهَا عِزُّهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْكَيْدُ وَالْخِدَاعُ، وَمِنْ سُنَنِ اللهِ فِي تَعَارُضِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَالْبَاطِلَ يَسْفُلُ، وَفِي مُصَارَعَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بَقَاءُ الْأَصْلَحِ، وَرُجْحَانُ الْأَمْثَلِ، فَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطْلُبُونَ شَيْئًا ثَابِتًا صَالِحًا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعُمْرَانِ فَسُنَنُ الْوُجُودِ مُؤَيِّدَةٌ لَهُمْ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ يَطْلُبُونَ الِانْتِقَامَ وَالِاسْتِعْلَاءَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَسْخِيرَ النَّاسِ لِشَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ وَهِيَ أُمُورٌ تَأْبَاهَا فِطْرَةُ الْبَشَرِ السَّلِيمَةِ، وَسُنَنُ الْعُمْرَانِ الْقَوِيمَةِ، فَلَا قُوَّةَ وَلَا بَقَاءَ لَهَا، إِلَّا بِتَرْكِهَا وَشَأْنَهَا، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ لِأَهْلِهَا، وَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ
فِي نَوْمَةِ الْحَقِّ عَنْهُ، وَثَمَّ مَعْنًى آخَرُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ عَمَّا عَسَاهُ يَطُوفُ بِخَوَاطِرِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ أَنَّنَا لَا نُقَاتِلُ لِأَنَّنَا ضُعَفَاءُ وَالْأَعْدَاءُ أَكْثَرُ مِنَّا عَدَدًا، وَأَقْوَى مِنَّا عُدَدًا، فَدَلَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى قُوَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا قُوَّةٌ، وَضَعْفِ الْأَعْدَاءِ الَّذِي لَا يُفِيدُهُ مَعَهُ كَيَدٌ وَلَا حِيلَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ تَأْيِيدُ الْحَقِّ الَّذِي يُوقِنُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَصَاحِبُ الْيَقِينِ وَالْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ الْفَاضِلَةِ تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ بِكُلِّ قُوَاهَا إِلَى إِتْمَامِ الِاسْتِعْدَادِ، وَيَكُونُ أَجْدَرَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ.
أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ أَشْرَفُ مِنَ الْقِتَالِ الْمَدَنِيِّ لِأَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ يُقْصَدُ بِهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَحُرِّيَّةَ الدِّينِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ (8: 39) ، أَيْ حَتَّى لَا يُفْتَنَ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ وَيُكْرَهُ عَلَى تَرْكِهِ، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (2: 256) ، وَقَالَ فِي وَصْفِ مَنْ أُذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ بَعْدَ مَا بَيَّنَ إِلْجَاءَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (22: 41) ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَأَمَّا الْقِتَالُ الْمَدَنِيُّ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْمُلْكَ وَالْعَظْمَةَ، وَتَحَكُّمَ الْغَالِبِ الْقَوِيِّ فِي الْمَغْلُوبِ الضَّعِيفِ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الْحَرْبَ الدِّينِيَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ فِي الْحُرُوبِ الْمَدَنِيَّةِ، وَلَهُمْ طَمَعٌ فِي بِلَادٍ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَإِنَّمَا لَهَا بَقِيَّةٌ مِنْ قُوَّةِ الْعَقِيدَةِ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْقَضَاءَ عَلَى هَذِهِ الْبَقِيَّةِ وَيَتَّهِمُونَهَا بَاطِلًا بِهَذِهِ التُّهْمَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِتَالِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ - إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهَا أَعْمَالُ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى أَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي يُوجِبُهَا الدِّينُ وَيَشْتَرِطُ لَهَا الشُّرُوطَ وَيُحَدِّدُ لَهَا الْحُدُودَ
قَدْ تَرَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ قُرُونٍ طَوِيلَةٍ، وَلَوْ وُجِدَتْ فِي الْأَرْضِ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ تُقِيمُ الْقُرْآنَ وَتُحَوِّطُ الدِّينَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ إِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْحَرْبِ حَتَّى تَكُونَ أَقْوَى دَوْلَةٍ حَرْبِيَّةٍ ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ تَتَجَنَّبُ الِاعْتِدَاءَ فَلَا تَبْدَأُ غَيْرُهَا بِقِتَالٍ بِمَحْضِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، بَلْ تَقِفُ عِنْدَ تِلْكَ الْحُدُودِ الْعَادِلَةِ فِي الْهُجُومِ وَالدِّفَاعِ، لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ لَاتَّخَذَهَا أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الصَّحِيحَةِ قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ، وَلَكِنْ صَارَ بَعْضُ الْأُمَمِ الَّتِي لَا تَدِينُ بِالْقُرْآنِ أَقْرَبَ إِلَى أَحْكَامِهِ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ،
وَإِنَّمَا الْغَلَبَةُ وَالْعِزَّةُ لِمَنْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْفِعْلِ، عَلَى مَنْ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْهَا وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ بِالْقَوْلِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ تَذْكِيرُ صِفَةِ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا لِتَذْكِيرِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالْفِعْلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ عَلَى حَسَبِ مَا عَمِلَ فِيهِ، فَالظَّالِمُ أَهْلُهَا هَاهُنَا كَقَوْلِكَ: الَّتِي يَظْلِمُ أَهْلُهَا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، فَقَالَ: أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ
فِي لُبَابِ النُّقُولِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعِنْدَهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى أَنَّهَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِبْهَامِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّنِي أَجْزِمُ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَهْمَا كَانَ سَنَدُهَا ; لِأَنَّنِي أُبَرِّئُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ وَالنَّفْرِ لَهُ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُبْطِئِينَ لِضَعْفِ قُلُوبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي تَخَاصُمٍ وَتَلَاحُمٍ وَحُرُوبٍ مُسْتَحِرَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ - فَإِنَّ الْحُرُوبَ بَيْنَهُمْ لَمْ تَنْقَطِعْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ أَمَرَهُمُ الْإِسْلَامُ بِالسِّلْمِ وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ بِالْعِبَادَةِ وَالْكَفِّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالْقِتَالِ إِلَى أَنِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَفَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فَكَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ إِذْ أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِاحْتِرَامِ الدِّمَاءِ، وَكَفِّ الْأَيْدِي عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَبِالْخُشُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَتَمْكِينِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الَّتِي تُفِيدُ مَعَ تَمْكِينِ الْإِيمَانِ شَدَّ أَوَاخِي التَّرَاحُمِ بَيْنَهُمْ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَكْتُبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ لِيَجْرُوا عَلَى مَا تَعَوَّدُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَتِهِمْ وَحِمَايَةِ حَقِيقَتِهِمْ، كَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْقَهُوا مِنَ الْأَمْرِ بِكَفِّ الْأَيْدِي أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُحِبُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَأَنَّهُ مَا كَتَبَ الْقِتَالَ إِلَّا لِضَرُورَةِ دِفَاعِ الْمُبْطِلِينَ الْمُغِيرِينَ عَلَى الْحَقِّ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَبَاطِيلَهُمْ وَاتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيُرِيدُونَ أَنْ يُنَكِّلُوا بِهِمْ، أَوْ يَرْجِعُوا عَنْ حَقِّهِمْ فَأَيْنَ مَحَلُّ الِاسْتِنْكَارِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ؟ وَهَؤُلَاءِ هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَأَوْ هُنَا بِمَعْنَى " بَلْ " أَيْ: إِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي الْخَشْيَةِ أَنْ يَمِيلَ إِلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى الْآخَرِ تَارَةً، وَكَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ رَجَّحُوا
بِتَرْكِ الْقِتَالِ خَشْيَةَ النَّاسِ مُطْلَقًا قَالَ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أَيْ: بَلْ أَشَدَّ خَشْيَةً، أَقُولُ: اسْتَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ نُزُولَ الْآيَةِ فِي بَعْضِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمَا اسْتَحَقُّوهَا إِلَّا بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَجَعْلِهَا فِي الْمُبْطِئِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ فِيهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ ضِعَافُ
الْإِيمَانِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُ رِوَايَةً تَجْعَلُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهُمْ!
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَآيَاتٌ بَعْدَهَا فِي الْيَهُودِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، نَهَى اللهُ تبارك وتعالى هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يَصْنَعُوا صَنِيعَهُمْ، اهـ، أَيْ: أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - الِاعْتِبَارُ بِمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ (2: 246) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ كَلَّفَهُمْ مُخَالَفَةَ عَادَتِهِمْ فِي الْغَزْوِ وَالْقِتَالِ لِأَجْلِ الثَّأْرِ، وَلِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ وَالْكَسْبِ، وَأَمَرَهُمْ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ، حَتَّى خَمَدَتْ مِنْ نُفُوسِ أَكْثَرِهِمْ تِلْكَ الْحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا أَشْرَفُ الْعَوَاطِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّى لَوْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَبَعْضُ السَّابِقِينَ رَأَوْا تَرْكَهُ ذُلًّا وَطَلَبُوا الْإِذْنَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنَ النَّاسِ بَلْ ذَلِكَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ الصَّادِقِينَ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ - لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ - كَانَ كُرْهًا لِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2: 216) ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْعَزْمِ وَالْيَقِينِ أَطَاعُوا وَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ عز وجل، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ قِتَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِتَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ عَظِيمًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فَكَانُوا قَدْ أَنِسُوا وَسَكَنُوا إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ وَكَفِّ الْأَيْدِي فَنَالَ مِنْهُمُ الْجُبْنُ، وَأَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَكَرِهُوا الْمَوْتَ لِأَجْلِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِيمَانِ الرَّاسِخِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَثَرُ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْأَعْدَاءِ حَتَّى رَجَّحُوهُ عَلَى
الْخَشْيَةِ مِنَ اللهِ عز وجل وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ بِالْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ وَهُوَ يَقُولُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 175) ، وَاسْتَنْكَرُوا فَرْضَ الْقِتَالِ وَأَحَبُّوا لَوْ تَأَخَّرَ إِلَى أَجَلٍ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، أَيْ هَلَّا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَنْ نَمُوتَ حَتْفَ أُنُوفِنَا بِأَجَلِنَا الْقَرِيبِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْقَرِيبِ الزَّمَنُ الَّذِي يَقْوَوْنَ فِيهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِلْقِتَالِ بِمِثْلِ مَا عِنْدَ أَعْدَائِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونُوا قَصَدُوا أَجَلًا مُعَيَّنًا مَعْلُومًا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِمَحْضِ الْهَرَبِ وَالتَّفَصِّي مِنَ الْقِتَالِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُرْهِقُكَ عُسْرًا فِي أَمْرٍ: أَمْهِلْنِي قَلِيلًا أَنْظِرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ أَيْ: إِنَّ عِلَّةَ اسْتِنْكَارِكُمْ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِكُمُ الْإِنْظَارَ فِيهِ؛ إِنَّمَا هِيَ خَشْيَةُ
الْمَوْتِ، وَالرَّغْبَةُ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَكُلُّ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَتَاعِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ، فَإِنَّ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى لِأَنَّ مَتَاعَهَا كَثِيرٌ وَبَاقٍ لَا نَفَادَ لَهُ وَلَا زَوَالَ، وَإِنَّمَا يَنَالُهُ مَنِ اتَّقَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تُدَنِّسُ النَّفْسَ بِالشِّرْكِ وَبِالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالْجُبْنِ وَالْقُعُودِ عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، وَإِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهِيَ شَرٌّ وَوَبَالٌ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَجْزِيُّونَ هُنَالِكَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ وَلَا تُنْقَصُونَ مِنَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَسْتَحِقُّونَهُ بِأَثَرِ أَعْمَالِكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِقْدَارَ فَتِيلٍ، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ مِثْلَ الْخَيْطِ، أَوْ مَا يُفْتَلُ بِالْأَصَابِعِ مِنَ الْوَسَخِ عَلَى الْجِلْدِ أَوْ مِنَ الْخُيُوطِ، يُضْرَبُ هَذَا مَثَلًا فِي الْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ، وَقِيلَ: لَا تُنْقَصُونَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ آجَالِكُمْ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" يُظْلَمُونَ " عَلَى الْغِيبَةِ لِتَقَدُّمِهَا وَالْبَاقُونَ " تُظْلَمُونَ " بِالْخِطَابِ، ثُمَّ جَاءَ بِمَا يَذْهَبُ بِأَعْذَارِهِمْ، وَيَنْفُخُ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ مِنْهُمْ فَقَالَ:
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ: إِنَّ الْمَوْتَ
حَتْمٌ لَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَهْرَبَ، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَكُمْ فِي أَيِّ مَكَانٍ كُنْتُمْ وَلَوْ تَحَصَّنْتُمْ مِنْهُ فِي الْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ، وَهِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ فَيَعُزُّ الِارْتِقَاءُ إِلَيْهَا بِدُونِ إِذْنِهِمْ، أَوِ الْحُصُونُ الْمَنِيعَةُ الَّتِي تَعْتَصِمُ فِيهَا حَامِيَةُ الْجُنْدِ، شَيَّدَ الْبِنَاءَ يُشَيِّدُهُ عَلَّاهُ وَأَحْكَمَ بِنَاءَهُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَبْنِيَهُ بِالشِّيدِ وَهُوَ - بِالْكَسْرِ - كُلُّ مَا يُطْلَى بِهِ الْحَائِطُ كَالْجِصِّ وَالْبَلَاطِ، يُقَالُ: شَادَّ الْبِنَاءَ إِذَا جَصَّصَهُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَكُلُّ مَا أُحْكِمَ مِنَ الْبِنَاءِ فَقَدْ شُيِّدَ، وَتَشْيِيدُ الْبِنَاءِ إِحْكَامُهُ وَرَفْعُهُ، أَيْ: لِأَنَّ فِي التَّفْعِيلِ مَعْنًى مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ فِي الشَّيْءِ، وَأَجَازَ الرَّاغِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ بُرُوجَ النَّجْمِ وَيَكُونَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْمُشَيَّدَةِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ وَتَكُونَ الْإِشَارَةُ بِالْمَعْنَى إِلَى نَحْوِ مَا قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ
…
وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ لَا مَفَرَّ عَنْهُ وَلَا عَاصِمَ، وَكَانَ الْمَرْءُ يَخُوضُ مَعَامِعَ الْقِتَالِ فَيُصَابُ وَلَا يَمُوتُ، وَيُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِيهَا أَحْيَانًا فَلَا يُصَابُ بِجُرْحٍ وَلَا يُقْتَلُ، وَقَدْ يَمُوتُ الْمُعْتَصِمُ فِي الْبُرُوجِ وَالْحُصُونِ اغْتِضَارًا، وَإِذَا كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِتَالِ هُوَ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْجُبَنَاءَ يُغْرُونَ أَعْدَاءَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ دِفَاعِهِمْ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِعْدَادُ لِلْقِتَالِ وَالْإِقْدَامُ فِيهِ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَمَنْعِ الْبَاطِلِ أَنْ يَسُودَ وَالشَّرِّ أَنْ يَفْشُوَ - مُوجِبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَلِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَمَا هُوَ عُذْرُكُمْ أَيُّهَا الْقَاعِدُونَ الْمُبْطِئُونَ؟
وَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ
…
كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
فَلِمَاذَا تَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِكُمُ الْحَقِيرَ عَلَى الْعَظِيمِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ؟
كَانَ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ أَنْ كَرِهُوا الْقِتَالَ وَجَبُنُوا عَنْهُ وَخَافُوا النَّاسَ وَتَمَنَّوْا بِذَلِكَ طُولَ الْبَقَاءِ، فَكَانَ هَذَا صَدْعًا فِي دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ قَامَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، ثُمَّ ذَكَرْنَا شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِهِمْ يُشْبِهُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَرَضِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ فَقَالَ:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْحَسَنَةُ مَا يَحْسُنُ عِنْدَ صَاحِبِهِ
كَالرَّخَاءِ وَالْخَضْبِ وَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، كَانُوا يُضِيفُونَ الْحَسَنَةَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا بِشُعُورِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ بَلْ غُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ، وَزَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُمْ بِهَا عِنَايَةً بِهِمْ، وَهُرُوبًا مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَمَا حَاطَهُمْ بِهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ السَّيِّئَةَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم بَرِيءٌ مِنْ أَسْبَابِهَا، دَعْ إِيجَادَهَا وَإِيقَاعَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، وَالسَّيِّئَةُ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ كَالشِّدَّةِ وَالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْهَزِيمَةِ وَالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ، كَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ فِي الْمَدِينَةِ سَيِّئَةٌ بَعْدَ الْهِجْرَةِ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِوُقُوعِهَا فِي مُلْكِهِ عَلَى حَسَبِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا أَيْ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَمَاذَا أَصَابَ عُقُولَهُمْ حَالَ كَوْنِهَا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْغَوْصِ فِي أَعْمَاقِ الْحَدِيثِ وَفَهْمِ مَقَاصِدِهِ وَأَسْرَارِهِ! فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ حَقِيقَةَ حَدِيثٍ يُلْقُونَهُ وَلَا حَقِيقَةَ حَدِيثٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ قَطُّ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ بِمَا يَطْفُو مِنَ الْمَعْنَى عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ بَادِئَ الرَّأْيِ، وَالْفِقْهُ مَعْرِفَةُ مُرَادِ صَاحِبِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فِيهِ مِنَ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ وَالْغَائِيَّةِ لَهُ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ فَقَدُوا هَذَا الْفِقْهَ وَحُرِمُوهُ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ، فَأَجْدَرُ بِهِمْ أَنْ يُحْرَمُوهُ مِنْ حَدِيثٍ يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ عَنْ وَحْيِ رَبِّهِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، فَهَذِهِ الْمَعَارِفُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِفَضْلِ الرَّوِيَّةِ وَذَكَاءِ الْعَقْلِ وَطُولِ التَّدَبُّرِ، وَمَنْ نَالَهَا لَا يَقُولُ بِأَنَّ سَيِّئَةً تَقَعُ بِشُؤْمِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يُسْنِدُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى السَّبَبِ، أَوْ إِلَى وَاضِعِ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ أَنْ يَطْلُبَ فِقْهَ الْقَوْلِ دُونَ الظَّوَاهِرِ الْحَرْفِيَّةِ، فَمَنِ اعْتَادَ الْأَخْذَ بِمَا يَطْفُو مِنَ الظَّوَاهِرِ دُونَ مَا رَسَبَ فِي أَعْمَاقِ الْكَلَامِ وَمَا تَغَلْغَلَ فِي أَنْحَائِهِ وَأَحْنَائِهِ يَبْقَى جَاهِلًا غَبِيًّا طُولَ عُمْرِهِ.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي السَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَوْضُوعِهَا وَسُنَنِ
الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، وَأَنَّهَا كُلَّهَا تُضَافُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى اللهِ عز وجل، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ:
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مَهْمَا يُصِبْكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَهِيَ مِنْ مَحْضِ فَضْلِ اللهِ الَّذِي سَخَّرَ لَكَ الْمَنَافِعَ الَّتِي تَحْسُنُ عِنْدَكَ لَا بِاسْتِحْقَاقِ سَبْقٍ لَكَ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَبِمَاذَا اسْتَحْقَقْتَ أَنْ يُسَخِّرَ لَكَ الْهَوَاءَ النَّقِيَّ الَّذِي يُطَهِّرُ دَمَكَ، وَيَحْفَظُ حَيَاتَكَ، وَالْمَاءَ الْعَذْبَ الَّذِي يَمُدُّ حَيَاتَكَ وَحَيَاةَ كُلِّ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَنْتَفِعُ بِهَا، وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الْكَثِيرَةُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَحَيَوَانَاتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَادِّ الْغِذَاءِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ وَالْهَنَاءِ، وَمَهْمَا يُصِبْكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ أُوتِيتَ قُدْرَةً عَلَى الْعَمَلِ وَاخْتِيَارًا فِي تَقْدِيرِ الْبَاعِثِ الْفِطْرِيِّ عَلَيْهِ مِنْ دَرْءِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، فَصِرْتَ تَعْمَلُ بِاجْتِهَادِكَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْمَقَاصِدِ عَلَى بَعْضٍ فَتُخْطِئُ فَتَقَعُ فِيمَا يَسُوؤُكَ، فَلَا أَنْتَ تَسِيرُ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَتَتَحَرَّى جَادَّتَهَا، وَلَا أَنْتَ تُحِيطُ عِلْمًا بِالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ وَضَبْطِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ فِي اخْتِيَارِ الْحَسَنِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا تُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي حِينٍ دُونَ حِينٍ بِالْهَوَى أَوْ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِالنَّافِعِ وَالضَّارِّ مِنْهَا فَتَقَعُ فِيمَا يَسُوؤُكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَمِلْتَ السَّيِّئَاتِ.
وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ أَنَّ هُنَا حَقِيقَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَأَنَّهُ وَاضِعُ النِّظَامِ وَالسُّنَنِ لِأَسْبَابِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِسَعْيِ الْإِنْسَانِ، وَكُلُّ شَيْءٍ حَسَنٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُ مَظْهَرُ الْإِبْدَاعِ وَالنِّظَامِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقَعُ فِي شَيْءٍ يَسُوؤُهُ إِلَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي اسْتِبَانَةِ الْأَسْبَابِ وَتَعَرُّفِ السُّنَنِ، فَالسَّوْءُ مَعْنًى يَعْرِضُ لِلْأَشْيَاءِ بِتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَسُوؤُهُ وَلَيْسَ ذَاتِيًا لَهَا وَلِذَلِكَ يُسْنَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: الْمَرَضُ، فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوءُ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ إِنَّمَا يُصِيبُهُ بِتَقْصِيرِهِ فِي السَّيْرِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي الْغِذَاءِ وَالْعَمَلِ فَيَجِيءُ مِنْ تُخْمَةٍ قَادَتْهُ إِلَيْهَا الشَّهْوَةُ، أَوْ مِنْ إِفْرَاطٍ فِي التَّعَبِ أَوْ فِي الرَّاحَةِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ كَتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلْبَرْدِ
الْقَارِسِ أَوِ الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْجَهْلِ بِالْأَسْبَابِ وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ فِي التَّرْجِيحِ، وَالْأَمْرَاضُ الْمَوْرُوثَةُ مِنْ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ أَيْضًا لَا مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَحْضِ خَلْقِ اللهِ دُونَ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، فَوَالِدَاهُ يَجْنِيَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِتَعْرِيضِ أَنْفُسِهِمَا لِلْمَرَضِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَى نَسْلِهِمَا بِالْوِرَاثَةِ، كَمَا يَجْنِيَانِ عَلَيْهِ بَعْدَهُ بِتَعْرِيضِهِ هُوَ لِلْمَرَضِ فِي صِغَرِهِ بِعَدَمِ وِقَايَتِهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اخْتِيَارُهُمَا لَهُ قَائِمًا مَقَامَ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا خَاصًّا: غَزْوَةَ أُحُدٍ، أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا سَيِّئَةٌ كَانَ سَبَبُهَا تَقْصِيرَهُمْ
فِي الْوُقُوفِ عِنْدَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ فَعِصْيَانَ قَائِدِ عَسْكَرِهِمْ وَرَسُولِهِمْ صلى الله عليه وسلم، وَتَرَكَ الرُّمَاةُ مِنْهُمْ مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ لِلنِّضَالِ وَكَانَ ذَلِكَ لِخَطَأٍ فِي الِاجْتِهَادِ سَبَبُهُ الطَّمَعُ فِي الْغَنِيمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا تُسْنَدُ إِلَى اللهِ عز وجل وَيُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِمَوَادِّهَا وَالْوَاضِعُ لِسُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِيهَا، وَيُسْنَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْهَا كُلُّ مَالَهُ فِيهِ كَسْبٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَوِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ مَضَى بِهَذَا عُرْفُ النَّاسِ وَأَيَّدَتْهُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (6: 160) ، فَلِمَاذَا جَعَلَ هُنَا إِصَابَةَ الْحَسَنَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُطْلَقًا وَإِصَابَةَ السَّيِّئَةِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا؟
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ حَقٌّ، وَمَا فِي الْآيَةِ حَقٌّ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَالْمَقَامُ الَّذِي سِيقَتِ الْآيَةُ لَهُ هُوَ بَيَانُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَفْيُ الشُّؤْمِ وَالتَّطَيُّرِ وَإِبْطَالُهُمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ لَا يُصِيبُهُمْ بِشُؤْمِ أَحَدٍ يَكُونُ فِيهِمْ، وَكَانُوا يَتَشَاءَمُونَ وَيَتَطَيَّرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يَزَالُ التَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِينَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ، وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَرُدُّهَا الْعَقْلُ وَقَدْ أَبْطَلَهَا دِينُ الْفِطْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (7: 131) ، فَقَدْ جَعَلَ التَّطَيُّرَ مِنَ الْجَهْلِ وَفَقْدِ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ.
ثَانِيَهُمَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِعَدَمِ إِسْنَادِهَا إِلَى شُؤْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا عَمَلٌ وَلَا كَسْبٌ ; لِأَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا مِنْ تَقْصِيرِهِ وَخُرُوجِهِ بِجَهْلِهِ أَوْ هَوَاهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْتِمَاسِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَاتِّقَاءِ الْمَضَارِّ بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ هُوَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَرْجِيحِ الْخَيْرِ لَهَا عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّفْعِ عَلَى الضُّرِّ، وَكَوْنِ كُلِّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَاهُ نَافِعَةً لَهُ إِذَا أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَهَا، وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ سَيِّئَةٌ قَطُّ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ يَقَعُ فِي الضَّرَرِ غَالِبًا بِسُوءِ الِاسْتِعْمَالِ وَطَلَبِ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ لَوْلَا جِنَايَتُهُ عَلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ، كَالْإِفْرَاطِ فِي اللَّذَّاتِ وَالتَّعَبِ، تَنْفِرُ مِنْهُ الْفِطْرَةُ فَيَحْتَالُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَيَحْمِلُهَا مَا لَا تَحْمِلُهُ بِطَبْعِهَا لَوْلَا ظُلْمُهُ لَهَا، كَاسْتِعْمَالِهِ الْأَدْوِيَةِ لِإِثَارَةِ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالْوِقَاعِ وَعَدَمِ وُقُوفِهِ فِيهِمَا عِنْدَ حَدِّ الدَّاعِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، كَأَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا إِذَا جَاعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ وَالتَّوَابِلِ الْمُحَرِّضَةِ، فَمَصَائِبُ الْإِنْسَانِ مِنْ ظُلْمِهِ وَكَسْبِهِ [رَاجِعْ ص 65 و155 - 158 و281 ج4] .
لُبُّ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي عَلَّمَنَا اللهُ إِيَّاهَا وَرَبَّانَا بِهَا هُوَ أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، كَسُنَنِهِ فِي فِطْرَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (67: 3) ، كُلُّهَا مَصَادِرُ لِلْحَسَنَاتِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سَيِّئٌ بِطَبْعِهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ، وَمِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا أَحْكَمَ الْعِلْمَ وَأَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ مُهْتَدِيًا بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - كَانَ مَغْمُورًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَإِذَا قَصَّرَ فِي الْعِلْمِ وَأَسَاءَ الِاخْتِيَارَ فِي اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ وَأَعْضَائِهِ فِي غَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ وَحَاجَةُ الطَّبِيعَةِ وَقَعَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوؤُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُعَاتَبَةِ كُلَّمَا أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ، لِيَعْتَبِرَ بِهَا وَيَزْدَادَ عِلْمًا وَكَمَالًا، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَعِلْمِ النَّفْسِ فِيهَا شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ، وَتَثْبِيتٌ فِي مَقَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَهِيَ مِنَ اللهِ عز وجل خَلْقًا لِمَوَارِدِهَا وَأَسْبَابِهَا وَتَقْدِيرًا لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ بِجَعْلِهَا عَلَى قَدْرِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ لِلْإِنْسَانِ عَمَلًا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ أَحْسَنَ وَأَصَابَ كَانَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ بِفَضْلِ اللهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَخْطَأَ وَأَسَاءَ كَانَتْ لَهُ السَّيِّئَةُ بِخُرُوجِهِ عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَتَقْصِيرِهِ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ دَخْلٌ فِيمَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلتَّبْلِيغِ وَالْهِدَايَةِ لَا لِلتَّصَرُّفِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَتَحْوِيلِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ أَوْ تَبْدِيلِهَا، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا (35: 43) ، فَزَعْمُ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُهُمْ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَمَا تَخَيَّلُوا مِنْ شُؤْمِهِ، لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا بَيَّنَ مِنْ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ فِي النَّقْلِ، عَلَى أَنَّ هِدَايَتَهُ جَامِعَةٌ لِأَسْبَابِ النِّعَمِ فَهِيَ مِنْ يُمْنِهِ لَا مَنْ خَلْقِهِ.
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِتَأْيِيدِكَ بِآيَاتِهِ، وَتَصْدِيقِكَ فِيمَا أَنْذَرْتَ بِهِ الْمُعْرِضِينَ، وَبَشَّرْتَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ شَهِيدًا بِأَنَّكَ لَمْ تُرْسَلْ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، لَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ وَلَا جَبَّارًا لَهُمْ، وَلَا مُغَيِّرًا لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا الشَّهَادَةُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمُنْكَرَةَ.
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى هُنَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِمْ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى هُنَا كَانَ يَقُولُ هَذَا يَهُودُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ كَوْنَ السِّيَاقِ فِيهِمْ، وَفِي مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ، لَا فِي ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ خَاصَّةً كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَلَهُ رحمه الله تَعَالَى - مَقَالٌ فِي تَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَكَانَ قَدْ سُئِلَ
عَنْهُمَا فَأَجَابَ وَنَشَرْنَا جَوَابَهُ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ (ص 157) وَيَحْسُنُ أَنْ نَضَعَهُ هَاهُنَا فَهُوَ مَوْضِعُهُ وَهُوَ:
" كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ بَطَرًا جَاهِلًا، إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَنِعْمَةٌ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَكْرَمَهُ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْدَرَهُ مِنْ لَدُنْهُ وَسَاقَهُ إِلَيْهِ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِهِ عِنَايَةً مِنْهُ بِهِ لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ شَرٌّ - وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ السَّيِّئَةِ - يَزْعُمُ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ شُؤْمَ وَجُودِهِ هُوَ يَنْبُوعُ هَذِهِ السَّيِّئَاتِ وَالشُّرُورِ، فَهَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ يَتَنَاوَبَانِهِمْ قَبْلَ ظُهُورِ النَّبِيِّ وَبَعْدَهُ، كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَيَنْسُبُونَ الْخَيْرَ أَوِ الْحَسَنَةَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُهَا الْأَوَّلُ وَمُعْطِيهَا الْحَقِيقِيُّ، يُشِيرُونَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدَ لِلنَّبِيِّ فِيهِ، وَيَنْسُبُونَ الشَّرَّ أَوِ السَّيِّئَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُهَا الْأَوَّلُ وَمَنْبَعُهَا الْحَقِيقِيُّ كَذَلِكَ، وَأَنَّ شُؤْمَهُ هُوَ الَّذِي رَمَاهُمْ بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَوْ مِنْ عِنْدِكَ، أَيْ مِنْ لَدُنْهُ وَمِنْ خَزَائِنِ عَطَائِهِ، وَمِنْ لَدُنْكَ وَمِنْ خَزَائِنِ رَزَايَاكَ الَّتِي تَرْمِي بِهَا النَّاسَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ بِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَيْ: إِنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ وَوَاضِعَ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْمُنْعِمَ بِالنِّعَمِ وَالرَّامِيَ بِالنِّقَمِ إِنَّمَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِيُمْنٍ وَلَا لِشُؤْمٍ مُدْخَلٌ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ بَيَانٌ لِلْفَاعِلِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ الْفِعْلُ فِيمَا لَا تَتَنَاوَلُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ كَسْبُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْنِيهِ أُولَئِكَ الْمُشَاقُّونَ عِنْدَمَا يَقُولُونَ: الْحَسَنَةُ مِنَ اللهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَيْ: إِنَّهُ لَا دَخْلَ لِاخْتِيَارِهِمْ فِي الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ، وَأَنَّ الْأُولَى مِنْ عِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ وَالثَّانِيَةَ مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ تَرْمِيهِمْ بِالْجَهْلِ فَمَا زَعَمُوا، وَلَوْ عَقَلُوا لَعَلِمُوا أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فِعْلٌ، الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
" هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ بِيَدِهِ الْأَمْرُ الْأَعْلَى فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِسُنَّةِ اللهِ فِي طَرِيقِ كَسْبِ الْخَيْرِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الشَّرِّ وَالتَّمَسُّكِ بِأَسْبَابِ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا يَزْعُمُونَ، كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قَدْ وَهَبَنَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْقُوَى مَا يَكْفِينَا فِي تَوْفِيرِ أَسْبَابِ سَعَادَتِنَا وَالْبُعْدِ عَنْ مَسَاقِطِ الشَّقَاءِ، فَإِذَا نَحْنُ اسْتَعْمَلْنَا تِلْكَ الْمَوَاهِبَ فِيمَا وُهِبَتْ لَهُ لِأَجْلِهِ وَصَرَفْنَا حَوَاسَّنَا وَعُقُولَنَا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي نَنَالُ مِنْهَا الْخَيْرَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَصْحِيحِ الْفِكْرِ وَإِخْضَاعِ جَمِيعِ قُوَانَا لِأَحْكَامِهِ وَفَهْمِ شَرَائِعِ اللهِ حَقَّ الْفَهْمِ وَالْتِزَامِ مَا حَدَّدَهُ فِيهَا، فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّنَا نَنَالُ الْخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ، وَنَبْعُدُ عَنِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَاسَةِ، وَهَذِهِ النِّعَمُ إِنَّمَا يَكُونُ مَصْدَرُهَا تِلْكَ الْمَوَاهِبَ الْإِلَهِيَّةَ فَهِيَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، فَمَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنِ اللهِ ; لِأَنَّ قُوَاكَ الَّتِي كَسَبْتَ بِهَا الْخَيْرَ وَاسْتَغْزَرْتَ بِهَا الْحَسَنَاتِ، بَلْ وَاسْتِعْمَالَكَ لِتِلْكَ الْقُوَى إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ ; لِأَنَّكَ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ سِوَى اسْتِعْمَالِ
مَا وَهَبَ اللهُ، فَاتِّصَالُ الْحَسَنَةِ بِاللهِ ظَاهِرٌ، وَلَا يَفْصِلُهَا فَاصِلٌ لَا ظَاهِرٌ
وَلَا بَاطِنٌ، وَأَمَّا إِذَا أَسَأْنَا التَّصَرُّفَ فِي أَعْمَالِنَا، وَفَرَّطْنَا فِي النَّظَرِ فِي شُئُونِنَا، وَأَهْمَلْنَا الْعَقْلَ وَانْصَرَفْنَا عَنْ سِرِّ مَا أَوْدَعَ اللهُ فِي شَرَائِعِهِ، وَغَفَلْنَا عَنْ فَهْمِهِ، فَاتَّبَعْنَا الْهَوَى فِي أَفْعَالِنَا، وَجَلَبْنَا بِذَلِكَ الشَّرَّ عَلَى أَنْفُسِنَا، كَانَ مَا أَصَابَنَا مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ سُوءِ اخْتِيَارِنَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَيْنَا جَزَاءً عَلَى مَا فَرَّطْنَا، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنَّ نَنْسُبَ ذَلِكَ إِلَى شُؤْمِ أَحَدٍ أَوْ تَصَرُّفِهِ، وَنِسْبَةُ الشَّرِّ وَالسَّيِّئَاتِ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ، فَأَمَّا الْمَوَاهِبُ الْإِلَهِيَّةُ بِطَبِيعَتِهَا فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَاتِ وَإِنَّمَا يُبْطِلُ أَثَرَهَا إِهْمَالُهَا، أَوْ سُوءُ اسْتِعْمَالِهَا، وَعَنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ يُسَاقُ الشَّرُّ إِلَى أَهْلِهِ وَهُمَا مِنْ كَسْبِ الْمُهْمِلِينَ وَسَيِّئِ الِاسْتِعْمَالِ، فَحَقَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مَا أُصِيبُوا بِهِ وَهُمُ الْكَاسِبُونَ لِسَبَبِهِ، فَقَدْ حَالُوا بِكَسْبِهِمْ بَيْنَ الْقُوَى الَّتِي غَرَزَهَا اللهُ فِيهِمْ لِتُؤَدِّيَ إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، وَبَيْنَمَا حَقُّهَا أَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَبَعُدُوا بِهَا عَنْ حِكْمَةِ اللهِ فِيهَا، وَصَارُوا بِهَا إِلَى ضِدِّ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ هَذَا الْكَسْبِ الْجَدِيدِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُنْسَبَ إِلَّا إِلَى كَاسِبِهِ.
" وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمَقَامَيْنِ: أَنَّهُ إِذَا نُظِرَ إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَمْنَحُ وَيَسْلُبُ وَيُنْعِمُ وَيَنْتَقِمُ فَذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنْ سِوَاهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ لَا يَكَادُ يَفْقَهُ كَلَامًا ; لِأَنَّ نِسْبَةَ الْخَيْرِ إِلَى اللهِ وَنِسْبَةَ الشَّرِّ إِلَى شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، فَإِنَّ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ وَيَقْدِرُ عَلَى سَوْقِهِ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّرِّ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبٌ مِنَ الْخَبَلِ فِي الْعَقْلِ.
" وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَسْنُونَةِ الَّتِي دَعَا اللهُ الْخَلْقَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا لِيَكُونُوا سُعَدَاءَ وَلَا يَكُونُوا أَشْقِيَاءَ، فَمَنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بِحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا وَهَبَ اللهُ فَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَ الْآلَاتِ الَّتِي مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ وَيَشْكُرَهُ عَلَى مَا آتَاهُ، وَمَنْ فَرَّطَ أَوْ أَفْرَطَ فِي اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَهُوَ
الَّذِي أَسَاءَ إِلَيْهَا بِسُوءِ اسْتِعْمَالِهِ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ، وَلَيْسَ بِسَائِغٍ لَهُ أَنْ يَنْسُبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَوْ سِوَاهُ لَمْ يَغْلِبْهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَقْهَرْهُ عَلَى إِتْيَانِ مَا كَانَ سَبَبًا فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ.
" فَلَوْ عَقَلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَحَمِدُوا اللهَ وَحَمَدُوكَ - يَا مُحَمَّدُ - عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَانِحُهُمْ مَا وَصَلُوا بِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَنْتَ دَاعِيهِمْ لِالْتِزَامِ شَرَائِعِ اللهِ وَفِي الْتِزَامِهَا سَعَادَتُهُمْ، ثُمَّ إِذَا أَصَابَهُمْ شَرٌّ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ أَوْ خُرُوجِهِمْ عَنْ حُدُودِ اللهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُمْ لِلتَّقْصِيرِ أَوِ الْعِصْيَانِ فَيُؤَدِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِيَخْرُجُوا مِنْ نِقْمَتِهِ إِلَى نِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنَّمَا يُنْعِمُ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ وَيَسْلُبُ نِعْمَتَهُ عَمَّنْ أَسَاءَهُ.
"
وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ، وَأَنَّ عِصْيَانَهُ مِنْ مَجَالِبِ النِّقَمِ، وَطَاعَةُ اللهِ إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِ سُنَنِهِ، وَصَرْفِ مَا وَهَبَ مِنَ الْوَسَائِلِ فِيمَا وُهِبَ لِأَجْلِهِ ".
" وَلِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَظَائِرٌ فِي عُرْفِ التَّخَاطُبِ، فَإِنَّكَ لَوْ كُنْتَ فَقِيرًا وَأَعْطَاكَ وَالِدُكَ مَثَلًا رَأْسَ مَالٍ فَاشْتَغَلْتَ بِتَنْمِيَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ مَعَ حُسْنٍ فِي التَّصَرُّفِ وَقَصْدٍ فِي الْإِنْفَاقِ وَصِرْتَ بِذَلِكَ غَنِيًّا، فَإِنَّهُ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ غِنَاكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَاكَ رَأْسَ الْمَالِ وَأَعَدَّكَ بِهِ لِلْغِنَى، أَمَّا لَوْ أَسَأْتَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَأَخَذْتَ تُنْفِقُ مِنْهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ، وَاطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْكَ فَاسْتَرَدَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَحَرَمَكَ نِعْمَةَ التَّمَتُّعِ بِهِ، فَلَا رَيْبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَفْسُكَ وَسُوءُ اخْتِيَارِهَا، مَعَ أَنَّ الْمُعْطِيَ وَالْمُسْتَرِدَّ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ وَالِدُكَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ يُنْسَبُ إِلَى مَصْدَرِهِ الْأَوَّلِ إِذَا انْتَهَى عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ، وَيُنْسَبُ إِلَى السَّبَبِ الْقَرِيبِ إِذَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ مَا يُحِبُّ ; لِأَنَّ تَحْوِيلَ الْوَسَائِلِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا إِلَى مَقَاصِدِهَا إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى مَنْ حَوَّلَهَا وَعَدَلَ بِهَا عَمَّا كَانَ يَجِبُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ.
" وَهُنَاكَ لِلْآيَةِ مَعْنًى أَدَقُّ، يَشْعُرُ بِهِ ذُو وِجْدَانٍ أَرَقَّ، مِمَّا يَجِدُهُ الْغَافِلُونَ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنَّ مَا وَجَدْتَ مِنْ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ، وَمَا تَمَتَّعْتَ بِهِ مِنْ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ،
فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ وَاخْتَارَهُ لَكَ، وَمَا خُلِقْتَ إِلَّا لِتَكُونَ سَعِيدًا بِمَا وَهَبَكَ، أَمَّا مَا تَجِدُهُ مِنْ حُزْنٍ وَكَدَرٍ فَهُوَ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَوْ نَفَذَتْ بَصِيرَتُكَ إِلَى سِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا سِيقَ إِلَيْكَ لَفَرَحْتَ بِالْمُحْزِنِ فَرَحَكَ بِالسَّارِّ، وَإِنَّمَا أَنْتَ بِقِصَرِ نَظَرِكَ تُحِبُّ أَنْ تَخْتَارَ مَا لَمْ يَخْتَرْهُ لَكَ الْعَلِيمُ بِكَ الْمُدَبِّرُ لِشَأْنِكَ، وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى الْعَالَمِ نَظْرَةَ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَأَخَذْتَهُ كَمَا هُوَ وَعَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَكَانَتِ الْمَصَائِبُ لَدَيْكَ بِمَنْزِلَةِ التَّوَابِلِ الْحِرِّيفَةِ يُضِيفُهَا طَاهِيكَ عَلَى مَا يُهَيِّئُ لَكَ مِنْ طَعَامٍ لِتَزِيدَهُ حُسْنَ طَعْمٍ وَتَشْحَذَ مِنْكَ الِاشْتِهَاءَ لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّةِ، وَاسْتَحْسَنْتَ بِذَلِكَ كُلَّ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ، وَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنَ الْتِزَامِ حُدُودِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِنِعَمِهِ، وَالتَّحَوُّلِ عَنْ مَصَابِّ نِقَمِهِ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي النِّقْمَةِ إِنَّمَا هِيَ لَذَّةُ التَّأْدِيبِ، وَمَتَاعُ التَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ وَهُوَ مَتَاعٌ تَجْتَنِي فَائِدَتَهُ، وَلَا تَلْتَزِمُ طَرِيقَتَهُ، فَكَمَا يَسُرُّ طَالِبُ الْأَدَبِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَأَنْ يَلْتَذَّ بِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَعَبٍ فِيهِ، يَسُرُّهُ كَذَلِكَ أَنْ يَرْتَقِيَ فَوْقَ ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَى مُسْتَوًى يَجِدُ نَفْسَهُ فِيهِ مُتَمَتِّعًا بِمَا حَصَلَ، بَالِغًا مَا أَمَلَ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكْتَفِيَ، انْتَهَى.
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُسَايِرَةٌ لَهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ طَاعَةَ
اللهِ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِمَا مَعًا أَمْرًا عَامًّا، وَبَيَّنَ جَزَاءَ الْمُطِيعِ وَأَحْوَالَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَالصِّدْقِ فِيهِ وَالنِّفَاقِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ، وَبَيَّنَ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الِامْتِثَالِ، وَبَعْدَ هَذَا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ الطَّاعَةِ وَكَوْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى بِالذَّاتِ، وَلِغَيْرِهِ بِالتَّبَعِ، وَبَيَّنَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ مُرَاوَغَةِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا فَقَالَ:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ أَيْ: إِنَّ الرَّسُولَ هُوَ رَسُولُ اللهِ، فَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَهُوَ الْعِبَادَاتُ وَالْفَضَائِلُ، وَالْأَعْمَالُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ الَّتِي تُحْفَظُ بِهَا الْحُقُوقَ، وَتُدْرَأُ الْمَفَاسِدُ، وَتُحْفَظُ الْمَصَالِحُ، فَمَنْ أَطَاعَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللهِ عز وجل، فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَأْمُرُ النَّاسَ وَيَنْهَاهُمْ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلٍ مِنْهُمْ، يَفْهَمُونَ عَنْهُمْ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعَادَاتِ، كَمَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَمَا يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ أَمْرَ الْإِرْشَادِ، فَطَاعَتُهُ فِيهِ لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا وَلَا شَرْعًا عَنْهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْأَدَبِ وَقُدْوَةِ الْحُبِّ، مِثَالُهُ: أَمْرُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِكَيْلِ الطَّعَامِ كَالْقَمْحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُبُوبِ، أَيْ: عِنْدَ اتِّخَاذِهِ وَعِنْدَ إِرَادَةِ طَبْخِهِ، وَهُوَ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي الْبُيُوتِ، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَتْرُكُونَهُ إِلَّا مَنْ يَتَّبِعُ طُرُقَ الْمَدَنِيَّةِ الْحَدِيثَةِ فِي الِاقْتِصَادِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَا يَظْهَرُ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ لِمُنَاسَبَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمُخَاطَبِينَ، كَالْأَمْرِ بِأَكْلِ الزَّيْتِ وَالِادِّهَانِ بِهِ وَالْأَمْرِ بِأَكْلِ الْبَلَحِ بِالتَّمْرِ، فَهُوَ مَا كَانَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا بَاسِمِ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ عز وجل، وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -
إِذَا شَكُّوا فِي الْأَمْرِ، هَلْ هُوَ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ رَأْيِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَاجْتِهَادِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَأْيٌ آخَرَ سَأَلُوهُ، فَإِنْ أَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ أَطَاعُوهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ مِنْ رَأْيِهِ ذَكَرُوا رَأْيَهُمْ وَرُبَّمَا رَجَعَ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يُطَاعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ وَإِلَهُهُمْ وَمَلِكُهُمْ، وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَغْمُورُونَ بِنِعَمِهِ، وَأَنَّ رُسُلَهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْهُ مِنْ
حَيْثُ إِنَّهُمْ رُسُلُهُ لَا لِذَاتِهِمْ، وَمِثَالُ ذَلِكَ الْحَاكِمُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ الْمَمْلَكَةِ وَقَوَانِينِهَا، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْأَوَامِرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا تَجُبْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ مُقَاتِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ "، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ قَارَبَ هَذَا الرَّجُلُ الشِّرْكَ، وَهُوَ أَنْ نَهَى أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ، وَيُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ أَلْبَتَّةَ لِلرَّسُولِ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ، انْتَهَى.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُقَاتِلٍ هُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْبَدًا خَاضِعًا إِلَّا لِخَالِقِهِ وَحْدَهُ دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَتَرْجُو نَفْعَهُ وَتَخَافُ ضُرَّهُ وَتَدْعُو وَتَذِلُّ لَهُ، سَوَاءٌ شَعَرْتَ فِي تَوَجُّهِ قَلْبِكَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يَنْفَعُكَ بِذَاتِهِ، أَوْ بِتَأْثِيرِهِ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِأَجْلِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ لَوْلَاهُ بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ حَقَّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: يُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ فِيمَا يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - شُبْهَةَ الْمُنَافِقِينَ وَأُغْلُوطَتِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يُطَاعُ فِيمَا هُوَ مُرْسَلٌ فِيهِ وَمَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ يَكُونُ أَعَزَّ النَّاسِ نَفْسًا، وَأَعْظَمَهُمْ كَرَامَةً، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِيهِ حَاكِمٌ، وَلَا أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ، وَمَا قَوَى الِاسْتِبْدَادُ فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِضَعْفِ التَّوْحِيدِ فِيهِمْ، فَالتَّوْحِيدُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنَ الِارْتِقَاءِ وَالْكَمَالِ، فَصَاحِبُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَفِي تِلْكَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى هُوَ خَاضِعٌ وَمَقْهُورٌ لِلنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا النِّظَامُ الْعَامُّ، وَأَنَّ تَفَاوُتَهَا فِي الصِّفَاتِ وَالْخَوَاصِّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَقْوَى فِي صِفَةٍ مَا عَلَى الْأَضْعَفِ رَفْعَ الْإِلَهِ
عَلَى الْمَأْلُوهِ وَالرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، فَحَجَرُ الصَّوَّانِ الصُّلْبُ الْقَوِيُّ لَيْسَ إِلَهًا وَلَا رَبًّا لِحَجَرِ الْكَذَّانِ الضَّعِيفِ، وَلَا حَجَرُ
الْمِغْنَاطِيسِ إِلَهًا يُعَظَّمُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ، وَالشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ لَيْسَتْ إِلَهًا وَلَا رَبًّا لِلسَّيَّارَاتِ التَّابِعَةِ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهِنَّ، بَلْ هِيَ مُسَخَّرَةٌ مِثْلُهُنَّ لِلسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ، كَذَلِكَ الْقَوِيُّ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ لَيْسَ إِلَهًا لِلضَّعِيفِ يَدْعُوهُ هَذَا وَيَذِلُّ لَهُ وَيَسْتَخْذِي أَمَامَهُ، وَوَاسِعُ الْعِلْمِ لَيْسَ رَبًّا لِقَلِيلِ الْعِلْمِ يُشَرِّعُ لَهُ وَيُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ وَمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا الطَّاعَةُ، كَذَلِكَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ لَا يَجِبُ رَفْعُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ تَعَبُّدًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ انْفَرَدَ بِهِ، أَوْ حِيلَةٍ وَهُوَ السِّحْرُ أَوْ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِقُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ وَمِنْهُ مَا يُسَمُّونَهُ كَرَامَةً، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ امْتَازَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ كَامْتِيَازِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَالذَّكِيِّ عَلَى الْبَلِيدِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ رَبًّا وَلَا إِلَهًا، وَلَا خَارِجًا عَنْ سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ كُلٌّ عَبِيدٌ مُسَخَّرُونَ لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا بِقَدْرِ عِلْمِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، وَيُكَلَّفُونَ طَاعَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ بِحَسَبِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ فِي شَرْعِهِ، لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلَ بِاعْتِقَادِ غَيْرِهِ وَلَا بِرَأْيِهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ يَتَعَاوَنُونَ فِي الْأَعْمَالِ وَفِي الْعُلُومِ، فَقَوِيُّ الْبَدَنِ يَكُونُ أَكْثَرَ نَفْعًا لِلْآخَرِينَ بِقُوَّتِهِ الْبَدَنِيَّةِ وَهُوَ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ لَا يُقَدِّسُونَهُ وَلَا يَرْفَعُونَ مَرْتَبَتَهُ عَنِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يُشَارِكُهُمْ فِيهَا، وَقَوِيُّ الْعَقْلِ يَكُونُ أَكْثَرَ نَفْعًا بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ارْتِفَاعًا قُدُسِيًّا، وَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَحْصِيلًا لِلْعِلْمِ يَفِيضُ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى الطُّلَّابِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ وَلَا بِفَهْمِهِ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَصَارَ عِلْمًا لَهُ وَاعْتِقَادًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ عَامِلًا بِاعْتِقَادِ نَفْسِهِ الَّذِي حَصَّلَهُ بِمُسَاعَدَةِ أُسْتَاذِهِ لَا بِاعْتِقَادِ أُسْتَاذِهِ وَلَا بِرَأْيِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَحِّدُ لَا يُطِيعُ أَمْرَ الرَّسُولِ لِذَاتِهِ بَلْ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ فَكَيْفَ. يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطِيعَ أَمْرَ مَنْ دُونَهُ لِذَاتِهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -؟ !
هَذَا هُوَ مَقَامُ التَّوْحِيدِ الْأَعْلَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَنَاطُ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَلَيْسَ لَقَبًا مِنْ أَلْقَابِ الشَّرَفِ أَوْ لَفْظًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوضَعُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ جَمَاعَاتِ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ لَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ إِطْلَاقٌ عُرْفِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ، فَيُطْلَقُ اللَّفْظُ مِنْهَا عَلَى أُنَاسٍ لَا يَفْهَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ، لَا تَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَدْلُولَاتُهَا وَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ آيَاتُهَا، وَلَمْ يَنَالُوا مَا بَيَّنَهُ
الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا، كَكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ هُمُ الْمَنْصُورِينَ الْغَالِبِينَ، وَالْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّكَ أَثْبَتَّ فِي تَفْسِيرِ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59) ، أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بِاجْتِهَادِهِ وَاجِبَةٌ، وَذَكَرْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَعَلْتُهَا ذَيْلًا لِتَفْسِيرِ الْآيَةِ مُوَضِّحًا لَهَا أَنَّ مَرَاتِبَ الطَّاعَةِ ثَلَاثٌ: الْأُولَى: مَا يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ
عَنْ رَبِّهِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَحْكُمُ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَالثَّالِثَةُ: مَا يَسْتَنْبِطُهُ جَمَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ مِمَّا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَقَدْ أَثْبَتُّ وُجُوبَ طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ أَصْرَحِهَا وَأَوْضَحِهَا مَا ذَكَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ (4: 13) ، إِلَخْ، [ص 350، 351 ج4 ط الْهَيْئَةِ] ، أَفَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَكَوْنَ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ التَّوْحِيدِ؟
قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَاجْتِهَادُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم هُوَ بَيَانٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ أَذِنَ اللهُ لَهُ بِهَذَا الْبَيَانِ فَقَالَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) ، وَهَذَا الْإِذْنُ ضَرُورِيٌّ لَا غِنَى عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ اجْتِهَادُ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ فِي تَفْسِيرِ الْقَوَانِينِ، فَطَاعَتُهُمْ فِيمَا يَحْكُمُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةٌ لِلْقَانُونِ لَا لِلشَّخْصِ الْحَاكِمِ بِجَعْلِهِ شَارِعًا يُطَاعُ لِذَاتِهِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ وَحْيٌ، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، بَلِ الْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا النَّظْمِ الْمُعْجِزِ لِلتَّحَدِّي بِهِ، وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ وَأَمْرِنَا بِالتَّعَبُّدِ بِهِ، وَهُنَاكَ وَحْيٌ لَيْسَ لَهُ خَصَائِصُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يُلْقِيهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ فِي رُوعِهِ صلى الله عليه وسلم وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَيْسَتْ مُعْجِزَةً يَتَحَدَّى بِهَا وَلَا يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهَا وَلَكِنْ يُطَاعُ الرَّسُولُ فِيهَا لِأَنَّهُ مَا جَاءَ بِهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ عِنْدِ مُرْسِلِهِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (53: 3، 4) ، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُ هَذَا النَّصَّ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً.
وَأَمَّا طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ فَهِيَ لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ أَيْضًا، وَلَا تَقْتَضِي ذُلَّ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ بِخُضُوعِهِ لِمِثْلِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَجَعْلِهِ شَارِعًا يُطَاعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ إِنَّمَا يُطَاعُونَ فِيمَا
تَعْهَدُ إِلَيْهِمُ الْأُمَّةُ وَضَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي مَسَّتْ حَاجَتُهَا إِلَيْهَا لِثِقَتِهَا بِهِمْ لَا تَقْدِيسًا لِذَوَاتِهِمْ، وَمَا يَضَعُونَهُ بِشُرُوطِهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ يُنْسَبُ إِلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهُ بِالنِّيَابَةِ عَنْهَا، فَلَا يَشْعُرُ أَحَدُ مُتَّبِعِيهِ بِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْبَدًا مُسْتَذَلًّا لِأَحَدِ أُولَئِكَ النُّوَّابِ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ رَأْيَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ وَضَعُوا مَا وَضَعُوهُ بِالْمُشَاوَرَةِ، يَكُونُ مُدْغَمًا فِي آرَاءِ الْآخَرِينَ، وَالسُّلْطَةُ فِي ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا لَا لِأُولَئِكَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ وَكَّلَتْ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكِلُّ إِلَى آخَرَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ أَوْ يُوَكِّلَهُ فِيهِ فَيَقُومَ بِذَلِكَ، وَلَا يَرَى الْعَاهِدُ أَوِ الْمُوَكَّلُ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَذَلًّا لَهُ، وَلَا يَرَى النَّاسُ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ قَدْ يَرَوْنَ عَكْسَهُ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَذِلُّ وَيَسْتَخْذِي لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ لِذَاتِهِ بَلْ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَثْبَتَ الْكِتَابُ الْمُبِينُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ تَفْهَمُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، أَيْ وَمَنْ
تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَتِكَ الَّتِي هِيَ طَاعَةُ اللهِ فَلَيْسَ مِنْ شُئُونِ رِسَالَتِكَ أَنْ تُكْرِهَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّنَا أَرْسَلْنَاكَ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا لَا حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، أَيْ: لَا مُسَيْطِرًا وَرَقِيبًا تَحْفَظُ عَلَى النَّاسِ أَعْمَالَهُمْ فَتُكْرِهُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَا جَبَّارًا تَجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ، بَلِ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ مِنَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَتْبَعُ الِاقْتِنَاعَ.
ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا حَقَّقَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْعَرَبِيُّ الِاجْتِمَاعِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلْدُونَ فِي بَعْضِ فُصُولِ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ فِي كَوْنِ مُعَانَاةِ أَهْلِ الْحَضَرِ لِلْأَحْكَامِ مُفْسِدَةً لِبَأْسِهِمْ ذَاهِبَةً بِمَنَعَتِهِمْ، وَكَوْنِ الَّذِينَ يُؤْخَذُونَ بِأَحْكَامِ الْقَهْرِ وَالسُّلْطَةِ وَبِأَحْكَامِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ يَنْقُصُ بِأْسُهُمْ وَيَغْلُبُ عَلَيْهِمُ الْجُبْنُ وَالضَّعْفُ، وَكَوْنُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَازِعًا اخْتِيَارِيًّا لَا يُفْسِدُ الْبَأْسَ، وَلَا يُذَلِّلُ النَّفْسَ، قَالَ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ:
" وَلِهَذَا نَجِدُ الْمُتَوَحِّشِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَهْلَ الْبَدْوِ أَشَدَّ بَأْسًا مِمَّنْ تَأْخُذُهُمُ الْأَحْكَامُ، وَنَجِدُ أَيْضًا الَّذِينَ يُعَانُونَ الْأَحْكَامَ وَمَلَكَتِهَا مِنْ لَدُنْ مَرْبَاهُمْ فِي التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ فِي الصَّنَائِعِ وَالْعُلُومِ وَالدِّيَانَاتِ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ بَأْسِهِمْ كَثِيرًا، وَلَا يَكَادُونَ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَادِيَةً بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا شَأْنُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْقِرَاءَةِ وَالْأَخْذِ
عَنِ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُمَارِسِينَ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ فِي مَجَالِسِ الْوَقَارِ وَالْهَيْبَةِ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ وَذَهَابُهَا بِالْمَنَعَةِ وَالْبَأْسِ ".
وَلَا تَسْتَنْكِرْ ذَلِكَ بِمَا وَقَعَ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَخْذِهِمْ بِأَحْكَامِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ بَأْسِهِمْ بَلْ كَانُوا أَشَدَّ بَأْسًا ; لِأَنَّ الشَّارِعَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ دِينَهُمْ كَانَ وَازِعَهُمْ فِيهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَمْ يَكُنْ بِتَعْلِيمٍ صِنَاعِيٍّ وَلَا تَأْدِيبٍ تَعْلِيمِيٍّ، إِنَّمَا هِيَ أَحْكَامُ الدِّينِ وَآدَابُهُ الْمُتَلَقَّاةُ نَقْلًا يَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَا بِمَا رَسَخَ فِيهِمْ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَلَمْ تَزَلْ سُورَةُ بِأْسِهِمْ مُسْتَحْكِمَةً كَمَا كَانَتْ وَلَمْ تَخْدِشْهَا أَظْفَارُ التَّأْدِيبِ وَالْحُكْمِ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ الشَّرْعُ لَا أَدَّبَهُ اللهُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَازِعُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَقِينًا بِأَنَّ الشَّارِعَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
وَلَمَّا تَنَاقَصَ الدَّيْنُ فِي النَّاسِ وَأَخَذُوا بِالْأَحْكَامِ الْوَازِعَةِ، ثُمَّ صَارَ الشَّرْعُ عِلْمًا وَصِنَاعَةً يُؤْخَذُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى الْحَضَارَةِ وَخُلُقِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْأَحْكَامِ نَقَصَتْ بِذَلِكَ سَوْرَةُ الْبَأْسِ فِيهِمْ.
" فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَحْكَامَ السُّلْطَانِيَّةَ وَالتَّعْلِيمِيَّةَ مِمَّا تُؤَثِّرُ فِي أَهْلِ الْحَوَاضِرِ فِي ضَعْفِ نُفُوسِهِمْ وَخَضَدِ الشَّوْكَةِ مِنْهُمْ بِمُعَانَاتِهِمْ فِي وَلِيدِهِمْ وَكُهُولِهِمْ، وَالْبَدْوُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَحْكَامِ السُّلْطَانِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ كِتَابِهِ فِي أَحْكَامِ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَضْرِبَ أَحَدًا مِنَ الصِّبْيَانِ فِي التَّعْلِيمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ، نَقَلَهُ شُرَيْحٌ الْقَاضِيُّ، انْتَهَى الْمُرَادُ ".
يَظُنُّ مَنْ نُشِّئَ عَلَى التَّقْلِيدِ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ أَنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْحَكِيمُ خَطَأٌ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ ذَاتِ الْبَأْسِ وَالْقُوَّةِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تَأْدِيبِ الْمَدَارِسِ، وَسَيْطَرَتِهَا فِي تَكْوِينِ نَابِتَةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ تَعْتَزُّ بِهِمْ وَيَعْلُو شَأْنُهَا.
مَهْلًا أَيُّهَا الْمُقَلِّدُ الْغِرُّ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاظِرِينَ تُصَوِّرُ لَهُمْ أَذْهَانُهُمْ بِدَلَائِلِهَا النَّظَرِيَّةِ أَمْرًا ثُمَّ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ التَّجَارِبِ الطَّوِيلَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ
الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْوَاءُ الرُّؤَسَاءِ مَا لَا يَظْهَرُ الصَّوَابُ فِيهِ بَعْدَ التَّجَارِبِ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَمِنْهُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَبْحَثُ فِيهَا.
وَضَعَ رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةُ قَوَانِينَ لِتَرْبِيَةِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ تَرْبِيَةً شَدِيدَةً، يُؤْخَذُونَ فِيهَا بِالنِّظَامِ وَالطَّاعَةِ الْعَمْيَاءِ لِيَكُونُوا جُنْدًا رُوحِيًّا لِرُؤَسَائِهِمْ، يَتَحَرَّكُونَ بِإِرَادَتِهِمْ لَا بِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَيَتَوَجَّهُونَ حَيْثُمَا يُوَجِّهُونَهُمْ، وَيُنَفِّذُونَ كُلَّ مَا بِهِ يَأْمُرُونَهُمْ، فَاسْتَوْلَى أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءُ بِهَذَا النِّظَامِ عَلَى أَبْنَاءِ دِينِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ إِلَى الصَّعَالِيكِ وَسَخَّرُوهُمْ لِإِرَادَتِهِمْ قُرُونًا كَثِيرَةً، وَفَعَلَ الْمُلُوكُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سُلْطَتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ فَاسْتَعْبَدُوا النَّاسَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَكَانُوا سَبَبَ ضَعْفِ أُمَمِهِمْ وَانْحِطَاطِهَا إِلَى أَنْ حَرَّرُوا أَنْفُسَهُمْ.
ثُمَّ زَلْزَلَتِ الِانْقِلَابَاتُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ السُّلْطَتَيْنِ وَأَضْعَفَتْهُمَا بِمَا اسْتَفَادَ الْأُورُبِّيُّونَ مِنَ الْعِلْمِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحُرُوبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ، وَبِمَا بَثَّهُ فِيهِمْ تَلَامِيذُ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَضَعُفَتِ السُّلْطَتَانِ وَنَازَعَتْهُمَا قُوَّةُ الْعِلْمِ فَنَزَعَتْ مِنْهُمَا مَا نَزَعَتْ، فَلَمَّا رَأَى الْفَرِيقَانِ أَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمَا بِالْعِلْمِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمَا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهِ، تَوَجَّهَتْ هِمَّتُهُمَا إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى تَقْرِيرِ سُلْطَانِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَكَانَتِ الْمَدَارِسُ عَوْنًا لِلْأَدْيَارِ وَلِلثُّكْنَاتِ فِي إِضْعَافِ إِرَادَةِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَإِفْسَادِ بَأْسِهِمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي حُرِّيَّتِهِمْ، وَهَذَا كَانَ فِي بَعْضِ الشُّعُوبِ أَقْوَى مِنْهُ فِي بَعْضٍ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ فَطِنُوا لَهُ بَعْدُ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ قُوَّةُ الْمَدَنِيَّةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ الْحَاضِرَةِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ الشَّخْصِيِّ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ، وَيَنْشُدُونَ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ مِنْهُ، وَضَعُفْنَا بِفَقْدِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَحْنُ السَّابِقِينَ إِلَيْهِ.
الْإِنْكِلِيزُ أَعْرَقُ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ، عَلَى تَثَبُّتِهِمْ فِي تَقَالِيدِهِمْ وَبُطْئِهِمْ فِي التَّحَوُّلِ عَنِ الْأَمْرِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ، وَلِحُرِّيَّتِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ اسْتِفَادَةً مِنَ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي زَلْزَلَ سُلْطَةَ الْبَابَوِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ وَثَلَّ عَرْشَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَحُكُومَةُ هَذَا الشَّعْبِ هِيَ الْحُكُومَةُ الْفَذَّةُ الَّتِي جَعَلَتْ خِدْمَةَ الْجُنْدِيَّةِ اخْتِيَارِيَّةً، وَأَقَامَتِ التَّرْبِيَةَ فِي الْمَدَارِسِ عَلَى قَوَاعِدَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالِاسْتِقْلَالِ، وَكَرَامَةِ النَّفْسِ، لَمْ يُقِمْهَا أَحَدٌ مِثْلَهَا، وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ عَلَى زُهَاءِ خُمْسِ الْبَشَرِ الْأَذِلَّاءِ بِضَعْفِ الِاسْتِقْلَالِ وَفَقْدِ الْحُرِّيَّةِ، عَلَى كَوْنِ جُنْدِهَا أَقَلَّ مِنْ جُنْدِ
غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ الْكُبْرَى، وَقَدْ فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ
جِيرَانِهَا الْفِرِنْسِيسِ وَأَهَابُوا بِقَوْمِهِمْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِهَا فِيهِ، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً تُرْجِمَ بَعْضُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَاشْتُهِرَ كَكِتَابِ " سِرِّ تَقَدُّمِ الْإِنْكِلِيزِ السَّكْسُونِيِّينَ " وَكِتَابِ " التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ " الْمُسَمَّى فِي الْأَصْلِ " إِمِيلِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ ".
بَيَّنَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعْلِيمَ فِي الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ لَا يُرَبِّي رِجَالًا، وَإِنَّمَا يَصْنَعُ آلَاتٍ تَسْتَعْمِلُهَا الْحُكُومَةُ فِي تَنْفِيذِ سِيَاسَتِهَا كَمَا تَشَاءُ قَالَ فِي نِظَامِ مَدَارِسِهِمْ:
" وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ مُلَائِمٌ لِذَلِكَ الْغَرَضِ كَمَا يَنْبَغِي، أَيْ أَنَّهُ يُهَيِّئُ الطَّلَبَةَ إِلَى الْوَظَائِفِ الْمَلَكِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُوَظَّفَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ إِرَادَتِهِ ; وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَتَرَبَّى عَلَى الطَّاعَةِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ أَمْرِ رُؤَسَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُنَاقَشَةٍ وَلَا نَظَرٍ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمَدَارِسُ الدَّاخِلِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَاعِثِ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ ; لِأَنَّ الْمَدْرَسَةَ نُظِّمَتْ عَلَى نَسَقِ ثُكْنَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ يَقُومُ الطَّلَبَةُ فِيهَا مَنْ نَوْمِهِمْ عَلَى صَوْتِ الْبُوقِ أَوْ رَنَّةِ الْجَرَسِ، وَيَنْتَقِلُونَ مُصْطَفِّينَ بِالنِّظَامِ مِنْ عَمَلٍ إِلَى آخَرَ، وَرِيَاضَتُهُمْ تُشْبِهُ الِاسْتِعْرَاضَ الْعَسْكَرِيَّ، فَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الدَّرْسِ إِلَّا فِي رَحَبَاتٍ دَاخِلَ الْبِنَاءِ عَالِيَةِ الْأَسْوَارِ وَيَتَمَشُّونَ فِيهَا جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ كَأَنَّهُمْ لَا يَلْعَبُونَ إِلَى أَنْ قَالَ:
" وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ يُضْعِفُ فِي الشَّبَابِ قُوَّةَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَيُوهِنُ الْهِمَّةَ وَالْإِقْدَامَ، كَمَا أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَيْضًا إِزَالَةُ مَا قَدْ يُوجَدُ بَيْنَ الطَّلَبَةِ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَنْسَابِ ; لِأَنَّ الدَّائِرَةَ الَّتِي تَدُورُ عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ فَتَجْعَلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ آلَاتٍ مُعَدَّةً لِلْعَمَلِ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهَا، وَمِمَّا يَزِيدُ فِي سُهُولَةِ انْقِيَادِهِمْ وَحُسْنِ طَاعَتِهِمْ كَوْنُ النِّظَامِ الَّذِي تَرَبُّوا عَلَيْهِ لَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْبِيَةِ الْفِكْرِ وَالتَّعَقُّلِ، بَلِ الطَّالِبُ يَتَنَاوَلُ - مُسْرِعًا - كَثِيرًا مِنَ الْمَوَادِّ سَوَاءٌ أَحْكَمَ تَعَلُّمَهَا أَمْ لَا، وَلَا تَشْغَلُ مِنْ مَلَكَاتِهِ إِلَّا الذَّاكِرَةِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَتَلَقَّى التَّعْلِيمَ مِنْ دُونِ نَظَرٍ فِيهِ تَرَاهُ يَنْحَنِي مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ أَمَامَ الْأَوَامِرِ الَّتِي تَصْدُرُ لَهُ مِنْ رُؤَسَائِهِ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي يُوَظَّفُ فِيهَا ".
وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ الْتَفَتَ إِلَى جَعْلِ الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ هَكَذَا هُوَ نَابِلْيُونُ الْأَوَّلُ،
لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ جَعْلِ السُّلْطَةِ كُلِّهَا بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، وَنَاهِيكُمْ بِوُلُوعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِالِانْفِرَادِ بِالسُّلْطَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَدَارِسَ الْأَلْمَانِيَّةَ لَا تُرَبِّي رِجَالًا لِأَنَّهَا كَالْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ، بَلْ هُمْ قَلَّدُوا أَلْمَانْيَا فِي نِظَامِ مَدَارِسِهَا كَمَا قَلَّدُوهَا فِي النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ، وَذَكَرَ شَكْوَى عَاهِلِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَدَارِسِ وَتَصْرِيحِهِ فِي خِطَابٍ لَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدِّ إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَأَطَالَ فِي انْتِقَادِ نِظَامِ هَذِهِ الْمَدَارِسِ.
ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّ الْإِنْكِلِيزَ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمْ تَرْبِيَةً اسْتِقْلَالِيَّةً، فَيَشُبُّ الْوَاحِدُ
مِنْهُمْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي أُمُورِ مَعِيشَتِهِ وَعَامَّةِ أُمُورِهِ، لَا مُتَّكِلًا عَلَى عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا عَلَى حُكُومَتِهِ، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَطَالَ فِي وَصْفِهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ ": " قَهْرُ الطِّفْلِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَإِلْزَامِهِ إِطَاعَةَ الْأَوَامِرِ يَسْتَلْزِمُ حَتْمًا إِخْمَادَ وِجْدَانِ التَّكْلِيفِ فِي نَفْسِهِ، خُصُوصًا إِذَا طَالَ أَمَدُ ذَلِكَ الْقَهْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ يَتَكَلَّفُ الْحُلُولَ مَحَلَّهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْحُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِنْصَافِ وَالْجَوْرِ، لَمْ تَبْقِ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى وِجْدَانِهِ وَاسْتِفْتَاءِ قَلْبِهِ "، ثُمَّ قَالَ:
" الطَّاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ حُرِّيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ تَرْفَعُ طَبْعَ الطِّفْلِ، وَالْإِذْعَانُ النَّاشِئُ عَنِ الْقَهْرِ يَحُطُّهُ، فَلِلْأُمِّ وَمُعَلِّمِ الْمَدْرَسَةِ كَلِمَةٌ يَقُولَانِهَا عَنِ الطِّفْلِ الْعَنِيدِ الْقَاسِي وَهِيَ قَوْلُهُمَا: " سَأُذَلِّلُهُ " وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ النَّاشِئِينَ عَلَى طَرِيقَتِنَا الْفَرَنْسِيَّةِ فِي التَّرْبِيَةِ مُذَلَّلُونَ دَائِمًا، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي اتِّبَاعِهَا مَصْلَحَةٌ لِلْأَحْدَاثِ وَلِلْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَلَكِنْ سَائِسُ الْخَيْلِ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ لِلْحِصَانِ الَّذِي يُرَوِّضُهُ: لَا تَجْزَعْ فَإِنِّي أَعْمَلُ هَذَا بِكَ لِمَصْلَحَتِكَ، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ التَّرْوِيضِ عَلَى الْحِصَانِ أَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَخْسَرُ بِتَرْوِيضِهِ بِاللِّجَامِ وَالْمِهْمَازِ إِلَّا حِدَّتَهُ الْوَحْشِيَّةَ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَهُ بِالْقَهْرِ وَسُسْتَهُ بِالْإِرْغَامِ تَذْهَبُ بِحُبِّ الْكَرَامَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَبْخَسُ قِيمَتَهُ فِي نَظَرِهِ "، وَلَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا انْتَقَدَ بِهِ التَّعْلِيمَ الدِّينِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوَالِبِ الَّتِي تُصُبُّ فِيهَا الْمَوَادُّ لِتُكَونَ آلَاتٍ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ.
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّينَ إِلَى تَصْدِيقِ مَا قَالَهُ عَالَمُنَا فِي
التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ بِضْعَةِ قُرُونٍ، نَعَمْ إِنَّ الضَّعْفَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ الْمُنْغَمِسَةَ فِي الْحَضَارَةِ قَدْ عَالَجَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ كَالْبَارُودِ وَالدِّينَامِيتِ وَالْبُخَارِ وَالْكَهْرُبَاءِ، وَبِعَمَلِ الْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي تَدُكُّ الْمَعَاقِلَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ وَتَقْتُلُ فِي الدَّقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أُلُوفًا مِنَ النَّاسِ، وَبِالنِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ الْجَدِيدِ، فَصَارَ الْغَلَبُ لِأُمَمِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا صِنَاعَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَفِقُوا يُعَالِجُونَ مَا تُحْدِثُهُ الْحَضَارَةُ مِنَ الضَّعْفِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْعَزَائِمِ بِالتَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَنْ حُرِمُوا هَذِهِ الْمَزَايَا مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَكَادُوا يُسَخِّرُونَ لِخِدْمَتِهِمْ سَائِرَ الْبَشَرِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدَ عَنِ الِاسْتِعْبَادِ لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَلِيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَهُمْ يَسْتَغِيثُونَ أَهْلَ الْقُبُورِ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَيَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلِ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا وَلَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُ مُعَلِّمًا هَادِيًا - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - بَلْ جَعَلَ الْوَازِعَ الدِّينِيَّ
مِنَ النَّفْسِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، فَمَا أَرْقَى هَذَا الدِّينَ وَمَا أَسْمَى هَدْيَهُ، وَمَا أَضَلَّ مَنِ الْتَمَسَهُ مِنْ غَيْرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ -.
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ أَيْ: يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ كَافَّةً وَأُولَئِكَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ خَشُوا النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ، لَكَ مِنَّا طَاعَةٌ فِيمَا تَأْمُرُنَا بِهِ وَتَنْهَانَا عَنْهُ، انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّقْدِيرُ " أَمْرُنَا طَاعَةٌ " أَيْ: شَأْنُنَا مَعَكَ الطَّاعَةُ لَكَ، وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَعْنَى أَمْرُكَ طَاعَةٌ أَنَّهُ مُطَاعٌ، فَجَعَلَ الْمَصْدَرَ فِي مَكَانِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ بِإِيجَازِهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ يَدَّعُونَ كَمَالَ الطَّاعَةِ وَيُظْهِرُونَ مُنْتَهَى الِانْقِيَادِ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ، أَيْ: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ، وَكَلِمَةُ بَرَزَ مِنْ مَادَّةِ الْبَرَازِ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - وَهُوَ الْفَضَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: خَرَجُوا مِنَ الْمَكَانِ يَكُونُونَ مَعَكَ فِيهِ إِلَى الْبَرَازِ
مُنْصَرِفِينَ إِلَى بُيُوتِهِمْ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ دَبَّرَتْ فِي أَنْفُسِهَا لَيْلًا غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهَا وَتُظْهِرُ الطَّاعَةَ لَكَ فِيهِ نَهَارًا، أَوْ بَيَّتَتْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ هِيَ لَكَ وَتُؤَكِّدُهُ مِنْ طَاعَتِكَ، وَالتَّبْيِيتُ مَا يُدَبَّرُ فِي اللَّيْلِ مِنْ رَأْيٍ وَنِيَّةٍ وَعَزْمٍ عَلَى عَمَلٍ، وَمِنْهُ قَصْدُ الْعَدُوِّ لَيْلًا لِلْإِيقَاعِ بِهِ، وَمِنْهُ تَبْيِيتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ أَيِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ لَيْلًا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ، فَإِنَّ وَقْتَهَا هُوَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْفِكْرُ وَيَصْفُو فِيهِ الذِّهْنُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَبْيَاتِ الشِّعْرِ، أَيْ: زَوَّرُوا وَرَتَّبُوا فِي سَرَائِرِهِمْ غَيْرَ مَا تَأْمُرُهُمْ بِهِ كَمَا يُزَوِّرُونَ الْأَبْيَاتَ مِنَ الشِّعْرِ، أَيْ: يَعْزِمُونَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مَعَ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّتِهَا وَاتِّقَاءِ غَوَائِلِهَا كَمَا يُرَتِّبُونَ أَبْيَاتَ الشِّعْرِ وَيَزِنُونَهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ خَاصًّا هَذَا بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَكُونُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَالَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ نَاسٌ يَقُولُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: آمَنَّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا قَالُوا عِنْدَهُ فَعَاتَبَهُمُ اللهُ.
وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ، أَيْ يُبَيِّنُهُ لَكَ فِي كِتَابِهِ وَيَفْضَحُهُمْ بِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ يَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَلَا تُبَالِ بِمَا يُبَيِّتُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا أَسَرُّوا وَلَمْ يُظْهِرُوا، أَوِ الْمُرَادُ: لَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ كَمَا تُقْبِلُ عَلَى الصَّادِقِينَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي شَأْنِهِمْ، أَيِ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا تَكِلْ إِلَيْهِ جَزَاءَهُمْ وَتُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَيَقْدِرُ عَلَى إِيقَاعِ هَذَا الْجَزَاءِ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْهِ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ هُنَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَرَدَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالُوا مِثْلَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَتْرُكُونَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ
وَالْحِلْمِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِينَ إِلَّا وَيَزْعُمُونَ نَسْخَهُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ " بَيَّتَ طَائِفَةٌ " وَبِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ يُدْغِمُ بَعْضُ الْعَرَبِ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِدْغَامٍ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ اتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى تَذْكِيرِ بَيَّتَ قَالُوا: لَمْ يَقُلْ " بَيَّتَتْ " بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ طَائِفَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ وَالْفَوْجِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ كَافٍ فِي بَيَانِ الْجَوَازِ لَا فِي بَيَانِ الِاخْتِيَارِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُؤَنَّثَ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ وَلَوْ كَانَ تَأْنِيثُهُ لَفْظِيًّا، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ الَّذِي أَرَاهُ هُوَ أَنَّ تَكْرَارَ التَّاءِ قَبْلَ الطَّاءِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ لَا يَخْلُو مَنْ ثِقَلٍ عَلَى اللِّسَانِ، وَلِذَلِكَ تُحْذَفُ إِحْدَى التَّائَيْنِ مَنْ مِثْلِ تَتَصَدَّى وَتَتَكَلَّمُ فَيُقَالُ: تَصَدَّى وَتَكَلَّمُ.
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ التَّدَبُّرُ: هُوَ النَّظَرُ فِي إِدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، وَتَدَبُّرِ الْكَلَامِ هُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي غَايَاتِهِ وَمَقَاصِدِهِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا، وَعَاقِبَةِ الْعَامِلِ بِهِ وَالْمُخَالِفِ لَهُ، وَالْمَعْنَى جَهِلَ هَؤُلَاءِ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ، وَكُنْهَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَعَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا وَالْجَاحِدِينَ لَهَا، فَيَعْرِفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَا أَنْذَرَ بِهِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاقِعٌ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ كَمَا صَدَقَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا يُبَيِّتُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ صُدُورَهُمْ، وَيَطْوُونَ عَلَيْهِ سَرَائِرَهُمْ، يَصْدُقُ كَذَلِكَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ سُوءِ مَصِيرِهِمْ، وَكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ، وَالْخِزْيِ وَالسُّوءِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، بَلْ لَوْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ التَّدَبُّرِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَالرُّشْدِ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ إِلَّا الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ، وَالصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ، فَإِذَا كَانُوا لِاسْتِحْوَاذِ الْبَاطِلِ وَالْغَيِّ عَلَيْهِمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ !
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا أَيْ: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْقُرَشِيِّ لَا مِنْ عِنْدِ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ أَيِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي تَصْوِيرِ الْحَقِّ بِصُورَتِهِ كَمَا هِيَ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لَا فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الْمَاضِي الَّذِي لَمْ يُشَاهِدْهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقِفْ عَلَى تَارِيخِهِ، وَلَا فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْآتِي فِي مَسَائِلَ
كَثِيرَةٍ وَقَعَتْ كَمَا أَنْبَأَ بِهَا، وَلَا فِي بَيَانِهِ لِخَفَايَا الْحَاضِرِ، حَتَّى حَدِيثِ الْأَنْفُسِ وَمُخَبِّآتِ الضَّمَائِرِ، كَبَيَانِ مَا تُبَيِّتُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مُخَالِفًا لِمَا تَقُولُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَا يَقُولُهُ لَهَا فَتَقْبَلُهُ فِي حَضْرَتِهِ.
وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِي بَيَانِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ، وَفَلْسَفَةِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ، مَعَ اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفُرُوعِ.
وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ فُنُونِ الْقَوْلِ وَأَلْوَانِ الْعِبَرِ فِي أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ; وَفِيهَا الْكَلَامُ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَوَصْفِ الْكَائِنَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، كَالْكَوَاكِبِ وَبُرُوجِهَا وَنِظَامِهَا، وَالرِّيَاحِ وَالْبِحَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْآيَاتِ، وَكَلَامُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ مَعَانِيهِ.
وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِي بَيَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَنَوَامِيسِ الْعُمْرَانِ، وَطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَالْأَقْوَامِ، وَإِيرَادِ الشَّوَاهِدِ وَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ، وَتَكْرَارِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُتَشَابِهَةِ، تَنْوِيعًا لِلْعِبَرِ، وَتَلْوِينًا لِلْمَوْعِظَةِ، مَعَ تَجَاوُبِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَقِّ، وَتَوَاطُئِهِ عَلَى الصِّدْقِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ، وَتَعَالِيهِ عَلَى التَّفَاوُتِ وَالتَّبَايُنِ.
وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، وَالْخَبَرِ عَنِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَالْجَزَاءِ الْوِفَاقِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَجَارِيًا عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ، فَالِاتِّفَاقُ وَالِالْتِئَامُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، هُوَ غَايَةُ الْغَايَاتِ عِنْدَ مَنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ.
كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ يَنْزِلُ مُنَجَّمًا بِحَسْبَ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْوَالِ، فَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوِ الطَّائِفَةِ مِنَ الْآيَاتِ أَنْ تُوضَعَ فِي مَحَلِّهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا، وَهُوَ لَا يَقْرَأُ فِي الصُّحُفِ مَا كُتِبَ أَوَّلًا وَلَا مَا كُتِبَ آخِرًا، وَإِنَّمَا يَحْفَظُهُ حِفْظًا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ الْكَثِيرِ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ جَمِيعَ مَا سَبَقَ لَهُ فِي السِّنِينِ الْخَالِيَةِ وَيَسْتَحْضِرُهُ لِيَجْعَلَ الْآخَرَ مُوَافِقًا لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا تَذَكَّرْتَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ كَانَ يَنْزِلُ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ وَشِدَّةِ الْكَرْبِ، وَبَعْضَهَا كَانَ يَنْزِلُ عِنْدَ الْخِصَامِ، وَتَنَازُعِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْأَقْوَامِ، جَزَمْتَ بِأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَمِيعَ مَا كَانَ قَالَهُ مِنْ قَبْلُ لِيَأْتِيَ بِكَلَامٍ يَتَّفِقُ مَعَهُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَكَانَ إِذَا تَلَا عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ يَحْفَظُونَهَا عَنْهُ فِي صُدُورِهِمْ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صُحُفِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَجَالٌ لِلتَّنْقِيحِ وَالتَّحْرِيرِ
لَوْ فُرِضَ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ أَنْ تَمُرَّ السُّنُونَ وَالْأَحْقَابُ وَتَكِرَّ الْقُرُونُ وَالْأَجْيَالُ، وَتَتَّسِعَ دَوَائِرُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَتَتَغَيَّرَ أَحْوَالُ الْعُمْرَانِ، وَلَا تُنْقَضُ كَلِمَةٌ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، لَا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ وَشُئُونِ الْكَوْنِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الْقَوْلِ.
كَتَبَ ابْنُ خَلْدُونَ مُقَدِّمَتَهُ فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ الْكُتُبِ وَأَحْكَمَهَا فِي عَصْرِ مُؤَلِّفِهَا وَبَعْدَ عَصْرِهِ بِعِدَّةِ عُصُورٍ، ثُمَّ ارْتَقَتِ الْعُلُومُ وَتَغَيَّرَتْ أُصُولُ الْعُمْرَانِ فَظَهَرَ الِاخْتِلَافُ وَالْخَطَأُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا فِيهَا، بَلْ نَرَى الْعَالِمَ النَّابِغَ فِي عِلْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ يُؤَلِّفُ الْكِتَابَ فِيهِ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَعَارِفِ أَقْرَانِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْبَاحِثِينَ، ثُمَّ يُطِيلُ التَّأَمُّلَ فِيهِ وَيُنَقِّحُهُ وَيَطْبَعُهُ فَلَا تَمُرُّ سَنَوَاتٌ قَلِيلَةٌ إِلَّا وَيَظْهَرُ لَهُ الْخَطَأُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَلَا يُعِيدُ طَبْعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْهُ وَيُصَحِّحَ مَا شَاءَ، فَمَا بَالُكَ بِمَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا غَيْرُهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لَا بَعْدَ مُرُورِ السِّنِينَ، وَاتِّسَاعِ دَائِرَةِ الْعُلُومِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الْقُرْآنُ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا مَدَارِسَ فِيهَا وَلَا كُتُبَ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَتَعَلَّمْ قِرَاءَةً وَلَا كِتَابَةً، فَكَيْفَ يَمُرُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْعُمْرَانُ الْبَشَرِيُّ كَمَا قُلْنَا، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَفَاوُتٌ حَقِيقِيٌّ يُعْتَدُّ بِهِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَطْعَنًا فِيهِ! أَلَيْسَ هَذَا
بُرْهَانًا نَاصِعًا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟
هَذَا مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ جَرْيًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِدُونِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا اقْتِبَاسٍ مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي، وَسَلَكْتُ فِيهِ طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَتَرَكْتُ مَسْأَلَةَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَاتِّفَاقِ أُسْلُوبِهِ فِيهِمَا إِلَى مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ رَاجَعْتُ بَعْضَ التَّفَاسِيرِ فَإِذَا أَنَا بِابْنِ جَرِيرٍ يَخْتَصِرُ الْقَوْلَ فِي الْآيَةِ فَيَقُولُ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُ الْمُبَيِّتُونَ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كِتَابَ اللهِ فَيَعْلَمُوا حُجَّةَ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَتِكَ وَاتِّبَاعِ أَمْرِكَ، وَأَنَّ الَّذِي أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، لِاتِّسَاقِ مَعَانِيهِ وَائْتِلَافِ أَحْكَامِهِ، وَتَأْيِيدِ بَعْضِهِ بَعْضًا بِالتَّصْدِيقِ، وَشَهَادَةِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ بِالتَّحْقِيقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَاخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ وَتَنَاقَضَتْ مَعَانِيهِ وَأَبَانَ بَعْضُهُ عَنْ فَسَادِ بَعْضٍ اهـ.
وَبَيَّنَ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ احْتِجَاجٌ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَثْبُتُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِيهِ مِنْ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَصَاحَتُهُ، وَاشْتِمَالُهُ عَلَى أَخْبَارِ الْغُيُوبِ، وَسَلَامَتُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَكَرَ فِيهِ - أَيِ الْأَخِيرِ - ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ سِرًّا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فَبَيَّنَهَا اللهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ صِدْقًا عَلَى خَفَائِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهِ هَذَا الصِّدْقَ.
الثَّانِي: قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ كَبِيرٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَقَعَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُتَنَاقِضَةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ الطَّوِيلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّ الْمُرَادَ الِاخْتِلَافُ فِي مَرْتَبَةِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا يُعَدُّ فِي الْكَلَامِ الرَّكِيكِ، بَلْ بَقِيَتِ الْفَصَاحَةُ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ - وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَنِهَايَةِ الْفَصَاحَةِ - إِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ فِي كَلَامِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَعْضُهُ قَوِيًّا مَتِينًا وَبَعْضُهُ سَخِيفًا نَازِلًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ الْمُعْجِزُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -.
نَقَلَ الرَّازِيُّ مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مُفَسِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَمَزَايَاهُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِمَامُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَرَافِعُ لِوَائِهِمُ الْمُتَوَفَّى 403 هـ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ " إِعْجَازُ الْقُرْآنِ " وَجْهَ إِعْجَازِهِ بِإِخْبَارِهِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَبِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعُلُومِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّلَقِّي وَالتَّعْلِيمِ مَعَ كَوْنِ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيًّا ثُمَّ قَالَ:
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَدِيعُ النَّظْمِ عَجِيبُ التَّأْلِيفِ، مُتَنَاهٍ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُعْلَمُ عَجْزُ الْخَلْقِ عَنْهُ وَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْعُلَمَاءُ هُوَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ وَنَكْشِفُ الْجُمْلَةَ الَّتِي أَطْلَقُوهَا، فَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَدِيعُ نَظْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْجَازِ وُجُوهً:
(مِنْهَا) مَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ عَلَى تَصَرُّفِ وُجُوهِهِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ خَارِجٌ عَنِ الْمَعْهُودِ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِهِمْ، وَمُبَايِنٌ لِلْمَأْلُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ خِطَابِهِمْ، وَلَهُ أُسْلُوبٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَيَتَمَيَّزُ فِي تَصَرُّفِهِ عَنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي يَتَقَيَّدُ بِهَا الْكَلَامُ الْمَنْظُومُ تَنْقَسِمُ إِلَى أَعَارِيضِ الشِّعْرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، ثُمَّ إِلَى مُعَدَّلٍ مَوْزُونٍ غَيْرَ مُسَجَّعٍ، ثُمَّ إِلَى مَا يُرْسَلُ إِرْسَالًا فَتُطْلَبُ فِيهِ الْإِصَابَةُ وَالْإِفَادَةُ، وَإِفْهَامُ الْمَعَانِي الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ، وَتَرْتِيبٍ لَطِيفٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدِلًا فِي وَزْنِهِ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِجُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُتَعَمَّلُ وَلَا يُتَصَنَّعُ لَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمُبَايِنٌ لِهَذِهِ الطُّرُقِ، وَيَبْقَى عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ السَّجْعِ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الشِّعْرِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسَجَّعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ فِيهِ شِعْرًا كَثِيرًا وَالْكَلَامُ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَذَا إِذَا تَأَمَّلَهُ الْمُتَأَمِّلُ تَبَيَّنَ بِخُرُوجِهِ عَنْ أَصْنَافِ كَلَامِهِمْ، وَأَسَالِيبِ خِطَابِهِمْ، أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَةِ وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ تَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْقُرْآنِ، وَتَمَيُّزٌ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِهِ.
(وَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَرَبِ كَلَامٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْفَصَاحَةِ وَالْغَرَابَةِ وَالتَّصَرُّفِ الْبَدِيعِ، وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ، وَالْفَوَائِدِ الْغَزِيرَةِ، وَالْحِكَمِ الْكَثِيرَةِ، وَالتَّنَاسُبِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالتَّشَابُهِ فِي الْبَرَاعَةِ، عَلَى هَذَا الطُّولِ وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَى حَكِيمِهِمْ كَلِمَاتٌ مَعْدُودَةٌ،
وَأَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ، وَإِلَى شَاعِرِهِمْ قَصَائِدٌ مَحْصُورَةٌ، يَقَعُ فِيهَا مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَالِ، وَيَعْتَرِضُهَا مَا نَكْشِفُهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَيَقَعُ فِيهَا مَا نُبْدِيهِ مِنَ التَّعَمُّلِ وَالتَّكَلُّفِ، وَالتَّجَوُّزِ وَالتَّعَسُّفِ، وَقَدْ حَصَلَ الْقُرْآنُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَطُولِهِ مُتَنَاسِبًا فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى مَا وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ (39: 23)، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (4: 82) ، فَأَخْبَرَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّ إِذَا امْتَدَّ وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ، وَبَانَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ، فَتَأَمَّلْهُ تَعْرِفِ الْفَضْلَ.
" وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّ عَجِيبَ نَظْمِهِ وَبَدِيعَ تَأْلِيفِهِ لَا يَتَفَاوَتُ وَلَا يَتَبَايَنُ عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ قَصَصٍ وَمَوَاعِظَ، وَاحْتِجَاجٍ وَحِكَمٍ وَأَحْكَامٍ، وَإِعْذَارٍ وَإِنْذَارٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَتَبْشِيرٍ وَتَخْوِيفٍ، وَأَوْصَافٍ وَتَعْلِيمٍ، وَأَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ، وَشِيَمٍ رَفِيعَةٍ، وَسِيَرٍ مَأْثُورَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَنَجِدُ كَلَامَ الْبَلِيغِ الْكَامِلِ، وَالشَّاعِرِ الْمُلَفِّقِ، وَالْخَطِيبِ الْمِصْقَعِ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَمِنَ الشُّعَرَاءِ مَنْ يَجُودُ فِي الْمَدْحِ دُونَ الْهَجْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْرُزُ فِي الْهَجْوِ دُونَ الْمَدْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْبِقُ فِي التَّقْرِيظِ دُونَ التَّأْبِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ فِي التَّأْبِينِ دُونَ التَّقْرِيظِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْرِبُ فِي وَصْفِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، أَوْ سَيْرِ اللَّيْلِ، أَوْ وَصْفِ الْحَرْبِ، أَوْ وَصْفِ الرَّوْضِ، أَوْ وَصْفِ الْخَمْرِ، أَوِ الْغَزَلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشِّعْرُ وَيَتَدَاوَلُهُ الْكَلَامُ، وَلِذَلِكَ ضُرِبَ الْمَثَلُ بِامْرِئِ الْقَيْسِ إِذَا رَكِبَ، وَالنَّابِغَةِ إِذَا رَهِبَ، وَبِزُهَيْرٍ إِذَا رَغِبَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ الْكَلَامِ، وَمَتَى تَأَمَّلْتَ شِعْرَ الشَّاعِرِ الْبَلِيغِ رَأَيْتَ التَّفَاوُتَ فِي شِعْرِهِ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا، فَيَأْتِي بِالْغَايَةِ فِي الْبَرَاعَةِ فِي مَعْنًى فَإِذَا جَاءَ إِلَى غَيْرِهِ قَصَّرَ عَنْهُ، وَوَقَفَ دُونَهُ، وَبَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى شِعْرِهِ، وَلِذَلِكَ ضُرِبَ الْمَثَلُ بِالَّذِينِ سَمَّيْتُهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَقَدُّمِهِمْ فِي صَنْعَةِ الشِّعْرِ، وَلَا شَكَّ فِي تَبْرِيزِهِمُ فِي مَذْهَبِ النَّظْمِ، فَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَالُ بَيِّنًا فِي شِعْرِهِمْ لِاخْتِلَافِ مَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ ذِكْرِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، وَكَذَلِكَ عَنْ تَفْصِيلِ نَحْوِ هَذَا فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَنَحْوِهَا.
" ثُمَّ نَجِدُ فِي الشُّعَرَاءِ مَنْ يَجُودُ فِي الرَّجَزِ وَلَا يُمْكِنُهُ نَظْمُ الْقَصِيدِ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظِمُ الْقَصِيدَ وَلَكِنْ يُقَصِّرُ فِيهِ مَهْمَا تَكَلَّفَهُ وَتَعَمَّلَهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُودُ فِي الْكَلَامِ الْمُرْسَلِ فَإِذَا
أَتَى بِالْمَوْزُونِ قَصَّرَ وَنَقَصَ نُقْصَانًا عَجِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجَدُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقَدْ تَأَمَّلْنَا نَظْمَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْنَا جَمِيعَ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي حُسْنِ النُّظُمِ، وَبَدِيعِ التَّأْلِيفِ وَالرَّصْفِ لَا تَفَاوُتَ وَلَا انْحِطَاطَ عَنِ الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا، وَلَا إِسْفَالَ فِيهِ إِلَى الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ قَدْ تَأَمَّلْنَا مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ وُجُوهُ الْخِطَابِ مِنَ الْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ فَرَأَيْنَا الْإِعْجَازَ فِي جَمِيعِهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَتَفَاوَتُ كَلَامُ النَّاسِ عِنْدَ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَرَأَيْنَاهُ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَفَاوِتٍ، بَلْ هُوَ عَلَى نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَغَايَةِ الْبَرَاعَةِ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ قَدْ بَيَّنَّا فِيهِ التَّفَاوُتَ الْكَثِيرَ عِنْدَ التَّكْرَارِ وَعِنْدَ تَبَايُنِ الْوُجُوهِ وَاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَضَمَّنُ.
" وَمَعْنًى رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا بَيِّنًا فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَسِمُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ عِنْدَ النَّظْمِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْقَوْلُ عِنْدَ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّعَرَاءِ قَدْ وُصِفَ بِالنَّقْصِ عِنْدَ التَّنَقُّلِ مِنْ مَعْنًى إِلَى غَيْرِهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إِلَى سِوَاهُ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الصَّنْعَةِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْصِيرِ الْبُحْتُرِيِّ - مَعَ جَوْدَةِ نَظْمِهِ، وَحُسْنِ وَصْفِهِ - فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّسِيبِ إِلَى الْمَدِيحِ، وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُهُ وَلَا يَأْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ خُرُوجٌ يُرْتَضَى، وَتَنَقُّلٌ يُسْتَحْسَنُ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ سَبِيلُ غَيْرِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَالتَّحَوُّلِ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ.
" وَنَحْنُ نُفَصِّلُ بَعْدَ هَذَا وَنُفَسِّرُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، وَنُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، وَالطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَجْعَلُ الْمُخْتَلِفَ كَالْمُؤْتَلِفِ، وَالْمُتَبَايِنَ كَالْمُتَنَاسِبِ، وَالْمُتَنَافِرَ فِي الْأَفْرَادِ، إِلَى أَحَدِ الْآحَادِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ تَتَبَيَّنُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْبَلَاغَةُ، وَيَخْرُجُ الْكَلَامُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْعَادَةِ، وَيَتَجَاوَزُ الْعُرْفَ.
(وَذَكَرَ هُنَا مَعْنًى خَامِسًا: هُوَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَقَعَ مَوْقِعًا فِي الْبَلَاغَةِ يَخْرُجُ عَنْ عَادَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ الْجِنِّ
مَا كَانَتْ تَعْتَقِدُهُ الْعَرَبُ وَتَحْكِيهِ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ الْجِنِّ وَزَجَلِهَا وَعَزِيفِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَفْيِ الْخِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ ثُمَّ قَالَ) :
" وَمَعْنًى سَادِسٌ: وَهُوَ كُلُّ الَّذِي يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ مِنَ الْبَسْطِ وَالِاقْتِصَارِ، وَالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّصْرِيحِ، وَالتَّجَوُّزِ وَالتَّحْقِيقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَاوَزُ حُدُودَ كَلَامِهِمُ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْإِبْدَاعِ وَالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ ضَمَّنَّا بَيَانَ ذَلِكَ بَعْدُ لِأَنَّ الْوَجْهَ هُنَا ذِكْرُ الْمُقْدِمَاتِ دُونَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ: يَعْنِي أَنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.
وَمَعْنًى سَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُتَضَمَّنُ فِي أَصْلِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ وَالِاحْتِيَاجَاتِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ، عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْبَدِيعَةِ، وَمُوَافَقَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا فِي اللُّطْفِ وَالْبَرَاعَةِ، مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْبَشَرِ، وَيَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَخَيُّرَ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي الْمُتَدَاوَلَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَالْأَسْبَابِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ - أَسْهَلُ وَأَقْرَبُ مِنْ تَخَيُّرِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانٍ مُبْتَكَرَةٍ، وَأَسْبَابٍ مُؤَسَّسَةٍ مُسْتَحْدَثَةٍ، فَلَوْ أُبْرِعَ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْبَارِعِ كَانَ أَلْطَفَ وَأَعْجَبَ مِنْ أَنْ يُوجَدَ اللَّفْظُ الْبَارِعُ فِي الْمَعْنَى الْمُتَدَاوَلِ الْمُتَكَرِّرِ، وَالْأَمْرِ الْمُتَقَرَّرِ الْمُتَصَوَّرِ، ثُمَّ إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْبَدِيعُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَأْيِيدَ مَا يُبْتَدَأُ تَأْسِيسُهُ، وَيُرَادُ تَحْقِيقُهُ، بِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْبَرَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَتِ الْأَلْفَاظُ وَفْقَ الْمَعَانِي، وَالْمَعَانِي وَفْقَهَا لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَالْبَرَاعَةُ أَظْهَرُ وَالْفَصَاحَةُ أَتَمُّ.
حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ فِي الْمَعَانِي الْمَأْلُوفَةِ الْمُبْتَذَلَةِ لَا يَخْلُو مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، فَانْتِفَاءُ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْبَتَّةَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي ضُرُوبِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لِلْعَرَبِ التَّصَرُّفُ فِيهَا - أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ، وَأَظْهَرُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ عز وجل، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى ثَامِنًا: بَيَّنَ فِيهِ وُقُوعَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ شِعْرٍ أَوْ نَثْرٍ مَوْضِعَ الْيَتِيمَةِ مِنْ وَاسِطَةِ الْعِقْدِ فَتُؤْخَذُ لِأَجْلِهَا الْأَسْمَاعُ، وَتُتَشَوَّفُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَأَجَادَ فِي هَذَا كُلَّ الْإِجَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى التَّاسِعُ: فَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَسْرَارَ الْحُرُوفِ
الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْعَاشِرُ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ يُفِيدُنَا إِيضَاحَ وُجُوبِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ مِمَّا يُسِرُّهُ اللهُ لِكُلِّ عَارِفٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، قَالَ:
وَمَعْنًى عَاشِرٌ: وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلٌ سَبِيلُهُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْوَحْشِيِّ الْمُسْتَكْرَهِ، وَالْغَرِيبِ الْمُسْتَنْكَرِ، وَعَنِ الصَّنْعَةِ الْمُتَكَلَّفَةِ، وَجَعَلَهُ قَرِيبًا إِلَى الْأَفْهَامِ، يُبَادِرُ مَعْنَاهُ لَفْظَهُ إِلَى الْقَلْبِ وَيُسَابِقُ الْمَغْزَى مِنْهُ عِبَارَتَهُ إِلَى النَّفْسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ الْمَطْلَبِ عَسِيرُ الْمُتَنَاوَلِ، غَيْرُ مُطْمِعٍ مَعَ قُرْبِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مُوهِمٌ مَعَ دُنُوِّهِ فِي مَوْقِعِهِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، أَوْ يُظْفَرَ بِهِ، فَأَمَّا الِانْحِطَاطُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ الْكَلَامِ الْمُبْتَذَلِ، وَالْقَوْلِ الْمُسَفْسَفِ، فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ تَقَعَ فِيهِ فَصَاحَةٌ أَوْ بَلَاغَةٌ فَيُطْلَبُ فِيهِ التَّمَنُّعَ، أَوْ يُوضَعُ فِيهِ الْإِعْجَازُ، وَلَكِنْ لَوْ وُضِعَ فِي وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، أَوْ غُمِرَ بِوُجُوهِ الصَّنْعَةِ، وَأُطْبِقَ بِأَبْوَابِ التَّعَسُّفِ وَالتَّكَلُّفِ، لَكَانَ الْقَائِلُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ وَيَعْتَذِرَ وَيَعِيبَ وَيَقْرَعَ، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَ مَنَارَهُ، وَقَرَّبَ مِنْهَاجَهُ، وَسَهَّلَ سَبِيلَهُ، وَجَعَلَهُ فِي ذَلِكَ مُتَشَابِهًا مُتَمَاثِلًا، وَبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ إِعْجَازَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ كَلَامَ فَصَائِحِهِمْ وَشِعْرَ بُلَغَائِهِمْ، لَا يَنْفَكُّ مِنْ تَصَرُّفٍ فِي غَرِيبٍ مُسْتَنْكَرٍ، أَوْ وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، وَمَعَانٍ مُسْتَبْعَدَةٍ، ثُمَّ عُدُولِهِمْ إِلَى كَلَامٍ مُبْتَذَلٍ وَضِيعٍ لَا يُوجَدُ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ، ثُمَّ تَحَوُّلِهِمْ إِلَى
كَلَامٍ مُعْتَدِلٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، مُتَصَرِّفٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَقَّقَ هَذَا نَظَرَ فِي قَصِيدَةِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ
وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا - عَلَى التَّفْصِيلِ - مَا تَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ وَنَظَائِرُهَا وَمَنْزِلَتَهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَنَذْكُرُ وَجْهَ فَوْتِ نَظْمِ الْقُرْآنِ مَحَلَّهَا عَلَى وَجْهٍ يُؤْخَذُ بِالْيَدِ وَيُتَنَاوَلُ مِنْ كَثَبٍ وَيُتَصَوَّرُ فِي نَفْسٍ كَتَصَوُّرِ الْأَشْكَالِ لِيُبَيِّنَ مَا ادَّعَيْنَاهُ مِنَ الْفَصَاحَةِ الْعَجِيبَةِ لِلْقُرْآنِ. اهـ.
(تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ)
حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلَ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ بِأُسْلُوبِهِ الَّذِي امْتَازَ بِهِ هُوَ طَرِيقُ الْهِدَايَةِ الْقَوِيمُ، وَصِرَاطُ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمُ، فَإِنَّهُ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِلَى وُجُوبِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ الْعَلِيمِ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهُمْ، مَعَ كَوْنِ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ مَعْقُولًا فِي نَفْسِهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ، وَمُلَاءَمَتِهِ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَفِيهِ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ لَا خَاصٌّ بِنَفَرٍ يُسَمَّوْنَ الْمُجْتَهِدِينَ
يُشْتَرَطُ فِيهِمْ شُرُوطٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا غِنَى عَنْهُ، هُوَ مَعْرِفَةُ لُغَةِ الْقُرْآنِ مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا، فَهِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ نَشَأَ فِيهِ أَنْ يُتْقِنَهَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ بِمُزَاوَلَةِ كَلَامِ بُلَغَاءِ أَهْلِهَا وَمُحَاكَاتِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْكِتَابِ حَتَّى تَصِيرَ مَلَكَةً وَذَوْقًا، لَا بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي قَوَانِينِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ الَّتِي وُضِعَتْ لِضَبْطِهَا وَلَيْسَ تَعَلُّمُ هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ بِالْأَمْرِ الْعَسِيرِ فَقَدْ كَانَ الْأَعَاجِمُ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى يَحْذِقُونَهَا فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ حَتَّى يُزَاحِمُوا الْخُلَّصَ مِنْ أَهْلِهَا فِي بَلَاغَتِهَا، وَإِنَّمَا يَرَاهُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَسِيرًا لِأَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنِ اللُّغَةِ نَفْسِهَا بِتِلْكَ الْقَوَانِينِ وَفَلْسَفَتِهَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمَ النَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ النَّبَاتَ نَفْسَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَكُونُ حَظُّهُ مِنْهُ إِلَّا حِفْظَ الْقَوَاعِدِ وَالْمَسَائِلِ فَيَعْرِفُ أَنَّ الْفَصِيلَةَ الْفُلَانِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا رَأَى ذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ.
وَفِيهِ أَيْضًا وُجُوبُ الِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ التَّقْلِيدِ، قَالَ الرَّازِيُّ:" دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُنَافِقِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ مِنَ اسْتِدْلَالٍ فَبِأَنْ يَحْتَاجَ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ كَانَ أَوْلَى " اهـ.
الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَأَكْبَرُ مِمَّا قَالَ التَّقْلِيدُ مَعَ مَنْعِ الِاسْتِدْلَالِ، وَالِاسْتِدْلَالُ وَاجِبٌ، التَّقْلِيدُ مَنَعَ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَتَدَبُّرُهُ وَاجِبٌ، إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ،
وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْنَا مَا أَوْجَبَهُ، الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ وَعَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُ وَيَقْتَضِي هَجْرَهُ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَارِعِينِ يُطَاعُونَ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَدِلَّاءَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، مَا قَالَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِ الِاسْتِقْلَالِ إِلَّا بَعْضَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَوْلٌ يُتَّبَعُ وَلَا أَمْرٌ يُطَاعُ، وَكَانَ ذَلِكَ دَسِيسَةً مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، لِيُذَلِّلُوا النَّاسَ وَيَسْتَعْبِدُوهُمْ بِاسْمِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ كَانَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَبُولَ الِاسْتِبْدَادِ وَاتِّبَاعَ الْقُرْآنِ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمَا نَبَغَ عَالِمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ إِلَّا وَحَارَبَهُ بَعْدَ نُبُوغِهِ، كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ الَّذِي نَقَلْنَا
قَوْلَهُ آنِفًا، وَلَهُ أَقْوَالٌ فِي ذَلِكَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ نَقَلْنَا بَعْضَهَا مِنْ قَبْلُ، وَغَيْرِهِ كَثِيرُونَ.
لَسْنَا نَعْنِي بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ كُلِّهَا فَيَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ، وَيَهْتَدِيَ بِهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ قَطُّ أَنْ يَهْجُرَهُ وَيُعْرِضَ عَنْهُ، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ مِنْ هِدَايَتِهِ كَلَامُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ لَا مُجْتَهِدِينَ وَلَا مُقَلِّدِينَ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْمُسْلِمِ فِي دِينِهِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ، وَلَا يُوجَدُ كِتَابٌ لِإِمَامٍ مُجْتَهِدٍ، وَلَا لِمُصَنِّفٍ مُقَلِّدٍ، يُغْنِي عَنْ تَدَبُّرِ كِتَابِ اللهِ فِي إِشْعَارِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَخَشِيَتَهُ وَحُبَّهُ وَالرَّجَاءَ فِي رَحْمَتِهِ وَالْخَوْفَ مِنْ عِقَابِهِ، وَلَا فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ، وَتَشْوِيقِهَا إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمَصَالِحِ، وَرَفْعِهَا عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ إِلَى مَعَالِيهَا، وَلَا فِي الِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ، وَسُنَنِهِ فِي سَيْرِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَطَبَائِعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، فَكَيْفَ تُغْنِي عَنْهُ فِيهَا الْمُصَنَّفَاتُ الْبَشَرِيَّةُ؟ !
أَمَا - وَسِرِّ الْقُرْآنِ - لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، لَمَا فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَآدَابُهُمْ، وَلَمَا ظَلَمَ وَاسْتَبَدَّ حُكَّامُهُمْ، وَلَمَا زَالَ مُلْكُهُمْ وَسُلْطَانُهُمْ، وَلَمَا صَارُوا عَالَةً فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَسْبَابِهَا عَلَى سِوَاهُمْ.
هَذَا التَّدَبُّرُ وَالتَّذَكُّرُ الَّذِي نُطَالِبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ - كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَخْتَصَّ أُولُو الْأَمْرِ مِنْهُمْ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ فِي السِّيَاسَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَتْبَعَهُمْ سَائِرُ الْأُمَّةِ فِيهَا، فَإِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ - بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَى أُولَئِكَ الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ تَرْكَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا إِذَاعَتَهُمْ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى رَدِّهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ، وَأَقْدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ فَقَالَ:
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا.
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُذِيعُونَ بِمَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِأَهْلِهِ، وَقِيلَ: هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِيمَنْ سَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَصَرَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهَا فِي الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ تُبَيِّتُ غَيْرَ مَا يَقُولُ لَهَا الرَّسُولُ أَوْ تَقُولُ لَهُ، أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِعُمُومِ الْعِبْرَةِ، وَمَنْ خَبِرَ أَحْوَالَ النَّاسِ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِذَاعَةَ بِمِثْلِ أَحْوَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ لَا تَكُونُ مِنْ دَأْبِ الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، بَلْ هِيَ مِمَّا يَلْغَطُ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ النِّيَّاتُ، فَالْمُنَافِقُ قَدْ يُذِيعُ مَا يُذِيعُهُ لِأَجْلِ الضَّرَرِ، وَضَعِيفُ الْإِيمَانِ قَدْ يُذِيعُ مَا يَرَى فِيهِ الشُّبْهَةَ، اسْتِشْفَاءً مِمَّا فِي صَدْرِهِ مِنَ الْحَكَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَثِيرًا مَا يَوْلَعُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ لِمَحْضِ الرَّغْبَةِ فِي ابْتِلَاءِ أَخْبَارِهَا، وَكَشْفِ أَسْرَارِهَا، أَوْ لِمَا عَسَاهُ يَنَالُهُمْ مِنْهَا.
فَخَوْضُ الْعَامَّةِ فِي السِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، وَالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، أَمْرٌ مُعْتَادٌ وَهُوَ ضَارٌّ جَدًا إِذَا شُغِلُوا بِهِ عَنْ عَمَلِهِمْ، وَيَكُونُ ضَرَرُهُ أَشَدُّ إِذَا وَقَفُوا عَلَى أَسْرَارِ ذَلِكَ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ كِتْمَانَ مَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَعْرِفُونَ كُنْهَ ضَرَرِ مَا يَقُولُونَ، وَأَضَرُّهُ عِلْمُ جَوَاسِيسِ الْعَدُوِّ بِأَسْرَارِ أُمَّتِهِمْ، وَمَا يَكُونُ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَمِثْلَ أَمْرِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ وَالشُّئُونِ الْعَامَّةِ، الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، أَيْ: إِذَا بَلَغَهُمْ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ سَرِيَّةٍ غَازِيَةٍ أَمِنَتْ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ أَوْ خِيفَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ بِظُهُورِهِمْ عَلَيْهَا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، أَوْ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّرَايَا الَّتِي تَخْرُجُ إِلَى الْحَرْبِ أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَرْكَزِ الْعَامِّ لِلسُّلْطَةِ، أَذَاعُوا بِهِ أَيْ بَثُّوهُ فِي النَّاسِ وَأَشَاعُوهُ بَيْنَهُمْ، يُقَالُ: أَذَاعَ الشَّيْءَ وَأَذَاعَ بِهِ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ
…
بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ
أَيْ: حَتَّى صَارَ مَشْهُورًا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ كَالنَّارِ فِي الْمَكَانِ الْعَالِي، أَوْ كَأَنَّهُ نَارٌ فِي رَأْسِ عَلَمٍ، وَالثَّقُوبُ وَالثِّقَابُ الْعِيدَانُ الَّتِي تُوَرَّى بِهَا النَّارُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَعَلُوا بِهِ الْإِذَاعَةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَذَاعُوهُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُمْ مِنَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ
بِحَيْثُ يَسْتَفِزُّهُمْ كُلُّ خَبَرٍ عَنِ الْعَدُوِّ يَصِلُ إِلَيْهِمْ فَيُطْلِقُ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكَلَامِ فِيهِ وَإِذَاعَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ أَخْبَارُ الْحَرْبِ وَأَسْرَارُهَا، وَلَا أَنْ تَخُوضَ الْعَامَّةُ فِي السِّيَاسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا بِمَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، يَضُرُّهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَيَضُرُّ الْأُمَّةَ وَالدَّوْلَةَ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا مِنْ أَمْرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ اهـ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ رَدُّ الشَّيْءِ صَرْفُهُ وَإِرْجَاعُهُ وَإِعَادَتُهُ، وَفِي الرَّدِّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، مَعْنَى التَّفْوِيضِ: أَيْ وَلَوْ أَرْجَعُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَامَّ الَّذِي خَاضُوا فِيهِ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَفَوَّضُوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمِثْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَصْلِ فِيهَا، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمُ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَةِ أُمُورِهَا لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: لَعَلِمَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَهُ وَيُظْهِرُونَ مَخْبَأَهُ مِنْهُمْ.
الِاسْتِنْبَاطُ: اسْتِخْرَاجُ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْ إِبْصَارِ الْعُيُونِ عَنْ مَعَارِفِ الْقُلُوبِ - كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَصْلُهُ اسْتِخْرَاجُ النَّبَطِ مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ الْمَاءُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ، وَفِي الْمُسْتَنْبِطِينَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الرَّسُولُ وَبَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُذِيعِينَ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ لَكَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ بَعْضِ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ مِثْلَهُ وَيَسْتَخْرِجُونَ خَفَايَاهُ بِدِقَّةِ نَظَرِهِمْ، فَهُوَ إِذًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَكْتَنِهُ سِرَّهَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُولِي الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ غَوْرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْإِحَاطَةِ بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَإِدَارَتِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْحَرْبِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَضَائِيَّةِ، وَكُلُّ الْمَسَائِلِ
تَكُونُ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَنْبِطُهُ إِلَّا بَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَرْعًا بَيْنَ الْعَامَّةِ يُذِيعُونَ بِهِ؟
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَنْبِطِينَ هُمْ بَعْضُ الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ لَوْ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ وَطَلَبُوا الْعِلْمَ بِهِ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ لَعَلِمَهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْعِلْمَ بِهِ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعَارِفُونَ بِهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ مَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ، بَلْ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْمُخْتَارُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ; فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَيْهِمْ دُونُ غَيْرِهِمْ مِنْ بَعْدِهِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُوَكَّلُ
إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِهَذَا التَّفْوِيضِ شَيْئًا يَسْتَنْبِطُهُ مِنْهُمْ فَلْيَقِفْ عِنْدَهُ، وَلَا يَتَعَدَّهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ حَقِّهِمْ، وَالنَّاسُ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ طَاعَتُهُمْ.
لَا غَضَاضَةَ فِي هَذَا عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا خَدْشًا لِحُرِّيَّتِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ، وَلَا نَيْلًا مِنْ عِزَّةِ نَفْسِهِ، فَحَسْبُهُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي خُوَيِّصَةِ نَفْسِهِ، لَمْ يُكَلِّفْ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا فِي عَقِيدَتِهِ وَلَا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا مِنَ الْعَدْلِ وَلَا الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي شُئُونِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَأَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهَا فِي أُمُورِهَا الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ فِي أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً فِي شُئُونِهَا كَالْأَفْرَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي هَذِهِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَنْ يَثِقُ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ بِأُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ قَدْ وَثِقَتْ بِهِ الْأُمَّةُ هُوَ عَيْنُ تَصَرُّفِهَا، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِهِ سُلْطَتُهَا مِنْ نَفْسِهَا.
زَعَمَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا تَعَلُّقُ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذَا بِكَلِمَةِ " يَسْتَنْبِطُونَهُ " وَهِيَ مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ، أَقُولُ: وَقَدْ فَرَّعَ الرَّازِيُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ فُرُوعٍ:
1 -
أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا لَا يُعَرَفُ بِالنَّصِّ.
2 -
أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ حُجَّةٌ.
3 -
أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْكَامِ
الْحَوَادِثِ.
4 -
أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ مُكَلَّفًا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ كَأُولِي الْأَمْرِ.
وَأَوْرَدَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجَابَ عَنْهَا كَعَادَتِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَخَذَ مِنْهَا هَذِهِ الْفُرُوعَ وَبَنَى عَلَيْهَا هَذِهِ الْمُجَادَلَةَ - خَارِجَةً عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا تَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ وَلَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَلَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، كَانَ جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ لَغْوًا وَعَبَثًا.
هَذَا شَاهِدٌ مَنْ أَفْصَحِ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ قَبْلُ مَنْ سَبَبِ غَلَطِ الْمُفَسِّرِينَ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْكَثِيرِ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، بِتَفْسِيرِهِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْمُسْتَحْدَثَةِ، فَأَهْلُ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ اصْطَلَحُوا عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ لِكَلِمَةِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَلَمَّا وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَمَلَ الرَّازِيُّ عَلَى فِطْنَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا عَنْ طَرِيقِهَا وَيَسِيرَ بِهَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ ذِي شِعَابٍ كَثِيرَةٍ يَضِلُّ فِيهَا السَّائِرُ، حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ.
مَعْنَى الْآيَةِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْعَامَّةِ مُطْلَقًا يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَيُذِيعُونَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْهُ عَلَى مَا فِي الْإِذَاعَةِ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَالْوَاجِبُ تَفْوِيضُ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَى الرَّسُولِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ
وَالْقَائِدُ الْعَامُّ فِي الْحَرْبِ، وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِجَالِ الشُّورَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ خَفَايَا هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَعْرِفُونَ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ فِيهَا، وَمَا يَنْبَغِي إِذَاعَتُهُ وَمَا لَا يَنْبَغِي، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ النَّصِّ فِي الْكِتَابِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَالسُّكُوتِ عَنْ بَعْضٍ؟ وَوُجُوبِ اسْتِنْبَاطِ مَا سُكِتَ عَنْهُ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَامَّةِ لِلْعُلَمَاءِ فِيمَا يَسْتَنْبِطُونَهُ مُطْلَقًا؟ لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ فِي شَيْءٍ.
عَلَى أَنَّ الرَّازِيَّ كَانَ أَبْطَلَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَأَثْبَتَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَيْ جَمَاعَتُهُمْ، فَكَيْفَ يُبْطِلُ هُنَا مَا حَقَّقَهُ فِي آيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59) ، بِقَوْلِهِ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا أَبْطَلَ بِهِ مَا حَقَّقَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ؟ قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الْقَارِئُ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَوْجَبَتْ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَكَانَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ الَّذِي
صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَذَا فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَالنُّصُوصَ فِيهَا أَوْضَحُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ قَدْ أَوْجَبَ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَبَهِ فِيهَا أَنْ تُتْرَكَ لِئَلَّا تَجُرَّ إِلَى الْحَرَامِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُشْتَبَهِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ وَيُقَلِّدُهُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْعَامَّةُ كَالْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ، فَهِيَ الَّتِي تُفَوِّضُهَا الْعَامَّةُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَتَتْبَعُهُمْ فِيهَا، هَذَا مَا تَهْدِي إِلَيْهِ الْآيَةُ وِفَاقًا لِغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْقُرْآنِ.
وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ بِمَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَتُدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَرَدِّ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ لَاتَّبَعْتُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ كَمَا اتَّبَعَتْهُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَقُولُ لِلرَّسُولِ: طَاعَةٌ لَكَ، وَتُبَيِّتُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالَّتِي تُذِيعُ بِأَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَتُفْسِدُ عَلَى الْأُمَّةِ سِيَاسَتَهَا بِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأَتْبَاعِ، أَيْ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِي أَكْثَرِ أَعْمَالِكُمْ بِجَعْلِهَا مِنَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ لَا فِيهَا كُلِّهَا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ أُوتُوا مِنْ صَفَاءِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا مَا يَكْفِي لِإِيثَارِهِمُ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا (24: 21) .
وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ بِالْقُرْآنِ وَبِعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعِنَايَةِ
اللهِ بِهِدَايَتِهِمْ بِهِمَا كَمَا قُلْنَا، وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى بِمِثْلِ قَسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ نَحْوَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ هُنَا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْمَعُونَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لِيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ (4: 73) ، أَيْ لَوْلَا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ الْمُتَتَابِعُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ وَتَرَكْتُمُ الدِّينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْكُمْ، وَهُمْ
أَصْحَابُ الْبَصَائِرِ النَّافِذَةِ وَالنِّيَّاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْعَزَائِمِ الْمُتَمَكِّنَةِ مَنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ كَوْنِهِ حَقًا حُصُولُ الدَّوْلَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الْفَتْحِ وَالظَّفَرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، وَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الِانْهِزَامِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَاطِلًا، بَلِ الْأَمْرُ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَبَاطِلًا عَلَى الدَّلِيلِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْقِيقِ. انْتَهَى مِنَ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ وَرَجَّحَهُ، وَقَوْلُهُ بِعَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَ كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا وَبَيْنَ الظَّفَرِ وَضِدِّهِ لَا يَسْلَمُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْوَقَائِعِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: أَذَاعُوا بِهِ، وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ، وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ رِوَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ جَمِيعًا، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمْعِ وَالْإِحَاطَةِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلُ الْإِحَاطَةِ، أَقُولُ: أَوْ كَمَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ: مِعْيَارُ الْعُمُومِ، أَيْ: فَهُوَ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (87: 6، 7) ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَا يَظْهَرُ هُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ وَتَحَرِّيهِ لِلْحَقَائِقِ عَدَمَ حُكْمِهِ بِالضَّلَالِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ مُتَعَدِّدٌ فِيهِ، وَلَا يَكَادُ يَتَحَرَّاهُ النَّاسُ [رَاجِعْ ص 54 ج 4 طَبْعَةَ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْكِتَابِ] .
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا.
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبَ
فِيهِ أَشَدَّ التَّرْغِيبِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنَافِقِينَ قِلَّةَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْجِهَادِ، بَلْ ذَكَرَ عَنْهُمْ شِدَّةَ سَعْيِهِمْ فِي تَثْبِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ فِي وَصْفِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمَّا قَالَ: إِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - أَيَّدَ هَذَا وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: إِنَّكَ أَنْتَ الْمُكَلَّفُ أَنْ تُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا. وَالرَّقِيبُ عَلَى نَفْسِكَ، فَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْكَ بِالْعَمَلِ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ مَعَكَ ; لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مِنَ التَّبْلِيغِ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَسَى هُنَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِأَنَّ التَّرَجِّيَ الْحَقِيقِيَّ مُحَالٌ عَلَى الْعَالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْوَعْدِ، وَخَبَرُهُ تَعَالَى حَقٌّ لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَالْبَأْسُ الْقُوَّةُ، وَكَانَ بَأْسُ الْكَافِرِينَ مُوَجَّهًا إِلَى إِذْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَجْلِ الْإِيمَانِ لَا لِذَوَاتِهِمْ وَأَشْخَاصِهِمْ، فَتَأْيِيدُ الْإِيمَانِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَفِّ بَأْسِهِمْ، وَكَفُّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَدِّي الْمُؤْمِنِينَ لِلْجِهَادِ.
أَقُولُ: سَبَقَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَفْسِيرُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ لِكَلِمَةِ عَسَى بِمِثْلِ هَذَا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ تَحْرِيضَ النَّبِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ دُونَ الْإِلْزَامِ وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُوَطِّنُ نُفُوسَ الْكَافِرِينَ عَلَى كَفِّ بِأَسِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَبُعْدِهِمْ لِتَرْكِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَدْعَى إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَرَى عَمَلُ دُوَلِ أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَبِهِ يُصَرِّحُونَ، تَبْذُلُ كُلُّ دَوْلَةِ مُنْتَهَى مَا فِي وُسْعِهَا مِنَ اتِّخَاذِ آلَاتِ الْقِتَالِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتَنْظِيمِ الْجُيُوشِ، لِتَكُونَ الْقُوَى الْحَرْبِيَّةُ بَيْنَهُنَّ مُتَوَازِنَةً، فَلَا تَطْمَعُ الْقَوِيَّةُ فِي الضَّعِيفَةِ فَيُغْرِيهَا ضَعْفُهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى مُحَارَبَتِهَا.
وَجَعْلُ عَسَى لِلتَّرَجِّي لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَرَجَّي هُوَ اللهُ عز وجل، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَرْجُوٌّ فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أَيْ: لَا يُخِيفَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَأْسُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ وَشِدَّتُهُمْ وَلَا تَصُدَّنَّكُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْعَمَلِ بِتَحْرِيضِهِ مُذْعِنِينَ مُخْتَارِينَ ; فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - الَّذِي وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ أَشَدُّ بَأْسًا مِنْهُمْ وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا لَهُمْ مِمَّا يُحَاوِلُونَ أَنْ يُنَكِّلُوا بِكُمْ، وَلَكِنَّ سُنَّتَهُ سَبَقَتْ بِأَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لِأَهْلِ الْحَقِّ إِذَا اتَّقَوْا أَسْبَابَ الْخِذْلَانِ، وَاتَّخَذُوا أَسْبَابَ الدِّفَاعِ مَعَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، لَا أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ
وَهُمْ قَاعِدُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي الْجَرْيِ عَلَى سُنَنِهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَالتَّنْكِيلُ أَنْ تُعَاقِبَ الْمُجْرِمَ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِغَيْرِهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يُجْرِمَ مِثْلَ إِجْرَامِهِ، وَهُوَ مِنَ النُّكُولِ بِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَلَّفَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقَاتِلَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَتَهُ بِقُوَّتِهِمْ وَبِأَسِهِمْ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَسِيرَتُهُ صلى الله عليه وسلم تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ قَدْ تَصَدَّى لِمُقَاوَمَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى تَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَاتِّبَاعِ النُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَلَمَّا قَاتَلُوهُ قَاتَلَهُمْ، وَقَدِ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ مَرَّةً فَبَقِيَ ثَابِتًا كَالْجَبَلِ لَا يَتَزَلْزَلُ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَقَاتِلْ لِلتَّفْرِيعِ بِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ: إِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ فَقَاتِلْ، وَكَانَ الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ وَإِذَا كُنْتَ مُبَلِّغًا عَنِ اللهِ عز وجل لَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا عَلَى النَّاسِ فَقَاتِلْ، أَنْتَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ لَكَ، وَحَرِّضْ غَيْرَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِذَلِكَ تَحْرِيضًا، لَا إِلْزَامَ سُلْطَةٍ وَلَا إِجْبَارَ قُوَّةٍ، وَالتَّحْرِيضُ الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ بِتَزْيِينِهِ وَتَسْهِيلِ الْخَطْبِ فِيهِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ.
وَمَعْنَى: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لَا تُكَلَّفُ أَنْتَ إِلَّا أَفْعَالَ نَفْسِكَ دُونَ أَفْعَالِ النَّاسِ، فَلَا يَضُرُّكَ إِعْرَاضُ الَّذِينَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ (4: 77) ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ لَكَ طَاعَةٌ وَيُبَيِّتُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ لَكَ إِنَّمَا تَجِبُ لِأَنَّكَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ فَهِيَ طَاعَةُ اللهِ، وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ لَا يَضُرُّهُ عِصْيَانُ مَنْ عَصَاهُ.
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا اللهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا.
الشَّفَاعَةُ مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْوَتْرِ أَيِ الْفَرْدِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الشَّفْعُ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ، وَالشَّفَاعَةُ الِانْضِمَامُ إِلَى آخَرَ، نَاصِرًا لَهُ وَسَائِلًا عَنْهُ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ السِّيَاقَ وَاتِّصَالَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً مَنْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ شَفْعًا لَكَ وَقَدْ أُمِرَتْ بِالْقِتَالِ وَتْرًا، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ لِأَنَّهَا نَصْرٌ لِلْحَقِّ وَتَأْيِيدٌ لَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَنْضَمُّ إِلَى أَيِّ مُحْسِنٍ وَيُشَفِّعُهُ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا، أَيْ مِنْ شَفَاعَتِهِ هَذِهِ
بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْفَوْزِ وَالشَّرَفِ وَالْغَنِيمَةِ مِنَ الدُّنْيَا عِنْدَمَا يَنْتَصِرُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَبِمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ سَوَاءٌ أَدْرَكَ النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا أَمْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَالنَّصِيبُ الْحَظُّ الْمَنْصُوبُ، أَيْ: الْمُعِينُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: وَمَنْ يَشْفَعُ شَفَاعَةً سَيِّئَةً بِأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى عَدُوِّكَ فَيُقَاتِلَ مَعَهُ، أَوْ يُخْذِلَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قِتَالِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ، وَمَثْلُهَا كُلُّ إِعَانَةٍ عَلَى السَّيِّئَاتِ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، أَيْ: نَصِيبٌ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا، وَهُوَ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَالْكِفْلُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ الْمَكْفُولِ لِلشَّافِعِ لِأَنَّهُ أَثَرُ عَمَلِهِ، أَوِ الْمَحْدُودِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِهِ، أَوِ الَّذِي يَجِيءُ مِنَ الْوَرَاءِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ كَفَلِ الْبَعِيرِ وَهُوَ عَجُزُهُ، أَوْ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْمَرْكَبِ الَّذِي يُسَمَّى كِفْلًا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْكِفْلُ مِنْ مَرَاكِبِ الرِّجَالِ وَهُوَ كِسَاءٌ يُؤْخَذُ فَيُعْقَدُ طَرَفَاهُ ثُمَّ يُلْقَى مُقَدَّمُهُ عَلَى الْكَاهِلِ وَمُؤَخَّرُهُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزِ - أَيِ الْكَفَلُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ - وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ مُسْتَدِيرٌ يُتَّخَذُ مِنْ خِرَقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيُوضَعُ عَلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ:" ذَلِكَ كَفَلُ الشَّيْطَانِ " يَعْنِي مَقْعَدَهُ ثُمَّ قَالَ: وَالْكِفْلُ مَا يَحْفَظُ الرَّاكِبَ مِنْ خَلْفِهِ، وَالْكِفْلُ النَّصِيبُ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا، انْتَهَى، كَأَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ مِنْ نَاحِيَةِ الْكِفْلِ وَالْمُؤَخَّرِ.
وَالرَّاغِبُ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: إِنَّهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْكِفْلِ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الشَّيْءُ الرَّدِيءُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكَفَلِ، وَهُوَ أَنَّ الْكِفْلَ لَمَّا كَانَ مَرْكَبًا يَنْبُو بِرَاكِبِهِ صَارَ مُتَعَارَفًا فِي كُلِّ شِدَّةٍ كَالسِّيسَاءِ، وَهُوَ الْعَظَمُ النَّاتِئُ مِنْ
ظَهْرِ الْحِمَارِ فَيُقَالُ: لِأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْكِفْلِ وَالسِّيسَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ مَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ مُعِينًا لَهُ فِي فِعْلَةِ حَسَنَةٍ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ، وَمَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ مُعِينًا لَهُ فِي فِعْلَةٍ سَيِّئَةٍ يَنَلْهُ مِنْهَا شِدَّةٌ، وَقِيلَ: الْكِفْلُ الْكَفِيلُ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَرَّى شَرًّا فَلَهُ مِنْ فِعْلِهِ كَفِيلٌ يَسْأَلُهُ، كَمَا قِيلَ مَنْ ظَلَمَ فَقَدْ أَقَامَ كَفِيلًا بِظُلْمِهِ، تَنْبِيهًا إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْ عُقُوبَتِهِ انْتَهَى.
