المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْعُلَمَاءِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا نِسْيَانَ شَيْءٍ مِنْ أَصْلِ - تفسير المنار - جـ ٦

[محمد رشيد رضا]

الفصل: الْعُلَمَاءِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا نِسْيَانَ شَيْءٍ مِنْ أَصْلِ

الْعُلَمَاءِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا نِسْيَانَ شَيْءٍ مِنْ أَصْلِ كِتَابِ الْقَوْمِ، وَإِضَاعَتَهُ ; لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاتِرًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُمْ أَضَاعُوا كِتَابَهُمْ وَفَقَدُوهُ عِنْدَمَا أَحْرَقَ الْبَابِلِيُّونَ هَيْكَلَهُمْ، وَخَرَّبُوا عَاصِمَتَهُمْ، وَسَبَوْا مَنْ أَبْقَى عَلَيْهِ السَّيْفُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِمُ الْحُرِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ جَمَعُوا مَا كَانُوا حَفِظُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَوَعَوْهُ بِالْعَمَلِ بِهِ، أَوْ ذَكَرُوهُ فِي بَعْضِ مَكْتُوبَاتِهِمْ لِنَحْوِ الِاسْتِشْهَادِ بِهِ، وَنَسُوا الْبَاقِيَ. وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ، وَكَذَا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (3: 23، 4: 44، و51) وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ " فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ " وَتِلْكَ الْجُمْلَةَ " أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ " لَمِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ، الَّتِي أَثْبَتَهَا التَّارِيخُ لَنَا بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعِدَّةِ قُرُونٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ وَهُمْ أُمِّيُّونَ أَنَّ الْيَهُودَ فَقَدُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَهُ لَهُمْ كَاتِبٌ مِنْهُمْ نَشَأَ فِي السَّبْيِ وَالْأَسْرِ بَيْنَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْدَ عِدَّةِ قُرُونٍ، فَنَقَصَ مِنْهُ وَزَادَ فِيهِ، وَلَمْ تُعْرَفِ الْمَصَادِرُ الَّتِي جَمَعَ مِنْهَا مَا كَتَبَهُ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، بَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا خَفِيَ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عِدَّةَ قُرُونٍ بَعْدَ انْتِشَارِ الْعِلْمِ فِيهِمْ.

أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ يُحَرِّفُونَ كَلِمَ كِتَابِهِمْ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَفِي سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ (3: 23، و4: 44، و51) أَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَفِي (4: 46) أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ:(أُوتُوا نَصِيبًا) أَنَّهُمْ نَسُوا نَصِيبًا آخَرَ؛ وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَنْسِيَّ هُوَ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيَانُ صِفَاتِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ نَسَوْهَا كُلَّهَا لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ فِي عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُمْ (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) (2:

‌ 14

6) وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ لَازِمِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ

عِنْدَ امْتِنَاعِ إِرَادَتِهَا، وَلَا امْتِنَاعَ هُنَا، وَمِنْ دَلَائِلِ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ آيَةُ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) فَمَعْنَى مَا هُنَاكَ وَمَا هُنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِثْلَهُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ فَصَاعِدًا إِلَى زَمَنِ السَّبْيِ وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي فُقِدَتْ فِيهِ التَّوْرَاةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ وَإِلَى مَا شَاءَ اللهُ - أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَنَسُوا نَصِيبًا مِنْهُ بِسَبَبِ فَقْدِ الْكِتَابِ وَعَدَمِ حِفْظِهِمْ لَهُ كُلِّهِ فِي الصُّدُورِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي أُوتُوهُ مِنْهُ وَبَقِيَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ كَمَا يَجِبُ، وَلَا يُقِيمُونَ مَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْهُ كَمَا يَنْبَغِي، بَلْ كَانُوا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِاللَّيِّ وَالتَّأْوِيلِ، عَلَى أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مُحَرَّفًا لَفْظُهُ ; لِأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ قَرَاطِيسَ وَصُحُفٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لَا ثِقَةَ بِأَهْلِهَا، وَلَا بِضَبْطِ مَا فِيهَا، وَسَنَذْكُرُ تَتِمَّةَ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْكَلَامِ عَنْ نِسْيَانِ النَّصَارَى حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.

(وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) الْخَائِنَةُ هُنَا: الْخِيَانَةُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ. وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ

ص: 235

بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَنِ الْمَصْدَرِ أَحْيَانًا، كَمَا تَعْكِسُ فَاسْتَعْمَلَتْ " الْقَائِلَةَ " بِمَعْنَى " الْقَيْلُولَةِ " وَالْخَاطِئَةَ بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ، أَوْ هِيَ وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ ; إِمَّا مُذَكَّرٌ - وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَمَا قَالُوا رَاوِيَةً لِكَثِيرِ الرِّوَايَةِ، وَدَاعِيَّةً لِمَنْ تَجَرَّدَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الشَّيْءِ - وَإِمَّا مُؤَنَّثٌ بِتَقْدِيرِ نَفْسٍ أَوْ فِعْلَةٍ أَوْ فِرْقَةٍ خَائِنَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَا تَزَالُ تَطَّلِعُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَكَ عَلَى خِيَانَةٍ بَعْدَ خِيَانَةٍ مَا دَامُوا مُجَاوِرِينَ أَوْ مُعَامِلِينَ لَكَ فِي الْحِجَازِ، فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ مَكْرَهُمْ وَكَيْدَهُمْ بِتَأْمِينِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا وَفَاءَ لَهُمْ وَلَا أَمَانَ، وَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ مِنْ قَبْلُ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُمُ الْوَفَاءُ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّقْضِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَإِخْوَانِهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ; فَهَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِي إِسْلَامِهِمْ، لَا يَقْصِدُونَ خِيَانَةً وَلَا خِدَاعًا

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَلِيلِ، وَاصْفَحْ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَعَامِلْهُمْ بِالْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَحَرِّي مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَهَذَا رَأْيُ أَبِي مُسْلِمٍ. أَوْ: فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَاضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا إِيثَارًا لِلْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ. قِيلَ: كَانَ هَذَا أَمْرًا مُطْلَقًا، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ التَّوْبَةِ:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)(9: 29) الْآيَةَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَيَرُدُّهُ قِتَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ قَبْلَ نُزُولِ

التَّوْبَةِ، وَكَوْنُ آيَةِ التَّوِيَةِ نَزَلَتْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، فَإِنَّهُمْ بِخِيَانَتِهِمْ صَارُوا حَرْبِيِّينَ، وَاسْتَحَقُّوا أَنْ يُقْتَلُوا، وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ يُعَدُّ عَفْوًا وَصَفْحًا عَنْ قَتْلِهِمْ، وَإِحْسَانًا لَهُمْ. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْخِيَانَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، لَا عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي يَصِيرُونَ بِهِ مُحَارِبِينَ لَا يُؤْمَنُ جِوَارُهُمْ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا وَعَاهَدُوا، أَوِ الْتَزَمُوا الْجِزْيَةَ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا يُقَالُ فِي رَأْيِ الْجُمْهُورِ.

وَلَوْلَا أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَأَخِّرٌ عَمَّا كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْيَهُودِ مِنَ الْقِتَالِ، وَعَنْ نُزُولِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، لَقُلْتُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَمِثْلُهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ بِقَرِينَةِ مَا جَاءَ قَبْلَ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ خَبَرِ مُحَاوَلَتِهِمْ قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَدْرًا مِنْهُمْ وَخِيَانَةً، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ تَرْكَ قَتْلِهِمْ، وَالرِّضَاءَ مِنْهُمْ بِمَا دَونَ الْقَتْلِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ.

ثَبْتَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَغِبَ - عِنْدَمَا آوَى إِلَى الْمَدِينَةِ - فِي مُصَالَحَةِ الْيَهُودِ وَمُوَادَعَتِهِمْ، فَعَقَدَ الْعَهْدَ مَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَلَا يُظَاهِرُوا مَنْ يُحَارِبُهُ، وَلَا يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا لَهُ، وَأَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ ; فَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ أَوَّلَ مَنْ غَدَرَ وَتَصَدَّى لِحَرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَهْرًا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّهُمْ بَأْسًا، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِمْ وَسَأَلَهُ

ص: 236

عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ وَهَبَهُمْ لَهُ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ لِلْخَزْرَجِ، وَكَانَ هُوَ يَتَوَلَّاهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، وَيَنْصُرُ غَيْرَهُمْ مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا اسْتَطَاعَ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.

وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ أَيْضًا، وَهَمُّوا بِقَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَلَّ لَهُ قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ السِّلْمَ، وَأَنْ يَكْتَفِيَ أَمْرَهُمْ بِطَرْدِهِمْ مِنْ جِوَارِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ " أَنِ اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَا تُسَاكِنُونِي بِهَا، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ عَشْرًا، فَمَنْ وَجَدْتُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، " فَأَقَامُوا يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامًا، ثُمَّ ثَنَاهُمْ عَنْ عَزْمِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ; إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَلَّا تَخْرُجُوا، فَإِنَّ مَعِي أَلْفَيْنِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ، فَيَمُوتُونَ دُونَكُمْ، وَتَنْصُرُكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ، وَكَانَ رَئِيسُهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ

لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَطْمَعَهُمْ بِقَتْلِهِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْغَدْرِ بِهِ، فَغَرَّهُ قَوْلُ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّنَا لَا نَخْرُجُ، فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ، وَهَذَا إِعْلَانٌ لِلْحَرْبِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، يَحْمِلُ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِمْ أَقَامُوا عَلَى حُصُونِهِمْ يَرْمُونَ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَخَانَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَلَمْ تَنْصُرْهُمْ قُرَيْظَةُ وَغَطَفَانُ فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَاَرُ رَضُوا بِالْخُرُوجِ سَالِمِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَادِرًا عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الْعَفْوَ وَالْإِحْسَانَ وَاكْتِفَاءَ شَرِّهِمْ بِإِبْعَادِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا بِنُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَمَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ إِلَّا السِّلَاحَ، وَأَجْلَاهُمْ إِلَى خَيْبَرَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ عَظِيمٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ; لِأَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلْ، وَلَمْ يُعَاقِبِ الْيَهُودَ عَلَى خِيَانَةٍ وَلَا غَدْرٍ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِإِجْلَائِهِمْ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَعْدَهُ.

وَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى نَقْضَ الْيَهُودِ لِمِيثَاقِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ حَالِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ وَكَذَلِكَ أَخَذْنَا مِيثَاقَ الَّذِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ وَنَصَرُوهُ، وَقَدْ صَارُوا طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً مُؤَلَّفَةً مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَنَقَضُوا مِيثَاقَهُمْ، وَنَسُوا حَظًّا وَنَصِيبًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ; أَيْ فَكَانَ نِسْيَانُ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ كِتَابِهِمْ سَبَبًا لِوُقُوعِهِمْ فِي الْأَهْوَاءِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ الْمُوجِبِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِي الْبَشَرِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَالْإِغْرَاءُ: التَّحْرِيشُ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الِاخْتِيَارِيَّةِ سَبَبًا وَمُسَبَّبًا ; لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. فَهَذَا جَزَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) عِنْدَمَا يُحَاسِبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، يُنَبِّئُهُمُ بِحَقِيقَةِ ضَلَالِهِمْ، وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.

ص: 237

بَيَّنَ اللهُ لَنَا أَنَّ النَّصَارَى نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَالْيَهُودِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام لَمْ يَكْتُبْ مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَتَوْحِيدِ اللهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالْإِرْشَادِ

لِعِبَادَتِهِ، وَكَانَ مَنِ اتَّبَعُوهُ مِنَ الْعَوَامِّ، وَأَمْثَلُهُمْ حَوَارِيِّوهُ وَهُمْ مِنَ الصَّيَّادِينَ، وَقَدِ اشْتَدَّ الْيَهُودُ فِي عَدَاوَتِهِمْ وَمُطَارَدَتِهِمْ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ ذَاتُ قُوَّةٍ وَعِلْمٍ تُدَوِّنُ مَا حَفِظُوهُ مِنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ وَتَحْفَظُهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ تَارِيخِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَبُثُّونَ بَيْنَ النَّاسِ فِي عَصْرِهِمْ تَعَالِيمَ بَاطِلَةً عَنِ الْمَسِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ كَتَبُوا كُتُبًا سَمَّوْهَا الْأَنَاجِيلَ كَثِيرُونَ جِدًّا، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ وَتَوَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، وَمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَهُمُ الْآنَ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ مِنْ تَارِيخِ الْمَسِيحِ عِنْدَمَا صَارَ لِلنَّصَارَى دَوْلَةٌ بِدُخُولِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَإِدْخَالِهِ إِيَّاهَا فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ. وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَارِيخٍ نَاقِصٍ لِلْمَسِيحِ، وَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ مَجْهُولَةُ الْأَصْلِ وَالتَّارِيخِ، بَلْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مُؤَلِّفِيهَا وَاللُّغَاتِ الَّتِي أَلَّفُوهَا بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " حَقِيقَةَ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَكَوْنَ هَذِهِ الْكُتُبِ لَمْ تَحْوِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، كَمَا تَحْتَوِي السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ عِنْدَنَا عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَهَذَا الْقَلِيلُ مِنَ الْإِنْجِيلِ قَدْ دَخَلَهُ التَّنَاقُضُ وَالتَّحْرِيفُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) الْمَشْهُورِ، مِائَةَ شَاهِدٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، عَلَى التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيهَا، نَقَلْتُ بَعْضَهَا عَلَى سَبِيلِ النَّمُوذَجِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ (4: 46) وَمِنْهَا مَا عَجَزَ مُفَسِّرُو التَّوْرَاةِ عَنْ تَمَحُّلِ الْجَوَابِ عَنْهُ، وَجَزَمُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا كَتَبَهُ مُوسَى عليه السلام، فَرَاجِعْهُ فِي (ص 113 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْخَامِسِ، ط الْهَيْئَةِ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ " نَصِيبًا وَحَظًّا " لِلتَّعْظِيمِ ; أَيْ أَنَّ مَا نَسُوهُ وَأَضَاعُوهُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَا أُوتُوهُ وَحَفِظُوهُ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَلَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ مَا فَسَدَتْ حَالُهُمْ، وَلَا عَظُمَ خِزْيُهُمْ وَنَكَالُهُمْ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي حَالِ عَدَمِ حِفْظِ الْأَصْلِ بِنَصِّهِ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَنَحْنُ نَجْزِمُ بِأَنَّنَا نَسِينَا وَأَضَعْنَا مِنْ حَدِيثِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم حَظًّا عَظِيمًا ; لِعَدَمِ كِتَابَةِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كُلَّ مَا سَمِعُوهُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ مَا هُوَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ أُمُورِ الدِّينِ مُودَعَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَمُبَيَّنَةٌ فِي السُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمَا دُوِّنَ مِنَ الْحَدِيثِ مَزِيدُ هِدَايَةٍ وَبَيَانٍ.

هَذَا، وَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ أُمَّةَ حِفْظٍ، وَدَوَّنُوا الْحَدِيثَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَعُنُوا بِحِفْظِهِ وَضَبْطِ مُتُونِهِ وَأَسَانِيدِهِ عِنَايَةً شَارَكَهُمْ فِيهَا كُلُّ مَنْ

دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.

ص: 238

لَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي ضَيَاعِ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ، وَفِي وُقُوعِ التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَفِي إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَمِنَ التَّارِيخِ الدِّينِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَهُودِ مُنَاظَرَاتٌ دِينِيَّةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّ النَّصَارَى أَقَامُوا بِنَاءَ دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (الْعَهْدَ الْجَدِيدَ) عَلَى أَسَاسِ كُتُبِ الْيَهُودِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (الْعَهْدَ الْعَتِيقَ) لَمَا زِدْنَا فِي الْكَلَامِ عَنْ كُتُبِ الْيَهُودِ عَلَى مَا نُثْبِتُ بِهِ مَا وَصَفَهَا بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ بِالْإِجْمَالِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ تَدْفَعُنَا إِلَى بَعْضِ التَّفْصِيلِ فِي إِثْبَاتِ نِسْيَانِ النَّصَارَى وَإِضَاعَتِهِمْ حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ عليه السلام، وَتَحْرِيفِ الْكُتُبِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي التَّعَدِّي عَلَى الْإِسْلَامِ وَالطَّعْنِ فِيهِ، فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ بَنَى بَيْتًا مِنَ الزُّجَاجِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنَ الرَّمْلِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَنْصِبَ فِيهِ الْمَدَافِعَ ; لِيَهْدِمَ حِصْنًا حَصِينًا مَبْنِيًّا عَلَى جَبَلٍ رَاسِخٍ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (9: 109) .

وَقَدْ قَامَتْ مَجَلَّتُنَا - الْمَنَارُ - بِمَا يَجِبُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ، وَدَفْعِ مَا بَدَأَ بِهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَسَبَقَ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا نُشِرَ فِي الْمَنَارِ، وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الْمَسَائِلِ فِي ذَلِكَ بِالْإِيجَازِ:

(فَصْلٌ فِي ضَيَاعِ كَثِيرٍ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَتَحْرِيفِ كُتُبِ النَّصَارَى الْمُقَدَّسَةِ) أَوَّلًا: إِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ تَارِيخٌ مُخْتَصَرٌ لِلْمَسِيحِ عليه السلام لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِ يُوحَنَّا فِي آخِرِ إِنْجِيلِهِ:" هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا، وَكَتَبَ هَذَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ، وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ، آمِينَ ".

