المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (4:‌ ‌ 160) كَأَنَّهُ قَالَ: فَبِسَبَبِ - تفسير المنار - جـ ٦

[محمد رشيد رضا]

الفصل: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (4:‌ ‌ 160) كَأَنَّهُ قَالَ: فَبِسَبَبِ

حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (4:‌

‌ 160)

كَأَنَّهُ قَالَ: فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَبِكُفْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِيسَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى أُمِّهِ، وَتَبَجُّحِهِمْ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَبِظُلْمِهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَحْكَامِهِمْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ إِلَخْ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ إِلَخْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَمِثْلُ هَذَا مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ إِذَا طَالَ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الَّتِي مِنْهَا قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَهْتُ الْمَسِيحِ وَوَالِدَتِهِ

الْعَذْرَاءِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ عِقَابٌ قَلِيلٌ لَا يُقَابِلُ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ كُلِّهَا. بَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَى أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَهُوَ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً عَلَى مَا دُونَ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ فَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ " غُلْفٌ " جَمْعُ " أَغْلَفٍ " وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ نُفُوذَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ أَيْ إِنَّ قُلُوبَهُمْ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ; فَهِيَ لَا تُدْرِكُهُ، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ (41: 5) .

وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَمْعُ غِلَافٍ (كَكِتَابٍ، وَكُتُبٍ) وَسُكِّنَتِ اللَّامُ فِيهِ كَمَا تُسَكَّنُ فِي الْكُتُبِ، وَالرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ وَغُلْفٌ لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ ; فَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ جَدِيدٍ تَسْتَفِيدُهُ مِنَ الرَّسُولِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ هَذَا الزَّعْمَ بِقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ أَيْ لَيْسَ مَا وَصَفُوا بِهِ قُلُوبَهُمْ هُوَ الْحَقَّ الْوَاقِعَ. بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ; أَيْ كَانَ كُفْرُهُمُ الشَّدِيدُ وَمَا لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الْقَبِيحِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، سَبَبًا لِلطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَيْ جَعْلِهَا كَالسَّكَّةِ الْمَطْبُوعَةِ، (الدَّرَاهِمِ مَثَلًا) فِي قَسْوَتِهَا، وَتَكَيُّفِهَا بِطَبْعَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَقْبَلُ غَيْرَهَا مِنَ النُّقُوشِ ; فَهُمْ بِجُمُودِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ التَّقْلِيدِيِّ، وَلَوَازِمِهِ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ آخَرَ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ وَاعْتِبَارٍ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِيهِ تَأَمُّلَ الْإِخْلَاصِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهَا اخْتِيَارُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْتَارُونَ إِلَّا مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ لَمْ يُبْصِرْ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ لَمْ يُؤْمِنْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْإِيمَانِ ; كَإِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَهُوَ إِيمَانٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ.

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا - كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَرِينَةِ - الْكُفْرُ بِعِيسَى ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ

ص: 15

بَهْتَ أُمِّهِ عليهما السلام وَهُوَ قَذْفُهَا بِالْفَاحِشَةِ. وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ

الَّذِي يَبْهَتُ مَنْ يُقَالُ فِيهِ ; أَيْ يُدْهِشُهُ، وَيُحَيِّرُهُ لِبُعْدِهِ عَنْهُ، وَغَرَابَتِهِ عِنْدَهُ، يُقَالُ: قَالَ فُلَانٌ الْبُهْتَانَ، وَقَوْلُهُ الْبُهْتَانُ، وَقَالَ الزُّورَ، وَفِي حَدِيثِ الْكَبَائِرِ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ. أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ، كَمَا يَقُولُ فِي مُقَابِلِهِ: قَالَ الْحَقَّ. قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَوَصَفَ الْبُهْتَانَ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَيُّ بُهْتَانٍ تُبْهَتُ بِهِ الْعَذْرَاءُ التَّقِيَّةُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَيْ: فَهَذَا الْكُفْرُ وَالْبُهْتَانُ مِنْ أَسْبَابِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَلَعْنَتِهِ، وَمِنْ تَوَابِعِهِ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلُهُ.

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ أَيْ: وَبِسَبَبِ قَوْلِهِمْ هَذَا فَإِنَّهُ قَوْلٌ يُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْجَرْأَةِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالضَّرَاوَةِ بِارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ وَرُسُلِهِ. وَوَصْفُهُ هُنَا بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ لِلْإِيذَانِ بِتَهَكُّمِهِمْ بِهِ عليه السلام، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِدَعْوَتِهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فِيهِمْ، لَا الْأُلُوهِيَّةَ كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى. عَلَى أَنَّ أَنَاجِيلَهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مُوَحِّدًا لِلَّهِ - تَعَالَى - مُدَّعِيًا لِلرِّسَالَةِ ; كَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (3:17 وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) .

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَسُولَ اللهِ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ الِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى فَظَاعَةِ عَمَلِهِمْ، وَدَرَجَةِ جَهْلِهِمْ، وَشَنَاعَةِ زَعْمِهِمْ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، كَمَا زَعَمُوا تَبَجُّحًا بِالْجَرِيمَةِ، وَمَا صَلَبُوهُ كَمَا ادَّعَوْا وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أَيْ وَقَعَ لَهُمُ الشُّبْهَةُ أَوِ الشَّبَهُ ; فَظَنُّوا أَنَّهُمْ صَلَبُوا عِيسَى، وَإِنَّمَا صَلَبُوا غَيْرَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّبَهِ أَوْ الِاشْتِبَاهِ يَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ أَيْ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَكٍّ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ ; أَيْ فِي حَيْرَةٍ، وَتَرَدُّدٍ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ثَابِتٍ قَطْعِيٍّ. لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ أَيِ الْقَرَائِنَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْآرَاءِ الْخِلَافِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ. فَالشَّكُّ الَّذِي هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ شَامِلٌ لِمَجْمُوعِهِمْ، لَا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، هَذَا إِذَا كَانَ كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْمَنْطِقِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا تَسَاوَى طَرَفَاهُ بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ فِي أَمْرِهِ هُمْ أَفْرَادٌ رَجَّحُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ، بِالْقَرَائِنِ أَوْ بِالْهَوَى وَالْمَيْلِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا مَعْنًى

اصْطِلَاحِيٌّ لِلشَّكِّ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، فَهُوَ نَحْوٌ مِنْ مَعْنَى الْجَهْلِ، وَعَدَمِ اسْتِبَانَةِ مَا يَجُولُ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْأَمْرِ، قَالَ الرَّكَّاضُ الدَّبِيرِيُّ:

يَشُكُّ عَلَيْكَ الْأَمْرُ مَا دَامَ مُقْبِلًا

وَتَعْرِفُ مَا فِيهِ إِذَا هُوَ أَدْبَرَا

فَجَعَلَ الْمَعْرِفَةَ فِي مُقَابَلَةِ الشَّكِّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَحْمَرِ:

وَأَشْيَاءٌ مِمَّا يَعْطِفُ الْمَرْءَ ذَا النُّهَى

تَشُكُّ عَلَى قَلْبِي فَمَا أَسْتَبِينُهَا

وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّكَّ ضِدُّ الْيَقِينِ. فَهُوَ إذًا يَشْمَلُ الظَّنَّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ، وَهُوَ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ. فَالشَّكُّ فِي صَلْبِ الْمَسِيحِ هُوَ التَّرَدُّدُ فِيهِ، أَكَانَ هُوَ الْمَصْلُوبَ

،

ص: 16

أَمْ غَيْرُهُ! فَبَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِ الشَّاكِّينَ فِيهِ يَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَمَا لِأَحَدٍ مِنْهُمَا عِلْمٌ يَقِينِيٌّ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ. وَفِي الْأَنَاجِيلِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ النَّصَارَى، أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لِتَلَامِيذِهِ:(كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ، فِيَّ، فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ) أَيِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا لِلْقَتْلِ (مَتَّى 26: 31 وَمُرْقُسُ 14: 27) .

فَإِذَا كَانَتْ أَنَاجِيلُهُمْ لَا تَزَالُ نَاطِقَةً بِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ تَلَامِيذَهُ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِهِ يَشُكُّونَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَخَبَرُهُ صَادِقٌ قَطْعًا، فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ اشْتِبَاهُ غَيْرِهِمْ وَشَكُّ مَنْ دُونَهُمْ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ صَارَتْ قِصَّتُهُ رِوَايَةً تَارِيخِيَّةً مُنْقَطِعَةَ الْإِسْنَادِ؟ !

وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا أَيْ وَمَا قَتَلُوا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَتْلًا يَقِينًا، أَوْ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الْمُعْتَمَدَةُ، عِنْدَ النَّصَارَى، تُصَرِّحُ بِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ إِلَى الْجُنْدِ هُوَ يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيُّ، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ عَلَامَةً: أَنَّ مَنْ قَبَّلَهُ يَكُونُ هُوَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، فَلَمَّا قَبَّلَهُ قَبَضُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِنْجِيلُ بِرْنَابَا فَيُصَرِّحُ بِأَنَّ الْجُنُودَ أَخَذُوا يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنًّا أَنَّهُ الْمَسِيحُ ; لِأَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ. فَالَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْجُنُودَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَخْصَ الْمَسِيحِ مَعْرِفَةً يَقِينِيَّةً. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا لِلْعِلْمِ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وَمَا قَتَلُوا الْعِلْمَ يَقِينًا وَتَثْبِيتًا بِهِ. بَلْ رَضُوا بِتِلْكَ الظُّنُونِ الَّتِي يَتَخَبَّطُونَ بِهَا، يُقَالُ: قَتَلْتُ الشَّيْءَ عِلْمًا وَخَبَرًا، كَمَا فِي الْأَسَاسِ، إِذَا أَحَطْتَ بِهِ وَاسْتَوْلَيْتَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُنَازِعَ ذِهْنَكَ مِنْهُ اضْطِرَابٌ وَلَا

ارْتِيَابٌ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الظَّنِّ الَّذِي يَتَّبِعُونَهُ قَالَ: (لَمْ يَقْتُلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ; أَيْ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ ظَنًّا غَيْرَ مُمَحَّصٍ، وَلَا مُوَفًّى أَسْبَابَ التَّرْجِيحِ وَالْحُكْمِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَأْثُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ عُمْدَتَهُمْ فِيهَا النَّقْلُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ. وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ تَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوِ مَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ مُقَدَّمَاتِ الْقِصَّةِ ; كَجَمْعِ الْمَسِيحِ لِحَوَارِيِّيهِ (أَوْ تَلَامِيذِهِ) وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَغَسْلِهِ لِأَرْجُلِهِمْ، وَقَوْلِهِ لِبَعْضِهِمْ: إِنَّهُ يُنْكِرُهُ قَبْلَ صِيَاحِ الدِّيكِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ بَيْعِهِ بِدَلَالَةِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ، فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ قَلِيلٍ، وَكَوْنِ الدِّلَالَةِ عَلَيْهِ كَانَتْ بِتَقْبِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ.

وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ شَبَهَهُ أُلْقِيَ عَلَى مَنْ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: بَلْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانُوا مَعَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَيْنِ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عليه السلام، نَجَا مِنْ أَيْدِي مُرِيدِي قَتْلِهِ، فَقَتَلُوا آخَرَ ظَانِّينَ أَنَّهُ هُوَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ، تَعَالَى: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ فَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

ص: 17

وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (3: 55) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ التَّوَفِّي هُنَا بِالْإِمَاتَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ تَفْسِيرُهَا بِأَصْلِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْقَبْضُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَمِنَ الرَّفْعِ إِنْقَاذُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ " فَرَفْعُهُ إِيَّاهُ: تَوَفِّيهِ إِيَّاهُ وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّفْعَ إِلَى السَّمَاءِ، لَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَلَا بِالرُّوحِ فَقَطْ.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّوَفِّيَ: الْإِمَاتَةُ، لَا يَظْهَرُ لِلرَّفْعِ مَعْنًى إِلَّا رَفْعُ الرُّوحِ، وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ ; إِذْ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَآهُ هُوَ وَابْنَ خَالَتِهِ يَحْيَى فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُفِعَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، لَدَلَّ أَيْضًا عَلَى رَفْعِ يَحْيَى وَسَائِرِ مَنْ رَآهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فِي سَائِرِ السَّمَاوَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ.

وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ يَسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وُجُوهًا ; مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِ رَافِعُكَ إِلَيَّ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي، وَجَعَلَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي (37: 99) وَإِنَّمَا ذَهَبَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْمُرَادَ رَفَعُهُ إِلَى مَكَانٍ لَا يَمْلِكُ فِيهِ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ.

وَقَدْ فَسَّرْنَا آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِيهَا، وَفِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى تَمْحِيصٍ وَبَيَانٍ، لَيْسَ التَّفْسِيرُ بِمَحَلٍّ لَهُ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتْ لَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.

وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا فَبِعِزَّتِهِ، وَهِيَ كَوْنُهُ يَقْهَرُ وَلَا يُقْهَرُ، وَيَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، أَنْقَذَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى، عليه السلام، مِنَ الْيَهُودِ الْمَاكِرِينَ وَالرُّومِ الْحَاكِمِينَ، وَبِحِكْمَتِهِ جَزَى كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَأَحَلَّ بِالْيَهُودِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ، وَسَيُوَفِّيهِمْ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أَيْ: لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَآيَتُهُ لِلنَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عِنْدَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ يَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقُّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا ; فَالْيَهُودِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ غَيْرُ دَعِيٍّ وَلَا كَذَّابٍ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَلَا هُوَ إِلَهٌ، وَلَا ابْنُ اللهِ.

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ مَعَهُمْ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ (5: 117) وَقَدْ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ، فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّكْلِيفِ، بِإِيمَانِهِ، وَعَلَى الْكَافِرِ بِكُفْرِهِ

;

ص: 18

لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ نَبِيٍّ شَهِيدٌ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (4: 41) وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ

أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عِيسَى لَمَّا يَمُتْ، وَأَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَوَّلُوا قَوْلَهَ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (3: 55) وَهُمْ عَلَى هَذَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَأْوِيلِ النَّفْيِ الْعَامِّ هُنَا بِتَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ حَيًّا عِنْدَ نُزُولِهِ، فَيَقُولُونَ: الْمَعْنَى: وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَنْزِلُ الْمَسِيحُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَيَتْبَعَنَّهُ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى شَيْءٍ لَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يَكُونَ قَرِينَةً لَهُ، وَالْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ لَمْ تَرِدْ مُفَسِّرَةً لِلْآيَةِ.

أَمَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْبَلِيغِ، فَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنِ اطِّلَاعِ النَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْ كَوْنِهِمْ يُبَشَّرُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، أَوْ بِعَذَابِهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ، بِضَمِّ الْحَاءِ: أَيْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَعَنْ عَائِشَةَ زِيَادَةٌ فِي حَدِيثِ:" مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ " الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللهَ فَأَحَبَّ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ.

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ مَنْدَهْ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" مَا مِنْ نَفْسٍ تُفَارِقُ الدُّنْيَا حَتَّى تَرَى مَقْعَدَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ " وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ; مِنْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ تُخَاطِبُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ، بِحَقِيقَةِ أَمْرِ الْمَسِيحِ، مَعَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ وَالتَّقْبِيحِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ النَّصُّ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَى تَصْرِيحِ فِرْعَوْنَ بِالْإِيمَانِ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ. وَلَهَا دَلَائِلُ أُخْرَى كَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 19

(فَصْلٌ فِي مَبَاحِثَ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الصَّلْبِ) إِنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ مِنَ الْمَسَائِلِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَهَا نَظَائِرُ وَأَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ، فَقَدْ كَانَ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ يَقْتُلُونَ وَيَصْلُبُونَ، وَنَاهِيكَ بِالرُّومَانِيِّينَ وَقَسْوَتِهِمْ، وَالْيَهُودِ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَقَدْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ ; أَشْهَرُهُمْ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، عليهما السلام. وَالْفَائِدَةُ فِي إِثْبَاتِ التَّارِيخِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْوَقَائِعِ لَا تَعْدُو الْعِبْرَةَ بِأَخْلَاقِ الْأُمَّةِ، وَدَرَجَةِ ضَلَالِهَا وَهِدَايَتِهَا، وَسِيرَةِ الْحُكَّامِ فِيهَا. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ فِي عَصْرِ الْمَسِيحِ تَحْتَ سُلْطَانِ الرُّومِ (الرُّومَانِيِّينَ) وَالْحَاكِمُ الرُّومَانِيُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ (بِيلَاطِسُ) لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ قَتْلَ الْمَسِيحِ، وَلَمْ يَحْفَلْ بِوِشَايَةِ الْيَهُودِ وَسِعَايَتِهِمْ فِيهِ، وَلَا خَافَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا يُزِيلُ سُلْطَانَ الرُّومِ عَنْ قَوْمِهِ، هَكَذَا تَقُولُ النَّصَارَى فِي كُتُبِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْيَهُودُ تُرِيدُ قَتْلَهُ، عليه السلام، لِمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الَّذِي يُزَحْزِحُهُمْ عَنْ تَقَالِيدِهِمُ الْمَادِّيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ بِقَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى قَدْ أُصِيبُوا بِالضَّرَاوَةِ بِسَفْكِ دِمَاءِ النَّبِيِّينَ وَالْمُصْلِحِينَ، فَسَوَاءٌ صَحَّ خَبَرُ دَعْوَى قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، فَلَا صِحَّتُهُ تُفِيدُنَا عِبْرَةً بِحَالِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً، وَلَا عَدَمُهَا يُنْقِصُ مِنْ مَعْرِفَتِنَا بِأَخْلَاقِهِمْ وَتَارِيخِ زَمَنِهِمْ.

نَعَمْ إِنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهَا بِالْأَمْرِ الَّذِي يُهْتَمُّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ فِي كِتَابِ اللهِ، عز وجل، بِأَكْثَرَ مِنْ إِثْبَاتِ قَتْلِ الْيَهُودِ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، لَوْلَا أَنَّ النَّصَارَى جَعَلُوهَا أَسَاسَ الْعَقَائِدِ وَأَصْلَ الدِّينِ، فَمَنْ فَاتَهُ الْإِيمَانُ بِهَا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَمَنْ آمَنَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ كَانَ هُوَ النَّاجِيَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاءِ مَعَ الْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ وَالْقِدِّيسِينَ. لِأَجْلِ هَذَا كَبُرَ عَلَيْهِمْ نَفْيُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ وَصَلْبِهِ، وَهُمْ يُورِدُونَ فِي ذَلِكَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ ; لِهَذَا رَأَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ عَقِيدَةَ الصَّلْبِ عِنْدَهُمْ، وَشُبُهَاتِهِمْ عَلَى نَفْيِهَا مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْمُهِمَّةِ.

عَقِيدَةُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالصَّلْبِ:

نَرَى دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ الْمُنْبَثِّينَ فِي بِلَادِنَا، قَدْ جَعَلُوا قَاعِدَةَ دَعْوَتِهِمْ وَأَسَاسَهَا عَقِيدَةَ صَلْبِ الْمَسِيحِ فِدَاءً عَنِ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَالتَّثْلِيثُ يَلِيهَا ; لِأَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ هُوَ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَيُجْعَلُ مَا عَدَاهُ تَابِعًا لَهُ ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلَ وَالْأَسَاسَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَيَلِيهِ الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَدَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ فِي كُتُبِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ، عز وجل قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذُ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (3: 64) وَبِهَذَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى

ص: 20

فَكَانَ يَكْتَفِي فِي دَعْوَتِهِ الْأَوْلَى لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ بِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ ; لِأَنَّ شِرْكَهُمْ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. وَهِيَ اتِّخَاذُ أَوْلِيَاءَ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، بِوَاسِطَتِهِمْ يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ، وَأَمَّا مُشْرِكُو أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ قَدْ طَرَأَ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ مِثْلُ هَذَا الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِاتِّخَاذِ الْمَسِيحِ إِلَهًا، وَاتِّخَاذِ غَيْرِهِ مِنْ حَوَارِيِّيهِ وَغَيْرِهِمْ، آلِهَةً بِالْوَسَاطَةِ وَالشَّفَاعَةِ، وَطَرَأَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ. فَدَعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا.

فَلَوْلَا أَنَّ عَقِيدَةَ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ أَصْلُ هَذِهِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، لَمَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ.

أَمَّا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، كَمَا سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ دُعَاةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ، فِي بَعْضِ الْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا لِلدَّعْوَةِ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَفِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ لَنَا حُضُورُهَا مَعَ بَعْضِهِمْ، فَهِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا عَصَى اللهَ - تَعَالَى - بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا صَارَ هُوَ وَجَمِيعُ أَفْرَادِ ذُرِّيَّتِهِ خُطَاةً مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ، ثُمَّ إِنْ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ جَاءُوا خُطَاةً مُذْنِبِينَ فَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ أَيْضًا بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهُ بِذَنْبِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِذُنُوبِهِمْ، وَلَمَّا

كَانَ اللهُ - تَعَالَى - مُتَّصِفًا بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ جَمِيعًا، طَرَأَ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ) مُشْكِلٌ مُنْذُ عَصَى آدَمُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا عَاقَبَهُ هُوَ وَذُرِّيَّتَهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِرَحْمَتِهِ فَلَا يَكُونُ رَحِيمًا! ! وَإِذَا لَمْ يُعَاقِبْهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِعَدْلِهِ فَلَا يَكُونُ عَادِلًا! ! فَكَأَنَّهُ مُنْذُ عَصَى آدَمُ كَانَ يُفَكِّرُ فِي وَسِيلَةٍ يَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ (سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَحُلَّ ابْنُهُ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ هُوَ نَفْسُهُ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَيَتَّحِدُ بِجَنِينٍ فِي رَحِمِهَا، وَيُولَدُ مِنْهَا، فَيَكُونُ وَلَدُهَا إِنْسَانًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُهَا، وَإِلَهًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَابْنُ اللهِ هُوَ اللهُ، وَيَكُونُ مَعْصُومًا مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَعِيشَ زَمَنًا مَعَهُمْ يَأْكُلُ مِمَّا يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَشْرَبُونَ، وَيَتَلَذَّذُ كَمَا يَتَلَذَّذُونَ وَيَتَأَلَّمُ كَمَا يَتَأَلَّمُونَ، يُسَخِّرُ أَعْدَاءَهُ لِقَتْلِهِ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ، وَهِيَ قِتْلَةُ الصَّلْبِ الَّتِي لَعَنَ صَاحِبَهَا فِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، فَيَحْتَمِلُ اللَّعْنَ وَالصَّلْبَ لِأَجْلِ فِدَاءِ الْبَشَرِ وَخَلَاصِهِمْ مِنْ خَطَايَاهُمْ، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى: وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا ; لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (37: 180) .

كُنْتُ مَرَّةً مارًّا بِشَارِعِ مُحَمَّدِ عَلِيٍّ فِي الْقَاهِرَةِ، وَأَنَا قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، فَرَأَيْتُ رَجُلًا وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ يَدْعُو كُلَّ مَنْ مَرَّ أَمَامَهُ تَفَضَّلُوا تَعَالَوُا اسْمَعُوا كَلَامَ اللهِ. وَلَمَّا خَصَّنِي بِالدَّعْوَةِ أَجَبْتُ فَدَخَلْتُ، فَإِذَا بِنَاسٍ عَلَى مَقَاعِدَ مِنَ الْخَشَبِ فِي رَحْبَةِ

ص: 21

الْمَدْرَسَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجَمْعُ قَامَ أَحَدُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فَأَلْقَى نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنَ الْعَقِيدَةِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَبَعْدَ فَرَاغِهِ وَحَثِّهِ النَّاسَ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا قَالَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَدَعَوَاهُ أَنْ لَا خَلَاصَ لَهُمْ بِدُونِهِ، قُمْتُ فَقُلْتُ: إِذَا كُنْتُمْ قَدْ دَعَوْتُمُونَا إِلَى هَذَا الْمَكَانِ لِتُبَلِّغُونَا الدَّعْوَةَ شَفَقَةً عَلَيْنَا وَرَحْمَةً بِنَا، فَأْذَنُوا لِي أَنْ أُبَيِّنَ لَكُمْ مَوْقِعَهَا مِنْ نَفْسِي. فَأَذِنَ لِي الْقَسُّ بِالْكَلَامِ فَوَقَفْتُ فِي مَوْقِفِ الْخَطَابَةِ، وَأَوْرَدْتُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْقَضَايَا الْمُتَنَاقِضَةِ، الَّتِي سَأُبَيِّنُهَا هُنَا، وَطَلَبْتُ الْجَوَابَ عَنْهَا. فَكَانَ الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ خَاصٌّ بِالْوَعْظِ وَالْكِرَازَةِ دُونَ الْجِدَالِ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْجِدَالَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَمَوْضِعُهَا الْمَكْتَبَةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ،

فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْحَاضِرُونَ هَذَا الْجَوَابَ صَاحُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. وَانْصَرَفُوا. أَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَدُونَكَهُ بِالِاخْتِصَارِ:

(مَا يَرِدُ عَلَى عَقِيدَةِ الصَّلْبِ)(1) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، وَفِي كُلِّ صُنْعِهِ حَكِيمًا ; لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وَالْبَدَاءَ عَلَى الْبَارِئِ، عز وجل، كَأَنَّهُ حِينَ خَلَقَ آدَمَ مَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَحِينَ عَصَى مَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ فِي شَأْنِهِ حَتَّى اهْتَدَى إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ أُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ مَرَّتْ عَلَى خَلْقِهِ، كَانَ فِيهَا جَاهِلًا كَيْفَ يَجْمَعُ بَيْنَ تَيْنَكِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَوَاقِعًا فِي وَرْطَةِ التَّنَاقُضِ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ قَدْ يَقْبَلُهَا مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الدِّينِ عِنْدَهُمْ أَلَّا يَتَّفِقَ مَعَ الْعَقْلِ، وَأَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُهُ بِكُلِّ مَا يُسْنَدُ إِلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ عَمَلُ الْعَجَائِبِ، وَيَقُولُ: آمَنْتُ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ وَلَمْ تُذْعِنْ لَهُ نَفْسُهُ. وَمَنْ يَنْقُلُونَ فِي أَوَّلِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ (سِفْرِ التَّكْوِينِ) هَذِهِ الْجُمْلَةَ (6: 6 فَنَدِمَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ) تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا.

2 -

يَلْزَمُ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ مَا يُحِيلُهُ كُلُّ عَقْلٍ مُسْتَقِلٍّ، مِنْ أَنَّ خَالِقَ الْكَوْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي نِسْبَتُهَا إِلَى سَائِرِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ الذَّرَّةِ إِلَيْهَا وَإِلَى سَمَوَاتِهَا الَّتِي تُرَى مِنْهَا، ثُمَّ يَكُونُ بَشَرًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتْعَبُ، وَيَعْتَرِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي الْبَشَرَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَعْدَاؤُهُ بِالْقَهْرِ وَالْإِهَانَةِ، فَيَصْلُبُوهُ مَعَ اللُّصُوصِ، وَيَجْعَلُوهُ مَلْعُونًا بِمُقْتَضَى حُكْمِ كِتَابِهِ لِبَعْضِ رُسُلِهِ (تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا) .

3 -

تَقْتَضِي هَذِهِ الْقِصَّةُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَدْ أَرَادَ شَيْئًا بَعْدَ التَّفَكُّرِ فِيهِ أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، ذَلِكَ أَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَخْلُصُوا وَيَنْجُوا بِوُقُوعِ الصَّلْبِ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ خَلَاصَهُمْ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، لَنَا

ص: 22

أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَحَدٌ قَطُّ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقُ

الْعَقْلِ وَجَزْمُهُ بِالشَّيْءِ، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ تَقْلِيدًا لِمَنْ لَقَّنَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ سَمَّيْنَا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِيمَانًا، نَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ لَا يَقُولُونَهُ. بَلْ يَرُدُّونَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهُ أَيْضًا بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ، مِنْ دِينٍ ثَبَتَتْ أُصُولُهُ عِنْدَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِمِثْلِهَا لِآلِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذَا عَذَّبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُدْخِلْهُمْ مَلَكُوتَهُ، كَمَا تَدَّعِي النَّصَارَى، لَا يَكُونُ رَحِيمًا عَلَى قَاعِدَةِ دُعَاةِ الصَّلْبِ وَالصَّلِيبِ، فَكَيْفَ جَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ؟ !

4 -

يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْ عَجْزِ الْخَالِقِ (تَعَالَى وَتَقَدَّسَ) عَنْ إِتْمَامِ مُرَادِهِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ كُلٍّ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ فِي صَلْبِ الْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُ عَذَّبَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَشَرٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ، فَتَعْذِيبُهُ بِالصَّلْبِ وَالطَّعْنِ بِالْحِرَابِ، عَلَى مَا زَعَمُوا، لَا يَصْدُرُ مِنْ عَادِلٍ، وَلَا مِنْ رَحِيمٍ بِالْأَحْرَى، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ غَيْرَ عَادِلٍ وَلَا رَحِيمٍ؟ أَوْ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا رَحِيمًا فَيَخْلُقُ خَلْقًا يُوقِعُهُ فِي وَرْطَةِ الْوُقُوعِ فِي انْتِفَاءِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَيُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَيَفْقِدُهُمَا مَعًا؟ !

5 -

إِذَا كَانَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَوِ الْقِصَّةِ يَنْجُو مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، كَيْفَمَا كَانَتْ أَخْلَاقُهُ وَأَعْمَالُهُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهَا إِبَاحِيِّينَ، وَأَنْ يَكُونَ الشِّرِّيرُ الْمُبْطِلُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَيُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، مِنْ أَهْلِ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى، لَا يُعَذَّبُ عَلَى شُرُورِهِ وَخَطِيئَاتِهِ، وَلَا يُجَازَى عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ هَوَاهُ، وَهُوَ آمِنٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا مُفْسِدًا لِلْبَشَرِ، وَإِذَا كَانَ يُعَذَّبُ عَلَى شُرُورِهِ وَخَطِيئَاتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ الصَّلِيبِيِّينَ، فَمَا هِيَ مَزِيَّةُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ امْتِيَازٌ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي نَفْسِ الْجَزَاءِ، فَأَيْنَ الْعَدْلُ الْإِلَهِيُّ؟

6 -

مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، يَقُولُ: إِنَّ عَفْوَ الْإِنْسَانِ عَمَّنْ يُذْنِبُ إِلَيْهِ، أَوْ عَفْوَ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي يَعْصِيهِ - يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْكَمَالَ، بَلْ يَعُدُّونَ الْعَفْوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَضَائِلِ، وَنَرَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ مِنَ الْأُمَمِ

الْمُخْتَلِفَةِ، يَصِفُونَهُ بِالْعَفُوِّ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَهْلٌ لِلْمَغْفِرَةِ، فَدَعْوَى الصَّلِيبِيِّينَ أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ مِمَّا يُنَافِي الْعَدْلَ مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ.

ص: 23

(الْجَزَاءُ وَالْخَلَاصُ فِي الْإِسْلَامِ) يَتَوَهَّمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي سَرَتْ إِلَى بَعْضِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ - أَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالسَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ فِيهَا، إِنَّمَا تَكُونُ بِمِثْلِ مَا يُسَمُّونَهُ الْفِدَاءَ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ. وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَادِي، فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ الْمَسِيحُ، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ مُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; وَلِذَلِكَ يُشَكِّكُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، بِمَا يَكْتُبُونَ مِنْ سَفْسَطَةِ الْجَدَلِ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَدَارُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، وَإِنَّ نَبِيَّنَا قَدْ أَذْنَبَ. وَالْمُذْنِبُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْقِذَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ تَبِعَةِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ.

أَمَّا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا بِتَخْطِئَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَطْ، وَلَا بِتَعْجِيزِهِمْ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقْتَرِفْ خَطِيئَةً بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَكَوْنِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ هُنَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا فُرِضَ أَنَّ عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُعَدُّ نَقْلُهُمْ تَوَاتُرًا صَحِيحًا، قَدْ لَازَمُوا الْمَسِيحَ فِي كُلِّ سَاعَاتِ حَيَاتِهِ وَدَقَائِقِهَا، فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ خَطِيئَةً فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا قَطُّ. أَوْ فَرْضُ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّونَا بِمَا عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِأَنَّ هَذَا - عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا يُعَدُّ عِنْدَنَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ - مِنْ الِاحْتِجَاجِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ اعْتِقَادَنَا يَنْقُضُ اعْتِقَادَهُمْ وَاعْتِقَادَهُمْ يَنْقُضُ اعْتِقَادَنَا، فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا إِذَا نَفَعَ فِي إِفْحَامِ الْخَصْمِ وَإِلْزَامِهِ، لَا يَنْفَعُ فِي إِقْنَاعِهِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْإِقْنَاعُ، لَا مُجَرَّدُ الْغَلَبِ فِي الْخِصَامِ.

وَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشَاغَبَةُ بِمِثْلِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (48: 2) لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ الَّتِي نَنْفِيهَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمَسِيحِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، هِيَ مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ -

تَعَالَى - بِارْتِكَابِ مَا نَهَى الله عَنْهُ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ. وَالذَّنْبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ عَمَلٍ لَهُ تَبِعَةٌ لَا تَسُرُّ الْعَامِلَ وَلَا تُوَافِقُ غَرَضَهُ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَنَبِ الْحَيَوَانِ. وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِثَالُهُ مِنْ عَمَلِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم إِذْنُهُ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ وَالْقُعُودِ عَنِ السَّفَرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِذْنُهُ لَهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا وَهُمْ كَارِهُونَ وَمُصِرُّونَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، يَضُرُّونَ وَلَا يَنْفَعُونَ، كَمَا قَالَ، تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ (9: 47) وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُعْتَذِرِينَ، وَعَلِمَ الْكَاذِبِينَ مِنْهُمْ. فَكَانَ هَذَا الْإِذْنُ ذَنْبًا ; لِأَنَّ لَهُ عَاقِبَةً مُخَالِفَةً لِلْمَقْصِدِ أَوْ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ عَدَمُ ذَلِكَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكَاذِبِينَ فِي الِاعْتِذَارِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانَ، مَا كَانُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا، أَذِنَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذَا

ص: 24

الذَّنْبِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنَتْ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (9: 43) فَمِثْلُ هَذَا، وَإِنْ سُمِّيَ ذَنْبًا لُغَةً، لَا يُعَدُّ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَمَثُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَجْعَلُ شَفَاعَتَهُ مَرْدُودَةً. عَلَى أَنَّ فِي سِيرَةِ كَثِيرٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ وَلَمْ تَقَعْ مِنْهُ خَطِيئَةٌ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي يَرْمِي الصَّلِيبِيُّونَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، عليهم السلام.

لَا نَرُدُّ عَلَى قَاعِدَةِ هَؤُلَاءِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ النَّوَاقِضِ لِأُسُسِهِمْ، وَالْهَوَادِمِ لِأَبْنِيَتِهِمْ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَنَا هِيَ مَوْضُوعَ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ مَزَاعِمَهُمْ فِيهَا صَحِيحَةٌ، لَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ شَيْئًا ; وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا فِيهَا هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِهَا الْمُفَصَّلِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِيجَازِ ; لِأَنَّ شَرْحَهَا قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَنَقُولُ:

إِنَّ مَدَارَ نَجَاةِ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَفَوْزَهُ بِالنَّعِيمِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَتَطْهِيرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ حَتَّى تَكُونَ مُتَخَلِّيَةً عَنِ الْأَبَاطِيلِ وَالشُّرُورِ، مُتَحَلِّيَةً بِالْفَضَائِلِ وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَمَدَارُ الْهَلَاكِ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (91: 7 - 10) فَاللهُ - تَعَالَى - جَعَلَ كُلَّ إِنْسَانٍ

مُتَمَكِّنًا بِقُوَاهُ الْفِطْرِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ، وَمِنْ أَعْمَالِ التَّقْوَى وَالْخَيْرَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُزَكِّي نَفْسَهُ بِهَذِهِ، أَوْ يُدَسِّيهَا بِتِلْكَ. فَمَنْ صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ صَلُحَتْ نَفْسُهُ وَزَكَتْ، وَكَانَتْ أَهْلًا لِلنَّعِيمِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ خُرَافِيَّةً بَاطِلَةً وَأَعْمَالُهُ سَيِّئَةً، فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُ وَخَبُثَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّفَ تَدْسِيَتَهَا وَدَهْوَرَتَهَا إِلَى هَاوِيَةِ الْجَحِيمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّزْكِيَةِ أَلَّا يُلِمَّ الْإِنْسَانُ بِخَطَأٍ، وَلَا تَقَعَ مِنْهُ سَيِّئَةٌ أَلْبَتَّةَ. بَلِ الْمَدَارُ عَلَى طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخُبْثِ وَسُوءِ النِّيَّةِ، بِحَيْثُ إِذَا غَلَبَهُ بَعْضُ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ فَأَلَمَّ بِذَنْبٍ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَلْجَأُ إِلَى النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَتَكْفِيرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ. فَيَكُونُ مَثَلُ نَفْسِهِ كَمَثَلِ بَيْتٍ تَتَعَاهَدُهُ رَبَّتُهُ بِالْكَنْسِ وَالْمَسْحِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ النَّظَافَةِ، فَإِذَا أَلَمَّ بِهِ غُبَارٌ أَوْ أَصَابَهُ دَنَسٌ بَادَرَتْ إِلَى إِزَالَتِهِ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّظَافَةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِذَلِكَ مَا لَا تَخْلُو مِنْهُ الْبُيُوتُ النَّظِيفَةُ عَادَةً مِنْ قَلِيلِ غُبَارٍ أَوْ وَسَخٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُزَالَ، فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّفْصِيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (4: 123، 124)

ص: 25

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (4: 17، 18) وَقَوْلِهِ، تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (4: 31) وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (4: 48، 116) إِلَخْ.

فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَإِصْلَاحِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، كَانَ مَقْبُولًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا يُؤَاخِذُهُ - تَعَالَى - بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَحْرُومًا مِنْ رِضْوَانِهِ الْأَكْبَرِ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ شَفَاعَةُ شَافِعٍ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءً لَوْ مَلَكَ الْفِدَاءَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَشْفَعَ لِأَحَدٍ لَمْ يُرْضِ اللهَ - تَعَالَى - بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا الْحَقُّ وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِمَا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ

(2: 255) وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (21: 28) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ (2: 123) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ (2: 254) .

وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَدْسِيَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ، مُرَتَّبٌ عَلَيْهِمَا تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، بِفَضْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (2: 261) وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (4: 173) .

أَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّعَالِيمُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَ الْإِنْسَانِ، وَتُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتَحْفِزُهُ إِلَى طَلَبِ الْكَمَالِ بِإِيمَانِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ؟ أَلَيْسَتْ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ مِنْ الِاتِّكَالِ عَلَى تِلْكَ الْقِصَّةِ الصَّلِيبِيَّةِ الْمَأْثُورِ مِثْلُهَا عَنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيِّينَ؟ الَّتِي لَا يُصَدِّقُهَا عَقْلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهَا قَلْبٌ سَلِيمٌ، الْمُخَالِفَةِ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَنِظَامِ الْخِلْقَةِ، الَّتِي أَفْسَدَتِ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فِي الْمَمَالِكِ الصَّلِيبِيَّةِ مُنْذُ شَاعَتْ فِيهَا بِنُفُوذِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ الصَّلِيبِيِّ، إِلَى أَنْ عَتَقَتْ أُورُبَّةُ مِنْ رِقِّ الْكَنِيسَةِ، بِنُورِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِقْلَالِ اللَّذَيْنِ أَشْرَقَا عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. (وَلَكِنْ وَاأَسَفَا عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، ظَاهِرُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَبَاطِنُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَوَاشَوْقَاهُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَنْدَكُّ فِيهِ هَذَا السُّورُ الَّذِي حَجَبَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ) .

ص: 26

(عَقِيدَةُ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَثَنِيَّةٌ) اعْتَرَفَ أَمَامَنَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ نَصَارَى، بِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ لَا تُعْقَلُ، وَأَنَّ الْعُمْدَةَ عِنْدَهُمُ النَّقْلُ عَنْ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْكُتُبُ ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَقْبَلُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا، سَوَاءٌ عُقِلَ أَمْ لَمْ يُعْقَلْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ كُلَّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِيهِ عَقَائِدُ وَأَخْبَارٌ يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهَا، وَلَكِنَّهَا تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ.

وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَخْبَارٌ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَتِهَا ; لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا

مِنَ الْمُمْكِنَاتِ أَخْبَرَ بِهَا الْوَحْيُ، فَصَدَّقْنَاهُ، فَالْإِسْلَامُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِالْمُحَالِ.

وَأَمَّا نَقْلُهُمْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ عَنْ كُتُبِهِمْ (وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ) فَهُوَ مُعَارَضٌ بِنَقْلٍ مِثْلِهِ عَنْ كُتُبِ الْوَثَنِيِّينَ وَتَقَالِيدِهِمْ، فَهَذِهِ عَقِيدَةٌ وَثَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ سَرَتْ إِلَى النَّصَارَى مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَمُؤَرِّخُوهُمْ، وَعُلَمَاءُ الْآثَارِ وَالْعَادِيَاتِ مِنْهُمْ فِي كُتُبِهِمْ.

قَالَ (دُوَانُ) فِي كِتَابِهِ: " خُرَافَاتُ التَّوْرَاةِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى "(. ص 181، 182) مَا تَرْجَمَتُهُ بِالتَّلْخِيصِ:

" إِنَّ تَصَوُّرَ الْخَلَاصِ بِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِ الْآلِهَةِ ذَبِيحَةَ فَدَاءٍ عَنِ الْخَطِيئَةِ، قَدِيمُ الْعَهْدِ جِدًّا عِنْدَ الْهُنُودِ الْوَثَنِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ " وَذَكَرَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ:

مِنْهَا قَوْلُهُ: يَعْتَقِدُ الْهُنُودُ أَنَّ كَرَشْنَا الْمَوْلُودَ الْبِكْرَ، الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِلَهِ فِشْنُو الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَلَا انْتِهَاءَ - عَلَى رَأْيِهِمْ - تَحَرَّكَ حُنُوًّا كَيْ يُخَلِّصَ الْأَرْضَ مِنْ ثِقَلِ حِمْلِهَا، فَأَتَاهَا وَخَلَّصَ الْإِنْسَانَ بِتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً عَنْهُ.

وَذَكَرَ أَنَّ (مِسْتَرْ مُورْ) قَدْ صَوَّرَ كَرَشْنَا مَصْلُوبًا، كَمَا هُوَ مُصَوَّرٌ فِي كُتُبِ الْهُنُودِ، مَثْقُوبَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَعَلَى قَمِيصِهِ صُورَةُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ مُعَلَّقًا. وَوَجَدْتُ لَهُ صُورَةً مَصْلُوبًا وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَالنَّصَارَى تَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ صُلِبَ وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الشَّوْكِ.

وَقَالَ (هُوكْ) فِي ص 326 مِنَ الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنْ رِحْلَتِهِ: " وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِتَجَسُّدِ أَحَدِ الْآلِهَةِ، وَتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً فِدَاءً لِلنَّاسِ مِنَ الْخَطِيئَةِ ".

وَقَالَ (مورينورليمس) فِي ص 36 مِنْ كِتَابِهِ (الْهُنُودُ) : وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِالْخَطِيئَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي مُنَاجَاتِهِمْ، وَتَوَسُّلَاتِهِمُ الَّتِي يَتَوَسَّلُونَ بِهَا بَعْدَ " الْكِيَاتْرِي " وَهُوَ: إِنِّي مُذْنِبٌ، وَمُرْتَكِبُ الْخَطِيئَةِ، وَطَبِيعَتِي شِرِّيرَةٌ، وَحَمَلَتْنِي أُمِّي بِالْإِثْمِ، فَخَلِّصْنِي يَا ذَا الْعَيْنِ الْحَنْدُوقِيَّةِ، يَا مُخَلِّصَ الْخَاطِئِينَ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ ".

ص: 27

وَقَالَ الْقَسُّ جُورَكْ كُوكْسَ فِي كِتَابِهِ (الدِّيَانَاتُ الْقَدِيمَةُ) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْهُنُودِ: " وَيَصِفُونَ كَرَشْنَا بِالْبَطَلِ الْوَدِيعِ الْمَمْلُوءِ لَاهُوتًا لِأَنَّهُ قَدَّمَ شَخْصَهُ ذَبِيحَةً ".

وَنَقَلَ هِيجِينْ عَنْ (أندرادا الْكروزويوس) وَهُوَ أَوَّلُ أُورُبِّيٍّ دَخَلَ بِلَادَ

النِّيبَالِ وَالتِّبْتِ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) الَّذِي يَعْبُدُونَهُ: إِنَّهُ سُفِكَ دَمُهُ بِالصَّلْبِ وَثَقْبِ الْمَسَامِيرِ، لِكَيْ يُخَلِّصَ الْبَشَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ صُورَةَ الصَّلِيبِ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِهِمْ.

وَفِي كِتَابِ جورجيوس الرَّاهِبِ صُورَةُ الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) هَذَا مَصْلُوبًا، وَهُوَ بِشَكْلِ صَلِيبٍ أَضْلَاعُهُ مُتَسَاوِيَةُ الْعَرْضِ مُتَفَاوِتَةُ الطُّولِ، فَالرَّأْسِيُّ أَقْصَرُهَا (وَفِيهِ صُورَةُ وَجْهِهِ) وَالسُّفْلِيُّ أَطُولُهَا، وَلَوْلَا صُورَةُ الْوَجْهِ لَمَا خَطَرَ لِمَنْ يَرَى الصُّورَةَ أَنَّهَا تُمَثِّلُ شَخْصًا.

هَذَا، وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْبُوذِيِّينَ فِي (بُوذَهْ) هُوَ أَكْثَرُ انْطِبَاقًا عَلَى مَا يَرْوِيهِ النَّصَارَى عَنِ الْمَسِيحِ، مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. حَتَّى إِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ الْمَسِيحَ، وَالْمَوْلُودُ الْوَحِيدُ، وَمُخَلِّصَ الْعَالَمِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ كَامِلٌ، وَإِلَهٌ كَامِلٌ تَجَسَّدَ بِالنَّاسُوتِ، وَإِنَّهُ قَدَّمَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةً ; لِيُكَفِّرَ ذُنُوبَ الْبَشَرِ، وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَيَجْعَلَهُمْ وَارِثِينَ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.

بَيَّنَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ، مِنْهُمْ (بِيلْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ بُوذَهْ) وَ (هُوكْ) فِي رِحْلَتِهِ وَ (مُولَرْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ الْآدَابِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ) وَغَيْرُهُمْ.

وَمَنْ أَرَادَ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ إِلَهِ النَّصَارَى، وَآلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ الْأَوَّلِينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ فِي الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ مِنْ مُسْلِمٍ هَدَاهُ اللهُ بِالْإِسْلَامِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالدِّينِ الْقَيِّمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَكْرِيمِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَحِبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَيَرْضَى لِنَفْسِهِ التَّخَبُّطَ فِي ظُلُمَاتِ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ؟ !

(شُبَهَاتُ النَّصَارَى عَلَى إِنْكَارِ الصَّلْبِ)

(الشُّبْهَةُ الْأُولَى) : يَدَّعِي بَعْضُهُمْ فِيمَا يُمَوِّهُ بِهِ عَلَى عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ مُتَوَاتِرَةٌ، فَالْعِلْمُ بِهَا قَطْعِيٌّ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أَنَّ دَعْوَى التَّوَاتُرِ مَمْنُوعَةٌ ; فَإِنَّ التَّوَاتُرَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْبَارِ عَدَدٍ كَثِيرٍ، لَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ اتِّفَاقَهُمْ، وَتَوَاطُؤِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، بِشَيْءٍ قَدْ أَدْرَكُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِدْرَاكًا صَحِيحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَكَانَ خَبَرُهُمْ بِذَلِكَ مُتَّفِقًا لَا خِلَافَ فِيهِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّوَاتُرُ فِي طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ شَيْئًا (مَثَلًا) وَأَخْبَرُوا بِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّوَاتُرُ فِي طَبَقَاتٍ كَانَ

ص: 28

مَا بَعْدَ الْأُولَى مُخْبِرًا عَنْهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَفْرَادُ كُلِّ طَبَقَةٍ لَا يُجَوِّزُ عَقْلُ عَاقِلٍ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ قَدْ سَمِعَ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ يَحْصُلُ بِهِمُ التَّوَاتُرُ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ. وَأَنْ يَتَّصِلَ السَّنَدُ هَكَذَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا يَنْعَقِدُ التَّوَاتُرُ.

وَأَنَّى لِلنَّصَارَى بِمِثْلِ هَذَا التَّوَاتُرِ؟ وَالَّذِينَ كَتَبُوا الْأَنَاجِيلَ، وَالرَّسَائِلَ الْمُعْتَمَدَةَ عِنْدَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، وَمَنْ تُنْقَلُ عَنْهُ الْمُشَاهَدَةُ كَبَعْضِ النِّسَاءِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْوَهْمُ. بَلْ قَالَ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ: إِنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ وَهِيَ أَعْرِفُ النَّاسِ بِالْمَسِيحِ اشْتَبَهَتْ فِيهِ وَظَنَّتْ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، وَهُوَ قَدْ كَانَ صَاحِبَ آيَاتٍ، وَخَوَارِقَ عَادَاتٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَنْجُوَ بِالتَّشَكُّلِ بِصُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ، كَمَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ:" إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ " وَكَمَا قَالَ مُرْقُسْ: إِنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى. ثُمَّ إِنَّ مَا عُزِيَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، إِلَى الْعَصْرِ الَّذِي صَارَ لِلنَّصَارَى فِيهِ مُلْكٌ وَحُرِّيَّةٌ يُظْهِرُونَ فِيهِمَا دِينَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ انْقِطَاعَ أَسَانِيدِ هَذِهِ الْكُتُبِ بِالْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَةِ. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا.

(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) : يَقُولُونَ لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُتَوَاتِرَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، لَوُجِدَ، فِيهِمْ، مَنْ أَنْكَرَهَا، كَمَا وُجِدَتْ فِيهِمْ فِرَقٌ خَالَفَتِ الْجُمْهُورَ فِي أُصُولِ عَقَائِدِهِ ; كَالتَّثْلِيثِ، وَلَمْ تُخَالِفْهُ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا عَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَجْهَلُ تَارِيخَهُمْ، يَسِيرٌ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الصَّلْبَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ السِّيرِنِثِيِّينَ، وَالتَّاتْيَانُوسِيِّينَ أَتْبَاعُ تَاتْيَانُوسَ تِلْمِيذِ يُوسْتِينُوسَ الشَّهِيدِ، وَقَالَ فُوتْيُوسُ: إِنَّهُ قَرَأَ كِتَابًا يُسَمَّى: " رِحْلَةُ الرُّسُلِ " فِيهِ أَخْبَارُ بُطْرُسَ، وَيُوحَنَّا، وَأَنْدَرَاوِسْ، وَتُومَا، وَبُولُسْ، وَمِمَّا قَرَأَهُ فِيهِ: " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُصْلَبْ، وَلَكِنْ صُلِبَ غَيْرُهُ، وَقَدْ ضَحِكَ

بِذَلِكَ مِنْ صَالِبِيهِ "

هَذَا، وَإِنَّ مَجَامِعَهُمُ الْأُولَى قَدْ حَرَّمَتْ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الَّتِي تُخَالِفُ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ، وَالرَّسَائِلَ الَّتِي اعْتَمَدَتْهَا، فَصَارَ أَتْبَاعُهُمْ يَحْرِقُونَ تِلْكَ الْكُتُبَ وَيُتْلِفُونَهَا، وَإِنَّنَا نَرَى مَا سَلِمَ بَعْضُ نُسَخِهِ، مِنْهَا، كَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا يُنْكِرُ الصَّلْبَ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ الَّتِي فُقِدَتْ كَانَتْ تُنْكِرُهُ أَيْضًا، فَنَحْنُ لَا ثِقَةَ لَنَا بِاخْتِيَارِ الْمَجَامِعِ لِمَا اخْتَارَتْهُ، فَنَجْعَلُهُ حُجَّةً، وَنَعُدُّ مَا عَدَاهُ كَالْعَدَمِ. عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْمُنْكِرِينَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِمْ، وَعَدَمُ وُجُودِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ.

(الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) : يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ، وَرَسَائِلَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ قَدْ أَثْبَتَتِ الصَّلْبَ، وَهِيَ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُ مَا أَثْبَتَتْهُ.

وَنَقُولُ (أَوَّلًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَلَا عَلَى أَنَّ كَاتِبِيهَا كَانُوا مَعْصُومِينَ، وَ (ثَانِيًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى نِسْبَتِهَا إِلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَ (ثَالِثًا)

:

ص: 29

أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِأَمْثَالِهَا كَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَتَرْجِيحُهُمْ إِيَّاهَا عَلَى هَذَا الْإِنْجِيلِ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِي اعْتِمَادِهَا تِلْكَ الْمَجَامِعَ الَّتِي لَا ثِقَةَ لَنَا بِأَهْلِهَا، وَلَا كَانُوا مَعْصُومِينَ عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَنَا، وَ (رَابِعًا) : أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ فِي قِصَّةِ الصَّلْبِ، وَفِي غَيْرِهَا، وَ (خَامِسًا) : أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي ثَبَتَ نَقْلُهُ بِالتَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ، دُونَ غَيْرِهِ، فَقُصَارَى تِلْكَ الْكُتُبِ أَنْ تُفِيدَ الظَّنَّ بِالْقَرَائِنِ كَمَا قَالَ، تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَالْقُرْآنُ قَطْعِيٌّ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ.

إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمُجَادِلِيهِمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ عَهْدِ الْمَسِيحِ إِلَى الْآنِ، وَأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِهِمْ، وَمَعْرُوفَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا اثْنَانِ. وَلَكِنْ مَنْ طَالَعَ كُتُبَهُمُ التَّارِيخِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ، يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ. وَإِنَّمَا يُصَدِّقُهُمُ الْمُسْلِمُونَ الْجَاهِلُونَ ; لِتَوَهُّمِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ نَشَأَتْ كَالْإِسْلَامِ فِي مَهْدِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ، فَأَمْكَنَ حِفْظُ كُتُبِهَا كَمَا أَمْكَنَ حِفْظُ الْقُرْآنِ. وَشَتَّانَ بَيْنَ الْأُمَّتَيْنِ فِي نَشْأَتِهِمَا شَتَّانَ. وَإِلَيْكَ نَزْرًا مِنَ الْبَيَانِ، وَإِنْ شِئْتَ الْمَزِيدَ مِنْ مِثْلِهِ فَارْجِعْ إِلَى الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.

الدَّلَائِلُ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِالْأَنَاجِيلِ: أَلَّفَ سَلْسُوسُ مِنْ عُلَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْمِيلَادِ كِتَابًا فِي إِبْطَالِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ قَالَ فِيهِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ أَكْهَارِنْ مِنْ عُلَمَاءِ أَلْمَانْيَةَ مَا تَرْجَمَتُهُ: " بَدَّلَ النَّصَارَى أَنَاجِيلَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا تَبْدِيلًا ; كَأَنَّ مَضَامِينَهَا بُدِّلَتْ ".

وَفِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْأَبْيُونِيَّةَ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْمِيلَادِ كَانَتْ تُصَدِّقُ إِنْجِيلَ مَتَّى وَحْدَهُ وَتُنْكِرُ مَا عَدَاهُ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْجِيلُ مُخَالِفًا لِإِنْجِيلِ مَتَّى الَّذِي ظَهَرَ بَعْدَ ظُهُورِ قُسْطَنْطِينَ، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الْمَارَسْيُونِيَّةَ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى الْقَدِيمَةِ كَانَتْ تَأْخُذُ بِإِنْجِيلِ لُوقَا، وَكَانَتِ النُّسْخَةُ الَّتِي تُؤْمِنُ بِهَا مُخَالِفَةً لِلْمَوْجُودَةِ الْآنَ، وَكَانَتْ تُنْكِرُ سَائِرَ الْأَنَاجِيلِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ.

وَفِي رِسَالَةِ بُولِسْ إِلَى أَهْلِ غِلَاطْيَةَ مَا نَصُّهُ (1: 6 إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ (7) لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ) هَكَذَا فِي تَرْجَمَةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ الْأَخِيرَةِ (يُحَوِّلُوا) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي نَقَلَ عَنْهَا كَثِيرُونَ " يُحَرِّفُوا " وَفِي تَرْجَمَةِ الْجِزْوِيتْ " يَقْلِبُوا " وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ بُولِسْ قَوْمٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى إِنْجِيلٍ غَيْرِ الَّذِي يَدْعُو هُوَ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ غَيْرَهُ أَنَّهُمْ حَرَّفُوهُ، أَوْ قَلَبُوهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ إِنْجِيلٌ آخَرُ، وَكَمَا اعْتَرَفَ بُولِسْ بِهَذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ فِي عَصْرِهِ رُسُلٌ كَذَّابُونَ غَدَّارُونَ

ص: 30

تَشَبَّهُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ. صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثِيوُسَ فَقَالَ: (11:13 لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى رُسُلِ الْمَسِيحِ (14) وَلَا عَجَبَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى مَلَاكِ نُورٍ (15) فَلَيْسَ عَظِيمًا إِذَا كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضًا يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ) .

وَفِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَانُوا يَنْبَثُّونَ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ غَيْرَ مَا يُعَلِّمُهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ وَالْمَشَايِخَ أَرْسَلُوا بُولِسْ وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ ;

لِتَحْذِيرِ إِخْوَانِهِمْ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يُوصُونَهُمْ بِالْخِتَانِ، وَحِفْظِ النَّامُوسِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (15) مِنْهُ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ حَصَلَتْ مُشَاجَرَةٌ هُنَالِكَ بَيْنَ بُولِسْ وَبِرْنَابَا وَافْتَرَقَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بُولِسْ كَانَ عَدُوَّ الْمَسِيحِيِّينَ، وَخَصْمَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْإِيمَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ جَمَاعَةُ الْمَسِيحِ عليه السلام، وَلَوْلَا أَنْ شَهِدَ لَهُ بِرْنَابَا لَمَا قَبِلُوهُ، وَبِرْنَابَا يَقُولُ فِي أَوَّلِ إِنْجِيلِهِ: إِنَّ بُولِسْ نَفْسَهُ كَانَ مِنَ الَّذِينَ بَشَّرُوا بِتَعْلِيمٍ جَدِيدٍ غَيْرِ تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ. فَمَعَ أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَثِقَ بِهَا؟

وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ فِي قِصَّةِ الصَّلْبِ مِنْهَا: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ الْمَسِيحَ بَذَلَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ فِدَاءً وَكَفَّارَةً عَنِ الْبَشَرِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ تُصَرِّحُ بِأَنَّهُ حَزِنَ وَاكْتَأَبَ عِنْدَمَا شَعَرَ بِقُرْبِ أَجَلِهِ، وَطَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ هَذِهِ الْكَأْسَ، فَفِي مَتَّى:(37:26) ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ، وَابْنَي زَبْدَى، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ (38) فَقَالَ لَهُمْ نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. امْكُثُوا هُنَا، وَاسْهَرُوا مَعِي (39) ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا. بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ. فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً، وَصَلَّى قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ.

وَمِثْلُ هَذَا فِي لُوقَا: (22: 43 - 45) فَكَيْفَ يَقُولُ الْمَسِيحُ هَذَا، وَهُوَ إِلَهٌ عِنْدَهُمْ؟ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَجْهَلَ مَا يُمْكِنُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ، وَأَنْ يَطْلُبَ إِبْطَالَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَرَادَ الْآبُ - وَهُوَ هُوَ عِنْدَهُمْ - أَنْ يَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ؟

وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا مَسْأَلَةُ اللِّصَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَالُوا: إِنَّهُمَا صُلِبَا مَعَهُ، قَالَ مُرْقُسُ:(15: 27 وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ ; وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ (28) فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: " وَأَحْصَى مَعَ أَثَمَةٍ " إِلَى أَنْ قَالَ: وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَتَّى: (27:44) وَأَمَّا لُوقَا فَقَدْ سَمَّى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ صُلِبَا مَعَهُ: مُذْنِبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (23: 39 وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ

ص: 31

الْمُعَلَّقَيْنِ مَعَهُ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلًا:

" إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا (40) فَأَجَابَ الْآخَرُ وَانْتَهَرَهُ " إِلَخْ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَّرَ هَذَا بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ فِي الْفِرْدَوْسِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَانَتْ نُبُوَّةُ الْكِتَابِ (الْمُرَادُ بِهِ أَشَعْيَا) أَنَّهُ يُصْلَبُ مَعَ أَثَمَةٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ثُمَّ كَانَ الْجَمْعُ اثْنَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَقُولُ اثْنَانِ مِنَ الْإِنْجِيلِيِّينَ الْمَعْصُومِينَ عَلَى رَأْيِهِمْ: إِنَّ الَّذِي عَيَّرَهُ وَأَهَانَهُ هُوَ أَحَدُهُمَا، وَالْآخَرَانِ وَهُمَا مِثْلُهُ فِي عِصْمَتِهِ يَقُولَانِ: بَلْ كِلَاهُمَا عَيَّرَاهُ؟ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ أَظْهَرِهَا: مَسْأَلَةُ دَفْنِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَقِيَامِهِ مِنَ الْقَبْرِ قَبْلَ فَجْرِ يَوْمِ الْأَحَدِ، مَعَ أَنَّ الْبِشَارَةَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَهِيَ مُدَّةُ يُونَانَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ.

وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي جِئْنَ الْقَبْرَ، وَفِيهَا عِدَّةُ خِلَافَاتٍ فِي وَقْتِ الْمَجِيءِ، وَرُؤْيَةِ الْمَلَكِ أَوِ الْمَلَكَيْنِ وَرُؤْيَتِهِ هُوَ إِلَخْ.

(الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُمْ: إِنَّ كُتُبَ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ قَدْ بَشَّرَتْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلْبِ وَنَوَّهَتْ بِهَا تَنْوِيهًا.

وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ. بَلْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَأَوَّلْتُمْ عِبَارَاتٍ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَجَعَلْتُمُوهَا مُشِيرَةً إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، أَوْ كَمَا قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ:" إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا للْمَسِيحِ " كَمَا أَنَّكُمْ تَدَّعُونَ أَنَّ الذَّبَائِحَ الْوَثَنِيَّةَ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا إِلَى صَلْبِ الْمَسِيحِ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ خُرَافَاتِ الْبَشَرِ وَعِبَادَاتِهِمْ حُجَجٌ لَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ هَذِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَبَقُوكُمْ إِلَى مِثْلِهَا. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ.

(الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ) : يَقُولُونَ: إِذَا جَازَ أَنْ يَشْتَبِهَ فِي الْمَسِيحِ وَيَجْهَلَ شَخْصَهُ الْجُنُودُ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَالْحُكَّامُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا صَلْبَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ فِي ذَلِكَ تَلَامِيذُهُ، وَمُرِيدُوهُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ؟

وَنَقُولُ: إِنَّ الْجَوَابَ عَلَى هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ عُهِدَ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يُشْبِهَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَبَهًا تَامًّا بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمُتَشَابِهَيْنِ الْمُعَاشِرُونَ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا بَيْنَ الْغُرَبَاءِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ. وَلَعَلَّهُ يَقِلُّ فِي الَّذِينَ يُسَافِرُونَ وَيَتَقَلَّبُونَ بَيْنَ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ، وَقَدْ وَقَعَ لِي غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَى رَجُلٍ غَرِيبٍ اشْتَبَهَ عَلَيَّ بِصَدِيقٍ لِي، ثُمَّ أَعْرِفُ بَعْدَ الْحَدِيثِ

مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّنَا لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ نُورِدُ قَلِيلًا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَنِ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ يَثِقُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَنَا بِهِمْ مَا لَا يَثِقُونَ بِغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الدُّعَاةَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، أَوْ مُقَلِّدَتُهُمْ.

قَالَ صَاحِبُ " كِتَابِ التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ "(أُمِيلُ الْقَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرَ) حِكَايَةً عَنْ كِتَابٍ كَتَبَتْهُ امْرَأَةُ الدُّكْتُورِ إِرَاسِمْ إِلَى زَوْجِهَا مَا نَصُّهُ: " لَقَدْ كَثُرَ مَا لَاحَظْتُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَالْمَوْطِنِ تَشَابُهٌ كَالَّذِي يُوجَدُ بَيْنَ أَفْرَادِ

ص: 32

أُسْرَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَتَدْرِي مَنْ هُوَ الَّذِي حَضَرَتْ صُورَتُهُ فِي ذِهْنِي عِنْدَ وُقُوعِ بَصَرِي عَلَى السَّيِّدَةِ وَارنجتُون؟ ذَلِكَ هُوَ صَدِيقُكَ يَعْقُوبُ نُقُولَا، خِلْتُنِي أَرَاهُ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ " اهـ. فَهَذَا مِثَالٌ لِرَأْيِ الْكَاتِبِ فِي تَشَابُهِ النَّاسِ. وَفِي رِسَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ مَا نَصُّهُ (ص 368) :

" وَيُوجَدُ فِي كُتُبِ الطِّبِّ الشَّرْعِيِّ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ فِي بَابِ تَحْقِيقِ الشَّخْصِيَّاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ لِلنَّاسِ الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَيَشْتَبِهُونَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ " جَاي " وَ " فرير " مُؤَلِّفَا (كِتَابِ أُصُولِ الطِّبِّ الشَّرْعِيِّ) فِي اللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ حَادِثَةً اسْتُحْضِرَ فِيهَا (150) شَاهِدًا لِمَعْرِفَةِ شَخْصٍ يُدْعَى " مارتين جير " فَجَزَمَ أَرْبَعُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ هُوَ، وَقَالَ خَمْسُونَ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَالْبَاقُونَ تَرَدَّدُوا جِدًّا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُبْدُوا رَأْيًا، ثُمَّ اتَّضَحَ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ كَانَ غَيْرَ مَارتين جير، وَانْخَدَعَ بِهِ هَؤُلَاءِ الشُّهُودُ الْمُثْبِتُونَ، وَعَاشَ مَعَ زَوْجَةِ مَارتين مُحَاطًا بِأَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، وَكُلُّهُمْ مُصَدِّقُونَ أَنَّهُ مَارتين، وَلَمَّا حَكَمَتِ الْمَحْكَمَةُ عَلَيْهِ ; لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ اسْتَأْنَفَ الْحُكْمَ فِي مَحْكَمَةٍ أُخْرَى، فَأُحْضِرَ ثَلَاثُونَ شَاهِدًا آخَرُونَ، فَأَقْسَمَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ مارتين، وَقَالَ سَبْعَةٌ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ الْبَاقُونَ، وَقَدْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَنَةَ 1539 م، فِي فَرَنْسَا، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ.

" وَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَبَهِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ لِغَيْرِهِمْ أَنْ وُجِدَ فِيهِمْ بَعْضُ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُسُورِ أَوِ الْجُرُوحِ أَوْ آثَارِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى تَعَسَّرَ تَمْيِيزُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ; وَلِذَلِكَ جَدَّ الْأَطِبَّاءُ فِي وَضْعِ مُمَيِّزَاتٍ لِأَشْخَاصِ الْبَشَرِ الْمُخْتَلِفِينَ " اهـ.

(الْوَجْهُ الثَّانِي) : إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ

عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَنْقَذَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَغَيَّرَ شَكْلَهُ هُوَ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَفِي أَنَاجِيلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ جُمَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ تُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا مِنْ قَبْلُ (مِنْهَا) قَوْلُهُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ يَوْمَئِذٍ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ يَتَشَكَّلُ بِغَيْرِ شَكْلِهِ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَعْبُرَ عَنْهُ هَذِهِ الْكَأْسَ أَيْ قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ إِنْ أَمْكَنَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْخَاضِعَةِ لِمَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى اسْتِجَابَةِ اللهِ لِدُعَائِهِ بِقَوْلِ يُوحَنَّا حِكَايَةً عَنْهُ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الصَّلْبِ مِنْ آخِرِ الْفَصْلِ 16 " وَلَكِنْ ثِقُوا أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ " قَالَ هَذَا بَعْدَ إِخْبَارِهِمْ بِأَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، وَيَبْقَى وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يَكُونُ مَعَهُ ; أَيْ بِعَوْنِهِ وَحِفْظِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ مَتَّى (26: 56 حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلَامِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا) وَقَوْلُ مُرْقُسَ (14:

ص: 33

فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا) فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ التَّلَامِيذَ كُلَّهُمْ هَرَبُوا حِينَ جَاءَ الْجُنْدُ لِيَقْبِضُوا عَلَى الْمَسِيحِ، فَلَمْ يَكُنِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ هُنَالِكَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اسْتِجَابَةِ اللهِ دَعَوَتَهُ بِأَنْ يُنْقِذَهُ، وَيَعْبُرَ عَنْهُ تِلْكَ الْكَأْسَ، عِبَارَةُ الْمَزْمُورِ (109) الَّتِي يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَسِيحُ. وَهَذَا نَصُّهَا " 26 أَعِنِّي يَا رَبِّ، إِلَهِي، خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ 27، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ يَدُكَ، أَنْتَ يَا رَبِّ فَعَلَتْ هَذَا 28، أَمَّا هُمْ فَيُلْعَنُونَ وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ، قَامُوا وَخُزُوا، أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ 29 لِيَلْبَسَ خُصَمَائِي خَجَلًا، وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَالرِّدَاءِ. أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدًّا بِفَمِي وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ 31 لِأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمِسْكِينِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ ".

وَفِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا عَلَى الْمَسِيحِ شَوَاهِدُ أُخْرَى بِمَعْنَى هَذَا.

(الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ) يَقُولُونَ: إِذَا كَانَ الْمَسِيحُ قَدْ نَجَا مِنْ أَعْدَائِهِ بِعِنَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَأَيْنَ ذَهَبَ؟ وَلِمَاذَا لَمْ يَقِفْ لَهُ أَحَدٌ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ؟ .

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ رُفِعَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا تَرِدُ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ تَوَفَّاهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، كَمَا رَفَعَ إِدْرِيسَ عليهما السلام، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: لَا غَرَابَةَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَخَاهُ مُوسَى، عليه السلام، كَانَ بَيْنَ الْأُلُوفِ مِنْ قَوْمِهِ، الْخَاضِعِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَدِ انْفَرَدَ عَنْهُمْ، وَمَاتَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ أَنْ يَفِرَّ عِيسَى، عليه السلام،

مِنْ قَوْمٍ أَعْدَاءٍ لَهُ، لَا وَلِيَّ لَهُ فِيهِمْ وَلَا نَصَيْرَ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ، قَدِ انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَقْتَ الشِّدَّةِ وَأَنْكَرَهُ أَمْثَلُهُمْ (بُطْرُسْ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ لَا بِدْعَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى مَكَانٍ مَجْهُولٍ، وَمَاتَ فِيهِ كَمَا مَاتَ مُوسَى عليهما السلام وَلَمْ يَعْرِفْ قَبْرَهُ أَحَدٌ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي آخِرِ سِفْرِ (تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قَبْرَ الْمَسِيحِ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَدِ اكْتُشِفَ فِي الْهِنْدِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُ بَعْضِ النَّصَارَى بِعَدَمِ مَوْتِ الْمَسِيحِ بِالصَّلْبِ

رَوَوْا أَنَّ الْقَبْرَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ وُجِدَ فِي صَبَاحِ الْأَحَدِ خَالِيًا وَاللَّفَائِفُ مُلْقَاةٌ، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالْوَثَنِيِّينَ لَمَّا عَلِمُوا بِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْجُثَّةَ سُرِقَتْ.

وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارِ وَكَذَا الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَسِيحِيِّينَ الْعَقْلِيِّينَ: أَنَّ الَّذِي صُلِبَ لَمْ يَمُتْ. بَلْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أُنْزِلَ وَلُفَّ بِاللَّفَائِفِ، وَوُضِعَ فِي ذَلِكَ، النَّاوُوسِ أَفَاقَ وَأَلْقَى اللَّفَائِفَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِينَ رَفَعُوا الْحَجَرَ لِافْتِقَادِهِ خَرَجَ وَاخْتَفَى عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ. وَمِمَّا أَوْرَدُوا مِنَ التَّقْرِيبِ عَلَى هَذَا، أَنَّ الْمَصْلُوبَ لَمْ يُجْرَحْ مِنْهُ إِلَّا كَفَّاهُ وَرِجْلَاهُ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْمَقَاتِلِ وَلَمْ يَمْكُثْ مُعَلَّقًا إِلَّا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَكَانَ يُمْكِنُ

ص: 34

أَنْ يَعِيشَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا جُرِحَ بِالْحَرْبَةِ خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ وَمَاءٌ، وَالْمَيِّتُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صَلْبًا تَامًّا كَالْمُعْتَادِ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ.

وَمِنَ النُّقُولِ الصَّرِيحَةِ بِشُيُوعِ هَذَا الرَّأْيِ مَا جَاءَ فِي (ص 563 مِنْ كِتَابِ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ) وَهُوَ: " فَلِلْكَفَرَةِ وَالْجَاحِدِينَ فِي تَكْذِيبِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ مَذَاهِبُ شَتَّى. . . فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَفَزَّتْهُمْ مَعَ بهردواك وَبُولِسْ غتلب حَمَاقَةُ الْجَهْلِ وَوَسَاوِسُ الْكُفْرِ إِلَى أَنْ قَالُوا: إِنَّ يَسُوعَ نَزَلَ عَنِ الصَّلِيبِ حَيًّا وَدُفِنَ فِي الْقَبْرِ حَيًّا ".