وَفَسَّرَ الْآيَةَ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الشَّفَاعَةَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ أُمِرَ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ وَحْدَهُ فَكَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلْقِتَالِ مَعَهُ قَدْ تَصَدَّى لِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَعَهُ شَفِيعًا، وَاسْمُ الشَّرْطِ فِي مَنْ يَشْفَعْ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً، شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ عَمَّ بِذَلِكَ كُلُّ شَافِعٍ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحُضُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ لِمَنْ أَجَابَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْوَعِيدِ لِمَنْ أَبَى إِجَابَتَهُ - أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْحَثِّ عَلَى شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالَ مَنْ ذَكَرُوا أَنَّهَا فِي شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا أَوَّلَهَا، وَثَانِيَهَا أَنَّهُ جَعَلَ تَحْرِيضَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقِتَالِ بِمَعْنَى الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ لَهُ أَجْرُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّنْ تَمَرَّدَ وَعَصَى وِزْرٌ وَلَا عَيْبٌ. وَالثَّالِثَ: جَوَازُ أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَشْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ يَأْذَنَ لِبَعْضِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ فَنَهَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - دُونَ الْعَكْسِ، وَهَذَا الْوَجْهُ صَحِيحٌ، وَكَانَ وَاقِعًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ اسْتِئْذَانَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ، وَقَدْ يَسْتَأْذِنُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِهِ وَيَشْفَعُ لَهُ كَمَا يَسْتَأْذِنُ لِنَفْسِهِ. وَالرَّابِعَ - مِمَّا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ -: جَوَازُ أَنْ يَشْفَعَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ فِي إِعَانَةِ مَنْ لَا يَجِدُ أُهْبَةِ الْقِتَالِ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا، وَحَاصِلُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ ذُكِرَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِتَالِ أَوِ
الْقُعُودِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ بَعْضِ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الشَّفَاعَةِ خَمْسَةَ وُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهَا تَحْرِيضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ عَلَى الْجِهَادِ ; لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ شَفْعًا لَهُمْ، وَذَكَرَ عِلَّةً ثَانِيَةً لِتَسْمِيَةِ التَّحْرِيضِ شَفَاعَةً وَهِيَ أَنَّ التَّحْرِيضَ عَلَى الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ بَلْ عَلَى الرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الشَّفَاعَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَوِ التَّوْجِيهُ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَيُقَرِّبُهُ.
ثَانِيهَا: أَنَّهَا شَفَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي التَّخَلُّفِ، أَوْ شَفَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْإِعَانَةِ، وِفَاقًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ.
ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هَاهُنَا هِيَ أَنْ يَشْفَعَ إِيمَانُهُ بِاللهِ بِقِتَالِ الْكَفَّارِ - أَيْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ - وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ كُفْرُهُ بِالْمَحَبَّةِ لِلْكُفَّارِ وَتَرْكِ إِيذَائِهِمْ، أَقُولُ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَقِّ وَخِذْلَانِهِمْ.
رَابِعُهَا: قَوْلُ مُقَاتِلٍ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ الدُّعَاءُ وَإِنَّ نَصِيبَ الشَّافِعِ مِنْهَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ: مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ بِالْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ السَّيِّئَةَ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيفِ الْيَهُودِ لِلسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِمْ:" السَّامُ عَلَيْكُمْ " أَيِّ الْمَوْتُ، أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا مَعْرُوفٌ وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ أَلْبَتَّةَ.
خَامِسُهَا: قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ: إِنَّهَا شَفَاعَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَمَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ
سَيِّئَةٌ، ثُمَّ جَزَمَ الرَّازِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ قَصْرُهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مَعْنَاهَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الَّذِي لَا يُنَافِيهِ خُصُوصُ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ حَمْلَ الشَّفَاعَةِ عَلَى مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ فِي شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ مِنَ الْمَعَايِشِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ يَذْهَبُ بِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْحَرَارَةِ وَيُخْرِجُهَا مِنَ السِّيَاقِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَعَمُّ فَالْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ
الشَّفَاعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَرْبِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَاتِ فِي الْمُبْطِئِينَ عَنِ الْقِتَالِ، وَالَّذِينَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى اللهُ - تَعَالَى - مِنْ خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ ذَلِكَ ضُرُوبُ الِاعْتِذَارِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الِاعْتِذَارُ بِوَاسِطَةِ بَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ يُرْجَى السَّمَاعُ لَهُمْ وَالْقَبُولُ مِنْهُمْ، وَهُوَ عَيْنُ الشَّفَاعَةِ، اهـ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا قِسْمَانِ: حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ، فَالْحَسَنَةُ أَنْ يَشْفَعَ الشَّافِعُ لِإِزَالَةِ ضَرَرٍ وَرَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنْ مَظْلُومٍ أَوْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ إِلَى مُسْتَحِقٍّ، لَيْسَ فِي جَرِّهَا إِلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا ضِرَارٌ، وَالسَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ، أَوْ هَضْمِ حَقٍّ، أَوْ إِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، أَوْ مُحَابَاةٍ فِي عَمَلٍ، بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْخَلَلِ وَالزَّلَلِ، وَالضَّابِطُ الْعَامُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هِيَ مَا كَانَتْ فِيمَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّرْعُ، وَالسَّيِّئَةُ فِيمَا كَرِهَهُ أَوْ حَرَّمَهُ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنْ نَتَذَكَّرَ بِهَا أَنَّ الْحَاكِمَ الْعَادِلَ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِعْلَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ مَظْلَمَةِ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَا يَطْلُبُ لَهُ، وَلَا يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ الشَّافِعِ فِيمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَيُنَافِي الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الظَّالِمُ فَهُوَ الَّذِي تَرُوجُ عِنْدَهُ الشَّفَاعَاتُ ; لِأَنَّهُ يُحَابِي أَعْوَانَهُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْهُ لِيَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ فِي اسْتِبْدَادِهِ، فَيَثِقُ بِثَبَاتِهِمْ عَلَى خِدْمَتِهِ وَإِخْلَاصِهِمْ لَهُ، وَمَا الذِّئَابُ الضَّارِيَةُ بِأَفْتَكَ مِنَ الْغَنَمِ مِنْ فَتْكِ الشَّفَاعَاتِ فِي إِفْسَادِ الْحُكُومَاتِ وَالدُّوَلِ، فَإِنَّ الْحُكُومَةَ الَّتِي تَرُوجُ فِيهَا الشَّفَاعَاتُ يَعْتَمِدُ التَّابِعُونَ لَهَا عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُونَ مِنْهَا لَا عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَتَضِيعُ فِيهَا الْحُقُوقُ، وَيَحُلُّ الظُّلْمُ مَحَلَّ الْعَدْلِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ مِنَ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأُمَّةِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ عَامًّا.
وَقَدْ نَشَأْنَا فِي بِلَادٍ هَذِهِ حَالُ أَهْلِهَا وَحَالُ حُكُومَتِهِمْ، يَعْتَقِدُ الْجَمَاهِيرُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى قَضَاءِ مَصْلَحَةٍ فِي الْحُكُومَةِ إِلَّا بِالشَّفَاعَةِ أَوِ الرِّشْوَةِ، وَلَا يَقُومُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى صَلَاحِ حُكُومَتِنَا إِلَّا إِذَا زَالَ هَذَا الِاعْتِقَادُ، وَصَارَتِ الشَّفَاعَةُ مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي لَا يَلْجَأُ إِلَيْهَا إِلَّا أَصْحَابُ الْحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِهِ، وَظُهُورُ الْحَاجَةِ إِلَى شَفِيعٍ يَظْهَرُ لِلْحَاكِمِ
الْعَادِلِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمَشْفُوعِ لَهُ لِكَذَا، أَوْ وُقُوعِ الظُّلْمِ عَلَيْهِ فِي كَذَا، وَأَنْ يَكُونَ مَا عَدَا هَذَا مِنَ النَّوَادِرِ الَّتِي لَا تَخْلُو حُكُومَةٌ
مِنْهَا، مَهْمَا ارْتَقَتْ وَصَلُحَ حَالِهَا.
وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا أَيْ: مُقْتَدِرًا أَوْ حَافِظًا أَوْ شَاهِدًا، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِالْحَفِيظِ وَالشَّهِيدِ، أَقْوَالُ: قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ قَائِمًا عَلَيْهِ يَحْفَظُهُ وَيَقِيتُهُ - يَعْنِي أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ وَهُوَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقِ مِنَ الرِّزْقِ وَتُحْفَظُ بِهِ الْحَيَاةَ - يُقَالُ: قَاتَهُ يَقُوتُهُ إِذَا أَطْعَمَهُ قُوتَهُ، وَأَقَاتَهُ يُقِيتُهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ مَا يَقُوتُهُ اهـ، وَمَنْ جَعَلَ لَكَ مَا يَقُوتُكَ دَائِمًا كَانَ قَائِمًا عَلَيْكَ بِالْحِفْظِ وَشَهِيدًا عَلَيْكَ لَا يَقُوتُهُ أَمْرُكَ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مَعْنَى الْقُدْرَةِ أَيْضًا بِاللُّزُومِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى كَوْنِ الْمُقِيتِ بِمَعْنَى الْمُقْتَدِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنَ الْقُوتِ، كَقَوْلِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ رضي الله عنه:
وَذِي ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ
…
وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ:
تَجَلَّدْ وَلَا تَجْزَعْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ
…
فَإِنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمَقِيتُ
وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا مَعْنَى الْمُقْتَدِرِ مُسْتَدِلًّا بِبَيْتِ الزُّبَيْرِ لِأَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَقَاتَ عَلَى الشَّيْءِ اقْتَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ الزُّبَيْرِ، وَعَزَاهُ أَوَّلًا إِلَى أَبِي قَيْسِ بْنِ رِفَاعَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لِلزُّبَيْرِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ الْفَرَّاءِ: الْمُقِيتُ الْمُقْتَدِرُ وَالْمُقَدِّرُ كَالَّذِي يُعْطَى كُلَّ شَيْءٍ قُوتَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُقِيتُ الْقَدِيرُ، وَقِيلَ: الْحَفِيظُ، قَالَ: وَهُوَ بِالْحَفِيظِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ، يُقَالُ: قُتُّ الرَّجُلَ أَقُوتُهُ إِذَا حَفِظْتُ نَفْسَهُ بِمَا يَقُوتُهُ، وَالْقُوتُ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يَحْفَظُ نَفْسَهُ وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحِفْظِ، فَمَعْنَى الْمُقِيتِ الْحَفِيظُ الَّذِي يُعْطِي الشَّيْءَ قَدْرَ الْحَاجَةِ مِنَ الْحِفْظِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُقِيتُ الْمُقْتَدِرُ كَالَّذِي يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ قُوتَهُ، وَيُقَالُ: الْمُقِيتُ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَالشَّاهِدُ لَهُ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ لِلْسَمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا:
رُبَّ شَتْمٍ سَمِعْتُهُ وَتَصَامَمْـ
…
ـتُ وَغَيٍّ تَرَكْتُهُ فَكُفِيتُ
لَيْتَ شِعْرِي وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا
…
قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ
أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو
…
سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
أَيْ: أَعْرَفُ مَا عَمِلْتَ مِنَ السُّوءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، حَكَى ابْنُ بَرِّيٍّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، قَالَ: الصَّحِيحُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى "
رَبِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
" إِلَى آخِرِ
مَا ذَكَرَهُ وَمِنْهُ تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ لِلْمُقِيتِ فِي بَيْتِ السَّمَوْأَلِ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى الْحِسَابِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَكَانَ اللهُ وَمَا زَالَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا، أَيْ: مُقْتَدِرًا مُقَدَّرًا
فَهُوَ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُعْطِيَ الشَّافِعَ نَصِيبًا أَوْ كِفْلًا مِنْ شَفَاعَتِهِ عَلَى قَدْرِهَا فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ، لِأَنَّ سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَزَاءُ مُرْتَبِطًا بِالْعَمَلِ، أَوْ شَهِيدًا حَفِيظًا عَلَى الشُّفَعَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ مُحْسِنِهِمْ وَمُسِيئِهِمْ فَهُوَ يُعْطِي الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ عَلَّمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ طَرِيقَةَ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَاصُلِ بَيْنَ النَّاسِ، عَلَّمَهُمْ سُنَّةَ التَّحِيَّةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمُ الضُّعَفَاءِ وَالْأَقْوِيَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَحُسْنَ الْأَدَبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ يَلْقَوْنَهُ فِي أَسْفَارِهِمْ فَقَالَ: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، وَهَذَا مَا يَرَاهُ الْأُسْتَاذُ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي النَّظْمِ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِأَنْ يَرْضَوْا بِالْمُسَالَمَةِ إِذَا رَضِيَ الْأَعْدَاءُ بِهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (8: 61) .
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَدْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى سَلَامِهِ وَيَقْتُلُهُ، فَمَنَعَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ وَأَمْرَهُمْ بِأَنْ يُقَابِلُوا كُلَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُكْرِمُهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ بِمِثْلِ مَا قَابَلَهُمْ بِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
هَذَا مُلَخَّصُ قَوْلِهِ: وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ جَعَلَ التَّحِيَّةَ بِمَعْنَى السَّلَامِ وَالسِّلْمِ، وَفِي الثَّانِي مِنَ التَّوَسُّعِ فِي التَّحِيَّةِ مَا فِيهِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (4: 94) ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا أَدَبَ التَّحِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ مَا يَنْبَغِي وَمَا لَا يَنْبَغِي فِي الشَّفَاعَةِ ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ التَّحِيَّةِ وَالشَّفَاعَةِ شَأْنًا عَظِيمًا فِي حَالِ الْقِتَالِ، يَكُونُ بِهِ نَفْعُهُمَا أَوْ ضَرَرُهُمَا أَقْوَى مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّحِيَّةِ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الْحَيَاةِ.
التَّحِيَّةُ: مَصْدَرُ حَيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهُ حَيَّاكَ اللهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ صَارَتِ التَّحِيَّةُ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْمَرْءُ لِمَنْ يُلَاقِيهِ أَوْ يُقْبِلُ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ دُعَاءٍ أَوْ ثَنَاءٍ كَقَوْلِهِمْ: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَأَنْعِمْ مَسَاءً، وَقَالُوا: عِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَجُعِلَتْ تَحِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ السَّلَامَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ السَّلَامِ وَالْأَمَانِ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ السِّلْمِ وَمُحِبُّو السَّلَامَةِ، وَمِنَ التَّحِيَّاتِ الشَّائِعَةِ فِي بِلَادِنَا إِلَى هَذَا الْيَوْمِ: أَسْعَدَ اللهُ صَبَاحَكُمْ، أَسْعَدَ اللهُ مَسَاءَكُمْ - وَهَذَا
بِمَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً - وَنَهَارُكَ سَعِيدٌ، وَلَيْلَتُكَ سَعِيدَةٌ، وَهَذَا مُتَرْجَمٌ عَنِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ.
وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نُجِيبَ مَنْ حَيَّانَا بِأَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أَوْ بِمِثْلِهَا أَوْ عَيْنِهَا، كَأَنْ نَقُولُ لَهُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يَقُولُهَا، وَهَذَا هُوَ رَدُّهَا، وَفَسَّرُوهُ بِأَنْ تَقُولَ لِمَنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، بِقَوْلِكَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَإِذَا قَالَ هَذَا فِي تَحِيَّةٍ فَالْأَحْسَنُ أَنْ تَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَهَكَذَا يَزِيدُ الْمُجِيبُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ كَلِمَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَأَقُولُ: قَدْ يَكُونُ أَحْسَنُ الْجَوَابِ بِمَعْنَاهُ أَوْ كَيْفِيَّةِ
أَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ لَفْظِ الْمُبْتَدِئِ بِالتَّحِيَّةِ، أَوْ مُسَاوِيَهُ فِي الْأَلْفَاظِ، أَوْ مَا هُوَ أَخْصَرُ مِنْهُ، فَمَنْ قَالَ لَكَ: أَسْعَدَ اللهُ صَبَاحَكُمْ وَمَسَاءَكُمْ، فَقُلْتَ لَهُ: أَسْعَدَ اللهُ جَمِيعَ أَوْقَاتَكُمْ كَانَتْ تَحِيَّتُكَ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ، وَمَنْ قَالَ لَكَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْعِنَايَةِ فَقُلْتَ لَهُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ بِصَوْتٍ أَرْفَعَ وَإِقْبَالٍ يُشْعِرُ بِالْعِنَايَةِ وَزِيَادَةِ الْإِقْبَالِ وَالتَّكْرِيمِ، كُنْتَ قَدْ حَيَّيْتَهُ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ فِي صِفَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا فِي لَفْظِهَا، وَالنَّاسُ يُفَرِّقُونَ فِي الْقِيَامِ لِلزَّائِرِينَ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِحَرَكَةٍ خَفِيفَةٍ وَهِمَّةٍ تُشْعِرُ بِزِيَادَةِ الْعِنَايَةِ وَمَنْ يَقُومُ مُتَثَاقِلًا، وَمِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ مَنْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْعِنَايَةِ بِالْقِيَامِ إِظْهَارَ الِانْدِهَاشِ فَيَقُولُونَ: قَامَ لَهُ بِانْدِهَاشٍ، أَوْ قَامَ بِغَيْرِ انْدِهَاشٍ.
عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ الْجَوَابُ عَنِ التَّحِيَّةِ لَهُ مَرْتَبَتَانِ: أَدْنَاهُمَا رَدُّهَا بِعِنَايَةٍ، وَأَعْلَاهُمَا الْجَوَابُ عَنْهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، فَالْمُجِيبُ مُخَيَّرٌ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَحْسَنَ لِكِرَامِ النَّاسِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، وَرَدُّ عَيْنِ التَّحِيَّةِ لِمَنْ دُونَهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ لِأَحْسَنَ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَرَدَّهَا بِعَيْنِهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ لِلْكُفَّارِ عَامَّةً، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: فَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، أَقُولُ: وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَمُعَامَلَةِ الْمُحَارِبِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ قَالَ لِخَصْمِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَدْ أَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقْصِدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْوَفَاءُ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الرَّاسِخَةِ ; وَلِذَلِكَ عَدَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذِكْرَ التَّحِيَّةِ مُنَاسِبًا لِلسِّيَاقِ بِكَوْنِهَا مِنْ وَسَائِلِ السَّلَامِ،
وَلَمَّا صَارَ لَفْظُ السَّلَامِ تَحِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ صَارَتِ التَّحِيَّةُ بِهِ عُنْوَانًا عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (4: 94) .
وَمِمَّا يَنْبَغِي بَيَانُهُ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ غَيْرُهُمْ بِلَفْظِ السَّلَامِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي رَدُّ السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، أَيْ: يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ الْآدَابَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِذَا سَرَتْ فِي قَوْمٍ يَأْلَفُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْرِفُونَ فَضْلَ دِينِهِمْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَجْذَبُ لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَآيَةِ النُّورِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا (24: 27) ، هَلِ السَّلَامُ فِيهِمَا عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ فَيَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ أَمْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ؟ فَأَجَبْتُ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ مِنَ الْمَنَارِ (ص 583 - 685) بِمَا نَصَّهُ:
(ج) إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ عَامٌّ وَمِنْ مَقَاصِدِهِ نَشْرُ آدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ فِي النَّاسِ وَلَوْ بِالتَّدْرِيجِ
وَجَذْبُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ لِيَكُونَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ إِخْوَةً، وَمِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ إِفْشَاءُ السَّلَامِ إِلَّا مَعَ الْمُحَارِبِينَ ; لِأَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ أَمَّنَهُ، فَإِذَا فَتَكَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ خَائِنًا نَاكِثًا لِلْعَهْدِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَرُدُّ عليهم السلام، حَتَّى كَانَ مِنْ بَعْضِ سُفَهَائِهِمْ تَحْرِيفُ السَّلَامِ بِلَفْظِ:" السَّامُ " أَيِّ الْمَوْتُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ:" وَعَلَيْكُمْ "، وَسَمِعَتْ عَائِشَةُ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ:" السَّامُ عَلَيْكُمْ "، فَقَالَتْ لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَانْتَهَرَهَا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام مُبَيِّنًا لَهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكُونُ فَاحِشًا وَلَا سَبَّابًا وَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلذِّمِّيِّ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ لِنَصْرَانِيٍّ سَلَّمَ عَلَيْهِ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ - تَعَالَى -، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:" أَلَيْسَ فِي رَحْمَةِ اللهِ يَعِيشُ "، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الْأَمْرُ بِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ تَعْرِفُ وَمَنْ لَا تَعْرِفُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ رُدُّوهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ يُقَالُ لِلْكِتَابِيِّ فِي رَدِّ السَّلَامِ عَيْنُ مَا يَقُولُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ.
هَذِهِ لُمَعَةٌ مِمَّا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ ثُمَّ جَاءَ الْخَلَفُ فَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُمْ لَا يَبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَلَى الْحَاجَةِ أَيْ: لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَأَمَّا الرَّدُّ فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ وَاجِبٌ كَرَدِّ سَلَامِ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِي الْخَانِيَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: وَلَوْ سَلَّمَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ فَلَا بَأْسَ بِالرَّدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ لَا وَاجِبٌ وَلَا مَسْنُونٌ مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِهِ فِي الصَّحِيحِ.
أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا يُنَافِي حَقَّ غَيْرِهِ، فَالسَّلَامُ حَقٌّ عَامٌّ وَيُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ: مُطْلَقُ التَّحِيَّةِ، وَتَأْمِينُ مَنْ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ وَالْإِيذَاءِ وَكُلِّ مَا يُسِيءُ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي السَّلَامِ عَامَّةً، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا " الْمُسْلِمُ " كَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا غَيْرُهُ كَحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
أَمَّا جَعْلُ تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ عَامَّةً فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ بِلَفْظِ:" وَعَلَيْكُمْ " حَتَّى لَا يَكُونُوا مَخْدُوعِينَ لِلْمُحَرِّفِينَ، وَمِنْ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّ الشَّيْءَ يَزُولُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ
أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَهَى الْيَهُودَ عَنِ السَّلَامِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَحْظُرُوا عَلَى النَّاسِ آدَابَ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَرَادُوا أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُ حَتَّى مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى آيَاتِهِ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَصَوْنٌ لَهُ عَنِ الْمُخَالِفِينَ، وَكُلَّمَا زَادُوا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ زَادُوا إِيغَالًا فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَإِنَّهُمْ لَيُشَاهِدُونِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجْتَهِدُونَ بِنَشْرِ دِينِهِمْ وَيُوَزِّعُونَ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِهِ عَلَى النَّاسِ مَجَّانًا، وَيُعَلِّمُونَ أَوْلَادَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي مَدَارِسِهِمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي تَحْوِيلِ النَّاسِ إِلَى عَادَاتِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ لِيَقَرِّبُوا مِنْ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْأُورُبِّيِّينَ فَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا عِنْدَمَا وَافَقَهُمْ خِدِيوِي مِصْرَ " إِسْمَاعِيلُ بَاشَا " عَلَى اسْتِبْدَالِ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بِالتَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ وَعَدُّوا هَذَا مِنْ آيَاتِ الْفَتْحِ، وَتَرَى الْقَوْمَ الْآنَ
يَسْعَوْنَ فِي جَعْلِ يَوْمِ الْأَحَدِ عِيدًا أُسْبُوعِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ يُشَارِكُونَ فِيهِ النَّصَارَى بِالْبَطَالَةِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ نَرَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُونَ يُحِبُّونَ مَنْعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَخْذِ بِآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَكَأَنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَّا حَجْبَ هَذَا الدِّينِ عَنِ الْعَالَمِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَسَيَرْجِعُونَ عَنْهُ بَعْدَ حِينٍ اهـ.
هَذَا مَا أَفْتَيْنَا بِهِ مُنْذُ بِضْعِ سِنِينَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْفَتْوَى رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَفْظِ:" وَعَلَيْكُمْ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَرَوِيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَدَمَ ابْتِدَائِنَا إِيَّاهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ اقْتَضَاهَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحُرُوبِ وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِيهَا، رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ، فَيَظْهَرُ هُنَا أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَبْدَءُوهُمْ لِأَنَّ السَّلَامَ تَأْمِينٌ، وَمَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ آمِنٍ مِنْهُمْ لِمَا تَكَرَّرَ مِنْ غَدْرِهِمْ وَنَكْثِهِمْ لِلْعَهْدِ مَعَهُ ; فَكَانَ تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَخْوِيفًا لَهُمْ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُوَاتَاةِ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَوَازَ ابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مُحَيْرِيزٍ رضي الله عنهم قَالَ وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ الْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ هِدَايَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ يَجِبُ تَبْلِيغُهَا، وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَالرَّأْيِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنْ يَكُونَ دِينًا وَلَا هِدَايَةً عَامَّةً وَلَا أَنْ يُبَلَّغَ لِلنَّاسِ، فَتَوَقَّفُ فَهْمِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا أَظْهَرُ، وَالَّذِي
عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي نَعْرِفُهَا، أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِغَيْرِ السَّلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بَعْدَ كِتَابَةِ هَذَا رَاجَعْتُ (زَادَ الْمَعَادِ) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ " قِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ لَمَّا سَارُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ "، وَتَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ حُكْمًا عَامًّا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ خَاصًّا بِمَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ، وَذَكَرَ خِلَافَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمُطْلَقِ فِي النَّهْيِ عَنِ الِابْتِدَاءِ.
هَذَا وَإِنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ، وَأَمَّا رَدُّهُ فَالْجُمْهُورُ
عَلَى وُجُوبِهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ رَدَّ كُلِّ تَحِيَّةٍ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ الْوُجُوبُ خَاصًّا بِتَحِيَّةِ السَّلَامِ، وَيَكْفِي أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ وَأَنْ يَرُدَّ بَعْضُ مَنْ يُلْقَى عليهم السلام ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لِتَضَامُنِهَا وَاتِّحَادِهَا يَقُومُ فِيهَا الْوَاحِدُ مَقَامَ الْجَمِيعِ.
وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْقَادِمُ عَلَى مَنْ يَقْدِمُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا تَلَاقَى الرَّجُلَانِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الْكَبِيرُ فِي السِّنِّ أَوِ الْقَدْرِ بِالسَّلَامِ.
وَمِنْ آدَابِ السَّلَامِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ "، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ سَلَامَ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَمُسْلِمٌ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ "، وَالتِّرْمِذِيُّ " أَنَّهُ مَرَّ بِنِسْوَةٍ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ "، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ الْمَحَارِمِ مُطْلَقًا وَالْعَجَائِزِ الْأَجْنَبِيَّاتِ دُونَ غَيْرِهِنَّ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَلَى الْقَوْمِ عِنْدَ الْمَجِيءِ وَعِنْدَ الِانْصِرَافِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ وَقَالَ: وَكَانَ يُسَلِّمُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُوَاجِهُهُ، وَيَحْمِلُ السَّلَامَ لِمَنْ يُرِيدُ السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَائِبِينَ عَنْهُ، وَيَتَحَمَّلُ السَّلَامَ لِمَنْ يُبَلِّغُهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا بَلَّغَهُ أَحَدٌ السَّلَامَ عَنْ غَيْرِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُبَلِّغِ بِهِ، وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إِلَّا لِعُذْرٍ مِثْلِ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَحَالَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ يُسْمِعُ الْمُسَلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَرُدُّ بِيَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ وَلَا أُصْبُعِهِ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرُدُّ إِشَارَةً، ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ مَا يُعَارِضُهَا إِلَّا بِشَيْءٍ بَاطِلٍ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو غَطَفَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ أَشَارَ إِشَارَةً تُفْهَمُ، وَأَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ) .
وَوَرَدَ فِي صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِفْشَاءُ السَّلَامِ وَكَوْنُهُ سَبَبَ الْحُبِّ بَيْنَهُمْ،
وَمِنْهَا حَدِيثُ: إِنَّ أَفْضَلَ الْإِسْلَامِ وَخَيْرَهُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ وَصَحَّ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ تَحَابُّوا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَأَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ الْبَرَاءِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ عَمَّارٌ:" ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ "، فَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَالِي الَّذِي لَا يَكَادُ يَجْمَعُهُ غَيْرُهُ.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا الْحَسِيبُ الْمُحَاسِبُ عَلَى الْعَمَلِ كَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُجَالِسِ قَالَ الرَّاغِبُ: وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُكَافِئِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ الْكَافِي مَنْ حَسِبَكَ كَذَا إِذَا كَانَ يَكْفِيكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَكُمْ بِالتَّحِيَّةِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَقُولُ: إِنَّ فِيهَا أَيْضًا إِشْعَارًا بِحَظْرِ تَرْكِ إِجَابَةِ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْنَا وَيُحَيِّينَا وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُنَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ هُمَا الرُّكْنَانِ الْأَوَّلَانِ لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ يُبَلِّغُونَ النَّاسَ مَا يَجِبُ مِنْ إِقَامَتِهِمَا وَدَعْمِهِمَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُصَرِّحَ الْقُرْآنُ بِهِمَا مَعًا تَارَةً، وَبِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا تَارَةً أُخْرَى فِي أَثْنَاءِ سَرْدِ الْأَحْكَامِ، فَإِنِّ ذِكْرَهُمَا هُوَ الْعَوْنُ الْأَكْبَرُ وَالْبَاعِثُ الْأَقْوَى عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَنَاهِيكَ بِأَحْكَامِ الْقِتَالِ الَّتِي يَبْذُلُ الْمُؤْمِنُ فِيهَا نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ وَحُرِّيَّةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَنَشْرِ هِدَايَتِهِ، وَتَأْمِينِ دُعَاتِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَلْ يَبْذُلُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ إِلَّا فِي مَرْضَاةِ مَنْ يَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكُلِّ مَا فِيهَا؟
فَالْمَعْنَى: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ، فَلَا تُقَصِّرُوا فِي طَاعَتِهِ وَالْخُضُوعِ لِأَمْرِهِ ; فَإِنَّ فِي طَاعَتِهِ شَرَفَكُمْ وَسَعَادَتَكُمْ، وَارْتِقَاءَ أَرْوَاحِكُمْ وَعُقُولِكُمْ، إِذْ حَرَّرَكُمْ بِذَلِكَ مِنَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ لَهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لِمَا دُونَ الْبَشَرِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي ذَلَّ لَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَسَيَجْعَلُ لَكُمْ بِهَذَا الدِّينِ مُلْكًا عَظِيمًا وَيَجْعَلُكُمُ الْوَارِثِينَ، وَهَلْ هَذَا كُلُّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْمُحْسِنِينَ؟ كَلَّا إِنَّهُ - وَاللهِ - لَيَجْمَعَنَّكُمْ وَيَحْشُرَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا فِيمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ الْأَوْفَى عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - خَبَرَهُ بِالْقَسَمِ وَهُوَ أَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا، أَيْ: لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ عز وجل فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ عَلَى خَبَرِهِ، فَكَلَامُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَنْ عَمْدٍ وَعِلْمٍ، أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ سَهْوٍ، وَأَمَّا كَلَامُهُ تَعَالَى فَهُوَ عَنِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (20: 52) ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ غَيْرَ صَادِقٍ لِنَقْصٍ فِي الْعِلْمِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لِغَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ دَلَّ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ عَلَى كَوْنِهِ كَلَامَ
اللهِ - تَعَالَى -، فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ لِمَنْ قَامَ عَلَيْهِ
الدَّلِيلُ، إِذَا آثَرَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَقْوَالَ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُقَلِّدِينَ الضَّالِّينَ.
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا.
ابْتَدَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْفَاءِ لِوَصْلِهَا بِمَا سَبَقَهَا، إِذِ السِّيَاقُ لَا يَزَالُ جَارِيًا فِي مَجْرَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، وَذِكْرِ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ وَالضُّعَفَاءِ فِيهِ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَتَخُونُهُ أَعْمَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصْرِ لَهُمْ وَهُمْ بَعْضُ
الْمُشْرِكِينَ - وَكَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي إِبَّانِ الْحَرْبِ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِيمَانِ فِي غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ كَانُوا خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تَقُولُ نَقْتُلُهُمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ لَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَقَالَ: " مَنْ لِي بِمَنْ يُؤْذِينِي وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي؟ "، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ قَتَلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَأَطَعْنَاكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا ابْنَ مُعَاذٍ طَاعَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ عَرَفْتَ مَا هُوَ مِنْكَ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: إِنَّكَ يَا ابْنَ عُبَادَةَ مُنَافِقٌ وَتُحِبُّ الْمُنَافِقِينَ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: اسْكُتُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ فِينَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَأْمُرُنَا فَنُنَفِّذُ أَمْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ وَحُمَّاهَا فَأُرْكِسُوا وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَهُمْ: مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ؟ قَالُوا: أَصَابَنَا وَبَاءُ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَافَقُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنَافِقُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ تَدْلِيسٌ وَانْقِطَاعٌ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِمَكَّةَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَهَا بَعْضُهُمْ حَتَّى عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ بِذِكْرِ الْمُهَاجَرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذِكْرِ سَنَدِهِ عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَوْلُهُ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا بِمَكَّةَ فَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عليه السلام فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْخُبَثَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللهِ - أَوْ كَمَا قَالُوا - تَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَيَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، تُسْتَحَلُّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ
لِذَلِكَ؟ ! فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَى وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ شَيْءٍ فَنَزَلَتْ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ قَدْ أَسْلَمُوا بِالْفِعْلِ كَمَا تُوهِمُهُ
عِبَارَةُ بَعْضِ النَّاقِلِينَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَذِبًا، فَلَقُوهُمْ فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَلَالٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَرَامٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُمْ نَاسٌ تَخَلَّفُوا عَنْ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ وَأَعْلَنُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَوَلَّاهُمْ نَاسٌ وَتَبَرَّأَ مِنْ وِلَايَتِهِمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا: تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَسَمَّاهُمُ اللهُ مُنَافِقِينَ، وَبَرَّأَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَلَايَتِهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَتَوَلَّوْهُمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ رِوَايَاتِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا مُعْتَذِرِينَ بِالْمَرَضِ وَالتُّخَمَةَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ، ثُمَّ رَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ مَكَّةَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لِذِكْرِ الْهِجْرَةِ فِي الْآيَةِ.
وَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي مِثْلِ هَذَا بِتَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ وَنُزُولِ الْآيَةِ عَقِبَهَا، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَقَائِعِ تَرَاخٍ وَزَمَنٌ طَوِيلٌ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَهَا كُلٌّ عَلَى وَاقِعَةٍ يَرَى أَنَّهَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ لَا التَّارِيخِ، وَلَكِنَّ مِنَ الرِّوَايَاتِ مَا يَكُونُ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا فِي التَّارِيخِ وَتَعْيِينِ الْوَاقِعَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مَنْقُولَةً بِالْمَعْنَى كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ فَهْمٍ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ وَرَأَيٌ فِي تَفْسِيرِهَا يُخْطِئُ فِيهِ وَيُصِيبُ، وَلَا يُلْزِمُ أَحَدًا أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، بَلْ لِمَنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ يَأْبَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَدَّ رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي جَعْلِ الْمُرَادِ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا فِئَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ الَّذِينَ رَجَعُوا عَنِ اِلْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَأَيْتَ مِنْ ذِكْرِ الْمُهَاجِرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ هَذَا
اللَّفْظِ بِمَا تَرَاهُ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي رَدِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا دُونَهَا فِي قُوَّةِ السَّنَدِ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ - أَيِ الَّتِي جَعَلَتِ الْآيَةَ فِي مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ - أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَعْمَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا فِي أَحَدٍ مِمَّنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهُوَ قَتْلُهُمْ حَيْثُمَا وُجِدُوا بِشَرْطِهِ، وَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ صَدِّ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ السَّنَدِ عَنِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْآيَاتِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ خِدَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَنْصُرُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي الْوَلَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي الدَّرْسِ:
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ تُشْعِرُ بِارْتِبَاطِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَاءَ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَرِعُ الْجَاهِلُ تَعْلِيلَاتٍ وَمَعَانِيَ لِمَا لَا يَفْهَمُهُ، وَقَدْ يَخْتَرِعُ الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِارْتِبَاطِ إِذِ الْكَلَامُ السَّابِقُ كَانَ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ حَتَّى مَا وَرَدَ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَقَدْ خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَخْ، أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرَهُ يُخْشَى وَيُخَافُ أَوْ يُرْجَى فَتُتْرَكُ تِلْكَ الْأَحْكَامُ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ وَهِيَ تُفِيدُ تَفْرِيعَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِيهَا عَلَى مَا قَبْلُهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - قَدْ أَمَرَكُمْ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَتَوَعَّدَ الْمُبْطِئِينَ عَنْهُ وَالَّذِينَ تَمَنَّوْا تَأْخِيرَ كِتَابَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَيُتْرَكُ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُ لِأَجْلِهِ فَمَا لَكُمْ تَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَنْقَسِمُونَ فِيهِمْ إِلَى فِئَتَيْنِ؟
قَالَ: وَالْمُنَافِقُونَ هُنَا غَيْرُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ آيَاتُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ الْمُنَافِقِينَ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَلَاءَ لَهُمْ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يُظْهِرُونَ، ضَلْعُهُمْ مَعَ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَحْتَاطُونَ فِي إِظْهَارِ الْوَلَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا مِنْهُمْ قُوَّةً، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ ضَعْفُهُمُ انْقَلَبُوا عَلَيْهِمْ وَأَظْهَرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يُعَدُّوا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَادِّينَ لَهُمْ جَهْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يُعَامِلُوا كَمَا
يُعَامِلُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْعَدَاوَةِ - وَعِبَارَتُهُ مِمَّنْ لَا يُنَافِقُ - فَأَنْكَرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالَ:
وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَيْ: كَيْفَ تَتَفَرَّقُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْكَسَهُمْ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِمَا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ نَظَرَ إِنْصَافٍ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ نَظَرَ الْأَعْدَاءِ الْمُبْطِلِينَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ، انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الدَّرْسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ.
أَقُولُ: الرَّكْسُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - مَصْدَرُ رَكَسَ الشَّيْءَ يُرْكُسُهُ - بِوَزْنِ نَصَرَ - إِذَا قَلَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ رَدَّ آخِرَهُ عَلَى أَوَّلِهِ، يُقَالُ: رَكَسَهُ وَأَرْكَسَهُ فَارْتَكَسَ، قَالَ فِي اللِّسَانِ بَعْدَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ، وَقَالَ شَمِرٌ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْمَنْكُوسُ وَالْمَرْكُوسُ الْمُدْبِرُ عَنْ حَالِهِ، وَالرَّكْسُ رَدُّ الشَّيْءِ مَقْلُوبًا اهـ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الرِّكْسِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ شَبِيهٌ بِالرَّجِيعِ، وَأُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الرَّوَثِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّكْسَ وَالْإِرْكَاسَ شَرُّ ضُرُوبِ التَّحَوُّلِ وَالِارْتِدَادِ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الشَّيْءُ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ إِنْ كَانَ لَهُ رَأْسٌ، أَوْ مَقْلُوبًا مُتَحَوِّلًا عَنْ حَالَةٍ إِلَى أَرْدَأَ مِنْهَا كَتَحَوُّلِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ إِلَى الرَّجِيعِ وَالرَّوَثِ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَحَوُّلُهُمْ إِلَى الْغَدْرِ وَالْقِتَالِ أَوْ إِلَى الشِّرْكِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي التَّحَوُّلِ وَالِانْقِلَابِ الْمَعْنَوِيِّ أَيْ: مِنْ إِظْهَارِ الْوَلَاءِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِظْهَارِ التَّحَيُّزِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ
شَرُّ التَّحَوُّلِ وَالِارْتِدَادِ الْمَعْنَوِيِّ، كَأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ نُكِّسَ عَلَى رَأْسِهِ وَصَارَ يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (67: 22) ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فِي ظُهُورِ ضَلَالَتِهِ فِي أَقْبَحِ مَظَاهِرِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَ الْحَقِّ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَا أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ إِخْوَانِهِمْ فِي شَأْنِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ - تَعَالَى - فِعْلَ هَذَا الْإِرْكَاسِ إِلَيْهِ وَقَرَنَهُ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ كَسْبُ أُولَئِكَ الْمُرْكَسِينَ لِلسَّيِّئَاتِ وَالدَّنَايَا مِنْ قَبْلُ حَتَّى فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَتُهُمْ فَأَوْغَلُوا فِي الضَّلَالِ وَبَعُدُوا عَنِ الْحَقِّ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِمْ وَلَا يَجُولُ فِي أَذْهَانِهِمْ إِلَّا الثَّبَاتُ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ وَمُقَاوَمَةُ مَا عَدَاهُ، مُقَاوَمَةً ظَاهِرَةً عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَخَفِيَّةً عِنْدَ الْعَجْزِ، هَذَا هُوَ أَثَرُ كَسْبِهِمْ لِلسَّيِّئَاتِ فِي نُفُوسِهِمْ وَهُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَا كَانَ سَبَبًا إِلَّا بِسُنَّتِهِ فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي نُفُوسِ
الْعَامِلِينَ، أَوْ مَعْنَى أَرْكَسَهُمْ أَظْهَرَ رَكْسَهُمْ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكُمْ أَنْ تُغَيِّرُوا سُنَنَ اللهِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، فَتَنَالُوا مِنْهَا ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ مَا انْطَبَعَ فِيهَا مَنْ تَقْضِي سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ بِأَنْ يَكُونَ ضَالًّا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، يَصِلُ بِسُلُوكِهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ لِلْحَقِّ سَبِيلًا وَاحِدَةً وَهِيَ صِرَاطُ الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمُ، وَلِلْبَاطِلِ سُبُلًا كَثِيرَةً عَنْ يَمِينِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَشِمَالِهَا، كُلُّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلًا مِنْهَا بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِقِدْرِ إِيغَالِهِ فِي السَّبِيلِ الَّتِي سَلَكَهَا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (6: 153) ، وَلَمَّا تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ وَضَحَّ مَعْنَاهَا بِالْخُطُوطِ الْحِسِّيَّةِ فَخَطَّ فِي الْأَرْضِ خَطًّا جَعَلَهُ مِثَالًا لِسَبِيلِ اللهِ، وَخَطَّ عَلَى جَانِبَيْهِ خُطُوطًا لِسُبُلِ الشَّيْطَانِ، وَمِنَ الْمَحْسُوسِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْتِيبِ الْأَقْيِسَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ أَنَّ غَايَةَ أَيُّ خَطٍّ مِنْ تِلْكَ الْخُطُوطِ لَا تَلْتَقِي بِغَايَةِ الْخَطِّ الْأَوَّلِ.
قُلْتُ: إِنَّ سَبِيلَ الْحَقِّ هِيَ صِرَاطُ الْفِطْرَةِ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْإِنْسَانُ عَقْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَيَتَّبِعُ فِيهِ مَا يَظْهَرُ لَهُ بَعْدَ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ خَيْرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ الْعَاجِلَةُ وَالْآجِلَةُ وَكَمَالُهُ الْإِنْسَانِيُّ، عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَبْحَثَ الْإِنْسَانُ دَائِمًا وَيَطْلُبَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ شَيْءٌ كَالتَّقْلِيدِ وَالْغُرُورِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ وَأَنْفَعُ وَأَكْمَلُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَيَكُونُونَ أَتْبَاعَ كُلِّ نَاعِقٍ، وَيَسْلُكُونَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ السُّبُلِ وَإِنِ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمُ الِانْتِسَابَ إِلَى زَعِيمٍ وَاحِدٍ، وَشُبْهَتُهُمْ
عَلَى تَرْكِ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ أَنَّ عُقُولَهُمْ قَاصِرَةٌ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَنْ بَلَّغَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْدَرَ مِنْهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَبَيَانِهِ، وَالْحَقُّ الْوَاقِعُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الزُّعَمَاءُ وَلَا شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عِلْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ
مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الثِّقَةِ بِزُعَمَاءِ عَصْرِهِمْ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ وَزُعَمَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَمَنْ قَطَعَ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَ النَّظَرِ، وَكَفَرَ نِعْمَةَ الْعَقْلِ، لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، فَإِنَّ " سَبِيلًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ سَبِيلَ اللهِ وَهِيَ اتِّبَاعُ الْفِطْرَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا طُولَ حَيَاتِهِ إِذْ لَا تَجِدُ لَهُ سَبِيلًا أُخْرَى يَسْلُكُهَا فَيَهْتَدِيَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ.
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً، أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَرْجُونَ نَصْرَهُمْ لَكُمْ وَتَطْمَعُونَ فِي هِدَايَتِهِمْ لَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ الْقَانِعِينَ بِكُفْرِهِمْ، الْغَافِلِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَكْفُرُونَ كَكُفْرِهِمْ وَتَكُونُونَ مِثْلَهُمْ سَوَاءً، وَيُقْضَى عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَزُولُ مِنَ الْأَرْضِ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَنْصَارًا لِيَنْصُرُوكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَيَتَّحِدُوا بِكُمْ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ لَا يَدَعُ النَّبِيَّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عُرْضَةً لِلْخَطَرِ وَلَا يُهَاجِرُ إِلَيْهِمْ لِيَنْصُرَهُمْ إِلَّا لِلْعَجْزِ، فَتَرْكُ الْهِجْرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى نِفَاقِ أُولَئِكَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمْ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُقَدِّرُ هُنَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيُهَاجِرُوا، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ لُزُومًا بَيِّنًا مُطَّرِدًا ; فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى بِذِكْرِهَا عَنْ ذِكْرِهِ إِيجَازًا، وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْمُهَاجَرَةَ هُنَا مِنْ بَابِ حَدِيثِ: وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ وَهُوَ بَعِيدٌ جَدًا، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُهَاجِرَ الْكَامِلَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَيَرُدُّ مَا قَالُوهُ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَوَلَّوْا، أَيْ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْجُرُونَ مَا نَهَى الله عَنْهُ يُقْتَلُونَ حَيْثُ وُجِدُوا، وَمَا سَمِعْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ أَحَدًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِيمَانِ بِذَنْبِهِ، بَلْ كَانَ يَهِمُّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِقَتْلِ الْمُنَافِقِ فَيَمْنَعُهُ وَإِنْ ظَهَرَ الْمُقْتَضَى لِئَلَّا يُقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّعْلِيلُ فِي أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ يَنْصُرُونَ الْمُشْرِكِينَ
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فِي الْوَلَاءِ فَالْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ أَظْهَرُ، فَقَدْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ فَيَفِي لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَغْدُرُونَ، وَيَسْتَقِيمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِمْ وَهُمْ يَنْكُثُونَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِمُعَامَلَتِهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا بَعْدَ تَكْرَارِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَفَاءَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (13: 20) ، وَأَكَّدَ حِفْظَ مِيثَاقِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ حَرَّمَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (8: 72) ، وَقَدْ بَيَّنَ أَحْكَامَهُمْ وَأَحْكَامَ أَمْثَالِهِمْ مُفَصَّلَةً هُنَا وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي عِلَّةِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، وَهِيَ غَدْرُهُمْ وَتَصَدِّيهِمْ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْعِلَّةَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورَةِ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ; وَلِذَلِكَ عَقَّبَ نَهْيَهُ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ أَوْ نَصِيرٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إِلَخْ، ذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، قَالَ - كَمَا نَقَلَ عَنْهُ - الرَّازِيُّ: لَمَّا أَوْجَبَ اللهُ الْهِجْرَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ اسْتَثْنَى مَنْ لَهُ عُذْرٌ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَصَدُوا الرَّسُولَ لِلْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يَخَافُونَهُ، فَصَارُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ لِإِمْكَانِ الْهِجْرَةِ وَاسْتَثْنَى أَيْضًا مَنْ صَارُوا إِلَى الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا فِيهِمْ أَوْلَادَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ ; فَيَخَافُونَ أَنْ يَفْتِكُوا بِهِمْ إِذَا هُمْ قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَبْعَدَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي هَذَا إِذْ لَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِنَفْيِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّبِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَا لِامْتِنَانِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّطْهُمْ عَلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - هُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ حَرْبًا لِلْمُؤْمِنِينَ يَقْتُلُونَ كُلَّ مُسْلِمٍ ظَفِرُوا بِهِ إِذَا لَمْ يَمْنَعُهُ أَحَدٌ، فَشَرَعَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُعَامَلَتَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الْأُسْتَاذِ فِي نِفَاقِهِمْ.
وَنَقُولُ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِي دَارِ الشِّرْكِ لَا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ نِفَاقُهُمْ بِدَعْوَى الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْوَلَاءِ وَالْعَهْدِ، وَقَدْ أَرْكَسَهُمُ اللهُ وَأَظْهَرَ نِفَاقَهُمْ
وَشَدَّةَ حِرْصِهِمْ عَلَى ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِينَ كَفَّارًا مَثْلَهُمْ، وَأَذِنَ بِقَتْلِهِمْ أَيْنَمَا وُجِدُوا ; لِأَنَّهُمْ يَغْدُرُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِهِمْ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِلُوا وَيَنْتَهُوا إِلَى قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَدْخُلُوا فِي عَهْدِهِمْ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِهِمْ، فَيُمْتَنَعُ قِتَالُهُمْ مِثْلُهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَجِيئُوا الْمُسْلِمِينَ مُسَالِمِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ مَعَهُمْ، بَلْ يَكُونُونَ عَلَى الْحِيَادِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ، أَيْ: جَاءُوكُمْ قَدْ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَعَنْ قِتَالِ قَوْمِهِمْ فَلَا تَنْشَرِحُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا ظُهُورًا بَيِّنًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: إِنَّ نِفَاقَهُمْ كَانَ بِالْوَلَاءِ، فَهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ حِفْظًا لِلْعَهْدِ، وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَوْمُهُمْ، وَقَبُولُ عُذْرِ الْفَرِيقَيْنِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (2: 190) ، فَيَا لِلَّهِ مَا أَعْدَلَ الْقُرْآنَ وَمَا أَكْرَمَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَفُّ عَنْ هَؤُلَاءِ مِمَّا قَدْ يَثْقُلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَمْرِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُحَالِفِينَ وَتَكْلِيفِهِمْ قِتَالَ كُلِّ أَحَدٍ يُقَاتِلُ مُحَالِفِيهِمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَقْرَبِينَ، قَالَ تَعَالَى مُخَفِّفًا ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمُؤَكِّدًا أَمْرَ مَنْعِ قِتَالِ الْمُسَالِمِينَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِكُمْ أَنْ كَفَّ عَنْكُمْ بَأْسَ هَاتَيْنِ الْفِئَتَيْنِ وَصَرَفَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ لَسَلَّطَهُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَيُلْهِمَهُمْ مِنَ الْآرَاءِ مَا يُرَجِّحُونَ بِهِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بِتَوْفِيقِهِ وَنِظَامِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَسُنَنِهِ فِي الْأَفْرَادِ وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، جَعَلَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً:
1 -
السَّلِيمُو الْفِطْرَةِ الْأَقْوِيَاءُ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ.
2 -
الْمُتَوَسِّطُونَ، هُمُ الَّذِينَ رَجَّحُوا مُسَالَمَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِمْ.
3 -
الْمُوغِلُونَ فِي الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ وَالرَّاسِخُونَ فِي التَّقْلِيدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ.
وَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ الْمُسَالِمِينَ بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِهِ وَسُنَنِهِ فَلَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا،
أَيْ: فَإِنِ اعْتَزَلَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَمُتُّونَ إِلَيْكُمْ بِإِحْدَى تَيْنِكَ الطَّرِيقَتَيْنِ فَلَمْ يُقَاتِلُونَكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ: أَعْطُوكُمْ زِمَامَ أَمْرِهِمْ فِي الْمُسَالَمَةِ، بِحَيْثُ وَثِقْتُمْ بِهَا وُثُوقَ الْمَرْءِ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ طَرِيقًا تَسْلُكُونَهَا إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَصْلَ شَرْعِهِ الَّذِي هَدَاكُمْ إِلَيْهِ أَلَّا تُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ يُقَاتِلُكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا إِلَّا عَلَى مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مَظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدُّوا أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ لَا يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا مُسَالِمِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَيُجْعَلُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ إِلَخْ، نَعَمْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، وَيُؤَيِّدُ الْحَدِيثَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قِتَالَهُمْ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ ; فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا مَنْ تَرَكُوا الدِّينَ بِالْمَرَّةِ كَطَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَقَاتَلُوا مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ تَمِيمٍ وَهَوَازِنَ ; لِأَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا صَارُوا إِلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ حَرْبًا لِكُلِّ أَحَدٍ لَمْ يُعَاهِدُوهُ عَلَى تَرْكِ
الْحَرْبِ، وَالَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ كَانُوا مُفَرِّقِينَ لِجَمَاعَةِ الْإِسْلَامِ نَاثِرِينَ لِنِظَامِهِمْ، وَالرَّجُلُ الْوَاحِدُ إِذَا مَنَعَ الزَّكَاةَ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا الْعُرَنِيُّونَ، فَفِيهِ أَنَّ قَتْلَ الْعُرَنِيِّينَ كَانَ لِمُخَادَعَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ رَاعِيَ الْإِبِلِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَمْثِيلُهُمْ بِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاهٍ جِدًّا لِأَنَّ الْعُرَنِيِّينَ لَا يَأْتِي فِيهِمُ التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي الْآيَاتِ، وَلَكِنْ مَنْ هُمْ هَؤُلَاءِ؟
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: " لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي مِنْ بَنِي مُدْلَجٍ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا: مَهْ، فَقَالَ: دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُوادِعَهُمُ فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِمُوا لَمْ تَخْشَ بِقُلُوبِ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ خَالِدٍ فَقَالَ: " اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ " فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَلَّا يُعِينُوا
عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّاسِ كَانَ لَهُمْ مِثْلَ عَهْدِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: وَدُّوا حَتَّى بَلَغَ، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ، فَكَأَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا مَعَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ، وَعَزَا الْأَلُوسِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إِلَى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِهِ، وَعَزَا السُّيُوطِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي اللُّبَابِ إِلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَقَصَدَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ وَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ وَقْتَ خُرُوجِهِ إِلَى مَكَّةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى أَلَّا يَعْصِيَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هِلَالٍ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَرُدُّ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى صَحِيحَةُ السَّنَدِ وَضَعِيفَتُهُ، وَتُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي كَوْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُمُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْعَهْدِ وَالْوَلَاءِ.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَصَدُّوا إِلَى مُجَالَدَةِ أَهْلِهِ بِحَدِّ الْحُسَامِ، فَكَانُوا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ،
لَا يَهُمُّهُمْ إِلَّا سَلَامَةُ أَبْدَانِهِمْ، وَالْأَمْنُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَحَارِبَيْنِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مَعَهُمْ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ نَاسٌ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسْلِمُونَ رِيَاءً فَيَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيَصْلُحُوا اهـ.
وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُرْكِسُوا فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يُوجَدُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُقَرَّبُ إِلَى الْعُودِ وَالْحَجَرِ وَإِلَى الْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ لَهُ:" قُلْ هَذَا رَبِّي " لِلْخُنْفُسَاءِ وَالْعَقْرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ حَيٌّ كَانُوا بِتِهَامَةَ، قَالُوا: " يَا نَبِيَّ اللهِ، لَا نُقَاتِلُكَ وَلَا نُقَاتِلُ
قَوْمَنَا "، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا نَبِيَّ اللهِ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فَأَبَى اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، يَقُولُ: كَمَا عَرَضَ لَهُمْ بَلَاءٌ هَلَكُوا فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ وَكَانَ يَأْمَنُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، يَنْقُلُ الْحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ.
وَنَزِيدُ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوا جَانِبَ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِالْعَهْدِ عَلَى السِّلْمِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَفْتِنُهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ: يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْإِرْكَاسُ فَيَرْتَكِسُونَ أَيْ: فَيَتَحَوَّلُونَ شَرَّ التَّحَوُّلِ مَعَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ النِّفَاقِ وَالِارْتِكَاسِ مَرَّةً بَعْدَ الْمَرَّةِ، أَيْ فَهُمْ قَدْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بِتَرْكِكُمْ وَشَأْنِكُمْ وَالْتِزَامِهِمُ الْحِيَادَ، وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ زِمَامَ الْمُسَالِمَةِ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَثِقُونَ بِهَا حَتَّى كَأَنَّ زِمَامَهَا فِي أَيْدِيكُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالصُّلْحِ، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَنِ الدَّسَائِسِ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ بِهِ غَدْرُهُمْ وَشَرُّهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، إِذْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُولَئِكُمْ جَعَلَنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: جَعَلَنَا لَكُمْ حُجَّةً وَاضِحَةً وَبُرْهَانًا ظَاهِرًا عَلَى قِتَالِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ الْحُجَّةُ، وَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيمَنِ اعْتَزَلُوا وَأَلْقَوْا السَّلَمَ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، وَكُلٌّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ تُؤَيَّدُ بِالْأُخْرَى فِي بَيَانِ كَوْنِ الْقِتَالِ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فِي كُلِّ حَالٍ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَنَا وَطَلَبُوا الصُّلْحَ مِنَّا وَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ قِتَالِنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ وَلَا قَتْلُهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ (60: 8)، وَقَوْلُهُ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (2: 190) ، فَخَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ بِمَنْ يُقَاتِلُنَا دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِمُقَابِلِ الْأَكْثَرِينَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِي الْآيَاتِ نَسْخًا، وَلَا يَظْهَرُ النَّسْخُ فِيهَا إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، فَمَا وَجْهُ الْحِرْصِ عَلَى هَذَا التَّكَلُّفِ؟ وَيَأْتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ أَنَّ " الْفَاءَ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَكُونُونَ سَوَاءً لِلْعَطْفِ لَا لِلْجَوَابِ، كَقَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (68: 9)، وَقَوْلُهُ: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ وَالتَّقْدِيرُ أَوِ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَقُرِئَ فِي الشُّذُوذِ " حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ " وَعِنْدِي أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَةِ بِالْحَالِ لَا قِرَاءَةً.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ " إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ " بِصِلَةِ النَّسَبِ وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يَتَّصِلُ نَسَبُهُمْ بِنَسَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْتَنِعْ قِتَالُهُمْ، بَلْ كَانَ أَشَدُّ الْقِتَالِ مِنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ قِتَالُ مَنِ اتَّصَلَ بِالْمُعَاهِدِينَ بِالنَّسَبِ؟ وَيُرِيدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَغْلَقَهُ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ سَرَى سُمُّهُ حَتَّى إِلَى بَعْضِ مَنْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ فَجَعَلَهُ بُشْرَى لِمَنْ لَا بِشَارَةَ لَهُمْ فِيهِ.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - أَحْكَامَ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ مُخَادَعَةً وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعِينُونَ أَهْلَهُ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ يُعَاهِدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السِّلْمِ وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ وَالنَّصْرِ، ثُمَّ يَغْدُرُونَ وَيَكُونُونَ عَوْنًا لِأَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ قَتْلِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُعَاهِدٍ وَذِمِّيٍّ وَمَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّفْيِ نَفْيٌ لِلشَّأْنِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا مِنْ خُلُقِهِ وَعَمِلِهِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ - وَهُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْحَاكِمُ عَلَى إِرَادَتِهِ الْمُصَرِّفَةُ لِعَمَلِهِ - هُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ أَنْ يَجْتَرِحَهُ عَمْدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ خَطَأً فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا خَطَأً، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مَعْنَاهُ مَا ثَبَتَ وَلَا وُجِدَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا خَطَأً، وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، بِأَنْ ظَنَّهُ كَافِرًا مُحَارِبًا، وَالْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ - غَيْرُ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ - مَنْ إِذَا لَمْ تَقْتُلْهُ قَتَلَكَ إِذَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِكَ، أَوْ أَرَادَ رَمْيَ صَيْدٍ أَوْ غَرَضٍ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنَ، أَوْ ضَرَبَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ عَادَةً كَالصَّفْعِ بِالْيَدِ أَوِ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فَمَاتَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ قَتْلَهُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ: فَعَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ عَلَى عَدَمِ تَثَبُّتِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ عِتْقُ رَقَبَةِ نَسْمَةٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الرِّقِّ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْدَمَ نَفْسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ كَفَّارَتُهُ أَنْ يُوجِدَ نَفْسًا، وَالْعِتْقُ كَالْإِيجَادِ، كَمَا أَنَّ الرِّقَّ كَالْعَدَمِ، عُبِّرَ بِالرَّقَبَةِ عَنِ الذَّاتِ لِأَنَّ الرَّقِيقَ يَحْنِي رَقَبَتَهُ دَائِمًا لِمَوْلَاهُ، كُلَّمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ، أَوْ يَكُونُ مُسَخَّرًا لَهُ كَالثَّوْرِ الَّذِي يُوضَعُ النِّيرُ عَلَى رَقَبَتِهِ لِأَجْلِ الْحَرْثِ، وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَشَلِّ وَلَا الْمُقْعَدِ ; لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ مُسَخَّرَيْنِ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ الشَّدِيدَ فِي الْخِدْمَةِ الَّذِي يُحِبُّ الشَّارِعُ إِبْطَالَهُ وَتَكْرِيمَ الْبَشَرِ بِتَرْكِهِ، وَمَثْلَهُمَا الْأَعْمَى وَالْمَجْنُونُ الَّذِي
قَلَّمَا يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ وَقَلَّمَا يَشْعُرُ بِذُلِّ الرِّقِّ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَعْرَجِ الشَّدِيدِ الْعَرَجِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ كَالْأَعْوَرِ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَالْحُرُّ الْعَتِيقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَرِيمُ الطِّبَاعِ، وَيَقُولُونَ: الْكَرَمُ فِي الْأَحْرَارِ وَاللُّؤْمُ فِي الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ لُؤَمَاءَ لِأَنَّهُمْ يُسَاسُونَ بِالظُّلْمِ، وَيُسَامُونَ الذُّلَّ، وَالتَّحْرِيرُ جَعْلُ الْعَبْدِ حُرًّا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الْمُؤْمِنَةِ هُنَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَفُقَهَائِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي صَلَّتْ وَعَقَلَتِ الْإِيمَانَ، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي الْكَافِرِ الَّذِي يُسْلِمُ دُونَ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ الْمُنَاسِبُ لِزَمَنِهِمُ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْأَرِقَّاءُ النَّاشِئُونَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ
مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ يُعَذِّبُ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَارِثُ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ عِيَاشٌ بِالْحَرَّةِ فَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَقَرَأَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ لَهُ:" قُمْ فَحَرِّرْ " رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ قَتَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي سَرِيَّةٍ حَمَلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَضَرَبَهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ وَعَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ مَعَ عِتْقِ الرَّقَبَةِ دِيَةٌ يَدْفَعُهَا إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ، فَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللهِ، وَالدِّيَةُ مَا يُعْطَى إِلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عِوَضًا عَنْ دَمِهِ أَوْ عَنْ حَقِّهِمْ فِيهِ، وَهِيَ مَصْدَرُ وَدَى الْقَتِيلَ يَدِيَهُ وَدْيًا وَدِيَةً - كَعِدَةٍ وَزِنَةٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَزْنِ - وَيُعَرِّفُهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا الْمَالُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا، وَقَدْ أَطْلَقَ الْكِتَابُ الدِّيَةَ وَذَكَرَهَا نَكِرَةً فَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنْهَا مَا يُرْضِي أَهْلَ الْمَقْتُولِ وَهُمْ وَرَثَتُهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ ذَلِكَ وَحَدَّدَتْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا مَقْبُولًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الذَّكَرِ الْمَعْصُومِ - أَيِ الْمَعْصُومِ دَمُهُ بِعَدَمِ مَا يُوجِبُ إِهْدَارَهُ - مِائَةُ بَعِيرٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي السِّنِّ وَتَفْصِيلُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ
الْعُدُولُ عَنِ الْإِبِلِ إِلَى قِيمَتِهَا، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْوَاعِهَا فِي السِّنِّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الدَّافِعِ وَالْمُسْتَحِقِّ، وَإِذَا فُقِدَتْ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ - وَمَثْلُهَا الْخُنْثَى - نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَفُوتُ أَهْلَ الرَّجُلِ بِفَقْدِهِ أَكْبَرُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَفُوتُ بِفَقْدِ الْأُنْثَى فَقُدِّرَتْ بِحَسَبِ الْإِرْثِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: " أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ - إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قَوَدِ الْأَعْضَاءِ - وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِهَا الَّتِي هِيَ رَأْسُ مَالِهِمْ، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ الدِّيَةَ مِنَ الذَّهَبِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالنَّقْدِ كَأَهْلِ الْمُدُنِ تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا قِيمَةَ لِلْإِبِلِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِبَحْثِ الدِّيَةِ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ، وَالْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَمَوْصُولًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، وَاخْتَلَفَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، وَالِاعْتِبَاطُ: الْقَتْلُ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، مَنِ اعْتَبَطَ النَّاقَةَ إِذَا ذَبَحَهَا لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَالْقَوَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - الْقِصَاصُ ; أَيْ: يُقْتَلُ بِهِ إِلَّا إِذَا عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، مَعْنَاهُ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ لِأَهْلِ الْمَقْتُولِ، أَلَّا أَنْ يَعْفُوا عَنْهَا وَيُسْقِطُوهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فَلَا تَجِبُ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا فُرِضَتْ لَهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَتَعْوِيضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ وَإِرْضَاءً لِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْقَاتِلِ حَتَّى لَا تَقَعَ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا طَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِالْعَفْوِ عَنْهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَانْتَفَى الْمَحْذُورُ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ أَصْحَابَ فَضْلٍ، وَيَرَى الْقَاتِلُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ لَا يَثْقُلُ عَلَى النَّفْسِ حَمْلُهُ، كَمَا يَثْقُلُ عَلَيْهَا حَمْلُ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّصَدُّقِ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٌّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، أَيْ فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَعْدَائِكُمْ
وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ مُؤْمِنٌ كَالْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَعْدَاءٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ يُحَارِبُونَهُمْ، وَقَدْ آمَنَ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْلِمُونَ بِإِيمَانِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ عَيَّاشٌ فِي حَالِ خُرُوجِهِ مُهَاجِرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَمَثْلُهُ كُلُّ مَنْ آمَنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْلِمُونَ بِإِيمَانِهِ إِذَا قُتِلَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَقَطْ، وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُحَارِبُونَ، فَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ دِيَتَهُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ الْكِتَابُ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهُمُ الْمُعَاهِدُونَ لَكُمْ عَلَى السِّلْمِ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تُقَاتِلُونَهُمْ، كَمَا عَلَيْهِ الدُّوَلُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، كُلُّهُمْ مُعَاهِدُونَ قَدْ أَعْطَى كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِينَ مِيثَاقًا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَحُقُوقِ الدُّوَلِ وَمَثْلُهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِعُمُومِ الْمِيثَاقِ أَوْ بِقِيَاسِ الْأُولَى فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ فَالْوَاجِبُ فِي قَتْلِ الْمُعَاهِدِ وَالذِّمِّيِّ هُوَ كَالْوَاجِبِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ: دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ تَكُونُ عِوَضًا فِي حَقِّهِمْ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كَفَّارَةٌ عَنْ حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي حَرَّمَ قَتْلَ الذِّمِّيِّينَ وَالْمُعَاهِدِينَ، كَمَا حَرَّمَ قَتْلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ نَكَّرَ الدِّيَةَ هُنَا كَمَا نَكَّرَهَا هُنَاكَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ كُلَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّرَاضِي، وَأَنَّ لِلْعُرْفِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا ذُكِرَ فِي عَقْدِ الْمِيثَاقِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ تَكُونُ دِيَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ أَجْدَرُ بِالتَّرَاضِي وَأَقْطَعُ لِعِرْقِ النِّزَاعِ، وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ قَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ الدِّيَةِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ، وَعَكَسَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ حَقَّ اللهِ - تَعَالَى - فِي مُعَامَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ مُقَدَّمٌ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى هُنَالِكَ فِي أَمْرِ الدِّيَةِ فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْعَفْوَ وَالسَّمَاحَ، وَاللهُ يُرَغِّبُهُمْ فِيمَا يَلِيقُ بِكَرَامَتِهِمْ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ هُنَا ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعَاهِدِينَ الْمُشَاحَّةَ وَالتَّشْدِيدَ فِي حُقُوقِهِمْ، وَلَيْسُوا مُذْعِنِينَ لِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ فَيُرَغِّبُهُمْ كِتَابُهُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَثَمَّ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ
فِي سَمَاحِ الْمُعَاهِدِ لِلْمُؤْمِنِ بِالدِّيَةِ مِنَّةً عَلَيْهِ، وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ الَّذِي وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِزَّةِ لَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابُ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ نَظْمِ الْكَلَامِ
وَتَأْلِيفِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَعْطُوفَ الَّذِي لَهُ مُتَعَلِّقٌ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، وَمَا مُتَعَلِّقَاتُهُ أَكْثَرُ عَلَى مَا مُتَعَلِّقَاتُهُ أَقَلُّ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِتَأْخِيرِ ذِكْرِ الدِّيَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ إِذْ تَعَلَّقَ بِهَا الْوَصْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هُنَا فِي الدِّيَةِ " مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ "، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُوَصِّلَ الْهَدِيَّةَ إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ أَلْبَتَّةَ وَهُمْ فِي غَيْرِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ ; إِذْ رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا لِطَلَبِهِ وَأَخْذِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ أَنْ تُعْطَى إِلَى رُؤَسَاءِ قَوْمِ الْمَقْتُولِ وَحُكَّامِهِمُ الَّذِينَ يَتَوَلُّونَ عَقْدَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، أَوْ إِلَى مَنْ يُنِيبُونَهُ عَنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَوَسَّعَ اللهُ فِي ذَلِكَ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ وَالْقُيُودِ وَنُكَتِهَا وَلَمْ أَرَ مِنْ بَيْنِهَا.