هَذِهِ الْعِبَارَةُ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي بَيَانِ أَنَّ الَّذِي كُتِبَ عَنِ الْمَسِيحِ لَا يَبْلُغُ عُشْرَ مِعْشَارِ تَارِيخِهِ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ، وَقَعَتْ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَعِنْدَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كَثِيرًا. فَهَذَا كُلُّهُ قَدْ ضَاعَ وَنُسِيَ، وَحَسْبُنَا هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي إِثْبَاتِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:(فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وَحُجَّةً عَلَى بَعْضِ عُلَمَائِنَا الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ كُتُبَهُمْ حُفِظَتْ وَتَوَاتَرَتْ. قَالَ صَاحِبُ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ: " إِنَّ الْإِنْجِيلَ لَا يَسْتَغْرِقُ كُلَّ أَعْمَالِ الْمَسِيحِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ كُلَّ أَقْوَالِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ".

ثَانِيًا: الْإِنْجِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ عليه السلام مِنَ الْهُدَى وَالْبِشَارَةِ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَا كَانَ يَدُورُ ذِكْرُهُ عَلَى أَلْسِنَةِ كُتَّابِ تِلْكَ التَّوَارِيخِ

ص: 239

الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ وَعَنْ أَلْسِنَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَ مَتَّى حِكَايَةً عَنْهُ:(26: 13 الْحُقُّ أَقُولُ لَكُمْ حَيْثُمَا يُكْرَزُ بِهَذَا الْإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبِرُ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تِذْكَارًا لَهَا) أَيْ مَا فَعَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي سَكَبَتْ قَارُورَةَ الطِّيبِ عَلَى رَأْسِهِ. أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْبِرُوا كُلَّ مَنْ يُبَلِّغُونَهُمُ الْإِنْجِيلَ فِي عَالَمِ الْيَهُودِيَّةِ كُلِّهَا بِمَا فَعَلَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ، فَخَبَرُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ مِنَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي جَاءَ فِي كَلَامِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي تِلْكَ التَّوَارِيخِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ. وَسُمِّيَتْ تِلْكَ التَّوَارِيخُ أَنَاجِيلَ لِأَنَّهَا تَتَكَلَّمُ عَنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَتَجِيءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ مُرْقُسُ تَارِيخَهُ بِقَوْلِهِ:" بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ "، ثُمَّ قَالَ حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ:(1: 15 فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالْإِنْجِيلِ) فَالْإِنْجِيلُ الَّذِي أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَيْسَ هُوَ أَحَدَ هَذِهِ التَّوَارِيخِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا مَجْمُوعَهَا، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بُولَسُ فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ تِسَالُونِيكِي " الْإِنْجِيلَ الْمُطْلَقَ " (2: 4) وَإِنْجِيلَ اللهِ (2: 8 و9) وَإِنْجِيلَ الْمَسِيحِ (3: 2) وَالْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ يُضَافُ إِلَى اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْحَاهُ، وَإِلَى النَّبِيِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوْ جَاءَ بِهِ، كَمَا يُقَالُ تَوْرَاةُ مُوسَى.

ثَالِثًا: كَانَتِ الْأَنَاجِيلُ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِلْمَسِيحِ كَثِيرَةً جِدًّا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا بَلَغَتْ زُهَاءَ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا، وَقَالَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الْكَنِيسَةِ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ الْكَاذِبَةَ كَانَتْ 35 إِنْجِيلًا، وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ كِتَابِ (ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ) الْمَارُونِيُّ الْقَوْلَ بِكَثْرَتِهَا،

وَقَالَ إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ أَسْمَاءَ، وَقَالَ: إِنَّ الْخَمْسَةَ وَالثَّلَاثِينَ لَا تَكَادُ تَبْلُغُ الْعِشْرِينَ، وَعَدَّهَا كُلَّهَا، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهَا مُكَرَّرُ الِاسْمِ، وَذَكَرَ مِنْهَا إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ بِرْنَابَا، وَذَكَرَ أَنَّ جَاحِدِي الْوَحْيِ طَعَنُوا فِي الْأَنَاجِيلِ أَرْبَعَةَ مَطَاعِنَ:(1) : أَنَّ الْآبَاءَ الَّذِينَ سَبَقُوا الْقِدِّيسَ يُوسْتِينُوسَ الشَّهِيدَ لَمْ يَذْكُرُوا إِلَّا أَنَاجِيلَ كَاذِبَةً وَمَدْخُولَةً.

(2)

: لَا سَبِيلَ إِلَى إِظْهَارِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّتِي خَطَّهَا مُؤَلِّفُوهَا.

(3)

: قَدْ فَاتَ الْجَمِيعَ مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ وَالْعَهْدِ اللَّذَيْنِ كُتِبَتْ فِيهِمَا.

(4)

أَنْ كُورِنْتِسَ وَكِرْبُوكِرَاتُوسَ قَدْ نَبَذَا ظِهْرِيًّا مُنْذُ أَوَائِلِ الْكَنِيسَةِ إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ لُوقَا، وَالْأَلُوغِيِّينَ إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ يُوحَنَّا، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنَّ يَرُدَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ رَدًّا مَقْبُولًا عِنْدَ مُسْتَقِلَّيِ الْفِكْرِ.

وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ الْبُرُوتِسْتَانِيُّ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: إِنَّ نَقْصَ الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْقَانُونِيَّةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِرُوحِ الْمُخَلِّصِ وَحَيَاتِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّنَا قَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْجِيلُ بِرْنَابَا، فَوَجَدْنَاهُ أَكْمَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَقْدِيسِ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا بُرْهَانَهَمْ، عَلَى رَدِّ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ الْكَثِيرَةِ، وَإِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، فَهُوَ بُرْهَانٌ يُثْبِتُ صِحَّةَ إِنْجِيلِ بَرْنَابَا قَبْلَ غَيْرِهِ، أَوْ دُونَ غَيْرِهِ.

رَابِعًا: بُدِئَ تَحْرِيفُ الْإِنْجِيلِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، قَالَ بُولِسُ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ غِلَاطِيةَ:(1: 6 إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ. لَا لَيْسَ هُوَ آخَرُ غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ) .

ص: 240

فَالْمَسِيحُ كَانَ لَهُ إِنْجِيلٌ وَاحِدٌ، وَبَيَّنَ بُولِسُ أَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ أُنَاسٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَيْنِ إِلَى إِنْجِيلٍ غَيْرِهِ بِالتَّحْوِيلِ ; أَيِ التَّحْرِيفِ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ الْقَدِيمَةِ، وَفِي تَرْجَمَةِ الْجِزْوِيتِ (يَقْلِبُوا) بَدَلَ (يُحَوِّلُوا) وَهِيَ أَبْلَغُ فِي التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَبَيَّنَ بُولِسُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ سَرِيعًا إِلَى دُعَاةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ الْمُحَرَّفِ الْمُحَوَّلِ عَنْ أَصْلِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ.

وَقَدْ بَيَّنَ بُولِسُ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورْنِثْيُونَ: (11: 15 - 16) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ " رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى رُسُلِ الْمَسِيحِ "، وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ تَدُلُّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَرُسُلِ الْمَسِيحِ، وَيَتَشَبَّهُونَ

بِهِمْ كَمَا يَتَشَبَّهُ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَائِكَةِ ; إِذْ " يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى مَلَاكِ نُورٍ "، وَفِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَنْبَثُّونَ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ وَيُعَلِّمُونَهُمْ غَيْرَ مَا يُعَلِّمُهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الْمَشَايِخَ وَالرُّسُلَ أَرْسَلُوا بِرْنَابَا وَبُولِسَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ ; لِيُحَذِّرُوا أَهْلَهَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَلِّمِينَ الْكَاذِبِينَ، وَأَنَّ بُولِسَ وَبِرْنَابَا تَشَاجَرَا وَافْتَرَقَا هُنَالِكَ، وَهُمَا مَا تَشَاجَرَا وَافْتَرَقَا إِلَّا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي حَقِيقَةِ تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ ; فَبِرْنَابَا يَذْكُرُ فِي مُقَدِّمَةِ إِنْجِيلِهِ أَنَّ بُولَسَ كَانَ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا الْمَسِيحَ فِي تَعْلِيمِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ بِرْنَابَا أَجْدَرُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ بُولَسَ ; لِأَنَّهُ تَلَقَّى عَنِ الْمَسِيحِ مُبَاشَرَةً، وَكَانَ بُولَسُ عَدُوًّا لِلْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيِّينَ، وَلَوْلَا أَنْ قَدَّمَهُ بِرْنَابَا لِلرُّسُلِ لَمَا وَثِقُوا بِدَعْوَاهُ التَّوْبَةَ وَالْإِيمَانَ بِالْمَسِيحِ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى رَفَضُوا إِنْجِيلَ بِرْنَابَا الْمَمْلُوءَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَبِالْحِكْمَةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ رَسَائِلَ بُولَسَ وَأَنَاجِيلَ تَلَامِيذِهِ لُوقَا وَمُرْقُسَ، وَكَذَا يُوحَنَّا، كَمَا حَقَّقَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا ; لِأَنَّ تَعَالِيمَ بُولَسَ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى عَقَائِدِ الرُّومَانِيِّينَ الْوَثَنِيَّةِ، فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ رَجَّحُوهَا، وَرَفَضُوا مَا عَدَاهَا ; إِذْ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ السُّلْطَةِ الْأُولَى فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَوَّنُوهَا بِهَذَا الشَّكْلِ.