وَقَالَ (فِي ص 564 مِنْهُ) : إِنَّ الْيَهُودَ وَالْوَثَنِيِّينَ وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمَسِيحِ وَدِينِهِ الْحَقِّ قَدْ تَوَغَّلُوا فِي بَيْدَاءِ الْهَذَيَانِ وَتَمَادَوْا فِي إِغْوَاءِ ضُلَّالِهِمْ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ تَلَامِيذَ

يَسُوعَ رَفَعُوا جَسَدَهُ خِفْيَةً، وَعَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْحُرَّاسِ، وَبَثُّوا فِي الْقَوْمِ أَنَّهُ انْبَعَثَ حَيًّا، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَائِعًا عِنْدَ الْيَهُودِ حِينَ كَتَبَ الْقِدِّيسُ مَتَّى إِنْجِيلَهُ (عَدَدُ 15 مِنْ فَصْلِ 28 مِنْ مَتَّى) اهـ.

(الْقَوْلُ بِهِجْرَةِ الْمَسِيحِ إِلَى الْهِنْدِ) وَمَوْتِهِ فِي بَلْدَةِ (سَرَى نَكْرَا) فِي كَشْمِيرَ

يُوجَدُ فِي بَلْدَةِ سَرَى نَكْرَا وَ " نَقْرَ "(وَالْهُنُودُ تَكْتُبُ " نَكْرَ " بِالْكَافِ الْمُفَخَّمَةِ، وَهِيَ كَالْجِيمِ الْمِصْرِيَّةِ) مَقْبَرَةٌ فِيهَا مَقَامٌ عَظِيمٌ يُقَالُ هُنَاكَ: إِنَّهُ مَقَامُ نَبِيٍّ جَاءَ بِلَادَ كَشْمِيرَ مِنْ زُهَاءِ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ يُسَمَّى بوزآسف، وَيُقَالُ إِنَّهُ اسْمُهُ الْأَصْلِيُّ عِيسَى صَاحِبٌ (وَكَلِمَةُ صَاحِبٍ فِي الْهِنْدِ لَقَبُ تَعْظِيمٍ كَلَقَبِ أَفَنْدِيٍّ عِنْدَ التُّرْكِ وَمِسْتَرْ وَمِسْيُو عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ) وَإِنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ ابْنُ مَلِكٍ. وَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مِمَّا يَتَنَاقَلُهُ أَهْلُ تِلْكَ الدِّيَارِ عَنْ سَلَفِهِمْ وَيُذْكَرُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ، وَإِنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْقَبْرَ لِأَحَدِ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ أَوْ رُسُلِهِ.

ذَكَرَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ غُلَامُ أَحْمَدَ الْقَادَيَانِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ (الْهُدَى وَالتَّبْصِرَةُ لِمَنْ يَرَى) وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ، وَأَنَّ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوجَدُ فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ هُنَاكَ اسْمُهُ (إِكْمَالُ الدِّينِ) وَذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْقَبْرَ هُوَ قَبْرُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَرَسَمَ صُورَةَ الْمَقْبَرَةِ بِالْقَلَمِ، وَأَمَّا قَبْرُ الْمَسِيحِ فَوَضَعَهُ فِي الْكِتَابِ بِالرَّسْمِ الشَّمْسِيِّ (الْفُوتُوغْرَافِيِّ) مَكْتُوبًا عَلَيْهِ (مَقْبَرَةُ عِيسَى صَاحِبٍ) .

وَغُلَامُ أَحْمَدَ هَذَا يُفَسِّرُ الْإِيوَاءَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (23: 50)

ص: 35

بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْهِنْدِ وَاللُّجْأِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي كَشْمِيرَ، فَإِنَّ الْإِيوَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ الْإِنْقَاذِ وَالتَّنْجِيَةِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ

وَالْمَصَائِبِ وَالْمَخَاوِفِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (93: 6) وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ (8: 26) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ وَلَدِ نُوحٍ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (11: 43) وَالرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَبِلَادُ كَشْمِيرَ مِنْ أَعْلَى بِلَادِ الدُّنْيَا، وَهِيَ ذَاتُ قَرَارٍ مَكِينٍ، وَمَاءٍ مَعِينٍ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الرَّبْوَةَ هِيَ رَمْلَةُ فِلَسْطِينَ أَوْ دِمَشْقَ الشَّامِ، وَلَوْ آوَى اللهُ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إِلَيْهِمَا لَمَا خَفِيَ مَكَانُهُمَا فِيهِمَا، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُحَاوَلَةِ صَلْبِهِ وَتَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِيوَاءِ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الْإِنْقَاذِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْأَنْصَارِ رضي الله عنهم: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا (8: 72) وَفِي يُوسُفَ عليه السلام: آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12: 69) وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (12: 99) وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَبْلَ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ وَالسَّعْيِ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فِي مَخَافَةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْإِيوَاءِ فِي مَأْمَنٍ مِنْهُمْ، فَفِرَارُهُ إِلَى الْهِنْدِ وَمَوْتُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا.

(الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ) يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْخُذُونَ بِقَوْلِ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَغَيْرِهِ بِالْمَوْضُوعِ، وَأَقْوَالِ مُبْتَدَعَةِ النَّصَارَى الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ يَهُوذَا هُوَ الَّذِي صُلِبَ لَا الْمَسِيحُ مَعَ أَنَّ يَهُوذَا قَدِ انْتَحَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْإِنْجِيلِ.

وَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ: اتَّفَقَتِ النَّصَارَى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيَّ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَكَانَ يَهُوذَا رَجُلًا عَامِّيًّا مِنْ بَلْدَةٍ تُسَمَّى (خَرْيُوتَ) فِي أَرْضِ يَهُوذَا، تَبِعَ الْمَسِيحَ وَصَارَ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يُلَقِّبُونَهُمْ بِالتَّلَامِيذِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ مَعَهُ فِي الْمَلَكُوتِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا، وَيَدِينُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; أَيْ يُحَاسِبُونَهُمْ فِي يَوْمِ الدِّينِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ يَهُوذَا كَانَ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ فِي خَلْقِهِ، كَمَا نَقَلَ (جُورْجُ سَايِلْ) الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِيمَا عَلَّقَهُ عَلَى سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى (السِّيرْتِثِيِّينَ وَالْكَرْبُوكْرَاتِيِّينَ) مِنْ أَقْدَمِ فِرَقِ النَّصَارَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا صَلْبَ الْمَسِيحِ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الَّذِي صُلِبَ هُوَ يَهُوذَا الَّذِي كَانَ يُشْبِهُهُ شَبَهًا تَامًّا.

وَقَالُوا: إِنَّ يَهُوذَا أَسِفَ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ إِسْلَامِهِ الْمَسِيحَ إِلَى الْيَهُودِ حَتَّى حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى بَخْعِ نَفْسِهِ (الِانْتِحَارِ) فَذَهَبَ إِلَى حَقْلٍ، وَخَنَقَ نَفْسَهُ فِيهِ (مَتَّى 27: 3 -) 10) أَوْ عَلَّقَهَا (أَعْمَالٌ 1: 18) وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ يَهُوذَا فُقِدَ بَعْدَ حَادِثَةِ

ص: 36

الصَّلْبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا هُوَ قَتْلُ نَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ، وَاخْتَلَفَ الرُّسُلُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانُوا مَعْصُومِينَ (؟) وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا فُقِدَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي صُلِبَ، وَالْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي نَجَّاهُ اللهُ - تَعَالَى - وَرَفَعَهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ انْفِعَالُهُ وَأَلَمُ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ خَنْقًا أَوْ شَنْقًا لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَبْسُلَهَا بِالِاسْتِسْلَامِ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، فَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ يَهُوذَا عِنْدَمَا دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى الْمَسِيحِ فِي اللَّيْلِ رَأَى بِعَيْنَيْهِ عِنَايَةَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِنْجَائِهِ وَإِنْقَاذِهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ (كَمَا أَنْجَى أَخَاهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَيْدِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَكَانُوا أَشَدَّ مَعْرِفَةً لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْيَهُودِ لِلْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ لِمَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ كَمَا بَذَلَتِ الْيَهُودُ ثَلَاثِينَ قِطْعَةً مِنَ الْفِضَّةِ لِيَهُوذَا. فَخَرَجَ لَيْلَةَ الْهِجْرَةِ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ عِنْدَ دَارِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَلَمْ يُبْصِرُوهُ) فَلَمَّا رَأَى يَهُوذَا ذَلِكَ وَعَلِمَ دَرَجَةَ عِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عَظُمَ ذَنْبُهُ فِي نَفْسِهِ وَاسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُ ذَنْبَهُ كَمَا كَفَّرَ ذَنْبَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ مِنْ غَيْرِ مُقَاوِمَةٍ تُذْكَرُ. فَرِوَايَةُ الْإِنْجِيلِ وَسِفْرِ الْأَعْمَالِ عَنْ وِجْدَانِهِ مَخْنُوقًا أَوْ مَشْنُوقًا غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، وَقَدْ تَعَارَضَ الْقَوْلَانِ فَتَسَاقَطَا، وَوَجَبَ اعْتِمَادُ قَوْلِ بِرْنَابَا الَّذِي أَخَذَ بِهِ بَعْضُ قُدَمَاءِ النَّصَارَى.

وَإِذَا كَانَ إِيمَانُ يَهُوذَا قَوِيًّا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ - دَرَجَةِ الِانْتِحَارِ وَالْبَخْعِ مِنْ أَلَمِ الذَّنْبِ - فَلَيْتَ شِعْرِي لِمَاذَا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا، وَأَنَّ كُرْسِيَّهُ فِي الْمَلَكُوتِ سَيَبْقَى خَالِيًا، وَبِشَارَةُ الْمَسِيحِ لَهُ لَا تَكُونُ صَادِقَةً، وَلِمَاذَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ بُطْرُسَ الَّذِي أَنْكَرَ الْمَسِيحَ وَتَرَكَهُ، وَلَعَنَهُ الْمَسِيحُ فِي حَيَاتِهِ وَسَمَّاهُ شَيْطَانًا، عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ دُونَ تَوْبَةِ يَهُوذَا، وَمَا كَانَ يَهُوذَا إِلَّا مُتَمِّمًا لِذَرِيعَةِ الْفِدَاءِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ عِنْدَهُمْ؟

الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدَفْنِهِ وَظَهَرَ لِلنِّسَاءِ وَلِتَلَامِيذِهِ وَلِأُنَاسٍ آخَرِينَ، وَأَرَى بَعْضَهُمْ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ فِي جَسَدِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى قِيَامِهِ جَمِيعُ الْأَنَاجِيلِ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي صُلِبَ غَيْرُهُ؟ وَنَقُولُ أَوَّلًا: إِنَّهُ لَا ثِقَةَ لَنَا بِرِوَايَةِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَبَيَّنَّا الدَّلَائِلَ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا بِالِاخْتِصَارِ، وَمِنْهَا تَعَارُضُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنُبَيِّنُهَا هُنَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّطْوِيلِ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى سَبَبٌ ثُمَّ تَوَسَّعَ الْقَوْمُ فِيهَا كَمَا هِيَ عَادَتُهُمْ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ الْعَجَائِبِ وَالْمُسْتَغْرَبَاتِ حَتَّى تَسَنَّى لَبِوُلِسَ وَمُرِيدِيهِ أَنْ يُفْرِغُوهَا فِي هَذَا الْقَالَبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَسَتَرَى بَيَانَ هَذَا قَرِيبًا.

أَمَّا الْبَيَانُ الْأَوَّلُ: فَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى أَنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ وَمَرْيَمَ الْأُخْرَى (أَيْ أُمَّ يَعْقُوبَ) جَاءَتَا وَقْتَ الْفَجْرِ لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ فَوَجَدَتَا الْمَلَكَ قَدْ دَحْرَجَ الْحَجْرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُمَا

ص: 37

أَنَّ يَسُوعَ قَامَ مِنْهُ وَسَبَقَ تَلَامِيذَهُ إِلَى الْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَهُ، فَذَهَبَتَا لِتُخْبِرَا التَّلَامِيذَ، فَلَاقَاهُمَا يَسُوعُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا كَمَا قَالَ الْمَلَكُ (رَاجِعْ 28 مَتَّى وَهُوَ الْفَصْلُ الْأَخِيرُ) .

وَفِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ مِنْ مُرْقُسَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ ثَلَاثًا، الثَّالِثَةُ سَالُومَةُ، وَأَنَّهُنَّ جِئْنَ الْقَبْرَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُنَّ رَأَيْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجًا وَلَمْ يَقُلْ كَمَتَّى: إِنَّ الْمَلَكَ كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُنَّ وَجَدْنَ فِي الْقَبْرِ شَابًّا عَنِ الْيَمِينِ، وَإِنَّهُ قَالَ لَهُنَّ:" اذْهَبْنَ، وَقُلْنَ لِتَلَامِيذِهِ، وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ " فَزَادَ عَطْفَ بُطَرُسَ عَلَى التَّلَامِيذِ، وَقَالَ: إِنَّهُنَّ هَرَبْنَ وَلَمْ يَقُلْنَ لِأَحَدٍ شَيْئًا ; إِذْ أَخَذَتْهُنَّ الرِّعْدَةُ وَالْحَيْرَةُ وَكُنَّ خَائِفَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ ظَهَرَ أَوَّلًا لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ (أَيْ دُونَ مَنْ كَانَ مَعَهَا خِلَافًا لِمَتَّى) فَذَهَبَتْ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فَلَمْ يُصَدِّقُوا، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لِاثْنَيْنِ وَهُمَا مُنْطَلِقَانِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا (14) أَخِيرًا ظَهَرَ لِلْأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ، وَهَذَا مِمَّا زَادَهُ عَلَى مَتَّى.

وَأَمَّا لُوقَا فَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي جِئْنَ لِافْتِقَادِ الْقَبْرِ هُنَّ الثَّلَاثُ اللَّوَاتِي ذَكَرَهُنَّ مُرْقُسُ، وَلَا الثِّنْتَانِ اللَّتَانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا مَتَّى، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُنَّ نِسَاءٌ كُنَّ جِئْنَ مِنَ الْجَلِيلِ مَعَ يُوسُفَ الَّذِي دَفَنَ يَسُوعَ، وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَالدَّفْنَ. وَأَنَّهُنَّ جِئْنَ أَوَّلَ

الْفَجْرِ، لَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَ مُرْقُسُ، وَأَنَّهُنَّ وَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجًا فَدَخَلْنَ الْقَبْرَ، وَلَمْ يَجِدْنَ الْجَسَدَ فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُنَّ وَجَدْنَ شَابًّا فِيهِ عَنِ الْيَمِينِ، كَمَا قَالَ مُرْقُسُ، وَلَا الْمَلَكَ عَلَى الْحَجَرِ خَارِجَهُ، كَمَا قَالَ مَتَّى. بَلْ قَالَ إِنَّهُنَّ بَيْنَمَا كُنَّ مُتَحَيِّرَاتٍ إِذَا رَجُلَانِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ، وَقَالَا لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ (وَهَذَا تَعْبِيرٌ قَدْ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَذَكَّرَهُنَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يُسَلَّمُ وَيُصْلَبُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ. وَلَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِإِخْبَارِ التَّلَامِيذِ بِأَنْ يَسْبِقُوهُ إِلَى الْجَلِيلِ، وَأَنَّهُمْ هُنَاكَ يَرَوْنَهُ، كَمَا قَالَ مَتَّى وَمُرْقُسُ، وَقَالَ: إِنَّهُنَّ رَجَعْنَ وَأَخْبَرْنَ الْأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ) فَخَالَفَ مُرْقُسَ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُنَّ لَمْ يَقُلْنَ شَيْئًا. وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ هُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَبُونَا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ. وَإِنَّ التَّلَامِيذَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ لَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ ; إِذْ تَرَاءَى لَهُمْ كَلَامُهُنَّ كَالْهَذَيَانِ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ (أَيْ يَسُوعُ) مَشَى مَعَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى قَرْيَةِ عَمْوَاسَ، وَهِيَ عَلَى 60 غَلْوَةً مِنْ أُورْشَلِيمَ (خِلَافًا لِمُرْقُسَ الَّذِي قَالَ: لِاثْنَيْنِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ) وَقَالَ: إِنَّ أَعْيُنَهُمَا أُمْسِكَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنَّهُمَا ذَكَرَا قِصَّتَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ " إِنْسَانًا نَبِيًّا " وَأَنَّهُ وَبَّخَهُمَا وَوَصَفَهُمَا بِالْغَبَاوَةِ وَبُطْءِ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمَا ضَيَّفَاهُ فِي الْقَرْيَةِ، وَأَنَّهُ لَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا

ص: 38

وَأَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَرَ وَنَاوَلَهُمَا، انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، فَعَرَفَاهُ، ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا، وَأَنَّهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ رَجَعَا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَوَجَدَا الْأَحَدَ عَشَرَ (هَكَذَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا مِنْهُمْ فَيَكُونُ الْبَاقِي تِسْعَةً) مُجْتَمِعِينَ هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ ظَهَرَ لِسَمْعَانَ. فَأَخْبَرَاهُمْ خَبَرَهُمَا. وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُمْ، وَأَكَلَ مَعَهُمْ.

وَأَمَّا يُوحَنَّا فَقَدْ خَالَفَ الثَّلَاثَةَ فَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (20) أَنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ جَاءَتْ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِرًا، وَالظَّلَامُ بَاقٍ، فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعًا، فَرَكَضَتْ إِلَى سَمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ. فَرَكَضَا إِلَى الْقَبْرِ، وَدَخَلَا فِيهِ ; فَرَأَيَا الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَكَانَتْ مَرْيَمُ تَبْكِي خَارِجَ الْقَبْرِ، ثُمَّ انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ فَنَظَرَتْ مَلَكَيْنِ جَالِسَيْنِ ; وَاحِدًا عِنْدَ الرَّأْسِ، وَالْآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ،

وَبَعْدَ الْكَلَامِ مَعَهُمَا عَنْ سَبَبِ بُكَائِهَا، الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفًا فَلَمْ تَعْرِفْهُ، وَظَنَّتْ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، ثُمَّ تَعَرَّفَ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تُخْبِرَ التَّلَامِيذَ بِقَوْلِهِ " إِنِّي صَاعِدٌ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ " فَأَخْبَرَتْهُمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ التَّلَامِيذَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَشِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْأَبْوَابُ مُغْلَقَةً، خَوْفًا مِنَ الْيَهُودِ، فَجَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَأَنَّ تُومَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (21) أَنَّهُ أَظْهَرَ نَفْسَهُ لِلتَّلَامِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ أَوَّلًا، ثُمَّ اصْطَادُوا سَمَكًا بِأَمْرِهِ وَحَضَرَ غَدَاءَهُمْ.

هَذَا مُلَخَّصُ دَعْوَى قِيَامِ يَسُوعَ مِنَ الْقَبْرِ بِرِوَايَةِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَرَى الْمُتَأَمِّلُ فِيهَا أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ فِي الْجَلِيلِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ وَعَنِ الْمَلَكِ أَوِ الْمَلَكَيْنِ. وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ فِي الْمُتَعَارِضَيْنِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَنْ يُقَالَ:" تَعَادَلَا فَتَسَاقَطَا " وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنِ الْقَوْلِ بِهَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّعَارُضِ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ - اتِّقَاءَ الْوُقُوعِ فِي التَّرْجِيحِ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، نَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْأَرْبَعَةِ سَاقِطَةٌ لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا. فَهَذَا هُوَ بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي الْمَبْنِيُّ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى سَبَبٌ أَوْ أَصْلٌ بُنِيَ عَلَيْهِ ; فَبَيَانُهُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَاعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ، وَأَنَّهُ رَآهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَبَعْضُ تَلَامِيذِهِ، وَاضْطَرَبَتِ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ كُلُّ مُؤَلِّفِ إِنْجِيلٍ مَا سَمِعَهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْإِشَاعَاتِ تَخَيُّلَ مَرْيَمَ الْمَجْدَلَانِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ الْمِزَاجِ (الَّتِي رَوَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ أَنَّ الْمَسِيحَ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ) أَنَّهَا رَأَتِ الْمَسِيحَ وَكَلَّمَتْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ الْخَيَالِيَّةُ اتَّفَقَتْ لِغَيْرِهَا أَيْضًا مِنَ التَّلَامِيذِ أَوْ غَيْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوهَا مِنْهَا، وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ كَثِيرًا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بِالشَّوَاهِدِ.

ص: 39

وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَبَّخَهُمْ عَلَى غَبَاوَتِهِمْ، وَضَعْفِ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَاشَرُوهُ زَمَنًا رَأَوْا فِيهِ مَا أَيَّدَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، أَوَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ مَا كَانَ بَعْضُهُمْ

يُصَدِّقُ بَعْضًا. بَلْ يَتَّهِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْكَذِبِ وَالْهَذَيَانِ، وَأَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ وَقْتَ الشِّدَّةِ، وَأَنْكَرَهُ أَمْثَلُهُمْ، وَارْتَشَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الصَّيَّادِينَ وَالنِّسَاءِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْهُمْ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ، وَطَالَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَالِ الِانْفِعَالَاتِ الْعَصَبِيَّةِ لِلنَّاسِ، كَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالْعِشْقِ، يَتَرَاءَى لِلْإِنْسَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ شَخْصٌ يُكَلِّمُهُ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا كَمَا يَحْصُلُ فِي الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ رَاجَتْ سُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى صَارُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحْضِرُ الرُّوحَ، وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ ; وَلِذَلِكَ احْتَرَسَ عَنْهُ بَعْضُ مُؤَلِّفِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لَهُمْ خَافُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ رُوحًا، فَنَفَى هُوَ ذَلِكَ.

وَقَدْ كُنَّا بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مُحَاكَمَةِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ) الَّذِي أَلَّفْنَاهُ فِي زَمَنِ التَّحْصِيلِ. وَمِمَّا قُلْنَاهُ فِيهِ: إِنَّ الصُّوفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ وَالرُّؤْيَةِ الْخَيَالِيَّةِ. وَمِمَّا أَوْرَدْنَاهُ عَنْ صَاحِبِ كِتَابِ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي: وَاقِعَةٌ جَرَتْ فِي بَلَدِهِمْ (فَاسَ) قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْجَزَّارِينَ أَنَّهُ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ يُحِبُّهُ كَثِيرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ شَخْصُهُ فِي فِكْرِهِ حَتَّى إِنَّ عَقْلَهُ وَجَوَارِحَهُ كَانَتْ كُلُّهَا مَعَهُ، فَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى أَنْ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى بَابِ الْفُتُوحِ أَحَدِ أَبْوَابِ فَاسَ حَرَسَهَا اللهُ تَعَالَى لِشِرَاءِ الْغَنَمِ عَلَى عَادَةِ الْجَزَّارِينَ، فَجَالَ فِكْرُهُ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَجُولُ فِكْرُهُ فِيهِ إِذْ رَآهُ عِيَانًا وَهُوَ قَادِمٌ إِلَيْهِ حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِهِ. قَالَ فَكَلَّمْتُهُ وَقُلْتُ لَهُ: يَا وَلَدِي خُذْ هَذِهِ الشَّاةَ - لِشَاةٍ اشْتَرَيْتُهَا - حَتَّى أَشْتَرِيَ أُخْرَى، وَقَدْ حَصَلَتْ غَيْبَةٌ قَلِيلَةٌ عَنْ حِسِّي، فَلَمَّا سَمِعَنِي مَنْ كَانَ قَرِيبًا أَتَكَلَّمُ مَعَ الْوَلَدِ، قَالُوا: مَعَ مَنْ تَتَكَلَّمُ أَنْتَ؟ فَلَمَّا كَلَّمُونِي رَجَعْتُ إِلَى حِسِّي، وَغَابَ الْوَلَدُ عَنْ بَصَرِي، فَلَا يَدْرِي مَا حَصَلَ فِي بَاطِنِي مِنَ الْوَجْدِ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تبارك وتعالى. اهـ.

وَمَا كُلُّ مَا يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَةٌ خَيَالِيَّةٌ كَالرُّؤْيَةِ الْمَنَامِيَّةِ، وَإِنَّنِي أَعْرِفُ امْرَأَةً كَبِيرَةَ السِّنِّ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا (الْقَلَمُونِ) كَانَتْ دَائِمًا تَرَى الْمَوْتَى، وَتُخَاطِبُهُمْ، وَتَأْنَسُ بِخِطَابِهِمْ تَارَةً، وَيَظْهَرُ عَلَيْهَا الِانْقِبَاضُ أُخْرَى. وَكَانَ أَكْثَرُ حَدِيثِهَا

مَعَ أَخٍ لَهَا مَاتَ غَرِيقًا. وَكُنْتُ أَجْزِمُ أَنَا، وَكُلُّ مَنْ عَرَفَهَا، بِأَنَّهَا غَيْرُ كَاذِبَةٍ وَلَا مُتَصَنِّعَةٍ. بَلْ كَانَتْ هَائِمَةً فِي ذَلِكَ، وَلَا تُبَالِي بِشَيْءٍ.

وَلَا يَغُرَنَّ الْعَاقِلَ انْتِشَارُ أَمْثَالِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ، فَإِنَّ هَذَا مَعْهُودٌ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْعَالِمُ الِاجْتِمَاعِيُّ غوستاف لوبون

ص: 40

الْفَرَنْسِيُّ بَيَانًا عِلْمِيًّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ (رُوحُ الِاجْتِمَاعِ) وَمِمَّا قَالَهُ فِي بَيَانِ قَابِلِيَّةِ الْجَمَاعَاتِ لِلتَّأَثُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَانْخِدَاعِ الْفِكْرِ مَا يَأْتِي مُلَخَّصًا:

" إِنَّ سُرْعَةَ تَصْدِيقِ الْجَمَاعَةِ لَيْسَ هُوَ السَّبَبَ الْوَحِيدَ فِي اخْتِرَاعِ الْأَقَاصِيصِ الَّتِي تَنْتَشِرُ بَيْنَ النَّاسِ بِسُرْعَةٍ. بَلْ لِذَلِكَ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّشْوِيهُ الَّذِي يَعْتَوِرُ الْحَوَادِثَ فِي مُخَيِّلَةِ الْمُجْتَمِعِينَ ; إِذْ تَكُونُ الْوَاقِعَةُ بَسِيطَةً لِلْغَايَةِ فَتَنْقَلِبُ صُورَتُهَا فِي خَيَالِ الْجَمَاعَةِ بِلَا إِبْطَاءٍ ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفَكِّرُ بِوَاسِطَةِ التَّخَيُّلَاتِ، وَكُلُّ تَخَيُّلٍ يَجُرُّ إِلَى تَخَيُّلَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَدْنَى عَلَاقَةٍ مَعْقُولَةٍ ".

وَلَقَدْ كَانَ يَجِبُ تَعَدُّدُ صُوَرِ التَّشْوِيشِ الَّتِي تُدْخِلُهَا الْجَمَاعَةُ عَلَى حَادِثَةٍ شَاهَدَتْهَا، وَتَنَوُّعُ تِلْكَ الصُّوَرِ ; لِأَنَّ أَمْزِجَةَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَتَكَوَّنُ هِيَ مِنْهُمْ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ بِالضَّرُورَةِ، لَكِنَّ الْمُشَاهَدَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالتَّشْوِيشُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْكُلِّ بِعَامِلِ الْعَدْوَى ; لِأَنَّ أَوَّلَ تَشْوِيشٍ تَخَيَّلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ كَالْخَمِيرَةِ تَنْتَشِرُ مِنْهُ الْعَدْوَى إِلَى الْبَقِيَّةِ. فَقَبْلَ أَنْ يَرَى جَمِيعُ الصَّلِيبِيِّينَ الْقِدِّيسَ جُورْجَ فَوْقَ أَسْوَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَانَ بِالطَّبْعِ قَدْ تَخَيَّلَهُ أَحَدُهُمْ أَوَّلًا فَمَا لَبِثَ التَّأَثُّرُ وَالْعَدْوَى أَنْ مَثَّلَاهُ لِلْبَقِيَّةِ جِسْمًا مَرْئِيًّا.

هَكَذَا وَقَعَتْ جَمِيعُ التَّخَيُّلَاتِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي رَوَاهَا التَّارِيخُ، وَعَلَيْهَا كُلِّهَا مَسْحَةُ الْحَقِيقَةِ لِمُشَاهَدَتِهَا مِنَ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ النَّاسِ.

" وَلَا يَنْبَغِي فِي رَدِّ مَا تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ كَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ وَالذَّكَاءِ الْوَافِرِ ; لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِتِلْكَ الصِّفَةِ فِي مَوْضُوعِنَا ; إِذِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّظَرِ وَالتَّمْيِيزِ مَا دَامُوا فِي الْجَمَاعَةِ، وَرُبَّ مُعْتَرِضٍ يَقُولُ:

إِنَّ تِلْكَ سَفْسَطَةٌ لِأَنَّ الْوَاقِعَ غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ بَيَانَهُ يَسْتَلْزِمُ سَرْدَ عَدَدٍ عَظِيمٍ مِنَ الْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ، وَلَا يَكْفِي لِهَذَا الْعَمَلِ عِدَّةُ مُجَلَّدَاتٍ، غَيْرَ أَنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَتْرُكَ الْقَارِئَ أَمَامَ قَضَايَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ سَآتِي بِبَعْضِ الْحَوَادِثِ أَنْقُلُهَا بِلَا انْتِقَاءٍ مِنْ بَيْنِ الْأُلُوفِ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُمْكِنُ سَرْدُهَا.

" وَأَبْدَأُ بِرِوَايَةِ وَاقِعَةٍ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي مَوْضُوعِنَا ; لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ خَيَالٍ اعْتَقَدَتْهُ جَمَاعَةٌ ضَمَّتْ إِلَى صُفُوفِهَا مِنَ الْأَفْرَادِ صُفُوفًا وَأَنْوَاعًا مَا بَيْنَ جَاهِلٍ غَبِيٍّ، وَعَالَمٍ أَلْمَعِيٍّ، رَوَاهَا عَرَضًا رُبَّانُ السَّفِينَةِ (جُولْيَانُ فِيلِيكْسَ) فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي مَجَارِي مِيَاهِ الْبَحْرِ، وَسَبَقَ نَشْرُهَا فِي (الْمَجَلَّةِ الْعِلْمِيَّةِ) قَالَ:

" كَانَتِ الْمُدَرَّعَةُ (بِيلْ بُولْ) تَبْحَثُ فِي الْبَحْرِ عَنْ بَاخِرَةٍ (بِيرْسُو) حَيْثُ كَانَتْ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهَا بِعَاصِفَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَ النَّهَارُ طَالِعًا، وَالشَّمْسُ صَافِيَةً، وَبَيْنَمَا هِيَ سَائِرَةٌ إِذَا بِالرَّائِدِ يُشِيرُ إِلَى زَوْرَقٍ يُسَاوِرُهُ الْغَرَقُ، فَشَخَصَ رِجَالُ السَّفِينَةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا، وَرَأَوْا جَمِيعًا مِنْ عَسَاكِرَ وَضُبَّاطٍ زَوْرَقًا مَشْحُونًا بِالْقَوْمِ، تَجُرُّهُ سُفُنٌ تَخْفِقُ عَلَيْهَا أَعْلَامُ الْيَأْسِ وَالشِّدَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ خَيَالًا، فَقَدْ أَنْفَذَ الرُّبَّانُ زَوْرَقًا صَارَ يَنْهَبُ الْبَحْرَ إِنْجَادًا لِلْبَائِسِينَ.

ص: 41

فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، رَأَى مَنْ فِيهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالضُّبَّاطِ أَكْدَاسًا مِنَ النَّاسِ يَمُوجُونَ وَيَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ، وَسَمِعُوا ضَجِيجًا مُبْهَمًا يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهٍ عَدِيدَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الْمَرْئِيَ وَجَدُوهُ أَغْصَانَ أَشْجَارٍ مُغَطَّاةٍ بِأَوْرَاقٍ قُطِعَتْ مِنَ الشَّاطِئِ الْقَرِيبِ. وَإِذْ تَجَلَّتِ الْحَقِيقَةُ غَابَ الْخَيَالُ.

" هَذَا الْمِثَالُ يُوَضِّحُ لَنَا عَمَلَ الْخَيَالِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِحَالٍ لَا تَحْتَمِلُ الشَّكَّ، وَلَا الْإِبْهَامَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. فَهُنَا جَمَاعَةٌ فِي حَالَةِ الِانْتِظَارِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَهُنَاكَ رَائِدٌ يُشِيرُ إِلَى وُجُودِ مَرْكَبٍ حَفَّهُ الْخَطَرُ وَسَطَ الْمَاءِ، فَذَلِكَ مُؤَثِّرٌ سَرَتْ عَدْوَاهُ، فَتَلَقَّاهُ كُلُّ مَنْ فِي الْبَاخِرَةِ مِنْ عَسَاكِرَ وَضُبَّاطٍ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ.

ثُمَّ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْخِدَاعِ يَقَعُ لِلْجَمَاعَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اخْتِصَاصِهِمُ الْعِلْمِيِّ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْوَاقِعَةِ الْآتِيَةِ:

(قَالَ) : وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ لَنَا (مِسْيُو دَافِي) أَحَدُ عُلَمَاءِ النَّفْسِ الْمُحَقِّقِينَ وَقَدْ نَشَرَتْهُ حَدِيثًا مَجَلَّةُ (أَعْصُرُ الْعُلُومِ النَّفْسِيَّةِ) وَهُوَ: دَعَا (مِسْيُو دَافِي)

جَمَاعَةً مِنْ كِبَارِ أَهْلِ النَّظَرِ ; مِنْهُمْ عَالِمٌ مِنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ إِنْكِلْتِرَةَ وَهُوَ (مِسْتَرْ وَلَاسْ) وَقَدَّمَ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَمَسُوهَا بِأَيْدِيهِمْ، وَوَضَعُوا عَلَيْهَا خُتُومًا كَمَا شَاءُوا، ثُمَّ أَجْرَى أَمَامَهُمْ جَمِيعَ ظَوَاهِرِ فَنِّ اسْتِخْدَامِ الْأَرْوَاحِ: مِنْ تَجْسِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْكِتَابَةِ عَلَى الْأَلْوَاحِ، حَتَّى كَتَبُوا لَهُ شَهَادَاتٍ قَالُوا فِيهَا: إِنَّ الْمُشَاهَدَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ أَمَامَهُمْ، لَا تُنَالُ إِلَّا بِقُوَّةٍ فَوْقَ قُوَّةِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا صَارَتِ الشَّهَادَاتُ فِي يَدِهِ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ شَعْوَذَةٌ بَسِيطَةٌ جِدًّا. قَالَ رَاوِي الْحَادِثَةِ: لَيْسَ الَّذِي يُوجِبُ الدَّهَشَ وَالِاسْتِغْرَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ إِبْدَاعُ (دَافِي) وَمَهَارَتُهُ فِي الْحَرَكَاتِ الَّتِي عَمِلَهَا. بَلْ هُوَ ضَعْفُ الشَّهَادَاتِ الَّتِي كَتَبَهَا أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ " ثُمَّ اسْتَنْتَجَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ انْخِدَاعُ الْعُلَمَاءِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَاقِعًا فَمَا أَسْهَلَ انْخِدَاعَ الْعَامَّةِ! .

ثُمَّ ذَكَرَ حَادِثَةً وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ كِتَابَتِهِ لِهَذَا الْبَحْثِ، وَخَاضَتْ فِيهِ جَرَائِدُ بَارِيسَ، وَكَانَ مَنْشَأُ الِانْخِدَاعِ فِيهَا الشَّبَهَ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ بَحْثِنَا، قَالَ (فِي ص 50 مِنَ النُّسْخَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَرْجَمَةِ) :

" أَنَا أَكْتُبُ هَذِهِ السُّطُورَ، وَالْجَرَائِدُ مَلْأَى بِذِكْرِ غَرَقِ بِنْتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، وَإِخْرَاجِ جُثَّتَيْهِمَا مِنْ نَهْرِ (السِّينِ) عُرِضَتِ الْجُثَّتَانِ، فَعَرَفَهُمَا بِضْعَةُ عَشَرَ شَخْصًا مَعْرِفَةً مُؤَكَّدَةً، وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهَا اتِّفَاقًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَكٌّ فِي نَفْسِ قَاضِي التَّحْقِيقِ فَأَذِنَ بِدَفْنِهِمَا، وَبَيْنَمَا النَّاسُ يَتَأَهَّبُونَ لِذَلِكَ سَاقَ الْقَدْرُ الْبِنْتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَرَفَهُمَا الشُّهُودُ بِالْإِجْمَاعِ، وَظَهَرَ أَنَّهُمَا بَاقِيَتَانِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَفْقُودَتَيْنِ إِلَّا شَبَهٌ بِعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي وَقَعَ هُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا: تَخَيَّلَ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْغَرِيقَتَيْنِ هُمَا فُلَانَةٌ وَفُلَانَةٌ، فَقَالَ ذَلِكَ، فَسَرَتْ عَدْوَى التَّأْثِيرِ إِلَى الْبَاقِي " اهـ.

تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى تَخَيُّلِ بَعْضِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ تَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ

ص: 42

وَمَكَانٍ، وَيَنْخَدِعُ بِهَا الْعُلَمَاءُ كَالْعَوَامِّ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ غُوسْتَافُ لُوبُونْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يُجْهَلُ تَعْلِيلُهُ مِنَ الْفَلَتَاتِ وَالشَّوَاذِّ، وَإِنَّنَا بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِأَيَّامٍ جَاءَتْنَا مَجَلَّةُ الْمُقْتَطَفِ (الصَّادِرَةُ فِي 23 مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذَا الْعَامِ 1331) فَقَرَأْنَا فِي مَقَالَةٍ فِيهَا عُنْوَانُهَا (مُنَاجَاةُ الْأَرْوَاحِ وَالْبَحْثُ فِي النَّفْسِ) : أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْإِنْجِلِيزِ وَكِبَارِ عُقَلَائِهِمُ الثِّقَاتِ شَاهَدُوا وَاقِعَةً مِنْ وَقَائِعِ مُسْتَحْضِرِي

الْأَرْوَاحِ، احْتَاطُوا فِيهَا أَشَدَّ الِاحْتِيَاطِ ; لِئَلَّا تَكُونَ غِشًّا أَوْ شَعْوَذَةً، وَكَانَ الْوَسِيطُ فِيهَا - أَيِ الَّذِي يَسْتَحْضِرُ الرُّوحَ - رَجُلًا اسْمُهُ (مِسْتَرْ هُومْ) وَقَدْ شَهِدَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا الرُّوحَ الْمُسْتَحْضَرَ فَخَاطَبَ كُلًّا مِنْهُمْ بِاسْمِهِ، وَأَجَابَهُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ وَأَنَّ أَحَدَهُمْ سَأَلَهُ: أَلَكَ جِسْمٌ حَقِيقِيٌّ أَمْ أَنْتَ خَيَالٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ جِسْمِي أَقْوَى مِنْ جِسْمِكَ، فَامْتَحَنَهُ بِوَضْعِ أُصْبُعِهِ فِي فِيهِ فَأَلْفَاهُ حَارًّا، وَأَسْنَانُهُ صُلْبَةٌ حَادَّةٌ، وَعَضَّهُ عَضَّةً صَرَخَ مِنْ أَلَمِهَا.

قَالَ الْمُقْتَطَفُ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَاقِعَةِ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَعْوَذَةً مِنْ (مِسْتَرْ هُومْ) أَيْ وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ قَدْ رَبَطُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِأَسْلَاكٍ مِنَ النُّحَاسِ إِلَى كُرْسِيٍّ مُتَّصِلٍ بِالْمَوْقِدِ مُوَثَّقًا بِذَلِكَ الرِّبَاطِ، وَلَحَمُوا الْأَسْلَاكَ بِلِحَامٍ مَعْدِنِيٍّ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ أَنْ تُزِيحَهُ مِنْ مَكَانِهِ مَا لَمْ تُقْطَعِ الْأَسْلَاكُ الْمَعْدِنِيَّةُ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْوَاقِعَةِ كَمَا تَرَكُوهُ فِي قُيُودِهِ وَأَغْلَالِهِ.

(ثُمَّ قَالَ الْمُقْتَطَفُ وَهُوَ مَحِلُّ الشَّاهِدِ) : " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ (هُومْ) قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُوكَسْ وَكْرُوكَسْ وَغِلْتُونْ قَدْ خُدِعُوا كُلُّهُمْ فَرَأَوْا مَا لَا يُرَى وَسَمِعُوا مَا لَا يُسْمَعُ ; لِأَنَّهُ كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضُ النَّاسِ أَفْعَالًا خَارِقَةً، لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُمْ فِعْلَهَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَيَّلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، كَيْفَ لَا؟ وَالنَّائِمُ وَالْحَادِسُ يَرَيَانِ وَيَسْمَعَانِ مَا لَا وُجُودَ لَهُ ".

أَقُولُ: فَإِذَا جَازَ فِي رَأْيِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ وَفَلَاسِفَتِهِ أَنْ يَنْخَدِعَ الْعُلَمَاءُ الطَّبِيعِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ بِالتَّخَيُّلِ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْخَدِعَ بِهِ مِثْلُ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ (الْهِسْتِيرِيَّةِ) وَتُومَا وَإِخْوَانِهِ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ! وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَخَيَّلَ ضُبَّاطُ الْمُدَرَّعَةِ (بِيلْ بُولْ) وَعَسْكَرُهَا وَبَحَّارَتُهَا زَوْرَقًا يُسَاوِرُهُ الْغَرَقُ، فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَهُوَ مُكْتَظٌّ بِالْمُسْتَنْجِدِينَ الْمُسْتَغِيثِينَ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَيْدِيَهُمْ تُومِئُ وَتُشِيرُ، وَيَسْمَعُونَ جَلَبَتَهُمْ بِالصِّيَاحِ وَالضَّجِيجِ، وَإِذَا جَازَ أَيْضًا أَنْ يَتَخَيَّلَ جَمَاهِيرُ الصَّلِيبِيِّينَ الْقِدِّيسَ جُورْجَ فَوْقَ أَسْوَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ حَقِيقَةً، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا التَّخَيُّلِ فِي أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَسِيحَ بَعْدَ حَادِثَةِ الصَّلْبِ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَلَى انْقِطَاعِ سَنَدِهَا؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَجْزِمَ بِضْعَةُ عَشَرَ شَاهِدًا فِي الْبِنْتَيْنِ

ص: 43

اللَّتَيْنِ غَرِقَتَا فِي نَهْرِ السِّينِ جَزْمًا مَبْنِيًّا عَلَى مَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْزِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي يَهُوذَا الَّذِي كَانَ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ مَنْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ؟ !

وَقَعَ فِي عَصْرِنَا هَذَا وَاقِعَتَانِ مِنْ قَبِيلِ مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الْمَسِيحِ، وَرُؤْيَةِ الْقِدِّيسِ جُورْجَ (إِحْدَاهُمَا) : وَقَعَتْ فِي الشَّامِ مُنْذُ سِنِينَ ; وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا اسْمُهُ عَلِي رَاغِب اشْتَغَلَ بِالتَّصَوُّفِ وَالرِّيَاضَةِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْخَيَالَاتُ فَكَانَ إِذَا تَخَيَّلَ شَيْئًا مُهِمًّا عِنْدَهُ يَتَمَثَّلُ لَهُ، كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ زَمَنًا بِقِرَاءَةِ الْأَنَاجِيلِ حَتَّى كَانَ يَحْفَظُ مِنْهَا مَا لَا يَكَادُ يَحْفَظُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى، ثُمَّ إِنَّهُ عَاشَرَ بَعْضَ النَّصَارَى فِي دِمَشْقَ حَتَّى كَانَ يَحْضُرُ كَنَائِسَهُمْ، فَكَثُرَ تَخَيُّلُهُ لِقِصَّةِ الصَّلْبِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الْأَنَاجِيلِ فَرَأَى الْمَسِيحَ مَرَّةً مُتَمَثِّلًا أَمَامَهُ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الصَّلْبِ، وَرَأَى أَثَرَ الْمَسَامِيرِ فِي يَدَيْهِ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ حِسِّيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَخَطَبَ فِي النَّصَارَى بِذَلِكَ، فَصَدَّقُوهُ وَقَالُوا إِنَّهُ قِدِّيسٌ، وَشَاعَتِ الْمَسْأَلَةُ وَلَغَطَ النَّاسُ بِهَا، ثُمَّ الْتَقَى الشَّيْخُ طَاهِرٌ الْجَزَائِرِيُّ بِالشَّيْخِ رَاغِبٍ هَذَا، وَتَحَدَّثَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَفْجَأْهُ الشَّيْخُ طَاهِرُ بِالتَّخْطِئَةِ، بَلْ شَغَلَ بَالَهُ وَخَيَالَهُ بِآيَاتِ الْمَسِيحِ، وَبِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الظُّهُورِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ (كَمَا ذَكَرُوا فِي الْإِنْجِيلِ) وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا إِلَى مَسْأَلَةِ إِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى يَهُوذَا، وَمَا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ التَّشْبِيهِ لَهُمْ، فَمَا زَالَ يُحَدِّثُهُ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى ذَهَبَ، وَلِقِصَّةِ الصَّلْبِ فِي خَيَالِهِ صُورَةٌ أُخْرَى، فَرَأَى الْمَسِيحَ مُتَمَثِّلًا أَمَامَهُ، وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ وَلَا غَيْرِهَا أَثَرٌ لِلصَّلْبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ مَسْأَلَةِ الصَّلْبِ فَقَالَ لَهُ: أَلْقَيْتُ عَلَى يَهُوذَا صُورَةً مِنْ صُوَرِي فَأَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَذَهَبَ الشَّيْخُ رَاغِبٌ وَخَطَبَ فِي النَّصَارَى بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَنَبَذُوهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَجْنُونٌ. فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ تُشْبِهُ رُؤْيَةَ تُومَا لِلْمَسِيحِ عليه الصلاة والسلام.

وَأَمَّا الْوَاقِعَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَخَيَّلَ أَنَّ الشَّيْخَ الْمَتْبُولِيَّ خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ الْمَعْرُوفِ بِجِوَارِ مَحَطَّةِ مِصْرَ، وَوَقَفَ عَلَى قُبَّتِهِ، ثُمَّ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَنَزَلَ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي يُنْشِئُهَا الْيُونَانِيُّونَ، وَلَمَّا شَاعَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْقَاهِرَةِ، اجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ عِنْدَ الْكَنِيسَةِ، وَصَارُوا يَهْتِفُونَ بِاسْمِ الْمَتْبُولِيِّ، فَفَرَّقَتْهُمُ الشُّرْطَةُ وَالشَّحْنَةُ بِالْقُوَّةِ، وَادَّعَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَتْبُولِيَّ فِيهَا. وَرَوَتْ بَعْضُ الْجَرَائِدِ

الْيَوْمِيَّةِ أَنَّ مَجْذُوبًا مِنْ أَبْنَاءِ السَّبْعِينَ قَالَ: أَنَا الْمَتْبُولِيُّ، فَصَدَّقَهُ النَّاسُ، وَصَارُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ. وَلَوْلَا حَزْمُ الْحُكُومَةِ لَحَدَثَ بَيْنَ عَوَامِّ الْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِيِّينَ مِنْ جَرَّاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِتَنٌ سُفِكَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَلَكِنَّ الْحُكُومَةَ تَدَارَكَتْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَتْ شَمْلَ الْجَمَاهِيرِ، وَقَبَضَتْ عَلَى بَعْضِهِمْ وَحَبَسَتْهُمْ.

هَذَا، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يُنَاجُونَ الْأَرْوَاحَ يَرَوْنَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ كَثِيرًا، وَقَدْ تَعَرَّفَ إِلَيَّ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْمَظَاهِرِ الدُّنْيَوِيَّةِ، يُخْفِي تَصَوُّفَهُ عَنْ أَقْرَانِهِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يَرَى أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَتَلَقَّى عَنْهُمْ عُلُومًا يَكْتُبُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ رَأَى عِيسَى وَمَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا

ص: 44

السَّلَامُ - مِرَارًا وَتَلَقَّى عَنْهُمَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ مَرْيَمَ عَنْ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهَا وَنَفْخِهِ فِيهَا، فَأَجَابَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ نَحْوُ مَا يَحْصُلُ بِالزَّوَاجِ مِنَ التَّلْقِيحِ، وَسَأَلْتُهُ أَنَا عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَرْوَاحِ الَّذِي نَسْمَعُهُ عَنِ الْإِفْرِنْجِ، هَلْ هُوَ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُؤْثَرُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ قَبْلِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَهُ حِيَلٌ، وَبَعْضَهُ لَهُ أَصْلٌ دُونَ مَا عِنْدَنَا وَأَبْعَدُ عَنْهُ بِمَرَاحِلَ. وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ هَذَا الرَّجُلَ بِالْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَتَّهِمُ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَقُولُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ خَيَالِيَّةً أَيْضًا كَرُؤْيَةِ الشَّيْخِ رَاغِبٍ فَهِيَ تُؤَكِّدُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً - وَهِيَ وَلَا شَكَّ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْكَثِيرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ - فَهِيَ مُصَدِّقَةٌ لِخَبَرِ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَنَاقِضَةٌ لِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ الْخَيَالِيَّةِ، الْمُقَرَّرِ مِثْلُهَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ.

حَاصِلُ الْمَبَاحِثِ وَالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَسِيحِ: حَاصِلُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ: أَنَّ قِصَّةَ الصَّلْبِ لَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَى الْأَفْرَادِ الَّذِينَ رُوِيَتْ عَنْهُمْ، وَأُولَئِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ رَوَوْهَا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ مَعْرِفَةً يَقِينِيَّةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَأَنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ الْإِسْنَادِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ النَّصْرَانِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ الْآنَ هُوَ بُولِسِ الْيَهُودِيُّ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ أَعْدَاءِ الْمَسِيحِ عليه السلام، وَأَلَدَّ خُصُومِ أَتْبَاعِهِ خِصَامًا، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نِكَايَتِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَمْرِهِمْ إِلَّا بِدُخُولِهِ فِيهِمْ، فَفَعَلَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الصَّلْبِ، وَرُؤْيَةِ الْمَسِيحِ بَعْدَهُ،

فَالَّذِي يَقْرُبُ مِنَ الْمَعْقُولِ فِي تَصْوِيرِهِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ.

وَلَا يَرُوعَنَّ الْقَارِئَ الْمُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ هَذِهِ الشُّهْرَةُ الْمُنْتَشِرَةُ بِانْتِشَارِ النَّصَارَى فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ، فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي إِثْبَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ كَوْنَهُ فِي زَمَنِ وُقُوعِهَا، كَمَا ثَبَتَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ فِي زَمَنِ نُزُولِهِ حِفْظًا وَكِتَابَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهْرَةَ الْمُنْتَشِرَةَ لِلْمَسِيحِ، عليه السلام، لَمْ تَمْنَعْ بَعْضَ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارِ مِنَ الشَّكِّ فِي وُجُودِهِ نَفْسِهِ، وَلَا مِنْ تَرْجِيحِ كَوْنِ قِصَّتِهِ خَيَالِيَّةً، لَا حَادِثَ الصَّلْبِ وَالْقِيَامِ مِنْهَا فَحَسْبُ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ فِي بَعْضِ آلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ، وَفِي (هُومِيروُسَ) شَاعِرِ الْيُونَانِ الَّذِي تُضْرَبُ بِشِعْرِهِ الْأَمْثَالُ، فَهُوَ أَشْهَرُ رَجُلٍ فِي تَارِيخِ أُمَّتِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِ تَوَارِيخِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَمَثَلُهُ فِي تَارِيخِ أُمَّتِنَا الْعَرَبِيَّةِ قَيْسٌ الْعَامِرِيُّ الشَّهِيرُ بِمَجْنُونِ لَيْلَى. ذَكَرَ فِي (الْأَغَانِي) رِوَايَاتٍ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الشِّعْرَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ هُوَ لِبَعْضِ كُبَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، عَزَاهُ إِلَى مَجْهُولٍ تَسَتُّرًا بِعِشْقِهِ.

مِثْلُ هَذَا فِي التَّارِيخِ كَثِيرٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ عَقْلًا، وَلَكِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نُؤْمِنُ بِالْمَسِيحِ لَا لِذِكْرِهِ فِي أَنَاجِيلِهِمْ، وَكُتُبِهِمْ، فَكَمْ فِي الْكُتُبِ مِنْ قِصَصٍ خَيَالِيَّةٍ مِثْلَ قِصَّتِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ

ص: 45

أَثْبَتَ وُجُودَهُ وَنُبُوَّتَهُ، وَالْقُرْآنُ ثَابِتٌ عِنْدَنَا قَطْعًا، فَنُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ. وَإِنَّ لِي كَلِمَةً قَدِيمَةً أَذْكُرُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي لَمْ أَتَوَسَّعْ فِيهِ، إِلَّا لِرَدِّ هَجَمَاتِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ: إِنَّ إِثْبَاتَ الْقُرْآنِ لِلْمَسِيحِ هُوَ أَقْوَى حُجَّةٍ عَلَى مُنْكِرِي آيَاتِ الْمَسِيحِ، عليه السلام، وَأَقْوَى شُبْهَةٍ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الشُّبَهَاتِ الَّتِي يُورِدُهَا الْمَلَاحِدَةُ وَالْعَقْلِيُّونَ مِنَ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ كَوْنُ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ آيَةً، وَأَنَّ اللهَ آتَاهُ آيَاتٍ أُخْرَى - هِيَ أَقْوَى الشُّبَهَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ رَدَّهَا سَهْلٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِيمَانِ بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَتَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا يَشَاءُ. وَمِنْ آيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - عَدَمُ مُوَافَقَتِهِ لِلنَّصَارَى فِي رِوَايَاتِهِمْ فِي الصَّلْبِ وَالتَّثْلِيثِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ:

إِنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمَعْرُوفَةَ، عِنْدَ النَّصَارَى، دَفَعَتْ بَعْضَ الرَّاغِبِينَ فِي التَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ

وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَنَاجِيلِ بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقُرْآنِ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (4: 157) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِهِ، وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ عَلَى الْخَشَبَةِ الَّذِي كَانَ بِدُونِ كَسْرِ عَظْمٍ، وَلَا إِصَابَةِ عُضْوٍ رَئِيسِيٍّ، وَلَمْ يَطُلْ زَمَنُهُ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ صَلْبًا. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (4: 157) وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ هُوَ الْأَقْرَبُ.

وَمِمَّنْ وَلِعَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ الْبُولِسِيَّةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَهْدَ الْجَدِيدَ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ قِسِّيسٌ مِنْ طَائِفَةِ الرُّومِ الْأُرْثُوذُكْسِ اسْمُهُ (خِرِيسْتُوفُورَسْ جُبَارَهْ) كَانَ بِرُتْبَةِ أَرَشْمِنْدِرِيتْ، وَكَادَ يَكُونُ مُطْرَانًا، فَخَلَعَ ثَوْبَ (الْكَهَنُوتِ) وَطَفِقَ يَدْعُو إِلَى التَّأْلِيفِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَيَقُولُ بِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا، وَيُؤَلِّفُ الْكُتُبَ فِي ذَلِكَ، يُثْبِتُ فِيهَا التَّوْحِيدَ وَصِدْقَ الْقُرْآنِ، وَنُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَعَ صِحَّةِ الْأَنَاجِيلِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُؤَلِّفَ حِزْبًا، وَإِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ، وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُحْسِنُ الظَّنَّ فِيهِ أَيْضًا، وَيَرَى أَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ، وَتَمْهِيدٍ لِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَظُهُورِ دِينِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ وَدِينُ الْمَسِيحِ وَدِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنَّ الْمُحَالَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ دِينِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَبَيْنَ الدِّيَانَةِ الْبُولِسِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ حَقِيقَةً، وَالْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَعَلَى عَقِيدَةِ

ص: 46

الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّثْلِيثِ، وَبَيْنَ عَقِيدَةِ نَجَاةِ الْإِنْسَانِ وَسَعَادَتِهِ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَعَقِيدَةِ نَجَاتِهِ بِإِيمَانِهِ بِلَعْنِ رَبِّهِ لِنَفْسِهِ، وَتَعْذِيبِهِ إِيَّاهَا عَنْ عَبِيدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ لِرَبِّهِ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ.

إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْجَامِعُ الْمُؤَلِّفُ، وَلَكِنْ تَرَكَ دَعْوَتَهُ الْمُنْتَمُونَ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَسْتَجِيبُ لَهُ الْمُخَالِفُ؟ فَدِينُ التَّوْحِيدِ وَالتَّأْلِيفِ لَا يَقُومُ بِدَعْوَتِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَحْمِي دُعَاتَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَبْذُلُ لَهُ الْمَالَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ أَحَدٌ، وَدِينُ التَّعْدِيدِ وَالْفِدَاءِ تُبْذَلُ لَهُ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَيُسْتَأْجَرُ لِدَعْوَتِهِ الْأُلُوفُ مِنَ الْمُجَادِلِينَ وَالْعَامِلِينَ، وَتَحْمِيهِمُ الدُّوَلُ الْقَوِيَّةُ بِالْمَدَافِعِ وَالْأَسَاطِيلِ. عَلَى أَنَّنَا لَا نَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَكَمَا وَفَّقَ

لِتَأْلِيفِ جَمَاعَةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ، فَهُوَ الَّذِي يُوَفِّقُ لِمُسَاعَدَتِهَا مَنْ أَرَادَ، وَاللهُ خَلَقَنَا مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ يَسْتَيْقِظَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَيَتَنَبَّهُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَيَعْرِفُوا الْغَرَضَ مِنْ حِرْصِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَنْصِيرِهِمْ، وَأَنَّ أَوَّلَ بَلَايَا دَعْوَتِهِمْ، وَمَا يَنْشُرُونَ مِنْ صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَيُنْشِئُونَ مِنْ مَدَارِسِهِمْ وَمُسْتَشْفَيَاتِهِمْ، هُوَ إِبْطَالُ ثِقَةِ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ، وَحَلُّ الرَّابِطَةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا طُعْمَةً لِلطَّامِعِينَ، بَلْ عَبِيدًا لِلطَّامِعِينَ، فَإِذَا انْتَبَهُوا وَفَقِهُوا عَرَفُوا كَيْفَ يَحْفَظُونَ أَنْفُسَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ بِحِفْظِ دِينِهِمْ، وَتَوْثِيقِ رَابِطَتِهِ بَيْنَهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْجَمْعِيَّاتِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ الَّتِي تُنْشِئُهَا جَمْعِيَّاتُ التَّغْرِيرِ بِالتَّبْشِيرِ لِهَدْمِ الْإِسْلَامِ، بِإِنْشَاءِ خَيْرٍ مِنْهَا لِإِعْلَاءِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعَدْلِ وَالْعُمْرَانِ، الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَيَجْذِبُونَ إِلَيْهِ مَنْ فِي بِلَادِ أِمِرِيكَةَ وَأُورُبَّةَ مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ الْأَحْرَارِ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(بَهَاءُ اللهِ الْبَابِيُّ وَمَسِيحُ الْهِنْدِ الْقَادَيَانِيُّ) يَعْلَمُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّتِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَرْفَعُ الْجِزْيَةَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْمَسِيخَ الدَّجَّالَ، وَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحَالُ أَنْ نَذْكُرَ مِنْ ضَرَرِهَا أَنَّهَا - لِانْتِظَارِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَيَأْسِهِمْ مِنْ إِعَادَةِ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَمَجْدِهِ بِدُونِهَا - قَدْ كَانَتْ مَثَارَ فِتَنٍ عَظِيمَةٍ. فَقَدْ ظَهَرَ فِي بِلَادٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ أُنَاسٌ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ يَخْرُجُ عَلَى أَهْلِ السُّلْطَانِ وَيَسْتَجِيبُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَغْرَارِ، فَتَجْرِي الدِّمَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جُنُودِ الْحُكَّامِ كَالْأَنْهَارِ، ثُمَّ يَكُونُ النَّصْرُ وَالْغَلَبُ لِلْأَقْوِيَاءِ بِالْجُنْدِ وَالْمَالِ، عَلَى الْمُسْتَنْصِرِينَ بِتَوَهُّمِ

ص: 47

التَّأْيِيدِ السَّمَاوِيِّ

وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدِ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَةَ أَيْضًا أُنَاسٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ أَصَابَهُمْ هَوَسُ الْوِلَايَةِ وَالْأَسْرَارِ الرُّوحِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْثِيرٌ يُذْكَرُ.

كَانَتْ آخِرُ فِتْنَةٍ دَمَوِيَّةٍ مِنْ فِتَنِ هَذِهِ الدَّعْوَى فِتْنَةُ مَهْدِيِّ السُّودَانِ، وَكَانَتْ قَبْلَهَا فِتْنَةُ (الْبَابِ) الَّذِي ظَهَرَ فِي بِلَادِ إِيرَانَ، وَأَمْرُهُ مَشْهُورٌ. وَقَدْ بَنَى بَعْضُ أَتْبَاعِهِ عَلَى أَسَاسِ دَعْوَتِهِ بِنَاءً مِنْ أَنْقَاضِ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَلَكِنَّهُ جَاءَ أَكْبَرَ مِنْهَا، ذَلِكَ الْمُدَّعِي هُوَ مِيرْزَا حُسَيْنٌ الْمُلَقَّبُ بِبَهَاءِ اللهِ، ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَبَثَّ دُعَاتَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمَا، وَمِمَّا يَدْعُونَ بِهِ النَّصَارَى إِلَى دِينِهِمْ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَهَاءَ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِتْنَتَهُمْ فِي (الْمَنَارِ) وَرَدَدْنَا عَلَيْهِمْ مِرَارًا، وَظَهَرَ فِي الْهِنْدِ رَجُلٌ آخَرُ سِلْمِيٌّ (بِالطَّبْعِ) ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَهُوَ (غُلَامٌ أَحْمَدُ الْقَادَيَانِيُّ) الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ بَعْضِ كُتُبِهِ نَبَأَ الْتِجَاءِ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى الْهِنْدِ، وَهُوَ إِنَّمَا عُنِيَ بِبَيَانِ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ مِنْ مُقَدَّمَاتِ إِثْبَاتِ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَرْسَلَ إِلَيَّ الْكِتَابَ الَّذِي نَقَلْتُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ، وَغَيْرَهُ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي يَدْعُو بِهَا إِلَى نَفْسِهِ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي (الْمَنَارِ) فَهَجَانِي فِي كِتَابٍ آخَرَ، وَتَوَعَّدَنِي بِقَوْلِهِ عَنِّي:" سَيُهْزَمُ فَلَا يُرَى " وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا نَبَأُ وَحْيٍ جَاءَهُ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ كَانَ هُوَ الَّذِي انْهَزَمَ وَمَاتَ.

كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَسْتَدِلُّ بِمَوْتِ الْمَسِيحِ وَرَفْعِ رُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا رُفِعَتْ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَلَا يَزَالُ أَتْبَاعُهُ يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ أَدْعِيَاءِ الْمَهْدَوِيَّةِ مِنْ شِيعَةِ إِيرَانَ (كَالْبَابِ وَالْبَهَاءِ) فِي اسْتِنْبَاطِ الدَّلَائِلِ الْوَهْمِيَّةِ عَلَى دَعْوَتِهِ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى إِنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَهُ فِي تَفْسِيرِهَا كِتَابٌ فِي غَايَةِ السَّخَفِ يَدَّعِي أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَجَعَلَهَا مُبَشِّرَةً بِظُهُورِهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ مَسِيحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَإِنَّمَا فَتَحَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذَا الْبَابَ الْغَرِيبَ مِنْ أَبْوَابِ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَتَحْرِيفِ أَلْفَاظِهِ عَنِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا إِلَى مَعَانٍ غَرِيبَةٍ لَا تُشْبِهُهَا وَلَا تُنَاسِبُهَا - أُولَئِكَ الزَّنَادِقَةُ مِنَ الْمَجُوسِ وَأَعْوَانِهِمُ الَّذِينَ وَضَعُوا تَعَالِيمَ فِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَرَاجَتْ حَتَّى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَلِمَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْكَلِمِ عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي اسْتِعْمَالِ لُغَتِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ، وَهُوَ يَجِدُ مِنْ جَاهِلِي اللُّغَةِ وَفَاقِدِي الِاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِيِّ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ دَعْوَى.

وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ يُثْبِتُ أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَحْكُمُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ فَهِيَ تُخَالِفُ دَعْوَى الْقَادْيَانِيِّ، فَإِنَّ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي دِمَشْقَ لَا فِي الْهِنْدِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ الَّذِي يَظْهَرُ قَبْلَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْكُمُ وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، وَلَا يَزَالُ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ مَالِئًا الْأَرْضَ، وَنَاهِيكَ بِمَا هُوَ جَارٍ، مِنْهَا، فِي بِلَادِ الْبَلْقَانِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ دُوَلَ الْبَلْقَانِ النَّصْرَانِيَّةَ مَا ظَهَرُوا عَلَى الْعُثْمَانِيِّينَ فِي مَكَانٍ إِلَّا وَأَسْرَفُوا فِي قَتْلِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَنَسْفِ دِيَارِهِمْ بِالدِّينَامِيتِ، أَوْ إِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ،

ص: 48

بَعْدَ سَلْبِ الْأَمْوَالِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَكُلُّ هَذَا يُعْمَلُ بِاسْمِ الصَّلِيبِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ، فَأَيْنَ هُوَ مِمَّا وَرَدَ مِنْ كَسْرِ الْمَسِيحِ لِلصَّلِيبِ؟ وَمَا كَانَ الْقَادَيَانِيُّ إِلَّا خَاضِعًا لِدَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الصَّلِيبِ، وَلَكِنَّ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ أَنَّهُ لَا يَدْعُوهُمْ أَحَدٌ إِلَى شَيْءٍ مَهْمَا كَانَ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، إِلَّا وَيَجِدُ فِيهِمْ مَنْ يُصَدِّقُهُ وَيَسْتَجِيبُ لَهُ. فَنَسْأَلُ اللهَ التَّأْيِيدَ بِالْهِدَايَةِ، وَالْحِفْظِ مِنَ الْغِوَايَةِ، آمِينَ.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا

بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مَا كَانَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَالْكُفْرِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ. . . . ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ جَزَاءَهُمْ عَلَى مَا دُونُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَقَالَ:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ أَيْ فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ قَدِ اسْتَحَقُّوا بِظُلْمِ مَا ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ نُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَتْ

أُحِلَّتْ لَهُمْ وَلِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَّمْنَاهَا عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ ظُلْمِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَكْبَرَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَ رَبِّهِمْ، وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِالْمَسِيحِ وَبَهْتِهِمْ لِأُمِّهِ، وَتَبَجُّحِهِمْ بِدَعْوَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ؟ فَتَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ بِظُلْمٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَبِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعَاصِي عَطْفًا عَلَيْهِ زَائِدًا عَنْهُ، أَوْ بَيَانًا لَهُ - يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ الْعَظِيمِ وَالْخِزْيِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى نَقْضِ الْمِيثَاقِ الْأَكْبَرِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ الْمَحْذُوفُ لِقَوْلِهِ، تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ إِلَخْ. فَهُوَ قَدْ حَذَفَ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ، ثُمَّ ذَكَرَ عِقَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَحْرِيمُ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ.

ص: 49

فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ الْمَحْذُوفَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَخَتَمَ الْآيَاتِ بِذِكْرِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.

أَمَّا الطَّيِّبَاتُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ فَهِيَ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ، عز وجل، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادَوْا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (6: 146) الْآيَةَ، هَكَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَجْزِمْ بِتَعْيِينِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعَرِّفْ مَا نَكَّرَهُ الْكِتَابُ. وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (الْأَحْبَارِ) تَفْصِيلُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَتْ قَدْ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلَّ، وَبِإِحْلَالِهَا لِسَلَفِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (3: 93) فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ.

وَتَقْدِيمُ فَبِظُلْمٍ عَلَى حَرَّمْنَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الظُّلْمِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ، وَقَدْ أَبْهَمَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هُنَا ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السِّيَاقِ الْعِبْرَةُ بِكَوْنِهِ عُقُوبَةً لَا بَيَانُهُ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَبْهَمَ الظُّلْمَ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لَهُ ; لِيَعْلَمَ الْقَارِئُ وَالسَّامِعُ أَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الظُّلْمِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانًا لَهُ. وَالْعِقَابُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقْسَامٌ سَيَأْتِي بَسْطُهَا، وَمِنَ الدُّنْيَوِيِّ: التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ الشَّاقَّةُ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ، وَالْجَزَاءُ الْوَارِدُ فِيهَا عَلَى الْجَرَائِمِ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، وَمَا اقْتَضَتْهُ سُنَنُ اللهِ - تَعَالَى - فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ،

مِنْ كَوْنِ الظُّلْمِ سَبَبًا لِضَعْفِ الْأُمَمِ، وَفَسَادِ عُمْرَانِهَا، وَاسْتِيلَاءِ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَى مُلْكِهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ، تَعَالَى: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ وَقَدْ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُبَيِّنٌ لَهُ - أَيْ لِلظُّلْمِ - وَهُوَ حِينَئِذٍ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَعْمُولِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى عَامِلِهِ، يُنَافِي الْحَصْرَ إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُغَايِرًا لَهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُبَيِّنًا لَهُ فَهُوَ عَيْنُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُغَايَرَةٍ وَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الظُّلْمِ لِلِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ قُبْحِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَاقْتِضَائِهِ الْعِقَابَ لَا لِلْحَصْرِ، وَقِيلَ إِنَّ (بِصَدِّهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَبِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِلَخْ شَدَّدْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامٍ وَتَكَالِيفَ أُخْرَى كَالْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا فِي حَادِثَةِ الْقَتِيلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ، وَهُوَ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَبْلَغُ فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ.

وَالصُّدُودُ وَالصَّدُّ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمَعْنَاهُ الْمَنْعُ أَيْ صُدُودُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِمَا كَانُوا يَعْصُونَ مُوسَى، عليه السلام، وَيُعَانِدُونَهُ، أَوْ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

ص: 50

بِسُوءِ الْقُدْوَةِ أَوْ بِالْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ: صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَأَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فِي الْإِشْكَالِ وَحَارَ بَعْضُهُمْ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَنَسُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غِنًى عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ حَتَّى عَدَّ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُشْكِلَاتِ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَيْفَ يَكُونُ الصَّدُّ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ سَبَبًا لَهَا، وَالسَّبَبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمُسَبِّبِ؟ وَيَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ بِجَعْلِ هَذَا الصَّدِّ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَسَاءَلَ بَعْضُهُمْ: مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَمَتَى كَانَ؟ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْأَفْهَامِ الضَّعِيفَةِ، وَتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، يُوَلِّدُونَ لَنَا شُبَهًا عَلَى الْقُرْآنِ وَأَصْلِ الدِّينِ، يَنْقُلُهَا الْكَافِرُونَ بِهِ عَنْهُمْ، وَيَطْعَنُونَ بِهَا فِي بَلَاغَتِهِ وَبَيَانِهِ، وَالصَّوَابُ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَأَنَّ صَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ هُوَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ غَوَايَةً وَإِغْوَاءً، وَذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ.

وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أَيْ وَبِسَبَبِ أَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَكِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِنَّمَا تُصَرِّحُ بِتَحْرِيمِ أَخْذِهِمُ الرِّبَا مِنْ

شَعْبِهِمْ، وَمِنْ إِخْوَتِهِمْ دُونَ الْأَجَانِبِ ; فَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ (22: 35 إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلَا تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي. لَا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا) وَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (الْأَحْبَارِ)(25: 35 وَإِذَا افْتَقَرَ أَخُوكَ وَقَصُرَتْ يَدُهُ عِنْدَكَ، فَاعْضُدْهُ غَرِيبًا أَوْ مُسْتَوْطِنًا فَيَعِيشُ مَعَكَ 36 لَا تَأْخُذْ مِنْهُ رِبًا وَلَا مُرَابَحَةً. بَلِ اخْشَ إِلَهَكَ فَيَعِيشُ أَخُوكَ مَعَكَ 37 فِضَّتَكَ لَا تُعْطِهِ بِالرِّبَا، وَطَعَامَكَ لَا تُعْطِهِ بِالْمُرَابَحَةِ) وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (23: 19 لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبًا ; رِبَا فِضَّةٍ، أَوْ رِبَا طَعَامٍ، أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا 20 لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا، وَلَكِنْ لِأَخِيكَ لَا تُقْرِضْ بِرِبًا) .

وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، عليه السلام ; لِأَنَّ نُسْخَةَ مُوسَى فُقِدَتْ بِإِجْمَاعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذِهِ الَّتِي عِنْدَهُمْ قَدْ كُتِبَتْ بَعْدَ السَّبْيِ، وَثَبَتَ تَحْرِيفُهَا بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِبَارَةَ " لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا " قَدْ أَخَذَهَا الَّذِي كَتَبَ التَّوْرَاةَ - عِزْرَا أَوْ غَيْرُهُ - مِنْ مَفْهُومِ الْأَخِ ; لِأَنَّهُ كَتَبَ مَا حَفِظَ مِنْهَا بِالْمَعْنَى. وَهَذَا مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الَّذِي لَا يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ لَقَبٍ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِمْ قَدْ أَطْلَقُوا ذَمَّ الرِّبَا، وَالنَّهْيَ عَنْهُ إِطْلَاقًا، فَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَلَا بِإِخْوَتِهِمْ ; كَقَوْلِ دَاوُدَ، عليه السلام، فِي الْمَزْمُورِ الْخَامِسِ عَشَرَ: وَهُوَ الرَّابِعُ عَشَرَ، فِي نُسْخَةِ الْجِزْوِيتْ:" وَفِضَّتُهُ لَا يُعْطِيهَا بِالرِّبَا وَلَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ مِنَ الْبَرِيءِ " وَكَقَوْلِ سُلَيْمَانَ، عليه السلام، فِي سِفْرِ الْأَمْثَالِ:(28: 8 الْمُكْثِرُ مَالَهُ بِالرِّبَا وَالْمُرَابَحَةِ، فَلِمَنْ يَرْحَمُ الْفُقَرَاءَ يَجَمَعُهُ) وَقَوْلِ حَزْقِيَالَ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ الرَّبُّ فِي صِفَاتِ الْبَارِّ: (18: 7 بَذَلَ خُبْزَهُ لِلْجَوْعَانِ، وَكَسَا الْعُرْيَانَ ثَوْبًا، وَلَمْ يُعْطِ بِالرِّبَا،

ص: 51

وَلَمْ يَأْخُذْ مُرَابَحَةً) وَشَرِيعَةُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ التَّوْرَاةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا إِطْلَاقَ تَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْهَا.

وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَالِ آخَرَ شَيْئًا بِغَيْرِ مُقَابِلٍ فَقَدْ أَكَلَهُ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِالْمُقَابِلِ إِذَا كُنْتَ تَمْلِكُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْكَ بَذْلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى هَذِهِ الذُّنُوبِ بَعْدَ بَيَانِ بَعْضِ جَزَائِهَا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا عَذَابَ النَّارِ الْمُؤْلِمِ أَعْتَدْهُ اللهُ: أَيْ هَيَّأَهُ لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنْهُمْ بِأَيِّ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَلَا سِيَّمَا عِيسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنَ اللهُ حَالَهُمْ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ.

لَمَّا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي هَذَا السِّيَاقِ بِبَيَانِ سُوءِ حَالِ الْيَهُودِ وَكُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ مَا ذَكَرَ عَنْهُمْ عَامٌّ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ، جَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ عَقِبَهُ فِي بَيَانِ حَالِ خِيَارِهِمْ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبْ عَمَى التَّقْلِيدِ بِبَصِيرَتِهِمْ، وَهُوَ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَيْ: لَكِنْ أَهْلُ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِالدِّينِ مِنَ الْيَهُودِ، الْآخِذُونَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ دُونَ التَّقْلِيدِ، الرَّاسِخُونَ أَيْ: الثَّابِتُونَ فِيهِ ثَبَاتَ الْأَطْوَادِ، بِحَيْثُ لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، أَوْ مِنْ أُمَّتِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، إِيمَانَ إِذْعَانٍ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا إِيمَانَ دَعْوَى وَعَصَبِيَّةٍ وَجَدَلٍ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْمُقَلِّدَةِ فِي كُلِّ الْمِلَلِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فِي الْقُرْآنِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرُّسُلِ عليهم السلام، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ بِالْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ: اسْتَثْنَى اللهُ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّ اللهِ، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ، وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، حِينَ فَارَقُوا يَهُودَ وَأَسْلَمُوا.

وَمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ مَا تَقَدَّمَ جُمْلَةً تَامَّةً ظَاهِرٌ يُسِيغُهُ الْفَهْمُ بِغَيْرِ غُصَّةٍ، وَلَا يَعْتَرِضُ الذِّهْنَ فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا كَبْوَةٌ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ " يُؤْمِنُونَ " إِلَخْ. حَالِيَّةٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لَا خَبَرِيَّةٌ، أَوْ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ جُمْلَةُ " أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ " فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رَاجَعْتُ تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تِقَدَّمَ فَإِذَا هُوَ يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا هُوَ

ص: 52

يُفَسِّرُ الرَّاسِخِينَ بِالْمُسْتَدِلِّينَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ

بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْرَدَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَإِلَّا لَقَالَ:" لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، هُمْ وَمُؤْمِنُو الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ.

وَأَمَّا قولُهُ، تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَ " الْمُقِيمِينَ " فِيهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوِ الْمَدْحِ، عَلَى مَا قَالَهُ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْنِي أَوْ أَخُصُّ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُمْ أَجْدَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الْعِنَايَةِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَالنُّكْتَةُ هُنَا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ مَزِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَكَوْنِ إِقَامَتِهَا آيَةَ كَمَالِ الْإِيمَانِ. عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَمْثَالِهَا يُنَبِّهُ الذِّهْنَ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا، وَيَهْدِي الْفِكْرَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ مَزِيَّتِهَا، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْبَلَاغَةِ، وَنَظِيرُهُ فِي النُّطْقِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُتَكَلِّمُ جَرَسَ صَوْتِهِ وَكَيْفِيَّةَ أَدَائِهِ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَنْبِيهَ الْمُخَاطَبِ لَهَا ; كَرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ خَفْضِهِ أَوْ مَدِّهِ بِهَا، وَقَدْ عَدَّ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ أَوِ الْمُتَجَاهِلِينَ مِنَ الْغَلَطِ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ أَنْفُسُهُمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ (21: 73) أَيْ: إِقَامَتُهَا، أَوِ الْمَلَائِكَةُ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (37: 165، 166) وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (21: 20) وَالْإِيمَانُ بِهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ كَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ.

وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْلَغُ عِبَارَةً، وَإِنْ عَدَّهُ الْجَاهِلُ أَوِ الْمُتَجَاهِلُ غَلَطًا أَوْ لَحْنًا، وَرُوِيَ أَنَّ الْكَلِمَةَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعَةٌ (وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَمَّنْ قَرَأَهَا مَرْفُوعَةً ; كَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ كَانَتْ قِرَاءَةً، وَإِلَّا فَهِيَ كَالْعَدَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ لَحْنًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ السَّخَاوِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَفِي سَنَدِهَا اضْطِرَابٌ

وَانْقِطَاعٌ ; فَالصَّوَابُ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَلَوْ صَحَّتْ لَمَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ مَا هُنَا مِنْ ذَلِكَ اللَّحْنِ ; لِأَنَّهُ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وَإِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، رَاجَعْتُ الْكَشَّافَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ كَسَرَهُ سِيبَوَيْهَ عَلَى أَمْثِلَةٍ وَشَوَاهِدَ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ يَنْصُرُهُ فِي الْكِتَابِ أَيْ كِتَابِ سِيبَوَيْهَ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ

ص: 53

وَمَا لَهُمْ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنْ الِافْتِنَانِ، وَغُبِّيَ عَلَيْهِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ. اهـ.

وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَطْفًا عَلَى الرَّاسِخُونَ وَعَلَى ضَمِيرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. أَوْ كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِثْلَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ بِالتَّبَعِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الَّذِي يُقِيمُ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَ الزَّكَاةَ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتُزَكِّي نَفْسَهُ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ مَالُهُ، وَقَدْ قَالَ، تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ (70: 19 - 22) إِلَخْ.

وَقَدْ يَرِدُ هَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَبْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ الْإِيمَانَ غُفْلًا مُطْلَقًا، أَوْ ذُكِرَتْ أَرْكَانُهُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِ، تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (18: 107) وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ وَكَقَوْلِهِ: إِنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (2: 62) وَالْجَوَابُ: أَنِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَهَمُّ ; الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ لَا الْأَهَمُّ فِي ذَاتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ الْمُفَاخِرِينَ بِدِينِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا

(4: 124) بَعْدَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فَالسِّيَاقُ لِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ، لَا بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَالْفَخْرِ بِذَلِكَ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالسِّيَاقُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ بَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَكَانَ الْمُهِمُّ أَوَّلًا بَيَانَ إِيمَانِ خِيَارِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَإِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلِهِ، ثُمَّ كَوْنُ هَذَا الْإِيمَانِ إِذْعَانِيًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَاكْتَفَى مِنْهُ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِوَصْفِهِمْ بِأَوَّلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ ; أَيْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ كُلُّهُ سَنُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا، لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ مِنْهُمْ.

ص: 54

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.

لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَكَانَ أَوَّلُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، فَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِمْ، وَيُصَرِّحُونَ بِالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ هَذَا عَيْنُ الْكَفْرِ، وَإِيمَانٌ يُتَّبَعُ فِيهِ الْهَوَى لَيْسَ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمَعْنَى رِسَالَتِهِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ عِنَادِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَإِعْنَاتِهِمْ وَسُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَبَيَّنَ لَهُ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ شَاغَبُوا مُوسَى صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْلِهِ، وَسَأَلُوهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَبَهَتُوا أُمَّهُ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ، فَلَيْسَ كُفْرُهُمْ وَعِنَادُهُمْ نَاشِئًا عَنْ عَدَمِ وُضُوحِ الدَّلِيلِ. بَلْ عَنْ عِنَادٍ أَصِيلٍ وَهَوًى دَخِيلٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَبَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَلَمَا شَاغَبُوكَ بِهَذَا الْقَالِ وَالْقِيلِ ; لِأَنَّ أَمْرَ نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ أَوْضَحُ دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا مِمَّا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِمِثْلِهِ مِمَّنْ قَبْلَكَ ; وَلِهَذَا نَاسَبَ أَنْ يَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ، وَيُمَهِّدَ لِلْكَلَامِ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى بِبَيَانِ أَنَّ الْوَحْيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِمَنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ صَحِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى الْفَهْمِ وَالْبَصِيرَةِ لَمَا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عز وجل:

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْإِرَادَةِ

ص: 55

الْمُطْلَقَةِ اللَّائِقَةِ بِمَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي هِيَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ، قَدْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْقُرْآنَ، كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، الَّذِينَ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِمْ هَؤُلَاءِ النَّاسُ، وَلَمْ نُنَزِّلْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَمِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا سَأَلُوكَ لِلتَّعْجِيزِ وَالْعِنَادِ ; لِأَنَّ الْوَحْيَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْلَامِ السَّرِيعِ الْخَفِيِّ، وَمَا هُوَ بِالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْحِسِّيِّ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ رُوحِيٌّ، يُعِدُّ اللهُ لَهُ النَّبِيَّ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (42: 52) .

الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (19: 11) وَعَلَى الْإِلْهَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ أَخْفَى مِنَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عز وجل وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى (27: 7) وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ، تَعَالَى. وَعَلَى مَا يَكُونُ غَرِيزِيَّةً دَائِمَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ (16: 68) وَعَلَى الْإِعْلَامِ فِي الْخَفَاءِ، وَهُوَ أَنْ تُعْلِمَ إِنْسَانًا بِأَمْرٍ تُخْفِيهِ عَنْ غَيْرِهِ

، وَمِنْهُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ (6: 112) وَأُطْلِقَ عَلَى الْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ ; لِمَا يَكُونُ فِيهِمَا مِنَ التَّخْصِيصِ. وَوَحْيُ اللهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ هُوَ: مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي يُخْفِيهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَعَدَّ أَرْوَاحَهُمْ لِتَلَقِّيهِ بِوَاسِطَةٍ كَالْمَلِكِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَرَّفَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ بِأَنَّهُ:" عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يَتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى؟ وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ ".

ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ إِمْكَانِهِ وَوُقُوعَهُ فِي فَصْلَيْنِ لَمْ يَنْسِجْ أَحَدٌ عَلَى مِنْوَالِهِمَا.

بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ (وَقِصَّةُ بَعْثَتِهِ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ) وَإِنَّمَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ إِذَا كَانَتْ مُقَدَّمَاتُهُ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ.

ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِالذِّكْرِ لِشُهْرَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَقَامِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ أَيْ وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُ ; فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى آلِهِ الْكِرَامِ، فَمُجْمَعٌ عَلَى فَضْلِهِ وَنُبُوَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ وَعِنْدَ الْعَرَبِ أَيْضًا، وَكُلُّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَاشْتُهِرَ بِلَقَبِ (إِسْرَائِيلَ) فَسَائِرُ أَنْبِيَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيُسَمَّوْنَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَهُوَ مِنْ نَسْلِ أَخِيهِ الْأَكْبَرِ إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 56

وَأَمَّا الْأَسْبَاطُ فَجَمْعُ سِبْطٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ. وَأَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا، فَكُلُّ نَسْلٍ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ الْعَشْرَةِ، وَوَلَدَيِ ابْنِهِ يُوسُفَ وَهُمَا (إِفْرَايِمْ وَمَنْسَى) يُسَمَّى سِبْطًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْأَسْبَاطَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَأَمَّا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ الْعَشْرَةُ آبَاءُ الْأَسْبَاطِ الْأُخْرَى فَهُمْ:

1 -

رُؤْبِينُ (بِالْهَمْزَةِ، وَيُخَفَّفُ فَيُقَالُ رُوبِينُ) وَتَصَرَّفَ فِيهِ بَعْضُ الْعَرَبِ فَقَالُوا رُوبِيلُ.

2 -

شَمْعُونُ 3 - يَهُوذَا 4 - يَسَاكِرُ 5 - زَبُولُونُ 6 - بِنْيَامِينَ 7 - دَانَ 8 - نَفْتَالِي 9 - جَادُ 10 - أَشِيرُ. فَسُلَالَةُ هَؤُلَاءِ مَعَ سُلَالَةِ ابْنَي يُوسُفَ هُمُ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا.

وَأَمَّا سُلَالَةُ (لَاوِي) الِابْنِ الثَّالِثِ لِيَعْقُوبَ فَلَمْ تُجْعَلْ سِبْطًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ نِيطَ بِهِمْ خِدْمَةٌ دِينِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَلَهُمْ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَسْبَاطِ: الْوَحْيُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا فِيهِمْ، وَخُصَّ مِنْهُمْ بِالذِّكْرِ أَشْهَرُ الْمُرْسَلِينَ ; لِأَنَّ لَهُمْ كُتُبًا يُهْتَدَى بِهَا، وَمَا كُلُّ نَبِيٍّ يُوحَى إِلَيْهِ يَكُونُ مُرْسَلًا وَلَهُ كِتَابٌ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَسْبَاطَ هُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلُوا الْوَحْيَ إِلَيْهِمْ وَكَوْنَهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَعَ مَا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ كَيْدِهِمْ لِأَخِيهِمْ يُوسُفَ، وَكَذِبِهِمْ عَلَى أَبِيهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّينَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَرْضَى هَذَا مِنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا. وَهُمْ يَقُولُونَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ خَاصًّا بِالرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْأَسْبَاطِ عَلَى أَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِهِ خَاصَّةً غَلَطٌ، وَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا حَاجَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، فَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ.

وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا أَيْ وَكَمَا أَعْطَيْنَا دَاوُدَ كِتَابًا خَاصًّا مَزْبُورًا، أَيْ مَكْتُوبًا، فَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ، كَالرُّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَخَلَفٌ بِضَمِّ الزَّايِ، وَهُوَ جَمْعٌ، وَزْنُ مُفْرَدِهِ، وَوَزْنُهُ (كَعِرْقٍ وَعُرُوقٍ) أَوْ (فِلْسٍ وَفُلُوسٍ) وَقِيلَ جَمْعُ زَبُورٍ بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ مَصْدَرٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِمَعْنَى كِتَابٍ وَمَكْتُوبٍ، وَقَدْ ذُكِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَحْيِ، لِأَنَّ لِزَبُورِ دَاوُدَ شَأْنًا خَاصًّا فِي كُتُبِ الْوَحْيِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَعَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ مُوَافِقٌ لِنَسَقِ الْفَوَاصِلِ ; فَائْتَلَفَ بِهِ اللَّفْظُ مَعَ الْمَعْنَى، فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً وَحُسْنًا.

وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أَيْ وَأَرْسَلْنَا غَيْرَ هَؤُلَاءِ رُسُلًا آخَرِينَ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الْمَسْرُودَةُ أَسْمَاؤُهُمْ، أَوِ الْمُبَيَّنَةُ قِصَصُهُمْ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَأَجْمَعُ

الْآيَاتِ لِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي

ص: 57

سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (6: 84 - 86) وَأَجْمَعُ السُّوَرِ لِقَصَصِهِمْ " هُودٌ " وَ " طسم الشُّعَرَاءُ " وَمِنْهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ.

وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أَيْ كَالْمُرْسَلِينَ إِلَى الْأُمَمِ الْمَجْهُولِ عِلْمُهَا وَتَارِيخُهَا، عِنْدَ قَوْمِكَ وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِكَ، كَأُمَمِ الشَّرْقِ: الصِّينِ وَالْيَابَانِ وَالْهِنْدِ، وَأُمَمِ بِلَادِ الشَّمَالِ: أُورُبَّةَ، وَأُمَمِ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ: أَمِرِيكَةَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُصَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ خَبَرَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ ; لِأَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ الرُّسُلِ، وَفَوَائِدَ بَيَانِ قَصَصِهِمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم لَا تَتَحَقَّقُ بِقِصَصِ أُولَئِكَ الْمَجْهُولِ حَالُهُمْ وَحَالُ أُمَمِهِمْ، عِنْدَ قَوْمِهِ وَجِيرَانِ بَلَدِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ، تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (12: 111) وَقَوْلِهِ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (11: 120) وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطَّوْرِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (28: 44 - 46) فَالْعِبْرَةُ وَالتَّثْبِيتُ وَالذِّكْرَى وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي قَصَصِ مَنْ ذَكَرَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ دُونَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُمْ، وَحَسْبُنَا الْعِلْمُ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ الرُّسُلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، فَكَانَتْ رَحْمَتُهُ بِهِمْ عَامَّةً، لَا مَحْصُورَةً فِي شَعْبٍ مُعَيَّنٍ احْتَكَرَهَا لِنَفْسِهِ كَمَا كَانَ يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ، غَيْرَ مُبَالِينَ بِكَوْنِهِ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللهِ وَلَا يَنْطَبِقُ عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ، قَالَ، تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (16: 36) وَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (35: 24) وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ

مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالدِّينِ السَّمَاوِيِّ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُ مُشَاغِبُوهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُقْتَبَسٌ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَكَمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، وَلَكِنْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا نَخُوضُ فِي إِحْصَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ ; فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَا رَسُولُهُ فِيمَا صَحَّ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ.

وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا خَاصًّا مُمْتَازًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْوَحْيِ الْعَامِّ لِأُولَئِكَ

ص: 58

النَّبِيِّينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ التَّعْبِيرُ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ إِيتَاءِ دَاوُدَ الزَّبُورَ. وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى الْوَحْيُ إِلَيْهِمْ تَكْلِيمًا، وَالتَّكْلِيمُ لَهُمْ وَحْيًا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ (42: 51) وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى كَانَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَدْ سَمَّاهُ وَحْيًا فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (20: 13) إِلَخْ. أَمَّا حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَالتَّكْلِيمِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَخُوضَ فِيهِ ; لِأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ كَلَامِ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ بِوَاسِطَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَجْعَلُ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنَ الْهَوَاءِ مُتَكَيِّفَةً بِهِ، وَهِيَ أَعَمُّ الْوَسَائِطِ وَأَظْهَرُهَا، وَأَمَّا الْحِجَابُ فَحِكْمَتُهُ: حَصْرُ الْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ تَتَّحِدُ فِيهِ هُمُومُهَا وَأَهْوَاؤُهَا الْمُتَفَرِّقَةُ، كَمَا كَانَ شَأْنُ مُوسَى إِذْ رَأَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ. وَأَمَّا الرَّسُولُ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللهُ فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَهُوَ مَلَكُ الْوَحْيِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّوحِ الْأَمِينِ.

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ عَلَى كَوْنِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى لَمْ يَكُنْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ هُنَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ (2: 253) وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَلِمَةَ (تَكْلِيمًا) الْمُؤَكِّدَةَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ مَجَازِيًّا، فَإِنَّ الْفَرَّاءَ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا وَصَلَ إِلَى الْإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ مَا لَمْ يُؤَكَّدْ بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا أُكِّدَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ نَفْسُهُ مَجَازِيًّا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمَجَازَ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْإِسْنَادِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْنِدَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ بِمِثْلِهِ إِلَى الْمُبَلِّغِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا يُبَلِّغُ عَنِ الْمَلِكِ حَاجِبُهُ أَوْ وَزِيرُهُ، وَعَنِ الْمَرْأَةِ الْمُحَجَّبَةِ زَوْجُهَا أَوْ وَلَدُهَا، أَقُولُ: وَمِنْهُ إِسْنَادُ الْكَلَامِ إِلَى التُّرْجُمَانِ ;

إِذِ الْمَقْصِدُ مِنَ التَّكْلِيمِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَلَوْ بِوَاسِطَةِ التُّرْجُمَانِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَقْصِدُ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِسَالَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا. وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْهُمْ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ; كَقَوْلِ هِنْدِ بِنْتِ النُّعْمَانِ فِي زَوْجِهَا رُوحِ بْنِ زِنْبَاعَ وَزِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:

بَكَى الْخَزُّ مِنْ رُوحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ

وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامِ الْمَطَارِفُ

فَأَكَّدَتْ " عَجَّتْ " مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ ; لِأَنَّ الْمَطَارِفَ جَمْعُ مِطْرَفٍ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَهُوَ رِدَاءٌ لَهُ خَزٌّ لَهُ أَعْلَامٌ لَا تَعِجُّ (وَالْعَجِيجُ: الصِّيَاحُ) .

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ أَرْسَلْنَا أُولَئِكَ الرُّسُلَ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَفَرَ وَأَجْرَمَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ بِأَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا وَأَجْرَمُوا إِلَّا لِجَهْلِهِمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ، تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (20: 134)

ص: 59

وَقَالَ عز وجل: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (28: 47) ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (28: 59) وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (17: 15) وَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (6: 155 - 157) .

الْمُتَبَادِرُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْأُولَى أَنَّهَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا سَوَاءٌ كَانَ بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْأَخِيرُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ، وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُ الْوَعِيدُ بِسَبَبِ الْعَذَابِ، وَالتَّهْدِيدُ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ

آيَاتِ رَبِّكَ (6: 158) وَفِيهِ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، أَوْ بِالْمَوْتِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، وَيَعْقُبُ ذَلِكَ عَذَابُ الْآخِرَةِ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فَهِيَ مُطْلَقَةٌ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهَا أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ قَطْعَ حُجَّةِ النَّاسِ وَاعْتِذَارِهِمْ بِالْجَهْلِ، عِنْدَمَا يُحَاسِبُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ وَيَقْضِي بِعَذَابِهِمْ، وَمَفْهُومُهُ وَمَفْهُومُ سَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْلَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَكَانَ لِلنَّاسِ أَنْ يَحْتَجُّوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى عَذَابِهَا وَعَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي كَانَ أَصَابَهُمْ بِظُلْمِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى امْتِنَاعِ مُؤَاخَذَةِ اللهِ النَّاسَ وَتَعْذِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْهِدَايَةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَيَسْتَدِلُّونَ بِآيَةِ الْإِسْرَاءِ عَلَى نَجَاةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَكُلِّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَلَمَّا كَانُوا شِيَعًا تَتَعَصَّبُ كُلُّ شِيعَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ يُنْسَبُ إِلَى عَمِيدٍ مِنْهُمْ قَدَّسُوهُ بِإِشْهَارِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ صَارَتْ كُلَّ شِيعَةٍ تَلْتَمِسُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤَيَّدُ مَذْهَبَهَا وَتُؤَوِّلُ مَا يَنْقُضُهُ. وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ أَوَّلَ بَعْضُهُمْ آيَةَ الْإِسْرَاءِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ فِيهَا الْعَقْلُ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا كَالْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، فَلَا يَجِدُ أَبْرَعُ الْمُؤَوِّلِينَ وَالْمُحَرِّفِينَ مَنْفَذًا لِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الرُّسُلِ الْمُبَشِّرِينَ الْمُنْذِرِينَ، الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي سِيَاقِ إِثْبَاتِ الْوَحْيِ، وَقَصَّ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ بَعْضَهُمْ، وَذَكَرَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْقَصَصِ: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ الْعَقْلُ، وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُهُ الَّذِي جُنَّ فِي مَذْهَبِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا، وَمَا الْمَجَانِينُ فِي ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، وَكَيْفَ وَالتَّقْلِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَالِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِمَا يُعْزَى إِلَى الْمَذْهَبِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ تَعْجِزُ

ص: 60

عُقُولُهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ عُلَمَائِهِمْ دُونَ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ! .

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ اتَّبَعَ النَّاسُ مَذَاهِبَهُمْ فِي التَّكْلِيفِ، هَلْ يَتَوَقَّفُ كُلُّهُ عَلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ أَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِالْعَقْلِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ إِيمَانٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى أَحَدٍ كُفْرٌ وَلَا جُرْمٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ ثَوَابًا

وَلَا عِقَابًا عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ قَامَتْ بِهَا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْعَمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ فَحَسْبُ، وَلَا يُجَازَى إِلَّا عَلَى ذَلِكَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بَعْدَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ لَا يَتَعَدَّى مَا جَاءُوا بِهِ لِمَنْ بَلَغَتْهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ بِعَقْلِهِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَقُبْحَهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ الْحَسَنَ وَيَتْرُكَ الْقَبِيحَ، وَاللهُ - تَعَالَى - يُؤَاخِذُهُ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ، كَمَا يُؤَاخِذُهُ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ.

وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا: أَنَّ عَدَمَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُؤَاخِذَهُمْ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْهُدَى الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا مَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يُعَذِّبَ الْأُمَمَ التَّعْذِيبَ السَّمَاوِيَّ الْعَامَّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فُكَلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (29: 40) إِلَّا إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَكَذَّبُوهُ، وَسُنَّتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْذِيبِ مُبِيَّنَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَهُوَ لَا يَأْخُذُ بِهِ كُلَّ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، بَلْ مَنْ أَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَتَمَادَوْا فِي عِنَادِ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.

وَمَنْ أَخَذَ الْقُرْآنَ بِجُمْلَتِهِ، وَفَقِهَ أَحْكَامَهُ وَحُكْمَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الدِّينَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، بَلْ يُعْرَفُ بِالْوَحْيِ، وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا مُوَافِقٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي عَالَمِ الْقُدُسِ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ، يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّرْكِ جَزَاءٌ وَضْعِيٌّ يُحَدِّدُهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا الْجَزَاءُ خَاصٌّ بِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ عَلَى وَجْهِهَا. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُوَافِقٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَعَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ تَدْسِيَتُهَا. وَتَأْثِيرُ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَهْدِي إِلَيْهِ تَأْثِيرٌ فِطْرِيٌّ ذَاتِيٌّ. فَكُلُّ مَنِ اهْتَدَى بِهَا زَكَتْ نَفْسُهُ بِقَدْرِ اهْتِدَائِهِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولًا جَاءَ بِهَا، وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا، فَكُلُّ مَنْ تَلَوَّثَتْ بِهَا نَفْسُهُ فَسَدَتْ وَسَفُلَتَ، وَالْأَصْلُ فِي

ص: 61

هَذَا وَذَاكَ الْإِخْلَاصُ فِي إِيثَارِ مَا يَعْتَقِدُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِ، فَكَمَا

دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَّا إِذَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُمْ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّتُهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَضْعِيٌّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الْوَضْعِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ هُوَ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ تَدُلُّ آيَاتٌ أُخْرَى عَلَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ الْعَامِّ بِالْقِسْطِ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ، فَمَنْ دَسَّى نَفْسَهُ وَأَبْسَلَهَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللهِ كَمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَأَسْلَمَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ عَاقِلٌ: إِنَّ نُفُوسَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَكُونُ سَوَاءً مَهْمَا اخْتَلَفَتْ عَقَائِدُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْعَقْلِ وَإِدْرَاكِ الْحِسِّ، إِذْ لَمْ تُوجَدْ وَلَا تُوجَدُ أُمَّةٌ إِلَّا وَفِيهَا الصَّالِحُونَ وَالطَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَالْفُجَّارُ، وَالَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْهُدَى عَلَى دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى وَالْعَكْسُ. فَهَلْ يَكُونُ الْفَرِيقَانِ عِنْدَ الْحُكْمِ الْعَدْلِ سَوَاءً؟ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ (5: 100) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (11: 24) .

لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ نُبُوَّتَهُ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمِ شَهَادَتِهِمْ بِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ ; لِوُضُوحِهَا، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا الْمُبَاهَتَةَ وَالْمُكَابَرَةَ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِيمَانِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ يُثْبِتُ دَعْوَاهُ وَيَكُونُ شَاهِدًا لَهُ مُقْنِعًا لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُ أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ جَارٍ عَلَى شَنْشَنَتِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ وَحْيَهُ إِلَيْهِ هُوَ مِنْ جِنْسِ وَحْيِهِ إِلَى أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَيَشْهَدُونَ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُمْ مَعَ وُضُوحِ أَمْرِ نُبُوَّتِكَ فِي نَفْسِهِ، لَا يَشْهَدُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانُوا يَشْهَدُونَ لِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، لَكِنَّ اللهَ يَشْهَدُ لَكَ بِهِ، فَإِنَّهُ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ إِلَيْكَ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (11: 49) مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (42: 52) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (29: 48) فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْأُمَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ

الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ، مِنْ مَزْجِ هَذِهِ الْعُلُومِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مَزْجًا دَقِيقًا يُؤَلِّفُ بَيْنَ مَا كَانَ مَوْضُوعُهُ مِنْهَا أَعْلَى الْمَوْضُوعَاتِ ; كَالْمَسَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا أَدْنَى كَشُئُونِ الْكُفَّارِ وَالْمُجْرِمِينَ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ آيَاتِهِ كَالْكَثِيرِ مِنْهَا مُؤَثِّرًا فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَغْذِيَتِهَا بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْأَرْوَاحِ بِهِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُقِ وَالتَّصَادُقِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، عَلَى كَثْرَةِ عُلُومِهِ وَتَشَعُّبِ

ص: 62

فُنُونِهِ، هُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا الْبَارِزَةِ فِي أَعْلَى حَالِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، مُثْبِتٌ لِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ وَبِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِهِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْخَصَائِصَ وَالْمَزَايَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ، فَضْلًا عَنْ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَوَصَلَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا مِمَّا دُونَهُ مِنْ مَظَاهِرِ فَصَاحَةِ قَوْمِهِ ; كَالشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَفُحُولِ الْبَلَاغَةِ الْمُقَرَّمِينَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: مَاذَا يَضُرُّكَ جُحُودُ الْيَهُودِ وَعَدَمُ شَهَادَتِهِمْ لَكَ، وَاللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَقَدْ أَيَّدَ شَهَادَتَهُ لَكَ بِعِلْمِهِ الَّذِي أَوْدَعَهُ هَذَا الْقُرْآنَ، فَكَانَ بِذَلِكَ مُثْبِتًا لِحَقِيَةِ نَفْسِهِ وَكَوْنِهِ أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، بِأَقْوَى مِنْ إِثْبَاتِ الدَّعَاوَى بِالْبَيِّنَاتِ وَالشَّهَادَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَيُؤَيِّدُهَا كَذَلِكَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ بِتَصْدِيقِ مَا أَنْزَلَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ لَكَ بِالْفَلَاحِ وَالنَّصْرِ، وَوَعِيدِ مَنْ عَادَوْكَ بِالْخِذْلَانِ وَالْخُسْرِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ أَيْضًا بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ إِلَيْكَ هُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْهُمْ، أَنْتَ تَرَاهُ وَتَتَلَقَّى عَنْهُ لَا رَيْبَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ، وَاللهُ يُؤَيِّدُكَ بِجُنْدٍ مِنْهُمْ يَنْفُخُونَ رُوحَ التَّثْبِيتِ وَالسَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (8: 12) وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَثَبَتَتْ بِهِ شَهَادَةُ مَلَائِكَةِ اللهِ عِنْدَ نَبِيِّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِخْبَارِ اللهِ، وَبِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مَنْ صِدْقِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا فَشَهَادَتُهُ أَصْدَقُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

(6: 19) .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.

ص: 63

لَقَدْ تَجَلَّتْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْحُجَّةُ، وَتَضَاءَلَ كُلُّ مَا أَوْرَدَهُ الْيَهُودُ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مِنْ شُبْهَةٍ، فَثَبَتَتْ هَذِهِ النُّبُوَّةُ بِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، فَحَسُنَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُنْذِرَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى صَدِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يُنْذِرُهُمْ، عز وجل، سُوءَ الْعَاقِبَةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَصِيرَهُمْ مِنَ الْهَاوِيَةِ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، وَحَمَلُوا غَيْرَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِسُوءِ الْقُدْوَةِ وَتَمْوِيهِ الشُّبْهَةِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا بِسَيْرِهِمْ فِي سُبُلِ الشَّيْطَانِ سَيْرًا حَثِيثًا، بَعُدُوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بُعْدًا شَاسِعًا حَتَّى لَمْ يَعُودُوا يُبْصِرُونَ مَا اتَّصَفَتْ بِهِ مِنَ الْوُضُوحِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى خَيْرِ الْعَاقِبَةِ وَمَرْسَى السَّلَامَةِ.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَقُبْحِ عَمَلِهِمْ، وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِإِغْوَائِهِمْ إِيَّاهُمْ بِزُخْرُفِ قَوْلِهِمْ وَسُوءِ سِيرَتِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ يُؤَثِّرَانِ فِي النَّفْسِ وَيُكَيِّفَانِهَا بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الظُّلْمَةِ وَفَسَادِ الْفِطْرَةِ، لَا يَزُولَانِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَتَأْثِيرِ عَقَائِدِهَا وَأَعْمَالِهَا فِيهَا، إِلَّا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ

الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ وَيُطَهِّرُهَا فَتَنْشَأُ خَلْقًا جَدِيدًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ; أَيْ يُوَصِّلُهُمْ إِلَى طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِمْ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَهِيَ تِلْكَ الْهَاوِيَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ يُدَسِّي نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَوْغَلُوا فِي السَّيْرِ فِيهَا طُولَ عُمُرِهِمْ، كَالَّذِي يَهْبِطُ الْوَادِيَ يَكُونُ مُنْتَهَى شَوْطِهِ قَرَارَةُ ذَلِكَ الْوَادِي لَا قِمَّةَ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَانْتِظَارُ الْمَغْفِرَةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ لِهَؤُلَاءِ، كَانْتِظَارِ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ وَالنَّقِيضِ مِنَ النَّقِيضِ، أَوِ انْتِظَارِ إِبْطَالِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَنَقْضِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، لَا مَا يَزْعُمُهُ الْقَائِلُونَ بِالْجَبْرِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَقَطْ، وَلَا مَا يَزْعُمُهُ خُصُومُهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، عَلِمَ اللهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَإِلَّا وَجَبَ تَقْيِيدُ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ وَالْهِدَايَةِ لِغَيْرِ طَرِيقِ جَهَنَّمَ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَا حَمَلَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ إِلَّا غَفْلَتُهُمْ عَنْ كَوْنِ هَذَا هُوَ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ فِي

ص: 64

الْآخِرَةِ، وَظَنَّهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَخْ. هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى مُعْتَرَكِهِمْ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، لِعَدَمِ تَطْبِيقِ مِثْلِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَاطِّرَادِ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ.

وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلُوهَا، قَالَ: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ يَدْخُلُونَهَا وَيَذُوقُونَ عَذَابَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ أَبَدًا يَنْفِي أَنْ يُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ الْخُلُودُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، أَمَّا مَعْنَى الْخُلُودِ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ: بَقَاءُ الشَّيْءِ مُدَّةً طَوِيلَةً عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا تَغَيُّرٌ وَلَا فَسَادٌ، كَقَوْلِهِمْ لِلْأَثَافِيِّ (حِجَارَةِ الْمَوْقِدِ) خَوَالِدُ، قَالَ:(وَذَلِكَ لِطُولِ مُكْثِهَا، لَا لِدَوَامِ بَقَائِهَا) وَفَسَّرَ الْخُلْدَ فِي " اللِّسَانِ " بِدَوَامِ

الْبَقَاءِ فِي دَارٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّكْنَى الدَّائِمَةِ فِي الْعُرْفِ: مَا يُقَابِلُ السُّكْنَى الْمُؤَقَّتَةَ الْمُتَحَوِّلَةَ كَسُكْنَى الْبَادِيَةِ، فَالَّذِينَ لَهُمْ بُيُوتٌ فِي الْمُدُنِ يَسْكُنُونَهَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: إِنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَخَلَدَ بِالْمَكَانِ يَخْلُدُ خُلُودًا، مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَأَخْلَدَ: أَقَامَ، وَخَلَدَ - كَضَرَبَ وَنَصَرَ - خُلْدًا وَخُلُودًا: أَبْطَأَ عَنْهُ الشَّيْبُ. وَمَنْ كَبِرَ وَلَمْ يَشِبْ أَوْ لَمْ تَسْقُطْ أَسْنَانُهُ يُقَالُ لَهُ الْمُخَلَّدُ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:

لِمَنِ الدِّيَارُ غَشَيْتُهَا بِالْغَرْقَدِ

كَالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمُخَلَّدِ

وَالْأَبَدُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: " عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةِ الزَّمَانِ الْمُمْتَدِّ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ كَمَا يَتَجَزَّأُ الزَّمَانُ، وَتَأَبَّدَ الشَّيْءُ: بَقِيَ أَبَدًا، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَمَّا يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً " وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: " الْأَبَدُ: الدَّهْرُ. وَفِيهِ تَسَاهُلٌ، وَقَالُوا فِي الْمَثَلِ: " طَالَ الْأَبَدُ عَلَى لُبَدٍ " يُضْرَبُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَا قَدُمَ، وَقَالُوا: أَبَدَ بِالْمَكَانِ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - أُبُودًا: أَقَامَ بِهِ وَلَمْ يَبْرَحْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ بِمَعْنَى اللَّانِهَايَةِ يَدُورُ فِي كَلَامِهِمْ.

وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ سَهْلًا عَلَى اللهِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَلَا يَسْتَعْصَى عَلَى قُدْرَتِهِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ وَلَا مَفَرَّ، وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقِرٌّ.

يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ نَادَى اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ النَّاسِ فِي سِيَاقِ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ، فَبِالْأَوْلَى تَقُومُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ كَكِتَابِهِمْ، وَذَكَرَ الرَّسُولَ هَهُنَا مُعَرَّفًا ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بُشِّرُوا بِهِ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِعْثَتَهُ، بِعُنْوَانِ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْكَامِلُ، الَّذِي هُوَ الْمُتَمِّمُ الْخَاتَمُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا

ص: 65

يَنْتَظِرُونَ مِنَ اللهِ مَسِيحًا وَنَبِيًّا بَشَّرَ بِهِمَا أَنْبِيَاؤُهُمْ، مَا جَاءَ فِي أَوَائِلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بَعْضَ الْكَهَنَةِ وَاللَّاوِيِّينَ إِلَى يُوحَنَّا (يَحْيَى عليه السلام لِيَسْأَلُوهُ مَنْ هُوَ. وَكَانَتْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ فَسَأَلُوهُ أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: أَأَنْتَ النَّبِيُّ؟ قَالَ: لَا. وَالشَّاهِدُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ النَّبِيَّ بِلَامِ الْعَهْدِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ يَهُودَ الْعَرَبِ وَنَصَارَاهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ تَذْكُرُ مَجِيءَ الرَّسُولِ الْمُعَرَّفِ بِصِيغَةِ التَّحْقِيقِ، قَدْ

فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ (وَهُوَ فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) وَعِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ (وَسَيَأْتِي شَاهِدٌ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ) وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ يَفْهَمْ مِنَ التَّعْرِيفِ مَعْنًى آخَرَ هُوَ صَحِيحٌ وَمُرَادٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي الرُّسُلِ لِظُهُورِ نُبُوَّتِهِ، وَنُصُوعِ حُجَّتِهِ، وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ، وَخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ جَاءَ النَّاسَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِمْ: أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ بَيَانٍ لِلْحَقِّ، وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ الْمُؤَيِّدَةَ لَهُ، وَاخْتِيَارُ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ يُقْصَدُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْمِيلُ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ نُفُوسِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَآمِنُوا، فَإِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ ; لِأَنَّهُ يُزَكِّيكُمْ وَيُطَهِّرُكُمْ مِنَ الْأَدْنَاسِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، هَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ الْكِسَائِيُّ، وَأَمَّا الْخَلِيلُ وَتِلْمِيذُهُ سِيبَوَيْهِ فَيُقَدِّرَانِ: وَاقْصِدُوا بِالْإِيمَانِ خَيْرًا لَكُمْ، أَيْ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَآمِنُوا إِيمَانًا خَيْرًا لَكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ إِيمَانِكُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى جَزَائِكُمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ كُفْرُكُمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ عَمَلِكُمْ ; لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَعَبِيدًا، وَكُلٌّ يَعْبُدُهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، أَمَّا عِبَادَةُ الْكَرْهِ وَعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَبِالْخُضُوعِ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى مَا لَيْسَ لَهُ إِدْرَاكٌ وَلَا عَقْلٌ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الِاخْتِيَارِ، فَخَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ جُنُودِ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَيْ وَكَانَ شَأْنُهُ الْعِلْمَ الْمُحِيطَ وَالْحِكْمَةَ الْكَامِلَةَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي إِيمَانِكُمْ وَكُفْرِكُمْ، وَلَا يَعْدُو حِكْمَتَهُ أَمْرُ جَزَائِكُمْ، وَحَاشَا عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ أَنْ يَخْلُقَكُمْ عَبَثًا، وَأَنْ يَتْرُكَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، كَلَّا إِنَّهُ يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَطُوبَى لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.

ص: 66

يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.

هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى خَاصَّةً بَعْدَ مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ غَلَتِ الْيَهُودُ فِي تَحْقِيرِ عِيسَى وَإِهَانَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَفَرَّطُوا كُلَّ التَّفْرِيطِ، فَغَلَتِ النَّصَارَى فِي تَعْظِيمِهِ وَتَقْدِيسِهِ فَأَفْرَطُوا كُلَّ الْإِفْرَاطِ، فَلَمَّا دَحَضَ - تَعَالَى - شُبُهَاتِ أُولَئِكَ قَفَّى بِدَحْضِ شُبُهَاتِ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فَتَتَجَاوَزُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ لَكُمْ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، كِلَاهُمَا مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ وَضْعِهِ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ أَيِ الثَّابِتَ الْمُتَحَقِّقَ فِي نَفْسِهِ، إِمَّا بِنَصٍّ دِينِيٍّ مُتَوَاتِرٍ، وَإِمَّا بِبُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَزَاعِمِكُمْ فِي الْمَسِيحِ شَيْءٌ مِنْهُمَا إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ إِلَى

بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَعِبَادَةِ الْمَالِ، وَإِيثَارِ شَهَوَاتِ الْأَرْضِ عَلَى مَلَكُوتِ

ص: 67

السَّمَاءِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّقْوَى، وَبَشَّرَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُقِيمُهُمْ عَلَى صِرَاطِ الِاعْتِدَالِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الْأَرْوَاحِ وَحُقُوقِ الْأَجْسَادِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ وَهُوَ تَحْقِيقُ كَلِمَتِهِ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى أُمِّهِ مَرْيَمَ وَمِصْدَاقُهَا، وَالْمُرَادُ: كَلِمَةُ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عليه السلام، بَشَّرَهَا بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَامًا زَكِيًّا، فَاسْتَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ وَهِيَ عَذْرَاءُ لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَقَالَ لَهَا: كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3: 47) فَكَلِمَةُ (كُنْ) هِيَ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْوِينِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - عِنْدَ إِرَادَتِهِ خَلْقَ الشَّيْءِ وَإِيجَادَهُ، وَقَدْ خَلَقَ الْمَسِيحَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِي تَفْسِيرِهَا وُجُوهٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص 250 مِنْ هَذِهِ الطَّبْعَةِ) وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْكَلَامِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَتَاعِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ (16: 86، 87) وَمَعْنَاهُ الطَّرْحُ وَالنَّبْذُ، فَلَمَّا عَبَّرَ اللهُ عَنِ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةِ بِالْكَلِمَةِ حَسُنَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ أَوْصَلَهَا إِلَيْهَا وَبَلَّغَهَا إِيَّاهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِرُوحٍ مِنْهُ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِيهِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (2: 253) وَقَالَ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (58: 22) .

(وَثَانِيهِمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخٍ مِنْ رُوحِ اللهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أُمِّهِ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا (21: 91) وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهَا: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (19: 17) كَمَا قَالَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ بَدْئِهِ مِنْ طِينٍ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (32: 8، 9) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا النَّفْخُ أَيْ نَفَخَ الْمَلَكُ بِأَمْرِ اللهِ فِي مَرْيَمَ، فَإِنَّهُ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى النَّفْخِ وَالنَّفَسِ

الَّذِي يُنْفَخُ، كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي إِضْرَامِ النَّارِ:

فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيِهَا

بِرُوحِكَ وَاجْعَلْهَا لَهَا فَيْئَةً قَدْرَا

وَالرُّوحُ الَّذِي يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمِ الرِّيحِ (وَأَصْلُ الرِّيحِ رِوْحٌ بِالْكَسْرِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُنَاسِبَ الْكَسْرَةَ، وَجَمْعُهُ أَرْوَاحٌ، وَأَصْلُ هَذَا رِوَاحٌ بِالْكَسْرِ) كَمَا أَنَّ اسْمَ النَّفْسِ بِسُكُونِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَسِ بِفَتْحِهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُوحٌ مِنْهُ الْأَمْرَانِ مَعًا ; أَيْ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخِ الْمَلَكِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالرُّوحِ وَبِرُوحِ الْقُدُسِ، فِي أُمِّهِ نَفْخًا كَانَ كَالتَّلْقِيحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَانَ

ص: 68

مُؤَيَّدًا بِهَذَا الرُّوحِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ ; وَلِذَلِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَظَهَرَتْ آيَاتُ اللهِ فِيهِ زَمَنَ الطُّفُولِيَّةِ وَزَمَنَ الرُّجُولِيَّةِ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا (5: 110) فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوحٌ كَأَنَّهُ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَلَكِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبَ وِلَادَتِهِ وَأَيَّدَهُ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، كَمَا يُقَالُ:" رَجُلٌ عَدْلٌ " عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ: ذُو عَدْلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا: الرَّحْمَةُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُؤْمِنِينَ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (58: 22) وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِيهِ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا (19: 21) وَيُمْكِنُ إِدْخَالُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوعِهِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ أَنَّ الرُّوحَ مَا بِهِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ ; فَالْأُولَى: مَا يَشْعُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيُدْرِكُ وَيَتَفَكَّرُ وَيَتَذَكَّرُ، وَالثَّانِيَةُ: مَا بِهِ يَكُونُ رَحِيمًا حَكِيمًا فَاضِلًا مُحِبًّا مَحْبُوبًا نَافِعًا لِلْخَلْقِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ الْوَحْيَ رُوحًا فَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (42: 52) وَقَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (16: 2) وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي عِيسَى، عليه السلام، عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَآيَةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ عِيسَى بِكَلِمَتِهِ، وَجَعْلِهِ بَشَرًا سَوِيًّا بِمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَآيَتِهِ فِي خَلْقِ آدَمَ بِكَلِمَتِهِ وَمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ; إِذْ كَانَ خَلْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ النَّاسِ مِنْ ذِكَرٍ وَأُنْثَى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

(3: 59) .

وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، صِفَةٌ لِـ رُوحٍ أَيْ وَرُوحٍ كَائِنَةٍ مِنْهُ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّصَارَى أَنَّ " مَنْ " لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ عِيسَى جُزْءٌ مِنَ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ ابْنُهُ، وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ طَبِيبًا نَصْرَانِيًّا لِلرَّشِيدِ نَاظَرَ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ الْوَاقِدَيَّ الْمَرْوَزِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ فِي كِتَابِكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عليه السلام، جُزْءٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَ لَهُ الْوَاقِدِيُّ قَوْلَهُ، تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (45: 13) وَقَالَ: يَلْزَمُ إذًا أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَجْزَاءً مِنْهُ تبارك وتعالى، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَأَسْلَمَ، فَفَرِحَ الرَّشِيدُ بِإِسْلَامِهِ، وَوَصَلَ الْوَاقِدِيَّ بِصِلَةٍ فَاخِرَةٍ.

أَمَّا أَنَاجِيلُ النَّصَارَى وَكُتُبُهُمْ فَقَدِ اسْتَعْمَلَتْ لَفْظَ الرُّوحِ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيحِ وَفِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَتَّى:(1: 18 أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا، لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ) وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا تَفْصِيلٌ لِظُهُورِ الْمَلَكِ جِبْرِيلَ لَهَا، وَتَبْشِيرِهِ إِيَّاهَا بِوَلَدٍ، وَمُحَاوَرَتِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا:(53 الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ) فَرُوحُ

ص: 69

الْقُدُسِ لَيْسَ هُوَ اللهَ، وَمَنْ يُؤَيِّدُهُ اللهُ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، فَفِي هَذَا الْفَصْلِ نَفْسِهِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا أَنَّ (الِيصَابَاتَ) أُمَّ يَحْيَى امْتَلَأَتْ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (41) وَبِذَلِكَ حَمَلَتْ بِيَحْيَى وَكَانَتْ عَاقِرًا، وَأَنَّ زَكَرِيَّا أَبَاهُ امْتَلَأَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (67) وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْهُ مَا نَصُّهُ:" 25 وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورْشَلِيمَ اسْمُهُ سَمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ (26) وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ " وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ عِنْدَهُمْ لَا حَاجَةَ لِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ بِكَثْرَةِ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ الَّذِينَ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَالْقُدْسُ: الطُّهْرُ، وَيُذْكَرُ فِي مُقَابِلِهِ فِي الْأَنَاجِيلِ الرُّوحُ النَّجِسُ، أَيِ: الشَّيْطَانُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا كَمَا فَعَلَ الْوَثَنِيُّونَ مِنْ قَبْلُ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ عِيسَى خُلِقَ بِوَاسِطَةِ رُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّ يَحْيَى خُلِقَ كَذَلِكَ وَكَانَ خَلْقُهُ آيَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، إِذْ كَانَ

أَبُوهُ شَيْخًا كَبِيرًا وَأُمُّهُ عَاقِرًا، وَلَكِنَّ الْوَاسِطَةَ وَالسَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُسَمَّى بِرُوحِ الْقُدُسِ، أَيَّدَهُمُ اللهُ بِهِ نِسَاءً وَرِجَالًا عليهم السلام، فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَعَ هَذَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَرُوحٌ مِنْهُ يُفِيدُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ عَنِ التَّرْكِيبِ وَالتَّجَزُّؤِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِخَلْقِهِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ تَلَامِيذَ الْمَسِيحِ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا مُؤَيَّدِينَ بِرُوحِ الْقُدُسِ حَتَّى مَنْ طَرَدَهُ الْمَسِيحُ وَلَعَنَهُ مِنْهُمْ وَسَمَّاهُ شَيْطَانًا، وَقَدْ أَيَّدَ بِهِ مَنْ كَانَ دُونَهُمْ أَيْضًا.

عَلِمْنَا أَنَّ مُؤَلِّفِي الْأَنَاجِيلِ يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ رُوحِ الْقُدُسِ اسْتِعْمَالًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَلَكِنَّ يُوحَنَّا قَدِ انْفَرَدَ بِعِبَارَاتٍ يُمْكِنُ إِرْجَاعُهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ تَحْرِيفُهَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا فَعَلُوا، فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرُّوحَ مُنْبَثِقٌ مِنَ الْآبِ وَإِنَّهُ عَيْنُ الْآبِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ يُوحَنَّا حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ:(15: 16 وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْآبِ رُوحِ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي) أَصْلُ الِانْبِثَاقِ: أَنْ يَكْسِرَ الْمَاءُ مَا أَمَامَهُ مِنْ سَدٍّ عَلَى الشَّطِّ، وَيَفِيضُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، وَفِي قِرَاءَةٍ أُخْرَى فِي تَرْجَمَةِ الْبُرُوتُسْتَانْتِ " يَخْرُجُ " فَمِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اسْتَنْبَطُوا عَقِيدَةً وَثَنِيَّةً تَنْقُضُهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ فِي الْأَنَاجِيلِ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (وَفَرْقٌ بَيْنَ يَنْبَثِقُ مِنْ عِنْدِهِ وَبَيْنَ انْبَثَقَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوا أَيْضًا) وَهِيَ بِشَارَةٌ مِنَ الْمَسِيحِ بِمَنْ يُرْسِلُهُ اللهُ - تَعَالَى - بَعْدَهُ الَّذِي عَبَّرُوا عَنْهُ هُنَا بِالْمُعَزِّي، وَكَلِمَةُ الْمُعَزِّي تَرْجَمَةٌ لِلْبَارَقْلِيطِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُونَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا (مُحَمَّدٌ أَوْ أَحْمَدُ) وَتُقْرَأُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَبِالْإِمَالَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي تَحْرِيفِهَا عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي

ص: 70

قُلْنَاهُ إِلَى مَعْنَى الْمُعَزِّي الَّذِي قَالُوهُ، إِلَّا إِلَى لَيِّ اللِّسَانِ بِهَا لَيًّا قَلِيلًا، وَقَدْ تُرْجِمَتْ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا (بِمُحَمَّدٍ) فَكَانَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَوْضِعَ الِاسْتِغْرَابِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ظَانِّينَ أَنَّ بِرْنَابَا نَقَلَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ مُحَمَّدٍ الْعَرَبِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَطَقَ بِتَرْجَمَتِهَا، وَمِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَرْجَمَةُ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ، عَلَى أَنَّ " رُوحَ الْحَقِّ " مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَاءِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، كَمَا تَرَى فِي أَسْمَائِهِ الْمَسْرُودَةِ فِي دَلَائِلَ الْخَيْرَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ يُوحَنَّا فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ تَفْصِيلًا عَنِ الْمَسِيحِ، عليه السلام، لِبِشَارَتِهِ بِالْبَارَقْلِيطِ، مِنْهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يَذْهَبَ هُوَ مِنَ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ لَا يَأْتِي الْبَارَقْلِيطُ، وَأَنَّهُ مَتَى

جَاءَ يُبَكِّتُ الْعَالِمَ عَلَى الْخَطِيئَةِ وَعَلَى الْبِرِّ وَالْحِسَابِ (الدَّيْنُونَةِ) وَفَسَّرَ الْخَطِيئَةَ بِعَدِمِ الْإِيمَانِ بِهِ، أَيِ الْمَسِيحُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ هُوَ - أَيِ الْمَسِيحُ - لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ; لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَعَدَمِ طَاقَتِهِمُ الِاحْتِمَالَ، قَالَ: وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ (14) ذَاكَ يُمَجِّدُنِي ; لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَ الْمَسِيحِ أَحَدٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَبَّخَ النَّاسَ وَبَكَّتَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ وَعَلَى طَعْنِ بَعْضِهِمْ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ، وَعَلَى غُلُوِّ طَائِفَةٍ فِيهِمَا وَجَعْلِهِمَا إِلَهَيْنِ مَعَ اللهِ، وَعَلَّمَ النَّاسَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَخْبَرَ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلِيَّةِ - لَمْ يَجِئْ أَحَدٌ بِكُلِّ هَذَا إِلَّا رُوحُ الْحَقِّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُنْبَثِقٌ مِنَ اللهِ أَيْ مُرْسَلٌ مِنْهُ لِإِحْيَاءِ النَّاسِ، كَمَا يُرْسِلُ اللهُ الْغَيْثَ لِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَبَّهَ بَعْثَتَهُ بِالْغَيْثِ الَّذِي تَأْخُذُ مِنْهُ كُلُّ أَرْضٍ بِحَسْبَ اسْتِعْدَادِهَا. فَإِذَا كَانَتْ عِبَارَةُ يُوحَنَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْحَقِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَهُ تَدُلُّ بِلَفْظِ الِانْبِثَاقِ عَلَى مَا قَالُوا، فَلْيَجْعَلُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هُوَ الْأُقْنُومُ الثَّالِثُ أَوْ أُقْنُومًا رَابِعًا، وَيَنْتَقِلُوا مِنَ التَّثْلِيثِ إِلَى التَّرْبِيعِ، لَا، لَا أَقُولُ لَهُمْ أَصِرُّوا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَالتَّضْلِيلِ، بَلْ أَقُولُ لَهُمْ مَا قَالَهُ اللهُ عز وجل: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِلَى قَوْلِهِ، تَعَالَى:

فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ إِلَخْ ; أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ النُّقُولُ، فَآمِنُوا بِاللهِ إِيمَانًا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ، فَرْدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، تَنَزَّهَ عَنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ، وَنِسْبَتِهَا إِلَيْهِ. وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَهُوَ الْخَالِقُ، وَمَمْلُوكَةٌ وَهُوَ الْمَالِكُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي مَجْمُوعِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنْ حَبَّةِ رَمْلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَابِسِ مِنْهَا، وَمِنْ نُقْطَةِ مَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِحَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، فَمِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نِدٌّ وَكُفْءٌ فِيهَا، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَلَّ أَوِ اتَّحَدَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَآمِنُوا بِرُسُلِهِ كُلِّهِمْ، كَمَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَهُ خَصَّهُمْ بِضَرْبٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ " الْوَحْيِ " لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ كَيْفَ يُوَحِّدُونَ رَبَّهُمْ وَيَعْبُدُونَهُ وَيَشْكُرُونَهُ، وَكَيْفَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُصْلِحُونَ ذَاتَ بَيْنِهِمْ

ص: 71

وَلَا تَقُولُوا: الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ: الْآبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ، أَوْ: اللهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ كُلٌّ مِنْهَا عَيْنُ الْآخَرِ، فَكُلٌّ

مِنْهَا إِلَهٌ كَامِلٌ، وَمَجْمُوعُهَا إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَتُسَفِّهُوا أَنْفُسَكُمْ بِتَرْكِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَالْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ الَّذِي هُوَ عَقِيدَةُ الْوَثَنِيِّينَ الطَّغَامِ، ثُمَّ تَدَّعُوَا الْجَمْعَ بَيْنَ التَّثْلِيثِ الْحَقِيقِيِّ وَالتَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَفْهَامُ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ أَيِ انْتَهَوْا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ابْتَدَعْتُمُوهُ فِي دِينِ الْأَنْبِيَاءِ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمُ الْوَثَنِيِّينَ الْأَغْبِيَاءِ، يَكُنْ هَذَا الِانْتِهَاءُ خَيْرًا لَكُمْ، أَوِ انْتَهُوا عَنْهُ وَانْتَحِلُوا قَوْلًا آخَرَ خَيْرًا لَكُمْ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ بِتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ حَتَّى الْمَسِيحِ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ إِلَهًا فَإِنَّ مِمَّا لَا تَزَالُونَ تَحْفَظُونَ عَنْهُ قَوْلَهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا:(وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) .

إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ أَجْزَاءٌ وَلَا أَقَانِيمُ، وَلَا هُوَ مُرَكَّبٌ وَلَا مُتَّحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا تَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ إِنَّهُ ابْنُهُ وَإِنَّهُ هُوَ عَيْنُهُ، فَإِنَّهُ تبارك وتعالى لَيْسَ لَهُ جِنْسٌ فَيَكُونَ لَهُ مِنْهُ زَوْجٌ يَقْتَرِنُ بِهَا فَتَلِدُ لَهُ ابْنًا، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْوَلَدِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، عَلَى لَفْظِ الِابْنِ الَّذِي يُعَبِّرُونَ بِهِ، هِيَ بَيَانُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُرِيدُونَ الِابْنَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا، أَيْ مَوْلُودًا مِنْ تَلْقِيحِ أَبِيهِ لِأُمِّهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ ابْنٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً كَمَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَعَلَى صَانِعِي السَّلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَخْيَارِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ دَخْلٌ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِيَّةِ.

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ خَاصٌّ مَوْلُودٌ مِنْهُ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى ابْنَهُ حَقِيقَةً، بَلْ لَهُ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَسِيحُ مِنْ جُمْلَتِهَا خَلَقَ كُلَّ ذَلِكَ خَلْقًا، وَكُلُّ ذِي عَقْلٍ مِنْهَا وَإِدْرَاكٍ يَفْتَخِرُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (19: 93) لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالنَّبِيِّينَ الصَّالِحِينَ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ التَّالِيَةُ لِهَذِهِ، وَلَا بَيْنَ مَنْ خَلَقَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ كَالْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ، وَمَنْ خُلِقَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَحَوَّاءَ وَعِيسَى، وَمَنْ خُلِقَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، كُلُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - سَوَاءٌ، عَبِيدٌ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ مُحْتَاجُونَ دَائِمًا إِلَى فَضْلِهِ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا يَشَاءُ

وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا أَيْ بِهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ عَرَفَهُ وَعَرَفَ سُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِذَا وَكَّلُوا إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ، وَلَمْ يُحَاوِلُوا الْخُرُوجَ عَنْ سُنَنِهِ وَشَرَائِعِهِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.

ص: 72

فَصْلٌ فِي عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ

قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَثَنِيَّةٌ نَقَلَهَا الْوَثَنِيُّونَ الْمُتَنَصِّرُونَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، وَفَسَّرُوا بَعْضَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي كُتُبِهِمُ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهُمْ شُبْهَةً يَتَّكِئُونَ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّضْلِيلِ، وَأَرْغَمُوهَا عَلَيْهِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، هَدَمُوا بِهِ آيَاتِ التَّوْحِيدِ الْقَوِيَّةِ الْبُنْيَانِ، الْعَالِيَةِ الْأَرْكَانِ ; أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَثَنْيَةً، فَقَدْ بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ بِالتَّفْصِيلِ، وَأَتَوْا عَلَيْهِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ وَالتَّارِيخِ، وَإِنَّنَا نُشِيرُ إِلَى قَلِيلٍ مِنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ.

1 -

التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ:

قَالَ مُورِيسْ فِي (ص 35 مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْ كِتَابِهِ: الْآثَارُ الْهِنْدِيَّةُ الْقَدِيمَةُ) مَا تَرْجَمَتُهُ: " كَانَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَائِدَةِ تَعَالِيمٌ دِينِيَّةٌ جَاءَ فِيهَا الْقَوْلُ بِاللَّاهُوتِ الثُّلَاثِيِّ، أَوِ الثَّالُوثِيِّ ".

وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص 366 مِنْ كِتَابِهِ: خُرَافَاتُ التَّوْرَاةِ وَمَا يُمَاثِلُهَا فِي الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى) إِذَا رَجَّعْنَا الْبَصَرَ إِلَى الْهِنْدِ نَرَى أَنَّ أَعْظَمَ وَأَشْهَرَ عِبَادَتِهِمُ اللَّاهُوتِيَّةِ هُوَ التَّثْلِيثُ، وَيُسَمُّونَ هَذَا التَّعْلِيمَ بِلُغَتِهِمْ " تري مورتي " وَهِيَ عِبَارَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ بِلُغَتِهِمُ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ:(تري) وَمَعْنَاهَا ثَلَاثَةٌ، وَ (مورتي) وَمَعْنَاهَا هَيْئَاتٌ أَوْ أَقَانِيمُ، وَهِيَ بِرَهْمَا، وَفِشْنُو وَسِيفَا. ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ مُتَّحِدَةٍ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ ; فَهِيَ إِلَهٌ وَاحِدٌ (بِزَعْمِهِمْ) .

وَقَدْ شَرَحَ الْمُؤَلِّفُ مَعْنَى هَذِهِ الْأُصُولِ أَوِ الْأَقَانِيمِ عِنْدَهُمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يَرْمُزُونَ إِلَيْهَا بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَهِيَ (أ. و. م) وَأَنَّهُمْ يَصِفُونَ هَذَا الثَّالُوثَ الْمُقَدَّسَ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ فِي الْجَوْهَرِ وَلَا فِي الْفِعْلِ وَلَا فِي الِاتِّحَادِ، بِقَوْلِهِمْ: بِرَهْمَا الْمُمَثِّلُ لِمَبَادِئِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ، وَلَا يَزَالُ خَلَّاقًا إِلَهِيًّا، وَهُوَ (الْآبُ) وَفِشْنُو يُمَثِّلُ حِفْظَ الْأَشْيَاءِ الْمُكَوَّنَةِ (أَيْ مِنَ الزَّوَالِ وَالْفَسَادِ) وَهُوَ الِابْنُ الْمُنْبَثِقُ وَالْمُتَحَوِّلُ عَنِ اللَّاهُوتِيَّةِ، وَسِيفَا هُوَ

الْمُهْلِكُ وَالْمُبِيدُ وَالْمُبْدِئُ وَالْمُعِيدُ (أَيِ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ وَالتَّحْوِيلُ فِي الْكَوْنِ) وَهُوَ (رُوحُ الْقُدُسِ) وَيَدْعُونَهُ (كِرِشْنَا) الرَّبُّ الْمُخَلِّصُ وَالرُّوحُ الْعَظِيمُ الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ (فِشْنُو) الْإِلَهُ الَّذِي ظَهَرَ بِالنَّاسُوتِ عَلَى الْأَرْضِ لِيُخَلِّصَ النَّاسَ، فَهُوَ أَحَدُ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ.

إِلَى آخَرِ مَا قَالَ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَرْمُزُونَ لِلْأُقْنُومِ الثَّالِثِ بِصُورَةِ حَمَامَةٍ، وَهَذِهِ عَيْنُ عَقِيدَةِ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهِيَ عَقِيدَةٌ بُرْهُمِيَّةٌ وَثَنِيَّةٌ، أَخَذَهَا النَّصَارَى عَنِ الْبَرَاهِمَةِ وَصَارُوا يَدْعُونَهُمْ أَخِيرًا إِلَيْهَا.

وَكَانَ مُنْتَهَى شَوْطِ أَحَدِ الْيَسُوعِيِّينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ ثَالُوثَ الْبَرَاهِمَةِ وَأَمْثَالِهِمْ نَجِسٌ،

ص: 73

وَثَالُوثَ النَّصَارَى مُقَدَّسٌ! فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الْوَثَنِيُّونَ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَارْجِعُوا إِلَى الْأَصْلِ وَدَعُوا الْمُبْتَدَعَ. فَبِمَاذَا يَحُجُّونَهُمْ؟

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَصْلُ عَقِيدَةِ الْبَرَاهِمَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَصَفَ لَهُمُ الْإِلَهَ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا حَقِيقَةُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهِيَ (1) مَا بِهِ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَ (2) الْحِفْظُ وَالْإِمْدَادُ، وَ (3) التَّصَرُّفُ وَالتَّغْيِيرُ فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَدَبَّتْ إِلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ، جَعَلُوا لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إِلَهًا، وَجَعَلُوا أَسْمَاءَ الصِّفَاتِ أَسْمَاءَ أَقَانِيمَ وَذَوَاتٍ، وَلَمَّا كَانُوا نَاقِلِينَ بِالتَّوَاتُرِ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ اللهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، قَالُوا: إِنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْنُ الثَّلَاثَةِ. وَسَرَتْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ.

وَلِلْهُنُودِ تَمَاثِيلُ لِلْوَحْدَةِ وَالتَّثْلِيثِ، رَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْهَا فِي دَارِ الْعَادِيَاتِ الَّتِي بَنَتْهَا الْحُكُومَةُ الْهِنْدِيَّةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ فِي ضَوَاحِي مَدِينَةِ بَنَارِسْ (الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ) وَهُوَ تِمْثَالٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ. وَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ مُورِيسْ (فِي ص 372 مِنَ الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ آثَارِ الْهِنْدِ الْقَدِيمَةِ) : لَقَدْ وَجَدْنَا فِي أَنْقَاضِ هَيْكَلٍ قَدِيمٍ قَوَّضَهُ مُرُورُ الْقُرُونِ صَنَمًا لَهُ ثَلَاثَةُ رُءُوسٍ عَلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّمْزُ لِلثَّالُوثِ.

2 -

التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْبُوذِيِّينَ:

قَالَ مِسْتَرْ فابر فِي كِتَابِهِ (أَصْلُ الْوَثَنِيَّةِ) : كَمَا نَجِدُ عِنْدَ الْهُنُودِ ثَالُوثًا مُؤَلَّفًا مِنْ بِرَهْمَا وَفِشْنُو وَسِيفَا، نَجِدُ عِنْدَ الْبُوذِيِّينَ ثَالُوثًا، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ (بُوذَهْ)

إِلَهٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَكَذَلِكَ بُوذِيُّو (جِينِسْتَ) يَقُولُونَ: إِنَّ (جِيَفَا) مُثَلَّثُ الْأَقَانِيمِ (قَالَ) : وَالصِّينِيُّونَ يَعْبُدُونَ بُوذَهْ وَيُسَمُّونَهُ (فُو) وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ كَمَا تَقُولُ الْهُنُودُ.

وَذَكَرَ رَمْزَهُمْ (أ. و. م) .

وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص 172 مِنْ كِتَابِهِ خُرَافَاتِ التَّوْرَاةِ إِلَخْ) : وَأَنْصَارُ لَاوْكُومِتْذَا الْفَيْلَسُوفِ الصِّينِيِّ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (604) يَدْعُونَ " شِيعَةَ تَاوُو " وَيَعْبُدُونَ إِلَهًا مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ، وَأَسَاسُ فَلْسَفَتِهِ اللَّاهُوتِيَّةِ أَنَّ " تَاوُو " وَهُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ انْبَثَقَ مِنْهُ وَاحِدٌ، وَمِنَ الثَّانِي انْبَثَقَ ثَالِثٌ، وَعَنْ هَذَا الثَّالِثِ انْبَثَقَ كُلُّ شَيْءٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِالتَّوَلُّدِ وَالِانْبِثَاقِ أَدْهَشَ الْعَلَّامَةَ مُورِيسْ ; لِأَنَّ قَائِلَهُ وَثَنِيٌّ.

3 -

التَّثْلِيثُ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ:

قَالَ دُوَانْ فِي ص 473 مِنْ كِتَابِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا: وَكَانَ قِسِّيسُو هَيْكَلِ مَنْفِيسَ بِمِصْرَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الثَّالُوثِ الْمُقَدَّسِ لِلْمُبْتَدِئِينَ بِتَعَلُّمِ الدِّينِ، بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَوَّلَ خَلَقَ الثَّانِيَ، وَهُمَا خَلَقَا الثَّالِثَ، وَبِذَلِكَ تَمَّ الثَّالُوثُ الْمُقَدَّسُ. وَسَأَلَ تُولِيسُو مَلِكُ مِصْرَ الْكَاهِنَ تِنِيشُوكِي أَنْ يُخْبِرَهُ

ص: 74

هَلْ كَانَ قَبْلَهُ أَحَدٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهَلْ يَكُونُ بَعْدَهُ أَحَدٌ أَعْظَمُ مِنْهُ؟ فَأَجَابَهُ الْكَاهِنُ: نَعَمْ، يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ اللهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ الْكَلِمَةُ، وَمَعَهُمَا رُوحُ الْقُدُسِ ; وَلِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُمْ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ، وَعَنْهُمْ صَدَرَتِ الْقُوَّةُ الْأَبَدِيَّةُ، فَاذْهَبْ يَا فَانِي، يَا صَاحِبَ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَا رَيْبَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْأُقْنُومِ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْمُقَدَّسِ " كَلِمَةً " هُوَ مِنْ أَصْلٍ وَثَنِيٍّ مِصْرِيٍّ دَخَلَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الدِّيَانَاتِ كَالْمَسِيحِيَّةِ وَ " أَبُولُّو " الْمَدْفُونُ فِي (دِهْلِي) يُدْعَى " الْكَلِمَةَ " وَفِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ (بِلَاتُو) قَبْلَ الْمَسِيحِ بِسِنِينَ عَدِيدَةٍ: " الْكَلِمَةُ هِيَ الْإِلَهُ الثَّانِي " وَيُدْعَى أَيْضًا: ابْنُ اللهِ الْبِكْرُ.

وَقَالَ بُونْوِيكُ (فِي ص 402 مِنْ كِتَابِهِ: عَقَائِدُ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ) : أَغْرَبُ عَقِيدَةٍ عَمَّ انْتِشَارُهَا فِي دِيَانَةِ الْمِصْرِيِّينَ هِيَ قَوْلُهُمْ بِلَاهُوتِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَارَ بِوَاسِطَتِهَا، وَأَنَّهَا مُنْبَثِقَةٌ مِنَ اللهِ، وَأَنَّهَا هِيَ اللهُ، وَكَانَ بِلَاتُو عَارِفًا بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَذَلِكَ أَرِسْطُو وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بِسِنِينَ -

بَلْ بِقُرُونٍ - وَلَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَعْتَقِدُونَ هَذَا الِاعْتِقَادَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. اهـ.

أَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللهُ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ خُلِقَ بِكَلِمَةِ اللهِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَسَرَتْ إِلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ ظَنُّوا أَنَّ الْكَلِمَةَ ذَاتٌ تَفْعَلُ بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَقَالُوا مَا قَالُوا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُرِيدُ خَلْقَهُ، وَمَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ شَيْءٍ كَانَ كَمَا أَرَادَ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (36: 82) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِلَّا بَيَانُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي ضَلَّتْ بِهَا الْأُمَمُ مِنْ أَقْدَمِهَا - كَالْهُنُودِ وَالْمِصْرِيِّينَ - إِلَى أَحْدَثِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى؛ لَكَفَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَالْأَصْلَ الْمَعْقُولَ الْمَقْبُولَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ التَّوْحِيدِ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتَجَلَّى بِذَلِكَ دِينُ اللهِ إِلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ نَقِيًّا مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ وَنَزَغَاتِ الشَّيَاطِينِ.

4 -

التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ آسِيَةَ:

قَالَ هِيجِينْ (فِي ص 162 مِنْ كِتَابِهِ الْأَنْكِلُوسَكْسُونْ) : " كَانَ الْفُرْسُ يَدْعُونَ مِتْرُوسَا: الْكَلِمَةَ وَالْوَسِيطَ وَمُخَلِّصَ الْفُرْسِ اهـ. " وَقَالَ مِثْلَ هَذَا دُونْلَابُ وَبِنْصُونُ، وَقَالَ دُوَانْ فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذُكِرَ غَيْرَ مَرَّةٍ: كَانَ الْفُرْسُ يَعْبُدُونَ إِلَهًا مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ مِثْلَ الْهُنُودِ، وَيُسَمُّونَهَا: أُوزْمِرْدَ وَمِتْرَاتَ وَأَهْرِمَنْ، فَأُوزْمِرْدُ الْخَلَّاقُ، وَمِتْرَاتُ ابْنُ اللهِ الْمُخَلِّصُ وَالْوَسِيطُ، وَأَهْرِمَن الْمَلَكُ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَصْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَكَيْفَ سَرَى إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَالْمَشْهُورُ

ص: 75

عَنْ مَجُوسِ الْفُرْسِ التَّثْنِيَةُ دُونَ التَّثْلِيثِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ بِإِلَهٍ مَصْدَرِ النُّورِ وَالْخَيْرِ، وَإِلَهٍ مَصْدَرِ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ.

وَنُقِلَ عَنِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْأَشُورِيِّينَ وَالْفِينِيقِيِّينَ الْإِيمَانُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَنَّهَا ذَاتٌ تُعْبَدُ، وَيُسَمِّيهَا الْكَلْدَانِيُّونَ (مِمْرَارُ) وَالْأَشُورِيُّونَ (مَرْدُوخُ) وَيَدْعُونَ مَرْدُوخَ ابْنَ اللهِ الْبِكْرَ، وَهَكَذَا الْأُمَمُ يَأْخُذُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ بِرْتِشِرْدُ (فِي ص 285 مِنْ كِتَابِهِ: خُرَافَاتُ الْمِصْرِيِّينَ الْوَثَنِيِّينَ) : " لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ الْأَبْحَاثِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ مَصَادِرَ شَرْقِيَّةٍ مِنْ ذِكْرِ أَحَدِ أَنْوَاعِ التَّثْلِيثِ أَوِ التَّوَلُّدِ الثُّلَاثِيِّ. وَنَقُولُ: إِنَّ أَدْيَانَ

أَسْلَافِهِ الْغَرْبِيِّينَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَعْرَقَ فِي الْوَثَنِيَّةِ، فَهُمْ تَلَامِيذُ الشَّرْقِيِّينَ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا الْمِصْرِيِّينَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ شَوَّهُوا الدِّيَانَةَ الْمَسِيحِيَّةَ الشَّرْقِيَّةَ، فَنَقَلُوهَا مِنَ التَّوْحِيدِ الْإِسْرَائِيلِيِّ إِلَى التَّثْلِيثِ الْوَثَنِيِّ.

5 -

التَّثْلِيثُ عِنْدَ أَهْلِ أُورُبَّةَ: الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَغَيْرِهِمْ:

جَاءَ فِي كِتَابِ (سُكَّانُ أُورُبَّةَ الْأَوَّلِينَ) مَا تَرْجَمَتُهُ: " كَانَ الْوَثَنِيُّونَ الْقُدَمَاءُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ ذُو ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ ".

وَجَاءَ فِي كِتَابِ " تَرَقِّي الْأَفْكَارِ الدِّينِيَّةِ "(ص 307 م ا) : إِنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِلَهَ مُثَلَّثُ الْأَقَانِيمِ، وَإِذَا شَرَعَ قِسِّيسُوهُمْ بِتَقْدِيمِ الذَّبَائِحِ يَرُشُّونَ الْمَذْبَحَ بِالْمَاءِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِشَارَةً إِلَى الثَّالُوثِ وَيَرُشُّونَ الْمُجْتَمِعِينَ حَوْلَ الْمَذْبَحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَأْخُذُونَ الْبَخُورَ مِنَ الْمِبْخَرَةِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ مُثَلَّثَةً، وَلَهُمُ اعْتِنَاءٌ بِهَذَا الْعَدَدِ فِي جَمِيعِ شَعَائِرِهِمُ الدِّينِيَّةِ. اهـ.

أَقُولُ: وَقَدِ اقْتَبَسَتِ الْكَنِيسَةُ بَعْدَ دُخُولِ نَصْرَانِيَّةِ قُسْطَنْطِينَ فِيهِمْ هَذِهِ الشَّعَائِرَ كُلَّهَا، وَنَسَخَتْ بِهَا شَرِيعَةَ الْمَسِيحِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَسِيحِيِّينَ وَيَعْمَلُونَ كُلَّ شَيْءٍ بَاسِمِ الْمَسِيحِ! فَهَلْ ظُلِمَ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ بِالِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ كَمَا ظُلِمَ الْمَسِيحُ، عليه السلام؟ لَا لَا.

وَنَقَلَ دُوَانْ عَنْ أُورْفِيُوسْ أَحَدِ كُتَّابِ الْيُونَانِ وَشُعَرَائِهِمْ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ الْأَشْيَاءِ صَنَعَهَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ مُثَلَّثُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَقَانِيمِ ".

وَقَالَ فِسْكُ فِي ص (205) مِنْ كِتَابِ (الْخُرَافَاتُ وَمُخْتَرِعُوهَا) : كَانَ الرُّومَانِيُّونَ الْوَثَنِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، يُؤْمِنُونَ بِالتَّثْلِيثِ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْكَلِمَةِ، ثُمَّ بِالرُّوحِ.

وَقَالَ بَارْخُورِسْتُ فِي الْقَامُوسِ الْعِبْرَانِيِّ كَانَ لِلْفِنْلَنْدِيِّينَ (الْبَرَابِرَةُ الَّذِينَ كَانُوا فِي شَمَالِ بِرُوسْيَةَ) إِلَهٌ اسْمُهُ (تِرِيكْلَافُ) وَقَدْ وُجِدَ لَهُ تِمْثَالٌ فِي (هِرْتُونْجِرْ بِرْجَ) لَهُ ثَلَاثَةُ رُءُوسٍ

ص: 76

عَلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ. أَقُولُ: تِرِيكْلَافُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ: تِرِي، وَمَعْنَاهَا ثَلَاثَةٌ، وَكَلِمَةِ: كِلَافَ، وَلَعَلَّ مَعْنَاهَا إِلَهٌ.

وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص 377 مِنْ كِتَابِهِ) : " كَانَ الْإِسْكِنْدِنَاوِيُّونَ يَعْبُدُونَ إِلَهًا

مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ يَدْعُونَهَا: أُودِينَ، وَتُورَا، وَفَرَى. وَيَقُولُونَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَقَانِيمُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ وُجِدَ صَنَمٌ يُمَثِّلُ هَذَا الثَّالُوثَ الْمُقَدَّسَ بِمَدِينَةِ (أُوبْسَالَ) مِنْ أَسُوجْ، وَكَانَ أَهْلُ أَسُوجْ وَنَرُوجْ وَالدِّنْمَارْكَ يُفَاخِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي بِنَاءِ الْهَيَاكِلِ لِهَذَا الثَّالُوثِ، وَكَانَتْ تَكُونُ جُدْرَانُ هَذِهِ الْهَيَاكِلِ مُصَفَّحَةً بِالذَّهَبِ، وَمُزَيَّنَةً بِتَمَاثِيلِ هَذَا الثَّالُوثِ، وَيُصَوِّرُونَ أُودِينَ بِيَدِهِ حُسَامٌ، وَتُورَا وَاقِفًا عَنْ شِمَالِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ بِيَدِهِ صَوْلَجَانُ، وَفِرِي وَاقِفًا عَنْ شِمَالِ تُورَا، وَفِيهِ عَلَامَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَيَدْعُونَ أَوَدِينَ الْآبَ، وَتُورَا الِابْنَ الْبِكْرَ أَيِ ابْنَ الْأَبِ أُودِينَ وَ " فِرِي " مَانِحُ الْبَرَكَةِ وَالنَّسْلِ وَالسَّلَامِ وَالْغِنَى. اهـ.

أَقُولُ: فَهَلْ تَرَكَ الْأُورُبِّيُّونَ أَدْيَانَهُمُ الْوَثَنِيَّةَ إِلَى دِينِ الْمَسِيحِ، عليه السلام، الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، أَمْ ظَلُّوا عَلَى وَثَنِيَّتِهِمْ، وَأَدْخَلُوا فِيهَا شَخْصَ الْمَسِيحِ، وَجَعَلُوهُ أَحَدَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ قَبْلُ. . .؟ إِنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ شَرِيعَةَ مُوسَى، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيُتَمِّمَهَا، وَلَكِنَّ مُقَدَّسَهُمْ بُولِسْ نَقَضَهَا حَجَرًا حَجَرًا وَلَبِنَةً لَبِنَةً، إِلَّا ذَبِيحَةَ الْأَصْنَامِ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ، وَالزِّنَا الَّذِي لَا عِقَابَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، فَأَرَاحَهُمْ وَمَهَّدَ لَهُمُ السَّبِيلَ لِتَأْسِيسِ دِينٍ جَدِيدٍ لَا يَتَّفِقُ مَعَ دِينِ الْمَسِيحِ، عليه السلام، فِي عَقَائِدِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، وَلَا فِي آدَابِهِ، وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ الْإِفْرِنْجُ الَّذِينَ بَذَلُوا الْمَلَايِينَ مِنَ الدَّنَانِيرِ لِتَنْصِيرِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْبَادُ جَمِيعِ الْبَشَرِ بِإِزَالَةِ مُلْكِهِمْ وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ ; لِتَكُونَ جَمِيعُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا وَزِينَتُهَا وَعَظْمَتُهَا خَالِصَةً لَهُمْ، فَهَلْ جَاءَ الْمَسِيحُ لِهَذَا، وَبِهَذَا أَمَرَ أَمْ بِضِدِّهِ؟

وَاللهِ إِنَّنِي لَا أَرَى مِنْ عَجَائِبِ أَطْوَارِ الْبَشَرِ وَقَلْبِهِمْ لِلْحَقَائِقِ وَلَبْسِهِمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَعْجَبَ وَأَغْرَبَ مِنْ وُجُودِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الْأَرْضِ! دِيَانَةٌ بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمَعْقُولِ، جَعَلُوهَا دِيَانَةً وَثَنِيَّةً بِتَثْلِيثٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ، أَخَذُوهُ مِنْ تَثْلِيثِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ الْمُقْتَبَسِ مِنْ تَثْلِيثِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَرَاهِمَةِ اقْتِبَاسًا مُشَوَّهًا. دِيَانَةُ شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، نَسَخُوا شَرِيعَتَهَا بِرُمَّتِهَا وَأَبْطَلُوهَا، وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا بِدَعًا وَتَقَالِيدَ غَرِيبَةً عَنْهَا. دِيَانَةُ زُهْدٍ وَتَوَاضُعٍ وَتَقَشُّفٍ وَإِيثَارٍ وَعُبُودِيَّةٍ، جَعَلُوهَا دِيَانَةَ طَمَعٍ وَجَشَعٍ وَكِبْرِيَاءٍ وَتَرَفٍ وَأَثَرَةٍ وَاسْتِعْبَادٍ لِلْبَشَرِ. دِيَانَةٌ أُصُولُهَا الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ

الْأُولَى، لَمْ تَرِدْ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَقِيدَتِهَا عَنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ جَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دِيَانَةٌ نَسَبُوهَا إِلَى الْمَسِيحِ، عليه السلام، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ نَصٌّ مِنْ كَلَامِهِ فِي أُصُولِ عَقِيدَتِهَا الَّتِي هِيَ التَّثْلِيثُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ

ص: 77

عِنْدَهُمْ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَإِبْطَالِ التَّثْلِيثِ، وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْآبِ وَالِابْنِ الَّذِي أُطْلِقَ لَفْظُهُ مَجَازًا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَبْرَارِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْأَكْثَرِ بِابْنِ الْإِنْسَانِ.

لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ النُّصُوصِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِلَّا مَا رَوَاهُ يُوحَنَّا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ لَكَفَى، وَهُوَ قَوْلُهُ، عليه السلام:(3 وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) فَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْإِلَهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ رَسُولُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسَ عَقِيدَتِهِمْ، يُرَدُّ إِلَيْهِ كُلُّ مَا يُوهِمُ خِلَافَهُ، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ، لِأَجْلِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ.

وَنَقَلَ مُرْقُسُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّ أَحَدَ الْكَتَبَةِ سَأَلَهُ عَنْ أَوَّلِ الْوَصَايَا قَالَ: فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: أَوَّلُ الْوَصَايَا: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. إِلَخْ. . . 32 فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: جَيِّدًا يَا مُعْلِمُ بِالْحَقِّ قُلْتَ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. . . 34 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ) فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ هُوَ الْعَقِيدَةُ الْمَعْقُولَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ عَلَى ظَاهِرِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَرَدَ مَا يُنَافِيهَا، وَجَبَ رَدُّهُ أَوْ إِرْجَاعُهُ إِلَيْهَا.

وَرَوَى يُوحَنَّا عَنْهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّهُ قَالَ: (28 اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ) وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ رِسَالَةِ يُوحَنَّا الْأُولَى: (12 اللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ) وَفِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ رِسَالَةِ بُولِسَ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ تيِمُوثَاوِسْ: (16 لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ) وَقَدْ رَأَى النَّاسُ الْمَسِيحَ وَالرُّوحَ الْقُدُسَ.

وَرَوَى مُرْقُسُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّاعَةِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا نَصُّهُ: (32 وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الِابْنُ إِلَّا الْآبُ) فَلَوْ كَانَ الِابْنُ عَيْنَ الْآبِ لَكَانَ يَعْلَمُ

كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الْآبُ، وَقَوْلُهُ، عليه السلام، فِي الْقِيَامَةِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ خِطَابًا لِخَاتَمِ رُسُلِهِ، صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّمَا عَلَمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ (7: 187) .

وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَقْبَلُونَ نُصُوصَ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا لَأَتَيْنَاهُمْ بِشَوَاهِدَ مِنْهُ عَلَى التَّوْحِيدِ مُؤَيَّدَةً بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ عَنْ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ بِدْعًا فِيهِمْ، وَنَاهِيكَ بِالْفَصْلِ الرَّابِعِ وَالسِّتِّينَ مِنْهُ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْمَسِيحُ بِمَا آتَى اللهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ لَا تُنَافِي الْبَشَرِيَّةَ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِالْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالتِّسْعِينَ الَّذِي يَحْتَجُّ فِيهِ بِأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِكَلِمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَرَى وَلَا يُرَى، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَسِّدٍ وَغَيْرُ مُرَكَّبٍ وَغَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَنَامُ، ثُمَّ قَالَ:

ص: 78

(19 فَإِنِّي بَشَرٌ مَنْظُورٌ، وَكُتْلَةٌ مِنْ طِينٍ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَفَانٍ كَسَائِرِ الْبَشَرِ 20، وَإِنَّهُ كَانَ لِي بِدَايَةٌ، وَسَيَكُونُ لِي نِهَايَةٌ، وَإِنِّي لَا أَقْتَدِرُ أَنْ أَبْتَدِعَ خَلْقَ ذُبَابَةٍ) .

وَحَسْبُنَا مَا كَتَبْنَاهُ هُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ الْآنَ، وَسَنُبْقِي بَقِيَّةَ مَبَاحِثِهَا إِلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ الِاسْتِنْكَافُ: الِامْتِنَاعُ عَنِ الشَّيْءِ أَنَفَةً وَانْقِبَاضًا مِنْهُ، قِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ نَكَفَ الدَّمْعَ: إِذَا نَحَّاهُ عَنْ خَدِّهِ بِأُصْبُعِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ، وَنَكَفَ مِنْهُ: أَنِفَ، وَأَنْكَفَهُ عَنْهُ: بَرَّأَهُ، وَالْمَعْنَى: لَنْ يَأْنَفَ الْمَسِيحُ، وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَلَا هُوَ بِالَّذِي يَتَرَفَّعُ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَمِ خَلْقِ اللهِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ مَنْ خَلْقِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالشُّكْرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَفَاضَلُونَ بِهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ أَوْ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ لَا يَسْتَنْكِفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، (كُلُّ تَقْدِيرٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ صَحِيحٌ يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ) عَلَى أَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنَ الْمَسِيحِ خَلْقًا وَأَفْعَالًا، وَمِنْهُمْ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ، عليه السلام، الَّذِي بِنَفْخَةٍ مِنْهُ خُلِقَ الْمَسِيحُ، وَبِتَأْيِيدِ اللهِ إِيَّاهُ بِهِ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، وَلَوْلَا نَفْخَتُهُ وَتَأْيِيدُهُ لَمَا كَانَ لِلْمَسِيحِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.

وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَجُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا

جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ فَيُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَوَجْهُ التَّفْضِيلِ أَنَّ السِّيَاقَ فِي رَدِّ غُلُوِّ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ ; إِذِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَرَفَعُوهُ عَنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَالْبَلَاغَةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَقْتَضِي التَّرَقِّيَ فِي الرَّدِّ مِنَ الرَّفِيعِ إِلَى الْأَرْفَعِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا التَّقِيَّ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ تَقْبِيلِ يَدِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْأَمِيرُ. فَإِذَا بَدَأْتَ بِذِكْرِ الْأَمِيرِ لَمْ يَعُدْ لِذِكْرِ الْوَزِيرِ مَزِيَّةٌ وَلَا فَائِدَةٌ، بَلْ يَكُونُ لَغْوًا ; لِأَنَّهُ يَنْدَمِجُ فِي الْأَوَّلِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ فَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَكَانَ آخَرُ شَوْطِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنْ جَعَلَ غَايَةَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا كُلِّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى الْكَشَّافِ بِرَدِّ طَرِيقَةِ التَّرَقِّي وَالتَّفَصِّي مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ عَادَ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ نَفْسِهِ، وَجَزَمَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِظَمِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ الرَّدَّ عَلَى مَنِ اسْتَكْبَرُوا خَلْقَ الْمَسِيحِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَصُدُورَ بَعْضِ الْآيَاتِ عَنْهُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا، وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَيَعْمَلُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ الْمَسِيحِ ; فَهُمْ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُنْصِفُ يَرَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا مِنَ الرَّجْمِ

ص: 79

بِالْغَيْبِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَا نَصَّ، وَلَيْسَ لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَائِدَةٌ فِي إِيمَانٍ وَلَا عَمَلٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوْسِيعِ مَسَافَةِ التَّفَرُّقِ بِالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ.

وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ الِاسْتِكْبَارُ: أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ كَبِيرَةً فَوْقَ مَا هِيَ؛ غُرُورًا وَإِعْجَابًا، فَيَحْمِلُهَا بِذَلِكَ عَلَى غَمْطِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ كَانَ لِلَّهِ أَوْ لِخَلْقِهِ وَعَلَى احْتِقَارِ النَّاسِ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَمَنْ يَتَرَفَّعْ عَنْ عِبَادَتِهِ أَنَفَةً وَيَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَيَجْعَلْ نَفْسَهُ كَبِيرَةً فَيَرَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَا التَّلَبُّسَ بِهَا فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا أَيْ فَسَيَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَنْكِفِينَ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ لِلْجَزَاءِ، مُجْتَمِعِينَ مَعَ غَيْرِ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالْمُسْتَنْكِفِينَ، الَّذِينَ ذَكَرَ بَعْضَهُمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَحْشُرُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، كَمَا وَرَدَ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ عَمَلَهُمْ، كَمَا يَجْزِي غَيْرَهُمْ عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِهِ:

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يُعْطِيهِمْ أُجُورَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ وَافِيَةً تَامَّةً، كَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي النَّفْسِ، وَيَزِيدُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ وَجُودِهِ مِنْ عَشْرَةِ أَضْعَافٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمُضَاعَفَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا، كَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا ; لِأَنَّ الرَّحْمَةَ سَبَقَتِ الْغَضَبَ، فَهُوَ - تَعَالَى - يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَيُجَازِي الْمُسِيءَ بِالْعَدْلِ فَقَطْ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مَنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا أَيْ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَلِيًّا يَتَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُمْ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (82: 19) .

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْإِعْرَابِ فِي الْآيَةِ: إِفْرَادُ فِعْلِ يَسْتَنْكِفُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَجَمْعُ فِعْلِ فَسَيَحْشُرُهُمْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا ; فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ مُطَابَقَةِ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُفَصِّلِ الْمَذْكُورِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَهَا.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِ التَّفْصِيلَ لِلْمُجَازَاةِ لَا لِلْمَحْشُورِينَ الْمَجْزِيِّينَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمُطَابَقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَازِمٌ لِلْحَشْرِ ; فَبَيَّنَهُ عَقِبَهُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْبَيْضَاوِيُّ، وَرَدَّهُ السَّعْدُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ جَمَعَ الْإِمَامُ الْخَوَارِجَ، فَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِ كَسَاهُ وَحَمَلَهُ، أَيْ: أَعْطَاهُ مَا يَرْكَبُهُ، وَمَنْ خَرَجَ نَكَّلَ بِهِ. وَصِحَّةُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا: أَنْ يُحْذَفَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الثَّانِي، كَمَا حُذِفَ أَحَدُهُمَا فِي التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ عَقِيبَ هَذَا: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ.

ص: 80

وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِمَّا يَعُمُّهُمْ، فَكَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيُعَذَّبُ بِالْحَسْرَةِ إِذَا رَأَى أُجُورَ الْعَامِلِينَ، وَبِمَا يُصِيبُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ. اهـ.

أَقُولُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى حَشْرِ الْمُسْتَنْكِفِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَمِيعًا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَثَمَّ

وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْعَامِلِينَ بِصِيغَةِ مُبْتَدَأٍ، يَكُونُ خَبَرُهُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ أَوِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شَرْطًا كَمَا هُنَا، وَكَانَ جَزَاؤُهُ كَلَامًا عَامًّا يُشِيرُ إِلَى الْخَبَرِ إِشَارَةً ضِمْنِيَّةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (8: 49) وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (57: 24) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَالْمُرَادُ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ، فَسَيَجْزِيهِ إِذْ يَحْشُرُ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.

لَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ عَلَى النَّصَارَى وَفِيمَا قَبْلَهَا عَلَى الْيَهُودِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالنُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ، كَمَا قَامَتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيهَا وَفِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ ظُهُورَ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ; لِأَنَّ سُحُبَ الشُّبَهَاتِ قَدِ انْقَشَعَتْ بِالْحُجَجِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا كُلَّ الِانْقِشَاعِ - نَادَى اللهُ - تَعَالَى - النَّاسَ كَافَّةً وَدَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ بُرْهَانِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِالنُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَقَالَ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ قِبَلِ رَبِّكُمْ، بِفَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِتَرْبِيَتِكُمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِكُمْ، بُرْهَانٌ عَظِيمٌ أَوْ جَلِيٌّ يُبَيِّنُ لَكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ عز وجل، وَجَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، مُؤَيِّدًا لَكُمْ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْحِكَمِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْأُمِّيُّ، الَّذِي يَظْهَرُ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سِيرَتَهُ فِي نَشْأَتِهِ، وَتَرْبِيَتَهُ وَحَالَهُ فِي بَعْثَتِهِ، وَسُنَّتَهُ، أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانٌ عَلَى حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ: أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ قَطُّ، وَلَمْ يُعْنَ فِي طُفُولِيَّتِهِ، وَلَا فِي شَبَابِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ يُسَمَّى عِلْمًا عِنْدَ قَوْمِهِ الْأُمِّيِّينَ ; كَالشِّعْرِ وَالنَّسَبِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، قَامَ فِي كُهُولَتِهِ يُعَلِّمُ الْأُمِّيِّينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ حَقَائِقَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ،

ص: 81

وَصِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ،

وَمَا يَجِبُ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، وَمَا تَتَزَكَّى بِهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ، وَتَصْلُحُ بِهِ الْحَيَاةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَيَكْشِفُ مَا اشْتَبَهَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ، وَمَا اضْطَرَبَ فِيهِ نُظَّارُ الْفَلْسَفَةِ الْعُلْيَا مِنْ مَسَائِلِ فَلْسَفَتِهِمْ، وَيَرْفَعُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ عَلَى أَسَاسِ الْحُجَجِ الْكَوْنِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيَسْلُكُ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي بَيَانِ الشَّرَائِعِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْحِكْمَةِ الْأَدَبِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُسَمَّى هُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانًا.

وَهُوَ بُرْهَانٌ بِسِيرَتِهِ الْعَمَلِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ بُرْهَانٌ فِي دَعْوَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ نَشَأَ يَتِيمًا لَمْ يُعْنَ بِتَرْبِيَتِهِ عَالِمٌ وَلَا حَكِيمٌ وَلَا سِيَاسِيٌّ، بَلْ تُرِكَ كَمَا كَانَ وِلْدَانُ الْمُشْرِكِينَ يُتْرَكُونَ وَشَأْنُهُمْ، وَكَانَ فِي سِنِّ التَّعْلِيمِ وَتَكَوُّنِ الْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ يَرْعَى الْغَنَمَ نَهَارًا وَيَنَامُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَلَا يَحْضُرُ سُمَّارَ قَوْمِهِ (مَوَاضِعَ السَّمَرِ فِي اللَّيْلِ) وَلَا مَعَاهِدَ لَهْوِهِمْ، وَاتَّجَرَ قَلِيلًا فِي شَبَابِهِ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَتْرَابِهِ، فَهُوَ لَمْ يُصَادِفْ مِنَ التَّرْبِيَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، مَا يُؤَهِّلُهُ لِلْمَنْصِبِ الَّذِي تَصَدَّى لَهُ فِي كُهُولَتِهِ، وَهُوَ تَرْبِيَةُ الْأُمَمِ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً اجْتِمَاعِيَّةً سِيَاسِيَّةً حَرْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ قَامَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ أَكْمَلَ قِيَامٍ، وَمَا زَالَ يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِ مَا قَامَ بِهِ مَنْ يَسْتَعِدُّونَ لَهُ بِالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، فَكَانَ بِهَذَا بُرْهَانًا عَلَى عِنَايَةِ اللهِ بِهِ، وَتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُ بِوَحْيِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، عز وجل:

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ كِتَابًا مِنْ لَدُنَّا هُوَ كَالنُّورِ، بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، مُبَيِّنٌ لِكُلِّ مَا أُنْزِلَ لِبَيَانِهِ، تَنْجَلِي لَكُمُ الْحَقَائِقُ بِبَلَاغَتِهِ وَأَسَالِيبِ بَيَانِهِ، بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا مَنْ تَدَبَّرَهُ وَعَقَلَ مَعَانِيَهُ، بَلْ تَثْبُتُ فِي عَقْلِهِ، وَتُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ، وَتَكُونُ هِيَ الْحَاكِمَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُصْلِحَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ.

مِثَالُ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، هُوَ أَثْبَتُ الْحَقَائِقِ، وَأَعْلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَأَفْضَلُ مَا تَتَزَكَّى بِهِ النُّفُوسُ وَتَتَرَقَّى بِهِ الْعُقُولُ، وَقَدْ بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدْعُو أُمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَسْتَجِيبُ النَّاسُ لَهُمْ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِفَهْمِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعُلْيَا، ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُشَوِّهُوهَا بَعْدَهُمْ بِالشِّرْكِ وَضُرُوبِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي تَطْمِسُ الْعُقُولَ وَتُدَنِّسُ النُّفُوسَ، وَتَهْبِطُ بِالْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ أَوَجِ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ أَهْلًا لَهَا، إِلَى الْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ بِالْخُضُوعِ

وَالْخُنُوعِ وَالِاسْتِخْذَاءِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوْ مِنْ أَجْنَاسٍ أُخْرَى، فَضَّلَ اللهُ جِنْسَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَقْرَبُ الْأُمَمِ التَّارِيخِيَّةِ عَهْدًا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكَانُوا عَلَى نِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ لَا يَزَالُونَ يَحْفَظُونَ بَعْضَ وَصَايَا رُسُلِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا إِذْ يُلْبِسُونَهَا بِالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ كَاتِّخَاذِ الْمَسِيحِ إِلَهًا، بَلِ اتِّخَاذِ مَنْ دُونَهُ مِنْ مُقَدَّسِيهِمْ آلِهَةً أَوْ أَنْصَافَ آلِهَةٍ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ وُسَطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ فِي كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ

ص: 82

وَبِالشَّرَكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّخَاذِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُشَرِّعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ فَيَتْبَعُونَهُمْ.

هَكَذَا كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي عَهْدِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَتْبَعُونَ أُنَاسًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ وَمُقَدَّسِيهِمْ فِي عَقَائِدَ وَآدَابٍ وَشَرَائِعَ مَشُوبَةٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْمُنَزَّلِ، كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي أُمُورِ الدِّينِ الْخَالِصِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَسَائِرِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ يَسْتَقِلُّونَ بِمَعْرِفَةِ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ لَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُبَيِّنِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام، وَلَوْ صَدَقُوا لَمَا صَارَ دِينُهُمْ فِي شَكْلٍ غَيْرِ مَا كَانَا عَلَيْهِ هُمَا، وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا فِي زَمَنِهِمَا، بِحَيْثُ لَوْ بُعِثَا ثَانِيَةً لَأَنْكَرَا كُلَّ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَدْعِيَاءُ أَوْ أَكْثَرَهُ. وَإِذَا كَانَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِدِينِهِمَا وَهُوَ التَّوْحِيدُ قَدْ زُلْزِلَ عِنْدَ الْيَهُودِ، وَزَالَ مِنْ عِنْدِ النَّصَارَى فَكَيْفَ يَكُونُ دِينُهُمَا هُوَ دِينَ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام؟ ! هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَقْرَبُ النَّاسِ عَهْدًا بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ؟ فَمَا الَّذِي فَعَلَهُ الْقُرْآنُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؟

لَوْ لَمْ يَجِئْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ بِغَيْرِ عُنْوَانِهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لَمَا كَانَ كِتَابُهُ نُورًا مُبِينًا لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ كَالْهُنُودِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُصَرِّحُ بِمِثْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عِنْدَنَا أَوْ بِهَا نَفْسِهَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ مُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْبَشَرِ أَوِ الْحَيَوَانِ أَوِ الْجَمَادِ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ بِصِفَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، غَيْرِ دَاخِلَةٍ فِي سِلْسِلَةِ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَيَتَوَجَّهُونَ

إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُعْتَقَدَةِ تَوَجُّهَ الْعِبَادَةِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ فِي بَيَانِ الدَّيْنِ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ إِلَى مَا يَضَعُهُ لَهُمْ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ - أَيْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ - أَوْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ النَّظَرِ التَّقْلِيدِيِّ فِيهِ لِدَعْمِهِ بِهِ، وَإِرْجَاعِهِ إِلَيْهِ.

فَلَمَّا كَانَتِ الْوَثَنِيَّةُ قَدْ تَغَلْغَلَتْ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ الْمَأْثُورَةِ وَأَفْسَدَتْهَا عَلَى أَهْلِهَا، فَقَلَّدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا وَرِثُوهُ مِنْهَا، أَنْزَلَ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ هَذَا النُّورَ الْمُبِينَ - الْقُرْآنَ - فَكَانَ أَشَدَّ إِبَانَةً لِدَقَائِقِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَخَفَايَاهَا مِنْ نُورِ الْكَهْرَبَاءِ الْمُتَأَلِّقِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي نَرَى فِيهِ السِّرَاجَ الْوَاحِدَ فِي قُوَّةِ مِئَاتٍ أَوْ أُلُوفٍ مِنْ نُورِ الشَّمْعِ، فَبَيَّنَ لِمَنْ يَفْهَمُ لُغَتَهُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ الْمَادِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَضُرُوبِ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّجَارِبِ، وَكَشْفِ مَا رَانَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مِنْ شُبُهَاتِ الْمُضِلِّينَ وَأَوْهَامِ الضَّالِّينَ، الَّتِي مَزَجَتْهَا بِالشِّرْكِ مَزْجًا جَمَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ - بَلِ النَّقِيضَيْنِ - جَمْعًا، وَلَوَّنَ أَسَالِيبَ الْكَلَامِ فِيهَا، وَنَوَّعَهُ لِتَتَقَبَّلَ النَّفْسُ تَكْرَارَهُ بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَلَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ تَرْتِيلِ آيَاتِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَلَلِ.

ص: 83

فَكَانَ بَيَانُهُ فِي تَشْيِيدِ صَرْحِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَقْوِيضِ بِنَاءِ الْوَثَنِيَّةِ بَيَانًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي كَمَالِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي كِتَابٍ بَشَرِيٍّ وَلَا إِلَهِيٍّ.

إِلَّا أَنَّ إِدْرَاكَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعُلْيَا وَالْإِحَاطَةَ بِهَا، وَالْعِلْمَ بِمَا كَانَ مِنْ ضُرُوبِ الشُّبُهَاتِ عَلَيْهَا، وَالْأَبَاطِيلِ الْمُتَخَلِّلَةِ فِيهَا، وَبِمَا لَهَا مِنَ التَّمَكُّنِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا امْتِلَاخُهَا وَانْتِزَاعُهَا مِنْ فُنُونِ الْبَيَانِ، بِحَسْبَ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَحْوِيلِ الْأُمَمِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَّفِقَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْعِلْمِ، وَلَا عَاشَرَ أَحَدًا عَارِفًا بِهِمَا، كَيْفَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فَوْقَ عُلُومِ الَّذِينَ صَرَفُوا كُلَّ حَيَاتِهِمْ فِي الدَّرْسِ وَالْقِرَاءَةِ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْبَيَانَ الْأَكْمَلَ لِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَاجْتِثَاثِ جُذُورِ الْوَثَنِيَّةِ، الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا - لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَعْهُودًا مِنَ الْحُكَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَلَا مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، دَعْ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ أَوِ الْمُتَعَلِّمِينَ ; لِهَذَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ اللهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنْزِلَ لِهَذَا النُّورِ الْمُبِينِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ

لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (26: 192 - 195) .

فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا قُلْنَاهُ بِإِنْصَافٍ ظَهَرَ لَهُ بِهِ عَلَى اخْتِصَارِهِ: أَنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَفْسُهُ بُرْهَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى - أَيْ حُجَّةً قَطْعِيَّةً - عَلَى حَقِّيَةِ دِينِهِ، وَأَنَّ كِتَابَهُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ أُنْزِلَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِعِلْمِهِ الْكَسْبِيِّ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ نُورًا مُبِينًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، لِيَرَوْا بِتَدْبِيرِهِ حَقِيقَةَ دِينِ اللهِ الَّذِي يُسْعِدُونَ بِهِ حَيَاتَهُمُ الدُّنْيَا، وَيَنَالُونَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ; وَلِذَلِكَ قَالَ:

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ الِاعْتِصَامُ: الْأَخْذُ وَالتَّمَسُّكُ بِمَا يَعْصِمُ وَيَحْفَظُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِصَامِ، وَهُوَ: الْحَبَلُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الْقِرْبَةُ وَالْإِدَاوَةُ لِتُحْمَلَ بِهِ، وَالْأَعْصَمُ: الْوَعْلُ يَعْتَصِمُ فِي شِعَافِ الْجِبَالِ وَقِنَنِهَا، فَالَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ يُدْخِلُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لَا يُدْخِلُ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَفَضْلٍ خَاصٍّ لَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ تَنْكِيرُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَرَحْمَةُ اللهِ وَفَضْلُهُ غَيْرُ مَحْصُورَيْنِ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَصُّ مَنْ يَشَاءُ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِهِمَا، وَقَدْ فُسِّرَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا بِالْجَنَّةِ، وَالْفَضْلُ بِمَا يَزِيدُ اللهُ بِهِ أَهْلَهَا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْجَزَاءِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ جَزَاءً وَزِيَادَةً، فَيَشْمَلَا مَا يَكُونُ لِأَهْلِ الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الدُّنْيَا، إِذْ يَكُونُونَ رَحْمَةً لِلنَّاسِ بِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ، يُرْحَمُ النَّاسُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ رُحَمَاءَ بِالنَّاسِ، تَحْمِلُهُمْ رَحْمَتُهُمْ عَلَى

ص: 84

السَّعْيِ لِخَيْرِ النَّاسِ، وَبَذْلِ فَضْلِهِمْ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَمَالٍ لَهُمْ، فَيَكُونُونَ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ بِرَحْمَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ.

وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أَيْ: وَيَهْدِيهِمْ - تَعَالَى - هِدَايَةً خَاصَّةً مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أَيْ طَرِيقًا قَوِيمًا قَرِيبًا يَبْلُغُونَ بِهِ الْغَايَةَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِالسِّيَادَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْكَمَالِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِالْجَنَّةِ وَالرِّضْوَانِ، فَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَيَا خَسَارَةَ الْمُعْرِضِينَ، وَيَا طُوبَى لِلْمُعْتَصِمِينَ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُ اللهِ لِلصَّادِقِينَ، فَفَازَ مَنِ اعْتَصَمَ مِنَ

الْأَوَّلِينَ، وَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ الْآخِرِينَ، فَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ بِذَلِكَ الْمُنْتَمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَى هَذَا الدِّينِ.

وَقَدْ سَكَتَ عَنِ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْمُقَابِلِ لِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَصِمِينَ؛ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَلِلْإِيذَانِ وَتَأَلُّقِ نُورِ الْبَيَانِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ، وَإِنْ وُجِدَ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لِأَنَّهُ كَالْعَدَمِ.

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ، فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةً فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ.

وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ هُنَا لِلتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى عِنْدَ كَثِيرِينَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَيْتُ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثِ؟ قَالَ:" أَحْسِنْ " قُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: " أَحْسِنْ " ثُمَّ خَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ:" إِنِّي لَا أَرَاكَ تَمُوتُ فِي وَجَعِكَ هَذَا، إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ وَبَيَّنَ مَا لِأَخَوَاتِكَ وَهُوَ الثُّلْثَانِ " فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ.

وَأَخْرَجَ الْعَدَنِيُّ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ

ص: 85

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ بِحُذَيْفَةَ فَلَقَّاهَا إِيَّاهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ نَظَرَ عُمَرُ فِي الْكَلَالَةِ فَدَعَا حُذَيْفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَقَّيْتُكَ كَمَا لَقَّانِي، وَاللهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَبَدًا.

أَقُولُ: وَيُفَسِّرُ قَوْلَهُ " فَلَقَّيْتُكَ كَمَا لَقَّانِي " مَا رَوَاهُ

عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَبَلَّغَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُذَيْفَةَ، وَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةَ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: وَاللهِ إِنَّكَ لَعَاجِزٌ إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ إِمَارَتَكَ تَحْمِلُنِي عَلَى أَنْ أُحَدِّثَكَ مَا لَمْ أُحَدِّثْكَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا، رَحِمَكَ اللهُ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص 245 - 348 مِنْ مَطْبُوعِ الْهَيْئَةِ) مَعْنَى الْكَلَالَةِ، وَاشْتِبَاهَ عُمَرَ رضي الله عنه فِيهَا، وَسُؤَالَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا بِنَفْسِهِ، وَبِوَاسِطَةِ بِنْتِهِ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ عَنِ الْكَلَالَةِ فَلَمْ يَفْهَمْهَا، فَكَلَّفَ حَفْصَةَ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا عِنْدَ مَا تَرَاهُ طَيِّبَةً نَفْسُهُ، وَرَوَى مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ:" مَا سَأَلْتُ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ " وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مِثْلَهُ، وَزَادَ: " فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا فَوَرَثَتْهُ كَلَالَةٌ " وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مَوْصُولًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْزَلَ اللهُ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ، لَا يَكَادُ يَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ظَاهِرِهَا، ثُمَّ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ، وَهِيَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ مَا لَيْسَ فِي آيَةِ الشِّتَاءِ، فَأَحَالَ السَّائِلَ عَلَيْهَا ; لِيَتَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا. اهـ.

أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ بَعْدَ بَيَانِ إِرْثِ الْوَالِدَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ يَحُلُّونَ مَحَلَّهَا عِنْدَ فَقْدِهَا، فَيَأْخُذُونَ مَا كَانَتْ تَأْخُذُهُ، ثُمَّ عَرَضَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ إِخْوَةِ الْعَصَبِ عِنْدَ مَرَضِ جَابِرٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمَا وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّفَرِ غَلَطٌ، سَبَبُهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ لَمَّا تَلَقَّاهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ

أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَظُنُّ الصَّحَابِيُّ

ص: 86

عِنْدَ سَمَاعِهِ الْآيَةَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ حَادِثَةٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَتَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَنْ عَلِمَ هَذَا سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنَ الْغَلَطِ عَلَى الْغَلَطِ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ السَّفَرَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هُوَ سَفَرُ حُجَّةِ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ حُجَّةُ الْوَدَاعِ فِي الشِّتَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَرِوَايَةُ نُزُولِهَا بِسَبَبِ سُؤَالِ عُمَرَ لَا تَصِحُّ.

ثُمَّ إِنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَهُ مَثَارٌ مِنَ اللُّغَةِ وَمَجَالٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْلَ الْكَلَالَةِ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّسَبِ لِحًا ; أَيْ لَاصِقًا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: مَا عَدَا الْوَلَدَ فَقَطْ، وَقِيلَ: الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِهِ: وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ، وَقِيلَ: الْكَلَالَةُ مِنَ الْعَصَبَةِ مَنْ وَرِثَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ. وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي يَرِثُهُ مَنْ ذُكِرَ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الْوَرَثَةِ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ، وَقِيلَ: عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُرَجِّحُ الْقَرِينَةُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لُغَةً الَّذِي يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ النُّصُوصِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مِنَ الْمَوْرُوثِينَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ الْحَقُّ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو دَاوُدَ وَوَصَلَهُ الْحَاكِمُ، وَلَعَلَّهُ لَوْ بَلَغَهُمْ كُلَّهُمْ لَزَالَ بِهِ كُلُّ خِلَافٍ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ مَجَالُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى الَّتِي ذُكِرَتْ بَيْنَ آيَاتِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ لَمْ تُفَسِّرِ الْكَلَالَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ إِرْثَ كَلَالَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ فِيهَا الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتْ فَرْضَ أَخَوَاتِ الْعَصَبِ كَلَالَةً، وَاشْتَرَطَتْ فِيهِ عَدَمَ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ كُلَّهَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى إِرْثَ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ إِرْثَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَمَعَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ إِرْثَ الْأَزْوَاجِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُدْلُونَ إِلَى مَنْ يَرِثُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ يَرِثُ بِالْوَاسِطَةِ، فَيُعَدُّ كَلَالَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ جَاءَ

بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (4: 12) وَمَعْنَى يُورَثُ كَلَالَةً: يَمُوتُ فَيَرِثُهُ مَنْ يَرِثُهُ مِنْ أَهْلِهِ إِرْثَ كَلَالَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ - أَيِ الْمَيِّتِ - كَلَالَةً ; أَيْ: لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ هَذَا مِنَ اللُّغَةِ لَعُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ إِرْثِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْكَلَالَةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِهِمَا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَلَّا يَكُونَ لَهُ زَوْجٌ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْكَلَالَةَ عَلَى النَّسَبِ دُونَ الصِّهْرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْقَرِينَةُ قَاضِيَةً بِأَنْ يُقَالَ:

ص: 87

إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ هُنَا مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَلَا زَوْجٌ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ يَرِثُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَقَدْ ذُكِرَ فَرْضُهُ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَبْلَ ذِكْرِ الْكَلَالَةِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ أَصْحَابُ فَرْضٍ فِي الْكَلَالَةِ، وَأَنَّ فَرْضَهُمْ هُوَ فَرْضُ الْأُمِّ الَّتِي حَلُّوا مَحَلَّهَا فِي الْإِرْثِ، وَهُوَ مِنَ الْقَرَائِنِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ، وَبَقِيَ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعًا أَوْ مِنَ الْأَبِ فَقَطْ مَسْكُوتًا عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهُ فَرْضٌ مِنَ الْأَقَارِبِ يَحُوزُ مَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ إِنْ كَانَ عَصَبَةً، عَلَى قَاعِدَةِ:(أَخْذِ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وَقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَقْرَبِ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ. فَلَمَّا مَرِضَ جَابِرٌ وَلَهُ أَخَوَاتٌ مِنْ عَصَبَتِهِ، أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ لَهُنَّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُنَّ فَرْضٌ وَهُوَ كَلَالَةٌ، وَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تُوَرِّثُ الْإِنَاثَ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الْفَتْوَى فِي الْكَلَالَةِ، فَجَعَلَ لَهُنَّ فِيهَا فَرْضًا، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ; إِذْ نَفَتِ الْوَلَدَ، وَلَمْ تَنْفِ الْوَالِدَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَالْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ كَتَبَ رَأْيَهُ فِي لَوْحٍ وَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللهَ مُدَّةً فِيهِ، يَقُولُ: اللهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ. حَتَّى إِذَا طُعِنَ دَعَا بِالْكِتَابِ فَمُحِيَ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِمَا، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَتَى عُمَرَ حِينَ طُعِنَ فَقَالَ: " احْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَلَّا يُدْرِكَنِي النَّاسُ، أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ، وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي عَتِيقٌ " وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَنْكَرَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدٌ لَهُ وَلَا وَالِدٌ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ.

وَهَهُنَا عِبْرَةٌ يَجِبُ تَدَبُّرُهَا، وَهِيَ أَنَّنِي لَمْ أَرَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ رضي الله عنه أَغْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا أَدَلَّ مِنْهَا عَلَى قُوَّةِ دِينِهِ، وَإِيمَانِهِ بِالْقُرْآنِ، وَحِرْصِهِ عَلَى بَيَانِ كُلِّ حُكْمٍ مِنَ الشَّرْعِ بِدَلِيلِهِ، وَوُقُوفِهِ إِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ الْحُجَّةُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ فَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً عَنِ الْكَلَالَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ، وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَأَنْ أَعْلَمَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ شَيْءٍ، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" أَلَمْ تَسْمَعِ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ؟ " فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَالظَّاهِرُ - إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ - أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْكَامَ الْكَلَالَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَيَسْأَلُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ سُؤَالًا مُطْلَقًا مُبْهَمًا، لَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ مِنْهُ، فَيَذْكُرُ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا يَزِيدُهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ شَيْئًا، فَكَبُرَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي نَفْسِهِ، وَصَارَتْ إِذَا ذُكِرَتْ تَهُولُهُ، وَتُحْدِثُ فِي نَفْسِهِ اضْطِرَابًا، فَلَا يَتَجَرَّأُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ

ص: 88

اجْتِهَادَهُ وَرَأْيَهُ فِي فَهْمِهَا. وَقَدْ عَهِدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَعْجِزُوا عَنْ تَصَوُّرِ بَعْضِ الْأُمُورِ ; كَبَعْضِ أَرْقَامِ الْحِسَابِ مَثَلًا، وَيَكُونُ تَصَوُّرُهُمْ وَإِدْرَاكُهُمْ لِكُلِّ مَا عَدَا ذَلِكَ صَحِيحًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَا تَخَافُهُ النَّفْسُ، وَيَضْطَرِبُ لَهُ الْعَصَبُ، كَالْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا مَنْ يُقَدِّمُونَ اجْتِهَادَهُمْ أَوِ اجْتِهَادَ شُيُوخِهِمْ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ كِتَابَ اللهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْكَلَالَةَ مِنَ الْوَارِثِينَ مَنْ كَلَّ وَأَعْيَا عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَيِّتِ الْمَوْرُوثِ بِنَفْسِهِ ; فَهُوَ يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ مَنْ يَتَّصِلُ نَسَبُهُ بِهِ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا النَّسَبُ الْمُتَّصِلُ بِالذَّاتِ - الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمَا عَلَا مِنَ الْأُصُولِ وَسَفُلَ مِنَ الْفُرُوعِ - هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ، فَلَا يَكُونُ كَلَالَةً ; فَالْكَلَالَةً مِنَ الْوَارِثِينَ إذًا هُمُ الْحَوَاشِي الَّذِينَ يُدْلُونَ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةِ الْأَبَوَيْنِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا مِنَ الْأَطْرَافِ، وَالْكَلَالَةُ مِنَ الْمَوْرُوثِينَ هُوَ الَّذِي يَرِثُهُ غَيْرُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَهَذَا مَا كَانَ يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ ; لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا صِحَّةَ لِغَيْرِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ بَعْضُهُمْ إِلَّا لِنَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُمْ عَهِدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَالٍ مِنَ الْعَبَثِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فِي ذِكْرِ مَا يُثْبِتُهُ وَتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، وَهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ حَفِظُوا هَذَا الْقُرْآنَ أَكْمَلَ حِفْظٍ وَأَتَمَّهُ،

فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ نَسُوا أَوْ تَرَكُوا ذِكْرَ نَفْيِ الْوَالِدِ مَعَ نَفْيِ الْوَلَدِ فِي الْآيَةِ ; وَلِهَذَا أَغْلَظَ حُذَيْفَةُ الرَّدَّ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ، لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ ; إِذْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا شَيْئًا بِرَأْيِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَحَلُّ الْإِشْكَالِ هُوَ نُكْتَةَ نَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ نَفْيِ الْوَالِدِ فِي الْآيَةِ، وَإِلَيْكَ تَفْسِيرُهَا مُتَضَمِّنًا لِهَذِهِ النُّكْتَةِ:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ أَيْ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْفُتْيَا فِي مَنْ يُورَثُ كَلَالَةً ; كَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَلَهُ أَخَوَاتٌ مَنْ عَصَبَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُفْرَضْ لَهُنَّ شَيْءٌ فِي التَّرِكَةِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا فُرِضَ لِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَالثُّلُثُ لِمَا زَادَ عَنِ الْوَاحِدِ، شُرَكَاءَ فِيهِ مَهْمَا كَثُرُوا ; لِأَنَّهُ سَهْمُ أُمِّهِمْ لَيْسَ لَهَا سِوَاهُ، فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللهَ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الَّتِي سَأَلْتُمْ عَنْهَا بِقَوْلِهِ:

إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ، فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ هَلَكَ: مَاتَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ مُنْذُ قُرُونٍ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّحْقِيرِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ مُطْلَقًا، بِقَوْلِهِ عَنْ يُوسُفَ عليه السلام حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا (40: 34) وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ صِفَةٌ (امْرُؤٌ) أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (هَلَكَ) وَالْمَعْنَى: إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ عَادِمٌ لِلْوَلَدِ، أَوْ غَيْرُ ذِي وَلَدٍ، وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ أُخْتًا مِنْ أَبَوَيْهِ مَعًا أَوْ مِنْ أَبِيهِ فَقَطْ، فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ.

وَالنُّكْتَةُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ، تَظْهَرُ بِوُجُوهٍ:(1) أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْكَلَالَةِ لُغَةً.

(2)

أَنَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ عَنْ تَرِكَةٍ، بَعْدَ مَوْتِ وَالِدَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَالَ

ص: 89

الَّذِي يَتْرُكُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وِرَثَهُ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اكْتَسَبَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَسْبُ فِي سِنِّ الشَّبَابِ وَالْكُهُولَةِ وَيَقِلُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَقَاءُ الْوَالِدَيْنِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِي الذِّكْرِ إِيجَازًا (3) وَهُوَ الْعُمْدَةُ أَنَّ عَدَمَ إِرْثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْوَالِدِ الَّذِي يُدْلُونَ بِهِ قَدْ عُلِمَ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ الَّتِي أُنْزِلَتْ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ فِي بَيَانِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَعُلِمَ أَيْضًا مِنَ الْقَاعِدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْإِرْثِ أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمِنْ قَاعِدَةِ حَجْبِ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ، قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ الْأُولَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (4: 11) ; أَيْ: وَالْبَاقِي - وَهُوَ

الثُّلْثَانِ - لِأَبِيهِ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (4: 11) لِأَنَّ أَوْلَادَهَا يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ ; فَيَكُونُ ثُلُثُهَا سُدُسًا، وَالسُّدُسُ الْآخَرُ يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاقِيَ كُلَّهُ لِلْأَبِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ وُجُودَهُمَا يُنْقِصُ فَرْضَهَا، وَلَمْ تَفْرِضْ لَهُمْ شَيْئًا، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ لَيْسَ لَهُمْ فَرْضٌ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ حَجْبَ حِرْمَانٍ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى أَخِيهِمْ إِلَّا بِهِ، وَمَا يَتْرُكُهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَغَيْرِهِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ ; فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْأَبِ فَائِدَةٌ فَتُرِكَ إِيجَازًا ; لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ لَفْظِ الْكَلَالَةِ وَمِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَالْقَوَاعِدِ الثَّابِتَةِ، وَكَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَبْنِيِّ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَالْمُبَيِّنُ لَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَلَيْسَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نَفْيِ الْوَالِدِ هُنَا مَعَ إِرَادَتِهِ، إِلَّا مِثْلَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَرْضُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دِينٍ، كُلٌّ مِنْهُمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، فَاسْتُغْنِيَ عَنْ إِعَادَةِ ذِكْرِهِ، بَلْ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذِكْرِ نَفْيِ الْوَالِدِ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ مِنَ اللَّفْظِ، وَكَوْنِ الْغَالِبِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، وَكَوْنِهِ إِنْ وُجِدَ يَكُونُ حَجْبُهُ لِأَوْلَادِهِ مَعْلُومًا قَطْعِيًّا ; لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ وَمَقِيسٌ، وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَرَّرْتُ بَعْضَ الْمَعَانِي ; لِاضْطِرَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْكَلَالَةِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَيَانٍ تَامٍّ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَبَيْنَ عِبَارَةِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَلَدِ هُنَا هَلْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَيَشْمَلُ الْبِنْتَ، أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالِابْنِ، كَمَا يُطْلَقُ أَحْيَانًا، وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأُخْتَ لَا تَرِثُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ فَتَرِثُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى هُنَا لَمْ يَرَ إِرْثَ الْأُخْتِ مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ مَانِعًا مِنِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ وُجُودِ الْبِنْتِ، لِإِرْثِهَا النِّصْفَ فَرْضًا ; لِأَنَّ الْفَرْضَ الثَّابِتَ لَهَا هُنَا - وَهُوَ النِّصْفُ - يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ وُجُودِ الْبِنْتِ، فَإِنَّهَا إِذَا وُجِدَتْ تَجْعَلُهَا عَصَبَةً تَرِثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَخْذِ كُلِّ ذِي فَرْضٍ حَقَّهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْبَاقِي النِّصْفَ، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَارِثٌ إِلَّا الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ كَانَ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ فَرْضًا، وَالْبَاقِي وَهُوَ

ص: 90

النِّصْفُ لِلْأُخْتِ

تَعْصِيبًا لَا فَرْضًا، فَلَا يُنَافِي الْآيَةَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ الثُّمُنَ، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِلْأُخْتِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، وَلَوْ كَانَتْ تَرِثُ النِّصْفَ فَرْضًا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ، وَوُجِدَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ لَعَالَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَكَانَ النَّقْصُ مِنَ السِّهَامِ لَاحِقًا بِكُلِّ الْأَنْصِبَاءِ فَلَا تَقِلُّ سِهَامُ الْأُخْتِ عَنْ سِهَامِ الْبِنْتِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ هُنَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.

وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَيْ وَالْمَرْءَ يَرِثُ أُخْتَهُ إِذَا مَاتَتْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَلَا وَالِدٌ يَحْجُبُهُ عَنْ إِرْثِهَا، كَمَا عُلِمَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَالَةِ، وَمِنَ الْآيَاتِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ عَدَمَ ذِكْرِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ ; لِأَنَّهُ كَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، كَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَلْبَتَّةَ، وَرِثَهَا وَحْدَهُ فَكَانَ لَهُ كُلُّ التَّرِكَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ ; لِأَنَّهُ مُقَابِلُ إِرْثِ الْأُخْتِ لِلنِّصْفِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْإِرْثَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ النَّصِيبَ ; لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ صَاحِبَ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ هُوَ عَصَبَةٌ يَحُوزُ كُلَّ التَّرِكَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَرِثُ هُوَ مَعَهُ فَيَحُوزُ كَلَالَةَ جَمِيعِ مَا بَقِيَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَبِنْتُ الْأُخْتِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَهَا النِّصْفُ فَرْضًا إِذَا انْفَرَدَتْ، فَهُوَ يَرِثُ مَعَهَا الْبَاقِيَ، وَهُوَ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَإِذَا مَاتَتْ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتٍ وَزَوْجٍ ; فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأَخِ الْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ. وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُدْخِلَ الصُّوَرَ الَّتِي يَرِثُ فِيهَا الْأَخُ مَعَ الْبِنْتِ الْأُخْتَ فِي مَفْهُومِ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفَسَّرُوا الْوَلَدَ بِالِابْنِ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ إذًا ; لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَحْجُبُهُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ إِرَادَةُ هَذِهِ الصُّوَرِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَحُكْمُهَا مَعْلُومٌ مِنَ النُّصُوصِ الْأُخْرَى.

فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلْثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَيْ فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ أُخْتَيْنِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَخُوهُمَا كَلَالَةً، وَكَذَا إِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ بِالْأَوْلَى ; كَأَخَوَاتِ جَابِرٍ، وَكُنَّ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا، وَالْبَاقِي لِمَنْ يُوجَدُ مِنَ الْعَصَبَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَالزَّوْجَةِ، وَإِلَّا أَخَذَ كُلُّ ذِي فَرْضٍ فَرْضَهُ أَوَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ،

وَعَبَّرَ بِالْعَدَدِ فَقَالَ: (اثْنَتَيْنِ) دُونَ (أُخْتَيْنِ) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِخْوَةِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْفَرْضِ بِالْعَدَدِ.

وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً أَيْ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُونَ بِالْأُخُوَّةِ كَلَالَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي كُلِّ صِنْفٍ اجْتَمَعَ مِنْهُ أَفْرَادٌ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَوْلَادَ الْأُمِّ فَإِنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي سُدُسِ أُمِّهِمْ لِحُلُولِهِمْ مَحَلَّهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا ;

ص: 91

لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عُصْبَةِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْعِبَارَةِ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ.

يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أُمُورَ دِينِكُمْ، وَمِنْ أَهَمِّهَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِهَا، كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، أَوْ تَفَادِيًا مِنْهَا مِنْ أَنْ تَضِلُّوا، وَالْمُرَادُ لِتَتَّقُوا بِمَعْرِفَتِهَا وَالْإِذْعَانِ لَهَا الضَّلَالَ فِي قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ وَغَيْرِهَا، هَذَا هُوَ التَّوْجِيهُ الْمَشْهُورُ زِدْنَاهُ بَيَانًا بِالتَّصَرُّفِ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَقَدَّمَ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَيْهِ وَجْهًا آخَرَ، فَقَالَ:" أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ضَلَالَكُمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِكُمْ، إِذَا خُلِّيتُمْ وَطِبَاعَكُمْ لِتَحْتَرِزُوا عَنْهُ وَتَتَحَرَّوْا خِلَافَهُ " وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ صَاحِبِ النَّظْمِ أَنَّهُ قَالَ: " يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَتَجْتَنِبُوهَا " اهـ.

وَالْكُوفِيُّونَ يُقَدِّرُونَ حَرْفَ النَّفْيِ، أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا.

وَالْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَظْهَرُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:" لَا يَدْعُو أَحَدُكُمْ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللهِ سَاعَةَ إِجَابَةٍ " قِيلَ: مَعْنَاهُ لِئَلَّا يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ الْبَصْرِيِّينَ: أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَفِي مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الْحَذَرُ وَالتَّفَادِي، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمَا شَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَسِوَاهَا، إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّ فِيهَا الْخَيْرَ لَكُمْ وَحِفْظَ مَصَالِحِكُمْ، وَصَلَاحَ ذَاتِ بَيْنَكُمْ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، كُلُّهَا مُوَافَقَةٌ لِلْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحَاطَةِ الْعِلْمِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْأُسْلُوبِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنَ السِّيَاقِ لَهُ حُكْمُ الْمَذْكُورِ فِي اللَّفْظِ حَتَّى فِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَفْظِ الْمَرْءِ فِي بَيَانِ مَرْجِعِ ضَمِيرِ " وَهُوَ يَرِثُهَا " بَلْ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَعْنَى: " وَهُوَ " أَيْ أَخُوهَا، يَرِثُهَا إِلَخْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَتَا وَإِنْ كَانُوا.

وَمِنْ مَبَاحِثِ تَارِيخِ الْقُرْآنِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ: مَا رُوِيَ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ آخِرَ

آيَةٍ نَزَلَتْ. رَوَى الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً " بَرَاءَةٌ " أَيِ التَّوْبَةُ، وَآخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ أَيْ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَبِهَذَا لَا تُنَافِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ:" مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِآيَةِ الرِّبَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا (2: 278) الْآيَةَ. وَذَكَرَ عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ، وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، وَفِي رِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ، أَوْ آخِرَ مَا نَزَلَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ (2: 281) الْآيَةَ، وَهِيَ بَعْدُ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، أَوْ آخِرُهُ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ وَثَمَانُونَ

ص: 92

يَوْمًا. وَرِوَايَةُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، قَالَ: وَعَاشَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، تِسْعَ لَيَالٍ، وَمَاتَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَحْثٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِآخِرِ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخَرَ مَا نَزَلَ قَطْعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آخِرَهَا كُلِّهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.

(خُلَاصَةُ السُّورَةِ)

افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَذِكْرِ بَدْءِ خَلْقِ النَّاسِ وَتَنَاسُلِهِمْ، ثُمَّ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبُيُوتِ: الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ، وَحُقُوقِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، وَمِنْهَا فَرَائِضُ الْمَوَارِيثِ، وَإِرْثُ النِّسَاءِ وَعَضْلُهُنَّ، وَعِقَابِ مَنْ يَأْتِي الْفَاحِشَةَ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ وَمُحَلَّلَاتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَزْوَاجِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهَذَا نَسَقٌ وَاحِدٌ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً، تَتَخَلَّلُهَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ وَالْوَعْدُ عَلَيْهَا، وَالْوَعِيدُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ بِاللهِ وَتُزَكِّي النَّفْسَ.

يَلِي ذَلِكَ مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، مُمَهَّدًا لَهَا بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ، وَتَشْنِيعِ الْبُخْلِ وَكِتْمَانِ نِعَمِ اللهِ، وَوَعِيدِ الْكُفْرِ وَعِصْيَانِ الرَّسُولِ. وَذَلِكَ فِي بِضْعِ آيَاتٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ، إِلَّا مَا خُتِمَتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ التَّيَمُّمِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَهَا بِحِكَايَةِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ ; لِيُعْلَمَ مِنْهُ سُنَّةُ اللهِ وَحُكْمُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِمْ، وَتَكُونُ حَالُهُ كَحَالِهِمْ، كَمَا وَعَدَ مَنْ كَانَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ 44 إِلَى الْآيَةِ 57.

وَلَمَّا كَانَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ ذِكْرٌ لِحَالِهِمْ فِي الْمُلْكِ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَثَرَةُ وَحِرْمَانُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَقَلِّ مَنْفَعَةٍ، بَيَّنَ عَقِبَهُ مَا يَجِبُ أَنْ تُؤَسَّسَ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْعَدْلِ بِلَا مُحَابَاةٍ، وَإِطَاعَةُ اللهِ فِيمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِ فِيمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ مِنْ بَيَانِهَا وَالْقَضَاءِ بِهَا أَوْ بِاجْتِهَادِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيمَا يَضَعُونَ لِلنَّاسِ مِنَ النِّظَامِ الْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِحَسْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَيَكُونُ مَا يَضَعُونَهُ مُطَاعًا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ.

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ

ص: 93

أَحْوَالُهُمْ وَمُعَامَلَتُهُمْ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ ; وَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذُكِرَتْ أَحْكَامٌ وَحِكَمٌ، وَمَوَاعِظُ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ وَالْهِجْرَةِ وَالْأَمَانِ، وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ، وَقَدْ أَكَّدَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَمْرَ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهَذَا سِيَاقٌ بُدِئَ مِنَ الْآيَةِ (60) وَانْتَهَى إِلَى الْآيَةِ (104) .

بَعْدَ هَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى وَاقِعَةٍ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُحَابِيَ الرَّسُولُ فِيهَا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَقَّبَهَا بِمَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ مِنَ الْوَعْظِ وَالْوَعِيدِ، وَلَاسِيَّمَا وَعِيدُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، ثُمَّ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا عَدَا الشِّرْكَ

يَتْبَعُهَا بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ ضَلَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ بَيَانُ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، لَا بِالْأَمَانِيِّ وَالِانْتِسَابِ إِلَى دِينٍ شَرِيفٍ وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ. فَكَانَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَوَاعِظُهَا فِي شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، وَمَزَايَا الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا بِبَيَانِ حُسْنِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى فَضْلِهِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا، وَيَمْتَدُّ هَذَا السِّيَاقُ إِلَى الْآيَةِ (125) .

تَلَا ذَلِكَ آيَاتٌ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَنُشُوزِ النِّسَاءِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَتَفَرُّقِهِمْ، دُعِّمَتْ بِآيَاتٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى وَالتَّذْكِيرِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى الْأَقْرَبِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ وَلَا شَفَقَةٍ، وَذَلِكَ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ.

ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَذِكْرِ أَرْكَانِهِ وَوَعِيدِ الَّذِينَ يَتَقَلَّبُونَ وَيَتَذَبْذَبُونَ فِيهِ، فَذَكَرَ مُوَالَاتَهُمْ لِلْكَافِرِينَ وَسَبَبَهَا وَمَنْشَأَهَا مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَمُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ وَوَعِيدَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَجَزَاءَ مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ مِنْهُمْ، وَجَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ (147) وَهِيَ آخِرُ الْجُزْءِ الْخَامِسِ.

ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. فَافْتُتِحَ بِحُكْمِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ الْقُبْحُ وَالذَّمُّ، وَحُسْنُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ إِبْدَاءُ الْخَيْرِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَبَعْدَ هَذَا ذَكَرَ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ بِدَعْوَى الْإِيمَانِ بِبَعْضٍ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَبَيَانُ عَرَاقَةِ هَذَا فِي الْكُفْرِ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْجَمِيعِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ مُشَاغَبَةِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُجَّتُهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِمُعَانَدَةِ مُوسَى، وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَنَقْضِ مِيثَاقِ اللهِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِيذَاءِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَالِافْتِخَارِ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَخَتْمِ ذَلِكَ بِبَيَانِ حَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي نِصْفِ حِزْبٍ يَنْتَهِي بِالْآيَةِ (162) .

بَعْدَ هَذَا أَقَامَ اللهُ حُجَّتَهُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ بِكَوْنِ وَحْيِهِ إِلَيْهِ كَوَحْيِهِ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ، وَكَوْنِهِ بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى كُلِّ الْأُمَمِ، أَيْ: فَلَمْ يَجْعَلْهُ خَاصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَوْنِهِ -

ص: 94

تَعَالَى - يَشْهَدُ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ ; إِذْ جَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالْعِلْمِ الْأَعْلَى، مُنَزَّلًا عَلَى الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَخَتَمَ هَذَا بِبَيَانِ حَالِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ، وَغَايَتِهِ الَّتِي يَأُولُ إِلَيْهَا، وَدَعْوَةِ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. فَتَمَّ هَذَا السِّيَاقُ بِبِضْعِ آيَاتٍ.

ثُمَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى وَإِبْطَالِ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَبَيَانِ مَا هُوَ الْمَسِيحُ، وَخَتْمِهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَيَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ تَعَالَى بُرْهَانٌ، وَكِتَابَهُ نُورٌ، وَدَعْوَةِ النَّاسِ

كَافَّةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِمَا، وَوَعْدِ مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذَا الْكِتَابِ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ الْإِلَهِيَّيْنِ، وَهِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَهَذَا هُوَ خَتْمُ هَذِهِ السُّورَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ فِيهَا أُصُولَ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَهَمَّ فَرَائِضِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَنَاهِيكَ بِأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْأَهْلِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْبَةِ وَالْقِتَالِ، وَشُئوُنِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَدَحْضِ شُبُهَاتِهِمْ، فَهِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ الطِّوَالِ فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَحُجَجًا.

وَأَمَّا الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا، فَهِيَ ذَيْلٌ لِلسُّورَةِ فِي فَتْوَى مُتَمِّمَةٍ لِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ الْحِكْمَةَ فِي أُسْلُوبِ الْمَزْجِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا فَائِدَةُ الْأَحْكَامِ أَوِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُجْعَلُ ذَيْلًا أَوْ مُلْحَقًا لِكِتَابٍ أَوْ قَانُونٍ ; فَهِيَ أَنَّ الذِّهْنَ يَتَنَبَّهُ إِلَيْهَا أَفْضَلَ تَنَبُّهٍ، فَلَا يَغْفُلُ عَنْهَا كَمَا يَغْفُلُ عَمَّا يَكُونُ مُنْدَمِجًا فِي أَثْنَاءِ أَحْكَامٍ أَوْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، فَكَأَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُفْرَدَةً عَلَى غَيْرِ فَوَاصِلِ السُّورَةِ يُرَادُ بِهِ تَوْجِيهُ النُّفُوسِ إِلَيْهَا لِئَلَّا تَغْفُلَ عَنْهَا، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ صَارَ مَأْلُوفًا هَذَا الْعَصْرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ، حَتَّى فِي الْمُرَاسَلَاتِ الْخَاصَّةِ يَجْعَلُونَ لِلرِّسَالَةِ ذَيْلًا يُسَمُّونَهُ حَاشِيَةً، كَمَا يَكُونُ مِمَّنْ نَسِيَ مَسْأَلَةً ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بَعْدَ إِتْمَامِ الرِّسَالَةِ وَإِمْضَائِهَا بِكِتَابَةِ اسْمِهِ فِي آخِرِهَا، وَهُمْ يَتَعَمَّدُونَ ذَلِكَ كَثِيرًا ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْغَرَضِ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

(يقولُ مُحَمَّد رَشِيد مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ: قَدْ وَفَّقَنِي اللهُ - تَعَالَى - لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ (1331هـ) وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ، وَيُؤَيِّدَنِي فِيهِ بِرُوحِ الْحَقِّ) .

ص: 95

سُورَةُ الْمَائِدَةِ

(وهي السُّورَةُ الْخَامِسَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ " فِلُوجِلْ " وَمِائَةٌ وَثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ ; فَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى فَاصِلَتَيْنِ فَقَطْ) .

هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ فِي مَكَّةَ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (5: 3) إِلَخْ. نَزَلَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ غَدِيرِ خَمٍّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَامِنِ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مَرْجِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّ أَوَّلَ الْمَائِدَةِ نَزَلَ بِمِنًى، أَيْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرَوَى عَنْ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.

أَمَّا التَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ قَالَ الْكَوَاشِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا خَتَمَ سُورَةَ النِّسَاءِ آمِرًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ. وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ: أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِدَّةِ عُقُودٍ صَرِيحًا وَضِمْنًا ; فَالصَّرِيحُ عُقُودُ الْأَنْكِحَةِ، وَعَقْدُ الصَّدَاقِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الْمُعَاهَدَةِ وَالْأَمَانِ، وَالضِّمْنِيُّ: عَقْدُ الْوَصِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، الدَّاخِلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (4: 58) فَنَاسَبَ أَنْ تُعَقَّبَ بِسُورَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الَّتِي فُرِغَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي تَمَّتْ وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا عُقُودٌ.

قَالَ: وَوُجِّهَ أَيْضًا تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَتَأْخِيرُ الْمَائِدَةِ بِأَنَّ أَوَّلَ تِلْكَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (4: 1) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَنْزِيلِ الْمَكِّيِّ، وَأَوَّلُ هَذِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (5: 1) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِخِطَابِ الْمَدَنِيِّ، وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ، أَيْ خِطَابُ النَّاسِ كَافَّةً وَشَبَهُ الْمَكِّيِّ أَنْسَبُ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي التَّلَازُمِ وَالِاتِّحَادِ نَظِيرُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، فَتَانِكَ اتَّحَدَتَا فِي تَقْرِيرِ الْأُصُولِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهَاتَانِ فِي تَقْرِيرِ الْفُرُوعِ الْحُكْمِيَّةِ، وَقَدْ خُتِمَتِ الْمَائِدَةُ بِالْمُنْتَهَى مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكَأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَبْدَأِ إِلَى الْمُنْتَهَى. اهـ.

أَقُولُ: هَذَا أَجْمَعُ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِ الرَّازِيُّ وَلَا الْبَقَاعِيُّ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ، وَأَنْتَ

ص: 96