هَذَا هُوَ الَّذِي تُعْطِيهِ الْآيَةُ فِي دِيَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ - إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا - وَنَاهِيكَ بِهِ عَدْلًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ وَعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِيهِ، فَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي لَفْظٍ:" قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ "، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الدِّيَةُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِبِلُ تُعْقَلُ فِي فِنَاءِ دَارِ أَهْلِ الْمَقْتُولِ، وَلَفْظُ الْكَافِرِ فِي الْحَدِيثِ عَامٌ يَشْمَلُ الْكِتَابِيَّ وَغَيْرَهُ، وَرِوَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لَا تَصْلُحُ لِتَخْصِيصِهِ وَلَا لِتَقْيِيدِهِ فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ.
قَالَ: وَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ، قَالَ: فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ - الْفِضَّةِ - اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا - أَيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ - وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرَةِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ
الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، قَالَ: وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ:" كَانَ عُمَرُ يَجْعَلُ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَالْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ "، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَالْمُرَادُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْأَرْبَعَةُ الْآلَافٍ هِيَ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَثُلْثُهَا بِحَسَبِ تَعْدِيلِ عُمَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثُلْثَا عَشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَاحْتَجُّوا
بِأَثَرِ عُمَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُعَارِضٌ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا وَجَدْنَا لَهُ مَخْرَجًا إِلَّا فَهْمَ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ حَتْمًا، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الدِّيَةِ اجْتِهَادِيٌّ وَمَدَارَهُ عَلَى التَّرَاضِي كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ ظَاهِرِ عِبَارَة الْآيَة.
وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ دِيَتَهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ إِنْ قُتِلَ عَمْدًا، وَإِلَّا فَنَصْفُ دِيَّتِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمُسَاوَاةِ بِظَاهِرِ إِطْلَاقِ الْآيَةِ فِي أَهْلِ الْمِيثَاقِ، وَهُمُ الْمُعَاهِدُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَنُوزِعُوا فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ، وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ غَرِيبٌ:" إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلُهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمَرِيُّ، وَكَانَ لَهُمَا عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشْعُرْ بِهِ عَمْرٌو - بِدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ "، وَثَمَّ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَفِيِ زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ أَعْطَى أَهْلَ الْمَقْتُولِ النِّصْفَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالنِّصْفِ وَأَلْغَى مَا كَانَ جَعَلَ مُعَاوِيَةُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو سَعِيدٍ الْبَقَّالُ وَهُوَ سَعِيدٌ الْمَرْزُبَانُ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ وَمَرَاسِيلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا ; لِأَنَّهُ - لِسِعَةِ حِفْظِهِ - لَا يُرْسِلُ إِلَّا لِعِلَّةٍ، عَلَى أَنَّ هَذَا فِي الْمُعَاهِدِ، وَحَقُّ الذِّمِّيِّ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُعَاهِدِ لِخُضُوعِهِ لِأَحْكَامِنَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةَ وَالْعَمَلِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ أَمْرَ الدِّيَةِ مَنُوطٌ بِالْعُرْفِ وَبِالتَّرَاضِي، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي الْعَمَلِ كَانَ لِأَجْلِ هَذَا.
هَذَا، وَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَكِنْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ هُمُ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الدِّيَةَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ إِبِلًا أَوْ نَقْدًا، وَهُمْ عُصْبَتُهُ وَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ - وَتُسَمَّى الْعَاقِلَةُ - الْآنَ - الْعَائِلَةَ بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْعَامَّةِ - وَإِنَّمَا جَعَلَتِ السُّنَّةُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا عَلَى الْقَاتِلِ ; لِأَنَّ الْخَطَأَ قَدْ يَتَكَرَّرُ فَيَذْهَبُ بِمَالِ الرَّجُلِ كُلِّهِ وَلِأَجْلِ تَقْرِيرِ التَّضَامُنِ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ، وَإِذَا عَجَزَتِ الْعَاقِلَةُ مِنْ عُصْبَةِ النَّسَبِ ثُمَّ السَّبَبِ عَنْ دَفْعِهَا جُعِلَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، الرَّقَبَةَ الَّتِي يَعْتِقُهَا كَأَنِ انْقَطَعَ الرَّقِيقُ كَمَا هُوَ مَقْصِدُ الْإِسْلَامِ، - وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشْعِرُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ - أَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَالَ الَّذِي يَشْتَرِيهَا بِهِ مِنْ مَالِكِهَا لِيُحَرِّرَهَا مِنْ رِقِّهِ - وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَيْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ قَمَرِيَّيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِهِمَا إِفْطَارٌ فِي النَّهَارِ، فَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ اسْتَأْنَفَ وَكَانَ مَا صَامَهُ قَبْلَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ إِطْعَامُ مِسْكِينًا كَمَا فَرَضَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقِيسُ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ
عَلَى تِلْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقِيسُ كَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ هَذَا فُرِضَ قَبْلَ ذَاكَ، فَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ مِمَّنْ نَزَلَ فِي عَهْدِهِمْ أَنَّ لِلصِّيَامِ بَدَلًا عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ وَهُوَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ.
تَوْبَةً مِنَ اللهِ، أَيْ شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مَا ذَكَرَ تَوْبَةً مِنْهُ عَلَيْكُمْ فَهُوَ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِتَتُوبُوا وَتَطْهُرَ نُفُوسُكُمْ مِنَ التَّهَاوُنِ وَقِلَّةِ التَّحَرِّي الَّتِي تَفْضِي إِلَى قَتْلِ الْخَطَأِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَيْ: عَلِيمًا بِأَحْوَالِ نُفُوسِكُمْ وَمَا يُصْلِحُهَا مِنَ التَّأْدِيبِ، حَكِيمًا فِيمَا يَشْرَعُهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَيَهْدِيكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ، فَإِذَا أَطَعْتُمُوهُ فِيهِ صَلُحَتْ نُفُوسُكُمْ وَتَزَكَّتْ وَصَارَتْ أَهْلًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
بَعْدَ هَذَا أَذْكُرُ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِرُوحِ الْهِدَايَةِ
فِيهَا لَا لِأَحْكَامِهَا وَمَدْلُولُ أَلْفَاظِهَا، فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ هَذَا بِشَرْحِ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ فِيهِ قَالَ رحمه الله تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ:
هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ وَرَدَ مَا وَرَدَ فِي الْمُذَبْذَبِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللهُ بِقَتْلِهِمْ، إِلَّا مَنِ اسْتُثْنَى لِلتَّنَاسُبِ، وَتَتْمِيمِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ، فَذَكَرَ هُنَا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَلَّا يَقْتُلَ مُؤْمِنًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَانِعٌ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِيمَانُهُ وَيَكْمُلُ إِذَا كَانَ يَشْعُرُ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ، وَهِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ وَحُقُوقٌ لِلْعِبَادِ، وَمِنْ حُدُودِ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً لِمَا فِيهِ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الْقَتْلِ، فَالْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ يَشْعُرُ بِهَذَا الْحَقِّ وَهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَخَلَّ بِحُقُوقِ الدِّمَاءِ فَقَدِ اسْتَهْزَأَ بِحَيَاةِ الْأُمَّةِ، وَمَنِ اسْتَهْزَأَ بِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْتَرِمْ أَكْبَرَ حُقُوقِهَا، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَطَرِ فَأَمْرُهُ مَعْلُومٌ، فَإِنَّهُ بِاعْتِدَائِهِ عَلَى مُؤْمِنٍ قَدْ هَدَمَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَحِزْبِهِ، وَذَلِكَ آيَةُ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَقِوَامِهِ، وَالْمُؤْمِنُ غَيُورٌ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (5: 32) .
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْخَطَأِ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ كَأَمْرِ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنَ التَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَمِثْلُ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْأَمْرِ النِّسْيَانُ، وَلَوْلَا أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُعَاقِبَ اللهُ عَلَيْهِمَا لِمَا أَمَرَنَا - تَعَالَى - بِالدُّعَاءِ بِأَلَّا يُؤَاخِذَنَا عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (2: 286) ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ رَفَعَ عَنَّا الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ آدَمَ نَسِيَ وَمَعَ ذَلِكَ سُمِّيَتْ مُخَالَفَتُهُ مَعْصِيَةً وَعُوقِبَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ وَلَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّ عِقَابَ قَتْلِ الْخَطَأِ لَيْسَ هُوَ عِقَابُ قَتْلِ الْعَمْدِ، وَهُوَ " النَّفْسُ بِالنَّفْسِ "، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا نَفْعَلُهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ إِذَا نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فَيُرْجَى أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ دُعَاءَنَا.
أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَرَدَ هَكَذَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ، وَلَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ: وَضَعَ
اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثًا: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْأَمْرُ يُكْرَهُونَ عَلَيْهِ وَقَدْ وَثَّقُوا رُوَاتَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - حُكْمَ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ تَعَمُّدًا بِمَا يُوَافِقُ مَفْهُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ مُؤْمِنٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ كَفَّارَةً بَلْ جَعَلَ عِقَابَهُ أَشَدَّ عِقَابٍ تَوَعَّدَ بِهِ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَمِنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا فَرْعٌ عَنْ كَوْنِ الْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْإِيمَانَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي عِقَابِ الْقَتْلِ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (4: 48) ، نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصَّصَةٌ لَهُ وَقَدْ قُلْنَا مِنْ قَبْلُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَنْ يَشَاءُ، فِيهِ مَعَ تَغْلِيظِ أَمْرِ الشِّرْكِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَلَوْ شَاءَ أَنْ يُخَصِّصَ أَحَدًا بِالْمَغْفِرَةِ فَلَا مَرَدَّ لِمَشِيئَتِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا، فَآيَةُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، نَزَلَتْ تَرْغِيبًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِيمَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (8: 38) ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَقَالُوا: إِنَّ آيَةَ الْفَرْقَانِ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّوْبَةُ فِيهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعِدَّةِ أَعْمَالٍ مِنْهَا الْقَتْلُ وَمِنْهَا الشِّرْكُ، أَقُولُ: وَيَعْنِي بِآيَةِ الْفَرْقَانِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (25: 70) ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ، وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِيهِ.
(قَالَ) : وَقَدْ يُقَالُ: كَيْفَ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الْمُشْرِكِ الْقَاتِلِ الزَّانِي، وَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي ارْتَكَبَ الْقَتْلَ وَحْدَهُ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ - مِنَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ - بِأَنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّرِيعَةِ الَّتِي تُحَرِّمُ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِالْكُفْرِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَلَمْ يَكُنْ ظَهَرَ لَهُ صِدْقُ النُّبُوَّةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ تَابَ وَأَنَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
الصَّالِحَاتِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْعَفْوِ وَإِنْ كَانَ فِي إِجْرَامِهِ السَّابِقِ مُقَصِّرًا فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُوقِنُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَتَحْرِيمِ اللهِ لِلْقَتْلِ
وَجَعْلِهِ قَاتِلَ النَّفْسِ الْبَرِيئَةِ كَقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا فَلَا عُذْرَ لَهُ، بَلْ لَا يَعْقِلُ أَنْ يُرَجِّحَ هَوَاهُ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الشَّكِّ الِاضْطِرَارِيِّ مَا يَكُونُ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ الْقَاتِلِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يُؤَمِنْ لَمْ يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَّا لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ يُعَاقَبُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ وَتَصْحِيحِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يَخْلُدَ فِي النَّارِ، وَإِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَآمَنَ وَاهْتَدَى يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلًا مُرَتَّبًا عَلَى الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ نَفْسُهُ كَانَ خَطَأً مِنْهُ فَأَشْبَهَ قَتَلَهُ قَتْلَ الْخَطَأِ، وَمَثْلَهُ مَنْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِهِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ فِيهِ، فَمَعْصِيَتُهُ لَمْ تَكُنْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللهِ عز وجل وَلَا اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ وَلَا دَلِيلًا عَلَى إِيثَارِهِ لِهَوَاهُ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ.
أَمَّا الْقَاتِلُ الْمُؤْمِنُ فَأَمْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِيمَانُ يَقِينٍ وَإِذْعَانٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الدِّمَاءِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَخٌ لَهُ وَنَصِيرٌ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يَعْمَدُ بَعْدَ هَذَا إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأَمْرِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَحَلِّ مَا عَقَدَهُ، وَتَوْهِينِ أَمْرِ دِينِهِ بِهَدْمِ أَرْكَانِ قُوَّتِهِ، وَتَجْرِئَةِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَهِنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَضْعُفُوا وَيَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا؟ لَا جَرَمَ أَنَّ عِقَابَهُ يَكُونُ شَدِيدًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
وَمِنْ نَظَرَ إِلَى انْحِلَالِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَمَا أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى سَفْكِ دَمِ بَعْضٍ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ هَذَا، وَأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُعْذَرُ بِهَذِهِ الْجُرْأَةِ عَلَى هَذِهِ الْجَرِيمَةِ وَهُوَ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي أَمْرِ اللهِ، إِذْ لَا رَائِحَةَ لِلْعُذْرِ فِي عَمَلِهِ بَلْ هُوَ مُرَجِّحٌ لِلْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ وَشَهْوَةِ النَّفْسِ عَلَى أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنْ فَضَّلَ شَهْوَةَ نَفْسِهِ الْخَسِيسَةَ الضَّارَّةَ عَلَى نَظَرِ اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مَا فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (3: 135)، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: يَعْلَمُونَ، وَلَوْ سَمَحَ اللهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ شَهْوَتَهُ أَوْ حَمِيَّتَهُ وَغَضَبَهُ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَوَعَدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ
وَلَا لِلشَّرْعِ حُرْمَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَاتِلَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ عِقَابِهِ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَثِيرَةٌ تُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ.
هَذَا مَا عِنْدَنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مِنْ خَيْرِ مَا يُبَيَّنُ بِهِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُشَدِّدُونَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ:
" هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْإِيعَادِ، وَالْإِبْرَاقِ وَالْإِرْعَادِ، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَخَطْبٌ غَلِيظٌ، وَمِنْ ثَمَّ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ تَوْبَةَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَعَنْ سُفْيَانَ: كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلُوا قَالُوا: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى سُنَّةِ اللهِ
فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَإِلَّا فَكُلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا، وَفِي الْحَدِيثِ لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالْمَشْرِقِ وَآخَرُ رَضِيَ بِالْمَغْرِبِ لَأُشْرِكَ فِي دَمِهِ، وَفِيهِ إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بُنْيَانُ اللهِ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَهُ، وَفِيهِ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرَوْنَ مَا فِيهَا، وَيَسْمَعُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَقَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَنْعِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ لَا تَدْعُهُمْ أَشْعَبِيَّتُهُمْ وَطَمَاعِيَّتُهُمُ الْفَارِغَةُ وَاتِّبَاعُهُمْ هَوَاهُمْ وَمَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ مُنَاهُمْ، أَنْ يَطْمَعُوا فِي الْعَفْوِ عَنْ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (47: 24) ، اهـ.
أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَكْبَرَ الْجُمْهُورُ خُلُودَ الْقَاتِلِ فِي النَّارِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِطُولِ الْمُكْثِ فِيهَا، وَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ التَّأْوِيلِ لِخُلُودِ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ طُولُ الْمُكْثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا جَزَاءَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إِنْ جَازَاهُ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَدْ يَعْفُو عَنْهُ فَلَا يُجَازِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ جَزَاءٍ أَنْ يَقَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَذِبِ الْوَعِيدِ كَالْوَعْدِ، وَأَنَّ الْعَفْوَ وَالتَّجَاوُزَ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَسْبَابٍ يَعْلَمُهَا اللهُ - تَعَالَى -، فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ تَفَصٍّ مِنْ خُلُودِ بَعْضِ الْقَائِلِينَ فِي النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلْأَقَلِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الِاسْتِحْلَالِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ، مُسْتَحِلًّا لَهُ فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا إِلَخْ، وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْقَيْدُ، وَلَوْ أَرَادَهُ اللهُ - تَعَالَى - لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الْعَمْدِ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَا بِالْقَتْلِ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى هَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ وَهَذَا أَضْعَفُ التَّأْوِيلَاتِ، لَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَقَطْ، بَلْ لِأَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَلَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ " مِنَ الشَّرْطَيَّةِ " جَاءَ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَقُلْ: " وَمَنْ قَتَلَ "، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ حَتْمٌ إِلَّا مَنْ تَابَ وَعَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَفْوَ عَنْ هَذَا الْجَزَاءِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِخُلُودِ غَيْرِ التَّائِبِ الْمَقْبُولِ التَّوْبَةِ فِي النَّارِ، وَلَعَلَّ أَظْهَرَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ ; لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْخُلُودِ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ دَوَامًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَوْنُ حَيَاةِ الْآخِرَةِ لَا نِهَايَةَ لَهَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَحْدَهُ بَلْ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى.
إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا لَا تَوْبَةَ لَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ شَيْخِنَا وَعِبَارَةِ الْكَشَّافِ، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ عَنْ
مُجَاهِدٍ وَهُوَ تِلْمِيذُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَتِهِ، مِنْهَا رِوَايَةُ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ فَإِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم " يَقُولُ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا مِنْ قِبَلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَلْزَمُ قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ " وَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللهِ بِيَدِهِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَا نَسَخَهَا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَمَا نَزَلْ بَعْدَهَا مِنْ بُرْهَانٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَمَا جَاءَ نَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ وَلَا نَزَلْ كُتُبٌ بَعْدَ كِتَابِكُمْ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى أَمَرَهُ
أَنْ يَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي النِّسَاءِ وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالَّتِي فِي الْفُرْقَانِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، إِلَى وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (25: 68، 69) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَعَلِمَ شَرَائِعَهُ وَأَمْرَهُ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَلَا تَوْبَةَ لَهُ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللهِ، أَيْ: أَشْرَكْنَا - وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَمَا يَنْفَعُنَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ: إِلَّا مَنْ تَابَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْفَرْقَانِ بِسَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِثَمَانِي سِنِينَ وَهَذِهِ أَقْرَبُ، فَإِنَّ سُورَةَ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ حَتْمًا، وَسُورَةَ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَ أَكْثَرُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَمَا تَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً، وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُشْرِكِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ فَرْقٌ وَاضِحٌ مَعْقُولٌ مَنْ وَجْهٍ وَغَيْرُ مَعْقُولٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى قَاعِدَتِنَا فِي حِكْمَةِ اللهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَهِيَ أَنَّ الْجَزَاءَ تَابِعٌ لِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَوْ تَدْسِيَتِهَا.
نَعَمْ، إِنَّ إِقْدَامَ الْمَرْءِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةَ مَا عَظَّمَ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، وَمَا شَدَّدَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْقَتْلِ، يَكَادُ يَكُونُ رِدَّةً عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَوْلَى بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ
لَا يَزِنِّي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ التَّوْبَةِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - فَإِنَّ الْقَتْلَ أَكْبَرُ إِثْمًا وَأَشَدُّ جُرْمًا مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِفَاعِلِهِ شُبْهَةُ عُذْرٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَحَكَمْنَا بِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ قَدْ صَارَتْ بِالْقَتْلِ شَرَّ النُّفُوسِ وَأَشَدَّهَا رِجْسًا، وَأَبْعَدَهَا عَنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي
الْآيَةِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ صَلَاحَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُتَعَذِّرٌ وَلَا مُتَعَسِّرٌ.
أَمَّا شُبْهَةُ الْعُذْرِ أَوْ شَبَهُهُ فَقَدْ يَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ حَدِيدَ الْمِزَاجِ، إِذَا رَأَى مِنْ خَصْمِهِ مَا يُثِيرُ غَضَبَهُ وَيُنْسِيهِ رَبَّهُ، فَقَدْ يَنْدَفِعُ إِلَى الْقَتْلِ لَا يَمْلِكُ فِيهِ نَفْسَهُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعَمْدِ أَوِ التَّعَمُّدِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَمْدِ لِمَا فِي صِيغَةِ التَّفَعُّلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّرَبُّصِ أَوِ التَّرَوِّي فِي الشَّيْءِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الضَّرْبَ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ لَا يُسَمَّى عَمْدًا بَلْ شِبْهَ عَمْدٍ كَالضَّرْبِ بِالْعَصَا، وَإِنَّمَا الْعَمْدُ مَا كَانَ بِمُحَدَّدٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَوْنِهِ بِقَتْلٍ كَبُنْدُقِ الرَّصَاصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِآلَاتِهِ الْجَدِيدَةِ كَالْبُنْدُقِيَّةِ وَالْمُسَدَّسِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلِقُ الرَّصَاصَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْإِرْهَابِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُصِيبَهُ فَيُصِيبُهُ بِدُونَ قَصْدٍ، وَلَفْظُ التَّعَمُّدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا آنِفًا.
وَأَمَّا كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَصْلُحُ نَفْسُهُ وَتَتَزَكَّى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَوَاقِعٌ وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا وَرَدَ فِي التَّوْبَةِ، وَلَا نَعْرِفُ نَفْسًا غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلصَّلَاحِ، إِلَّا نَفْسَ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَرَانَ عَلَى قَلْبِهِ مَا كَانَ يَكْسِبُ مِنَ الْأَوْزَارِ، بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّكْرَارِ، إِذْ يَأْلَفُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَيَأْنَسُ بِهِ حَتَّى لَا تَتَوَجَّهَ نَفْسُهُ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ بِكَرَاهَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمَقْتِهِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ يَتُوبُ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ.
فَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ جَرِيمَةُ الْقَتْلِ فَأَدْرَكَ عَقِبَهَا أَنَّهُ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَاسْتَحَقَّ لَعْنَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَالطَّرْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَبَاءَ بِغَضَبِهِ، وَتَهَوَّكَ فِي عَذَابِهِ الْعَظِيمِ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ ذَنْبُهُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَنَدِمَ أَشُدَّ النَّدَمِ فَأَنَابَ وَاسْتَغْفَرَ، وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَى هَذَا الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْأَوْزَارِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ، وَوَاظَبَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ الْمَمَاتُ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَهُوَ وَلَا شَكَّ فِي مَحَلِّ الرَّجَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يُخَلِّدَ مِثْلَهُ فِي النَّارِ.
نَعَمْ إِنَّ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ مَنْ يُخَالِفُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَزُعَمَاءَ السِّيَاسَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مِنْ قَوَانِينِ جَمْعِيَّاتِهِمُ اغْتِيَالَ مَنْ يُعَارِضُهُمْ فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَكُبَرَاءَ اللُّصُوصِ
الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَغَيْرَ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِمَالِهِ، كُلَّ أُولَئِكَ الْفُجَّارِ، الَّذِينَ يَقْتُلُونَ
مَعَ التَّعَمُّدِ وَسَبْقِ الْإِصْرَارِ، جَدِيرُونَ بِأَنْ يَنَالُوا الْجَزَاءَ الَّذِي تَوَعَّدَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ وَعَذَابِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ سِوَاهُ عز وجل ; لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُعَدُّونَ فِي كُتُبِ تَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَدَفَاتِرِ الْإِحْصَاءِ وَسِجِلَّاتِ الْحُكُومَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَبِصِدْقِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ مِنْ وَعِيدِهِ عَلَى الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، فَهُمْ لَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِي عَمَلٍ، وَلَا يَخَافُونَ عَذَابَهُ عَلَى ذَنْبٍ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَذْكُرُ التَّوْبَةَ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ، إِلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ عَوَامَّ اللُّصُوصِ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا، وَمِنْهَا: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَكْذِبُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ، الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِّيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ غَدًا؟ وَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ وَمُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَمَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ
عَلَيْنَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمٌ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ
الْمَقْتُولِ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكَ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَاسْمُ الْقَاتِلِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّ اسْمَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ اللِّيثِيُّ، وَأَنَّ قَوْمَ مِرْدَاسٍ لَمَّا انْهَزَمُوا بَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ وَكَانَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ بِجَبَلٍ فَلَمَّا لَحِقُوهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ وَعَبْدٍ كَذَا - وَهُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ - مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مِرْدَاسٍ وَهُوَ شَاهِدٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ جُزْءِ ابْنِ الْحَدْرَجَانِ قَالَ: وَفَدَ أَخِي قَدَادٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَتْهُ سَرِيَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَقَتَلُوهُ فَبَلَغَنِي ذَلِكَ فَخَرَجَتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلْتُ. . . فَأَعْطَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ أَخِي، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
وَحَدِيثُ جُزْءٍ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ ابْنُ جَرِيرٍ بِزِيَادَةِ تَفْصِيلٍ، وَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَهَا بَعْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى أَصْحَابِ كُلِّ وَقْعَةٍ فَيَرَوْنَ أَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا، وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّلَمَ وَيَعْتَزِلُونَ قِتَالَهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ، وَبَعْدَ هَذَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ قَتْلِ الْخَطَأِ كَانَ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ عِنْدَ السَّفَرِ إِلَى أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ قَدِ انْتَشَرَ وَلَمْ يَبْقَ مَكَانٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَقَبَائِلِهِمْ يَخْلُو مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَمِيلُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَتَرَبَّصُونَ الْفُرَصَ لِلِاتِّصَالِ بِأَهْلِهِ لِلدُّخُولِ فِيهِمْ، فَأَعْلَمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَأَمْرَهُمْ أَلَّا يَحْسَبُوا
كُلَّ مَنْ يَجِدُونَهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ كَافِرًا، وَأَنْ يَتَبَيَّنُوا فِيمَنْ تَظْهَرُ مِنْهُمْ عَلَامَاتُ الْإِسْلَامِ كَالشَّهَادَةِ أَوِ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَامَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِئْمَانِ، وَأَلَّا يَحْمِلُوا مِثْلَ هَذَا عَلَى الْمُخَادَعَةِ إِذْ رُبَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ قَدْ طَافَ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ وَأَلَمَّ بِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ فِيهَا، وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ قَتْلِ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ لِشُبْهَةِ التَّقِيَّةِ قَدْ مَضَى عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَادَ بِإِنْزَالِهَا أَنْ يُعَدَّ مَا يَقَعُ مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهَا مِنْ قَتْلِ الْعَمْدِ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالتَّثَبُّتِ وَنَهَى عَنِ إِنْكَارِ إِسْلَامِ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِإِلْقَاءِ تَحِيَّتِهٍ فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقَوِّيَ الشُّبْهَةَ فِي نَفْسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ التَّقِيَّةِ وَهُوَ ابْتِغَاءُ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهَدَى
الْمُؤْمِنَ بِهَذَا إِلَى أَنْ يَتَّهِمَ نَفْسَهُ وَيُفَتِّشَ عَنْ قَلْبِهِ وَلَا يَبْنِيَ الظَّنَّ عَلَى مَيْلِهِ وَهَوَاهُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظَّاهِرِ وَيَقْبَلَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُهُ اهـ.
أَقُولُ: وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَامِ قَدْ يَكُونُ إِلْقَاءً لِلسِّلْمِ وَإِيذَانًا بِعَدَمِ الْحَرْبِ، وَقُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ " السَّلَمَ " كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ نَفْسِهِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ الْقِتَالَ وَيَكُفُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ وَيُلْقُونَ السَّلَمَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْقَتْلِ ; إِذْ لَيْسَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفَّارُ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ، وَمَا كَانَ الْقِتَالُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا دِفَاعًا، حَتَّى فِي الْغَزَوَاتِ الَّتِي صُورَتُهَا صُورَةُ الْمُهَاجِمَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا مُهَاجَمَةُ قَوْمٍ حَرْبٍ يُدْعَوْنَ إِلَى السِّلْمِ فَلَا يُجِيبُونَ، وَمَا رَضُوا بِالسِّلْمِ مَرَّةَ وَأَبَاهَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي ثَقُلَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يَأْبَاهَا وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لَهُ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (8: 61) ، وَقَدْ أَشَارَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى هَذَا فَاشْتَرَطَ فِيمَنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ أَنْ يَكُونَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ عِبَارَتَهُ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهَا نَعْتَمِدُ فِي جُلِّ تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللهَ وَصَدَقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِذَا سِرْتُمْ مَسِيرًا
لِلَّهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ فَتَبَيَّنُوا، يَقُولُ: فَتَأَنُّوا فِي قَتْلِ مَنْ أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ فَلَمْ تَعْلَمُوا حَقِيقَةَ إِسْلَامِهِ وَلَا كُفْرِهِ، وَلَا تُعَجِّلُوا فَتَقْتُلُوا مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى قَتْلِ مَنْ عَلِمْتُمُوهُ يَقِينًا حَرْبًا لَكُمْ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ، يَقُولُ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنِ اسْتَسْلَمَ لَكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ مُظْهِرًا لَكُمْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِكُمْ وَدَعْوَتِكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَتَقْتُلُوهُ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ: طَلَبًا لِمَتَاعِهَا الَّذِي هُوَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَمَا أَذِنَ اللهُ لَكُمْ فِي قِتَالِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ لِتَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي أَطْمَاعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَشْرِ هِدَايَتِهِ فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ، مِنْ رِزْقِهِ وَفَوَاضِلِ نِعَمِهِ، هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ذَكَرْنَاهُ بِلَفْظِهِ إِلَّا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَسْتَ مُؤْمِنًا إِلَخْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ مَا وَالتَّبَيُّنُ طَلَبُ بَيَانِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " فَتَثَبَّتُوا " فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ التَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ التَّأَنِّي وَاجْتِنَابِ الْعَجَلَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ " السَّلَمَ " بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَهُوَ كَالسِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَبِهِ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الْبَاقِينَ " السَّلَامُ " بِالسِّلْمِ وَهُوَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبُهَا بِالْأَرْجُلِ فِي السَّفَرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْتَخْفُونَ بِدِينِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى بِدِينِهِ مِنْ قَوْمِهُ هَذَا الَّذِي أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ فَقَتَلْتُمُوهُ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِكُمْ، أَيْ: فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُخْفِي الْإِسْلَامَ بَيْنَهُمْ إِلَّا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَهُمْ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْفُونَ إِسْلَامَهُمْ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَحَمَلَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ، ثُمَّ كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِذَا أَسْلَمَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ حَتَّى يَتَيَسَّرَ لَهُ الْهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ، بِالْهِجْرَةِ وَالْقُوَّةِ حَتَّى أَظْهَرْتُمُ الْإِسْلَامَ وَنَصَرْتُمُوهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكُمْ كَذَلِكَ كُنْتُمْ كُفَّارًا مِثْلَ مَنْ قَتَلْتُمْ بِتُهْمَةِ الْكُفْرِ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ لِظُهُورِ حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ لَهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَقِيَّةً أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ عِنْدَمَا خَبِرَ الْإِسْلَامَ وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى " مَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ": أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمُوهُ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ الَّتِي كُنْتُمْ مِثْلَهُ فِيهَا فَتَبَيَّنُوا، أَيْ: اطْلُبُوا الْبَيَانَ أَوْ كُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخُذُوا بِالظَّنِّ وَلَا بِالظِّنَّةِ (التُّهْمَةِ) ، أَوْ تَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بَعْدُ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نِيَّتِكُمْ فِيهِ، وَمِنَ الْمُرَجَّحِ لَهُ هَلْ هُوَ مَحْضُ الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَمِ ابْتِغَاءُ الْغَنِيمَةِ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ التَّنْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَجْلِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَعِيدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، حُكْمٌ جَدِيدٌ بِأَنَّ قَتْلَ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ يُعَدُّ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الْحَمْلِ عَلَيْهَا فِي نُفُوسِكُمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ابْتِغَاءُ حَظِّ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَغْفُلُوا، بَلْ تَثَبَّتُوا وَتَبَيَّنُوا، وَحُكْمُ الْآيَةِ يُعْمَلُ بِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعَدُّ مُسْلِمًا وَلَا يُبْحَثُ عَنِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ.
أَقُولُ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حِرْصِ مَنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَلَا فِي عَمَلِهِمْ بِأَحْكَامِهِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلِيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ.
أَقُولُ هَذَا وَإِنَّ الْجَاهِلِينَ بِتَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا مَلُومِينَ فِي أَخْذِ الْغَنَائِمِ مِمَّنْ يَظْفَرُونَ بِهِمْ، وَأَنَّ بَعْضَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ صَارَتْ أَرْقَى فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قَوَانِينَهَا فِي الْحَرْبِ أَقْرَبُ إِلَى النَّزَاهَةِ وَالْعَدْلِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَكَيْفَ هَذَا وَقَوَانِينُ الدُّوَلِ الْمُرْتَقِيَةِ كُلِّهَا تُبِيحُ أَخْذَ كُلِّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُحَارِبِينَ؟ لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ سَلَامٌ وَلَا دِينٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ قَتْلَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ يُلْقِي السَّلَمَ أَوِ السَّلَامَ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ إِمَّا عَلَى الْمُنَاصَرَةِ وَإِمَّا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَمَنِ اتَّصَلَ بِأَهْلِ الْمِيثَاقِ الْمُعَاهِدِينَ، وَمَنِ اعْتَزَلَ الْقِتَالَ فَلَمْ يُسَاعِدْ
فِيهِ قَوْمَهُ الْمُقَاتِلِينَ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ رَغِبَ عَنِ ابْتِغَاءِ عَرَضِ الدُّنْيَا بِالْقِتَالِ ; لِيَكُونَ لِمَحْضِ رَفْعِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَلَا هَمَّ لِجَمِيعِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ الْآنَ إِلَّا الرِّبْحَ وَجَمْعَ الْأَمْوَالِ، وَهُمْ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ مَعَ الضُّعَفَاءِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ حِفْظَ الْمُعَاهَدَاتِ إِلَّا مَعَ الْأَقْوِيَاءِ، وَهُوَ مَا شَدَّدَ الْإِسْلَامُ فِي حِفْظِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَيْنَ أَرْقَى أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ! ؟ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ بِمَا يُرَغِّبُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيُنَشِّطُ عَلَيْهَا، وَيُحَفِّزُ الْهِمَمَ إِلَيْهَا، وَيُنَفِّرُ مِنَ الْقُعُودِ عَنْهَا، وَالتَّكَاسُلِ وَالتَّوَاكُلِ فِيهَا، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَاءَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ بَيْنَ آيَاتِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، فَهُمَا مُتَّصِلَتَانِ بِهَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ.
قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَأْيِيدِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَصَدِّ غَارَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، الْعَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ كَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ الْقَاعِدُونَ عَنِ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ بُخْلًا بِهَا وَحِرْصًا عَلَيْهَا، وَبِأَنْفُسِهِمْ إِيثَارًا لِلرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ عَلَى التَّعَبِ وَرُكُوبِ الصِّعَابِ فِي الْقِتَالِ، مُسَاوِينَ لِلْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ
فِي سَبِيلِ الْحَقِّ ; لِأَجْلِ مَنْعِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ; لِأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَحْمُونَ أُمَّتَهُمْ وَبِلَادَهُمْ، وَالْقَاعِدِينَ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ حَذْرَهُمْ، وَلَا يُعِدُّونَ لِلدِّفَاعِ عُدَّتَهُمْ، يَكُونُونَ عُرْضَةً لِفَتْكِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (2: 251) ، بِغَلَبَةِ أَهْلِ الطَّاغُوتِ عَلَيْهَا، وَظُلْمِهِمْ لِأَهْلِهَا، وَإِهْلَاكِهِمْ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فِيهَا.
فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، هَذَا بَيَانٌ لِمَفْهُومِ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ دَرَجَةً، وَهِيَ دَرَجَةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ دَفْعُ شَرِّ الْأَعْدَاءِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى، أَيْ: وَوَعَدَ اللهُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَجْزًا مِنْهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ فَقَامُوا بِهِ، فَإِنَّ إِيمَانَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدٌ وَإِخْلَاصَهُ وَاحِدٌ، وَقَدَّمَ مَفْعُولَ وَعَدَ، الْأَوَّلَ وَهُوَ لَفْظُ كُلًّا، لِإِفَادَةِ حَصْرِ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، الْمُتَفَاضِلَيْنِ فِي الْعَمَلِ، لِقُدْرَةِ أَحَدِهِمَا وَعَجْزِ الْآخَرِ، وَفَسَّرَ قَتَادَةَ الْحُسْنَى بِالْجَنَّةِ.
وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، عَلَى الْقَاعِدِينَ، مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: دَرَجَاتٌ مِنْهُ وَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ، أَمَّا الدَّرَجَاتُ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِيهَا مِنْ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (17: 21) ، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى دَرَجَاتِ الدُّنْيَا فِي الْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ، لَا فِي الرِّزْقِ وَعَرَضِ الدُّنْيَا، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدَّرَجَاتِ هُنَا عَلَى مَا يَكُونُ لِلْمُجَاهِدِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: الْإِسْلَامُ دَرَجَةٌ، وَالْإِسْلَامُ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْجِهَادِ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْقِتَالُ فِي الْجِهَادِ دَرَجَةٌ اهـ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْجِهَادَ هُنَا عِدَّةَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ
الشَّاقَّةِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الدَّرَجَاتُ هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " التَّوْبَةِ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (9: 120)، يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ السَّبْعَةَ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْمُجَاهِدُونَ هِيَ الدَّرَجَاتُ ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا أَجْرًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -، وَمَجْمُوعُهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلْأَجْرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهِيَ مُرْتَبَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَفْضُلُ الْمُجَاهِدُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ، وَأَهَمُّهُ مَصْدَرُهُ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَإِيثَارُ رِضَاهُ عَلَى الرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ، وَتَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْخَاصَّةِ، وَالْمَغْفِرَةُ الْمَقْرُونَةُ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِذُنُوبِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْحِسَابِ أَثَرٌ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي قَضَى عَدْلُ اللهِ بِأَنْ تَكُونَ سَبَبَ الْعِقَابِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ يَتَلَاشَى فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَتَلَاشَى الْوَسَخُ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَالرَّحْمَةُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ الرَّحْمَنُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا خَوَّلَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالظَّفَرِ وَجَمِيلِ الذِّكْرِ وَالثَّانِي مَا حَصُلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ ارْتِفَاعُ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْقَاعِدُونَ " الْأُولَى " الْأَضِرَّاءُ، وَالْقَاعِدُونَ الثَّانِيَةُ: هُمُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ اكْتِفَاءً بِغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ جَاهَدَ الْكُفَّارَ، وَالْآخِرُونَ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ عليه السلام: رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، اهـ.
وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَكَانَ شَأْنُ اللهِ وَصَفَتُهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ، رَحِيمٌ بِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ مَا فَضَّلَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا بِمَا اقْتَضَتْهُ صِفَاتُهُ، وَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ بِأَنْوَاعِهِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ نَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ قَرَءَا غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ
لِـ الْقَاعِدُونَ وَقُرِئَتْ بِالْجَرِّ شُذُوذًا عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: أَجْرًا عَظِيمًا، نَصْبَ أَجْرًا عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَجَرَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ وَدَرَجَاتٍ، بَدَلٌ مِنْهُ.
وَقَدْ تَرَكْتُ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، نَزَلَ لِأَجْلِ ابْنِ أُمٍّ مَكْتُومٍ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الْجَدِيرَةِ بِالرَّدِّ مَهْمَا قَوَّوْا سَنَدَهَا، وَلَعَلَّنَا نُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكْثِرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَسَمَّى مِنْهُمْ فِي رِوَايَتِهِ قَيْسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا الْقَيْسِ
بْنَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَذَكَرَ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ دَخْلَهُمْ شَكٌّ وَقَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ (8: 49) ، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَزَادَ مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ أَسْوَدَ، وَالُعَاصُ بْنُ مُنَبِّهٍ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ بِمَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهُوا أَنْ يُهَاجِرُوا وَخَافُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يُخْفُونَ الْإِسْلَامَ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَكَتَبُوا بِهَا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فَخَرَجُوا، فَلَحِقَ
بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ فَفَتَنُوهُمْ فَرَجَعُوا، فَنَزَلَتْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ (29: 10) ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَتَحَزَّنُوا، فَنَزَلَتْ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا (16: 110) ، الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَخَرَجُوا فَلَحِقُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مَنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَهُ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ ; لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ قِسْمَيْنِ: دَارُ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَأْمَنِهِمْ، وَدَارُ الشِّرْكِ وَالْحَرْبِ، وَكَانَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُرًّا فِي دِينِهِ لَا يُفْتَنُ عَنْهُ، وَحُرًّا فِي نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ أَنْ يُسَافِرَ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الشِّرْكِ فَكَانَ مُضْطَهَدًا فِي دِينِهِ يُفْتَنُ وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ يَحْمُونَهُ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لِأَجْلِ هَذَا وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يُسْلِمُ لِيَكُونَ حُرًّا فِي دِينِهِ آمِنًا فِي نَفْسِهِ، وَلِيَكُونَ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يُهَاجِمُونَهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَلِيَتَلَقَّى أَحْكَامَ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِهَا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِي إِسْلَامَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَنْقَسِمُ النَّاسُ بِالطَّبْعِ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا، وَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ الَّذِي يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَهِجْرَتَهُ وَإِنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْمُقَاوَمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ الْبَقَاءَ فِي وَطَنِهِ بَيْنَ
أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ يُؤْثِرُ مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا الَّتِي هُوَ فِيهَا عَلَى الدِّينِ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْ مُرَاقَبَةِ الْمُشْرِكِينَ وَظُلْمِهِمْ، وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ حِيلَةٍ يَعْمَلُ وَلَا أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْهِجْرَةَ لِضِعْفِ دِينِهِ وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا أَوْ أَرَادَهَا، وَمَنْ يَتْرُكْهَا لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ وَظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَخْ، تَوَفَّى الشَّيْءَ أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَفْظُ تَوَفَّاهُمُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَيْ: تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِيرِ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثِهِ جَائِزٌ هُنَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيَكُونُ سَحْبُ حُكْمِهِمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَامًّا بِنَصِّ الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَافَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ نَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَبِرِضَاهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي الذُّلِّ وَالظُّلْمِ حَيْثُ لَا حُرِّيَّةَ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ تَوَفِّيهَا لَهُمْ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ - فِي أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ؟
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ، التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، لَا حَقِيقَةَ الِاسْتِعْلَامِ عَنْ شَيْءٍ مَجْهُولٍ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَلِهَذَا حَسُنَ فِي جَوَابِهِ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْ تَقْصِيرِهِمُ الَّذِي وُبِّخُوا عَلَيْهِ بِالِاسْتِضْعَافِ، أَيْ: إِنَّنَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَكُونَ فِي شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا لِاسْتِضْعَافِ الْكُفَّارِ لَنَا، فَرَدَّ الْمَلَائِكَةُ هُنَا الْعُذْرَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، وَتُحَرِّرُوا أَنْفُسَكُمْ مَنْ رِقِّ الذُّلِّ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ؟ أَيْ إِنَّ اسْتِضْعَافَ الْقَوْمِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَانِعُ لَكُمْ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُمْ فِي دَارِهِمْ، بَلْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا مُهَاجِرِينَ إِلَى حَيْثُ تَكُونُونَ فِي حُرِّيَّةٍ
مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا فَأُولِئَكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا هُوَ خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: بَلْ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْخَبَرُ أَمْ لَا لِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَأْوَاهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَارُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، أَيْ وَقَبُحَتْ جَهَنَّمُ مَأْوًى وَمَصِيرًا لِمَنْ يَصِيرُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا يَسُوءُهُ لَا يَسُرُّهُ مِنْهُ شَيْءٌ، قِيلَ: إِنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِجَهَنَّمَ كَمَا يَتَوَعَّدُ الْكُفَّارَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لِلْقَادِرِ كَانَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَتَبَطَّنُوهُ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْوًى مُؤَقَّتًا عَلَى قَدْرِ تَقْصِيرِهِمْ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْإِقَامَةِ مَعَ الْكُفَّارِ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ، وَمَا عَسَاهُمُ افْتَرَقُوا ثَمَّ مِنَ الْمَعَاصِي.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهِ كَمَا يَجِبُ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِقِ عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَقُومُ بِحَقِّ اللهِ، وَأَدْوَمُ عَلَى الْعِبَادَةِ، حَقَّتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرَةُ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِدُعَاءٍ أَبَانَ فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا بِدِينِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِقَامَتِهِ كَمَا يَجِبُ.
وَهَاكَ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: ذَكَرَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَضْلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْقَاعِدِينَ لِغَيْرِ عَجْزٍ فَعَلِمَ أَنَّ الْعَاجِزَ مَعْذُورٌ، وَمَعْنَى سَبِيلِ اللهِ الطَّرِيقُ الَّذِي يُرْضِيهِ وَيُقِيمُ دِينَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ قَوْمٍ أَخْلَدُوا إِلَى السُّكُونِ وَقَعَدُوا عَنْ نَصْرِ الدِّينِ بَلْ وَعَنْ إِقَامَتِهِ حَيْثُ هُوَ، وَعَذَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْكَفْرِ حَيْثُ اضْطَهَدَهُمُ الْكَافِرُونَ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَعْذُورِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِهِمْ، فَهُمْ بِحُبِّهِمْ لِبِلَادِهِمْ، وَإِخْلَادِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَسُكُونِهِمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، ضُعَفَاءُ فِي الْحَقِّ لَا مُسْتَضْعَفُونَ، وَهُمْ بِضَعْفِهِمْ هَذَا قَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ خَيْرِ
الْآخِرَةِ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ، فَظُلْمُهُمْ
لِأَنْفُسِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِالْحَقِّ خَوْفًا مِنَ الْأَذَى، وَفَقْدُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ عُشَرَائِهِمُ الْمُبْطِلِينَ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ هُوَ نَحْوٌ مِمَّا يَعْتَذِرُ بِهِ الَّذِينَ جَارَوْا أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ يَجُبُّونَ الْغَيْبَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيُدَارُونَ الْمُبْطِلِينَ، وَهُوَ عُذْرٌ بَاطِلٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْحَقِّ مَعَ احْتِمَالِ الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الْهِجْرَةُ إِلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ فِي الْهِجْرَةِ، هَلْ وُجُوبُهَا مَضَى أَوْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ (قَالَ) : وَلَا مَعْنَى عِنْدِي لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ مِنَ الْعَمَلِ بِدِينِهِ، أَوْ يُؤْذَى فِيهِ إِيذَاءً لَا يَقْدِرُ عَلَى احْتِمَالِهِ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي دَارِ الْكَافِرِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْنَعُ وَلَا يُؤْذَى إِذَا هُوَ عَمِلَ بِدِينِهِ، بَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ بِلَا نَكِيرٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ، وَذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ لِهَذَا الْعَهْدِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْكُفْرِ سَبَبًا لِظُهُورِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالِ النَّاسِ عَلَيْهِ اهـ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْمُقِيمُونَ هُنَالِكَ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ يُعَرِّفُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَيُبَيِّنُونَهَا لِلنَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ.
قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، دَلَّ الْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا عَنْ عَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ الْفِرَارِ بِهِ هِجْرَةً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ غَيْرُ صَادِقِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِضْعَافَ الْحَقِيقِيَّ عُذْرٌ صَحِيحٌ وَلِذَلِكَ اسْتُثْنِيَ أَهْلُهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَرْنُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِيهَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجَالِ الشُّيُوخُ الضُّعَفَاءُ وَالْعَجَزَةُ الَّذِينَ هُمْ كَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، أَيْ قَدْ ضَاقَتْ بِهِمُ الْحِيَلُ كُلُّهَا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رُكُوبَ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ جَمِيعُهَا فَلَمْ يَهْتَدُوا طَرِيقًا مِنْهَا، إِمَّا لِلزِّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْجَهْلِ بِمَسَالِكِ الْأَرْضِ وَأَخْرَاتِهَا وَمَضَايِقِهَا، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: بِحَيْثُ لَوْ خَرَجُوا هَلَكُوا، أَيْ: بِرُكُوبِ التَّعَاسِيفِ أَوْ قِلَّةِ الزَّادِ أَوْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْوِلْدَانَ هُنَا بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُمُ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ
أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ سَبِيلًا، وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْأَوْلَادَ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمُ الْوَعِيدُ فَيُحْتَاجُ إِلَى اسْتِثْنَائِهِمْ، وَأَجَابَ فِي الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُرَاهِقِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ عَقَلُوا مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَيَلْحَقُوا بِهِمْ فِي التَّكْلِيفِ، أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ ذُكِرُوا تَبَعًا لِوَالِدَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ
يُكَلَّفُونَ أَنْ يُهَاجِرُوا بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْوِلْدَانُ عَاجِزِينَ عَنِ السَّيْرِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَالِدَانِ عَاجِزَيْنِ عَنْ حَمْلِهِمْ، كَانَ مِنْ عُذْرِهِمَا أَنْ يَتْرُكَا الْهِجْرَةَ مَا دَامَا عَاجِزَيْنِ وَلَا يُكَلَّفَانِ تَرْكَ أَوْلَادِهِمْ.
فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفَوَ عَنْهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى مَنِ اسْتَثْنَاهُمْ مِمَّنْ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْهِجْرَةِ، أَيْ: إِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا لِلْعَجْزِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ وَالْحِيَلِ وَتَعْمِيَةِ السُّبُلِ يُرْجَى أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُمْ وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْوَعْدُ بِعَسَى الدَّالَّةِ عَلَى الرَّجَاءِ، أَطْمَعَهُمْ تَعَالَى بِالْعَفْوِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ أَمْرَ الْهِجْرَةِ مُضَيَّقٌ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْ بِاسْتِعْمَالِ دَقَائِقِ الْحِيَلِ، وَالْبَحْثِ عَنْ مَضَايِقِ السُّبُلِ، حَتَّى لَا يُخْدَعَ مُحِبُّ وَطَنِهِ بِنَفْسِهِ وَيَعُدُّ مَا لَيْسَ بِمَانِعٍ مَانِعًا، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ صِيغَةَ الرَّجَاءِ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَعِلْمَ اللهِ بِتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ أَوْ عَدِمِهِ قَطْعِيٌّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، قَالُوا: إِنَّ عَسَى فِي كَلَامِ اللهِ لِلتَّحْقِيقِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; لِأَنَّهُ يَسْلُبُ الْكَلِمَةَ مَعْنَاهَا فَكَأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لَهَا، وَنَقُولُ فِيهَا مَا قُلْنَاهُ فِي " لَعَلَّ " وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِعْدَادُ وَالتَّهْيِئَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعِدُّهُمْ وَيُهَيِّؤُهُمْ لِعَفْوِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ التَّعْبِيرِ عَنِ التَّحْقِيقِ بِعَسَى الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَجِّي إِنْ صَحَّ هِيَ تَعْظِيمُ أَمْرِ تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَتَغْلِيظُ جُرْمِهِ.
وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا أَيْ: وَكَانَ شَأْنُ اللهِ - تَعَالَى - الْعَفْوُ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْذَارٌ صَحِيحَةٌ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا، وَمَغْفِرَتُهَا بِسَتْرِهَا فِي الْآخِرَةِ وَعَدَمِ فَضِيحَةِ صَاحِبِهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً، وَصَلَ هَذَا
بِمَا قَبْلَهُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْهِجْرَةِ، وَتَنْشِيطِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَتَجْرِئَتِهِمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ لَهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَهَيَّبُ الْأَمْرَ الْمُخَالِفَ لِمَا اعْتَادَهُ وَأَنِسَ بِهِ، وَيَتَخَيَّلُ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ وَالْمَصَاعِبِ مَا لَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي خَيَالِهِ، فَبَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَ التَّارِكَ الْمُقَصِّرَ، وَأَطْمَعَ التَّارِكَ الْمَعْذُورَ فِي الْعَفْوِ إِطْمَاعًا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَفْعَلَهُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَتَصَوَّرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ عُسْرِ الْهِجْرَةِ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَأَنَّ عُسْرَهُ إِلَى يُسْرٍ، مَنْ يُهَاجِرْ بِالْفِعْلِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا، أَيْ: مُتَحَوَّلًا مِنَ الرِّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، أَوْ مَذْهَبًا فِي الْأَرْضِ يُرْغِمُ بِسُلُوكِهِ أُنُوفَ مَنْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ لَهُ، أَوْ مَكَانًا لِلْهِجْرَةِ وَمَأْوًى يُصِيبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالسَّعَةَ فَوْقَ النَّجَاةِ مِنَ الِاضْطِهَادِ
وَالذُّلِّ، فَيُرْغِمُ بِذَلِكَ أُنُوفَهُمْ، وَفِيهِ الْوَعْدُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَسْهِيلِ السُّبُلِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْهِجْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ قَصْدُ الْمُهَاجِرِ مِنْهَا إِرْضَاءَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِقَامَةِ دِينِهِ، كَمَا يَجِبُ، وَكَمَا يُحِبُّ - تَعَالَى -، وَنَصْرَ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى مَنْ يَبْغِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، الْمُهَاجِرُ كَسَائِرِ النَّاسِ عُرْضَةٌ لِلْمَوْتِ، وَلَمَّا وَعَدَ تَعَالَى مَنْ يُهَاجِرُ فَيَصِلُ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ بِالظَّفَرِ بِمَا يَنْبَغِي مِنْ وِجْدَانِ الْمُرَاغَمِ وَالسَّعَةِ، وَعَدَ مَنْ يَمُوتُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهَا بِأَجْرٍ عَظِيمٍ يَضْمَنُهُ عز وجل لَهُ، فَمَتَى خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِقَصْدِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ أَيْ: حَيْثُ يُرْضِي اللهَ وَإِلَى نُصْرَةِ رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَمِثْلُهَا إِقَامَةُ سُنَنِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْأَجْرِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ عَتَبَةَ الْبَابِ، وَلَمْ يُصِبْ تَعَبًا وَلَا مَشَقَّةً، فَإِنَّ نِيَّةَ الْهِجْرَةِ مَعَ الْإِخْلَاصِ كَافِيَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، وَقَدْ أَبْهَمَ هَذَا الْأَجْرَ وَجَعَلَهُ حَقًّا وَاقِعًا عَلَيْهِ - تَبَارَكَ اسْمُهُ - لِلْإِيذَانِ بِعِظَمِ قَدْرِهِ، وَتَأْكِيدِ ثُبُوتِهِ وَوُجُوبِهِ، وَالْوُجُوبُ وَالْوُقُوعُ يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا (22: 36)، أَيْ: سَقَطَتْ جُنُوبُ الْبُدْنِ عِنْدَمَا تُنْحَرُ فِي النُّسُكِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ شَيْئًا إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ، فَأَيْنَ هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي تَأْكِيدِهِ، وَإِيجَابِهِ مِنْ وَعْدِ تَارِكِي الْهِجْرَةِ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ مِنْ جَعْلِهِ مَحَلَّ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فَقَطْ؟ لَا يَسْتَوِيَانِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: وَكَانَ شَأْنُهُ الثَّابِتُ
لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، أَنَّهُ غَفُورٌ يَسْتُرُ مَا سَبَقَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ بِإِيمَانِهِمُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَرْكِ أَوْطَانِهِمْ وَمَعَاهِدِ أُنْسِهِمْ لِأَجْلِ إِقَامَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، رَحِيمًا بِهِمْ يَشْمَلُهُمْ بِعَطْفِهِ وَيَغْمُرُهُمْ بِإِحْسَانِهِ.
هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا قُلْنَا، وَمَنْ شَمَلَهُ الْوَعْدُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، فَعَدُّوا خَبَرَ هِجْرَتِهِ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الشِّقِّ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا هُوَ بِسَبَبٍ إِلَّا فِي اصْطِلَاحِهِمُ الَّذِي يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ بِإِطْلَاقِ السَّبَبِ كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا، رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ: احْمِلُونِي فَأَخْرِجُونِي مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
فَنَزَلَ الْوَحْيُ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا الْآيَةَ، وَمِنْهُمْ أَبُو ضَمْرَةَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ الزُّرَقِيِّ، وَكَانَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَتْ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، قَالَ: إِنِّي لَغَنِيٌّ وَإِنِّي لَذُو حِيلَةٍ، فَتَجَهَّزَ يُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الْآيَةَ، وَمِنْهُمْ آخَرُونَ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي اللُّبَابِ بَعْدَ إِيرَادِ الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ وَسُمِّيَ فِي بَعْضِهَا ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ أَوِ الْعِيصُ بْنُ ضَمْرَةَ، وَفِي بَعْضِهَا جُنْدَبُ بْنُ حَمْزَةَ الْجُنْدَعِيُّ وَفِي بَعْضِهَا الضَّمْرِيُّ وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالْبَارُودِيُّ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: هَاجَرَ خَالِدُ بْنُ حَرَامٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ.
وَأَخْرَجَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ مَخْرَجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَبَى قَوْمُهُ أَنْ يَدَعُوهُ، قَالَ: فَلْيَأْتِ مَنْ يُبَلِّغُهُ عَنِّي وَيُبَلِّغُنِي عَنْهُ، فَانْتَدَبَ لَهُ رَجُلَانِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَا: نَحْنُ رُسُلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ مَنْ أَنْتَ وَمَا أَنْتَ وَبِمَ جِئْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللهِ، وَأَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (16: 90) ، الْآيَةَ، فَأَتَيَا أَكْثَمَ فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، إِنَّهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَكُونُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ رُءُوسًا وَلَا تَكُونُوا أَذْنَابًا، فَرَكِبَ بِعِيرَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، مُرْسَلٌ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَكْثَمَ، قِيلَ: فَأَيْنَ اللَّيْثِيُّ؟ قَالَ: هَذَا قَبْلَ اللَّيْثِيِّ بِزَمَانٍ وَهِيَ خَاصَّةٌ عَامَّةٌ اهـ.
وَمَجْمُوعُ الرِّوَايَاتِ يُؤَيِّدُ رَأْيَنَا مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ لَا مُنْفَرِدَةً فَطَبَّقُوهَا عَلَى الْوَقَائِعِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَلَمْ تَنْزِلْ لِأَجْلِ وَقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا.
حِكْمَةُ الْهِجْرَةِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهَا
قَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمِنْ غَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ فِي الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْهِجْرَةَ شُرِعَتْ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ أَوْ حِكَمٍ، اثْنَانِ مِنْهَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَمْرِ، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَاعَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهَا ذَلِيلًا مُضْطَهَدًا فِي حُرِّيَّتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَكُونُ فِي مَكَانٍ يُفْتَنُ فِيهِ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ إِقَامَتِهِ فِيهِ كَمَا يَعْتَقِدُ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ حُرًّا فِي تَصَرُّفِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ إِقَامَتُهُ مَعْصِيَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَعَاصِي، وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْإِقَامَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَا قَالَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْمُقِيمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ مُتَمَتِّعِينَ بِحُرِّيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ تَلَقِّي الدِّينِ وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصًّا بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِرْسَالُ الدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِينَ مِنْ قِبَلِهِ صلى الله عليه وسلم مُتَعَذِّرًا لِقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ عُلَمَاءُ يَعْرِفُونَ أَحْكَامَ الدِّينِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى حَيْثُ يَتَلَقَّى الدِّينَ وَالْعِلْمَ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ - الْمُتَعَلِّقُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: فَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ أَوْ دَوْلَةٌ قَوِيَّةٌ تَنْشُرُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَتُقِيمُ أَحْكَامَهُ وَحُدُودَهُ، وَتَحْفَظُ
بَيْضَتَهُ وَتَحْمِي دُعَاتَهُ وَأَهْلَهُ مِنْ بَغْيِ الْبَاغِينَ، وَعُدْوَانِ الْعَادِينَ وَظُلْمِ الظَّالِمِينَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ أَوِ الدَّوْلَةُ أَوِ الْحُكُومَةُ ضَعِيفَةً يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْ إِغَارَةِ الْأَعْدَاءِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا وَحَيْثُمَا حَلُّوا أَنْ يَشُدُّوا أَزْرَهَا، حَتَّى تَقْوَى وَتَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى هِجْرَةِ الْبَعِيدِ عَنْهَا إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وُجُوبًا قَطْعِيًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَإِلَّا كَانَ رَاضِيًا بِضَعْفِهَا وَمُعِينًا لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَخَفْضِ كَلِمَتِهِ.
كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ مُتَحَقِّقَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى الشِّرْكِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا وَصَارَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ أَهْلَهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَزَالَ سَبَبُ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِأَجْلِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ إِلَّا نَادِرًا، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِتَأْيِيدِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَى مَنْ كَانَ يُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا
اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَمِمَّا لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهِ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجِبُ دَائِمًا بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ كَمَا يَجِبُ السَّفَرُ لِأَجْلِ الْجِهَادِ إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهُ، وَأَقْوَى مُوجِبَاتِهِ اعْتِدَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا.
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا.
صَلَاةُ السَّفَرِ وَالْخَوْفِ
السِّيَاقُ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَجَاءَ فِيهِ حُكْمُ الْهِجْرَةِ، وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ لَازِمٌ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يَسْقُطُ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ، وَلَا فِي أَثْنَاءِ الْهِجْرَةِ وَلَا غَيْرِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَيَّامِ السَّفَرِ، وَلَكِنْ قَدْ تَتَعَذَّرُ أَوْ تَتَعَسَّرُ فِي السَّفَرِ وَحَالِ الْحَرْبِ إِقَامَتُهَا فُرَادَى وَجَمَاعَةً كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -
أَنْ تُقَامَ فِي صُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَنَاسَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ - تَعَالَى - مَا يُرِيدُ أَنْ يُرَخِّصَ لِعِبَادِهِ فِيهِ مِنَ الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَقَالَ:
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ وَعَصَاهُ أَوْ بِقَوَائِمِ رَاحِلَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: طَرَقَ الْأَرْضَ إِذَا مَرَّ بِهَا، كَأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِالْمِطْرَقَةِ، وَمِنْهُ الطَّرِيقُ أَيْ: السَّبِيلُ الْمَطْرُوقُ، وَقَالَ هَاهُنَا: ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ (94) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْوَارِدَةِ فِي حُكْمِ إِلْقَاءِ السَّلَامِ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ هَذِهِ أَعَمُّ، فَهِيَ رُخْصَةٌ لِكُلِّ مُسَافِرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الدِّينِ بِأَنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ مَثَلًا، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَالْمُسَافِرُ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ، وَهِيَ لَهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، أَيْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ تَضْيِيقٌ وَلَا مَيْلٌ عَنْ مَحَجَّةِ دِينِ اللهِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ فِي الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْجُنَاحُ فُسِّرَ بِالْإِثْمِ وَالتَّضْيِيقِ وَبِالْمَيْلِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ: هُوَ مِنْ جَنَحَتِ
السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتْ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهَا قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ جُنُوحَ السَّفِينَةِ بِمَا ذُكِرَ، وَفَسَّرَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِهَا أَرْضًا رَقِيقَةً تَغْرِزُ فِيهَا وَيُمْتَنَعُ جَرْيُهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسِبُ الْجُنَاحَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْجُنُوحَ مَعْنَاهُ الْمَيْلُ، وَهُوَ مِنَ الْجِنْحِ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْجَانِبِ، وَمَنْ فَسَّرَ الْجُنَاحَ بِالتَّضْيِيقِ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ جُنِحَ الْبَعِيرُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِذَا انْكَسَرَتْ جَوَانِحُهُ - أَضْلَاعُهُ - لَثِقَلِ حِمْلِهِ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا أَيْضًا وَهُوَ مَجَازٌ، وَالْقَصْرُ - بِالْفَتْحِ - مِنَ الْقِصَرِ - كَعِنَبٍ - ضِدُّ الطُّولِ، وَقَصَّرْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُهُ قَصِيرًا.
فَالْقَصْرُ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهَا تَكُونُ بِهِ قَصِيرَةً، وَيَصْدُقُ بِتَرْكِ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا، وَبِتَرْكِ بَعْضِ أَرْكَانِهَا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا تَرْكُ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا وَهِيَ صَلَاةُ السَّفَرِ الَّتِي تُقْصِرُ فِيهَا الرُّبَاعِيَّةُ فَقَطْ فَتُصَلَّى ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ مُطْلَقًا أَوْ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِهَا وَهِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.
وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهَا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا لَا مِنْ رَكَعَاتِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْقَصْرُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْأَرْكَانِ جَمِيعًا، وَجَمَعَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ بَيْنَ الْأَقْوَالِ فَقَالَ فِي فَصْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ أَبَاحَ اللهُ سبحانه وتعالى قَصْرَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَعَدَدِهَا إِذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالسَّفَرُ، وَقَصْرُ الْعَدَدِ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ سَفَرٌ لَا خَوْفَ مَعَهُ، وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ خَوْفٌ لَا سَفَرَ مَعَهُ، وَهَذَا كَانَ هَدْيُهُ
صلى الله عليه وسلم -
وَبِهِ يُعْلَمُ الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ، اهـ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَرْطٌ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَالْفِتْنَةُ الْإِيذَاءُ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَأَصْلُهُ الِاخْتِيَارُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِتْنَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِيهَا حَمْلُهُمْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ سَاجِدُونَ حَتَّى يَقْتُلُوهُمْ أَوْ يَأْسِرُوهُمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَتِهَا وَأَدَائِهَا، وَيَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِبَادَةِ اللهِ وَإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لَهُ اهـ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِزَمَنِ الْحَرْبِ بَلْ إِذَا خَافَ الْمُصَلِّي قُطَّاعَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ هَذَا الْقَصْرَ.
إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، تَعْلِيلٌ لِتَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُظْهِرُونَ لِلْعَدَاوَةِ بِالْقِتَالِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُمْ لَا يُضَيِّعُونَ فُرْصَةَ اشْتِغَالِكُمْ بِمُنَاجَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ، وَلَا يَخْشَوْنَهُ فِيكُمْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِيقَاعِ بِكُمْ إِذَا وَجَدُوكُمْ غَافِلِينَ عَنْهُمْ، وَالْعَدُوُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ.
بَعْدَ هَذَا أَقُولُ: إِنَّ الْقَصْرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُجْمَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ تُبَيِّنُ لَنَا نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقِيلَ: إِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُفِيدَ كُلُّ آيَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ مَعْنًى جَدِيدًا تَفَادِيًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنَ الْقَصْرِ نَقْصَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ الْمَشْهُورِ إِذْ قَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَالسُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ الِاصْطِلَاحَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ بِدُونِ تَوْقِيفٍ، وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا إِلَّا كَيْفِيَّةَ الْقَلِيلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّةَ الْحَجِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ أُفَسِّرَ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَذْكُرُ مُلَخَّصَ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ أُبَيِّنُ مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَكَيْفِيَّاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ الَّتِي وَرَدَتْ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي الْجِهَادِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْحَثُّ عَلَيْهِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِهِ، وَإِيجَابِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مَنْ أَرْضٍ لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِ، وَالْجِهَادُ يَسْتَلْزِمُ السَّفَرَ، وَالْهِجْرَةُ سَفَرٌ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ سَافَرَ
لِلْجِهَادِ أَوْ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ وَخَافَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْهَا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ مِنْهَا وَأَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَتَهَا بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ.