خَامِسًا: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَنِيسَةِ وَعُلَمَاءُ التَّارِيخِ فِي الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي اعْتَمَدُوهَا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ: مَنْ هُمُ الَّذِينَ كَتَبُوهَا؟ وَمَتَى كَتَبُوهَا؟ وَبِأَيِّ لُغَةٍ كُتِبَتْ؟ وَكَيْفَ فُقِدَتْ نُسَخُهَا الْأَصْلِيَّةُ؟ كَمَا تَرَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ الْكُبْرَى، وَفِي غَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ الدِّينِ وَالتَّارِيخِ، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مِنْ كُتِبِ الْمُدَافِعِينَ عَنْهَا: قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الثَّمِينِ) : " إِنَّ مَتَّى بِمُوجِبِ اعْتِقَادِ جُمْهُورِ الْمَسِيحِيِّينَ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ قَبْلَ مُرْقُسَ وَلُوقَا وَيُوحَنَّا، وَمُرْقُسُ وَلُوقَا كَتَبَا إِنْجِيلَهُمَا قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ فِي أَيَّةِ سَنَةٍ كَتَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بَعْدَ صُعُودِ الْمُخَلِّصِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَصٌّ إِلَهِيٌّ عَلَى ذَلِكَ ".

(إِنْجِيلُ مَتَّى) : قَالَ صَاحِبُ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ: إِنَّ الْقِدِّيسَ مَتَّى كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي السَّنَةِ 41 لِلْمَسِيحِ. . . بِاللُّغَةِ الْمُتَعَارَفَةِ يَوْمَئِذٍ فِي فِلَسْطِينَ، وَهِيَ الْعِبْرَانِيَّةُ، أَوِ السِّيرُوكِلْدَانِيَّةُ (ثُمَّ قَالَ) :

ص: 241

ثُمَّ مَا عَتَمَ هَذَا الْإِنْجِيلُ أَنْ تُرْجِمَ إِلَى الْيُونَانِيَّةِ، ثُمَّ تَغَلَّبَ

اسْتِعْمَالُ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَعِبَتْ بِهِ أَيْدِي النُّسَّاخِ الْأَبُونِيِّينَ وَمَسَخَتْهُ بِحَيْثُ أَضْحَى ذَلِكَ الْأَصْلُ هَامِلًا، بَلْ فَقِيدًا، وَذَلِكَ مُنْذُ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ، انْتَهَى.

أَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي، مَنْ هُوَ الَّذِي تَرْجَمَ إِنْجِيلَ مَتَّى بِالْيُونَانِيَّةِ؟ وَمَنْ عَارَضَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْبَثَ بِهِ النُّسَّاخُ، وَيَمْسَخُوهُ؟ اللهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: " يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي نَفْسِ أُورْشَلِيمَ "، وَقَالَ:" إِنَّمَا هُوَ رِوَايَةٌ جَدَلِيَّةٌ عَنِ الْمَسِيحِ، لَا تَرْجَمَةُ حَيَاتِهِ ".

(وَقَالَ) : إِنَّ الْبُرُوتِسْتَانْتَ الْمُتَأَخِّرِينَ امْتَرَوْا وَشَكُّوا فِي كَوْنِ الْفَصْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْهُ لِمَتَّى.

وَقَالَ الدُّكْتُورُ (بوستُ) فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ بِخُصُوصِ لُغَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; هَلْ هِيَ الْعِبْرَانِيَّةُ، أَوِ السُّرْيَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ لُغَةَ فِلَسْطِينَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ؟ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كُتِبَ بِالْيُونَانِيَّةِ كَمَا هُوَ الْآنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي شُبْهَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْإِنْجِيلِ، تَكَلَّمَ فِيهَا صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ; وَهِيَ أَنَّ شَوَاهِدَهُ فِي الْعِظَاتِ مِنَ التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ لِلْعَهْدِ الْعَتِيقِ، وَفِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ مِنَ التَّرْجَمَاتِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَجَابَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ بِمَا تَرَاءَى لَهُ، ثُمَّ رَجَّحَ (بوستُ) أَنَّهُ أُلِّفَ بِالْيُونَانِيَّةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ رُؤَسَاءِ الْكَنِيسَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ. فَثَبَتَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِتَارِيخِهِ وَلَا لُغَتِهِ، " وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ".

ثُمَّ قَالَ: " وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَدْ كُتِبَ قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَظُنُّ الْبَعْضُ أَنَّ إِنْجِيلَنَا الْحَالِيَّ كُتِبَ بَيْنَ سَنَةِ 60، وَسَنَةِ 65 "، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَاحِبَ الذَّخِيرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ كُتِبَ سَنَةَ 41، وَإِنْ هِيَ إِلَّا ظُنُونٌ وَأَوْهَامٌ، يُنَاطِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَأَمَّا عُلَمَاءُ النَّصَارَى الْأَقْدَمُونَ فَالْمَأْثُورُ عَنْهُمْ أَنَّ مَتَّى لَمْ يَكْتُبْ هَذَا الْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا كَتَبَ بَعْضَ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَالنَّصَارَى يَحْتَجُّونَ الْآنَ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، الَّتِي لَا سَنَدَ لَهَا لَفْظِيًّا وَلَا كِتَابِيًّا، كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ الْأَوْلَى بِأَقْوَالٍ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنَارِ بَيَانُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وَأَقْدَمُ شَهَادَةٍ يَتَنَاقَلُونَهَا فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ (بَابِيَاسَ) أُسْقُفِ هِيرَا بُولِيسَ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي ; فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ (أُوسَابْيُوسُ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 340 مَا تَرْجَمَتُهُ: " إِنَّ

مَتَى كَتَبَ مَجْمُوعَةً مِنَ الْجُمَلِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ تَرْجَمَهَا كُلٌّ بِحَسَبَ طَاقَتِهِ ".

وَيَمْتَازُ إِنْجِيلُ مَتَّى بِأَنَّ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَبِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ مِنْ سَائِرِ الْأَنَاجِيلِ.

(إِنْجِيلُ مُرْقُسَ) ذَكَرَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَنَّ مُرْقُسَ كَانَ عِبْرَانِيًّا مِلَّةً (أَيْ: نَسَبًا)

ص: 242

وَأَنَّهُ كَانَ تِلْمِيذًا لِبُطْرُسَ، وَتَبَنَّاهُ بُطْرُسُ، وَأَنَّهُ اقْتَبَسَ إِنْجِيلَهُ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَمِنْ خُطَبِ بُطْرُسَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ إِنْجِيلٌ سَابِقٌ لِإِنْجِيلَيْ مَتَّى وَمُرْقُسَ، أَخَذَا عَنْهُ إِنْجِيلَيْهِمَا، وَأَنَّ بَعْضَ الْبُرُوتِسْتَانْتِ شَكُّوا فِي الْأَعْدَادِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْفَصْلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي النُّسَخِ الْخَطِّيَّةِ الْقَدِيمَةِ.

وَقَالَ (بوستُ) : " مُرْقُسُ لَقَبُ يُوحَنَّا، يَهُودِيٌّ، يُرَجَّحُ أَنَّهُ وُلِدَ فِي أُورْشَلِيمَ.

(قَالَ) : وَتَوَجَّهَ مُرْقُسُ مَعَ بُولَسَ وَبِرْنَابَا خَالِهِ فِي رِحْلَتِهِمُ التَّبْشِيرِيَّةِ الْأَوْلَى، غَيْرَ أَنَّهُ فَارَقَهُمَا فِي (بُرْجَهْ) فَصَارَ عِلَّةَ مُشَاجَرَةٍ قَوِيَّةٍ بَيْنَ بُولَسَ وَبِرْنَابَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَصَافَحَ مَعَ بُولَسَ، فَرَافَقَهُ إِلَى (رُومِيَّةَ) وَكَانَ مَعَ بُطْرُسَ لَمَّا كَتَبَ رِسَالَتَهُ الْأُولَى (1 بط 5: 13) ثُمَّ مَعَ تِيمُوثَاوُسَ فِي (أَفْسَسَ) وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ حَقِيقِيٌّ عَنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ".