قَالَ: وَالْقَصْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى هُنَا لَيْسَ هُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ الْمُبَيَّنِ بِشُرُوطِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، وَالشَّرْطُ فِيهَا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ
فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لَغْوٌ مِنَ الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي أَغْلَى الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ، فَهَذَا الْقَصْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (2: 239) ، فَآيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْقَصْرِ مِنْ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَالرُّخْصَةُ فِي عَدَمِ إِقَامَةِ صُورَتِهَا بِأَنْ يَكْتَفِيَ الرِّجَالُ الْمُشَاةُ وَالرُّكْبَانُ بِالْإِيمَاءِ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْقَصْرِ الْمُرَادِ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فِي الْقَصْرِ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتٍ بِأَنْ تُصَلِّي طَائِفَةٌ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا أَتَمَّتْهَا جَاءَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ الْأُولَى، فَصَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنْ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ تُتِمُّ الصَّلَاةَ اهـ، مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مُلَخَّصًا.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَقَدْ لَخَّصَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ أَحْسَنَ تَلْخِيصٍ، وَنَاهِيكَ بِسِعَةِ حَفْظِهِ وَحُسْنِ اسْتِحْضَارِهِ وَبَيَانِهِ، قَالَ فِي بَيَانِ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ، وَعِبَارَتُهُ فِيهِ مَا نَصُّهُ:
" وَكَانَ يَقْصُرُ الرُّبَاعِيَّةَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَمَّ الرُّبَاعِيَّةَ فِي سَفَرِهِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ، فَلَا يَصِحُّ، وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَقُولُ: هُوَ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.
وَقَدْ رُوِيَ: كَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ الْأَوَّلُ بِالْيَاءِ آخِرُ الْحُرُوفِ وَالثَّانِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ، وَكَذَلِكَ " يُفْطِرُ وَتَصُومُ " أَيْ: تَأْخُذُ هِيَ بِالْعَزِيمَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيَةَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، مَا كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لِتُخَالِفَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ فَتُصَلِّيَ خِلَافَ صَلَاتِهِمْ، وَالصَّحِيحُ عَنْهَا: أَنَّ اللهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُصَلَّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ؟
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ " قُلْتُ ": وَقَدْ أَتَمَّتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ دَائِمًا، فَرَكَّبَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا، وَقَالَ: فَكَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ هِيَ، فَغَلِطَ بَعْضُ
الرُّوَاةِ فَقَالَ: كَانَ يَقْصُرُ وَيُتِمُّ، أَيْ: هُوَ.
وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَتْهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ،
فَقِيلَ: ظَنَّتْ أَنَّ الْقَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالْخَوْفِ وَالسَّفَرِ فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ زَالَ سَبَبُ الْقَصْرِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرٌ صَحِيحٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَافَرَ آمِنًا وَكَانَ يُقْصِرُ الصَّلَاةَ، وَالْآيَةُ قَدْ أُشْكِلَتْ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابَهُ بِالشِّفَاءِ وَأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ وَشَرْعٌ شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ.
وَكَانَ هَذَا بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ الْمَفْهُومِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَأَنَّ الْجُنَاحَ مُرْتَفِعٌ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ عَنِ الْآمِنِ وَالْخَائِفِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ نَوْعُ تَخْصِيصٍ لِلْمَفْهُومِ أَوْ رَفْعٌ لَهُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ قَصْرًا يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَصْرَ الْعَدَدِ بِنُقْصَانِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُيِّدَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفُ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرَانِ أُبِيحَ الْقَصْرُ فَيُصَلُّونَ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً عَدَدَهَا وَأَرْكَانَهَا، وَإِنِ انْتَفَى الْأَمْرَانِ فَكَانُوا آمِنِينَ مُقِيمِينَ، انْتَفَى الْقَصْرَانِ فَيُصَلُّونَ صَلَاةً تَامَّةً، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَصْرُهُ وَحْدَهُ، فَإِذَا وُجِدَ الْخَوْفُ وَالْإِقَامَةُ قُصِرَتِ الْأَرْكَانُ وَاسْتُوفِيَ الْعَدَدُ، وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ وُجِدَ السَّفَرُ وَالْأَمْنُ قَصَرَ الْعَدَدُ وَاسْتَوْفَى الْأَرْكَانَ وَسُمِّيَتْ صَلَاةَ الْأَمْنِ، وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ مَقْصُورَةً بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ، وَقَدْ تُسَمَّى تَامَّةً بِاعْتِبَارِ إِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَصْرِ الْآيَةِ، وَالْأَوَّلُ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الصَّحَابَةِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ عِنْدَهَا غَيْرُ مَقْصُورَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَإِنَّمَا هِيَ مَفْرُوضَةٌ كَذَلِكَ، وَأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، مُتَّفَقٌ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ وَالْعِيدُ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ
حَدِيثَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا صَدَقَةُ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَدِينُهُ أَلَيْسَ السَّمْحَ، عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ قَصْرَ الْعَدَدِ كَمَا فَهِمَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ مُبَاحٌ، يُنْفَى عَنْهُ الْجُنَاحُ، فَإِنْ شَاءَ
الْمُصَلِّي فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوَاظِبُ فِي أَسْفَارِهِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُرَبِّعْ قَطُّ إِلَّا شَيْئًا فَعَلَهُ فِي بَعْضِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَالَ أَنَسٌ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَالَ: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلِيَتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَسْتَرْجِعَ مِنْ فِعْلِ عُثْمَانَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، بَلِ الْأَوْلَى عَلَى قَوْلٍ: وَإِنَّمَا اسْتَرْجَعَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ مُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ فِي السَّفَرِ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَعْنِي فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ، وَإِلَّا فَعُثْمَانُ قَدْ أَتَمَّ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ خَرَجَ لِفِعْلِهِ تَأْوِيلَاتٌ، انْتَهَى نَصُّ عِبَارَتِهِ.
وَهَاهُنَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ سِتَّةَ تَأْوِيلَاتٍ لِإِتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ وَرَدُّهَا أَقْوَى رَدٍّ إِلَّا السَّادِسَ مِنْهَا فَقَالَ: إِنَّهُ أَحْسُنُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَ بِمِنًى وَالْمُسَافِرُ إِذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ وَتَزَوَّجَ فِيهِ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَضْعِيفِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ نَوَى الْإِقَامَةَ لِأَجْلِ الزَّوَاجِ، ثُمَّ ذَكَرَ الِاعْتِذَارَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَعَادَ قَوْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ: إِنَّ الْإِتْمَامَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذِبٌ عَلَيْهَا.
وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ وَعَنْ عَطَاءٍ
عَنْهَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ عَنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا، أَقُولُ: وَهُمَا ضَعِيفَانِ، ثُمَّ قَوَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِرِوَايَتَيْنِ لِلْدَارَقُطْنِيِّ.
إِحْدَاهُمَا: مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْهَا، وَقِيلَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا وَحَسَّنَهَا، وَفِي الْعَلَاءِ مَقَالٌ يَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، قِيلَ: مُطْلَقًا وَقِيلَ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ كَهَذَا الْحَدِيثِ، وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ نَكَارَةً، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ حَدِيثٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهَا خَرَجَتْ مُعْتَمِرَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَكَانَ يَقْصُرُ، وَكَانَتْ تُتِمُّ ثُمَّ ذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ أَحْسَنْتِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْدَارَقُطْنِيِّ صَحَّحَهَا عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهَا عَنِ ابْنِ الْقَيِّمِ وَأَنَّهُ جَزَمَ بِغَلَطِ رَاوِيهَا، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي الصَّلَاةِ وَيُتِمُّ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: وَقَدِ اسْتَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصِحَّتُهُ بَعِيدَةٌ إِلَخْ، وَقَدْ ضُبِطَ الْحَدِيثُ فِي التَّلْخِيصِ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْمَامِ وَالْفِطْرِ إِلَى عَائِشَةَ لَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنُ تَيْمِيَةَ جَزَمَ بِكَذِبِ الْحَدِيثَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا ذَكَرَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ لَا رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ وَخُصُوصًا مَا يُخَالِفُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ عُثْمَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّاجِحُ وَهُوَ أَنَّهُ عَدَّ نَفْسَهُ بِالزَّوَاجِ مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ، وَأَمَّا تَأَوُّلُهَا الَّذِي رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْهَا فَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ ; لِأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ لَمَّا سَأَلَهَا:" يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهُ لَا يُشَقُّ عَلَيَّ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ وَيُعَارِضُهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ كَوْنُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ - الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْهَا فَيَرْجَحُ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الثَّابِتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا مُتَأَوِّلَيْنِ وَقَدْ عَرَفْتَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْإِتْمَامَ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَصِحَّ، فَالْحَقُّ مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ وُجُوبِ ذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهَلْ هُوَ أَصْلُ الْمَفْرُوضِ كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَوْ قَصْرٌ؟ خِلَافٌ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ
وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ فِي الْقُرْآنِ، يَعْنِي صَلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: يَا أَخِي إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ اهـ، أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ، وَالْحَاذِقُ مَنْ عَرِفَ كَيْفَ يُطَبِّقُ فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقُرْآنِ فَهُوَ تَبْيِينٌ لَهُ لَا يَعْدِلُهُ تِبْيَانٌ.
مَسَافَةُ الْقَصْرِ
مِنَ الْمَبَاحِثِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ يُقَلِّدُهُمْ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ، وَكَذَا جَمْعَهَا وَالْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ، لَا يَكُونُ فِي كُلِّ سَفَرٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سَفَرٍ طَوِيلٍ وَأَقَلُّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَرْحَلَتَانِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِالذِّهَابِ، وَالْمَرْحَلَةُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةً وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ بِسَيْرِ الْأَقْدَامِ أَوِ الْأَثْقَالِ، أَيْ: الْإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَلَا وَرْدَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ فُقَهَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (2: 184) ، أَنَّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ يُبَاحُ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ سَفَرًا
طَالَ أَوْ قَصُرَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ مَا يُقَيِّدُ هَذَا الْإِطْلَاقَ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَيْضًا وَنَذْكُرُ مِنْهَا الْفَتْوَى الْآتِيَةَ نَقْلًا مِنَ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ وَهِيَ:(س 52) مِنْ م. ب. ع. فِي سمبس برنيو (جاوه) .
حَضْرَةُ فَخْرِ الْأَنَامِ، سَعْدِ الْمِلَّةِ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ، سَيِّدِي الْأُسْتَاذُ الْعَلَّامَةُ السَّيِّدُ مُحَمَّدْ رَشِيدْ رِضَا صَاحِبُ مِجَلَّةِ الْمَنَارِ الْغَرَّاءِ أَدَامَ اللهُ بِعَزِيزِ وَجُودِهِ النَّفْعَ، آمِينَ.
وَبَعْدُ إِهْدَاءُ أَشْرَفِ التَّحِيَّةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ فَيَا سَيِّدِي وَعُمْدَتِي أَرْجُو مِنْكُمُ الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَسْئِلَةِ لِتُجِيبُونِي عَنْهَا وَهِيَ - وَذَكَرَ أَسْئِلَةً - مِنْهَا:
هَلْ تُحَدُّ مَسَافَةُ الْقَصْرِ بِحَدِيثٍ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ وَإِلَى الطَّائِفِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ أَرْبَعَةٌ الْبُرُدُ هِيَ ثَمَانِيَةٌ
وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةٌ؟ وَعَلَيْهِ فَكَمْ يَكُونُ قَدْرَ الْمَسَافَةِ الْمُعْتَبِرَةِ شَرْعًا بِحِسَابِ كِيلُو مِتْرٍ؟ أَفْتُونَا فَتْوَى لَا نَعْمَلُ إِلَّا بِهَا وَلَا نُعَوِّلُ إِلَّا عَلَيْهَا فَلَا زِلْتُمْ مَشْكُورِينَ وَكُنَّا لَكُمْ ذَاكِرِينَ:
ج: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ ضَعِيفٍ، وَقَدْ نَسَبَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى الْكَذِبِ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رَوَيَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ لَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَشُعْبَةُ هُوَ الشَّاكُّ فِي الْفَرَاسِخِ وَقَدْ يُقَالُ الْأَقَلُّ هُوَ الْمُتَيَقِّنُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ لَا تَحْدِيدَ فِيهَا، وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ فِي الْأَقْوَالِ فَهَلْ يُعَدُّ حُجَّةً فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ؟ وَهُنَاكَ وَقَائِعُ أُخْرَى فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَافَةِ.
فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ بِسُكُوتِهِ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ وَأَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِيلٌ وَاحِدٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ حَزْمٍ وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَدَمُ التَّحْدِيدِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي [ص 416 و649 مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ] .
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَأَصْلُ الْمِيلِ مَدُّ الْبَصَرِ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَمِيلُ عَنْهُ فَلَا يُرَى، وَحُدُودُهُ بِالْقِيَاسِ، فَقَالُوا: هُوَ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، الذِّرَاعُ 14 أُصْبُعًا مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ، وَالْأُصْبُعُ سِتُّ حَبَّاتٍ مِنَ الشَّعِيرِ مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ بِقَدَمِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ أَيِ الْفَرْسَخُ 5541 مِتْرًا اهـ.
هَذِهِ هِيَ الْفَتْوَى: وَأُزِيدُ الْآنَ: أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَدِ اعْتَمَدُوا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى تَحْدِيدِ سَفَرِ الْقَصْرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ، وَكَوْنِ الثَّانِي كَانَ يُسَافِرُ الْبَرِيدَ فَلَا يَقْصُرُ، وَهَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ
بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَصْرَهُ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنْ يَقْصُرَ فِيمَا دُونَ يَوْمَيْنِ، يَعْنِي لَوْ بَلَغَهُ لَعَمِلَ بِهِ كَمَا هِيَ قَاعِدَتُهُ رحمه الله:" إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي "، وَقَدْ بَلَغَ غَيْرَهُ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ فِي هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ قَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ أَوْ أَمْيَالٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَأَصْرَحُهُ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ أَنَسًا سُئِلَ عَنِ الْقَصْرِ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَقَالَهُ، وَيُرَجِّحُ رِوَايَةَ الثَّلَاثَةِ الْأَمْيَالِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْفَرْسَخِ فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، فَوَجَبَ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ الْعَمَلُ بِهِ كَكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ.
كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ
قَالَ عز وجل بَعْدَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ بِالْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ أَيْ: وَإِذَا كُنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي جَمَاعَتِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا كُلُّ إِمَامٍ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، إِقَامَةُ الصَّلَاةِ تُطْلَقُ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ إِلَى الدُّخُولِ فِيهَا وَهُوَ نِصْفُ ذِكْرِ الْأَذَانِ وَزِيَادَةُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " مَرَّتَيْنِ بَعْدَ كَلِمَةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْأَذَانِ مَعَ زِيَادَةِ مَا ذُكِرَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا مُقَوَّمَةً تَامَّةَ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَالْآدَابِ، وَالظَّاهِرُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، لِتَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ ; وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُبَيَّنَةَ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ تَامَّةً بَلْ هِيَ مَقْصُورٌ مِنْهَا، وَتُقَابِلُ صَلَاةَ الْخَوْفِ هُنَا صَلَاةُ الِاطْمِئْنَانِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، فَمَعْنَى أَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ دَعَوْتَهُمْ إِلَى أَدَائِهَا جَمَاعَةً، أَيْ: وَالْزَمَنُ زَمَنُ الْحَرْبِ وَفِتْنَةُ الْكُفَّارِ مُخَوِّفَةٌ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، فِي الصَّلَاةِ يَقْتَدُونَ بِكَ وَيَبْقَى الْآخَرُونَ مُرَاقِبِينَ الْعَدُوَّ يَحْرُسُونَ الْمُصَلِّينَ خَوْفًا مِنَ اعْتِدَائِهِ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، أَيْ: وَلِيَحْمِلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَعَكَ فِي الصَّلَاةِ أَسْلِحَتَهُمْ وَلَا يَدَعُوهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَضْطَرُّوا إِلَى الْمُكَافَحَةِ عَقِبَهَا مُبَاشَرَةً أَوْ قَبْلَ إِتْمَامِهَا فَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ أَيْ جُمْلَةٍ هُوَ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لِقِيَامِهَا
بِالْحِرَاسَةِ، وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ أَنْ يَكُونَ لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا أَيْ وَلْيَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ انْقِسَامِهِمْ إِلَى طَائِفَتَيْنِ وَاحِدَةٍ تُصَلِّي وَوَاحِدَةٍ تُرَاقِبُ وَتَحْرُسُ - حَامِلِينَ لِلسِّلَاحِ لَا يَتْرُكُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْجَمِيعِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَحْمِلُوا أَسْلِحَتَهُمْ إِلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا قِتَالٌ وَلَا نِزَالٌ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْأَمْرِ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مَظَنَّةُ الْمَنْعِ أَوِ الِامْتِنَاعِ، وَالْأَسْلِحَةُ جَمْعُ سِلَاحٍ وَهُوَ كُلُّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ مِنْهُ فِي حَالِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ
التَّامَّةِ الْأَرْكَانِ مَا يَسْهُلُ حَمْلُهُ فِيهَا كَالسَّيْفِ وَالْخِنْجَرِ وَالنِّبَالِ مِنْ أَسْلِحَةِ الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَمِثْلَ الْبُنْدُقِيَّةِ عَلَى الظَّهْرِ وَالْمُسَدَّسِ فِي الْحِزَامِ أَوِ الْجَيْبِ مِنْ أَسْلِحَةِ هَذَا الْعَصْرِ فَإِذَا سَجَدُوا، أَيْ: فَإِذَا سَجَدَ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَعَكَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ أَيْ: فَلْيَكُنِ الْآخَرُونَ الَّذِينَ يَحْرُسُونَكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ، وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ الْمُصَلِّي لِلْحِرَاسَةِ سَاجِدًا ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى حِينَئِذٍ مَنْ يَهُمُّ بِهِ، أَوْ عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنِ الصَّلَاةِ أَيْ: إِتْمَامُهَا ; لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاقُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِيَامِ مَقَامَهُمْ وَالصَّلَاةُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَلُّوا، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، أَيْ: وَلْتَأْتِ طَائِفَةُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْحِرَاسَةِ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ كَمَا صَلَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ فِي الصَّلَاةِ كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَزَادَ هُنَا الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَهُوَ التَّيَقُّظُ وَالِاحْتِرَاسُ مِنَ الْمَخْلُوفِ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَلْ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِيهَا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (71)، قِيلَ: إِنَّ حِكْمَةَ الْأَمْرِ بِالْحَذَرِ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، بَلْ يَظُنُّ إِذَا رَآهُمْ صَفًا أَنَّهُمْ قَدِ اصْطَفَوْا لِلْقِتَالِ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ وَالنِّزَالِ، فَإِذَا رَآهُمْ سَجَدُوا عَلِمَ أَنَّهُمْ فِي صَلَاةٍ، فَيُخْشَى أَنْ يَمِيلَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ قِيَامِهَا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يَتَرَبَّصُ ذَلِكَ بِهِمْ عِنْدَ كُلِّ غَفْلَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - لَنَا هَذَا مُعَلِّلًا بِهِ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، أَيْ: تَمَنَّى أَعْدَاؤُكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ
وَأَمْتِعَتِكُمُ الَّتِي بِهَا بَلَاغُكُمْ فِي سَفَرِكُمْ بِأَنْ تَشْغَلَكُمْ صَلَاتُكُمْ عَنْهَا فَيَمِيلُونَ حِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ، أَيْ: يَحْمِلُونَ عَلَيْكُمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَأَنْتُمْ مَشْغُولُونَ بِالصَّلَاةِ وَاضِعُونَ لِلسِّلَاحِ تَارِكُونَ حِمَايَةَ الْمَتَاعِ وَالزَّادِ، فَيُصِيبُونَ مِنْكُمْ غِرَّةً فَيَقْتُلُونَ مَنِ اسْتَطَاعُوا قَتْلَهُ، وَيَنْتَهِبُونَ مَا اسْتَطَاعُوا أَخْذَهُ، فَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُمْ سَبِيلًا عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْتَصُّ الطَّائِفَةَ الْحَارِسَةَ دُونَ الْمُصَلِّيَةِ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا وَحِكَمِهَا.
وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمُحَارِبِينَ، وَكَانَ يَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْعُذْرِ مَا يَشُقُّ مَعَهُ حَمْلُ السِّلَاحِ، عَقَّبَ عَلَى الْعَزِيمَةِ بِالرُّخْصَةِ لِصَاحِبِ الْعُذْرِ فَقَالَ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ، أَيْ: وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ وَلَا إِثْمَ فِي وَضْعِ أَسْلِحَتِكُمْ إِذَا أَصَابَكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ تُمْطَرُونَهُ فَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُ السِّلَاحِ مَعَ ثِقَلِهِ فِي ثِيَابِكُمْ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ الْمَاءُ السِّلَاحَ ; لِأَنَّهُ سَبَبُ الصَّدَأِ، أَوْ إِذَا كُنْتُمْ مَرْضَى بِالْجِرَاحِ أَوْ غَيْرِ الْجِرَاحِ مِنَ الْعِلَلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَأْخُذُوا
حِذْرَكُمْ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ، فَإِنَّ عَدْوَكُمْ لَا يَغْفُلُ عَنْكُمْ وَلَا يَرْحَمُكُمْ، وَالضَّرُورَةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، بِمَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، كَإِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الْقُوَّةِ وَأَخْذِ الْحَذَرِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ، وَرَجَاءِ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرِّضْوَانِ وَالْأَجْرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَذَابَ ذَا الْإِهَانَةِ هُوَ عَذَابُ الْغَلَبِ وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إِذَا قَامُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا السِّيَاقِ كَالْأَمْرِ بِذِكْرِ اللهِ كَثِيرًا وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ (4: 104)، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (9: 14)، وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْفِي مَا رُبَّمَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ وَالْحَذَرِ يُشْعِرُ بِتَوَقُّعِ النَّصْرِ لِلْأَعْدَاءِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْآيَةِ لِلْمَرْضَى، نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
وَكَانَ جَرِيحًا، وَالْمَعْنَى عِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ قَدِ انْطَبَقَ حُكْمُهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ بِأَحْكَامٍ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ وَعَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظَّهْرَ فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ أَصَبْنَا غُرَّتَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: يَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ; فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، الْحَدِيثَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرِبْنِ عَبْدِ اللهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
كَيْفِيَّاتُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي السُّنَّةِ
(1)
وَرَدَ فِي أَدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْخَوْفِ جَمَاعَةً - كَيْفِيَّاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ أَنَّ أُصُولَهَا سِتٌّ، وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي وَقَائِعِهَا وَاعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ كَيْفِيَّةٍ مِنْهَا صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَهَاكَ أُصُولُهَا الْمَشْهُورَةُ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (وَفِي لَفْظٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) أَنَّ طَائِفَةً صُفَّتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ - أَيْ تُجَاهَهُ مُرَاقَبَةً لَهُ فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى
فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَسَلَّمَ بِهِمْ، وَغَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ هَذِهِ هِيَ غَزْوَةُ نَجْدٍ، لَقِيَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ فَتُوَافَقُوا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَكِنَّ الْقِتَالَ كَانَ مُنْتَظَرًا، فَلِذَلِكَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَسُمِّيَتْ ذَاتُ الرِّقَاعِ ; لِأَنَّهَا نَقَبَتْ أَقْدَامَهُمْ فَلَفُّوا عَلَى أَرْجُلِهِمُ الرِّقَاعَ أَيِ الْخِرَقَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ حِجَارَةَ تِلْكَ الْأَرْضِ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ كَالرِّقَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ فِي حَالَةِ كَوْنِ الْعَدْوِ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَهِيَ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ السُّجُودِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَظَاهِرُهَا أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُصَلِّي
رَكْعَةً وَاحِدَةً هِيَ فَرْضُهَا لَا تُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ، لَا مَعَ الْإِمَامِ وَلَا وَحْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَفْقَهُ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهَا مِنْ فُقَهَاءِ آلِ الْبَيْتِ عليهم السلام الْقَاسِمُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاللهِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.
(2)
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ تَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَةِ أَيْضًا وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي حَالِ كَوْنِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى إِلَّا فِي قَضَاءِ كُلِّ فُرْقَةٍ رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ لِيَتِمَّ لَهَا رَكْعَتَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا تَأْتِيَانِ بِالرَّكْعَتَيْنِ عَلَى التَّعَاقُبِ لِأَجْلِ الْحِرَاسَةِ، وَأَمَّا فَرْضُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْكَيْفِيَّةِ الْأُولَى فَرَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تُتِمُّ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْطَعَ صَلَاتَهَا بِالْحِرَاسَةِ، فَتَكُونُ رَكْعَتَاهَا مُتَّصِلَتَيْنِ، وَأَنَّ الْأُولَى لَا تُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَنْصَرِفَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاتِهَا إِلَى مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُسْعُودٍ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ وَقَامَ هَؤُلَاءِ أَيْ: الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا، وَقَدْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَشْهَبُ وَرَجَّحَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى غَيْرِهَا بِقُوَّةِ الْإِسْنَادِ وَمُوَافَقَتِهَا لِلْأُصُولِ فِي كَوْنِ الْمَأْمُومِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ.
(3)
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعٌ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ ".
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْآيَةِ أَيْضًا، وَكَانَتْ كَاللَّتَيْنِ ذُكِرَتَا قَبْلَهَا فِي حَالِ وُجُودِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَفْصِيلٌ، كَأَنَّ جَابِرًا قَالَ مَا قَالَهُ لِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ الْقِصَّةَ وَكَوْنُ كُلِّ طَائِفَةٍ كَانَتْ تُرَاقِبُ الْعَدُوَّ فِي جِهَتِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الْأُخْرَى، أَوْ أَنَّ الرَّاوِيَ
عَنْهُ ذَكَرَ مِنْ مَعْنَى حَدِيثِهِ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ لِلْجَمَاعَةِ وَأَرْبَعًا لِلْإِمَامِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ لِكُلٍّ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامِ، وَفِي رِوَايَةِ سَهْلٍ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِلْجَمَاعَةِ وَرَكْعَةً لِلْإِمَامِ، فَلَا فَرْقَ إِلَّا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذِهِ كَانَتْ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَكَذَلِكَ الْأُولَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَتْ فِيهَا أَيْضًا أَوْ فَي غَزْوَةٍ مِثْلَهَا كَانَ الْعَدُوُّ فِيهَا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَلَّى بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَكَانُوا فِي مَقَامِهِمْ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَصَارَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وَقَدْ أَعَلُّوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ أَسْلَمَ بَعْدَ وُقُوعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِمُدَّةٍ وَأَجَابَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ عَمَّنْ صَلَّاهَا، فَيَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَكَوْنَهَا تَفْسِيرًا لِمَا قَبْلَهَا - مُوَافَقَتُهَا لِلْآيَةِ فَضْلَ مُوَافِقَةٍ بِتَصْرِيحِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَلَّاهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ كَانَتَا لَهُ نَفْلًا وَلَهَا فَرْضًا.
وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَحَكَوْهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إِذْ لَا دَلِيلَ لِنَسْخِهِ اهـ، أَقُولُ: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ إِعَادَةِ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ، وَلَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ النَّفْلُ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ أَنْ تُحْسَبَ الثَّانِيَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ، وَمُوَافِقَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فِي عَدَمِ زِيَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَكْعَتَيْنِ فِي سَفَرِهِ، حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ أَدَاءَ الرُّبَاعِيَّةِ تَامَّةً فِي السَّفَرِ قَالُوا: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا نَفْلًا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ صَلَّى الْأَرْبَعَ مَوْصُولَةً لَكَانَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ اطِّرَادِ ذَلِكَ النَّفْيِ.
(4)
رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ احْتَجَّ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ وَابْنُ حَبَّانَ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِذِي قَرَدٍ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهُوَ مَاءٌ عَلَى مَسَافَةِ لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَيْبَرَ، فَصَفَّ النَّاسَ صَفَّيْنِ ; صَفًّا خَلْفَهُ
وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينِ خَلْفَهُ رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا رَكْعَةً وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا، وَرَوَيَا مِثْلَ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ زَادِ الْمَعَادِ وَهُوَ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْقَوْلُ بِهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا ; إِذْ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا أَتَمَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَاتِ الْإِتْمَامِ: بِأَنَّ أَقَلَّ الْوَاجِبِ فِي الْخَوْفِ مَعَ السَّفَرِ رَكْعَةٌ، وَيَجُوزُ جَعْلُهَا رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ صَلَاةِ السَّفَرِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ صَلَاةَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا يَتَّجِهُ هَذَا إِلَّا بِنَقْلٍ يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ وَلَوْ بِبَيَانِ أَنَّ الْخَوْفَ كَانَ شَدِيدًا فِي الْغَزَوَاتِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً بِكُلِّ طَائِفَةٍ وَلَمْ تَقْضِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَيْ لَمْ تُتِمَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْأَعْمَالُ لَا تُعَدُّ شُرُوطًا لَهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ.
(5)
رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ فَقَامَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ وَظُهُورُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبَّرَ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا الَّذِينَ مَعَهُ، وَالَّذِينَ مُقَابِلُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَرَكَعَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتِ
الطَّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَامَ وَقَامَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ فَذَهَبُوا إِلَى الْعَدُوِّ فَقَابَلُوهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا فَرَكَعَ رَكْعَةً أُخْرَى وَرَكَعُوا مَعَهُ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ كَانَ السَّلَامُ فَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا جَمِيعًا، فَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَانِ.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ تُشَارِكُ مَا قَبْلَهَا بِكَوْنِهَا مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي كَانَ الْعَدُوُّ فِيهَا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَكَوْنُهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ نَجْدٍ وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَكَانَتْ بِأَرْضِ غَطَفَانَ، وَهُنَاكَ مَكَانٌ يُسَمَّى بَطْنَ نَخْلٍ وَهُوَ الَّذِي صَلَّى فِيهِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتُخَالِفُهَا كُلُّهَا
كَمَا تُخَالِفُ مَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا لِلْقِيَامِ تُجَاهَ الْعَدُوِّ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَتُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَقْتَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ فَصَرَّحَتْ بِأَنَّهُ كَبَّرَ مَعَهُ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَهُ قَالَتْ: " كَبَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرَتِ الطَّائِفَةُ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا، ثُمَّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَجَدُوا هُمْ لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَامُوا فَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى حَتَّى قَامُوا مِنْ وَرَائِهِمْ وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَقَامُوا فَكَبَّرُوا ثُمَّ رَكَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَجَدَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدُوا لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَامَتِ الطَّائِفَتَانِ جَمِيعًا فَصَلُّوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَكَعَ فَرَكَعُوا ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا جَمِيعًا ثُمَّ عَادَ فَسَجَدَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدُوا مَعَهُ سَرِيعًا كَأَسْرَعِ الْإِسْرَاعِ ثُمَّ سَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمُوا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَارَكَهُ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي عَنْعَنَتِهِ لَا فِي سَمَاعِهِ، وَهَذِهِ كَيْفِيَّةٌ أُخْرَى أَجْدَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا لِخُلُوِّهَا مِنْ ذِكْرِ الْإِحْرَامِ مَعَ عِلْمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَكَأَنَّ عَائِشَةَ أَجَابَتْ عَنْ تَرْكِ الْحِرَاسَةِ بِالْإِسْرَاعِ فِي السُّجُودِ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَمَا أَرَى أَنَّ الشَّيْخَيْنِ تَرَكَا ذِكْرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي صَحِيحِيهِمَا لِأَجْلِ سَنَدَيْهِمَا فَقَطْ.
(6)
رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ خَلْفَهُ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعَنَا جَمِيعًا ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَقَامَ الصَّفُّ الْآخَرُ فِي نَحْرِ الْعَدْوِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَفَعَنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا قَالَ فِي الْمُنْتَقَى بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَقَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِعُسْفَانَ وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ وَالْبُخَارِيُّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: إِنَّ جَابِرًا صَلَّى
مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأُجِيبُ بِتَعَدُّدِ الصَّلَاةِ وَحُضُورِ جَابِرٍ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَعُسْفَانُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ.
وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى نَصِّ الْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ كَانَ فِيهَا الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ فَاحْتِيجَ إِلَى وُقُوفِ طَائِفَةٍ تُجَاهَهُ لِحِرَاسَةِ الْمُصَلِّينَ وَلِهَذَا اسْتَنْكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ فِي الْكَيْفِيَّةِ الْخَامِسَةِ، وَفِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَاكْتُفِيَ فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا يَسْجُدَ الصَّفَّانِ مَعًا بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ ; لِأَنَّ حَالَ الْعَدُوِّ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي وَقْتِ السُّجُودِ.
(7)
رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (2: 239) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا رِجَالًا - جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ مَا يُقَابِلُ الرَّاكِبَ - قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ مَالِكٌ قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ مَرْفُوعًا قَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَقَالَ: " فَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ
ذَلِكَ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا "، أَيْ: يُصَلِّي كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُ وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِيمَاءً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ صَلَاةُ النَّاسِ فُرَادَى عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ أَوِ الْفِرَارِ مِنَ الْخَوْفِ، لَا مِنَ الزَّحْفِ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ الْعَدُوِّ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ يَطْلُبُ الْعَدُوَّ وَمَنْ يَطْلُبُهُ الْعَدُوُّ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَطْلُوبَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ يُومِئُ إِيمَاءً وَإِنْ كَانَ طَالِبًا نَزَلَ فَصَلَّى بِالْأَرْضِ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ أَصْحَابِهِ فَيَخَافُ عَوْدَ الطَّلُوبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مُتَعَقَّبٌ بِكَلَامِ الْأَوْزَاعِيِّ فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ طَالِبًا مِنْ مَطْلُوبٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ عَمَلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ لِيَقْتُلَهُ إِذْ كَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: " فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي وَأُومِئُ إِيمَاءً "، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ مِنَ الْآيَةِ التَّالِيَةِ كَمَا يَأْتِي.
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ، أَيْ: أَدَّيْتُمُوهَا وَأَتْمَمْتُمُوهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ كَمَا بَيَّنَّا لَكُمْ مِنَ الْقَصْرِ مِنْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ (2: 200)، فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ أَيْ: اذْكُرُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ بِتَذَكُّرِ وَعْدِهِ بِنَصْرِ مَنْ
يَنْصُرُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِعْدَادِ الثَّوَابِ وَالرِّضْوَانِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَهُ مَا دَامُوا مُهْتَدِينَ بِكِتَابِهِ، جَارِينَ عَلَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِأَلْسِنَتِكُمْ بِالْحَمْدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، اذْكُرُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَكُونُونَ عَلَيْهَا مِنْ قِيَامٍ فِي الْمُسَايَفَةِ وَالْمُقَارَعَةِ، وَقُعُودٍ لِلرَّمْيِ أَوِ الْمُصَارَعَةِ، وَاضْطِجَاعٍ مِنَ الْجِرَاحِ أَوِ الْمُخَادَعَةِ، لِتَقْوَى قُلُوبُكُمْ وَتَعْلُوَ هِمَمُكُمْ، وَتَحْتَقِرُوا مَتَاعِبَ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا فِي سَبِيلِهِ فَهَذَا مِمَّا يُرْجَى بِهِ الثَّبَاتُ وَالصَّبْرُ، وَمَا يَعْقُبُهُمَا مِنَ الْفَلَاحِ وَالنَّصْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (8: 45) .
وَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالذِّكْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَكُونُ عَلَيْهَا فِي الْحَرْبِ كَمَا يُعْطِيهِ السِّيَاقُ، فَأَجْدَرُ بِنَا أَنْ نُؤْمَرَ بِذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ السِّلْمِ كَمَا يُعْطِيهِ الْإِطْلَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي حَرْبٍ
دَائِمَةٍ وَجِهَادٍ مُسْتَمِرٍّ، تَارَةً يُجَاهِدُ الْأَعْدَاءَ، وَتَارَةً يُجَاهِدُ الْأَهْوَاءَ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْعُقَلَاءَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (3: 191) ، وَأَمَرَهُمْ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَذَكَرَ اللهُ أَعْوَانَ مَا يُعِينُ عَلَى تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الْغَافِلُونَ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَا يَفْرِضُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا جَزَاءً مَعْلُومًا ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ عُذْرٍ، غَيْرَ الذِّكْرِ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ، إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، فَقَالَ: فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّقَمِ وَالصِّحَّةِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ اهـ.
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أَيْ: فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُكُمْ بِالْأَمْنِ وَزَالَ خَوْفُكُمْ مِنَ الْعَدُّوِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، أَيِ ائْتُوا بِهَا مَقُومَةً تَامَّةَ الْأَرْكَانِ وَالْحُدُودِ وَالْآدَابِ، لَا تُقَصِّرُوا مِنْ هَيْئَتِهَا كَمَا أَذِنَ لَكُمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْخَوْفِ، وَلَا مِنْ رَكَعَاتِهَا وَنِظَامِ جَمَاعَتِهَا كَمَا أَذِنَ لَكُمْ فِي حَالٍ أُخْرَى مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالِاطْمِئْنَانِ الِاسْتِقْرَارُ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّفَرِ لِأَنَّهُ مَظَنَّتُهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُقَابِلًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ إِذَا عَرَضَ الْخَوْفُ، وَمِنْ كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَالْمُرَادُ بِالِاطْمِئْنَانِ فِيهِ مَا يُقَابِلُ السَّفَرَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ مَا يُقَابِلُ الْقَصْرَ مِنْهَا بِنَوْعَيْهِ: الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا وَحُدُودِهَا، وَالْقَصْرُ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ تُقَابِلُهُ الْإِقَامَةُ، وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا أَقَمْتُمْ، وَالْخَوْفُ يُقَابِلُهُ الْأَمْنُ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (106: 4) ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا فَإِذَا أَمِنْتُمْ، وَمَعْنَى الِاطْمِئْنَانِ السُّكُونُ بَعْدَ اضْطِرَابٍ وَانْزِعَاجٍ فَهُوَ يُقَابِلُ كُلًّا مِنَ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ زَالَ خَوْفُهُ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ اطْمَأَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاطْمِئْنَانِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَنِ انْتَهَى سَفَرُهُ وَاسْتَقَرَّ فِي وَطَنِهِ أَنَّهُ اطْمَأَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاطْمِئْنَانِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ وَرَدَتَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا صَلَاةِ السَّفَرِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ قَدْ ثَبَتَ الْقَصْرُ فِيهَا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ،
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا شُرِعَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ فَقَطْ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ، وَمَعَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا جَامِعَتَانِ لِصَلَاةِ السَّفَرِ بِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ فِيهِ، وَلِصَلَاةِ الْخَوْفِ بِأَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا مَا تَكُونُ فَرِيضَةُ الْمَأْمُومِ فِيهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْإِيمَاءِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ فِي اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَفْهُومًا أَوْ جَعَلَ مَفْهُومَهُ مَنْسُوخًا، وَمَنْ فَصَلَ فَجَعَلَ شَرْطَ السَّفَرِ خَاصًّا بِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى ثِنْتَيْنِ وَشَرْطَ الْخَوْفِ خَاصًّا بِقَصْرِهَا إِلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ الْقَصْرِ مِنْ هَيْئَتِهَا وَأَرْكَانِهَا.
وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْنَى آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَجَعَلَ قَضَاءَ الصَّلَاةِ فِيهَا عِبَارَةً عَنْ أَدَائِهَا، وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْقِتَالِ فَصَلُّوا قِيَامًا مُسَايِفِينَ وَمُقَارِعِينَ، وَقُعُودًا جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ مُرَامِينَ، وَعَلَى جُنُوبِكُمْ مُثْخَنِينَ بِالْجِرَاحِ، وَفَسَّرَ الِاطْمِئْنَانَ بِالْأَمْنِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ مَا صَلَّى بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، أَيِ الْقَضَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ وَهُوَ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، وَجَعَلَ الْآيَةَ بِهَذَا حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي حَالِ الْقِتَالِ فِي الْمَعْرَكَةِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ ثُمَّ قَضَائَهَا فِي وَقْتِ الْأَمْنِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يُجِيزُ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَتَأْخِيرَهَا إِلَى أَنْ يَطْمَئِنَّ، وَقَدْ خَرَجَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَفْظَيِ الْقَضَاءِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ الدَّقِيقُ فِي فَهْمِ اللُّغَةِ وَتَفْسِيرِ أَكْثَرِ الْآيَاتِ بِمَا يُفْصِحُ عَنْهُ صَمِيمُهَا الْمَحْضُ، أُسْلُوبُهَا الْغَضُّ فَسُبْحَانَ الْمُنَزَّهِ عَنِ الذُّهُولِ وَالسَّهْوِ.
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا هَذَا تَذْيِيلٌ فِي تَعْلِيلِ وُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى فِي وَقْتِ الْخَوْفِ وَلَوْ مَعَ الْقَصْرِ مِنْهَا، أَيْ: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي حُكْمِ اللهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِي هِدَايَةِ عِبَادِهِ كِتَابًا، أَيْ: فَرْضًا مُؤَكَّدًا ثَابِتًا ثُبُوتَ الْكِتَابِ فِي اللَّوْحِ أَوِ الطِّرْسِ، مَوْقُوتًا، أَيْ: مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ لَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا فِيهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَوْقَاتِهَا مَقْصُورًا مِنْهَا بِشَرْطِهِ خَيْرٌ مِنْ تَأْخِيرِهَا لِقَضَائِهَا تَامَّةً، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ حِكْمَةِ التَّوْقِيتِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:" إِنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ "، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ مَوْقُوتًا مُنَجَّمًا، كُلَّمَا مَضَى نَجْمٌ جَاءَ نَجْمٌ، قَالَ: يَقُولُ: كُلَّمَا مَضَى وَقْتٌ جَاءَ وَقْتٌ آخَرُ اهـ، يُقَالُ: وَقَتَ الْعَمَلَ يَقِتُهُ كَوَعَدَهُ يَعِدُهُ، وَوَقَّتَهُ تَوْقِيتًا إِذَا جَعَلَ لَهُ
وَقْتًا يُؤَدَّى فِيهِ، وَيُقَالُ: أَقَّتَهُ أَيْضًا بِالْهَمْزَةِ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ، كَمَا يُقَالُ: وَكَّدْتُ الشَّيْءَ تَوْكِيدًا وَأَكَّدْتُهُ تَأْكِيدًا.
حُكْمُ تَوْقِيتِ الصَّلَاةِ
التَّشْكِيكُ شَنْشَنَةٌ لِأَهْلِ الْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ مِنْ دُعَاةِ الْمِلَلِ، وَمُتَعَصِّبِي مُقَلَّدَةِ الْمَذَاهِبِ وَالنِّحَلِ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ يَتَّخِذُونَهُ صِنَاعَةً وَحِرْفَةً كَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ عَرَفْنَاهُمْ فِي بِلَادِنَا، وَقَدْ صَارَ بَعْضُ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ يُرَوَّجُ فِي سُوقِ الْمُتَفَرْنِجِينَ، فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ مِنَ التَّفَصِّي مِنْ عُقُلِ الدِّينِ، وَمِنْ أَغْرَبِ ذَلِكَ اعْتِرَاضُهُمْ عَلَى تَوْقِيتِ الصَّلَاةِ وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهَا رُسُومًا صُورِيَّةً، وَعَادَاتٍ بَدَنِيَّةً، وَأَنَّ الْمَعْقُولَ أَنْ يُوَكَّلَ هَذَا إِلَى اخْتِيَارِ الْمُؤْمِنِ فَيَذْكُرُ رَبَّهُ وَيُنَاجِيهِ عِنْدَمَا يَجِدُ فَرَاغًا تَسْلَمُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الشَّوَاغِلِ، وَلَا تُوجَدُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ أَوِ الْقَوَانِينِ، وَلَا نَظَرِيَّةٌ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَلَا مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِ وَالْآدَابِ، إِلَّا وَيُمْكِنُ الْجِدَالُ فِيهَا، وَالْمِرَاءُ فِي نَفْعِهَا أَوْ ضَرِّهَا، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 1328 هـ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَأَجَبْتُ عَنْهَا جَوَابًا وَجِيزًا مُسْتَعْجَلًا نُشِرَ فِي ص 579 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ، وَقَدْ وَرَدَ مَعَ أَسْئِلَةٍ أُخْرَى:
" إِذَا كَانَتِ الْغَايَةُ مِنَ الصَّلَاةِ هِيَ الْإِخْلَاصُ لِلْخَالِقِ بِالْقَلْبِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَرْقِيَةِ النُّفُوسِ، وَكَانَ مِنَ الْمُحَتَّمِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ صَلَاتَهُ بِمَوَاعِيدَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ وَالنَّاسُ عَلَى مَا تَرَى، أَنَّ كُلَّ الصَّلَوَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ هِيَ بِإِخْلَاصٍ عِنْدَ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ؟ وَإِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْقَلِيلُ مِنْهَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدِّينِ وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ فَلِمَاذَا لَا تُتْرَكُ الْحُرِّيَّةُ التَّامَّةُ لِلنَّاسِ فِي تَحْدِيدِ مَوَاعِيدِ إِقَامَةِ صَلَوَاتِهِمْ؟ وَإِلَّا فَمَا هِيَ الْفَائِدَةُ الَّتِي تَعُودُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِلَا إِخْلَاصٍ وَلَا مَيْلٍ حَقِيقِيٍّ لِلْعِبَادَةِ، بَلِ اتِّبَاعًا لِلْمَوَاعِيدِ، وَاحْتِرَامًا لِلتَّقَالِيدِ؟
وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ:
الْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَتَّضِحُ لَكُمْ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ تَفَاوُتَ الْبَشَرِ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَكَوْنَ
الدِّينِ هِدَايَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ لَا خَاصًّا بِمَنْ كَانَ مِثْلَكُمْ قَوِيَّ الِاسْتِعْدَادِ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَفِيهِ الْفَائِدَةُ وَالْخَيْرُ، بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ إِلَى اجْتِهَادِهِ لَا يَتْرُكُ الْعِنَايَةَ بِتَكْمِيلِ إِيمَانِهِ، وَتَهْذِيبِ نَفْسِهِ، وَشُكْرِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْمَدَارِسِ الْعَالِيَةِ وَالْبَاحِثِينَ فِي عِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ يَنْتَقِدُونَ مَشْرُوعِيَّةَ تَوْقِيتِ الصَّلَوَاتِ وَالْوُضُوءِ وَقَرْنَ مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ بِعِلَلٍ مُوجِبَةٍ وَعِلَلٍ غَيْرِ مُوجِبَةٍ عَلَى الْحَتْمِ، وَلَكِنْ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ، وَرُبَّمَا انْتَقَدُوا أَيْضًا وُجُوبَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَجِبُ أَنْ تُتْرَكَ لِاجْتِهَادِ الْإِنْسَانِ يَأْتِيهَا عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَالْعَقْلُ يُحَدِّدُ ذَلِكَ وَيُوَقِّتُهُ! ! هَؤُلَاءِ تَرَبَّوْا عَلَى شَيْءٍ وَتَعَلَّمُوا فَائِدَتَهُ فَحَسِبُوا لِاعْتِيَادِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّهُمُ اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ وَلَمْ يَحْتَاجُوا فِيهِ إِلَى إِيجَابِ مُوجِبٍ وَلَا فَرْضِ شَارِعٍ،
وَأَنَّ مَا جَازَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَكِلَا الْحُسْبَانَيْنِ خَطَأٌ، فَهُمْ قَدْ تَرَبَّوْا عَلَى أَعْمَالٍ مِنَ الطَّهَارَةِ - النَّظَافَةِ - مِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ كَغَسْلِ الْأَطْرَافِ فِي الصَّبَاحِ - التُّوَالِيتْ - وَهُوَ مِثْلُ الْوُضُوءِ، أَوِ الْغُسْلِ الْعَامِّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَتَعَلَّمُوا مَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ وَالْفَائِدَةِ، فَقِيَاسُ سَائِرِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ خَطَأٌ جَلِيٌّ.
إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ فِي وَقْتِهِ إِذَا تُرِكَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَرَى الْبُيُوتَ الَّتِي لَا يَلْتَزِمُ أَصْحَابُهَا أَوْ خَدَمُهَا كَنْسَهَا وَتَنْفِيضَ فُرُشِهَا وَأَثَاثِهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ - عُرْضَةً لِلْأَوْسَاخِ، فَتَارَةً تَكُونُ نَظِيفَةً، وَتَارَةً تَكُونُ غَيْرَ نَظِيفَةٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَكْنُسُونَهَا وَيَنْفُضُونَ فُرُشَهَا وَبُسُطَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ لَمْ يُلِمَّ بِهَا أَذًى أَوْ غُبَارٌ فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ نَظِيفَةً دَائِمًا ; فَإِذَا كَانَتِ الْفَلْسَفَةُ تَقْضِي بِأَنْ يُزَالَ الْوَسَخُ وَالْغُبَارُ بِالْكَنْسِ وَالْمَسْحِ وَالتَّنْفِيضِ عِنْدَ حُدُوثِهِ، وَأَنْ يُتْرَكَ الْمَكَانُ أَوِ الْفِرَاشُ أَوِ الْبِسَاطُ عَلَى حَالِهِ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَالتَّرْبِيَةُ التَّجْرِيبِيَّةُ تَقْضِي بِأَنْ تُتَعَهَّدَ الْأَمْكِنَةُ وَالْأَشْيَاءُ بِأَسْبَابِ النَّظَافَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعِينَةٍ لِيَكُونَ التَّنْظِيفُ خُلُقًا وَعَادَةً لَا تَثْقُلُ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ حُدُوثِ أَسْبَابِهَا، فَمَنِ اعْتَادَ الْعَمَلَ لِدَفْعِ الْأَذَى قَبْلَ حُدُوثِهِ أَوْ قَبْلَ كَثْرَتِهِ فَلَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي دَفْعِهِ بَعْدَ حُدُوثِهِ أَوْلَى وَأَسْهَلُ.
وَعِنْدِي أَنْ أَظْهَرَ حِكْمَةٍ لِلتَّيَمُّمِ هِيَ تَمْثِيلُ حَرَكَةِ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَمْرُهَا
مُقَرَّرًا فِي النَّفْسِ مُحَتَّمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ لِي " مِتْشِلْ أَنَسٍ " وَكِيلُ الْمَالِيَّةِ بِمِصْرَ فِي عَهْدِ " كُرُومَرْ ": إِنَّهُ يُوجَدُ إِلَى الْآنَ فِي أُورُبَّةَ أُنَاسٌ لَا يَغْتَسِلُونَ مُطْلَقًا، وَإِنَّنَا نَحْنُ الْإِنْكِلِيزُ أَكْثَرُ الْأُورُبِّيِّينَ اسْتِحْمَامًا، وَإِنَّمَا اقْتَبَسْنَا عَادَةَ الِاسْتِحْمَامِ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ، ثُمَّ سَبَقَنَا جَمِيعَ الْأُمَمِ فِيهَا، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَقَابِلْهُ بِعَادَاتِ الْأُمَمِ فِي النَّظَافَةِ الَّتِي هِيَ الرَّكْنُ الْعَظِيمُ لِلصِّحَّةِ وَالْهَنَاءِ.
وَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَعْمَالِ الْعَسْكَرِيَّةِ كَالْخِفَارَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَجَعَلَهَا مَرْتَبَةً مَوْقُوتَةً مَفْرُوضَةً بِنِظَامٍ غَيْرَ مَوْكُولَةٍ إِلَى غَيْرَةِ الْأَفْرَادِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
إِذَا تَدَبَّرْتَ مَا ذَكَرْنَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - شَرَعَ الدِّينَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ فِطْرَةِ النَّاسِ وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي يَعْتِقُهُمْ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِمْ، وَبِشُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِاسْتِعْمَالِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَمَنْعِ الشَّرِّ، وَلَا عَمَلَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ وَيُغَذِّيهِ وَيَزَعُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيُحَبِّبُ إِلَيْهَا الْخَيْرَ وَيُرَغِّبُهَا فِيهِ - مِثْلُ ذِكْرِ اللهِ عز وجل، أَيْ: تَذَكُّرُ كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَقَرُّبُ عَبْدِهِ إِلَيْهِ بِالتَّخَلُّقِ بِصِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا تَنْسَ أَنَّ الصَّلَاةَ شَامِلَةٌ لِعِدَّةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا بِحَقِّهَا قَوِيَتْ مُرَاقَبَتُةُ لِلَّهِ عز وجل وَحُبُّهُ لَهُ، أَيْ: حُبُّهُ لِلْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَبِقَدْرِ ذَلِكَ تَنْفُرُ نَفْسُهُ مِنَ الشَّرِّ وَالنَّقْصِ، وَتَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ، وَلَا يُحَافِظُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ
مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ عَلَى شَيْءٍ مَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا مُعَيَّنًا وَكِتَابًا مَوْقُوتًا، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ الْمُهَذِّبِ لِلنَّفْسِ - وَهُوَ الصَّلَاةُ - تَرْبِيَةٌ عَمَلِيَّةٌ لِلْأُمَّةِ تُشْبِهُ الْوَظَائِفَ الْعَسْكَرِيَّةَ فِي وُجُوبِ اطِّرَادِهَا وَعُمُومِهَا وَعَدَمِ الْهَوَادَةِ فِيهَا، وَمَنْ قَصَّرَ فِي هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الذَّكْرِ الْمُوَزَّعِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَنْسَى رَبَّهُ وَنَفْسَهُ، وَيَغْرَقَ فِي بَحْرٍ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَمَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ وَزَكَتْ نَفْسُهُ لَا يَرْضَى بِهَذَا الْقَلِيلِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنَ النَّافِلَةِ وَمِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَرِ الْأُخْرَى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَزِيدَ، وَيَتَحَرَّى فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْقَاتَ الْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ الَّتِي يَرْجُو فِيهَا حُضُورَ قَلْبِهِ وَخُشُوعَهُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ السَّائِلُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ
أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِنَّمَا كَانَتْ مَوْقُوتَةً ; لِتَكُونَ مُذَكِّرَةً لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ; لِئَلَّا تَحْمِلَهُمُ الْغَفْلَةُ عَلَى الشَّرِّ أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْخَيْرِ، وَلِمُرِيدِي الْكَمَالِ فِي النَّوَافِلِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ أَنْ يَخْتَارُوا الْأَوْقَاتَ الَّتِي يَرَوْنَهَا أَوْفَقَ بِحَالِهِمْ.
وَإِذَا رَاجَعْتَ تَفْسِيرَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ (2: 238) ، فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا تَجِدُ بَيَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا، وَبَيَانَ كَوْنِ الصَّلَاةِ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا وَاظَبَ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَا تَحْضُرُ قُلُوبُهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى تِكْرَارِهَا فَلَا صَلَاةَ لَهُمْ فَلْيُجَاهِدُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتَغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا نَزَلَ فِيهَا إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ (3: 140) ، حِينَ بَاتُوا مُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحِ، أَقُولُ: وَقَبْلَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ هَذِهِ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 139) ، [رَاجِعْ ص 119 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ج 4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، فَالظَّاهِرُ أَنَّ عِكْرِمَةَ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ (أُحُدٍ) رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَنْبَطَ مِنْ مُوَافَقَةِ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لِآيَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِثْلَهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ثُمَّ جَاءَ الْجَلَالُ فَنَقَلَ رَأْيَ عِكْرِمَةَ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ فَأَخْطَأَ فِي تَصْوِيرِهِ إِذْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ " لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ فَشَكُوا الْجِرَاحَاتِ " وَقَدْ رَدَّ قَوْلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ فَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ يَرْغَبُونَ اقْتِفَاءَ أَثَرِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى إِثْقَالِهِمْ بِالْجِرَاحِ، وَلَا حَاجَةَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ إِلَى مَا ذَكَرَ بَلْ هُوَ مُنَافٍ لِلْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ إِذِ الْقِصَّةُ ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ تَامَّةً، وَهَذِهِ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامٍ أُخْرَى.
ثُمَّ قَالَ: كَانَ الْكَلَامُ فِيمَا سَبَقَ فِي شَأْنِ الْحَرْبِ وَمَا يَقَعُ فِيهَا وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ
الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا
وَمَا يُرَاعَى فِيهَا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ مُتَأَهِّبًا لِلْحَرْبِ مِنَ الْيَقَظَةِ وَأَخْذِ الْحَذَرِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِي أَثْنَائِهَا، وَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ لَهُمْ وَتَرَبُّصِهِمْ غَفْلَتَهُمْ وَإِهْمَالَهُمْ لِيُوقِعُوا بِهِمْ، بَعْدَ هَذَا نَهَى عَنِ الضَّعْفِ فِي لِقَائِهِمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى كَوْنِ الْمُشْرِكِينَ أَجْدَرَ بِالْخَوْفِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ مَا فِي الْقِتَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ مِنَ الْأَلَمِ وَالْمَشَقَّةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَيَمْتَازُ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّ عِنْدَهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِاللهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْكَافِرِ، فَهُوَ يَرْجُو مِنْهُ النَّصْرَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ، وَيَرْجُو ثَوَابَ الْآخِرَةِ عَلَى جِهَادِهِ لِأَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقُوَّةُ الرَّجَاءِ تُخَفِّفُ كُلَّ أَلَمٍ وَرُبَّمَا تُذْهِلُ الْإِنْسَانَ عَنْهُ وَتُنْسِيهِ إِيَّاهُ اهـ.
أَقُولُ: فَالْآيَةُ تُفَسَّرُ هَكَذَا وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، أَيْ: عَلَيْكُمْ بِالْعَزِيمَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ مَعَ أَخْذِ الْحَذَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ حَتَّى لَا يُلِمَّ بِكُمُ الْوَهْنُ - وَهُوَ الضَّعْفُ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْخَلْقِ أَوِ الْخُلُقِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَاصَبُوكُمُ الْعَدَاوَةَ أَيْ طَلَبِهِمْ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالْهُجُومِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ عِنْدَ أَدَائِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَلْتَزِمُ الدِّفَاعَ فِي الْحَرْبِ تَضْعُفُ نَفْسُهُ وَتَهِنُ عَزِيمَتُهُ، وَالَّذِي يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى الْمُهَاجَمَةِ تَعْلُو هِمَّتُهُ، وَتَشْتَدُّ عَزِيمَتُهُ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِ، وَأَمْرٌ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُضَادُّهُ، فَتَحُولُ دُونَ عُرُوضِهِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ; لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْوَجَعِ وَالْأَلَمِ مِثْلُ مَا يَعْرِضُ لَكُمْ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْأَجْسَامِ الْحَيَّةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَتَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَهُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَقَدْ وَعَدَكُمُ اللهُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ النَّصْرَ أَوِ الْجَنَّةَ بِالشَّهَادَةِ إِذَا كُنْتُمْ لِلْحَقِّ تَنْصُرُونَ، وَعَنِ الْحَقِيقَةِ تُدَافِعُونَ، فَهَذَا التَّوْحِيدُ فِي الْإِيمَانِ، وَالْوَعْدِ مِنَ الرَّحْمَنِ هُمَا مَدْعَاةُ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ، وَمَنْفَاةُ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، وَالرَّجَاءُ يَبْعَثُ الْقُوَّةَ، وَيُضَاعِفُ الْعَزِيمَةَ، فَيَدْأَبُ صَاحِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَالْيَأْسُ يُمِيتُ الْهِمَّةَ، وَيُضْعِفُ الْعَزِيمَةَ، فَيَغْلِبُ عَلَى صَاحِبِهِ الْجَزِعُ وَالْفُتُورُ، فَإِذَا اسْتَوَيْتُمْ
مَعَهُمْ فِي آلَامِ الْأَبْدَانِ، فَقَدْ فَضَلْتُمُوهُمْ بِقُوَّةِ الْوِجْدَانِ، وَجُرْأَةِ الْجَنَانِ، وَالثِّقَةِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَأَنْتُمْ إِذَنْ أَجْدَرُ بِالْمُهَاجَمَةِ، فَلَا تَهِنُوا بِالْتِزَامِ خُطَّةِ الْمُدَافَعَةِ، وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ الْمُحِيطِ، وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ الثَّابِتَةُ، بِأَنْ يَكُونَ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَمَا دَامُوا بِهَدْيِهِ عَامِلِينَ، وَعَلَى سُنَنِهِ سَائِرِينَ ; لِأَنَّ أَقَلَّ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا مُسَاوِينَ لِلْكُفَّارِ فِي عَدَدِ الْقِتَالِ وَأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ وَهُمْ يَفْضُلُونَهُمْ بِالْقُوَى وَالْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، وَإِذَا أَقَامُوا الْإِسْلَامَ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُقَامَ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ لِلْقِتَالِ اسْتِعْدَادًا، وَأَحْسَنَ نِظَامًا وَسِلَاحًا.
فَهَذِهِ الْآيَةُ بُرْهَانٌ عِلْمِيٌّ عَقْلِيٌّ عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ التَّفْسِيرِ مِنْ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ، وَنَقَلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَرْبِ الْإِنْكِلِيزِ لِأَهْلِ الْتِرَنْسِفَالِ
اعْتِرَافَ الْأُورُبِّيِّينَ بِكَوْنِ الْإِيمَانِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ، فَمَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ لَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ بِعَرْضِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَالنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَهُ مِنْ مَزَايَا الْإِيمَانِ! ؟
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى
نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا يَقُولُ الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: قَالَ فَلَانٌ كَذَا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَابْتَاعَ عَمِّي رَفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ فِيهَا سِلَاحٌ وَدِرْعٌ وَسَيْفٌ، فَعَدَى عَلَيْهِ مِنْ تَحْتُ فَنَقَبْتُ الْمَشْرَبَةَ وَأَخَذَ الطَّعَامَ وَالسِّلَاحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رَفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا وَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا، فَتَجَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ، فَقَالَ بَنُو أُبَيْرِقٍ: وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ، وَاللهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ، رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيَدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ؟ وَاللهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكُّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا وَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ
وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَبَيِّنَةٍ؟ فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَقَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، بَنِي أُبَيْرِقٍ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ، أَيْ: مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ إِلَى قَوْلِهِ: عَظِيمًا فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالسِّلَاحِ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ وَلَحِقَ بَشِيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى (4: 115)، إِلَى قَوْلِهِ: ضَلَالًا بَعِيدًا (4: 116) ، قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَدِهِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: " عَدَا بَشِيرُ بْنُ الْحَارِثِ عَلَى عَلِيَّةِ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ عَمِّ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فَنَقَبَهَا مِنْ ظَهْرِهَا وَأَخَذَ طَعَامًا لَهُ وَدِرْعَيْنِ بِأَدَاتِهِمَا فَأَتَى قَتَادَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَدَعَا بَشِيرًا فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ وَرَمَى بِذَلِكَ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَا حَسَبٍ وَنَسَبٍ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَكْذِيبِ بَشِيرٍ وَبَرَاءَةِ لَبِيَدٍ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ الْآيَاتِ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
وَرَوَى
ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِي شَأْنِ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَفِيمَا هَمَّ بِهِ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ عُذْرِهِ، وَبَيِنَّ اللهُ شَأْنَ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، وَوَعَظَ نَبِيَّهُ وَحَذَّرَهُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَكَانَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي ظَفَرٍ سَرَقَ دِرْعًا لِعَمِّهِ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، ثُمَّ قَذَفَهَا عَلَى يَهُودِيٍّ كَانَ يَغْشَاهُمْ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِيرِ، فَجَاءَ الْيَهُودِيُّ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهْتِفُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمُهُ بَنُو ظَفَرٍ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِيَعْذُرُوا صَاحِبَهُمْ، وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ عليه السلام قَدْ هَمَّ بِعُذْرِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي شَأْنِهِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ: وَلَا تُجَادِلْ إِلَخْ، وَكَانَ طُعْمَةُ قَذَفَ بِهَا بَرِيئًا، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ شَأْنَ طُعْمَةَ نَافَقَ وَلَحِقَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ فَأَنْزِلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَسُرِقَتْ لِأَحَدِهِمْ دِرْعٌ فَأَظَنَّ بِهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ سَرَقَ
دِرْعِي، فَأْتِ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي قَدْ غَيَّبْتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُمْ، فَانْطَلَقُوا إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنْ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ، وَإِنَّ سَارِقَ الدِّرْعِ فَلَانٌ، وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْمًا فَاعْذُرْ صَاحِبَنَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَجَادِلْ عَنْهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبَرَّأَهُ أَوْ عَذَرَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، إِلَى قَوْلِهِ: وَكِيلًا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ وَطَرَحَهَا عَلَى يَهُودِيٍّ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللهِ مَا سَرَقْتُهَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ طُرِحَتْ عَلَيَّ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَرَقَ جِيرَانٌ يُبَرِّئُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْيَهُودِيُّ الْخَبِيثُ يَكْفُرُ بِاللهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ: حَتَّى مَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَاتَبَهُ اللهُ عز وجل فِي ذَلِكَ فَقَالَ وَذَكَرَ الْآيَاتِ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّجُلِ: وَيُقَالُ: هُوَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ.
وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ دِرْعًا فَخَانَهُ فِيهَا وَأَخْفَاهَا فِي دَارِ أَبِي مَلِيكٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَهَانَ طُعْمَةُ وَأُنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ الْيَهُودِيَّ لَمَّا جَاءَ يَطْلُبُ دِرْعَهُ، وَجَادَلَتِ الْأَنْصَارُ عَنْ طُعْمَةَ، وَطَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يُجَادِلَ عَنْهُ إِلَخْ، وَقَدِ اخْتَارَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْخَائِنَ هُوَ طُعْمَةُ وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ هُوَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْحَقِّ.
هَذَا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَأَمَّا وَجْهُ الِاتِّصَالِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ مَا نَصَّهُ:
فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ،
ثُمَّ اتَّصَلَ بِذَلِكَ أَمْرُ الْمُحَارِبَةِ، وَاتَّصَلَ بِذِكْرِ الْمُحَارِبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَمِثْلُ بَيَانِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، رَجَعَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَحْمِلُوا الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِلِ وَيَذْرَ الْحُكْمَ
بِالْحَقِّ، فَأَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِأَلَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَقْبَلَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ بِإِنْزَالِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحِيدَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، طَلَبًا لِرِضَا قَوْمِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أُمِرَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْخِيَانَةُ مَعَهُمْ، وَلَا إِلْحَاقَ مَا لَمْ يَفْعَلُوا بِهِمْ، وَأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يُبِيحُ الْمُسَامَحَةَ بِالنَّظَرِ لَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَلَّا يَلْحَقَ الْكَافِرَ حَيْفٌ لِأَجْلِ أَنْ يَرْضَى الْمُنَافِقُ بِذَلِكَ اهـ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ حَذَّرَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَقِّ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ طَمْسَهُ بِإِهْلَاكِ أَهْلِهِ، أَرَادَ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِمَّا يُخْشَى عَلَى الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الْعِنَايَةِ بِالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَتَرْكِ حِفْظَهُ، فَإِنَّ إِهْمَالَ الْعِنَايَةِ بِالْحَقِّ أَشَدُّ الْخَطَرَيْنِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِفَقْدِ الْعَدْلِ أَوْ تَدَاعِي أَرْكَانِهِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ إِهْمَالُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الدِّينُ ; فَالْعَدُوُّ لَا يُمْكِنُهُ إِهْلَاكُ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ وَإِعْدَامُهَا، وَلَكِنَّ تَرْكَ الْأُصُولِ الْمُقَوِّمَةِ لِلْأُمَّةِ كَالْعَدْلِ، وَغَيْرِهِ يُهْلِكُ كُلَّ أُمَّةٍ تُهْمِلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ [وَذَكَرَ الْآيَةَ الْأُولَى] .
أَقُولُ: أَمَّا اتِّصَالُ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً فَالْأَقْرَبُ فِيهَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَيُمْكِنُ بَيَانُهُ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَيَسْتَعِدُّوا لِمُجَاهَدَتِهِمْ حِفْظًا لِلْحَقِّ أَنْ يُؤْتَى مِنَ الْخَارِجِ، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُومُوا بِمَا يَحْفَظُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يُؤْتَى مِنَ الدَّاخِلِ، وَأَنْ يُقِيمُوهُ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -، وَلَا يُحَارِبُوا فِيهِ أَحَدًا، وَأَمَّا اتِّصَالُهَا بِمَجْمُوعِ مَا قَبْلَهَا فَقَدْ عَلِمْنَا مِمَّا مَرَّ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْبُيُوتِ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (4: 36) ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى هُنَا تَنَوَّعَتِ الْآيَاتُ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ إِلَى مُجَادَلَةِ الْيَهُودِ، وَبَيَانِ حَالِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّعْيِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ كَالْيَهُودِ وَتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا لِيُطَاعَ، وَالتَّرْغِيبُ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ،
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَبَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِيهِ، وَقَدْ عَادَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا إِلَى تَأْكِيدِ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَلَامُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ بَعْدَ مَا حَتَّمَ اللهُ التَّحَاكُمَ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِطَاعَتِهِ
فِيمَا يَحْكُمُ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَكَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ فِي بَيَانِ وَاقِعَةٍ اشْتَرَكَ فِيهَا الْخِصَامُ بَيْنَ مَنْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ سَبَقَ شَرْحُ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَقَالَ عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ أَيْ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَبَيَانِهِ لِأَجْلِ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا عَلَّمَكَ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَاحْكُمْ بِهِ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، تُخَاصِمُ عَنْهُمْ وَتُنَاضِلُ دُونَهُمْ، وَهُمْ طُعْمَةُ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ سَرَقُوا الدِّرْعَ وَأَرَادُوا أَنْ يُلْصِقُوا جُرْمَهُمْ بِالْيَهُودِيِّ الْبَرِيءِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي السُّورَةِ الْآتِيَةِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (5: 49) ، فَالْحَقُّ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ يَهُودِيًا أَوْ مَجُوسِيًّا، أَوْ مُسْلِمًا حَنِيفِيًّا، قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ: بِمَا أَرَاكَ اللهُ، يَعْنِي بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، يَقُولُ: وَلَا تَكُنْ لِمَنْ خَانَ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ خَصِيمًا تُخَاصِمُ عَنْهُ وَتُدَافِعُ عَنْهُ مَنْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ الَّذِي خَانَهُ فِيهِ اهـ، وَتَسْمِيَةُ إِعْلَامِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ بِالْأَحْكَامِ إِرَاءَةٌ يَشْعُرُ بِأَنَّ عِلْمَهُ صلى الله عليه وسلم بِهَا يَقِينِيٌّ كَالْعِلْمِ بِمَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، فَعَطْفُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْحُكْمِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلَهَا لِارْتِبَاطِهِمَا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَتَهَاوَنْ بِتَحَرِّي الْحَقِّ اغْتِرَارًا بِلَحْنِ الْخَائِنِينَ، وَقُوَّةِ صَلَابَتِهِمْ فِي الْخُصُومَةِ ; لِئَلَّا تَكُونَ خَصِيمًا لَهُمْ وَتَقَعَ فِي وَرْطَةِ الدِّفَاعِ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ
أَنْ يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ فَقَطْ، أَوْ بِالْوَحْيِ تَارَةً وَبِالِاجْتِهَادِ أُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: أَرَاكَ اللهُ مَعْنَاهُ: أَعْلَمَكَ عِلْمًا يَقِينِيًّا كَالرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا الْوَحْيُ الَّذِي يَفْهَمُ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ مُرَادَ اللهِ فَهْمًا قَطْعِيًّا، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ:" لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِي اللهُ - تَعَالَى -، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا أَحَدُنَا فَرَأْيُهُ أَنْ يَكُونَ ظَنًّا لَا عِلْمًا "، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ ثُمَّ قَالَ:
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَحْكُمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالنَّصِّ، ثُمَّ فَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَا كَانَ جَائِزًا لَهُ، وَإِنَّمَا
يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْقِيَاسِ، وَعَدَمَ جَوَازِهِ لَوْلَا أَنْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الطُّوفِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِشَارَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ ": لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ، يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا نَصَّهُ لَكَ فِي الْكِتَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَرَاكَهُ بِوَاسِطَةِ نَظَرِكَ وَاجْتِهَادِكَ فِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَأَدِلَّتِهِ، وَفِيهِ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدِهِ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
" حُجَّةُ مَنْ أَجَازَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ مَنْصِبُ كَمَالٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَوِّتَهُ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ وَلَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهُ قَبْلَ قَتْلِهِ لَمْ أَقْتُلْهُ "، فِي قَضِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ.
حُجَّةُ الْمَانِعِ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (53: 3، 4) ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى يَقِينِ الْوَحْيِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ لِجَوَازِهِ فِي حَقِّهِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ.
" ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ لَهُ، هَلْ يَقَعُ مِنْهُ الْخَطَأُ فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ أَحَدُهُمَا: لَا، لِعِصْمَتِهِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ بِشَرْطِ أَلَّا يُقِرَّ عَلَيْهِ
اسْتِدْلَالًا بِنَحْوِ عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (9: 43)، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (8: 67) ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَسْأَلَةُ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ اللهُ عز وجل إِلَى نَبِيٍّ حُكْمَ أُمَّةٍ بِأَنْ يَقُولَ: احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِاجْتِهَادِكَ وَمَا حَكَمْتَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ، أَوْ وَأَنْتَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَقَرَّ بِهِمَا الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ إِصَابَةُ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَضْمُونٍ لَهُ ذَلِكَ، جَازَ لَهُ الْحُكْمُ.
أَوْ يُقَالُ: هَذَا التَّفْوِيضُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا انْتَهَى كَلَامُ الطُّوفِيِّ.
أَقُولُ: الْآيَةُ فِي الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ لَا فِي الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا عَلَيْهِ أَيْضًا وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ; لِأَنَّ هَذَا فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ كَلَامِهِ عليه الصلاة والسلام وَحْيًا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْقَطِعُ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، كَمَا كَانَ يُسْأَلُ أَحْيَانًا فَيُجِيبُ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لِلْوَحْيِ.
وَاسْتَغْفِرِ اللهَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " وَسَلْهُ أَنْ يَصْفَحَ لَكَ عَنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِكَ فِي مُخَاصَمَتِكَ عَنِ
الْخَائِنِ "، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي الِاسْتِغْفَارِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ:
1 -
لَعَلَّهُ مَالَ إِلَى نُصْرَةِ (طُعْمَةَ) لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
2 -
لَعَلَّهُ هَمَّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ عَمَلًا بِشَهَادَةِ قَوْمِ طُعْمَةَ الَّتِي لَمْ يُكَذِّبْهَا شَيْءٌ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ لَوَقَعَ قَضَاؤُهُ خَطَأً لِبِنَائِهِ عَلَى كَذِبِ الْقَوْمِ وَزُورِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالذَّنَبُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ.
3 -
يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: وَاسْتَغْفِرِ اللهَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُظْهِرُوا بَرَاءَتَهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ مِمَّا يَعْرِضُ لَكَ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ مِنْ نَحْوِ مَيْلٍ إِلَى مَنْ تَرَاهُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ، أَوِ الرُّكُونُ إِلَى مُسْلِمٍ لِأَجْلِ إِسْلَامِهِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ الِاشْتِبَاهَ، وَتَكُونُ صُورَةُ صَاحِبِهِ صُورَةَ مَنْ أَتَى الذَّنْبَ الَّذِي يُوجِبُ لَهُ الِاسْتِغْفَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِلزَيْغِ عَنِ الْعَدْلِ، وَالتَّحَيُّزِ إِلَى الْخَصْمِ، فَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْحَقِّ، كَأَنَّ مُجَرَّدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِ الْمُخَادِعِ كَافٍ إِلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيهِ.
أَقُولُ: ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَالَ إِلَى تَصْدِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ لِمَا كَانَ يَغْلُبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَعَلَى الْيَهُودِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: إِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُونُوا إِلَّا مُنَافِقِينَ ; لِأَنَّ مِثْلَ عَمَلِ طُعْمَةَ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَيَّدَهُ فِيهِ لَا يَصْدُرُ عَمْدًا إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، وَتَبِعَ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَدَّ لَوْ يَكُونُ الْفَلْجُ بِالْحَقِّ فِي الْخُصُومَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرَجَّحُ صِدْقُهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ انْتِظَارًا لِوَحْيِ اللهِ - تَعَالَى -، فَعَلَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَعَلَّمَنَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ الشَّخْصِيَّ، وَالْمَيْلَ الْفِطْرِيَّ وَالدِّينِيَّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ لَهُمَا أَثَرٌ مَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا أَنْ يُسَاعِدَ الْقَاضِي مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُسَاوِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى تَأْيِيدِ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يُفْضِي إِلَى مُسَاعَدَتِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَيَكُونُ الْحَاكِمُ خَصِيمًا عَنْهُ لَوْ فَعَلَ، وَإِذَا كَانَ طَلَبُ الِانْتِصَارِ لَهُمْ مِنَ الْخَائِنِينَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَقَدْ وَجَبَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ وَحُسْنِ الظَّنِّ فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُوَجَّهُ بِهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَبْلَغُ فِي تَنْزِيهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، أَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَا يَنْقُضُهَا شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ وَلَا الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْحُكْمِ أَوِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ مَا أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ أَوْ مَا يَرَوْنَ بِاجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْكُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِغَيْرِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَأْيِيدٌ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ أَحْسَنَ الظَّنَّ فِي
أَمْرٍ بَيَّنَ لَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ حَقِيقَةَ الْوَاقِعِ فِيهِ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ فِي مُعَامَلَةِ ذَوِيهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِرَارًا.
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ: يَخُونُونَهَا، بَلْ يَتَعَلَّمُونَ وَيَتَكَلَّفُونَ مَا يُخَالِفُ الْفِطْرَةَ مِنَ الْخِيَانَةِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّرَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْخَائِنِينَ يُوجَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهَذَا النَّهْيُ لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَشْرِيعٌ وُجِّهَ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً ;
وَفِي جَعْلِهِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لَهُ - وَهُوَ أَعْدَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ - مُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْمَعْهُودَةِ مِنَ الْحُكَّامِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا، أَيْ: مَنِ اعْتَادَ الْخِيَانَةَ وَأَلِفَ الْإِثْمَ فَلَمْ يَعُدْ يَنْفِرُ مِنْهُ، وَلَا يَخَافُ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ عَلَيْهِ، فَيُرَاقِبُهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللهُ أَهْلَ الْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ.
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ، أَيْ: إِنَّ شَأْنَ هَؤُلَاءِ الْخَوَّانِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِثْمِ أَنَّهُمْ يَسْتَتِرُونَ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ ارْتِكَابِ خِيَانَتِهِمْ وَاجْتِرَاحِهِمُ الْإِثْمَ ; لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ ضُرَّهُمْ، وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِهِ لِأَنَّهُمْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ، إِذِ الْإِيمَانُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَا تَقَعُ الْخِيَانَةُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ عَارِضَةٍ لَا تَدُومُ وَلَا تَتَكَرَّرُ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا خَطِيئَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِخْفَاءُ مِنْهُ - تَعَالَى - فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَرَاهُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ فِي حَنَادِسِ الظُّلُمَاتِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتْرُكَ الذَّنْبَ وَالْخِيَانَةَ حَيَاءً مِنْهُ - تَعَالَى - أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ: وَهُوَ - تَعَالَى - شَاهِدُهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُدَبِّرُونَ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، لِأَجْلِ تَبْرِئَةِ أَنْفُسِهِمْ وَرَمْيِ غَيْرِهِمْ بِخِيَانَتِهِمْ وَجَرِيمَتِهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَجَاتِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ.
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَةَ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى الْيَهُودِيِّ جَمَاعَةٌ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجِدَالِ عَنْهُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى هَؤُلَاءِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ بُدِئَ بِخِطَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، أَيْ: هَا أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ وَحَاوَلْتُمْ تَبْرِئَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، يَوْمَ يَكُونُ الْخَصْمُ وَالْحَاكِمُ هُوَ اللهُ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ كَافَّةً؟ أَيْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَادِلَ هُنَالِكَ أَحَدٌ عَنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لَهُمْ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرَاقِبُوا اللهَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنَالَ الْفَلْجَ بِالْحُكْمِ لَهُ مِنْ قُضَاةِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَقٍّ، يُمْكِنُهُ كَذَلِكَ أَنْ يَظْفَرَ فِي الْآخِرَةِ،
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
(82: 19)، الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى الذَّرَّةِ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (21: 47) ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الدُّنْيَا لَا يُجِيزُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ.
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا هَذَا بَيَانٌ لِلْمَخْرَجِ مِنَ الذَّنْبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ أَيْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْغَمُّ وَالْكَدَرُ وَفَسَّرُوهُ بِالذَّنْبِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ تَسُوءُ وَلَوْ عِنْدَ الْجَزَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتُكِبَتْ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَ السِّيَاقُ بِسَبَبِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَاتُ تَحْذِيرٌ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ هَدْمَ رُكْنِهِمَا، وَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا يُمْتَثَلُ هَذَا التَّحْذِيرُ بِالِاجْتِهَادِ وَتَحَرِّي الْعَدْلِ وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْخُصَمَاءِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ، وَالظُّلْمُ مَا كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا بِالْعَامِلِ كَتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا، وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لَازِمَهُ وَهُوَ الشُّعُورُ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ، وَلِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - خُطْبَةً فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِغْفَارِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي تُذِيبُ الشَّحْمَ وَتُفْنِي الْعَظْمَ، وَمَعْنَى وِجْدَانِهِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا أَنَّ اللهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدَّ تَوْبَةَ عَبْدِهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلِمَ مِنْهُ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ.
أَقُولُ: وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَاتِي عَنِ الدَّرْسِ عِنْدَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِهَذَا التَّعْبِيرِ وَهِيَ: وَتَرَكْتُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لِي مِنَ النُّكْتَةِ ثُمَّ نَسِيتُهُ إِلَى الْآنَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِوِجْدَانِ اللهِ غَفُورًا رَحِيمًا هُوَ أَنَّ التَّائِبَ الْمُسْتَغْفِرَ يَجِدُ أَثَرَ الْمَغْفِرَةِ فِي نَفْسِهِ بِكَرَاهَةِ الذَّنْبِ وَذَهَابِ دَاعِيَتِهِ، وَيَجِدُ أَثَرَ الرَّحْمَةِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُطَهِّرُ النَّفْسَ وَتُزِيلُ ذَلِكَ الدَّرَنَ مِنْهُ، فَيَكُونُ السُّوءُ أَوِ الظُّلْمُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ الْعَبْدُ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ ابْنِ عَطَاءِ اللهِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ: رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا، خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا، وَالْمُرَادُ الذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ لِلَّهِ عز وجل الَّذِي يُورِثُ صَاحِبَهُ الْعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ مَعَ غَيْرِهِ، وَفِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ لِطُعْمَةَ وَأَنْصَارِهِ فِي التَّوْبَةِ.
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ: وَمَنْ يَعْمَلِ الْإِثْمَ عَنْ قَصْدٍ
وَيَرَ أَنَّهُ قَدْ كَسَبَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، فَإِنَّمَا كَسْبُهُ هَذَا وَبَالٌ عَلَى نَفْسِهِ وَضَرَرٌ لَا نَفْعَ لَهُمَا كَمَا يَتَوَهَّمُ لِجَهْلِهِ بِعَوَاقِبِ الْآثَامِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْعَوَاقِبِ غَيْرِ الْمَأْمُونَةِ فِي الدُّنْيَا فَضِيحَةُ الْآثِمِ وَمَهَانَتُهُ بِظُهُورِ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ وَلِلْحَاكِمِ الْعَادِلِ، كَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ الْقِصَّةِ الَّذِينَ نَزَلَتْ بِسَبَبِهِمُ الْآيَاتُ، وَسَتَرَى تَحْدِيدَ مَعْنَى الْإِثْمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا قَالَ الْأُسْتَاذُ
الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّدَ لِلنَّاسِ بِعِلْمِهِ حُدُودَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَضُرُّهُمْ تَجَاوُزُهَا، وَبِحِكْمَتِهِ جَعَلَ لَهَا عِقَابًا يَضُرُّ الْمُتَجَاوِزَ لَهَا، فَهُوَ إِذَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللهَ شَيْئًا.
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، أَقُولُ: يُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ الْخَطِيئَةَ وَالْإِثْمَ وَالذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا مَعْنًى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، أَيْ: مِثْلَ السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ ; لِأَنَّهُمَا يَشْغَلَانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (2: 219) ، وَأَمَّا الْخَطِيئَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنَ الْخَطَأِ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَصِيغَةُ فَعِيلَةُ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَيْضًا فَالْخَطِيئَةُ الْفِعْلَةُ الْعَرِيقَةُ فِي الْخَطَأِ لِظُهُورِهِ فِيهَا ظُهُورًا لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهُ بِجَهْلِهِ، وَالْخَطَأُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تُخْطِئَ مَا يُرَادُ مِنْكَ، وَهُوَ مَا يُطَالِبُكَ بِهِ الشَّرْعُ وَيَفْرِضُهُ عَلَيْكَ الدِّينُ، أَوْ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالْعَهْدُ، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مَا يُخْطِئُهُ الْفَاعِلُ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرْعِ: أَيْ يَتَجَاوَزُهُ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْ هُنَا جَعَلُوا الْخَطِيئَةَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا بِالْخَطَأِ وَالْإِثْمِ بِالْعَمْدِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَطِيئَةُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الذَّنْبِ عَنِ الْفَاعِلِ خَطَأً، أَيْ: مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْإِثْمُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَيَعْنِي بِالْمُلَاحَظَةِ تَذَكُّرَ ذَلِكَ وَتَصَوُّرَهُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدَمَ الْمُلَاحَظَةِ وَالشُّعُورِ بِالذَّنْبِ عِنْدَ فِعْلِهِ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ تَمَكُّنَ دَاعِيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ وَوُصُولَهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَالْأَخْلَاقِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَقُولُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيَانُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْخَطِيئَةَ هُنَا بِالْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ أَيْ: يُحَيِّرُهُ وَيُدْهِشُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يُبْرِئْ نَفْسَهُ مِنْهُ أَيْ: مِمَّا ذَكَرَ، وَيَرْمِ بِهِ بَرِيئًا أَيْ: يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ وَيَزْعُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَسَبَهُ، فَقَدِ احْتَمَلَ أَيْ كَلَّفَ نَفْسَهُ أَنْ يَحْمِلَ وِزْرَ الْبُهْتَانِ بِافْتِرَائِهِ عَلَى الْبَرِيءِ وَاتِّهَامِهِ إِيَّاهُ، وَوِزْرُ: الْإِثْمُ الْبَيِّنُ الَّذِي كَسَبَهُ وَتَنَصَّلَ مِنْهُ، وَقَدْ فَشَا هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَعَ هَذَا يَنْسُبُ الْمَارِقُونَ ضَعْفَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ تَرْكُ هِدَايَتِهِ، فَالْحَادِثَةُ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِثْرَ وُقُوعِهَا كَانَتْ فَذَّةً فِي بَابِهَا، وَمَا زَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَرَقَ أَوْ خَانَ بَعْضُهُمْ، وَنَصَرَهُ آخَرُونَ وَبَهَتُوا الْيَهُودِيَّ بِرَمْيِهِ بِجُرْمِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ، لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْبَاطِنِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِثْمِ الْمُبِينِ، وَالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ، لَا يَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلَكِنَّ مِثْلَهَا صَارَ الْيَوْمَ مَأْلُوفًا، بَلْ وُجِدَ فِي بَعْضِهِمْ مَنْ يُفْتِي بِجَوَازِ خِيَانَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا عَلِمْنَا مِنْ وَاقِعَةِ حَالٍ اسْتُفْتِينَا فِيهَا وَنُشِرَتِ الْفَتْوَى فِي الْمَنَارِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ هَذَا الْخِذْلَانِ.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحِكَمَ وَالْمَوَاعِظَ الْمُنْطَبِقَةَ عَلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى كُلِّ مَنْ لَهُ شَأْنٌ فِيهَا مَا يُنَاسِبُهُ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، خَاطَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، أَيْ: لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالتَّأْيِيدِ بِالْعِصْمَةِ، وَرَحْمَتُهُ لَكَ بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ بِمُسَاعَدَةِ الْخَائِنِ أَنْ يُضِلُّوكَ عَنِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ الْمُنْطَبِقِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَضِيَّةِ فِي نَفْسِهَا، أَيْ: يُضِلُّوكَ بِقَوْلِ الزُّورِ وَتَزْكِيَةِ الْمُجْرِمِ وَبُهْتِ الْيَهُودِيِّ الْبَرِيءِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالظَّوَاهِرِ، أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْمَيْلِ إِلَى إِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُبِيحُ تَرْجِيحَ الْمُسْلِمِ عَلَى غَيْرِهِ وَنَصْرَهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا كَمَا يَعْهَدُونَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَكِنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَطْمَعُوا فِي ذَلِكَ وَيَهُمُّوا بِهِ جَاءَكَ الْوَحْيُ بِبَيَانِ الْحَقِّ، وَإِقَامَةِ أَرْكَانِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، إِذْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: جِئْنَا لِنُبَايِعُكَ عَلَى أَلَّا تَكْسِرَ أَصْنَامَنَا وَلَا تُعَشِّرْنَا، فَرَدَّهُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِانْحِرَافِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَيْهِ
الْإِسْلَامُ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَقَدْ عَصَمَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجَادِلْ عَنْهُمْ وَلَا أَطْمَعُهُمْ فِي التَّحَيُّزِ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَلَا بَعْدَهُ بِالْأَوْلَى.
هَذَا مَا ظَهَرَ لِيَ الْآنَ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَتِهِ إِلَى مُذَكِّرَاتِي الَّتِي كَتَبْتُهَا فِي دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَإِذَا فِيهَا مَا نَصَّهُ:
كَانَ الْكَلَامُ فِي الْمُخْتَانِينَ أَنْفُسَهُمْ وَمُحَاوَلَتِهِمْ زَحْزَحَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَتَوْجِيهِهَا إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ فَضْلَهُ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا وَرَدَ مِنْ قِصَّةِ طُعْمَةَ ; لِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ قَدْ هَمَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِإِضْلَالِ النَّبِيِّ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ قَدْ صَرَفَ نُفُوسَ الْأَشْرَارِ عَنِ الطَّمَعِ فِي إِضْلَالِهِ وَالْهَمِّ بِذَلِكَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْرَارَ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ وَهِمَمُهُمْ إِلَى التَّلْبِيسِ عَنْ شَخْصٍ وَمُخَادَعَتِهِ وَمُحَاوَلَةِ صَرْفِهِ عَنِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَشْغَلَ طَائِفَةً مِنْ وَقْتِهِ لِمُقَاوَمَتِهِمْ وَكَشْفِ حِيَلِهِمْ وَتَمْيِيزِ تَلْبِيسِهِمْ، وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمَرْءَ عَنْ تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَصَرْفِ وَقْتِ الْمُقَاوَمَةِ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ صَالِحٍ نَافِعٍ ; وَلِذَلِكَ تَفَضَّلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَحِمَهُ بِصَرْفِ كَيْدِ الْأَشْرَارِ عَنْهُ حَتَّى بَالِهِمْ بِغِشِّهِ وَزَحْزَحَتِهِ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي أَقَامَهُ عَلَيْهِ اهـ.
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، الْكِتَابُ: الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ فِقْهُ مَقَاصِدِ الْكُتَّابِ وَأَسْرَارِهِ، وَوَجْهِ مُوَافَقَتِهَا لِلْفِطْرَةِ وَانْطِبَاقِهَا عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَاتِّحَادِهَا مَعَ مَصَالِحِ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ (42: 52) ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَعْلِيمُهُ الْغَيْبَ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ الْكِتَابُ وَالشَّرِيعَةُ، وَخُصُوصًا مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَخَاصَمَ فِيهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْيَهُودِيِّ.
وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، إِذِ اخْتَصَّكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ وَأَرْسَلَكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ النَّاسِ شُكْرًا لَهُ، وَيَجِبُ عَلَى أُمَّتِكَ مِثْلُ ذَلِكَ لِيَكُونُوا بِهَذَا الْفَضْلِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَقُدْوَةً لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا أَقُولُ: تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ طُعْمَةَ الْخَائِنَ لَمْ يَكَدْ يَفْتَضِحُ أَمْرُهُ حَتَّى فَرَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَظْهَرَ الشِّرْكَ وَالطَّعْنَ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ لِيَتَّخِذَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْوَانًا وَنُصَرَاءَ يُعِينُونَهُ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْخِيَانَةِ بِالْعَصَبِيَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ لِيُبْطِلَ الْخِيَانَةَ وَالضَّلَالَ، وَيَمْحَقَ الْأَبَاطِيلَ، وَيُؤَيِّدَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ، أَفَلَا يَسْمَعُ هَذَا الْمُبْطِلُونَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يُقَلِّدُونَ قُسُوسَ قُرُونِهِمُ الْمُظْلِمَةِ مُثِيرِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ جَمْعِيَّةَ لُصُوصٍ وَقُطَّاعَ طُرُقٍ، أَلَا يَدُلُّونَنَا عَلَى حُكُومَةٍ مِنْ أَرْقَى حُكُومَاتِهِمْ أَوْصَلَهَا دِينُهَا وَمَدَنِيَّتُهَا وَعُلُومُهَا وَحَضَارَتُهَا إِلَى الرِّضَا بِمُسَاوَاةِ أَبْنَائِهَا وَأَوْلِيَائِهَا بِأَعْدَى أَعْدَائِهَا وَيُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ مِثْلَمَا شَدَّدَتِ الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَضِيَّةِ طُعْمَةَ مَعَ الْيَهُودِيِّ؟ كَيْفَ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ فِي بِلَادِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الرَّجُلَ
مِنْ أَشْرَارِ جُنَاتِهِمْ وَتُحُوتِ صَعَالِيكِهِمْ قَدْ يَقْتُلُ الْوَاحِدُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ فِي مِصْرَ فَيُحَاكِمُهُ قُنْصُلُ دَوْلَتِهِ كَمَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي لَوَّثَهَا بِدَمِ الْجِنَايَةِ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا ثُمَّ يَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ؟
فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ يَكُونُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا بَعْدَهُ نَزَلَ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ ضَمِيرَ نَجْوَاهُمْ، يَعُودُ عَلَى أُولَئِكَ الْمُخْتَانِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، الَّذِينَ يُبَيِّتُونَ فِي لَيْلِهِمْ مِنَ
الْأَقْوَالِ مَا لَا يُرْضِي رَبَّهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَالنَّجْوَى: مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ وَمَعْنَاهُ الْمُسَارَّةُ بِالْحَدِيثِ قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ النَّجْوَةِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ عَمَّا حَوْلَهُ بِحَيْثُ يَنْفَرِدُ مَنْ فِيهِ عَمَّنْ دُونَهُ، وَقِيلَ: مِنَ النَّجَاةِ، كَأَنَّهُ نَجَا بِسِرِّهِ مِمَّنْ يَحْذَرُ اطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ، وَيُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: قَوْمٌ نَجْوَى وَرَجُلَانِ نَجْوَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى (17: 47) ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ (58: 7)، وَقَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وَأَجَازَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا أَنْ تَكُونَ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ أَيْ: الْمُتَسَارِّينَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَنَاجِينَ الَّذِينَ يُسِرُّونَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةِ طُعْمَةَ الَّذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَتَهُ عَلَى اتِّهَامِ الْيَهُودِيِّ وَبَهْتِهِ وَمِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا مَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّجْوَى، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا عَلَى ظَاهِرِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّجْوَى هُنَا بِمَعْنَى التَّنَاجِي، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَنَاجِي هَؤُلَاءِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، فَذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يَكُونُ فِي نَجْوَاهُ الْخَيْرُ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ لِلْإِعْرَابِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ (2: 177) ، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَرَأَيُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِيهِ [فَلْيُرَاجَعْ فِي ص 90 وَمَا بَعْدَهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ هُنَا: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ الشَّرُّ، فَهُوَ الَّذِي يَجْرِي فِي نَجْوَاهُمْ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ الْكَثِيرِ هُنَا هُوَ أَنَّ مِنَ النَّجْوَى مَا يَكُونُ فِي الشُّئُونِ الْخَاصَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ مَثَلًا فَلَا تُوصَفُ بِالشَّرِّ، وَلَا هِيَ مُرَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ،
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالنَّجْوَى الْكَثِيرَةِ الْمَنْفِيِّ الْخَيْرُ عَنْهَا النَّجْوَى فِي شُئُونِ النَّاسِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي هِيَ مَجَامِعُ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ اهـ.
أَقُولُ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ هُنَا فِي أُولَئِكَ الْخَائِنِينَ فَنَفْيُ الْخَيْرِ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْ
نَجْوَاهُمْ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّنَا نَرَى الْكِتَابَ الْحَكِيمَ يَجْعَلُ النَّجْوَى مَظِنَّةَ الْإِثْمِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا ; وَلِذَلِكَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بُقُولِهِ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (58: 9، 10) ، وَهَذَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى، ثُمَّ هُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهَا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ النَّجْوَى مَظِنَّةَ الشَّرِّ فِي الْأَكْثَرِ هِيَ أَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ وَسُنَّةَ الْفِطْرَةِ الْمُتَّبَعَةَ هِيَ اسْتِحْبَابُ إِظْهَارِ الْخَيْرِ وَالتَّحَدُّثِ بِهِ فِي الْمَلَأِ، وَأَنَّ الشَّرَّ وَالْإِثْمَ هُوَ الَّذِي يُخْفَى، وَيُذْكَرُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَقَلَّمَا يَكْتُمُ النَّاسُ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ خَيْرًا، وَإِنَّمَا الْغَالِبُ فِي كِتْمَانِ بَعْضِ الْخَيْرِ وَإِسْرَارِهِ وَجَعْلِ الْحَدِيثِ فِيهِ نَجْوًى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ خَيْرًا لِلْمُتَنَاجِينَ وَشَرًّا لِغَيْرِهِمْ أَوْ مُؤْذِيًا لَهُ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَأَسْرَارِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ الَّتِي يَتَوَخَّى بِهَا أَهْلُهَا نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَضَرَرَ غَيْرِهِمْ فَيَكْتُمُونَ أَخْبَارَهَا وَيَجْعَلُونَهَا نَجْوَى بَيْنِهِمْ لِئَلَّا تَصِلَ إِلَى خَصْمِهِمْ وَعَدُوِّهِمُ الَّذِي يَضُرُّهُ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَنْفَعُهُ مَا يُحْبِطُ عَمَلَهُمْ وَيُبْطِلُ كَيْدَهُمْ، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مَا يَكُونُ بَيْنَ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ طُلَّابِ الْكَسْبِ مِنَ التَّنَاجِي فِيمَا يَخَافُونَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ فَيَسْبِقُهُمْ إِلَيْهِ أَوْ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَفُوتَهُ مِنَ الْكَسْبِ خَيْرٌ لَهُمْ وَشَرٌّ لَهُمْ.
وَهُنَالِكَ أُمُورٌ مِنَ الْخَيْرِ تَتَوَقَّفُ خَيْرِيَّتُهَا أَوْ كَمَالُ الْخَيْرِ فِيهَا وَخُلُوُّهُ مِنَ الشَّوَائِبِ عَلَى كِتْمَانِهِ وَجَعْلِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ سِرًّا وَالْحَدِيثِ فِيهِ نَجْوَى، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَمَا اسْتَثْنَاهَا اللهُ - تَعَالَى - مِنَ النَّجْوَى الَّتِي لَا خَيْرَ فِي أَكْثَرِهَا إِلَّا لِأَنَّهَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّجْوَى، وَإِنِّي لَمْ أَفْطِنْ لِهَذَا إِلَّا عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلَيْسَ عِنْدِي فِيهِ نَقْلٌ، وَقَدْ عَجِبْتُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَيْفَ ذَهَبَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ مَا لَمْ أَعْجَبْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ أَبُو عُذْرَةِ هَذِهِ الدَّقَائِقُ فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ وَالْقُرْآنِ ; عَلَى أَنَّنِي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيَّ جَمِيعُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ لِأُرَاجِعَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِيهَا.
أَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي لَا مِرْيَةَ فِيهَا، وَإِنَّ إِظْهَارَهَا قَدْ يُؤْذِي الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَيَضَعُ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْرُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا أَشَدَّ إِيذَاءً وَإِهَانَةً لَهُ مِنْ
إِيتَائِهِ إِيَّاهَا جَهْرًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - ; وَلِهَذَا قَالَ عز وجل: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2: 271) ، فَقَدْ مَدَحَهَا اللهُ - تَعَالَى - مُطْلَقًا، وَجَعَلَ إِخْفَاءَ مَا يُؤْتَاهُ الْفَقِيرُ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ إِظْهَارِهِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ يَتَأَذَّى بِالْإِظْهَارِ وَيَرَاهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الْفُقَرَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِالْإِظْهَارِ لَحَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَوْجَبَ الْإِخْفَاءَ إِيجَابًا، فَلَمَّا ذَمَّ اللهُ - تَعَالَى - النَّجْوَى وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَلَّا يَتَنَاجَى الْمُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْخَيْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْحَيَاءِ وَالْكَرَامَةِ الَّذِينَ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، اسْتَثْنَى الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّجْوَى حَتَّى لَا يَتَحَامَاهُ الْمُتَوَرِّعُونَ خَوْفًا أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَقَدْ يَخْفَى وَجْهُ اسْتِثْنَائِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، أَيْ: مَا تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّهُ النُّفُوسُ وَتَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْمَصَالِحِ وَانْطِبَاقِهِ عَلَى الطِّبَاعِ وَالْعُقُولِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْفِرَاسَةِ مِنَ الْعَرَبِ: إِنِّي لَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيِ الرَّجُلِ إِذَا عَرَفَ، وَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ، وَأَعْرِفُ فِيهِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يُنْكِرْ إِلَخْ، وَلَمَّا كَانَ الشَّرْعُ مُهَذِّبًا لِلنُّفُوسِ وَمُرْشِدًا لِلْعُقُولِ، وَمُقَوِّمًا لِمَا مَالَ وَانْآدَ مِنْ أَحْكَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِسُوءِ اجْتِهَادِ النَّاسِ صَارَ أَعْرَفُ الْمَعْرُوفِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ أَوْ أَقَرَّهُ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَ مَا نَهَى عَنْهُ وَذَمَّهُ وَكَرِهَهُ، فَالَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ يَسْتَاءُ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْآمِرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ حَقِيقَةً أَوِ ادِّعَاءً ; لِأَنَّهُ يَرَى فِي أَمْرِهِ إِيَّاهُ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَاتِّهَامًا لَهُ بِالتَّقْصِيرِ أَوِ الْجَهْلِ، وَإِشْرَافًا عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ، مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتِ النَّجْوَى بِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْإِيذَاءِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِمْضَاءِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، لِيَكُفَّ عَنْهُ مُحِبُّو الِاسْتِعْلَاءِ، وَلَا يَتَأَثَّمُ بِهِ مَنْ يَعْرِفُونَ فَائِدَةَ الْإِخْفَاءِ.
وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِظْهَارِهِ
وَالتَّحَدُّثِ بِهِ فِي الْمَلَأِ شَرٌّ كَبِيرٌ، وَضَرَرٌ مُسْتَطِيرٌ، فَيَنْقَلِبُ الْإِصْلَاحُ الْمَطْلُوبُ إِفْسَادًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ عَاشَ بَيْنَ النَّاسِ، وَاخْتَبَرَ أَحْوَالَهُمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْخِصَامِ وَالشِّقَاقِ وَالتَّنَازُعِ وَالصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي بِسَعْيِ مُحِبِّي الْإِصْلَاحِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا يُطَالَبُ بِهِ مِنَ الصُّلْحِ كَانَ بِأَمْرِ زَيْدٍ مِنَ النَّاسِ، لَا يَسْتَجِيبُ وَلَا يَقْبَلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُ عَنِ الرِّضَا بِذَلِكَ ذِكْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ بِسَعْيٍ وَتَوَاطُؤٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُصَالَحَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ ذَلِكَ، وَالْجَهْرُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ قَدْ يُبْطِلُ ذَلِكَ، فَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْكِتْمَانِ وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ وَالسَّعْيُ إِلَيْهِ بَيْنَ مَنْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَيْهِ بِالنَّجْوَى فِيمَا بَيْنَهُمْ.
لَوْ أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّجْوَى لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَذَهَبَ اجْتِهَادُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَوَرِّعِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ فَيَتْرُكُونَ النَّجْوَى بِهَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا الْجَهْرَ بِالْأَمْرِ بِهَا فَيَفُوتُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلَوْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَإِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا تَرْكَ الْأَمْرِ بِهَا أَلْبَتَّةَ، لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَى النَّفْعِ الْمَقْصُودِ مِنَ الصَّدَقَةِ الضَّرَرُ، وَتَأْخُذُ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَيَتَحَوَّلُ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ إِلَى إِفْسَادٍ، فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي الْآنَ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، بَغَى الشَّيْءَ طَلَبَهُ بِالْفِعْلِ، وَابْتَغَاهُ أَبْلَغُ مِنْ بَغَاهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَالِاعْتِمَالِ لَهُ، وَإِنَّمَا تُنَالُ مَرْضَاةُ اللهِ - تَعَالَى - بِالشَّيْءِ إِذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ وَيَتِمُّ بِهِ النَّفْعُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ لَهُ مُظْهِرًا لِرَحْمَتِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ، مَعَ تَذَكُّرِ هَذَا عِنْدَ الْعَمَلِ وَالشُّعُورِ بِهِ ; وَبِهَذَا الْقَيْدِ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ أَرْقَى مِنَ الْفَيْلَسُوفِ فِي عَمَلِهِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْغُرُورِ وَالدَّعْوَى فِيهِ، وَأَرْسَخَ قَدَمًا فِي الْإِخْلَاصِ، وَتَحَرِّي نَفْعَ النَّاسِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ مُزَاحَمَةِ الْأَهْوَاءِ الشَّخْصِيَّةِ لَهُ وَتَرْجِيحِهَا عَلَيْهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَأَخُصُّ مِنْهُمْ فَلَاسِفَةَ هَذَا الزَّمَانِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَيْرَ وَالْفَضِيلَةَ وَالْكَمَالَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ ; لِأَنَّهُ خَيْرٌ نَافِعٌ لِلْهَيْئَةِ
الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وَالْإِيمَانُ يَهْدِينَا إِلَى هَذَا وَإِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَهُوَ أَنْ نُشْعِرَ أَنْفُسَنَا عِنْدَ عَمَلِهِ أَنَّنَا مَظَاهِرُ لِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَرَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ وَمَجَالِي لِحِكْمَتِهِ فِي إِصْلَاحِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ لَنَا بِذَلِكَ قُرْبًا مَعْنَوِيًّا مِنْ رَبِّنَا، وَأَنَّنَا نِلْنَا بِهِ مَرْضَاتَهُ عَنَّا، وَصِرْنَا بِهِ أَهْلًا لِلْجَزَاءِ الْأَوْفَى، فِي حَيَاةٍ أَشْرَفَ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَأَرْقَى وَإِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يَشْهَدُ اللهُ - تَعَالَى - بِعَظَمَتِهِ فِي كِتَابِهِ الْحَكِيمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ جَزَاءِ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ لِمَنْ يُحْسِنُ خِدْمَتَهُمْ، وَيَنَالُ مَرْضَاتَهُمْ، بَلْ هُوَ أَثَرٌ فِطْرِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِارْتِقَاءِ النَّفْسِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، إِلَى مَا يَزِيدُ اللهُ صَاحِبَهَا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيهَ فِي دِينِهِ، الَّذِي هُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، يَعْمَلُ الْخَيْرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، حَتَّى تَرْتَقِيَ رُوحُهُ ارْتِقَاءً تَصِلُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْفَضْلِ، وَأَمَّا صَاحِبُ تِلْكَ النَّظَرِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ فَقَلَّمَا يَعْمَلُ بِهَا، وَإِنْ عَمِلَ بِهَا أَحْيَانًا فَقَلَّمَا يَكُونُ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَ هَوَاهُ وَشَهْوَتُهُ مَعَ خَيْرِ غَيْرِهِ وَمَنْفَعَتِهِ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ نَفْسَهُ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ مِمَّا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، فَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ وَمُقَلِّدَتُهُمْ يُؤْثِرُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَوْ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَمِيلُونَ فِي تَأْوِيلِ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ مَعَ الْهَوَى، وَقَدْ جَرَى لِي حَدِيثٌ مَعَ بَعْضِ كُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ فِي تَحْدِيدِ
مَعْنَى الْفَضِيلَةِ فَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْفَلْسَفَةِ، وَأَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْإِسْلَامِ الْجَامِعِ بَيْنَ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَمَّا حَدَّدَهَا بِمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى فَمَا هُوَ الْبَاعِثُ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؟ قَالَ: هُوَ اعْتِقَادُ كُلِّ فَرْدٍ أَنَّ نَفْعَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ نَفَعٌ لَهُ فَإِذَا صَلُحَتْ عَاشَ فِيهَا سَعِيدًا، وَإِذَا فَسَدَتْ لَحِقَهُ شَيْءٌ مِنْ فَسَادِهَا فَكَانَ بِهِ شَقِيًّا، قُلْتُ: مَعْنَى الْفَضِيلَةِ إِذًا أَنْ يَطْلُبَ الْإِنْسَانُ نَفْعَ نَفْسِهِ مَعَ مُلَاحَظَةِ نَفْعِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا، فَتَخْتَلِفُ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِي مَفْهُومِهَا الْكُلِّيِّ بِاخْتِلَافِ آرَاءِ أَفْرَادِ النَّاسِ فِيمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَفِيمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَنَافِعِ عِنْدَ تَعَارُضِهَا، مِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْرِقَ مَالَ رَجُلٍ أَوْ تَخُونَهُ فِيهِ إِذَا اسْتَوْدَعَكَ إِيَّاهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ لِاعْتِقَادِكَ أَنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْعِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، أَوْ
تُنْفِقُهُ فِيمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهَا، تَكُونُ بِهَذِهِ السَّرِقَةِ وَهَذِهِ الْخِيَانَةِ مُعْتَصِمًا بِعُرْوَةِ الْفَضِيلَةِ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَإِذَا قَدَرَ رَجُلٌ عَلَى أَنْ يَخُونَ آخَرَ فِي عِرْضِهِ وَيَزْنِيَ بِامْرَأَتِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ فَلَا يُثِيرُ نِزَاعًا وَلَا خِصَامًا فَلَا يُنَافِي الْفَضِيلَةَ، أَوْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لِأَنَّهُ بِإِيلَادِهَا وَلَدًا يَرِثُ مِنْ ذَكَائِهِ مَا يَكُونُ بِهِ خَيْرًا مِمَّنْ تَلِدُهُمْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا الشَّرْعِيِّ، أَوْ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا عِنْدَهُ كَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْعَمَلُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْفَضِيلَةِ الْمَحْدُودَةِ بِمَا ذَكَرْتُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُعَدُّ مِنَ الْفَضِيلَةِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ إِذَا كَانَ اعْتِقَادُ الْفَاعِلِ بِنَفْعِهِ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْقَانُونُ لَا يُجِيزُ الْحُكْمَ لَهُ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ إِذَا ظَهَرَ الْأَمْرُ، وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي.
أَقُولُ: وَقِسْ عَلَى السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَاحِشَةِ جَمِيعَ الرَّذَائِلِ حَتَّى الْقَتْلَ، فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْرِيفِ إِذَا ظَنَّ فَاعِلُهَا أَنَّهُ يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ كَأَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَرَى هُوَ فِي سِيَاسَتِهِ أَوِ اعْتِقَادِهِ أَوْ عَمَلِهِ ضَرَرًا وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَرَى ذَلِكَ نَافِعًا، فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ هُوَ شَرُّ مَذْهَبٍ أُخْرِجَ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ الرَّذَائِلَ فِيهِ قَدْ تُسَمَّى عَقَائِلَ الْفَضَائِلِ، وَالْمَفَاسِدُ تُعَدُّ فِيهِ مِنْ أَنْفَعِ الْمَصَالِحِ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْهَوَى، وَلَوْلَا افْتِتَانُ ضُعَفَاءِ النُّفُوسِ بِبَعْضِ مَنْ يَقُولُونَ بِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُحْكَى، وَكَانَ لِلْفَلَاسِفَةِ الْأَوَّلِينَ مَذَاهِبُ فِي الْفَضِيلَةِ مَعْقُولَةٌ، وَآرَاءٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ أَنْطَقَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِكَثِيرٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَلَكِنْ ثَمَرَاتُ عُقُولِهِمْ لَمْ تَكُنْ دَانِيَةَ الْقُطُوفِ، يَجْنِيهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَا لِهِدَايَةِ الْوَحْيِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَالتَّأْثِيرِ السَّرِيعِ فِي إِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الدِّينُ أَنْفَعَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا أَسْنَدْتُهُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ
اللهِ: إِنَّهَا إِنَّمَا تُطْلَبُ بِالْإِخْلَاصِ، وَعَدَمِ إِرَادَةِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَفَاخِرُونَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ تَصَدَّقْنَا أَعْطَيْنَا مَنَحْنَا عَمِلْنَا وَعَمِلْنَا، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ الرِّبْحَ بِمَا يَبْذُلُونَ أَوْ يَعْمَلُونَ لَا مَرْضَاةً لِلَّهِ - تَعَالَى - ; وَلِذَلِكَ يَشُقُّ
عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا، وَأَنْ يُخْلِصُوا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ نَجِيًّا ; لِأَنَّ الِاسْتِفَادَةَ مِنْهُ بِجَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِمْ، وَتَسْخِيرِ النَّاسِ لِخِدْمَتِهِمْ، وَرَفْعِهِمْ لِمَكَانَتِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِظْهَارِهِ لَهُمْ، لِيَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ فِيهِمُ انْتَهَى بِبَسْطٍ وَإِيضَاحٍ.
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلَخْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلَّذِينِ يَتَنَاجَوْنَ بِالْخَيْرِ وَيَبْتَغُونَ بِنَفْعِ النَّاسِ مَرْضَاةَ اللهِ عز وجل، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدَهُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالشَّرِّ، وَيُبَيِّتُونَ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلنَّاسِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مُشَاقُّونَ لِلرَّسُولِ إِذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ، فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ فِي الدَّلِيلِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ وَبَقِيَ مُتَوَجِّهًا إِلَى طَلَبِهِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ، وَالْمُشَاقَّةُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِنَّمَا تَكُونُ عِنَادًا وَعَصَبِيَّةً أَوِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَةٍ تَفُوتُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ، اهـ.
أَقُولُ: الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَقَّ الْعَصَا، أَوْ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الشَّقِّ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِينَ يَكُونُ فِي شِقٍّ غَيْرَ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ كَمَا قَالُوا، وَالْكَلَامُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى طُعْمَةَ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِ وَعَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُطِرُوا عَلَى تَرْجِيحِ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ وَالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَعَرَفُوهُ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ وَرَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَقَوْمُهُ " كَطُعْمَةَ " وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ
النَّقْضَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْءِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْهُدَى أَوْ أَنَّهُ أَهْدَى مِنْ مُقَابِلِهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُقَابِلٌ، وَسَبَبُ هَذَا وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فُطِرَ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ لَهَا وَالسَّعْيِ إِلَى ذَلِكَ وَاتِّقَاءِ مَا يُنَافِيهِ وَيَحُولُ دُونَهُ ; لِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَكُلُّ مَا حُرِّمَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتُحِبَّ لَهُمْ فِيهَا فَهُوَ
نَافِعٌ لَهُمْ ; وَلِهَذَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنْ يَتْرُكَهَا أَحَدٌ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهَا وَتَتَبَيَّنَ لَهُ، وَكَانَ إِنْ وَقَعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2: 130)، أَيْ: لَا أَحَدَ يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنِ احْتَقَرَ نَفْسَهُ وَأَزْرَاهَا بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى وَتَرْكِهِ وَسَبَبِ ذَلِكَ فَنَقُولُ:
(الصِّنْفُ الْأَوَّلُ) : مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ، وَوَصَلَ فِيهِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ اعْتِقَادًا، وَيَنْدُرُ جَدًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَمَلًا وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلِمَةٌ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْحَقِّ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْنِي الرُّجُوعَ بِالْعَمَلِ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَمْلِكُ مِنْ عَمَلِهِ مَا لَا يَمْلِكُ مِنَ اعْتِقَادِهِ، فَمَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَا شَرِيكًا لِلَّهِ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ لَوْلَاهُ لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَ الْيَقِينِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ عُبِدَ وَمِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أَوْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَيَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَدْعُوَهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ، وَأَنْ يَعْبُدَهَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ أَيْضًا كَالتَّمَسُّحِ بِهَا وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَعُدُّهُ أَهْلُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَاتِ، لَا مِنْ عُمُومِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتِهَا لَا يَفْعَلُهُ، أَيْ: لَا يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْعَمَلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
(الصِّنْفُ الثَّانِي) : مَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِالدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، لَا بِالْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْهُدَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ ; إِذْ يَكْفِي أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَلَا يُشَاقَّانِ مَنْ جَاءَهُمْ بِذَلِكَ وَلَا يَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ إِلَّا لِسَبَبٍ يَقِلُّ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
(الصِّنْفُ الثَّالِثُ) : مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْلِيدًا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّاسِ كَآبَائِهِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ وَرُؤَسَاءَ قَوْمِهِ، وَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وَالْهُدَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ ; وَلِذَلِكَ يَتْرُكُونَ الْهُدَى إِلَى كُلِّ مَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ.
(الصِّنْفُ الرَّابِعُ) : مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى ; لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَى تَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَلَمَّا دُعِيَ إِلَى الْهُدَى لَمْ يَنْظُرْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ الَّذِي دُعِيَ إِلَى دِينِهِ، وَلَا تَأَمَّلَ فِي دَلِيلِهِ لِأَنَّهُ صَدَّقَ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا أَهْلَ الِاجْتِهَادِ، وَمَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِمْ مَذَاهِبَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا، وَمَنْ نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ زَلَّ وَضَلَّ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ
بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ كَالْمَجُوسِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إِذَا تَرَكَ رُؤَسَاؤُهُمْ دِينَهُمْ أَوْ مَذْهَبَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَخَلُوا فِي مَذْهَبٍ أَوْ دِينٍ جَدِيدٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ عَدَاوَاتٌ دِينِيَّةٌ وَلَا سِيَاسِيَّةٌ تُنَفِّرُهُمْ تَنْفِيرًا طَبِيعِيًّا وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُلُوكَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَتَبَ لِكُلِّ رَئِيسٍ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ قَوْمِهِ أَوْ مَرْءُوسِيهِ إِذَا هُوَ تُوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ.
(الصِّنْفُ الْخَامِسُ) : كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي التَّقْلِيدِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ تَعْظِيمًا لِجُمْهُورِ قَوْمِهِ وَمَنْ نَشَأَ عَلَى احْتِرَامِهِمْ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّاعِي قَدْ عَرَفَ الْهُدَى مِنْ دُونِهِمْ، أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِهِمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ سَرْدِهَا، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُقَلَّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ ذَاتِ الْكُتُبِ وَالْهَيَاكِلِ وَالرُّؤَسَاءِ الرُّوحِيِّينَ
أَنَّ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ الْعَرَبِ أَضْعَفُ وَجَذَبَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ أَسْهَلُ وَكَذَلِكَ كَانَ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ.
(الصِّنْفُ السَّادِسُ) : عُلَمَاءُ الْأَدْيَانِ الْجَدَلِيُّونَ الْمَغْرُورُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ بِهَا، الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْهُدَى فَلَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَاءَ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِخْلَاصِ، بَلْ أَعْرَضُوا احْتِقَارًا لَهُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ وَوَثِقُوا بِهِ، وَجَعَلُوهُ مَنَاطَ عَظَمَتِهِمْ، وَحَسِبُوهُ مُنْتَهَى سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَلِّدُونَ كَعَامَّتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْجَدَلِيَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
(الصِّنْفُ السَّابِعُ) : الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الصَّحِيحِ الْمُحَرِّكِ لِلنَّظَرِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا وَلَمْ يُبَالُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْهَا بَدِيهِيَّةَ الْبُطْلَانِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ دِينٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْيَانِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَرَعَةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَالْأَبَاطِيلِ وَمَا هُوَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا اخْتَرَعَ وَافْتَرَى رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَتَبُوهُ قَبْلَ تَأْلِيبِ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عَلَى الْحَرْبِ الشَّهِيرَةِ بِالصَّلِيبِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ دِينِ " الْمُورْمُونِ " مَثَلًا.
(الصِّنْفُ الثَّامِنُ) : مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهَا أَوْ غَيْرِ وَجْهِهَا فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْإِخْلَاصِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا وَلَا تَبَيَّنَتْ لَهُمْ هِدَايَتُهَا، فَتَرَكُوهَا وَتَرَكُوا إِعَادَةَ النَّظَرِ فِيهَا.
(الصِّنْفُ التَّاسِعُ) : هُمْ أَهْلُ الِاسْتِقْلَالِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الدَّعْوَةِ كَمَنْ سَبَقَهُمْ، وَلَا يَتْرُكُونَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْحَقُّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَيَدْأَبُونَ طُولَ
عُمْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاتِهِمْ لِعُذْرِهِمْ.
(الصِّنْفُ الْعَاشِرُ) : مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى الْبَتَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَنَاجُونَ.
هَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْهُدَى وَالضَّلَالِ، بِحَسَبِ مَا خَطَرَ لِلْفِكْرِ الْقَاصِرِ الْآنَ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى صِنْفٍ مِنْهَا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلَّا الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ أَفْرَادِهِمَا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُعَادِ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وَهُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةٍ أُخْرَى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (45: 23) ، وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ، وَصَلْيُهَا الِاحْتِرَاقُ بِهَا وَسَائِرُ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا ; لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَعَانَدُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَصْنَافِ فَيُوَلِّي اللهُ كُلًّا مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى أَيْضًا، كَمَا هِيَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا لَهُ ; وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ أَحْوَالَ مَعِيشَتِهِ وَأَسَالِيبَ تَرْبِيَتِهِ، وَسَخَّرَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَاتِيَةِ لِمَنَافِعِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (45: 13) ، فَهُوَ مُرَبِّي نَفْسِهِ وَمُرَبِّي الطَّبِيعَةِ الَّتِي أَلَّهَهَا بَعْضُ أَصْنَافِهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ لَا مُتَصَرِّفَ فَوْقَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَقُولُ هَذَا نَسْفًا لِأَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْأُورُبِّيَّةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ نَسْفِ أَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْغَابِرَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ الْأَفْعَالَ الْمُنْعَكِسَةَ تَعْمَلُ فِي الْإِنْسَانِ عَمَلَهَا، وَأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ بِهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا كَحُكْمِهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَ لَهَا الْحُكْمَ اسْتَبَدَّتْ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَفِيهَا فَعَلَ.
قُلْتُ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلًّا مِنَ الْأَصْنَافِ مَا تَوَلَّى، وَلَكِنَّهُ لَا يُصْلِي كُلًّا مِنْهُمْ جَهَنَّمَ الَّتِي سَاءَ مَصِيرُهَا ; لِأَنَّ إِصْلَاءَ جَهَنَّمَ هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَتَوَلَّاهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الضَّلَالَةِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذْ تَوَلَّاهَا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتِ الْهِدَايَةُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّهَارَةِ
وَالزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ بِحَسَبِ تَزْكِيَةِ صَاحِبِهَا لَهَا، أَوْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَدْسِيَتِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى.
وَإِنَّنِي لَا أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَكِيمَةِ الْعَالِيَةِ نَوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ بِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كَأَنْ يَقُولُوا: نُوَجِّهْهُ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ،
أَوْ نَجْعَلْهُ وَالِيًا لِمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلَالَ كُلِّ فُرْقَةٍ بِالْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ، أَعْنِي مَذْهَبَهُمْ فِي الْكَسْبِ وَالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالشَّرِّ، وَالَّذِي أُرِيدُ بَيَانَهُ وَتَوْجِيهَ الْأَذْهَانِ إِلَى فَهْمِهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَمِقْدَارِ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَالْعَمَلِ بِالِاخْتِيَارِ، فَالْوِجْهَةُ الَّتِي يَتَوَلَّاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْ عَمَلِهِ، يُوَلِّيهِ اللهُ إِيَّاهَا وَيُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا، أَيْ يَكُونُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَائِرًا عَلَى طَرِيقِهَا، فَلَا يَجِدُ مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَا يَجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ شَاءَ - تَعَالَى - لِهَدَى النَّاسَ أَجْمَعِينَ بِخَلْقِهِمْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّاعَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفَاوُتِ الِاسْتِعْدَادِ وَالْإِدْرَاكِ، وَعَمَلِ كُلِّ فَرْدٍ بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا إِلَى آخِرِ مَا لَا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا مِنْ طَبَائِعِ الْبَشَرِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَوْلِيَةِ اللهِ لِمِثْلِ هَذَا مَا تَوَلَّى هُوَ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - عِنَايَةً خَاصَّةً بِبَعْضِ عِبَادِهِ وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَنَهُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْأَعْمَالِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ وَضَعَ نَفْسَهُ وَاخْتَارَ لَهَا وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ، نَعَمْ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهَبُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَيَزِيدُهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مَظِنَّةً لَهُ، فَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيَقُولُ الَّذِينَ فَسَّرُوا التَّوْلِيَةَ بِهَذَا النَّفْيِ
وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ: إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ ذَلِكَ، أَمِ الْحِرْمَانُ شَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ؟ وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِ ثَانِيَةً أَمْ لَا؟ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَسْلَمُ مِنَ الْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا تُدْفَعُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدَةِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الضَّالِّينَ إِلَى الْهُدَى ; لِأَنَّ عِلْمَهُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَبُطْلَانِ مَا صَارَ إِلَيْهِ، لَا يَبْرَحُ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَلْجُ لَهُ.
أَمَّا السَّبَبُ الَّذِي يَحْمِلُ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَلَى تَرْكِهِ، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْأَحْوَالِ
النَّفْسَانِيَّةِ الْقَوِيَّةِ كَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ، وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِ، وَالشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ، وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَلَّوْا عَنْهَا حَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِيثَارًا لِرِيَاسَتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَرْؤُوسِينَ فِي غَيْرِهِمْ، وَارْتِدَادُ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ عَنِ الْإِسْلَامِ، لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَطَمَهُ مِنَ السُّوقَةِ، وَارْتَدَّ أُنَاسٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ دِينِهِمْ لِافْتِتَانِهِمْ بِبَعْضِ النِّسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَيْ عِلَّةُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ هِيَ ضَعْفُ النَّفْسِ وَمَرَضُ الْإِرَادَةِ بِجَرَيَانِ صَاحِبِهَا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَعَدَمِ تَرْبِيَتِهَا عَلَى تَحَمُّلِ مَا لَا تُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ لِأَجْلِ الْخَيْرِ الْآجِلِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ إِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمُتَّبَعُ لَا يَتَمَثَّلُ لَهُ النَّفْعُ الْآجِلُ كَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ النَّفْعُ الْعَاجِلُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ، وَمَهَانَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيلَ مَعَهُ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَدَّ سِمَاطًا عَامًّا لِلنَّاسِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمْ أَعْرَابِيًّا يَأْكُلُ بِشَرَهٍ شَدِيدٍ فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَلْوَى تَرَكَ الطَّعَامَ وَوَثَبَ يُرِيدُهَا فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ سَيَّافَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْوَى قُطِعَتْ عُنُقُهُ بِأَمْرِ الْأَمِيرِ، وَالْحَجَّاجُ يَقُولُ وَيَفْعَلُ فَصَارَ الْأَعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى السَّيَّافِ نَظْرَةً وَإِلَى الْحَلْوَى نَظْرَةً، كَأَنَّهُ يُرَجِّحُ بَيْنَ حَلَاوَتِهَا وَمَرَارَةِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُ
وَجْهُ التَّرْجِيحِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ:" أُوصِيكَ بِأَوْلَادِي خَيْرًا " وَهَجَمَ عَلَى الْحَلْوَى وَأَنْشَأَ يَأْكُلُ وَالْحَجَّاجُ يَضْحَكُ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ بِهَا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ مُخَالِفَهُ مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ فِي بَيَانِ حُجِّيَّتِهِ بِأَنَّهُ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَعْنُونَهُ هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي أَيِّ عَصْرٍ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِهِ لَا بَعْدَ عَصْرِهِ، وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي بَيَّنْتُ عَدَمَ اتِّجَاهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَنَارِ، وَكَذَلِكَ رَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَالْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِرْشَادِ الْفُحُولِ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ الصَّحِيحِ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (59) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَبَحْثُ الْإِجْمَاعِ فِيهَا، وَزِدْتُهُ بَيَانًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَعَلْتُهَا مُتَمِّمَةً لِتَفْسِيرِهَا.
إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا.
بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ مَصِيرُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيِّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ يَكُونُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ ظَاهِرًا جَلِيًّا بِمِثْلِ مَا فَعَلَ طُعْمَةَ مِنْ تَرْكِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِ وَغَيْرِ عَصْرِهِ فِي كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فِيهَا فَتَرَكَهَا وَعَادَى أَهْلَهَا وَوَالَى أَعْدَاءَهُمْ، فَإِنَّ مُشَاقَّةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مُشَاقَّةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ لَا يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مُشَاقَّةٌ لِلرَّسُولِ وَاتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ يُوَلِّيهِ اللهُ مَا تَوَلَّى، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى حَيْثُ تَوَّجَهُ بِكَسْبِهِ وَاجْتِهَادِهِ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَكَّلَ أَمْرَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَى نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَخْتَصَّ مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ بِرَحْمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ.
وَبَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ ضَلَالِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ وَمَا لَا يَغْفِرُهُ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَبَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا النَّصُّ بِعَيْنِهِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ إِعَادَتِهِ هُنَا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَانُونًا وَلَا كِتَابًا فَنِّيًّا فَيَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا حَافِظُهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَمَثَانِيَ يُتْلَى لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ تَارَةً فِي الصَّلَاةِ، وَتَارَةً فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا تُرْجَى الْهِدَايَةُ وَالْعِبْرَةُ بِإِيرَادِ الْمَعَانِي الَّتِي يُرَادُ إِيدَاعُهَا فِي النُّفُوسِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ يُوَجِّهُ النُّفُوسَ إِلَيْهَا أَوْ بَعْدَهَا وَيُهَيِّئُهَا لِقَبُولِهَا، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْمَقَاصِدِ الْأَسَاسِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَمَكَّنَ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ فِي النُّفُوسِ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ ; وَلِذَلِكَ نَرَى أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ الَّذِينَ عَرَفُوا سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعَ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقَهُمْ يُكَرِّرُونَ مَقَاصِدَهُمْ فِي خُطَبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمُ
الَّتِي يَنْشُرُونَهَا فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، بَلْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ: إِنَّ نَشْرَ التُّجَّارِ لِلْإِعْلَانَاتِ الَّتِي يَمْدَحُونَ بِهَا سِلَعَهُمْ وَبَضَائِعَهُمْ وَيَدُلُّونَ النَّاسَ عَلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُبَاعُ فِيهَا هُوَ عَمَلٌ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ إِذَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَدْحُ الشَّيْءِ وَلَوْ مِنَ الْمُتَّهَمِ فِي مَدْحِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَتَتِمَّتُهَا هُنَا: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (4: 48) ، وَقَدْ تَقَدَّمَهَا هُنَالِكَ إِثْبَاتُ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَحْرِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ دَرَجَاتٌ، فَمِنْهَا مَا تَغْلِبُ النُّفُوسَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَزَوَاتُ الشَّهْوَةِ وَثَوَرَاتُ الْغَضَبِ ثُمَّ يَعُودُ صَاحِبُهُ وَيَتُوبُ، فَهَذَا مِمَّا تَنَالُهُ الْمَغْفِرَةُ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ فَلَا يُغْفَرُ الْمَيْلُ عَنْهُ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرَكِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا كَالسِّيَاقِ هُنَاكَ فَأَعَادَهَا لِذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ مُشَاقَّةَ الرَّسُولِ وَمُخَالَفَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْوُقُوعِ فِي الشَّرَكِ ; لِأَنَّ التَّوْحِيدَ رُوحُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ، فَالْمُنَاسَبَةُ هُنَا تَقْتَضِي أَنْ يُعَادَ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِعَادَةٌ تُنَادِي الْبَلَاغَةُ بِطَلَبِهَا وَلَا تُعَدُّ مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ يُنَافِي الْبَلَاغَةَ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ فَهِمُوا مِنْكَ مَعْنَى تَمَامِ الْفَهْمِ كَمَا تُرِيدُ، ثُمَّ ذَكَرْتَهُ لَهُمْ بِعِبَارَةٍ لَا تَزِيدُهُمْ فَائِدَةً وَلَا تَأْثِيرًا جَدِيدًا وَلَا تَمْكِينًا لِلْمَعْنَى وَأَمَّا مَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يُوَجَّهُ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ يَسْمَعُونَهُ وَيَتْلُونَهُ كُلَّهُ وَيَتَذَكَّرُونَ عِنْدَ كُلِّ سِيَاقٍ مَا يُنَاسِبُهُ فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا أَنْتَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْمَعُ هَذَا السِّيَاقَ الَّذِي
جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ ذَلِكَ السِّيَاقِ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْأُخْرَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّكَ تَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لِجَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التِّكْرَارِ الَّذِي يَفِرُّونَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الشَّاعِرِ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فِي قَصِيدَتَيْنِ يَمْدَحُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلًا
غَيْرَ الَّذِي يَمْدَحُهُ فِي الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ: إِنَّ هَذَا التَّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ تُكَأَتُهُمْ فِي تَعْلِيلِ كُلِّ تِكْرَارٍ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّكْرَارِ الْمَحْضِ مُنْتَقِدًا وَمُخِلًّا بِالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ رُكْنُ الْبَلَاغَةِ الرَّكِينِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْمُتَكَلِّمُ مُرَادَهُ مِنَ النَّفْسِ بِدُونِهِ.