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَشَرَحَ فِيهِ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ اللَّاتِينِيَّةِ ; فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي رُومِيَّةٍ (قَالَ) : إِنَّمَا الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ إِنْجِيلَيِّ مَتَّى وَمُرْقُسَ، حَمَلَتْ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ الثَّانِي مُخْتَصَرٌ مِنَ الْأَوَّلِ.

وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَارِيخَ كِتَابَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ إِيرْنِياوُسَ أَنَّهُ كَتَبَهُ بَعْدَ مَوْتِ بُطْرُسَ وَبُولَسَ، فَلَمْ يَطَّلِعَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ نَثِقُ بِأَنَّهُ وَعَى مَا سَمِعَهُ مَنْ بُطْرُس، وَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ؟ ! هَذَا إِذَا صَحَّتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ، وَلَنْ تَصِحَّ.

(إِنْجِيلُ لُوقَا) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: إِنَّ لُوقَا كَانَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، وَمِنَ الشُّرَّاحِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إِغْرِيقِيٌّ مُتَهَوِّدٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ إِلَّا نَقْلًا عَنِ التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ، " وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ وَثَنِيٌّ هَادَ إِلَى الْحَقِّ وَارْتَدَّ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ " وَقَالَ:" لُوقَا كَانَ تِلْمِيذًا وَمُعَاوِنًا لَبُولَسَ ".

ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " قَدْ أَغْفَلَ مَتَّى وَمُرْقُسُ بَعْضَ حَوَادِثَ وَأُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِسِيرَةِ الْمَسِيحِ، وَقَامَ بَعْضُ الْكَتَبَةِ وَاخْتَلَقُوا تَرْجَمَةً مُمَوَّهَةً لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَكَثِيرًا مَا فَاتَهُمْ فِيهَا الرِّوَايَةُ وَالتَّدْقِيقُ ; فَبَعَثَ ذَلِكَ بِلُوقَا عَلَى وَضْعِ إِنْجِيلِهِ ضَنًّا بِالْحَقِّ، فَكَتَبَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَجَاءَ كَلَامُهُ أَصَحَّ وَأَفْصَحَ وَأَشَدَّ انْسِجَامًا مِنْ كَلَامِ بَاقِي مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّهُ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي السَّنَةِ 53 لِلْمَسِيحِ، وَقِيلَ بَلْ سَنَةَ 51 ".

ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَتَبَهُ فِيهِ، وَبَيَّنَ غَرَضَهُ مِنْهُ فَقَالَ فِي آخِرِهِ:" وَأَنْ يَكْشِفَ النِّقَابَ عَنِ الْأَغْلَاطِ الْمَدْخُولَةِ فِي تَرَاجِمِ حَيَاةِ الْمَسِيحِ الْمُمَوَّهَةِ ; أَيِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي رَدَّتْهَا الْكَنِيسَةُ بَعْدُ، وَيَنْفِيَ كُلَّ رُكُونِ إِلَيْهَا "، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ إِنْجِيلَيْ مَتَّى وَمُرْقُسَ، وَأَنَّهُ اقْتَبَسَ مِنْهُمَا مَا وَافَقَهُمَا فِيهِ، ثُمَّ عَقَدَ فَصْلًا لِمَا اعْتَرَضَ بِهِ عَلَى مَا حَذَفُوهُ وَأَسْقَطُوهُ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَلِيقُ بِالْمَسِيحِ، أَوْ لِعِلَّةٍ أُخْرَى.

وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ فِي قَامُوسِهِ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ - أَيْ لُوقَا - مَوْلُودٌ فِي أَنْطَاكِيَةَ،

ص: 243

إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَاتِجٌ مَنِ اشْتِبَاهِهِ بِلُوكْيُوسَ.

(قَالَ) : " وَمِنْ تَغْيِيرِ صِيغَةِ الْغَائِبِ إِلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ يُسْتَدَلُّ أَنَّ لُوقَا اجْتَمَعَ مَعَ بُولَسَ فِي تِرْوَاسَ (أَعِ 16: 1) وَذَهَبَ مَعَهُ إِلَى فِيلْبِي فِي سَفَرِهِ الثَّانِي، ثُمَّ اجْتَمَعَ مَعَهُ ثَانِيَةً فِي فِيلْبِي بَعْدَ عِدَّةِ سِنِينَ (أَعِ 20: 5 و6) وَبَقِيَ مَعَهُ إِلَى أَنْ أُسِرَ وَأُخِذَ إِلَى رُومِيَّةَ (أَعِ 28: 30) وَلَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ تَارِيخَهُ مِنْ أُسْلُوبِ عِبَارَتِهِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِمْ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ، لَا صَحِيحَ وَلَا ضَعِيفَ، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ إِيطَالِيًّا لَا فِلَسْطِينِيًّا مِنْ كَلَامِهِ عَنِ الْقُطْرَيْنِ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَقْلٌ يَعْرِفُونَ بِهِ شَيْئًا عَنْ مُؤَسِّسِي دِينِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ: " وَظَنَّ الْبَعْضُ أَنَّ لَفْظَةَ (إِنْجِيلَيْ) الْوَارِدَةَ فِي (2: تِي 2: 8) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُولَسَ أَلَّفَ إِنْجِيلَ لُوقَا، وَأَنَّ لُوقَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا كَاتِبًا ".

ثُمَّ قَالَ: " وَقَدْ كُتِبَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ وَقَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَيُرَجَّحُ أَنَّهُ كُتِبَ فِي قَيْصَرِيَّةَ فِي فِلَسْطِينَ مُدَّةَ أَسْرِ بُولَسَ سَنَةَ 58 - 60م، غَيْرَ أَنَّ الْبَعْضَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كُتِبَ قَبْلَ ذَلِكَ " انْتَهَى.

فَأَنْتَ تَرَى مِنَ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ التَّرْجِيحِ وَالظَّنِّ، وَمِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ سَنَةِ 51 و53،

كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ و58 و60، كَمَا أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (2: 78) وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ بُولَسَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ هَذَا الْإِنْجِيلَ هُمُ الْمُصِيبُونَ ; لِمُشَابِهَةِ أُسْلُوبِهِ لِأُسْلُوبِ رَسَائِلِهِ، بِاعْتِرَافِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَا تَفْعَلُ بِتَحْرِيفِهِ؟ قُلْتُ: هُوَ كَتَحْرِيفِهَا، وَتَجِدُ فِيهِ مِثْلَ مَا تَجِدُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ وَضْعِ بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَاجِيلَ كَاذِبَةٍ، وَمَنْ لَنَا بِدَلِيلٍ يُثْبِتُ لَنَا صِدْقَهُ هُوَ؟ وَأَنَّى لَنَا بِتَمْيِيزِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَمَعْرِفَةِ صَادِقِهَا مَنْ كَاذِبِهَا؟

(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا) تَقُولُ النَّصَارَى: إِنَّ يُوحَنَّا هَذَا هُوَ تِلْمِيذُ الْمَسِيحِ ابْنُ زُبْدَى وَسَالُومَهْ، وَيَقُولُ أَحْرَارُ الْمُؤَرِّخِينَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ. وَيُرَجِّحُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ تَلَامِيذِ بُولَسَ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي تَارِيخِ كِتَابَتِهِ، وَهِيَ 64 و94 و97، وَأَنَّهُ كَتَبَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ لِيُثْبِتَ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَيَسُدَّ النَّقْصَ الَّذِي فِي الْأَنَاجِيلِ الثَّلَاثَةِ " إِجَابَةً لِرَغْبَةِ أَكْثَرِ الْأَسَاقِفَةِ وَنُوَّابِ كَنَائِسِ آسْيَا، وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى مِنْ بَعْدِهِ ذِكْرًا مُخَلَّدًا "، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الْإِلْحَاحُ لَمْ يَكْتُبْ مَا كَتَبَ، وَإِذًا لَبَقِيَتْ أَنَاجِيلُهُمْ نَاقِصَةً، وَخَلَوْا مِنْ شُبْهَةٍ عَلَى عَقِيدَتِهِمُ الْمُعَقَّدَةِ الَّتِي لَا تُعْقَلُ ; إِذْ لَا تَجِدُ الشُّبْهَةَ عَلَيْهَا إِلَّا فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ الْأَنَاجِيلِ تَنَاقُضًا، وَنَاهِيكَ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقَوْلِهِ عَنِ الْمَسِيحِ إِنَّهُ إِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، ثُمَّ قَوْلِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَشَهَادَتُهُ لَيْسَتْ حَقًّا، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.