وَأَمَّا مَعْنَى إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلَا يَصُدُّنَا ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ فِيهِ شَيْئًا هُنَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا: أَكَّدَ اللهُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ شِرْكَهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ قَدْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَعْضِ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ أَنَّ عِقَابَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُذْنِبِينَ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَمَا أَنَّ السُّكَّرَ يُحْدِثُ فِي الْبَدَنِ أَمْرَاضًا يَتَعَذَّبُ صَاحِبُهَا بِهَا فِي الدُّنْيَا يُحَدِثُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَطَايَا أَمْرَاضًا فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ يَتَعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الْآخِرَةِ وَكَمَا أَنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ وَصِحَّةَ الْمِزَاجِ تَغْلِبُ بَعْضَ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ فَلَا يَظْهَرُ لَهَا تَأْثِيرٌ مُؤْلِمٌ يُعَذِّبُ صَاحِبَهُ كَذَلِكَ قُوَّةُ الرُّوحِ بِالتَّوْحِيدِ وَصِحَّةُ مِزَاجِهَا بِالْإِيمَانِ، وَالْفَضَائِلُ تَغْلِبُ بَعْضَ الْمَعَاصِي الَّتِي قَدْ يُلِمُّ بِهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا مِنْ قَرِيبٍ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ لَا تَدْفَعُ مَا يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ فَيَقْطَعُ نِيَاطَهُ أَوْ لِلدِّمَاغِ فَيُتْلِفُهُ، كَذَلِكَ الشِّرْكُ يُشْبِهُ فِي إِفْسَادِهِ لِلْأَرْوَاحِ مَا يُصِيبُ الْقَلْبَ أَوِ الدِّمَاغَ مِنْ سَهْمٍ نَافِذٍ أَوْ رَصَاصَةٍ قَاتِلَةٍ، فَلَا مَطْمَعَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ الشِّرْكَ فِي نَفْسِهِ هُوَ مُنْتَهَى فَسَادِ الْأَرْوَاحِ وَسَفَاهَةِ الْأَنْفُسِ وَضَلَالِ الْعُقُولِ فَكُلُّ حَقٍّ أَوْ خَيْرٍ يُقَارِنُهُ لَا يَقْوَى عَلَى إِضْعَافِ شُرُورِهِ وَمَفَاسِدِهِ، وَالْعُرُوضِ إِلَى جِوَارِ اللهِ - تَعَالَى - بِرُوحِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مُتَعَلِّقَةً بِشُرَكَاءَ يَحُولُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُلُوصِ إِلَيْهِ عز وجل، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَالْمُذْنِبُ قَدْ يَكُونُ فِي إِيمَانِهِ وَسَرِيرَتِهِ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ وَحْدَهُ، فَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ قَدْ يَعْصِي وَقَدْ يَأْبَقُ فَلَا الْعِصْيَانُ وَلَا الْإِبَاقُ يُخْرِجَانِهِ عَنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ، وَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَا يَغْفِرُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ
لَا قِنًّا وَلَا مُبْغِضًا ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39: 29) ،
بَلْ هُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا امْتِيَازَهُمْ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُلُوكِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَبِيدٌ أَمْثَالُهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَرِكَةٌ مَا فِي مَقَامِ الْعِبَادَةِ لَا بِدُعَاءٍ وَلَا نِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَكْبَرُوا خَلْقَهُ أَوْ نَفْعَهُ أَوْ ضَرَّهُ كَالْكَوَاكِبِ وَالنَّارِ وَبَعْضِ الْأَنْهَارِ وَالْحَيَوَانَاتِ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ (7: 194) ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ، أَيْ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ هُمْ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، الَّتِي تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أَيْ: أَقْرَبُهُمْ وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً كَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمَسِيحِ يَبْتَغِي هَذِهِ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ عز وجل وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَإِنَّ أَعْرَفَهُمْ بِهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَرَجَاءً فِي فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عز وجل، فَتَجِدُ الْمَلَايِينَ مِنْهُمْ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَيُوَجِّهُونَ كُلَّ عِبَادَتِهِمْ إِلَيْهِ وَحْدَهُ تَارَةً، وَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ مَعَ اسْمِهِ تَارَةً أُخْرَى، وَتَجِدُ مَلَايِينَ مِنْ دُونِهِمْ يَدْعُونَ وَيُنَادُونَ مِنْ دُونِ الْمَسِيحِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَصْمُدُونَ إِلَى قُبُورِهِمْ أَوْ إِلَى الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الَّتِي اتَّخَذَهَا قُدَمَاءُ الْمَفْتُونِينَ بِهِمْ تِذْكَارًا لَهُمْ، وَإِنَّنِي أَكْتُبُ هَذَا فِي ضَوَاحِي مَدِينَةِ " دِهْلِي " مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْهِنْدِ وَأَنَا أَرَى أَصْنَافًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَجُولُونَ أَمَامِي فِي مَصَالِحِهِمْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (43: 9) ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودَاتُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ وَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَشُفَعَاءٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ (10: 18) ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَقْبَلُ الْعِبَادَةَ إِلَّا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ إِنَّا أَنْزَلَنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ (39: 2، 3) .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُوَحِّدِينَ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَمَا يَفْعَلُ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي اللُّغَةِ كَمَا يُفْسِدُونَ فِي الدِّينِ، فَلَا يُسَمُّونَ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ عِبَادَةً، وَقَدْ
يُسَمُّونَهَا تَوَسُّلًا أَوْ شَفَاعَةً، وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ شُرَكَاءَ، وَلَكِنْ لَا يَأْبَوْنَ أَنْ يُسَمُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ، وَإِنَّمَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْحَقَائِقِ لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إِلَّا دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ وَنِدَاؤُهُ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، لَكَفَى ذَلِكَ عِبَادَةً لَهُ هُوَ وَشُرُكَاهُ بِاللهِ عز وجل، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ " الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ " وَالْأُولَى تَفْقِدُ حَصْرَ الْعِبَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ حَصْرٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ مَا عَدَا الدُّعَاءَ لَا يُعَدُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ:
الْحَجُّ عَرَفَةُ أَيْ: هُوَ الرُّكْنُ الْأَهَمُّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ عِنْدَ تَرْكِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَعْبِيرَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جَدًا يَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُ مَنِ اخْتَبَرَ أَحْوَالَ الْبَشَرِ فِي عِبَادَاتِهِمْ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْفِطْرِيَّةُ الَّتِي يُثِيرُهَا الِاعْتِقَادُ الرَّاسِخُ مِنْ أَعْمَاقِ النَّفْسِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَأَنَّ مَا عَدَا الدُّعَاءَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَكُلَّهُ أَوْ جُلَّهُ تَعْلِيمِيٌّ تَكْلِيفِيٌّ يُفْعَلُ بِالتَّكَلُّفِ وَالْقُدْوَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ خَالِيًا مِنَ الشُّعُورِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْقَوْلُ أَوِ الْعَمَلُ عِبَادَةً وَهُوَ الشُّعُورُ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَرَاءُ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَدْعِيَةَ التَّعْلِيمِيَّةَ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ دُعِيَ بِهَا اللهُ وَحْدَهُ أَوْ دُعِيَ بِهَا غَيْرُهُ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا الْأَدْعِيَةُ الرَّاتِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَوْقُوتَةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ لَهَا يُحَرِّكُ بِهَا لِسَانَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ بِشَيْءٍ آخَرَ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ جَدُّ الْعِبَادَةِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَفِيضُ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ سُوَيْدَاءِ الْقَلْبِ وَقُرَارَةِ النَّفْسِ، عِنْدَ وُقُوعِ الْخَطْبِ وَشِدَّةِ الْكَرْبِ، وَالشُّعُورِ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الشَّيْءِ، وَاسْتِعْصَاءِ الْوَسَائِلِ إِلَيْهِ، وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ دُونَهُ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي تَسْمَعُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ، وَذَوِي الْكُرُبَاتِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمُلِمَّاتِ، وَفِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ، وَلَدَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الْخَالِصُ الَّذِي يَغْشَاهُ جَلَالُ الْإِخْلَاصِ، وَيُمَثِّلُ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ مَعْنَى الْخُشُوعِ التَّامِّ وَنَاهِيكَ بِمَا يُفَجِّرُهُ هَذَا الْخُشُوعُ مِنْ
يَنَابِيعِ الدُّمُوعِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي يَسْتَغِلُّهُ سَدَنَةُ الْهَيَاكِلِ وَيَسْتَثْمِرُهُ خَدَمَةُ الْمَقَابِرِ، وَيَضَنُّ بِهِ وَيُدَافِعُ عَنْهُ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ أَرْكَانِ رِيَاسَتِهِمْ عَلَى الْعَوَامِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضَنُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى لِجُمْهُورِ الْجَاهِلِينَ غِنًى عَنْهُ، وَلَا يَرَى فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ اسْتِبْدَالَ التَّوْحِيدِ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُوَحِّدِينَ أَعْلَى إِخْلَاصًا، وَأَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ وَخُشُوعًا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (2: 165) .
وَمِنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَيْ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَحَدًا أَوْ شَيْئًا فَيَدْعُهُ مَعَهُ، وَيَذْكُرِ اسْمَهُ مَعَ اسْمِهِ، أَوْ يَدْعُهُ مِنْ دُونِهِ، مُلَاحِظًا فِي دُعَائِهِ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ غَيْرَ مُلَاحِظٍ ذَلِكَ وَلَا مُتَذَكِّرٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذُكِّرَ بِهِ لَذَكَرَهُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ فِي الْعِبَادَةِ الَّذِي يَتَجَلَّى فِي الدُّعَاءِ هُوَ أَقْوَاهَا ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهِ يَكُونُ وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى النَّفْسِ مُسْتَعْبِدًا لَهَا، وَدُونَهُ الشِّرْكُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ الَّذِي يُحَاجُّكَ صَاحِبُهُ بِالشُّبَهَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِينَ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ
الْمُذْنِبَ الْخَاطِئَ وَالضَّعِيفَ الْمُقَصِّرَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُخَاطِبَ الْإِلَهَ الْعَظِيمَ كِفَاحًا وَلَا أَنْ يَدْعُوَهُ مُبَاشَرَةً، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ وَلِيًّا يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، كَمَا يَتَّخِذُ آحَادُ الرَّعِيَّةِ الْوَسَائِطَ إِلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ النَّظَرِيَّةِ مُقَلِّدًا فِيهَا بِالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ الَّذِي يُسَمِّيهِ حُجَّةً وَدَلِيلًا سَلِيمَ الْوِجْدَانِ مِنْ تَأْثِيرِهَا لِعَدَمِ التَّقْلِيدِ فِيهَا بِتَكْرَارِ الْعَمَلِ فَهُوَ لَا يُلَابِسُهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَذَلِكَ مَنْ يُشْرِكْ فِي رُبُوبِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِاتِّخَاذِ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ شَارِعِينَ يُحِلُّونَ لَهُ مَا يَرَوْنَ تَحْلِيلَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ مَا يَرَوْنَ تَحْرِيمَهُ، فَيَتَّبِعُهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِاللهِ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ فَقَدْ ضَلَّ عَنِ الْقَصْدِ، وَتَنَكَّبَ سَبِيلَ الرُّشْدِ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنْ صِرَاطِ الْهِدَايَةِ، مُوغِلًا فِي مَهَامِّهِ الْغَوَايَةَ ; لِأَنَّهُ ضَلَالٌ يُفْسِدُ الْعَقْلَ وَيُدَسِّي النَّفْسَ فَيَخْضَعُ صَاحِبُهُ وَيَسْتَخْذِي لِعَبْدٍ مِثْلِهِ، وَيَخْشَعُ وَيَضْرَعُ أَمَامَ مَخْلُوقٍ يُحَاكِيهِ أَوْ يَزِيدُ
عَلَيْهِ فِي عَجْزِهِ فَيُطِيعُ مَنْ لَا يُطَاعُ، وَيَرْجُو وَلَا مَوْضِعَ لِلرَّجَاءِ، وَيَخَافُ وَلَا مَوْطِنَ لِلْخَوْفِ، وَيَكُونُ عَبْدًا لِلْأَوْهَامِ، عُرْضَةً لِلْخُرَافَاتِ، لَا اسْتِقْلَالَ لِعَقْلِهِ فِي إِدْرَاكِهِ، وَلَا لِإِرَادَتِهِ فِي عَمَلِهِ، بَلْ يَكُونُ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي تَصَرُّفِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا غَوَايَةً قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَلَا غَوَايَةً وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ، فَهَذَا أَعْلَى وَأَعْظَمُ مَا أَعْطَاهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَيَّزَهُمْ بِهِ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ، وَهُوَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى دِينِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُسَيْطِرِينَ وَلَا جَبَّارِينَ، وَلَا آلِهَةً أَوْ أَرْبَابًا مَعْبُودِينَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (18: 110) .
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا وَمِمَّا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ مَغْفِرَةِ اللهِ لِلشِّرْكِ مَعَ جَوَازِ غُفْرَانِ غَيْرِهِ يُؤْخَذُ مِنْ قَاعِدَتَيْنِ:
الْأُولَى: أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ هُوَ بِسَلَامَةِ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتِهَا أَوْ هَلَاكِهَا وَشَقَاوَتِهَا، هُوَ تَابِعٌ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ، وَدَرَجَةِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي يُلَازِمُهَا فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ، أَوْ فَسَادُ الْفِطْرَةِ، وَخَطَأُ الْعَقِيدَةِ، وَالتَّدَنُّسُ بِالرَّذِيلَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ لِمَا يَكُونُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ دَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ، أَسْفَلُهَا وَأَخَسُّهَا
الشِّرْكُ، وَأَعْلَاهَا كَمَالُ التَّوْحِيدِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا صِفَاتٌ وَأَعْمَالٌ تُنَاسِبُهُمَا، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَغْفِرَ الشِّرْكَ فَتَكُونَ رُوحُ صَاحِبِهِ مَعَ أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، تَجُولُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي عِلِّيِّينَ، لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا أَوْ تَبْدِيلًا لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ النَّاسِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ بِطَبْعِهِ وَصِفَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ كَمَا يَكُونُ الْأَخَفُّ مِنَ الْغَازَاتِ وَالْمَائِعَاتِ فَوْقَ الْأَثْقَلِ بِطَبْعِهِ، سُنَّةَ اللهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَغْيِيرَ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - بَعْضَ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا، أَيْ: إِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَتَفْرِيجِ كُرُوبِهِمْ، إِلَّا إِنَاثًا كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَكَانَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ صَنَمٌ يُسَمُّونَهُ أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، أَوِ
الْمُرَادُ أَسْمَاءُ مَعْبُودَاتِ وَآلِهَةٍ لَيْسَ لَهَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (12: 40)، أَيْ: أَسْمَاءٌ مُؤَنَّثَةٌ فِي الْغَالِبِ، أَوِ الْمُرَادُ مَعْبُودَاتٌ ضَعِيفَةٌ أَوْ عَاجِزَةٌ كَالْإِنَاثِ لَا تَدْفَعُ عَدُوًّا وَلَا تُدْرِكُ ثَأْرًا، كَمَا وَصَفَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَصِفُ الضَّعِيفَ بِالْأُنُوثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَعْفِ الْمَرْأَةِ بَلْ ضَعْفِ جَمِيعِ إِنَاثِ الْحَيَوَانِ عَنِ الذُّكُورِ، حَتَّى قَالُوا لِلْحَدِيدِ اللَّيِّنِ أَنِيثٌ، وَرَجَّحَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ أَنَّ وَجْهَ تَسْمِيَةِ مَعْبُودَاتِهِمْ إِنَاثًا هُوَ كَوْنُهَا جَمَادَاتٍ مُنْفَعِلَةً لَا فِعْلَ لَهَا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ مُنْفَعِلٌ، كَمَا وُصِفَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِكَوْنِهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَيْسَ لَهَا أَيْدٍ تَبْطِشُ بِهَا وَلَا أَرْجُلٌ تَمْشِي بِهَا، كَأَنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ أُلُوهِيَّتِهَا بِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْعَارِ وَالْخِزْيِ بِعِبَادَةِ مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ، وَقَدِ اسْتَبْعَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْسِيرَ الْإِنَاثِ بِالْأَصْنَامِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا اسْتَبْعَدَ تَفْسِيرَهُ بِالْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ بَنَاتِ اللهِ، وَقَالَ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنَاثِ هُنَا الْمَوْتَى ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْإِنَاثِ لِضَعْفِهِمْ أَوْ يُقَالُ لِعَجْزِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ بَعْضَ الْمَوْتَى وَيَدْعُونَهَا كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُسْلِمِي هَذِهِ الْقُرُونِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ ذَلِكَ التَّوَجُّهُ الْمَخْصُوصُ بِطَلَبِ الْمَعُونَةِ لِهَيْبَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا يَعْقِلُ الْإِنْسَانُ مَعْنَاهَا.
وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، أَيْ: وَمَا يَدْعُونَ بِدَعْوَتِهَا إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، قَالُوا: الشَّيْطَانُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَارِمِ الْخَبِيثِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَرِيدِ وَالْمَارِدِ الْمُتَعَرِّي مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَجَرٌ أَمْرَدٌ إِذَا تَعَرَّى مِنَ الْوَرَقِ، وَمِنْهُ رَمْلَةٌ مَرْدَاءُ لَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا،
أَوْ هُوَ مِنْ مَرَدَ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا مُرِّنَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ يَأْتِيهِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (9: 101)، أَيْ: شَيْطَانًا مَرَدَ عَلَى الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ،
أَوْ تَمَرَّدَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ وَصْفًا آخَرَ فَقَالَ: لَعَنَهُ اللهُ، وَاللَّعْنُ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مَعَ السُّخْطِ وَالْإِهَانَةِ وَالْخِزْيِ، أَيْ: أَبْعَدَهُ اللهُ عَنْ مَوَاقِعَ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ، أَيْ: أَنَّهُمْ مَا يَدْعُونَ إِلَّا ذَلِكَ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ الْمَلْعُونَ الَّذِي هُوَ دَاعِيَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِمَا يُوَسْوِسُ فِي صَدْرِهِ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا إِلَخْ، النَّصِيبُ: الْحِصَّةُ وَالسَّهْمُ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ لَيْسَ نَصًّا فِي قِلَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، وَقَدْ يَتَبَادَرُ مِنْهُ الْقِلَّةُ، وَالْمَفْرُوضُ: الْمُعَيَّنُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْضِ وَالْحَزِّ فِي الْخَشَبَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَمِنْهُ الْفَرْضُ فِي الْعَطَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّصِيبُ طَائِفَةَ الَّذِينَ يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَأَنْ يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ نَفْسِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ، وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ الْفِطْرِيُّ لِلْبَاطِلِ وَالشَّرِّ الْمُقَابِلِ لِلِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ هُوَ مَا لِلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلشَّرِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ النَّجْدَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (90: 10) ، فَهَذَا هُوَ عَوْنُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي النَّاسِ حَتَّى الْمَعْصُومِينَ، وَلَكِنْ أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِذَا هُوَ زَيَّنَ لَهُمْ شَيْئًا لَا يَغْلِبُهُمْ عَلَى عَمَلِهِ، فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَيَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالشِّرْكِ فَبِالْمَعْصِيَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ اهـ، أَقُولُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ وَأَمْثَالُهُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي مُخَاطَبَةِ إِبْلِيسَ مَعَ الْبَارِئِ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ مِنَ الْأَقْوَالِ التَّكْوِينِيَّةِ أَيِ الَّتِي يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ تَكْوِينِ الْعَالِمِ وَمَا خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَّانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (41: 11)، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - هَذَا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَوْلٌ تَكْوِينِيٌّ لَا تَكْلِيفِيٌّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ (36: 82) ، وَقَوْلُهُمَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، تَكْوِينِيٌّ أَيْضًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمَا وُجِدَتَا كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ تُوجَدَا عَلَيْهِ، كَمَا يُجِيبُ الْعَبْدُ الْعَاقِلُ نِدَاءَ
مَوْلَاهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ هَكَذَا فَدُعَاؤُهُ دُعَاءُ مُتَمَرِّدٍ عَلَى الْحَقِّ بَعِيدٍ عَنِ الْخَيْرِ، مُغْرَى بِإِغْوَاءِ الْبَشَرِ وَإِضْلَالِهِمْ كَمَا عَبَّرَ عَنْ طَبْعِهِ وَسَجِيَّتِهِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أَيْ: لِأَتَّخِذَنَّ مِنْهُمْ نَصِيبًا وَلِأُضِلَّنَّهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَأَشْغَلَنَّهُمْ
بِالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، أَيْ: هَذَا شَأْنُهُ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ، وَالْأَمَانِيِّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَهِيَ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَمَنِّي الشَّيْءِ، يُقَالُ: تَمَنَّى الشَّيْءَ إِذَا أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ لَهُ أَسْبَابَهُ، كَمَا يَتَمَنَّى الْمُقَامِرُ الثَّرْوَةَ بِالْمُقَامَرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِلْغِنَى بَلْ لَيْسَتْ مِنَ الْكَسْبِ الْمُعْتَادِ، وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: مَنَى لَكَ الْمَانِي أَيْ: قَدَّرَ لَكَ الْمُقَدِّرُ، وَالْمَصْدَرُ الْمَنَى بِالْفَتْحِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَمِنْهُ الْمَنَّا الَّذِي يُوزَنُ بِهِ فِيمَا قِيلَ، وَأَقُولُ: الْأَجْدَرُ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ فِي كَوْنِ الْأَشْيَاءِ الْجَامِدَةِ وَالْمُدْرَكَةِ بِالْحَوَاسِّ هِيَ أَصْلٌ لِلْأَشْيَاءِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالتَّمَنِّي تَقْدِيرُ شَيْءٍ فِي النَّفْسِ وَتَصْوِيرُهُ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ تَخْمِينٍ وَظَنٍّ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ رَوِيَّةٍ وَبِنَاءٍ عَلَى أَصْلٍ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُ عَنْ تَخْمِينٍ صَارَ الْكَذِبُ لَهُ أَمْلَكَ، فَأَكْثَرُهُ تَصَوُّرُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ إِضْلَالَهُ لِمَنْ يُضِلُّهُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِهِمْ عَنِ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَأَمَّا التَّمْنِيَةُ فَهِيَ فِي الْأَعْمَالِ بِأَنْ يُزَيِّنَ لَهُمُ الِاسْتِعْجَالَ بِاللَّذَّاتِ الْحَاضِرَةِ وَالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بَلْ هَذَا اسْمٌ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ وَحْيِ الشَّيْطَانِ كُلِّهَا وَتَغْرِيرِهِ لِلنَّاسِ بِعَفْوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ.
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ الْبَتْكُ يُقَارِبُ الْبَتُّ فِي مَعْنَاهُ الْعَامُّ الَّذِي هُوَ الْقَطْعُ وَالْفَصْلُ، فَالْبَتُّ يُقَالُ فِي قَطْعِ الْحَبْلِ وَالْوَصْلِ مِنَ الْحِسِّيَّاتِ، وَفِي الطَّلَاقِ يُقَالُ طَلَّقَهَا بَتَّةً أَيْ: طَلَاقًا بَائِنًا، وَالْبَتْكُ يُقَالُ فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَالشَّعْرِ وَنَتْفِ الرِّيشِ، وَبَتَكْتُ الشَّعْرَ تَنَاوَلْتُ بِتْكَةً مِنْهُ، وَهِيَ - بِالْكَسْرِ - الْقِطْعَةُ الْمُنْجَذِبَةُ جَمْعُهَا بِتَكٌ قَالَ الشَّاعِرُ:
طَارَتْ وَفِي يَدِهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكٌ
وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَطْعِ آذَانِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ لِأَصْنَامِهِمْ كَالْبَحَائِرِ الَّتِي كَانُوا يَقْطَعُونَ أَوْ يَشُقُّونَ آذَانَهَا شَقًّا وَاسِعًا
وَيَتْرُكُونَ الْحِمْلَ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْخَفِ أَعْمَالِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ وَسَفَهِ عُقُولِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلِهَذَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهُ.
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللهِ وَسُوءُ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَامٌّ يَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْحِسِّيَّ كَالْخِصَاءِ، وَقَدْ رَوَوْا تَفْسِيرَهُ بِالْخِصَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا - فَلْيَعْتَبِرْ بِهِ مَنْ يَطْعَنُونَ فِي الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ بِاتِّخَاذِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَائِهِمْ لِلْخِصْيَانِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ خَصْيِهِمْ جَائِزٌ فِي هَذَا الدِّينِ - وَيَشْمَلُ سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّشْوِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بِالنَّاسِ الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ تَبْتِيكَ آذَانِ الْأَنْعَامِ فَكَيْفَ لَا يُحَرِّمُ سَمْلَ أَعْيُنِ النَّاسِ وَصَلْمَ آذَانِهِمْ وَجَدْعَ أُنُوفِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلَا حُجَّةٍ، وَيَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْمَعْنَوِيَّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِخَلْقِ اللهِ دِينُهُ ; لِأَنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ وَهِيَ الْخِلْقَةُ، قَالَ - تَعَالَى -: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (30: 30) ، وَرَوَى أَيْضًا تَفْسِيرَ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ بِوَشْمِ الْأَبْدَانِ وَوَشْرِ الْأَسْنَانِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَلَعَلَّ سَبَبَ التَّشْدِيدِ فِيهِ إِفْرَاطُهُمْ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى دَرَجَةِ التَّشْوِيهِ بِجَعْلِ مُعْظَمِ الْبَدَنِ وَلَا سِيَّمَا الظَّاهِرُ مِنْهُ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَزْرَقَ بِهَذَا النَّقْشِ الْقَبِيحِ وَكَانَ النَّاسُ وَلَا يَزَالُونَ يَجْعَلُونَ مِنْهُ صُوَرًا لِلْمَعْبُودَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا يَرْسِمُ النَّصَارَى بِهِ الصَّلِيبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَصُدُورِهِمْ، وَأَمَّا وَشْرُ الْأَسْنَانِ بِتَحْدِيدِهَا وَأَخْذِ قَلِيلٍ مِنْ طُولِهَا إِذَا كَانَتْ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ الْمُشَوِّهِ، بَلْ هُوَ إِلَى تَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَقْصِيرِ الشَّعْرِ أَقْرَبُ، وَلَوْلَا أَنَّ الشَّعْرَ وَالْأَظَافِرَ تَطُولُ دَائِمًا وَلَا تَطُولُ الْأَسْنَانُ لِمَا كَانَ ثَمَّ فَرْقٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّغْيِيرَ الصُّورِيَّ الَّذِي يَجْدُرُ بِالذَّمِّ يُعَدُّ مِنْ إِغْرَاءِ الشَّيْطَانِ هُوَ مَا كَانَ فِيهِ تَشْوِيهٌ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ مِنَ السُّنَّةِ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَرَى قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ تَغْيِيرُ دِينِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْحِسِّيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى مَا يَشْمَلُهُمَا، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِتَحْوِيلِ النَّفْسِ
عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَطَلَبِ الْحَقِّ وَتَرْبِيَتِهَا عَلَى الْأَبَاطِيلِ وَالرَّذَائِلِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَهَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ مَا خَلَقَ وَيَطْمِسُونَ عُقُولَ النَّاسِ، اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الدِّينِ ; لِأَنَّ مَنْ قَالُوا إِنَّهُ تَغْيِيرُ الدِّينِ اسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ آنِفًا، وَالدِّينُ الْفِطْرِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَلْقِ اللهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ عليهم السلام، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ كَلَامِ اللهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ وَيُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، لَا مِمَّا خَلَقَهُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الدِّينَ الْفِطْرِيَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَحَدِيثُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى ذَلِكَ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ فُطِرَ عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْأَخْذِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوِ الْخَيْرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بِالْبَدَاهَةِ، وَمِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأُسُسِهِ الْفِطْرِيَّةِ الْعُبُودِيَّةُ لِلسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ وَتَقِفُ دُونَ اكْتِنَاهِ حَقِيقَتِهَا الْعُقُولُ، أَيْ: لِمَصْدَرِ هَذِهِ السُّلْطَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ اللهُ عز وجل، وَكَانَ أَكْبَرُ وَأَشَدُّ
مُفَسَّدَاتِ الْفِطْرَةِ حَصْرَ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يَسْتَكْبِرُهَا الْإِنْسَانُ وَيَعِيَا فِي فَهْمِ حَقِيقَتِهَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ فَهْمُهَا وَعِلْمُهَا مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَوْ جَاءَهُ طَالِبُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَقَدْ بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (4: 48) ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَيَتْلُو هَذَا الْفَسَادَ وَالْإِفْسَادَ التَّقْلِيدُ الَّذِي يَمُدُّهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْعُقُولِ الَّتِي كَمَّلَ اللهُ بِهَا فِطْرَةَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ عَمَلِهَا الَّذِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَرْجِيحُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَتَى تَبَيَّنَا لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُمَا.
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، أَيْ: مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا لَهُ وَتِلْكَ حَالُهُ فِي التَّمَرُّدِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ وَإِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ وَتَزْيِينِهِ لَهُمُ الشُّرُورَ وَسُوءَ التَّصَرُّفِ فِي فِطْرَةِ اللهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهِ، بِأَنْ يُوَالِيَهُ وَيَتَّبِعَ وَسْوَسَتَهُ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا بَيِّنًا ظَاهِرًا فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ; إِذْ يَكُونُ أَسِيرَ الْأَوْهَامِ
وَالْخُرَافَاتِ، يَتَخَبَّطُ فِي عَمَلِهِ عَلَى غَيْرِ هُدًى فَيَفُوتُهُ الِانْتِفَاعُ التَّامُّ بِمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنَ الْعَقْلِ وَسَائِرِ الْقُوَى وَالْمَوَاهِبِ.
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا (2: 268)، أَيْ: يَعِدُ النَّاسَ الْفَقْرَ إِذَا هُمْ أَنْفَقُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهَا هُنَا حَذْفُ مَفْعُولِ الْوَعْدِ فَهُوَ يَشْمَلُ الْوَعْدَ بِالْفَقْرِ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ مِنْ وُعُودِهِ الَّتِي يُوَسْوِسُ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَعِدُ مَنْ يُرِيدُ التَّصَدُّقَ الْفَقْرَ وَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِ قَائِلًا: إِنْ مَالَكَ يَنْفَدُ أَوْ يِقِلُّ فَتَكُونُ فَقِيرًا ذَلِيلًا، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ فِي الْوَسْوَسَةِ إِلَى مَنْ يُغْرِيهِ بِالْقِمَارِ مَسْلَكًا آخَرَ فَيَعِدُهُ الْغِنَى وَالثَّرْوَةَ، وَكَذَلِكَ يَعِدُ مَنْ يُغْرِيهِ بِالتَّعَصُّبِ لِمَذْهَبِهِ وَإِيذَاءِ مُخَالِفِهِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْجَاهَ وَالشُّهْرَةَ وَبُعْدَ الصِّيتِ، وَيُؤَيِّدُ وُعُودَهُ الْبَاطِلَةَ بِالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ يُلْقِيهَا إِلَيْهِ ; وَلِهَذَا أَعَادَ ذِكْرَ الْأُمْنِيَةِ فِي مَقَامِ بَيَانِ خُسْرَانِ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ لِسَانِ الشَّيْطَانِ قَوْلَهُ: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَتَمْنِيَتِهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُمْ قُرَنَاءُ السُّوءِ الَّذِينَ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ الضَّلَالَ وَالْمَعَاصِيَ وَيَعِدُونَهُمْ بِالْمَالِ وَالْجَاهَ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْلَا وُعُودُ الشَّيْطَانِ لَمَا عَنَى أَوْلِيَاؤُهُ بِنَشْرِ مَذَاهِبِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ وَأَضَالِيلِهِمْ، الَّتِي يَبْتَغُونَ بِهَا الرِّفْعَةَ وَالْجَاهَ وَالْمَالَ، وَهَؤُلَاءِ مَوْجُودُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيُعْرَفُونَ بِمَقَاصِدِهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا قَبْلُهُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِيَصِلَ بِهِ قَوْلَهُ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أَيْ: إِلَّا بَاطِلًا يَغْتَرُّونَ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ مَا يُحِبُّونَ، وَأَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْغُرُورَ بِأَنَّهُ إِظْهَارُ النَّفْعِ فِيمَا هُوَ ضَارٌّ، أَيْ: فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْبَثُ بِهِمُ الشَّيْطَانُ
بِوَسْوَسَتِهِ أَوْ بِإِغْوَاءِ دُعَاةِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ لَا يَجِدُونَ مَعْدِلًا عَنْهَا يَفِرُّونَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ مُنْجَذِبُونَ إِلَيْهَا بِطَبْعِهِمْ يَتَهَافَتُونَ فِيهَا بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَتَهَافَتُ الْفَرَاشُ فِي النَّارِ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، هَؤُلَاءِ عِبَادُ اللهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا لِأَوْلِيَائِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، ذَكَرَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الشَّيْطَانَ وَيَتَّبِعُونَ إِغْوَاءَهُ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْوَعْدِ بِالْوَعِيدِ وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا أَيْ: لَا قِيلَ أَصْدُقُ مِنْ قِيلِهِ، وَلَا وَعْدَ أَحَقُّ مِنْ وَعْدِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ، وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاعُ لِقُدْرَتِهِ وَإِنَّمَا يُدَلِّي أَوْلِيَاءَهُ بِغُرُورٍ، فَوَعْدُهُ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُ كَذِبٌ وَزُورٌ، وَالْقِيلُ بِوَزْنِ الْفِعْلِ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ الْكَرِيمَ بِالْجَنَّاتِ وَالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ وَتَرْفَعُ النَّفْسَ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا مِرَارًا.
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا.
رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْعَرَبُ لَا نُبْعَثُ وَلَا نُحَاسَبُ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَقَالُوا:
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَأَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: احْتَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا الْآيَةَ، فَأَفْلَجَ اللهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ.
وَعَنِ السُّدِّيِّ: الْتَقَى نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَتِ الْيَهُودُ لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، دِينُنَا قَبْلَ دِينِكُمْ وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَنَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا بَعْدَ كِتَابِكُمْ وَنَبِيُّنَا بَعْدَ نَبِيِّكُمْ وَدِينُنَا بَعْدَ دِينِكُمْ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تَتْبَعُونَا وَتَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ فَقَالَ: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ إِلَخْ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ نَحْوُ ذَلِكَ، بَلْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَذَكَرُوا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَتَكَلَّمَ كُلٌّ فِي تَفْضِيلِ دِينِهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَيْسَ شَرَفُ الدِّينِ وَفَضْلُهُ وَلَا نَجَاةُ أَهْلِهِ بِهِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: إِنَّ دِينِي أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، وَأَحَقُّ وَأَثْبَتُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُوقِنًا بِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَهْدِيهِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ لَا عَلَى التَّمَنِّي وَالْغُرُورِ، فَلَا أَمْرُ نَجَاتِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّكُمْ فِي دِينِكُمْ، وَلَا أَمْرُ
نَجَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّهِمْ فِي دِينِهِمْ.
فَإِنَّ الْأَدْيَانَ مَا شُرِعَتْ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي، وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَتُهَا بِمُجَرَّدِ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهَا وَالتَّمَدُّحِ بِهَا بِلَوْكِ الْأَلْسِنَةِ وَالتَّشَدُّقِ فِي الْكَلَامِ، بَلْ شُرِعَتْ لِلْعَمَلِ، قَالَ: وَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ صَحَّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَمْ لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَانِيُّ الَّتِي كَانَ يَتَمَنَّاهَا أَهْلُ الْكِتَابِ غُرُورًا بِدِينِهِمْ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ وَيَدَّعُونَ ; وَإِنَّمَا سَرَى هَذَا الْغُرُورُ إِلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ مِنِ اتِّكَالِهِمْ عَلَى الشَّفَاعَاتِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ فَضْلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْبِشْرِ بِمَنْ بُعِثَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِذَاتِهِمْ، فَهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ لَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَحَذَّرَنَا اللهُ أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَمَانِيُّ قَدْ دَبَّتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ (57: 16) الْآيَةَ، فَهَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ كَانُوا ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلِأَمْثَالِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ وَبِمَا آلَ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمَرْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمَانِيِّ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طُرُقَ الْغُرُورِ وَمَدَاخِلَ الشَّيْطَانِ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنِ الْحَسَنِ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ وَقَالَ الْحَسَنُ:" إِنَّ قَوْمًا غَرَّتْهُمُ الْمَغْفِرَةُ فَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ مَمْلُوءُونَ بِالذُّنُوبِ وَلَوْ صَدَقُوا لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ هَذَا حَالَ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ فِي غُرُورِهِمْ وَأَمَانِيِّهِمْ وَمَدْحِ دِينِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ وَبَيَّنَ أَصْنَافَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا قَالَهُ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مَضَتْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، أَيُّ دِينٍ أَصْلَحَ إِصْلَاحَهُ؟ أَيُّ دِينٍ أَرْشَدَ إِرْشَادَهُ؟ أَيُّ شَرْعٍ كَشَرْعِهِ فِي كَمَالِهِ؟ وَلَوْ
سُئِلَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: مَاذَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ وَبِمَاذَا يَمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ؟ لَا يُحِيرُ جَوَابًا وَإِذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَسُئِلَ كَشْفَهَا حَاصَ حَيْصَةَ الْحُمُرِ، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ أَعُوذُ بِاللهِ، وَالضَّالُّ يَبْقَى عَلَى ضَلَالِهِ، وَالطَّاعِنُ فِي الدِّينِ يَتَمَادَى فِي طَعْنِهِ، وَالْمَغْرُورُ يَسْتَرْسِلُ فِي غُرُورِهِ، فَالْكَلَامُ كَثِيرٌ وَلَا عِلْمَ وَلَا عَمَلَ يَرْفَعُ شَأْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِإِيضَاحٍ لِبَعْضِ الْجُمَلِ وَاخْتِصَارٍ فِي بَيَانِ ضُرُوبِ الْغُرُورِ وَأَصْنَافِ الْمُغْتَرِّينَ.
مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللهِ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَنُوطًا بِالْأَمَانِيِّ وَالتَّشْبِيهَاتِ وَغُرُورِ النَّاسِ بِدِينِهِمْ، كَانَ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا النَّفْيَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَشَوَّفَ إِلَى اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ وَالْوُقُوفِ عَلَى حُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَيَجْعَلُهُ مَوْضُوعَ السُّؤَالِ، فَبَيَّنَهُ عز وجل بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سُوءًا يَلْقَى جَزَاءَهُ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ لَا يَتَخَلَّفُ فِي اتِّبَاعِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَنْزِلُ بِغَيْرِهِمْ كَمَا يَتَوَهَّمُ أَصْحَابُ الْأَمَانِيِّ وَالظُّنُونِ فَعَلَى الصَّادِقِ فِي دِينِهِ الْمُخْلِصِ لِرَبِّهِ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا هَدَاهُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارَ سَعَادَتِهِ لَا كَوْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ أَكْمَلَ، وَذَلِكَ الرَّسُولِ أَفْضَلَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ دِينُهُ أَكْمَلَ تَكُونُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي التَّقْصِيرِ أَقْوَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ هَذِهِ الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، رَاعَتْ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رضي الله عنه وَأَخَافَتْهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا وَقَالَ: مَنْ يَنْجُ مَعَ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم -
أَمَا تَحْزَنُ، أَمَا تَمْرَضُ، أَمَا يُصِيبُكَ الْبَلَاءُ؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ وَأَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَحَادِيثَ فِي الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى الْأَعْمَالِ وَجَعَلَهَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ وَبَعْضُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مُطْلَقٌ عَامٌّ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ أَوْ كَمَلَتِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ، وَإِذَا طَبَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، عَلِمْنَا أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا تَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يُقَصِّرُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَطَلَبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَاتِّقَاءِ الْمَضَرَّاتِ بِاجْتِنَابِ عِلَلِهَا
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (42: 30) ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ أَمْرَاضٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ عَمَلُ السُّوءِ يُدَسِّي النَّفْسَ وَيُدَنِّسُ الرُّوحَ كَانَ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِلْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَكُونُ الْخَمْرُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا بِتَأْثِيرِهَا فِي الْكَبِدِ وَالْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ وَالْجِهَازِ التَّنَفُّسِيِّ، بَلْ وَالْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَهَلْ يَكُونُ الْمَرَضُ النَّاشِئُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ كَفَّارَةً لِلْجَزَاءِ عَلَى شُرْبِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مَعْنَى كَوْنِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُصَبْ بِمَرَضٍ وَلَا مُصِيبَةٍ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُحْرَمُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ كَمَا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي بَدَنِهِ تَأْثِيرًا شَدِيدًا؟ أَمِ الْمَصَائِبُ تَكُونُ كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ مُسَبَّبَةٌ عَنْهَا وَلِغَيْرِهَا مُطْلَقًا؟ وَكَيْفَ يَنْطَبِقُ هَذَا التَّكْفِيرُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ؟ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ شَيْءٌ عَنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُصِيبَةَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً فِي الْآخِرَةِ إِذَا أَثَّرَتْ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ تَأْثِيرًا صَالِحًا وَكَانَتْ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْإِيمَانِ أَوْ تَرْكِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ لِظُهُورِ ضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، أَوِ الرَّغْبَةِ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ بِمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الْعِبْرَةِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْمُهْتَدِي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ فَتَكُونَ مُرَبِّيَةً لِعَقْلِهِ وَنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ التَّفْسِيرِ مِرَارًا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مُصِيبَةٍ كَفَّارَةً لِذَنْبٍ أَوْ لِعِدَّةِ ذُنُوبٍ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْمُصِيبَةُ سَبَبًا لِمُضَاعَفَةِ الذُّنُوبِ وَاسْتِحْقَاقِ أَشَدِّ الْعَذَابِ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي تَحْمِلُ أَهْلَ الْجَزَعِ وَمَهَانَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ - دَعِ الْكُفْرَ - عَلَى ذُنُوبٍ لَمْ يَكُونُوا لِيَقْتَرِفُوهَا لَوْلَا الْمُصِيبَةُ، وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ عَلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ بِالذَّاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَيَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ عَمَلِ السُّوءِ تَأْثِيرًا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ شَرًّا مِنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى (30: 10) ، لَا يَجِدُ لَهُ وَلِيًّا غَيْرَ اللهِ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَدْفَعُ الْجَزَاءَ عَنْهُ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِمَّا يَحِلُّ بِهِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَفَاخَرَ وَيَتَفَاخَرُ أَصْحَابُ الْأَمَانِيِّ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ
وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ
الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ الْبَشَرِ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الْخَالِقَةُ، بَلْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا شَافِعَةٌ وَوَاسِطَةٌ، فَكُلُّ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ فِي الشُّفَعَاءِ كَأَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، بَرْقٌ خُلَّبٌ وَسَحَابٌ جَهَامٌ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي النَّجَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، أَيْ: كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ مَا يَسْتَطِيعُ عَمَلَهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ - أَيِ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا النُّفُوسُ فِي أَخْلَاقِهَا وَآدَابِهَا وَأَحْوَالِهَا الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعَامِلُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى - خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَشَرِ الَّذِينَ حَقَّرُوا شَأْنَ الْإِنَاثِ فَجَعَلُوهُنَّ فِي عِدَادِ الْعَجْمَاوَاتِ لَا فِي عِدَادِ النَّاسِ، مَنْ يَعْمَلْ مَا ذُكِرَ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْإِيمَانِ مُطَمْئِنٌ بِهِ، فَأُولَئِكَ الْعَامِلُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِزَكَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَطَهَارَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَيَكُونُونَ مَظْهَرَ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ، وَمَحَلَّ إِحْسَانِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَلَا يُظْلَمُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا مَا، أَيْ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ النَّقِيرِ وَهُوَ النُّكْتَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ وَهِيَ ثُقْبَةٌ صَغِيرَةٌ وَتُسَمَّى نَقْرَةً كَأَنَّهَا حَصَلَتْ بِنَقْرِ مِنْقَارٍ صَغِيرٍ، وَيُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا بَلْ يَزِيدُهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ الَّتِي بِمَعْنَاهَا حَدِيثُ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ إِلَخْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى عَمَلِهِ تِلْكَ الْجَنَّةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، إِلَّا بِفَضْلِ اللهِ الَّذِي جَعَلَ الْجَزَاءَ الْكَبِيرَ عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي هَدَى إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ هُنَا ذِكْرُ الْعَمَلِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي خِطَابِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ قَدْ قَصَّرُوا فِي الْأَعْمَالِ وَاغْتَرُّوا بِالْأَمَانِيِّ ظَانِّينَ أَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إِلَى أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَالْإِيمَانِ بِتِلْكَ الْكُتُبِ، هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ جَنَّةِ اللهِ، وَأَكْثَرُ الْآيَاتِ يُقَدَّمُ فِيهَا ذِكْرُ الْإِيمَانِ عَلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ لِوُرُودِهَا فِي سِيَاقِ بَيَانِ أَصْلِ الدِّينِ، وَمُحَاجَّةِ الْكَافِرِينَ، وَالْإِيمَانُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ وَالْعَمَلُ
أَثَرُهُ وَمُمِدُّهُ، وَمِنَ الْحَدِيثِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ قَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
هَذَا وَإِنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مَا يَدُكُّ صُرُوحَ الْأَمَانِيِّ وَمَعَاقِلَ الْغُرُورِ الَّتِي يَأْوِي إِلَيْهَا وَيَتَحَصَّنُ فِيهَا الْكُسَالَى وَالْجُهَّالُ وَالْفُسَّاقُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ كَالْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَظَنُّوا أَنَّ اللهَ الْعَزِيزَ الْحَكِيمَ يُحَابِي مَنْ يُسَمِّي نَفْسَهُ مُسْلِمًا، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مَنْ يُسَمِّيهَا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا بِمُجَرَّدِ اللَّقَبِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ لَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَتَى يَرْجِعُ هَؤُلَاءِ إِلَى هَدْيِ كِتَابِهِمُ الَّذِي يَفْخَرُونَ بِهِ، وَيَبْنُونَ قُصُورَ أَمَانِيِّهِمْ عَلَى دَعْوَى اتِّبَاعِهِ؟ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَحَرَّمُوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْمُعَمَّمِينَ
سَمُّوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي أُقْفِلَ دُونَهُمْ بَابُهُ، وَانْقَرَضَ فِي حُكْمِهِمْ أَرْبَابُهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُهْتَدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَئِمَّةً مُسْتَنْبِطِينَ، وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ، فَيَا أَهْلَ الْقُرْآنِ! لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا الْقُرْآنَ، وَتَهْتَدُوا بِهَدْيِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَبْذُلُوا فِي سَبِيلِهِ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ وَإِلَّا فَقَدْ رَأَيْتُمْ مَا حَلَّ بِكُمْ بَعْدَ تَرْكِ هِدَايَتِهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَضَيَاعِ الْمُلْكِ وَسُوءِ الْحَالِ فَإِلَى مَتَى هَذَا الْغُرُورُ وَالْإِهْمَالُ، وَحَتَّامَ تَتَعَلَّلُونَ بِالْأَمَانِيِّ وَكَوَاذِبِ الْآمَالِ؟
هَذَا وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ الْبَصِيرَةِ فِي غُرُورِ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَفِي نَشْرِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَ الْغُرُورِ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ وَلَوْلَا أَنَّنِي الْآنَ حِلْفُ أَسْفَارٍ، لَا يَقِرُّ لِي فِي بَلَدٍ قَرَارٌ، لَأَطَلْتُ بَعْضَ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ الْغُرُورِ وَالْمُغْتَرِّينَ، وَالْأَمَانِيِّ وَالْمُتَمَنِّينَ، إِثَارَةً لِكَوَامِنِ الْعِبْرَةِ وَاسْتِدْرَارًا لِبَوَاخِلِ الْعِبْرَةِ، وَلَيْسَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ بَلِ السَّعَادَةِ مَنُوطٌ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ مَعًا، أَتْبَعُ ذَلِكَ
بَيَانَ دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَقَالَ:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ جَعَلَ قَلْبَهُ سَلَمًا خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي دُعَاءٍ وَلَا رَجَاءٍ، وَلَا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْحُجَّابِ، بَلْ يَكُونُ مُوَحِّدًا صِرْفًا لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهَ وَآثَارَ صِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلَا يَطْلُبُ شَيْئًا إِلَّا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَلَا يَأْتِي بُيُوتَ هَذِهِ الْخَزَائِنِ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا وَهِيَ السُّنَنُ وَالْأَسْبَابُ وَلَا يَدْعُو مَعَهُ وَلَا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا فِي تَيْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَتَسْهِيلِ الطُّرُقِ وَتَذْلِيلِ الصِّعَابِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا الْإِيمَانِ الْخَالِصِ، وَالتَّوْحِيدِ الْكَامِلِ مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ، مُتْقِنٌ لِكُلِّ مَا يَأْخُذُ بِهِ، مُتَخَلِّقٌ بِأَخْلَاقِ اللهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَيْ: وَاتَّبَعَ فِي دِينِهِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ حَالَ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَيْ: اتَّبَعَهُ فِي حَنِيفِيَّتِهِ، الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَيْلُهُ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَهْلِهَا وَتَبَرُّؤُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ مِنْهَا وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (43: 26 - 28) ، أَيْ: جَعَلَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الشِّرْكِ وَنَزَغَاتِهِ وَتَقَالِيدِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَدْعُو إِلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَصْفُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ وَآيَاتِهِ، وَذِكْرُ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ وَإِشْغَالِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ الْخَادِعَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ
الْآخِرَةِ لَيْسَ بِالْأَمَانِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ اللهِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ بِتَبْدِيلِ الْأَجْيَالِ وَالْآجَالِ، ثُمَّ زَادَ هَذَا بَيَانًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ صَفْوَةَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يَنْتَحِلُهَا النَّاسُ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَإِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْخُشُوعِ وَالسُّرُورِ وَالْكَآبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُظْهِرُ بَعْضُ النَّاسِ الْخُضُوعَ أَوِ الِاحْتِرَامَ لِلْآخَرِ بِإِشَارَةِ الْيَدِ، وَلَكِنَّ هَذَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّلِ وَيُعْرَفُ بِالْمُوَاضَعَةِ، وَمَا يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ
هُوَ الْفِطْرِيُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى السَّرِيرَةِ، وَهُوَ يَتَمَثَّلُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْجَبْهَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْحَرَكَةِ، فَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ تَرْكُهُ لَهُ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ وَإِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ إِحْسَانُ الْعَمَلِ - خِلَافًا لِلْجَلَالِ فِيهِمَا إِذَا عُكِسَ - وَاتِّبَاعُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ يُرَادُ بِهِ فِيمَا يَظْهَرُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عز وجل شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (42: 13) ، فَإِقَامَةُ الدِّينِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّدَيُّنِ الْمُطْلَقِ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَقُومُ بِنَاؤُهُ وَيَثْبُتُ، وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ فِيهِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ أَهْلِهِ.
وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، أَيْ: اصْطَفَاهُ لِتَوْحِيدِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فِي زَمَنٍ وَبِلَادٍ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْوَثَنِيَّةُ، وَقَوْمٍ أَفْسَدَ الشِّرْكُ عُقُولَهُمْ وَدَنَّسَ فِطْرَتَهُمْ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَالِصًا مُخْلِصًا لِلَّهِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ اللهُ خَلِيلًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُكْرِمَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ الْخَلِيلِ فِي اسْتِعْمَالِنَا لَهُ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْخُلَّةَ بَيْنَ الْخَلِيْلَيْنِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ التَّخَلُّلِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِامْتِزَاجِ وَالِاخْتِلَاطِ اهـ.
أَقُولُ: يُطْلَقُ الْخَلِيلُ بِمَعْنَى الْحَبِيبِ أَوِ الْمُحِبِّ لِمَنْ يُحِبُّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ خَالِصَةً مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ لَمْ تَدَعْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا مَوْضِعًا لِحُبٍّ آخَرَ، وَهُوَ مِنَ الْخُلَّةِ - بِالضَّمِّ - أَيِ الْمَحَبَّةُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي تَتَخَلَّلُ النَّفْسَ وَتُمَازِجُهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي
…
وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا
وَاللهُ يُحِبُّ الْأَصْفِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَيُحِبُّونَهُ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ كَامِلَ الْحُبِّ لِلَّهِ ; وَلِذَلِكَ عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَجَمِيعَ النَّاسِ فِي حُبِّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَلِيلَ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ - بِفَتْحِ الْخَاءِ - وَهِيَ الْحَاجَةُ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللهِ عز وجل حَتَّى قَالَ فِي الْحَاجَاتِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (26: 78، 79) ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْمَلُ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْخُلَّةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ ;
لِيَتَذَكَّرَ
الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُتَفَاخِرِينَ بِدِينِهِمُ الْمُتَبَجِّحِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا بِأَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَقْلِ وَصَفَاءِ الرُّوحِ وَكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِالْوَحْيِ وَالْفِنَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ ! وَلَا تَكَادُ تُوجَدُ كَلِمَةٌ فِي اللُّغَةِ تُمَثِّلُ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ كَلِمَةِ الْخَلِيلِ، وَأَمَّا لَوَازِمُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِمْ فَيُنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، ثُمَّ قَالَ عز وجل:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِ شَيْءٍ مُحِيطًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: خُتِمَ هَذَا السِّيَاقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِفَوَائِدَ: (إِحْدَاهَا) التَّذْكِيرُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا، وَهُوَ أَكْرَمُ مَنْ وَعَدَ وَأَقْدَرُ مَنْ أَوْعَدَ، (ثَانِيهَا) : بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَغَيْرُهُ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ الْعَاقِلُ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَيَتْرُكُ التَّوَجُّهَ إِلَى مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ فِي التَّوَجُّهِ وَلَوْ لِأَجْلِ قُرْبِهِ مِنْهُ؟
(ثَالِثُهَا) : نَفْيُ مَا رُبَّمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَذْهَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ الْعَادِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كَأَنْ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ الْمُقَارَبَةِ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ وَمِنْ خَلْقِهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ صِفَاتُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَرَاتِبُهَا فِي أَنْفُسِهَا وَبِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا هِيَ نُسِبَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمَعْبُودُ وَهِيَ مَخْلُوقَاتٌ مَمْلُوكَةٌ عَابِدَةٌ لَهُ خَاضِعَةٌ لِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، إِحَاطَةَ قَهْرٍ وَتَصَرُّفٍ وَتَسْخِيرٍ، وَإِحَاطَةَ عِلْمٍ وَتَدْبِيرٍ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْإِحَاطَةَ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِحَاطَةَ وُجُودٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ وَجُودُهَا مِنْ ذَاتِهَا، وَلَا هِيَ ابْتَدَعَتْ نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا وُجُودُهَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودِ
الْوَاجِبِ الْأَعْلَى، فَالْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْلِصَ الْخَلْقُ لَهُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ.
(يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد رِضا مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ آخِرَ مَا فَسَّرَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَجَزَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَسَنَسْتَمِرُّ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّا مَحْرُومِينَ فِي تَفْسِيرِ سَائِرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ عَلَى عَقْلِهِ الْمُنِيرِ إِلَّا فِي الْجُزْءِ الثَّلَاثِينَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ لَهُ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1323 هـ، وَقَدْ تُوُفِّيَ شَهْرَ جُمَادَى الْأُولَى
مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَفَعَنَا بِهِ، وَكَتَبْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَدِينَةٍ بُمْبَى أَوْ (بُومْبَايْ) مِنْ ثُغُورِ الْهِنْدِ فِي غُرَّةِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ 1330 هـ وَاللهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ، إِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ.
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا.
تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (4: 36) ، فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْقَرَابَةِ، وَمِنْ آيَةِ وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَحْكَامٍ عَامَّةٍ أَكْثَرُهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْقِتَالِ، وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِهَا هَا هُنَا تَأَخُّرُ نُزُولِهَا إِلَى أَنْ شَعَرَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِالْحَاجَةِ إِلَى زِيَادَةِ الْبَيَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهْضِمُونَ حُقُوقَ الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْآيَاتُ
مُرَاعَاتَهَا وَحِفْظَهَا وَبَيَّنَتْهَا لَهُمْ، وَجَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ حُقُوقًا ثَابِتَةً مُؤَكَّدَةً فِي الْمَهْرِ وَالْإِرْثِ كَالرِّجَالِ وَحَرَّمَتْ ظُلْمَهُنَّ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْهُنَّ، مَعَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَحَدَّدَتِ الْعَدَدَ الَّذِي يَحِلُّ مِنْهُنَّ فِي حَالِ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الظُّلْمِ، فَبَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَرَفَ النِّسَاءُ حُقُوقَهُنَّ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَنَعَ الرِّجَالَ الْأَقْوِيَاءَ أَنْ يَظْلِمُوهُنَّ، فَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَعْرِفَ الرِّجَالُ شِدَّةَ التَّبِعَةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يَقَعَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، كَأَنْ تُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَحِلَّ لَهُ أَوْ لَا يَحِلَّ أَنْ يَمْنَعَ الْيَتِيمَةَ مَا كَتَبَ اللهُ لَهَا مِنَ الْإِرْثِ وَهُوَ يَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَشْتَبِهُ بَعْضُهُمْ فِيمَا يُصَالِحُ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ، وَيَضْطَرِبُ بَعْضُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ بَيْنَ النِّسَاءِ، هَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَدْلُ فِي الْحُبِّ أَوْ فِي لَوَازِمِهِ الْعَمَلِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْمَحْبُوبَةِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَمْ لَا؟ كُلُّ هَذَا مِمَّا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ مِمَّا كَانَ يَكُونُ مَوْضِعَ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ ; فَلِهَذَا جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْآيَاتِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ عَدَمَ جَمْعِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنَ
الْقُرْآنِ هُوَ الْهِدَايَةُ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عِظَةً وَذِكْرَى وَعِبْرَةً يُنَمَّى بِهَا الْإِيمَانُ وَالْمَعْرِفَةُ بِاللهِ عز وجل، وَبِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَيُقَوَّي بِهَا شُعُورُ التَّعْظِيمِ وَالْحُبِّ لَهُ، وَتَزِيدُ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَلَوْ طَالَ سَرْدُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَا سِيَّمَا مَوْضُوعُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لَمَلَّ الْقَارِئُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ التَّفَكُّرُ فِي جُزْئِيَّاتِهَا وَوَقَائِعِهَا، فَيَفُوتُ بِذَلِكَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ، وَالْمَطْلُوبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، وَحَسْبُ طُلَّابِ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِيهِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالسُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَا يَجْعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلَ الْمَقْصُودَ مِنَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلِلتَّعَبُّدِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ هُوَ مَا عَلِمْتَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، فَمَعْنَاهُ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْفُتْيَا فِي شَأْنِهِنَّ، وَبَيَانِ الْمُشْكَلِ وَالْغَامِضِ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِنَّ، مِنْ حَيْثُ الْحُقُولُ الْمَالِيَّةُ وَالزَّوَاجُ لِأَجْلِهَا وَالنُّشُوزُ وَالْخِصَامُ وَالصُّلْحُ وَالْعَدْلُ وَالْعِشْرَةُ وَالْفِرَاقُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَوَابُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَغَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ " يَسْتَفْتُونَكَ فِي مِيرَاثِهِنَّ "، لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بَلَغَنَا أَنَّكَ تُعْطِي الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ وَإِنَّمَا كُنَّا نُوَرِّثُ مَنْ يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَيَحُوزُ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: بِذَلِكَ أُمِرْتُ، فَيَا لَلَّهِ لِلْعَجَبِ! كَيْفَ يَغْفُلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ هُوَ اسْتِفْتَاءٌ وَفَتْوَى فَيُقَطِّعُونَهَا إِرْبًا إِرْبًا، وَيَجْعَلُونَهَا جِذَاذًا وَأَفْلَاذًا لَا صِلَةَ بَيْنَهَا، وَلَا جَامِعَةَ تَضُمُّهَا؟
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنَاتٍ أُمِّ
كُحَّةَ وَمِيرَاثِهِنَّ عَنْ أَبِيهِنَّ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ، وَهُوَ وَلِيُّهَا فَيَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِذَا كَانَ مَرْغُوبًا عَنْهَا لِقِلَّةِ مَالِهَا وَجِمَالِهَا تَرَكَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ وَقَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِدَمَامَتِهَا،
وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ حَتَّى لَا يَذْهَبَ بِمَالِهَا، فَيَحْبِسُهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، بِمَا يُنَزِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَحْكَامِهِنَّ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ فِي شَأْنِهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ مِمَّا نَزَلَ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ فِي أَحْكَامِ مُعَامَلَةِ يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي جَرَتْ عَادَتُكُمْ أَلَّا تُعْطُوهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ مِنَ الْإِرْثِ إِذَا كَانَ فِي أَيْدِيكُمْ لِوِلَايَتِكُمْ عَلَيْهِنَّ، وَتَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ وَالتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ، فَلَا تَنْكِحُونَهُنَّ، وَلَا تُنْكِحُونَهُنَّ لِغَيْرِكُمْ لِيَبْقَى مَالُهُنَّ فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ لَا تُعْطُونَهُمْ حَقَّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَمَا بَعْدَهَا فِي آخِرِ آيَاتِ الْفَرَائِضِ يُذَكِّرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ أَنْ يَتَدَبَّرُوهَا وَيَتَأَمَّلُوا مَعَانِيَهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَتَغَافَلُوا عَنْ دَقَائِقِ الْأَحْكَامِ وَالْعِظَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا إِرْجَاعُهُمْ عَنْ أَهْوَائِهِمْ، وَإِذَا تَوَهَّمُوا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرَ قَطْعِيٍّ، وَأَنَّهُمْ بِالِاسْتِفْتَاءِ عَنْهُ رُبَّمَا يُفْتُونَ بِمَا فِيهِ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ، وَمُوَافَقَةُ رَغْبَتِهِمْ، لَجَئُوا إِلَى ذَلِكَ وَاسْتَفْتَوْا، وَقَدْ أَشَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِفْتَاءِ بَيَانُ دَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَا يَخْفَى مِنْهَا، وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ فِيهِنَّ، الْمَجْرُورِ أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَيْضًا فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَسْتَفْتُونَ عَنْهَا الْآنَ، فَيُبَيِّنُ لَكُمْ أَنَّهَا أَحْكَامٌ مُحْكَمَةٌ لَا هَوَادَةَ فِيهَا، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تَظْلِمُوا النِّسَاءَ وَأَمْثَالَهُنَّ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِصِغَرِهِمْ.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى مِنْ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَالْوِلْدَانِ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: أَنْ تَعْنُوا عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَحَرِّي الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ،
وَمِثْلُهُ إِقَامَةُ الشَّيْءِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَكَانَ مِنَ الْكَمَالِ أَنْ يُعَامَلَ الْيَتِيمُ بِالْفَضْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، أَيْ: وَمَا تَفْعَلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ لِلْيَتَامَى بِتَرْجِيحِ مَنْفَعَتِهِمْ، وَالزِّيَادَةِ فِي قِسْطِهِمْ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَلَا يَنْسَى الْإِثَابَةَ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ
فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَتَكْمِيلٌ لِبَيَانِ مَرَاتِبِ مُعَامَلَتِهِمْ وَهِيَ ثَلَاثٌ، أُولَاهَا: هَضْمُ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ السُّفْلَى، وَالثَّانِيَةُ: الْقِيَامُ لَهُمْ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ بِأَلَّا يَظْلِمُوا مِنْ حُقُوقِهِمْ شَيْئًا وَهِيَ الْوَاجِبَةُ الْوُسْطَى، وَالثَّالِثَةُ: الزِّيَادَةُ فِي رِزْقِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَمَا لَا يَجِبُ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ، وَهِيَ الْمَنْدُوبَةُ الْفُضْلَى.
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْخَوْفُ: تَوَقُّعُ مَا يُكْرَهُ بِوُقُوعِ بَعْضِ أَسْبَابِهِ أَوْ ظُهُورِ بَعْضِ أَمَارَاتِهِ، وَالنُّشُوزُ التَّرَفُّعُ وَالْكِبْرُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْإِعْرَاضُ: الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ، أَيْ: وَإِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا وَتَرَفُّعًا عَلَيْهَا، أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهَا، بِأَنْ ثَبَتَ لَهَا ذَلِكَ، وَتَحَقَّقَ وَلَمْ يَكُنْ وَهْمًا مُجَرَّدًا، أَوْ وِسْوَاسًا عَارِضًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَعْلُ فِعْلِ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ، مُفَسِّرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى أَسَاسِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَكْثُرُ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ زَوْجَهَا مَشْغُولًا بِأَكْبَرِ الْعَظَائِمِ الْمَالِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ أَوْ حَلِّ أَعْوَصِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاكِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوِ الْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ، لَا تَعُدُّ ذَلِكَ عُذْرًا يُبِيحُ لَهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ مُسَامَرَتِهَا أَوْ مُنَادَمَتِهَا، أَوِ الرَّغْبَةِ عَنْ مُنَاغَاتِهَا وَمُبَاعَلَتِهَا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَبَيَّنَ وَتَتَثَبَّتَ فِيمَا تَرَاهُ مِنْ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ فَإِذَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ لِسَبَبٍ خَارِجِيٍّ لَا لِكَرَاهَتِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْ مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْذُرَ الرَّجُلَ وَتَصْبِرَ عَلَى مَا لَا تُحِبُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ لِكَرَاهَتِهِ إِيَّاهَا وَرَغْبَتِهِ عَنْهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يُصْلِحَا بِوَزْنِ يُكْرِمَا مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالْبَاقُونَ " يَصَّالَحَا " بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، أَيْ:
فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ الَّذِي يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا، كَأَنْ تَسْمَحَ لَهُ بِبَعْضِ حَقِّهَا عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ أَوِ الْمَبِيتِ مَعَهَا أَوْ بِحَقِّهَا كُلِّهَا فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا لِتَبْقَى فِي عِصْمَتِهِ مُكَرَّمَةً أَوْ تَسْمَحَ لَهُ بِبَعْضِ الْمَهْرِ وَمُتْعَةِ الطَّلَاقِ أَوْ بِكُلِّ ذَلِكَ لِيُطَلِّقَهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (2: 229) ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مَا تُعْطِيهِ مِنْ حَقِّهَا إِذَا كَانَ بِرِضَاهَا، لِاعْتِقَادِهَا أَنَّهُ خَيْرٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُلْجِئًا إِيَّاهَا إِلَيْهِ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ ظُلْمِهَا أَوْ إِهَانَتِهَا؛ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ يَكْرَهُهَا لِكِبَرِ سَنِّهَا أَوْ دَمَامَتِهَا وَيُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَيَخَافُ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَدِيدَةِ فَيُكَاشِفُهَا بِذَلِكَ وَيُخَيِّرُهَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عِنْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ تُسْقِطَ عَنْهُ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ، أَيْ حِصَّتُهَا مِنَ الْمَبِيتِ عِنْدَهَا، وَمِثْلُهَا الرَّجُلُ الَّذِي عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ مَثَلًا يَكْرَهُ إِحْدَاهُمَا وَيُرِيدُ فِرَاقَهَا إِلَّا أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْمَبِيتِ، أَوْ يَعْجَزُ عَنِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا فَيُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا إِلَّا أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، فَإِذَا لَمْ تَرْضَ الْمَكْرُوهَةُ لِكِبَرِهَا أَوْ قُبْحِهَا إِلَّا بِحَقِّهَا
فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، وَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ إِيفَاؤُهَا حَقَّهَا وَأَلَّا يُنْقِصَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُصَالِحَهَا بِمَالٍ يَبْذُلُهُ لَهَا بَدَلًا مِنْ لَيَالِيهَا، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ جَازَ لَهُمَا، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيهِ كَمَا لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ صُوَرِ الصُّلْحِ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ هُوَ التَّرَاضِي وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، مِنَ التَّسْرِيحِ وَالْفِرَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِإِحْسَانٍ وَأَدَاءِ الْمَهْرِ وَالْمُتْعَةِ وَحِفْظِ الْكَرَامَةِ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقِ ; لِأَنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الرَّوَابِطِ وَأَحَقِّهَا بِالْحِفْظِ، وَمِيثَاقَهَا مِنْ أَغْلَظِ الْمَوَاثِيقِ وَأَجْدَرِهَا بِالْوَفَاءِ، وَعُرُوضُ الْخِلَافِ وَالْكَرَاهَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ وَسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ لِمَنْ يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ مِنَ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ، وَالشَّرِيعَةُ الْعَادِلَةُ الرَّحِيمَةُ هِيَ الَّتِي تُرَاعَى فِيهَا السُّنَنُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالْوَقَائِعُ الْفِعْلِيَّةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي ذَلِكَ أَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ هِيَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْقِيَامَ بِرِيَاسَةِ الْأُسْرَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِهَا لِأَنَّهُ أَقْوَى بَدَنًا وَعَقْلًا وَأَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ قَالَ: وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (2: 228)، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (4: 34) ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ فِي هَذِهِ الرِّيَاسَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَرَاءَ النَّفَقَةِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يُحَصِّنَهَا وَيُعِفَّهَا وَيُحَصِّنَ نَفْسَهُ وَيُعِفَّهَا بِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا ضُرَّةً شَرِيكَةً فِي ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَزْمِنَةِ الْحُرُوبِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الرِّجَالُ، وَتَكْثُرُ النِّسَاءُ كَمَا بَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ أَوْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا النُّفُورُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ وَالْمَعْرُوفَ، فَإِنْ خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَعَلَى الَّذِي يُرِيدُ مِنْهُمَا أَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْآخَرِ أَنْ يَسْتَرْضِيَهُ، وَكَمَا جَعَلَ اللهُ الطَّلَاقَ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَحْرَصُ عَلَى عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، لِمَا تَكَلَّفَهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ طَاعَةِ الِانْفِعَالِ الْعَارِضِ، جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ حَقَّ الْفَسْخِ إِذَا لَمْ يَفِ بِحُقُوقِهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْإِحْصَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ خَيْرٌ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ خَيْرِيَّةِ الصُّلْحِ فِي نَفْسِهِ.
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، بَيَّنَ لَنَا سبحانه وتعالى فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ السَّبَبَ الَّذِي قَدْ يَحُولُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَبَيْنَ الصُّلْحِ الَّذِي فِيهِ الْخَيْرُ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، لِأَجْلِ أَنْ نَتَّقِيَهُ وَنُجَاهِدَ أَنْفُسَنَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الشُّحُّ وَمَعْنَاهُ الْبُخْلُ النَّاشِئُ عَنِ الْحِرْصِ، وَمَعْنَى إِحْضَارِهِ الْأَنْفُسَ أَنَّهَا عُرْضَةٌ لَهُ، فَإِذَا جَاءَ مُقْتَضَى الْبَذْلِ أَلَمَّ بِهَا وَنَهَاهَا أَنْ تَبْذُلَ مَا يَنْبَغِي بَذْلُهُ لِأَجْلِ الصُّلْحِ وَإِقَامَةِ الْمَصْلَحَةِ ; فَالنِّسَاءُ حَرِيصَاتٌ عَلَى حُقُوقِهِنَّ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ
شَحِيحَاتٍ بِهَا، وَالرِّجَالُ أَيْضًا حَرِيصُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَشِحَّةٌ بِهَا، فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ يَتَذَكَّرَ أَنَّ هَذَا مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ الَّذِي يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، وَأَنْ يُعَالِجَهُ فَلَا يَبْخَلُ بِمَا يَنْبَغِي بَذْلُهُ وَالتَّسَامُحُ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مِنْ أَقْبَحِ الْبُخْلِ أَنْ يَبْخَلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ الْآخَرِ، بَعْدَ أَنْ أَفْضَى بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ وَارْتَبَطَا بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّسَامُحُ بَيْنَهُمَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْآتِيَةُ:
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، أَيْ: وَإِنْ تُحْسِنُوا الْعِشْرَةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَتَتَرَاحَمُوا وَتَتَعَاطَفُوا وَيَعْذُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَتَّقُوا النُّشُوزَ وَالْإِعْرَاضَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَنْعِ الْحُقُوقِ أَوِ الشِّقَاقِ، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ خَبِيرًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَخَفَايَاهُ وَلَا مِنْ قَصْدِكُمْ فِيهِ، فَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْكُمْ بِالْحُسْنَى، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا بِالْعَاقِبَةِ الْفُضْلَى قَالَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حَثُّ الرِّجَالِ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى نِسَائِهِمْ وَعَدَمِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُنَّ، وَإِنْ كَرِهُوهُنَّ لِكِبَرِهِنَّ أَوْ دَمَامَتِهِنَّ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (4: 19) .