ص: 244

وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ: " وَيُظَنُّ أَنَّهُ كُتِبَ فِي أَفْسَسَ بَيْنَ سَنَةِ 70 و95 ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى عُلَمَاءِ أُورُبَّا الْأَحْرَارِ مَا نَصُّهُ: " وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْكُفَّارِ قَانُونِيَّةَ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; لِكَرَاهَتِهِمْ تَعْلِيمَهُ الرُّوحِيَّ، وَلَا سِيَّمَا تَصْرِيحَهُ الْوَاضِحَ بِلَاهُوتِ الْمَسِيحِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِصِحَّتِهِ كَافِيَةٌ، فَإِنَّ بُطْرُسَ يُشِيرُ إِلَى آيَةٍ مِنْهُ (2 بط 1: 14 قابل يو 21: 18) وَأَغْنَاطْيُوسَ وَبُولِيكْرِيسَ يَقْتَطِفَانِ مِنْ رُوحِهِ وَفَحْوَاهُ، وَكَذَلِكَ الرِّسَالَةُ إِلَى دِيُوكْنِيتْسَ، وَبَاسِيلِدْسَ وَجُوسْتِينِسَ الشَّهِيدِ وَتَانْيَانْسَ. وَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ يَرْجِعُ بِنَا زَمَانُهَا إِلَى مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَعَلَى نَفْسِ كِتَابَتِهِ الَّذِي يُوَافِقُ مَا نَعْلَمُهُ مِنْ سِيرَةِ يُوحَنَّا، نَحْكُمُ أَنَّهُ مِنْ قَلَمِهِ، وَإِلَّا فَكَاتِبُهُ مِنَ الْمَكْرِ وَالْغِشِّ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، وَهَذَا الْأَمْرُ يَعْسُرُ

تَصْدِيقُهُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يَغُشَّ الْعَالَمَ لَا يَكُونُ رُوحِيًّا، وَلَا يَتَّصِلُ إِلَى عُلُوِّ وَعُمْقِ الْأَفْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، وَإِذَا قَابَلْنَاهُ بِمُؤَلَّفَاتِ الْآبَاءِ رَأَيْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَوْنًا عَظِيمًا، حَتَّى نَضْطَرَّ لِلْحُكْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَأْلِيفٍ كَهَذَا، بَلْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ التَّلَامِيذِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا يُوحَنَّا، وَيُوحَنَّا ذَاتُهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَأْلِيفَهُ بِدُونِ إِلْهَامٍ مِنْ رَبِّهِ " انْتَهَى.

أَقُولُ: إِنَّ مِنْ عَجَائِبِ الْبَشَرِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ يَنْقُلَهُ مُتَعَمِّدًا لَهُ، عَالَمٌ طَبِيبٌ كَالدُّكْتُورِ بوستَ! فَإِنَّهُ كَلَامٌ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَهَافُتُهُ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَلَا أَعْقِلُ لَهُ تَعْلِيلًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا وَغِشًّا ; لِإِرْضَاءِ عَامَّةِ النَّصَارَى، لَا لِإِرْضَاءِ اعْتِقَادِهِ وَوِجْدَانِهِ، أَوْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ الدِّينِيُّ مِنَ الصِّغَرِ قَدْ رَانَ عَلَى قَلْبِ الْكَاتِبِ، فَسَلَبَهُ عَقْلَهُ وَاسْتِقْلَالَهُ وَفَهْمَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ دِينِهِ. وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ بِالْإِيجَازِ: إِنَّ الدُّكْتُورَ بوستَ مِنْ أَعْلَمِ الْأُورُوبِّيِّينَ الَّذِينَ خَدَمُوا دِينَهُمْ فِي سُورِيَّةَ، وَأَوْسَعِهِمُ اطِّلَاعًا، وَهُوَ يُلَخِّصُ فِي قَامُوسِهِ هَذَا أَقْوَى مَا بَسَطَهُ عُلَمَاءُ اللَّاهُوتِ فِي إِثْبَاتِ دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَرَدِّ اعْتِرَاضَاتِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهَا. فَإِذَا كَانَ هَذَا مُنْتَهَى شَوْطِهِمْ فِي إِثْبَاتِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي عَقِيدَةِ تَأْلِيهِ الْمَسِيحِ ; فَمَا هُوَ الظَّنُّ بِكَلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ الْأَحْرَارِ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْإِنْجِيلِ؟ !

ابْتَدَأَ رَدَّهُ عَلَى مُنْكِرِي هَذَا الْإِنْجِيلِ بِأَنَّ بُطْرُسَ أَشَارَ إِلَى آيَةٍ مِنْهُ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ، فَهَذَا أَقْوَى بُرْهَانٍ عِنْدَهُمْ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْإِنْجِيلِ كُتِبَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ.

فَأَوَّلُ مَا تَقُولُهُ فِي رَدِّ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَهْمِيِّ أَنَّ رِسَالَةَ بُطْرُسَ الثَّانِيَةَ كُتِبَتْ فِي بَابِلَ سَنَةَ 64 و68 كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ كِتَابِ (مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الثَّمِينِ) وَإِنْجِيلُ يُوحَنَّا كُتِبَ سَنَةَ 95 أَوْ 98 عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ بوستُ وَصَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ طَائِفَتِهِمُ (الْبُرُوتِسْتَانْتِ) فَهُوَ قَدْ أُلِّفَ بَعْدَ كِتَابَةِ رِسَالَةِ بُطْرُسَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَإِذَا وَافَقَهَا فِي شَيْءٍ فَأَوَّلُ مَا يَخْطُرُ فِي بَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْهَا، وَإِنْ أُلِّفَ بَعْدَهَا بِعِدَّةِ

ص: 245

قُرُونٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ؟ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْوَاهِيَةِ إِلَّا احْتِمَالُ نَقْلِ الْمُتَأَخِّرِ - وَهُوَ مُؤَلِّفُ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا - عَنِ الْمُتَقَدِّمِ - وَهُوَ بُطْرُسُ - لَكَفَى، وَهُمْ

جَازِمُونَ بِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَارِيخٌ صَحِيحٌ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا، بَلْ تَارِيخُ وِلَادَةِ إِلَهِهِمْ وَرَبِّهِمُ الَّذِي يُؤَرِّخُونَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ خَطَأٌ، كَمَا حَقَّقَهُ يَعْقُوبُ بَاشَا أَرْتِينَ وَغَيْرُهُ.

وَنَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّنَا قَابَلْنَا بَيْنَ (2 بط 1: 14) وَبَيْنَ (يو 21: 18) فَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِ بُطْرُسَ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ إِشَارَةً وَاضِحَةً إِلَى مَا ذَكَرَهُ يُوحَنَّا، فَعِبَارَةُ بُطْرُسَ الَّتِي سَمَّوْهَا شَهَادَةً لَهُ، هِيَ قَوْلُهُ:" عَالِمًا أَنَّ خَلْعَ سَكَنِي قَرِيبٌ، كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضًا "، وَعِبَارَةُ يُوحَنَّا الْمَشْهُودُ لَهَا هِيَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَبُطْرُسَ " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ، وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ، وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَكَ، وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لَا تَشَاءُ ".

فَمَعْنَى عِبَارَةِ بُطْرُسَ أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ مَسْكَنَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَرْحَلُ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَلِّمُهُمْ، وَمَعْنَى عِبَارَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ إِذَا شَاخَ وَهَرِمَ يَقُودُهُ مَنْ يَخْدِمُهُ، وَيَشُدُّ لَهُ مِنْطَقَتَهُ. فَإِنْ فَرْضَنَا أَنَّ بُطْرُسَ كَتَبَ هَذَا بَعْدَ يُوحَنَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَدْنَى شُبْهَةٍ عَلَى تَصْدِيقِ يُوحَنَّا فِي عِبَارَتِهِ هَذِهِ، فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِهِ فِي كُلِّ إِنْجِيلِهِ. فَمَا أَوْهَى دِينًا هَذِهِ أُسُسُهُ وَدَعَائِمَهُ!

ذَكَّرَنِي هَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَادِرَةً رُوِيَتْ لِي عَنْ رَجُلٍ هَرِمٍ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ (وَلَا أَذْكُرُ هَذَا الْوَصْفَ تَعْرِيضًا بِتَلَامِيذِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَعَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ) قَالَ: إِنَّ رَجُلًا غَرِيبًا مِنَ الدَّرَاوِيشِ عَلَّمَهُ سُورَةً لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ سِوَاهُمَا، إِلَّا أَنَّ خَطِيبَ الْبَلَدِ يَحْفَظُ مِنْهَا كَلِمَتَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى أَصْلِهَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ السَّخَافَةِ، الَّتِي سَمَّاهَا سُورَةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِينَ الْمَدَدَا، عِنْدَ النَّبِيِّ أَشْهَدَا، نَبِيُّنَا مُحَمَّدَا، فِي الْجِنَانِ مُخَلَّدَا، إِجَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَا، بِنْتُ خَدِيجَةَ الْكُبْرَى، آلَتْ لَوْ يَا بَابَتِي يَا بَابَتِي عَلَّمَنِي كَلِمَتَيْنِ. . . إِلَخْ. وَالْكَلِمَتَانِ اللَّتَانِ يَحْفَظُهُمَا الْخَطِيبُ مِنْهُمَا هُمَا " فَاطِمَةُ الزَّهْرَا " وَ " خَدِيجَةُ الْكُبْرَى " عليهما السلام ; لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، بَعْدَ التَّرَضِّي عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ:" وَارْضَ اللهُمَّ عَنْ أُمِّهِمَا فَاطِمَةَ الزَّهْرَا، وَعَنْ جَدَّتِهِمَا خَدِيجَةَ الْكُبْرَى ".

وَلَا يَخْفَى عَلَى الْقَارِئِ، أَنَّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْجَاعِ الْعَامِّيَّةِ، وَخُطْبَةِ خَطِيبِ الْبَلَدِ فِي تَيْنَكَ الْكَلِمَتَيْنِ أَظْهَرُ مِنْ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ رِسَالَةِ بُطْرُسَ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا، بَلْ لَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَهَذِهِ الرِّسَالَةِ اتِّفَاقٌ مَا فِيمَا زَعَمُوهُ تَكَلُّفًا وَتَحْرِيفًا لِلْعِبَارَةِ عَنْ مَعْنَاهَا.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِاقْتِطَافِ أَغْنَاطْيُوسَ، وَبُولِيكْرِيسَ مِنْ رُوحِ هَذَا الْإِنْجِيلِ فَهُوَ

مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِ بِشَهَادَةِ بُطْرُسَ لَهُ، بَلْ أَضْعَفُ ; إِذْ مَعْنَى هَذَا الِاقْتِطَافِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ شَيْءٌ يَتَّفِقُ مَعَ بَعْضِ مَعَانِي هَذَا الْإِنْجِيلِ. فَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ فَهُوَ لَا يَدُلُّ

ص: 246

عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِهِمَا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ، وَلَمْ يَعْزُوَا إِلَيْهِ شَيْئًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى، إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ كَالِاتِّفَاقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُطْرُسَ، مُقْتَبَسًا مِنْ كِتَابٍ آخَرَ، كَانَ مُتَدَاوَلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ التَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عِنْدَ بَعْضِ شُعُوبِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ يُوحَنَّا انْفَرَدَ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ (الْكَلِمَةِ) وَالْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ هَذَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) (4: 171) أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَهَذَا اللَّفْظَ مِمَّا أُثِرَ عَنِ الْيُونَانِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَبَحَثَ فِيهَا أَيْضًا (فِيلُو) الْفَيْلَسُوفُ الْيَهُودِيُّ الْمُعَاصِرُ لِلْمَسِيحِ. فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ (أَغْنَاطْيُوسَ) اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ وَذَكَرَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لَا يَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى نَقْلِهَا عَنْ يُوحَنَّا، وَعَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا وَرِسَالَتَهُ وَرُؤْيَاهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْقَرْنِ الثَّانِي ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَدِينُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ قَبْلَ يُوحَنَّا وَقَبْلَ الْمَسِيحِ عليه السلام، وَإِذَا كَانَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ يُوحَنَّا عَنْ غَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَ؛ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ فِي الْمَعَانِي الْأُخْرَى، الَّتِي لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا يُوحَنَّا؟ .

فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا النَّقْدِ الْوَجِيزِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بوستُ وَسَمَّاهُ كَغَيْرِهِ شَهَادَةً لِإِنْجِيلِ يُوحَنَّا لَيْسَ شَهَادَةً. وَإِنَّ مَا سَمَّيْنَاهُ شَهَادَةً فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا شَهَادَةُ زُورٍ، وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ كِتَابَةَ هَذَا الْإِنْجِيلِ تُوَافِقُ سِيرَةَ يُوحَنَّا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهُوَ تَمْوِيهٌ، نَقَضُوهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَيْضًا، إِلَّا بِالْإِلْهَامِ ; إِذْ كُلُّ مُلْهَمٍ يَقْدِرُ بِإِقْدَارِ اللهِ الَّذِي أَلْهَمَهُ، وَلَيْسَ لِيُوحَنَّا عِنْدَهُمْ سِيرَةٌ تُثْبَتُ أَوْ تُنْفَى.

بَقِيَ اسْتِدْلَالُهُ الْأَخِيرُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ بِأَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَلَمِ يُوحَنَّا لَكَانَ الْكَاتِبُ لَهُ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْغِشِّ ; قَالَ: " وَهَذَا الْأَمْرُ يَعْسُرُ تَصْدِيقُهُ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يَغُشَّ الْعَالَمَ لَا يَكُونُ رُوحِيًّا ". . . إِلَخْ. فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يُنْبِئُ بِسَذَاجَةِ مَنِ اخْتَرَعَهُ وَنَقَلَهُ وَغَرَارَتِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِغَبَاوَتِهِمْ، أَوْ قَصْدِهِمْ مُخَادَعَةَ النَّاسِ.

وَبُطْلَانُهُ بَدِيهِيٌّ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ لِلْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رُوحِيًّا، وَالْكَاتِبَ فِي الْفَضَائِلِ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا. وَقَدْ كَانَ فِي مِصْرَ كَاتِبٌ مَنْ أَبْلَغِ كُتَّابِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ، وَمَعَ هَذَا وَصَفَهُ بَعْضُ عَارِفِيهِ بِقَوْلِهِ:" إِنَّ حُرُوفَ الْفَضِيلَةِ تَتَأَلَّمُ مِنْ لَوْكِهَا بِفَمِهِ، وَوَخْزِهَا بِسِنِّ قَلَمِهِ ". وَإِنَّ الرُّوحَانِيَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيسِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَمِنَ الْأَفْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ، لَهُوَ أَعْلَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ

ص: 247

مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَيَزْعُمُونَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غِشَّ النَّاسِ وَتَحْوِيلَهُمْ عَنِ التَّثْلِيثِ وَالشَّرَكِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ!

إِنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ الْأَخِيرَ الَّذِي سَلَكَهُ بوستُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ نِسْبَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا إِلَيْهِ يَقْبَلُهُ الْمُقَلِّدُونَ لِعُلَمَاءِ اللَّاهُوتِ عِنْدَهُمْ، بِغَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ، وَالنَّاظِرُ الْمُسْتَقِلُّ يَرَاهُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ ; لِأَسْبَابٍ، أَهَمُّهَا ثَلَاثَةٌ:(1) أَنَّهُ جَاءَ بِعَقِيدَةٍ وَثَنِيَّةٍ نَقَضَتْ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمُقَرَّرَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَجَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَسِيحُ بِأَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ، بَلْ لِيُتَمِّمَهُ، وَأَصْلُ النَّامُوسِ وَأَسَاسُهُ الْوَصَايَا الْعَشْرُ، وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا بِالْبَقَاءِ وَدَوَامِ الْبِنَاءِ، وَصِيَّةُ التَّوْحِيدِ.

(2)

مُخَالَفَتُهُ فِي عَقِيدَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ لِكُلِّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَتِهِ وَقَوْمِهِ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَهُ. (3) مُخَالَفَتُهُ لِلْأَنَاجِيلِ الَّتِي كُتِبَتْ قَبْلَهُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا تَحَامِيهِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ، مِمَّا يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ ; كَتَجْرِبَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَخَوْفِهِ مَنْ فَتْكِ الْيَهُودِ بِهِ، وَتَضَرُّعِهِ إِلَى اللهِ خَائِفًا مُتَأَلِّمًا ; لِيَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُمْ وَيُنْقِذَهُ مِنْهُمْ، وَصُرَاخِهِ وَقْتَ الصَّلْبِ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ أَسَالِيبَ الْأَنَاجِيلِ وَفَحْوَاهَا يَرَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا غَرِيبٌ عَنْهَا، وَيَجْزِمُ بِأَنَّ كَاتِبَهُ مُتَأَخِّرٌ، سَرَتْ إِلَيْهِ عَقَائِدُ الْوَثَنِيِّينَ، فَأَحَبَّ أَنْ يُلَقِّحَ بِهَا الْمَسِيحِيِّينَ.

وَنَقُولُ ثَالِثًا: إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُوَافَقَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي لِهَذَا الْإِنْجِيلِ فِي رُوحِ مَعْنَاهُ يُعَدُّ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي؛ فَأَيْنَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِمَّا بَعْدَهُ، ثُمَّ تُبَيِّنُ لَنَا مَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اقْتَطَفُوا مِنْ رُوحِهِ؟ !

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (إِظْهَارَ الْحَقِّ) فَرَأَيْتُهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا

لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ أَحَدُ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، بِعِدَّةِ أُمُورٍ:(مِنْهَا) أُسْلُوبُهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَ لَمْ يَكْتُبْ مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ، بَلْ يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ.