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، هَذِهِ الْآيَةُ فَتْوَى أُخْرَى غَيْرُ الْفَتَاوَى الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَالْمُسْتَفْتُونَ عَنْهَا هُمُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ زَوْجَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (4: 3) ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ عَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ نَاوِيًا الْعَدْلَ حَرِيصًا عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ وُعُورَةُ مَسْلَكِهِ، وَاشْتِبَاهُ أَعْلَامِهِ، وَالتَّحْدِيدُ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ اخْتِيَارُهُ مِنْهُ، فَالْوَرِعُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُحَاوِلُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى فِي إِقْبَالِ النَّفْسِ، وَالْبَشَاشَةِ وَالْأُنْسِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَيَرَى أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ الْوِجْدَانُ النَّفْسِيُّ، وَالْمَيْلُ الْقَلْبِيُّ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَلَا يَمْلِكُ آثَارَهُ الطَّبِيعِيَّةَ، وَلَوَازِمَهُ الْفِطْرِيَّةَ، فَخَفَّفَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْعَدْلَ الْكَامِلَ بَيْنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَهْمَا حَرَصْتُمْ عَلَى أَنْ تَجْعَلُوا الْمَرْأَتَيْنِ كَالْغِرَارَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْوَزْنِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْعَدْلِ، فَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ بِحِرْصِكُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ لَمَا قَدَرْتُمْ عَلَى إِرْضَائِهِمَا بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، إِلَى الْمَحْبُوبَةِ مِنْهُنَّ بِالطَّبْعِ، الْمَالِكَةِ لِمَا لَا تَمْلِكُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْقَلْبِ فَتُعْرِضُوا بِذَلِكَ عَنِ الْأُخْرَى فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، كَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ وَغَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، فَإِنَّ الَّذِي يُغْفَرُ لَكُمْ مِنَ الْمَيْلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالطَّبْعِ، هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَا يَكُونُ
مِنْ تَعَمُّدِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْإِهْمَالِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقُومُوا لَهَا بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كُلِّهَا وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: وَإِنْ تُصْلِحُوا فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ وَتَتَّقُوا ظُلْمَهُنَّ وَتَفْضِيلَ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمُعَامَلَاتِ
الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَكُمْ مَا دُونُ ذَلِكُ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ بِالِاخْتِيَارِ، كَالْحُبِّ وَلَوَازِمِهِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِقْبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ شَأْنَهُ سُبْحَانَهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمُسْتَحِقِّهَا.
يَظُنُّ بَعْضُ الْمَيَّالِينَ إِلَى مَنْعِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ (4: 3) ، أَنَّ التَّعَدُّدَ غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّ مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَخَبَرُهُ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْعَدْلُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَعَدَمُ الْعَدْلِ صَارَ أَمْرًا يَقِينِيًّا، وَيَكْفِي فِي تَحْرِيمِ التَّعَدُّدِ أَنْ يَخَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ بِأَنْ يَظُنَّهُ ظَنًّا فَكَيْفَ إِذَا اعْتَقَدَهُ يَقِينِيًّا؟
كَانَ يَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ صَحِيحًا لَوْ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إِلَخْ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْعَدْلِ هُوَ الْعَدْلُ الْكَامِلُ الَّذِي يَحْرِصُ عَلَيْهِ أَهْلُ الدِّينِ وَالْوَرَعِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَإِنَّ الْعَدْلَ مِنَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الَّتِي يَشْتَبِهُ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ مِنْهَا بِمَا يُقَارِبُهُ مِنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلَا يَسْهُلُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّهِ وَالْإِحَاطَةِ بِجُزْئِيَّاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوِجْدَانَاتِ النَّفْسِ كَالْحُبِّ وَالْكُرْهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ فَلَمَّا أُطْلِقَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدْلِ اقْتَضَى ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ أَنْ يُفَكِّرَ أَهْلُ الدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالْحِرْصِ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ فِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْعَدْلِ وَجُزْئِيَّاتِهِ وَيَتَبَيَّنُوهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَبَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَدْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْفَرْدَ الْكَامِلَ الَّذِي يَعُمُّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ ; لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
نَعَمْ إِنَّ فِي الْآيَةِ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا مِنْ غَيْرِ أُولَئِكَ الْوَرِعِينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا وَيَعْتَبِرُ بِهَا مِنْ عُبَّادِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْصِدُونَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ إِلَّا تَمْتِيعَ النَّفْسِ بِاللَّذَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَرْكَانِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) ، وَلَا مُرَاعَاةِ أَمْرِ النَّسْلِ وَصَلَاحِ الذُّرِّيَّةِ، أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنَ الزَّوَاجِ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، يَتَزَوَّجُونَ الثَّانِيَةَ لِمَحْضِ الْمَلَلِ مِنَ الْأُولَى وَحُبِّ التَّنَقُّلِ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَمْرُ الْعَدْلِ، وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ لِإِحْدَاهُنَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ يَنْوِي مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَظْلِمَ الْأُولَى وَيَهْضِمَ حَقَّهَا، وَلَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ ارْتَكَبَ فِي ذَلِكَ إِثْمًا، وَلَا أَغْضَبَ اللهَ وَاسْتَهَانَ بِأَحْكَامِهِ، وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ، يَظُنُّونَ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَمْرٌ سَهْلٌ فَيُقْدِمُونَ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا
فِي حَقِيقَةِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ وَمَاهِيَّتِهِ، أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ الذَّوَّاقُونَ! أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ الْمُتْرَفُونَ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي مِيثَاقِ الزَّوْجِيَّةِ الْغَلِيظِ! وَفِي حُقُوقِهَا الْمُؤَكَّدَةِ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي عَاقِبَةِ نَسْلِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِ ذُرِّيَّتِهِمْ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي حَالِ أُمَّتِهِمُ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى دَعَائِمِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَالذُّرِّيَّةِ الَّتِي تَنْشَأُ بَيْنَ أُمَّهَاتٍ مُتَعَادِيَاتٍ وَزَوْجٍ شَهْوَانِيٍّ ظَالِمٍ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَلْيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ لِيَعْلَمُوا هَلْ هُمْ مِنَ الْمُصْلِحِينَ لِأَمْرِ نِسَائِهِمْ وَنِظَامِ بُيُوتِهِمْ أَمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَهَلْ هُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ اللهَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَمْ مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ أَوِ الْفَاسِقِينَ؟
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا أَيْ: وَإِنْ يَتَفَرَّقِ الزَّوْجَانِ اللَّذَانِ يَخَافَا كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ، كَالَّذِي يَكْرَهُ امْرَأَتَهُ لِدَمَامَتِهَا أَوْ كِبَرِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَلَمْ يَتَصَالَحْ مَعَهَا عَلَى شَيْءٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، وَكَالَّذِي عِنْدَهُ زَوْجَانِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَسْمَحُ لَهُ الْمَرْغُوبُ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا بِمُقَابِلٍ وَلَا غَيْرِ مُقَابِلٍ، إِنْ يَتَفَرَّقَ هَذَانَ - عَلَى تَرْجِيحِ الطَّلَاقِ عَلَى دَوَامِ الزَّوْجِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِسْنَادُ
الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا، وَعَدَمِ حِرْصِ أَحَدٍ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِرْضَاءِ الْآخَرِ وَصُلْحِهِ - يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سِعَتِهِ، يُغْنِي اللهُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِسِعَةِ فَضْلِهِ، فَقَدْ يُسَخِّرُ لِلْمَرْأَةِ رَجُلًا خَيْرًا مِنْهُ يَقُومُ لَهَا بِحُقُوقِهَا، وَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ أَوْ يَتَزَوَّجُهَا مَنْ تُحْصِنُهُ وَتُرْضِيهِ فَيَسْتَقِيمُ أَمْرُ بَيْتِهِ وَتَرْبِيَةُ أَوْلَادِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جَدِيرًا بِإِغْنَاءِ اللهِ إِيَّاهُ عَنِ الْآخَرِ بِزَوْجٍ خَيْرٍ مِنْهُ، إِذَا الْتَزَمَا فِي التَّفَرُّقِ حُدُودَ اللهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الِاتِّفَاقِ وَالصُّلْحِ، حَتَّى إِذَا ظَهَرَ لَهُمَا بَعْدَ إِجَالَةِ الرَّأْيِ فِيهِ وَالتَّرَوِّي فِي أَسْبَابِهِ وَوَسَائِلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ لَهُمَا، تَفَرَّقَا بِإِحْسَانٍ يَحْفَظُ كَرَامَتَهُمَا وَلَا يَكُونَانِ بِهِ مُضْغَةً فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ، وَقُدْوَةً سَيِّئَةً لِفَاسِدِي الْأَخْلَاقِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا، أَيْ كَانَ وَلَا يَزَالُ وَاسِعَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ يُوَفِّقُ بَيْنَ أَقْدَارٍ، وَيُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُسَبِّبَاتِ وَالْأَسْبَابِ، حَكِيمًا فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، جَاعِلًا لَهَا عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ النَّاسِ.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ الرَّغْبَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُتَفَرِّقَيْنِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ مِنْ حُسْنِ تَعَامُلِهِمَا فِي تَفَرُّقِهِمَا، وَالْتِزَامِهِمَا فِيهِ حِفْظَ كَرَامَتِهِمَا، وَإِنَّمَا قُلْتُ:" قَدْ يَكُونُ " لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَغِّبًا لِدَهْمَاءِ النَّاسِ وَتُحُوتِهِمْ، فَهُوَ أَكْبَرُ الْمُرَغِّبَاتِ لِكِرَامِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَيْرُ فِيهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْفَاضِلَ الْكَرِيمَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ امْرَأَةً اخْتَلَفَتْ مَعَ بَعْلِهَا لِأَنَّ نَفْسَهَا الشَّرِيفَةَ لَمْ تَقْبَلْ أَنْ يَنْشُزَ أَوْ يُعْرِضَ عَنْهَا، أَوْ يَقْرِنَ بِهَا مَنْ لَا يَعْدِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ تَخْدِشْ كَرَامَتَهُ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، وَإِنَّمَا أَحَبَّتْ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ عَادِلَةٍ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَتَفَرَّقَا بِأَدَبٍ وَإِحْسَانٍ حُفِظَ بِهِ شَرَفُهُمَا، وَحَسُنَ بِهِ ذِكْرُهُمَا، وَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي
أَسَاءَ إِلَيْهَا، لَا لِعَيْبٍ فِي أَخْلَاقِهَا وَلَا لِسُوءٍ فِي أَعْمَالِهِ، بَلْ لِتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْفَاضِلَ الْكَرِيمَ يَرَى فِيهَا أَفْضَلَ صِفَاتِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يَتَسَاهَلُ لِأَجْلِهَا فِيمَا عَدَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَتَاةً رَغِبَ فِيهَا الْفِتْيَانُ وَغَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ نَصَفًا رَغِبَ فِيهَا كَثِيرُونَ مِنْ أَمْثَالِهَا فِي السِّنِّ وَشَرَفِ الْأَدَبِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ رَغْبَةً فِي مِثْلِهَا مَنْ يَتَزَوَّجُونَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، لَا لِمَحْضِ إِرْضَاءِ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ تَدُومَ لَهُمُ الْعِيشَةُ الْمَرْضِيَّةُ، كَذَلِكَ كَرَائِمُ النِّسَاءِ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ يَرْغَبُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ يُمْسِكُ
الْمَرْأَةَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ، وَلَا يُلْجِئُهُ إِلَى الطَّلَاقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي تَرْتِيبِ كِتَابِهِ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي شُئُونِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا، أَنْ يُعَقِّبَ عَلَيْهَا بِآيَاتٍ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ تُذَكِّرُ الْمُخَاطَبِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ بِعَظَمَتِهِ وَسِعَةِ مُلْكِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ خَلْقِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، تُذَكِّرُهُمْ بِذَلِكَ لِيَزْدَادُوا بِتَدَبُّرِهَا إِيمَانًا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَاتُ:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مُلْكًا وَخَلْقًا وَعَبِيدًا، فَبِأَمْرِهِ وَحْدَهُ قَامَ نِظَامُ الْأَكْوَانِ، وَلَهُ وَحْدَهُ التَّدْبِيرُ وَالتَّكْلِيفُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ، فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، فَبِإِقَامَةِ السُّنَنِ تَعْلُو مَعَارِفُكُمُ الْإِلَهِيَّةُ، وَتَرْتَقِي مَرَافِقُكُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَبِإِقَامَةِ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، تَتَزَكَّى أَنْفُسُكُمْ وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحُكُمُ الْمَدَنِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ وَإِنْ تَكْفُرُوا، نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ وَتَتْرُكُوا
تَقْوَاهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، لَا يَنْقُصُ كُفْرُكُمْ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا ضَرَرُهُ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الشُّكْرِ خَاصَّةٌ بِكُمْ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ وَمِنْهُ، مَحْمُودًا بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ، مَحْمُودًا عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شُكْرِكُمْ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى حَمْدِكُمْ لِتَحْقِيقِ حَمْدِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (17: 44) ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ عز وجل: يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ اكْتَفَيْنَا مِنْهُ بِمَحَلِّ الشَّاهِدِ فِي مَوْضُوعِنَا.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، أَعَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِكَوْنِهِ مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيِ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا لِيَتَمَثَّلُوا عَظَمَتَهُ، وَيَسْتَحْضِرُوا الدَّلِيلَ عَلَى غِنَاهُ وَحَمْدِهِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ تَوَكَّلَ بِإِغْنَاءِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَقَامَا حُدُودَهُ فِي تَفَرُّقِهِمَا فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ كُلِّ مَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكْتَفُوا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ لَهُمْ، وَيُسْتَعْمَلُ الْوَكِيلُ بِمَعْنَى الْمُهَيْمِنِ وَالْمُسَيْطِرِ وَالرَّقِيبِ.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا عَلِمْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِنْ يَشَأْ أَنْ يُذْهِبَكُمْ بِعَذَابٍ يُنْزِلُهُ بِكُمْ، أَوْ أُمَّةٍ قَوِيَّةٍ يُسَلِّطُهَا عَلَيْكُمْ فَتَسْلُبُ اسْتِقْلَالَكُمْ حَتَّى تَجْعَلَكُمْ عَبِيدًا أَوْ كَالْعَبِيدِ لَهَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَقُومُوا بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمُ الَّتِي بِهَا وِحْدَتُكُمْ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُكُمْ وَيَأْتِ
بِآخَرِينَ، يَحُلُّونَ مَحَلَّهُمْ فِي الْوُجُودِ أَوِ الْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (14: 19، 20) ، وَفِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (47: 38)، قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُقَاوِمُونَ دَعْوَتَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ وَتَوْجِيهٌ لِأَفْكَارِهِمْ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي سُنَنِهِ تَعَالَى بِحَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَكَوْنِ هَذِهِ السُّنَنِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا الْمَشِيئَةُ لَا مَرَدَّ لَهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ; لِأَنَّ بِيَدِهِ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ، مِنْكُمْ بِسَعْيِهِ وَكَدْحِهِ وَجِهَادِهِ فِي حَيَاتِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا، وَنَعِيمَهَا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، جَمِيعًا وَقَدْ وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ وَهِدَايَةِ الْحَوَاسِ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالدِّينِ مَا يُمْكِنُكُمْ بِهِ نَيْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الثَّوَابَيْنِ جَمِيعًا وَلَا تَكْتَفُوا بِالْأَدْنَى الْفَانِي عَنِ الْأَعْلَى الْبَاقِي، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَيْسُورٌ لَكُمْ، وَمِمَّا تَنَالُهُ قُدْرَتُكُمْ، فَمِنْ سَفَهِ النَّفْسَ، وَأَفَنِ الرَّأْيِ، أَنْ تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِي أَهْلَهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ كُلًّا مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (2: 201) .
وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، سَمِيعًا لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ، بَصِيرًا بِجَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاقِبُوهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَذَلِكَ الَّذِي يُعِينُهُمْ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي يَسْتَقِيمُ بِهَا أَمْرُ دُنْيَاهُمْ، وَيَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي آخِرَتِهِمْ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ مَكَانُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مِمَّا قَبْلَهَا، وَهِيَ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ إِلَخْ، فَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ خَاصَّةً بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ بِالْقِسْطِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِسْطِ فِي الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، فَهُنَالِكَ خَصَّ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءَ فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْتَاءِ فِيهِنَّ، وَلِأَنَّ حَقَّهُنَّ آكِدٌ وَظُلْمَهُنَّ مَعْهُودٌ، وَهَا هُنَا عَمَّمَ الْأَمْرَ
بِالْقِسْطِ لِأَنَّ الْعَدْلَ حِفَاظُ النِّظَامِ وَقِوَامُ أَمْرِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَعَدَمُ مُحَابَاةِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ لِغِنَاهُ، أَوْ مُرَاعَاتِهِ لِفَقْرِهِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ وَالْحَقَّ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ وَحُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ مُحَابَاةُ الْأَقْرَبِينَ مَعْهُودَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّ أَمْرَهُمْ قَائِمٌ بِالْعَصَبِيَّةِ، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَانَ يَنْصُرُ قَوْمَهُ وَأَهْلَ عَصَبِيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَزُّ بِهِمْ، كَمَا يَظْلِمُ النِّسَاءَ وَالْيَتَامَى لِضِعْفِهِنَّ، وَعَدَمِ الِاعْتِزَازِ بِهِنَّ، فَحَظْرُ اللهِ مُحَابَاةَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ أَهْلَهُ وَإِعْطَاءَهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُقَابِلُ حَظْرَ ظُلْمِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى هُنَاكَ وَهَضْمَ مَا لَهُنَّ مِنَ الْحَقِّ، رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ كَانَتِ الْبَقَرَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ، ثُمَّ أَرْدَفَتْهَا سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ قِبَلَ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ عَمِّهِ أَوْ ذَوِي رَحِمِهِ فَيَلْوِي بِهَا لِسَانَهُ أَوْ يَكْتُمُهَا مِمَّا يَرَى مِنْ عُسْرَتِهِ حَتَّى يُوسَرَ فَيَقْضِيَ فَنَزَلَتْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، فَتَأَمَّلَ كَيْفَ بَقِيَ تَأْثِيرُ الْمُحَابَاةِ فِيهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ! .
الْقَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْعَدْلَ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا وَأَدُوَمِهَا فَإِنَّ قَوَّامِينَ، جَمْعُ قَوَّامٍ وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَالْقِيَامُ بِالشَّيْءِ
هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُسْتَوِيًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ، لِتَأْكِيدِ الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ بَنَى جِدَارًا مَائِلًا أَوْ نَاقِصًا لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَقَامَ الْبِنَاءَ أَوْ أَقَامَ الْجِدَارَ، قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ (18: 77) .
وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْجِدَارُ إِلَى الْإِقَامَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَائِلًا مُتَدَاعِيًا لِلسُّقُوطِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْكِيدِ أَمْرِ الْعَدْلِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ مُطْلَقًا يَكُونُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ تَقُولُ: اعْدِلُوا وَأَقْسِطُوا، وَتَقُولُ: كُونُوا عَادِلِينَ أَوْ مُقْسِطِينَ، وَهَذِهِ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهَا أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الصِّفَةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالْقِسْطِ الَّذِي يَصْدُقُ بِمَرَّةٍ، وَتَقُولُ: أَقِيمُوا الْقِسْطَ وَأَبْلَغُ مِنْهُ: كُونُوا قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: لِتَكُنِ الْمُبَالَغَةُ وَالْعِنَايَةُ بِإِقَامَةِ الْقِسْطِ عَلَى وَجْهِهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِكُمْ بِأَنْ تَتَحَرَّوْهُ بِالدِّقَّةِ التَّامَّةِ حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً فِي نُفُوسِكُمْ، وَالْقِسْطُ يَكُونُ فِي الْعَمَلِ كَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ مِمَّنْ يُوَلِّيهِ السُّلْطَانُ أَوْ يُحَكِّمُهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ أَعْدَلَ الْأُمَمِ وَأَقْوَمَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا عِنْدَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ، وَصَدَقَ عَلَى سَلَفِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (7: 181) ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ أُولَئِكَ السَّلَفِ خَلْفٌ نَبَذُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ جَمِيعُ الْأُمَمُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِظُلْمِ حُكَّامِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ، وَتَفْخَرُ عَلَيْهِمْ بِالْعَدْلِ بَلْ صَارَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ يَلْتَمِسُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْقِسْطَ، وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: شُهَدَاءَ لِلَّهِ، خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ: كُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ، وَالشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ بِوَزْنِ " فَعِيلٍ " وَالْأَصْلُ فِي صِيغَةِ " فَعِيلٍ " أَنْ تَدُلَّ عَلَى الصِّفَاتِ الرَّاسِخَةِ كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ، فَهُوَ عَلَى هَذَا أَمْرٌ بِالْعِنَايَةِ بِأَمْرِ الشَّهَادَةِ وَالرُّسُوخِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ فِي تَفْسِيرِ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَتُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا الْحَقَّ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيَأْمُرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ
وَلَا مُحَابَاةٍ لِأَحَدٍ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَيْ: كُونُوا شُهَدَاءَ بِالْحَقِّ لِوَجْهِ اللهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ الَّذِي تُنَالُ بِهِ مَرْضَاتُهُ وَمَثُوبَتُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، بِأَنْ يَثْبُتَ بِهَا الْحَقُّ عَلَيْكُمْ وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِظْهَارُ الْحَقِّ أَوْ عَلَى وَالِدَيْكُمْ وَأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكُمْ كَأَوْلَادِكُمْ وَإِخْوَتِكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَلَا مِنْ صِلَةِ رَحِمِ الْأَقْرَبِينَ أَنْ يُعَانُوا عَلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لَيِّهَا وَالتَّحْرِيفِ فِيهَا لِأَجْلِهِمْ، وَإِنَّمَا الْبِرُّ وَالصِّلَةُ فِي الْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَالَّذِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الظُّلْمِ وَهَضْمِ حُقُوقِ النَّاسِ يَتَعَاوَنُ النَّاسُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ أَسْبَابِ فُشُوِّ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يَأْمَنُ شَرَّهًا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَالْمُحَابَاةُ فِي الشَّهَادَةِ مَفْسَدَةٌ ضَرَرُهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَتْ لِمَصْلَحَةٍ يُرِيدُ الْمُحَابِي بِهَا نَفْعَ أَهْلِهِ أَوِ الشَّفَقَةَ عَلَى فَقِيرٍ أَوِ الْعَصَبِيَّةَ لِغَنِيٍّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ عز وجل: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، أَيْ: إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، وَشَرْعُهُ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهِمَا فَلَا تُحَابُوا الْغَنِيَّ طَمَعًا فِي بِرِّهِ، وَلَا خَوْفًا مِنْ شَرِّهِ وَلَا الْفَقِيرَ عَطْفًا عَلَيْهِ وَرَحْمَةً بِهِ، فَمَرْضَاةُ الْفَقِيرِ لَيْسَتْ خَيْرًا لَكُمْ وَلَا لَهُ مِنْ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْتُمْ أَرْحَمُ بِالْفَقِيرِ وَأَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ وَإِقَامَةَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ هِيَ خَيْرٌ لِلشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا لَمَا شَرَعَ اللهُ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ فَكَانَ حِلْفُهُ مَعَ الْفَقِيرِ يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ، فَأَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ اهـ.
أَيْ: كَانَ مَيْلُهُ الْقَلْبِيُّ مُوَجَّهًا إِلَى الْفَقِيرِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّى لِظُلْمِ الْغَنِيِّ، وَهُوَ وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي تُظْهِرُهُ الْبَيِّنَةُ وَالْحُجَّةُ سَوَاءٌ أَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ وَنِعْمَ مَا قَالَ: هَذَا فِي الشَّهَادَةِ،
فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ يَا ابْنَ آدَمَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ أَوِ الْوَالِدَيْنِ أَوِ الْأَقْرَبِينَ أَوْ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِكَ وَأَشْرَافِ قَوْمِكَ، فَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ لِلَّهِ وَلَيْسَتْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ اللهَ رَضِيَ بِالْعَدْلِ لِنَفْسِهِ وَالْإِقْسَاطِ، وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، بِهِ يَرُدُّ اللهُ مِنَ الشَّدِيدِ عَلَى الضَّعِيفِ وَمِنَ الصَّادِقِ عَلَى الْكَاذِبِ، وَمِنَ الْمُبْطِلِ عَلَى الْمُحِقِّ،
وَبِالْعَدْلِ يُصَدَّقُ الصَّادِقُ وَيُكَذَّبُ الْكَاذِبُ، وَيَرُدُّ الْمُعْتَدِي وَيُوَبِّخُهُ تَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ، وَبِالْعَدْلِ يَصْلُحُ النَّاسُ، يَا ابْنَ آدَمَ! إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، يَقُولُ اللهُ:" أَنَا أَوْلَى بِغَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ، وَلَا يَمْنَعُكُمْ غِنَى غَنِيٍّ، وَلَا فَقْرَ فَقِيرٍ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْلَمُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ " اهـ.
قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا، أَيْ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى وَمَيْلَ النَّفْسِ إِلَى أَحَدٍ مِمَّنْ كُلِّفْتُمُ الْعَدْلَ فِيهِمْ، أَوِ الشَّهَادَةَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا، بَلْ آثِرُوا الْعَدْلَ عَلَى الْهَوَى، فَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ فِي الْوَرَى، أَوْ لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِئَلَّا تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَالْهَوَى مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، كُتِبَتْ: تَلْوُوا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ لِتَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ تَلُوا، بِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْوَاوِ مِنَ اللَّيِّ وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: وَإِنْ تَلُوا أَمْرَ الشَّهَادَةِ وَتُؤَدُّوهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْ تَأْدِيَتِهَا وَتَكْتُمُوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ خَبِيرًا بِعَمَلِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ قَصْدُكُمْ وَنِيَّتُكُمْ فِيهِ، وَعَلَى الثَّانِي: وَإِنْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ وَتُحَرِّفُوهَا، أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَلَا تُؤَدُّوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعَمَلِكُمْ هَذَا خَبِيرًا فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ هُنَا بِكَوْنِهِ خَبِيرًا وَلَمْ يَقُلْ عَلِيمًا ; لِأَنَّ الْخِبْرَةَ هِيَ الْعِلْمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، فَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ الَّذِي تَخْتَلِفُ فِيهِ النِّيَّاتُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْغِشُّ وَالِاحْتِيَالُ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَغُشَّ نَفْسَهُ وَيَلْتَمِسَ لَهَا الْعُذْرَ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوِ التَّحْرِيفِ فِيهَا، فَهَلْ يَتَدَبَّرُ الْمُسْلِمُونَ الْآيَةَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَيُقِيمُوا الْعَدْلَ وَالشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ، أَمْ يَعْمَلُونَ بِرَأْيِ أَهْلِ الْحِيَلِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ كَلَّفَهُمُ اتِّبَاعَهُمْ دُونَ اتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ؟ !
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، رَوَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَسَدٍ وَأُسَيْدٍ ابْنَيْ كَعْبٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ قَيْسٍ وَسَلَامِ بْنِ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلَمَةَ بْنِ أَخِيهِ وَيَامِينَ بْنِ يَامِينَ إِذْ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا:" يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ، وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ "، أَيْ: سِوَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ: بَلْ آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ قَالَ:" فَآمَنُوا كُلُّهُمْ "، وَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ.
وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَّلَهَا عَلَى رُسُلِهِ مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ قَبْلَهُ رُسُلًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ عِبَادَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي سُدًى، مَحْرُومِينَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفُوا أَعْيَانَ تِلْكَ الْكُتُبِ
وَلَا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مِنْهَا صَحِيحًا غَيْرَ مُحَرَّفٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ وَالْكِتَابِ الْآخَرِ، وَبَيْنَ مَا قَبْلُهُ كَمَا قُلْنَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ آمِنُوا، بِمَعْنَى اثْبُتُوا وَدَاوِمُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِذَلِكَ كَمَا قَالُوا، فَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ، سَوَاءٌ أَصَحَّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ.
وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ تَوَعَّدَ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ هُوَ الرَّكْنُ الْأَوَّلُ، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّانِي، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّالِثُ وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بَلَّغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْكُتُبَ فَبَلَّغُوهَا النَّاسَ هُوَ الرَّكْنُ الرَّابِعُ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُجْزَى فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ
بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا ذَكَرَ كُلٌّ بِحَسَبِ كِتَابِهِ إِلَّا أَنْ يُنْسَخَ بِمَا بَعْدَهُ هُوَ الرُّكْنُ الْخَامِسُ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ ; لِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى فِيهِ أَوْ لِلتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَهْلِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ وَأُمَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِقَوْلِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (2: 285) ، وَلَوْلَا التَّقْلِيدُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ وَعَمًى، أَوِ التَّعَصُّبُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، لَمَا كَانَ يُعْقَلُ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَيُؤْمِنُ بِمُوسَى وَعِيسَى عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَإِنَّ سِرَّ الرِّسَالَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى وَلَا عِيسَى أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ أَجْمَعِينَ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ أَوْ بِمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِبَعْضِ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوِ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يُنَجِّي صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَيُمَتِّعُهُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَرْكَانِ بِجُحُودِ أَصْلِهِ وَإِنْكَارِهِ أَلْبَتَّةَ كَانَتْ حَيَاتُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَيَوَانِيَّةً مَحْضَةً، لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ وَلَا يُعِدُّ رُوحَهُ لِلْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ كَفَرَ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَانَ كُفْرُهُ بِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِيمَانًا صَحِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهَا وَالْبَصِيرَةِ بِحِكْمَتِهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ آنِفًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، وَمَحَجَّةِ السَّلَامَةِ وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُ عَنْهَا جَهْلُ صَاحِبِهِ لِوُجُودِهَا، وَمَنْ جَهَلَ وُجُودَ الشَّيْءِ لَا يَطْلُبُهُ بِالْبَحْثِ عَنْ بَيِّنَاتِهِ، وَطَلَبِ أَعْلَامِهِ وَآيَاتِهِ، وَأَمَّا مَنْ ضَلَّ عَنِ الشَّيْءِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَبْحَثُ عَنْهُ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ضَلَالُهُ قَرِيبًا، وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ مِنْ أَبْلَغِ الْوَصْفَ وَأَعْلَاهُ، وَقَدْ وَحَّدَ لَفْظَ الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِيُنَاسِبَ لَفْظَ الرُّسُلِ الْمُفْرَدَ، وَجَمَعَهُ فِي آخِرِهَا لِيُنَاسِبَ جَمْعَ الرُّسُلِ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
بَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَالَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُنَّ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ نِفَاقًا أَوْ تَقْلِيدًا، وَكَانَ الْكُفْرُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَدَعْ فِيهَا اسْتِعْدَادًا لِفَهْمِ الْإِيمَانِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ وَلَا ذَاقُوا حَلَاوَتَهُ، ثُمَّ وَعِيدُ الْمُنَافِقِينَ كَافَّةً وَبَيَانُ مُوَالَاتِهِمُ لِلْكَافِرِينَ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ الَّذِي يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْوَعِيدِ وَتَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ مِنْ ذَبْذَبَتِهِمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ أَنَّهُ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِفَهْمِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيَّتِهِ وَمَزَايَاهُ، فَهُمْ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ لَا يُرْجَى لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِهِ، وَلَا أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا دَنَّسَ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْآيَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ ; لِأَنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ لَمْ يَكُنْ لِيَحْرِمَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْهِدَايَةَ بِمَحْضِ الْخَلْقِ وَالْمَشِيئَةِ، وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُقْتَرِنَةٌ بِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ كَسْبُ الْبَشَرِ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ
مُؤَثِّرًا فِي نُفُوسِهِمْ، فَمَنْ طَالَ
عَلَيْهِ أَمَدُ التَّقْلِيدِ، حُجِبَ عَقْلُهُ عَنْ نُورِ الدَّلِيلِ، حَتَّى لَا يَجِدَ إِلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَمَنْ طَالَ عَلَيْهِ عَهْدُ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، حُجِبَ عَنْ أَسْبَابِ الْغُفْرَانِ، وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (20: 82)، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقَهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (40: 7) ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مَحْوِ أَثَرِ الذَّنْبِ مِنَ النَّفْسِ بِتَأْثِيرِ التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُضَادُّ أَثَرُهُ أَثَرَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (11: 114) ، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ بَلْ يُقْبَلُ قَطْعًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَوَّلُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ الْأَوَّلَ كَانَ بِاتِّخَاذِهِمُ الْعَجْلَ وَعِبَادَتِهِ، وَالثَّانِي كُفْرُهُمْ بِالْمَسِيحِ، وَالثَّالِثَ الَّذِي ازْدَادُوا بِهِ كُفْرًا هُوَ كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ قَدْ آمَنُوا، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَهُوَ يَظْهَرُ فِيمَنْ جَهَرُوا بِالْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا يَظْهَرُ فِيمَنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ لِمِثْلِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا فَعَلُوا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ الْكُفْرَ أَلْصَقُ بِنُفُوسِهِمْ لِطُولِ أُنْسِهِمْ بِهِ وَانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْبِشَارَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُرُّ، فَهِيَ إِذًا مَأْخُوذَةٌ مِنَ انْبِسَاطِ بَشْرَةِ الْوَجْهِ، كَمَا أَنَّ السُّرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ انْبِسَاطِ أَسَارِيرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَقُولُونَ: إِنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا يَسُوءُ كَمَا هُنَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبِشَارَةَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسِرُّ وَفِيمَا يَسُوءُ اسْتِعْمَالًا حَقِيقِيًّا ; لِأَنَّ أَصْلَهَا الْإِخْبَارُ بِمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي بَشْرَةِ الْوَجْهِ فِي الِانْبِسَاطِ وَالتَّمَدُّدِ، أَوِ الِانْقِبَاضِ وَالتَّغَضُّنِ، وَالْأَلِيمُ: الشَّدِيدُ الْأَلَمِ.
ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُبَشِّرِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءً وَأَنْصَارًا، مُتَجَاوِزِينَ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَارِكِيهَا إِلَى وِلَايَتِهِمْ وَمُمَالَأَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الدَّوْلَةَ سَتَكُونُ لَهُمْ فَيَجْعَلُونَ لَهُمْ يَدًا عِنْدَهُمْ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، إِنْ كَانُوا يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ وَهِيَ الْمَنَعَةُ وَالْغَلَبَةُ وَرِفْعَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، فَهُوَ يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوهَا مِنْهُ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعِ هِدَايَةِ وَحْيِهِ الَّذِي يُرْشِدُهُمْ إِلَى طُرُقِهَا، وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا، وَقَدْ آتَاهَا اللهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِاهْتِدَائِهِمْ بِكِتَابِهِ، وَسِيَرِهِمْ عَلَى سُنَنِهِ، وَلَمَّا أَعْرَضَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي اعْتَزَّ بِهَا سَلَفُهُمْ ذُلُّوا وَسَاءَتْ حَالُهُمْ، وَصَارَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ يُوَالُونَ الْكَفَّارَ دُونَهُمْ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ وَالشَّرَفَ وَمَا هُمْ لَهُمَا بِمُدْرِكِينَ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يُوَفِّقَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ فَيَعُودُوا إِلَى حَظِيرَةِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (63: 8) .
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، قَالُوا: الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ مِنْ صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ، وَالَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ (6: 68) ، نَزَلَتْ هَذِهِ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ إِذْ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْكُفْرِ وَذَمِّ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِمْ وَقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأُمِرُوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ الْجُلُوسِ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ فَعْلَيْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ لَهُمْ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ ذَلِكَ وَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا كَانَ يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَمَعْنَى سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، سَمِعْتُمُ الْكَلَامَ الَّذِي مَوْضُوعُهُ جَعْلُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيرُ وَالتَّنْفِيرُ، بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ وَقَوْلِ الزُّورِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مُحْدَثٍ فِي الدِّينِ وَكُلُّ مُبْتَدَعٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ دَلِيلٌ عَلَى اجْتِنَابِ كُلِّ مَوْقِفٍ يَخُوضُ فِيهِ أَهْلُهُ بِمَا يُفِيدُ التَّنَقُّصَ وَالِاسْتِهْزَاءَ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا آرَاءَ الرِّجَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ سِوَى قَالَ إِمَامُ مَذْهَبِنَا: كَذَا وَقَالَ فَلَانٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِكَذَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ أَوْ بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ سَخِرُوا مِنْهُ وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَى مَا قَالَهُ رَأْسًا أَوْ يُلْقُوا لَهُ بَالًا وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ، وَخَطْبٍ شَنِيعٍ، وَخَالَفَ مَذْهَبَ إِمَامِهِ الَّذِي نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مُعَلِّمِ الشَّرَائِعِ، بَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا رَأْيَهُ الْفَائِلَ، وَاجْتِهَادَهُ الَّذِي هُوَ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ مَائِلٌ مُقَدَّمًا عَلَى اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا صَنَعَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ بِأَهْلِهَا وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ انْتَسَبَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ إِلَيْهِمْ بَرَاءٌ مِنْ فِعْلِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، كَمَا أَوْضَحَ الشَّوْكَانِيُّ ذَلِكَ فِي " الْقَوْلِ الْمُفِيدِ " وَ " أَدَبِ الطَّلَبِ " اهـ، وَيَا لَيْتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا كَلَامَ شُيُوخِهِمْ أَصْلًا لِلدِّينِ، وَالْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَرْعَيْنِ أَوْ مُهْمَلَيْنِ، يَتَّبِعُونَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَدْيَهُمْ، وَلَا يَتَّبِعُونَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُ كُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ شُيُوخَهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ.
إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ تُكُونُونَ مِثْلَهُمْ وَشُرَكَاءَ لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ ; لِأَنَّكُمْ أَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَرَضِيتُمُوهُ لَهُمْ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ بِالشَّيْءِ وَإِقْرَارُ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ إِقْرَارَ الْكُفْرِ بِالِاخْتِيَارِ كُفْرٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْمُنْكَرِ وَالسُّكُوتَ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَأَنَّ إِنْكَارَ الشَّيْءِ يَمْنَعُ فُشُوَّهُ
بَيْنَ مَنْ يُنْكِرُونَهُ حَتْمًا، فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ، وَيَتَأَمَّلُوا كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُلْحِدِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُتَفَرْنِجَةِ يَخُوضُونَ فِي آيَاتٍ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِالدِّينِ، وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْكُتُ لَهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ كُفْرِهِمْ لِضَعْفِ الْإِيمَانِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.
إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا، هَذَا وَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ الْمُسْتَهْزِئَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِمُقَرِّبِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بِأَنَّهُمْ سَيَجْتَمِعُونَ فِي الْعِقَابِ كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِثْمِ وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، أَيِ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْ كَسْرٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْمُنَافِقِينَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، هَذَا تَفْضِيلٌ لِلتَّرَبُّصِ أَيْ: فَإِنْ نَصَرَكُمُ اللهُ أَوْ فَتَحَ عَلَيْكُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَكُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْكُمْ يَسْتَحِقُّونَ مُشَارَكَتَكُمْ فِي نِعْمَتِكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ مِنَ الظَّفَرِ - لِأَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ - مَتُّوا إِلَيْهِمْ وَمَنُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَخْذِيلِهِمْ، وَالتَّوَانِي فِي الْحَرْبِ مَعَهُمْ، وَالِاسْتِحْوَاذُ يُفَسِّرُونَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْحَوْذِ وَهُوَ السُّوقُ، سُمِّيَ حَوْذًا لِأَنَّ الْحَوْذِيَّ السَّائِقُ يَضْرِبُ حَاذِيَيِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْحَاذِيَانِ هُمَا جَانِبَا الْفَخْذَيْنِ مِنَ الْوَرَاءِ، وَالْحَاذِ الظَّهْرُ وَيُطْلَقُ عَلَى جَانِبَيْهِ حَاذِيَيْنِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ السُّوقِ يَسْتَوْلِي بِهِ الْحَوْذِيُّ عَلَى مَا يَسُوقُهُ، فَصَارُوا يُطْلِقُونَ الِاسْتِحْوَاذَ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ تَسْخِيرِهِ أَوِ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ إِنَّنَا قَدِ اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْكُمْ، وَتَمَكَّنَّا مِنَ الْإِيقَاعِ بِكُمْ، وَلَمْ نَفْعَلْ بَلْ مَنَعْنَاكُمْ أَيْ جَمَعْنَاكُمْ وَحَفِظْنَاكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالنُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ ظَفَرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَتْحِ وَأَنَّهُ مِنَ اللهِ، وَعَنْ ظَفَرِ الْكَافِرِينَ بِالنَّصِيبِ هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي الْقِتَالِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَتْحُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، وَلَكِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ قَدْ يَقَعُ فِي أَثْنَائِهَا نَصِيبٌ مِنَ الظُّفَرِ لِلْكَافِرِينَ لَا يَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَكُونَ فَتْحًا يَسْتَوْلُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ (30: 47)، الْمُقَيَّدُ بِقَوْلِهِ عز وجل: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (47: 7، 8) ، وَإِنَّمَا نَصْرُ اللهِ أَنْ يَقْصِدَ بِالْحَرْبِ حِمَايَةَ الْحَقِّ وَتَأْيِيدَهُ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَآيَتُهُ مُرَاعَاةُ سُنَنِ اللهِ فِي أَخْذِ أُهْبَتِهِ، وَإِعْدَادِ عُدَّتِهِ، الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا كِتَابُهُ الْعَزِيزُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ (8: 60)، وَقَوْلِهِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (8: 45) ، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ كَوْنَ الْإِيمَانِ نَفْسِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِعْدَادَ وَأَخْذَ الْحَذَرِ، وَإِنَّمَا غُلِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ وَفَتَحَ الْكُفَّارُ بِلَادَهُمُ الَّتِي فَتَحُوهَا هُمْ مِنْ قَبْلُ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ ; لِأَنَّهُمْ مَا عَادُوا يُقَاتِلُونَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ
وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا عَادُوا يَعُدُّونَ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ كَمَا أَمَرَهُمُ الْقُرْآنُ، فَهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْشِئُوا الْبَوَارِجَ الْمُدَرَّعَةَ، وَالْمَدَافِعَ الْمُدَمِّرَةَ وَيَتَعَلَّمُوا مَا يَلْزَمُ لَهَا وَلِلْحَرْبِ مِنَ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْمِيكَانِيكِيَّةِ، وَهِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ دِينِهِمْ ; لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ تَرَكُوا كُلَّ ذَلِكَ بَلْ صَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ فِيهِمْ يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ: يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَهُنَالِكَ لَا تَرُوجُ دَعْوَاهُمُ الَّتِي يَدَّعُونَهَا عِنْدَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، أَيْ: إِنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ سَبِيلٌ مَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَيَتَّبِعُونَ هَدْيَهُ، وَكَلِمَةُ سَبِيلٍ هُنَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ خَصَّهَا بِالْحُجَّةِ، وَسَبَبُ هَذَا التَّخْصِيصِ عَدَمُ فَهْمِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ النَّصْرِ مَضْمُونًا بِوَعْدِ اللهِ وَسُنَّتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْآخِرَةِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ عَامٌّ فَلَا سَبِيلَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَمَا غَلَبَ الْكَافِرُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُرُوبِ وَالسِّيَاسَةِ وَأَسْبَابِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ صَارُوا
أَعْلَمَ بِسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَمَ عَمَلًا بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ تَرَكُوا ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ، فَلْيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الْمُعْتَبِرُونَ.
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا.
اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهَا تَتِمَّةُ الْكَلَامِ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَثُرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ أَحْوَالِهِمْ هُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، وَبَاقِيهَا فِي بَيَانِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا وَمُحَاجَّتِهِمْ إِلَّا الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ.
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مُخَادَعَةِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَكِنَّنِي لَا أَتَذَكَّرُهُ الْآنَ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا فِي السَّفَرِ وَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ لَيْسَ مَعِي فَأُرَاجِعَهُ، كَانَتِ الْعَرَبُ تُسْنِدُ الْخِدَاعَ إِلَى الضَّبِّ، كَمَا اشْتَقَّتْ كَلِمَةَ النِّفَاقِ مِنْ جُحْرِهِ الَّذِي سُمِّيَ النَّافِقَاءَ، وَهُوَ إِنَّمَا يَخْدَعُ طَالِبَهُ بِجُحْرِهِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ بَابَيْنِ، إِذَا فُوجِئَ مِنْ أَحَدِهِمَا هَرَبَ مِنَ الْآخَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُعَدُّ عَقْرَبًا فَيَجْعَلُهَا فِي بَابِهِ لِتَلْدَغَ مَنْ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعَقْرَبُ بَوَّابُ
الضَّبِّ وَحَاجِبُهُ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ " أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ "، وَيَقُولُونَ: طَرِيقٌ خَادِعٌ وَخَيْدَعٌ أَيْ: مُضِلٌّ، كَأَنَّهُ يَخْدَعُ سَالِكَهُ فَيَحْسَبُهُ مُوصِلًا إِلَى غَايَتِهِ أَوْ قَرِيبًا وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْخِدَاعُ صِيغَةُ مُشَارَكَةٍ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ هُوَ إِيهَامُكَ أَنَّ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ عَلَى مَا تُحِبُّ أَوْ تُرِيدُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ مَا تُحِبُّ وَمَا تُرِيدُ، كَمَا يُوهِمُ جُحْرُ الضَّبِّ مَنْ يُرِيدُ صَيْدَهُ أَنَّهُ قَرِيبُ الْمَنَالِ لَيْسَ دُونَهُ مَانِعٌ، فَإِذَا مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ لَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَقْرَبٌ خَرَجَ الضَّبُّ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ وَرَجَعَ الصَّائِدُ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، وَكَمَا يُوهِمُ الطَّرِيقُ الْخَيْدَعُ سَالِكَهُ فَيَضِلُّ دُونَ الْغَايَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا.
قَالَ الرَّاغِبُ: " الْخِدَاعُ إِنْزَالُ الْغَيْرِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ بِأَمْرٍ يُبْدِيهِ عَلَى خِلَافِ مَا يُخْفِيهِ قَالَ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللهَ، أَيْ يُخَادِعُونَ رَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُعَامَلَةَ الرَّسُولِ كَمُعَامَلَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ (48: 10) ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خِدَاعًا لَهُ تَفْظِيعًا لِفِعْلِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ الرَّسُولِ وَعِظَمِ أَوْلِيَائِهِ، وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِمِثْلِهِ فِي الْحَذْفِ لَا يَحْصُلُ لَوْ أَتَيَ بِالْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فَظَاعَةُ فِعْلِهِمْ فِيمَا تَحَرَّوْهُ مِنَ الْخَدِيعَةِ وَأَنَّهُمْ بِمُخَادَعَتِهِمْ إِيَّاهُ يُخَادِعُونَ اللهَ، وَالثَّانِي: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْمَقْصُودِ بِالْخِدَاعِ وَأَنَّ مُعَامَلَتَهُ كَمُعَامَلَةِ اللهِ وَأَعَادَ هُنَا الِاسْتِشْهَادَ بِآيَةِ الْمُبَايَعَةِ.
أَقُولُ: فَسَّرَ مُخَادَعَةَ اللهِ عز وجل بِمُخَادَعَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَوْلِيَائِهِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم ; لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ كَانَتْ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَهُمْ ; وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ لَا يَقْصِدُونَ مُخَادَعَتَهُ، وَالْمُعَطِّلِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِهِ، وَالْمَعْدُومُ لَا تَتَوَجَّهُ النَّفْسُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (2: 8) ، وَقَدْ عَزَا إِلَيْهِمُ الْمُخَادَعَةَ هُنَالِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّهُمْ صِنْفٌ ثَالِثٌ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ
ذُكِرُوا ثُمَّتْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا
شَأْنُهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَصْدُرَ عَنْهُ مُخَادَعَةُ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَفْعَلُ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَكْلِ الرِّبَا بِتَطْبِيقِ حِيَلِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ لِفُقَهَائِهِمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِ الرِّبَا، وَهُوَ الرَّحْمَةُ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُوَاسَاتُهُمْ وَإِعَانَةُ سَائِرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَعَدَمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، أَقُولُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ غَيْرِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ مُخَادَعَةَ اللهِ تَعَالَى قَصْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ فِي مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ.
وَالْوَجْهُ الْمَعْقُولُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمُخَادَعَةِ اللهِ عز وجل، هُوَ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَهُمْ فِيمَا يُقِيمُونَ بِهِ دِينَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْهُ لَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ فِي مِثْلِ هَذَا قَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَكْرُوهَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا غِشٌّ وَلَا ضَرَرٌ، وَالْمُحَرَّمُ مِنْهَا لِضَرَرِهِ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْمُخَادَعَةِ فِي شُئُونِ الْإِيمَانِ وَتَبْلِيغِ دِينِ اللهِ وَإِقَامَةِ كِتَابِهِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ لَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَعْظِيمَ شَأْنِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ بِمُخَادَعَةِ اللهِ تبارك وتعالى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ خَادِعُهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى خِدَاعِهِمْ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمُخَادَعَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ (3: 54) ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَلَفْظِ الْمَكْرِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ غَالِبًا أَوْ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ صَاحِبِهَا وَعَجْزِهِ وَغَلَبِ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْخِدَاعَ قَدْ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، وَلِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّرْعُ الْخِدَاعَ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ الْحَرْبَ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَلِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يُحِبُّونَ وَمَا يُرِيدُونَ بِلَفْظٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْخَدِيعَةِ، كَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَسِيرُونَ فِي طَرِيقٍ خَادِعٍ يَضِلُّونَ فِيهِ مَطْلَبَهُمْ وَيَنْتَهُونَ إِلَى الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُبُونَ السَّلَامَةَ وَالْفَلَاحَ، وَهَذَا يُلَاقِي قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ: يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (2: 9) ، فَخِدَاعُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ لَهَا هُوَ عَيْنُ خَدِيعَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ، إِذْ كَانَتْ سُنَّتُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَفْظُ خَادِعُهُمْ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، - وَهُوَ مَا تَضُمُّ عَيْنَ فِعْلِهِ الْمُضَارِعِ - أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَغْلِبُهُمْ فِي الْخَدِيعَةِ يَجْعَلُ خِدَاعَهُمْ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ.
هَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَأُمَّةٍ، يُخَادِعُونَ وَيَكْذِبُونَ، وَيَكِيدُونَ وَيَغُشُّونَ، وَيَتَوَلَّوْنَ
أَعْدَاءَ أُمَّتِهِمْ، وَيَتَّخِذُونَ لَهُمْ يَدًا عِنْدَهُمْ، يَمُتُّونَ بِهَا إِلَيْهِمْ إِذَا دَالَتِ الدَّوْلَةُ لَهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ بَيَانُ ذَبْذَبَتُهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى كُلٍّ مِنَ الْأُمَّتَيْنِ حَالُهُمْ.
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ
…
وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
فَهُمْ يَهْدِمُونَ بِنَاءَ الثِّقَةِ بِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَكَأَيِّنْ مِنْ مُنَافِقٍ كَانَتْ خِيَانَتُهُ لِأُمَّتِهِ وَمُسَاعَدَةُ أَعْدَائِهَا عَلَيْهَا سَبَبًا لِهَلَاكِهِ بِأَيْدِي أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ فِي هَذَا خَيْرٌ لَكَانَ قَوْمُهُ أَوْلَى بِخَيْرِهِ مِنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ خَانَهُمْ فَسَتَكُونُ خِيَانَتُهُ لَنَا أَشَدَّ، وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَ أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارِ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَيَكْثُرُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي طَوْرِ ضِعْفِ الْأُمَّةِ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهَا ; لِأَنَّهُمْ طُلَّابُ الْمَنَافِعِ وَلَوْ فِيمَا يَضُرُّ أُمَّتَهُمْ وَالنَّاسَ أَجْمَعِينَ، وَإِنَّمَا تُلْتَمَسُ الْمَنَافِعُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ وَإِنِ اقْتَرَنَ الْتِمَاسُهَا بِالْعَارِ، وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ.
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى، أَيْ: مُتَثَاقِلِينَ لَا رَغْبَةَ تَبْعَثُهُمْ وَلَا نَشَاطَ ; لِأَنَّهُمْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَا يَرْجُونَ فِيهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَبْتَغُونَ بِهَا تَرْبِيَةَ مَلَكَةِ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَحُبِّهِ وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ لِتَنْتَهِيَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَتَكُونَ أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُمْ كُلْفَةٌ مُسْتَثْقَلَةٌ، فَإِذَا كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ تَرَكُوهَا، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُمْ سَايَرُوهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا يُرَاءُونَ النَّاسَ بِهَا، أَيْ: يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَرَاهُمُ النَّاسُ الْمُؤْمِنُونَ فَيَعُدُّوهُمْ مِنْهُمْ، فَالْكَسَلُ: التَّثَاقُلُ عَمَّا يَنْبَغِي النَّشَاطُ فِيهِ، وَالْمُرَاءَاةُ
أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ الَّذِي يُرَائِيكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ كَمَا يَرَاكَ، فَهُوَ فِعْلُ مُشَارَكَةٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ إِلَّا بِالْأَذْكَارِ الْجَهْرِيَّةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا النَّاسُ كَالتَّكْبِيرَاتِ، وَقَوْلُ:" سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالسَّلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا ذِكْرُ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ هَذَا مِنَ الْمُرْتَابِينَ دُونَ الْجَاحِدِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَذَلِكَ إِذَا أَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ وَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَرِيبَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تُرَادَ كُلُّهَا مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَلَعَلَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَقْوَاهَا، هَذِهِ حَالُ مُنَافِقِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَمُنَافِقُو هَذَا الْعَصْرِ الْأَخِيرِ شَرٌّ مِنْهُمْ لَا يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَرَوْنَ لِلْمُؤْمِنِينَ قِيمَةً فِي دُنْيَاهُمْ فَيُرَاءُوهُمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَقَعُ الرِّيَاءُ بِالصَّلَاةِ مِنْ بَعْضِهِمْ إِذَا صَارُوا وُزَرَاءَ وَحَضَرُوا مَعَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْمَوَاسِمِ الدِّينِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ، وَقَلَّمَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمْ غَيْرَ الْمَوَاسِمِ الْمُبْتَدَعَةِ كَلَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَيْلَةِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ.
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الذَّبْذَبَةُ حِكَايَةُ صَوْتِ الْحَرَكَةِ لِلشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ اضْطِرَابٍ وَحَرَكَةٍ، قَالَ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ: مُضْطَرِّينَ مَائِلِينَ تَارَةً إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَافِرِينَ "، وَقِيلَ: بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:
لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، أَيْ: لَا يَخْلُصُونَ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْمَنْفَعَةَ وَلَا يَدْرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، فَهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى الْيَمِينِ تَارَةً وَإِلَى الشَّمَالِ أُخْرَى، فَمَتَى ظَهَرَتِ الْغَلَبَةُ التَّامَّةُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْهُ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، أَيْ: وَمَنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا عَنِ الْحَقِّ مُوغِلًا فِي الْبَاطِلِ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ سَبِيلًا لِلْهِدَايَةِ بِرَأْيِكَ وَاجْتِهَادِكَ، فَإِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، هَذَا هُوَ مَعْنَى إِضْلَالِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَّفِقُ بِهِ نُصُوصُ كِتَابِهِ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، وَتَظْهَرُ بِهِ حِكْمَتُهُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْشِئُ فِطْرَةَ بَعْضِ النَّاسِ
عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى ذَلِكَ لَا عَمَلَ لَهُ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ كَعَمَلِ الْمَعِدَةِ فِي الْهَضْمِ، وَالْقَلْبِ فِي دَوْرَةِ الدَّمِ، كَمَا تَوَهَّمَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا عِلْمَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ جُمْلَةَ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُرَاءُونَ وَكَذَا مُذَبْذَبِينَ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُنَافِقِينَ، يُوَالُونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ النَّصْرُ وَالسُّلْطَانُ، وَأَنْ يُلْحَقُوا بِهِمْ، وَيَعُدُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ مُؤْمِنٍ، حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحْذُوَ بَعْضُ ضُعَفَائِهِمْ حَذْوَ الْمُنَافِقِينَ فِي وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي خِلَافِ مَصْلَحَتِهِمْ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، وَيَرْجُونَ مِنْهُمُ الْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَخْطُرُ فِي بَالِ صَاحِبِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِذْ كَتَبَ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِهِمْ ; لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ أَهْلًا وَمَالًا، فَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ مِنَ الْوِلَايَةِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ النُّصْرَةُ، وَأَمَّا الْوَلَايَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَهِيَ تَوَلِّي الْأَمْرِ، وَقِيلَ: يُطْلَقُ اللَّفْظَانِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ فِيمَا يُنَافِي مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (5: 51) ، إِلَخْ، وَإِنْ عَمَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ بَعْدَهَا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (5: 52) ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْخَوْفُ مِنْ إِصَابَةِ الدَّائِرَةِ، وَذِكْرُ الْفَتْحِ وَنَدَمِهِمْ إِذَا جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ هُنَا وِلَايَةُ النُّصْرَةِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ لَا يَشْمَلُ مَنْ لَيْسُوا كَذَلِكَ كَالذِّمِّيِّينَ إِذَا اسْتَخْدَمَتْهُمُ الدَّوْلَةُ، فِي أَعْمَالِهَا الْحَرْبِيَّةِ أَوِ الْإِدَارِيَّةِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ حُكْمٌ آخَرُ.
وَلَمَّا كُنْتُ فِي الْآسِتَانَةِ سَنَةَ 1328 هـ أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْرِفَ حَالَ التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ فِي دَارِ الْفُنُونِ الَّتِي هِيَ الْمَدْرَسَةُ الْجَامِعَةُ فِي عَاصِمَةِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتُ الْحُجْرَةَ الَّتِي يُقْرَأُ
فِيهَا التَّفْسِيرَ أَلْفَيْتُ الْمُدَرِّسَ يُفَسِّرُ آيَةَ الْمَائِدَةِ هَذِهِ وَعُمْدَتُهُ تَفْسِيرُ الْبَيْضَاوِيِّ، وَهُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ يُفَسِّرُ الْآيَةَ بِعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَدَمِ مُعَاشَرَتِهِمْ مُعَاشَرَةَ الْأَحْبَابِ " وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ أَغْلَاطِهِ "، فَلَمَّا قُرِّرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُ بِالتُّرْكِيَّةِ قَامَ أَحَدُ الطَّلَبَةِ وَقَالَ لَهُ: إِذَنْ كَيْفَ جَعَلَتْهُمْ دَوْلَتُنَا فِي مَجْلِسَيِ الْمَبْعُوثِينَ وَالْأَعْيَانِ وَفِي هَيْئَةِ الْوُكَلَاءِ؟ أَيْ: وُزَرَاءُ الدَّوْلَةِ فَفَاجَأَ الْمُدَرِّسَ الْحَصْرُ وَخَرَجَ الْعَرَقُ مِنْ جَبِينِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنَّ عَمَلَ الدَّوْلَةِ هَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دِيوَانِ الْحَرْبِ الْعُرْفِيِّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْدَامِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَهَلْ لِلْمُقَلِّدِ إِلَّا نَقْلُ مَا يَرَاهُ فِي الْكِتَابِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنَّ أُجِيبَ هَذَا الطَّالِبَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُمْتُ وَاقِفًا وَبَيَّنْتُ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَكَيْفَ كَانَ حَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَحْقِيقُ كَوْنِ الْوِلَايَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْآيَةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ وَكَانُوا مُحَارِبِينَ، وَكَوْنُ اسْتِخْدَامِ الذِّمِّيِّينَ مِنْهُمْ فِي الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهَا بَلْ لَهُ أَحْكَامٌ أُخْرَى، وَالصَّحَابَةُ قَدِ اسْتَخْدَمُوهُمْ فِي الدَّوَاوِينِ الْأَمِيرِيَّةِ، وَالْعَبَّاسِيُّونَ جَعَلُوا إِسْحَاقَ الصَّابِيَّ وَزِيرًا فَاقْتَنَعَ السَّائِلُ، وَأَفْرَخَ رَوْعَ الْمُدَرِّسِ، وَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مُدِيرُ قِسْمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأَدَبِيَّاتِ فِي دَارِ الْفُنُونِ اتَّخَذَهُ وَسِيلَةً لِإِصْدَارِ أَمْرٍ مِنْ نَاظِرِ الْمَعَارِفِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِ التَّفْسِيرِ وَكَذَا دَرْسِ الْحَدِيثِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي بَعْضِ السِّنِينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِجَعْلِي مُدَرِّسًا لِلتَّفْسِيرِ إِنْ أَقَمْتُ فِي الْآسِتَانَةِ.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُجَّةً بَيِّنَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِكُمْ لِعَذَابِهِ إِذَا اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْمُنَافِقِينَ، فَالسُّلْطَانُ بِمَعْنَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى السُّلْطَةِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، وَلَكِنَّ وَصْفَ السُّلْطَانِ بِالْمُبِينِ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيُسْتَعْمَلُ الْمُبِينُ بِمَعْنَى الْبَيِّنِ فِي نَفْسِهِ، وَمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَزَاءَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ بَيَانِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا هَذَا الْجَزَاءَ فَقَالَ:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، الدَّرْكُ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَبِفَتْحِهَا وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّبَقَةِ أَوِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ مُتَدَارِكَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ دَارَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ ذَاتُ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَسْفَلُ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ دَرَجَاتُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِهَا فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (20: 75، 76) .
وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ شَرُّ أَهْلِهَا بِمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمُخَادَعَةِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَغِشِّهِمْ، فَأَرْوَاحُهُمْ أَسْفَلُ الْأَرْوَاحِ وَأَنْفُسُهُمْ أَخَسُّ الْأَنْفُسِ، وَأَكْثَرُ الْكُفَّارِ قَدْ أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمُ التَّقْلِيدُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، فَهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ، بِاتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ، وَوُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قِيَاسًا عَلَى مُعَامَلَةِ مُلُوكِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأُمَرَائِهِمُ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ فِي الدِّينِ وَمُخَادَعَةَ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْغِشِّ، وَمُقَابَلَةِ هَذَا بِوَجْهٍ وَذَاكَ بِوَجْهٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَسْفَلَ النَّاسِ أَرْوَاحًا وَعُقُولًا كَانُوا أَجْدَرَ النَّاسِ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهَا أَوْ يَرْفَعُهُمْ مِنَ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى إِلَى مَا فَوْقَهَا.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الشَّدِيدِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَنْ تَابُوا مِنَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَعَ تَرْكِهِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ مُقَارَفَتِهِ وَعَزَّزُوا هَذِهِ التَّوْبَةَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
(أَحَدُهَا) : الْإِصْلَاحُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَغْسِلُ مَا تَلَوَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ مِنْ أَعْمَاقِ النِّفَاقِ، كَالْتِزَامِ الصِّدْقِ وَالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ، وَالْوَفَاءِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ:
(ثَانِيَهَا) : الِاعْتِصَامُ بِاللهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِهِ وَتَأَدُّبًا بِآدَابِهِ، وَاعْتِبَارًا بِمَوَاعِظِهِ، وَرَجَاءً فِي وَعْدِهِ وَخَوْفًا مِنْ وَعِيدِهِ، وَانْتِهَاءً عَنْ مُنْهِيَاتِهِ، وَائْتِمَارًا بِأَوَامِرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
آلِ عِمْرَانَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ (3: 103)، وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بِرِهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلَنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (4: 174، 175) ، أَيْ: اعْتَصَمُوا بِهَذَا النُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
(ثَالِثُهَا) : إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ عز وجل بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ أَحَدٌ، وَلَا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ، لَا لِكَشْفِ ضُرٍّ وَلَا لِجَلْبِ نَفْعٍ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ يُجْعَلُونَ وُسَطَاءَ عِنْدَهُ، بَلْ يَكُونُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ - وَأَعْظَمُهَا وَأَهَمُّ أَرْكَانِهَا الدُّعَاءُ - خَالِصًا لَهُ وَحْدَهُ، لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّفْسُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ اللِّسَانُ سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَشَرِ بِمَنْ عَدَاهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هَذَا هُوَ أَهَمُّ مَا يُقَالُ فِي إِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ:
فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (39: 2، 3) ، فَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْهَاوِيَةِ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ.
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ لِتِلْكَ الْأَعْمَالِ عَامِلُونَ، يَكُونُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، يُؤْمِنُونَ إِيمَانَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ، ثُمَّ يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ، وَهُوَ مَا عَظَّمَ اللهُ تَعَالَى شَأْنَهُ بِقَوْلِهِ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، أَيْ: سَوْفَ يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ كُنْهَهُ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (32: 17) .
مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ بَيَّنَ اللهُ لَنَا بِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ تَشَفِّيًا مِنْهُ وَلَا انْتِقَامًا بِالْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنَ الِانْتِقَامِ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَزَاءُ كُفْرِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالْجَوَارِحِ، بِاسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا إِلَى تَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ بِالْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى بِاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَإِنْ سَمَّاهُمْ بَعْضُهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبِكُفْرِهِمْ بِاللهِ
تَعَالَى وَبِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ تَفْسُدُ فِطْرَتُهُمْ، وَتَتَدَنَّسُ أَرْوَاحُهُمْ فَتَهْبِطُ بِهِمْ فِي دَرَكَاتِ الْهَاوِيَةِ وَيَكُونُونَ هُمُ الْجَانِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ شَكَرُوا وَآمَنُوا فَطَهُرَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَظَهَرَتْ آثَارُ عُقُولِهِمْ وَسَائِرُ قُوَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُصْلِحَةِ لِمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَعَرَجَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْقُدْسِيَّةُ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ، وَالرِّضْوَانِ الْكَبِيرِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، وَقَدَّمَ الشُّكْرَ هُنَا عَلَى الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ مَعْرِفَةَ النِّعَمِ وَالشُّكْرَ عَلَيْهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ وَالْإِيمَانِ بِهِ.
وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا، يُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ الْمُصْلِحِينَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، لَا أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، قَالَ عز وجل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (14: 7) سَمَّى ثَبَاتَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ شُكْرًا، وَهُمْ إِنَّمَا يُحْسِنُونَ بِشُكْرِهِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وَعَنْ شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ، بِأَنْ يَكُونَ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَثَرٌ صَالِحٌ فِي النَّفْسِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ.
وَأَنْ يَشْكُرَ لَنَا ذَلِكَ فِي الدَّارَيْنِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
تَمَّ الْجُزْءُ الْخَامِسُ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُشِرَ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ.
بَدَأَتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْجُزْءِ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ 1328 هـ، فَفَاتَنِي تَصْحِيحُ مَا طُبِعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتِي تِلْكَ، وَأَتْمَمْتُهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتَيْ هَذَا الْعَامِ (1330 هـ) إِلَى الْهِنْدِ فَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْبَحْرِ وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْمُدُنِ وَالطُّرُقِ بِالْهِنْدِ، وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي مَسْقَطَ وَالْكُوَيْتِ وَالْعِرَاقِ، وَقَدْ أَتْمَمْتُهُ فِي الْمَحْجَرِ الصِّحِّيِّ بَيْنَ حَلَبَ وَحَمَاةَ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ، وَنُشِرَ آخِرُهُ فِي جُزْءِ الْمَنَارِ الَّذِي صَدَرَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْحِيحِ شَيْءٍ مِمَّا كَتَبْتُهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ أَيْضًا.
وَفِي أَثْنَاءِ هَذَا الْجُزْءِ انْتَهَتْ دُرُوسُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ، وَسَنَسِيرُ فِي تَتِمَّةِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَخَذْنَاهَا عَنْهُ وَنَهْتَدِي بِهَدْيِهِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.