(وَمِنْهَا) آخِرُ فَقْرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ عَنْ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَقْوَالِهِ إِلَّا الْقَلِيلَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا يُوحَنَّا بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ وَشَهِدَ بِذَلِكَ، فَالَّذِي يَنْقُلُ هَذَا عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَقُصَارَاهُ أَنَّهُ ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَتَبَهُ، فَحَكَاهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ فِي ضِمْنِ إِنْجِيلِهِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْأَصْلُ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ يُوحَنَّا كَتَبَهُ وَشَهِدَ بِهِ؟ وَكَيْفَ نَثِقُ بِنَقْلِهِ عَنْهُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، وَرِوَايَةُ الْمَجْهُولِ عِنْدَ مُحَدِّثِي الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا أَلْبَتَّةَ!

(وَمِنْهَا) أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ النَّاسَ أَنْكَرُوا كَوْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ لِيُوحَنَّا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى

ص: 248

عَهْدِ (أَرِينْيُوسَ) تِلْمِيذِ (بُولِيكَارْبَ) الَّذِي هُوَ تِلْمِيذُ يُوحَنَّا، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَرِينْيُوسُ بِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ بُولِيكَارْبَ أَنَّ أُسْتَاذَهُ يُوحَنَّا هُوَ الْكَاتِبُ لَهُ.

(وَمِنْهَا) نَقْلُهُ عَنْ بَعْضِ كُتُبِهِمْ مَا نَصُّهُ " كَتَبَ (إِسْتَادِلْنُ) فِي كِتَابِهِ: " إِنَّ كَافَّةَ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا تَصْنِيفُ طَالِبٍ مِنْ طَلَبةِ مَدْرَسَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِلَا رَيْبٍ ".

(وَمِنْهَا) أَنَّ الْمُحَقِّقَ (بَرْطَشِنِيدَرَ) قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كُلَّهُ، وَكَذَا رَسَائِلُ يُوحَنَّا لَيْسَتْ مِنْ تَصْنِيفِهِ، بَلْ صَنَّفَهَا أَحَدٌ (كَذَا) فِي ابْتِدَاءِ الْقَرْنِ الثَّانِي.

(وَمِنْهَا) أَنَّ الْمُحَقِّقَ (كُرُوتِيسَ) قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كَانَ عِشْرِينَ بَابًا، فَأَلْحَقَتْ كَنِيسَةُ أَفَسَاسَ الْبَابَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ مَوْتِ يُوحَنَّا.

(وَمِنْهَا) أَنَّ جُمْهُورَ عُلَمَائِهِمْ رَدُّوا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ. . . إِلَخْ.

سَادِسًا: عَلِمْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّصَارَى لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ وَلَا مُنْقَطِعَةٌ لِكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ؛ وَإِنَّمَا بَحَثُوا وَنَقَّبُوا فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَفَلَّوْهَا فَلِيًّا لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا شُبْهَةَ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى لِلْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا صَرِيحًا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْهَا؛ وَإِنَّمَا وَجَدُوا كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةً أَوْ مُبْهَمَةً، فَسَّرُوهَا كَمَا شَاءَتْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَسَمَّوْهَا شَهَادَاتٍ، وَنَظَمُوهَا فِي سِلْكِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا غَيْرَ مَنْقُولَةٍ عَنِ الثِّقَاتِ، ثُمَّ اسْتَنْبَطُوا مِنْ فَحْوَاهَا وَمَضَامِينِهَا مَسَائِلَ مُتَشَابِهَةً، زَعَمُوا أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يُؤَيِّدُ الْآخَرَ وَيَشْهَدُ لَهُ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ضَعْفِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ.

فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ صِدْقُ قَوْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)

(5: 14) وَثَبَتَ بِهِ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ ; إِذْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِ اهْتَدَى إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ وَنَظَرِهِ، كَيْفَ وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَنْ أَكْثَرِ عُلَمَائِنَا الْأَعْلَامِ عِدَّةَ قُرُونٍ ; لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَارِيخِ الْقَوْمِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ كُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ ارْتَقَوْا بِعِلْمِهِمْ وَاخْتِبَارِهِمْ إِلَى أَرْفَعِ الْمَنَاصِبِ، سَأَلَنِي مَرَّةً: كَيْفَ نَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ لِلنَّصَارَى كِتَابًا وَاحِدًا يُسَمَّى الْإِنْجِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى عِيسَى، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، مَعَ أَنَّ النَّصَارَى أَنْفُسَهُمْ يَقُولُونَ هَذَا وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةُ أَنَاجِيلَ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَسِيرَتِهِ؟ فَأَجَبْتُهُ: إِنَّ الْإِنْجِيلَ الَّذِي نَنْسُبُهُ إِلَى الْمَسِيحِ وَنَقُولُ إِنَّهُ هُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُذَكَرُ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ عَنْ لِسَانِ الْمَسِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، إِلَى آخِرِ مَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ.

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)(5: 14) فَأَنْتَ تَرَى مِصْدَاقَ هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، وَبَيْنَ دُوَلِهِمْ، لَمْ يَنْقَطِعْ زَمَنًا.

ص: 249

سَابِعًا: أَنَّ أَحَدَ فَلَاسِفَةِ الْهُنُودِ دَرَسَ تَارِيخَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَبَحَثَ فِيهَا بَحْثَ مُسْتَقِلٍّ مُنْصِفٍ، وَأَطَالَ الْبَحْثَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ لِمَا لِلدُّوَلِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهَا مِنَ الْمُلْكِ وَسَعَةِ السُّلْطَانِ وَالتَّبْرِيزِ فِي الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْإِسْلَامِ فَعَرَفَ أَنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ فَأَسْلَمَ وَأَلَّفَ كِتَابًا بِاللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، سَمَّاهُ (لِمَاذَا أَسْلَمْتُ) بَيَّنَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَكَانَ أَهَمَّهَا عِنْدَهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَهُ تَارِيخٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ، فَالْآخِذُ بِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ، الْمَدْفُونُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ مَثَارِ الْعَجَبِ عِنْدَهُ أَنْ تَرْضَى أُورُبَّةُ لِنَفْسِهَا دِينًا، تَرْفَعُ مَنْ تَنْسُبُهُ إِلَيْهِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ فَتَجْعَلُهُ إِلَهًا، وَهِيَ لَا تَعْرِفُ مِنْ تَارِيخِهِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ أَصْلِهَا، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِتَارِيخِهَا وَمُؤَلِّفِيهَا، لَا تَذْكُرُ مِنْ تَارِيخِ الْمَسِيحِ إِلَّا وَقَائِعَ قَلِيلَةً حَدَثَتْ - كَمَا تَقُولُ - فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ. وَلَا يُذْكَرُ فِيهَا شَيْءٌ يُعْتَدُّ بِهِ عَنْ نَشْأَةِ هَذَا الرَّجُلِ وَتَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَيَّامِ صِبَاهُ وَشَبَابِهِ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُئُونٌ.

(يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَبْلُ، كَمَا أَخَذَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْآنَ، وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَهُ، وَأَضَاعُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا مَا حَفِظُوهُ مِنْهُ. وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي هِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ. ثُمَّ نَادَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ، عز وجل:(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ إِخْفَاءِ الْيَهُودِ حُكْمَ رَجْمِ الزَّانِي حِينَ تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، وَسَتَأْتِي الْقِصَّةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى

ص: 250

إِطْلَاقِهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْمَسَائِلِ، الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ، مِنْهَا حُكْمُ رَجْمِ الزَّانِي، وَهُوَ مِمَّا حَفِظُوهُ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ (كَمَا تَرَاهُ فِي 22: 20 - 24 مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ) وَلَمْ يَلْتَزِمُوا الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنْكَرُوهُ أَمَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْسَمَ عَلَى عَالِمِهِمُ ابْنِ صُورِيَا وَنَاشَدَهُ اللهَ حَتَّى اعْتَرَفَ بِهِ. فَهَذَا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَهُ عِنْدَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ أَوِ الْفَتْوَى، وَكَذَلِكَ أَخْفَوْا صِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْبِشَارَاتِ بِهِ، وَحَرَّفُوهَا بِالْحَمْلِ عَلَى مَعَانٍ أُخْرَى، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَهَذَا النَّوْعُ غَيْرُ مَا أَضَاعُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ وَنَسُوهُ أَلْبَتَّةَ ; كَنِسْيَانِ الْيَهُودِ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ خَبَرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا أَظْهَرَهُ لَهُمُ الرَّسُولُ مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَهُ عَنْهُ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ - كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَقَوَى ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِمْ ; وَلِهَذَا

آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الْمُنْصِفِينَ، وَاعْتَرَفُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَصِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَهُ، فَلَا يَفْضَحُكُمْ بِبَيَانِهِ، وَهَذَا النَّصُّ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُخْفُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ عَامَّتِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ ; لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ إِذْ هُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ، كَدَأْبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ؛ يَكْتُمُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَاشِفًا عَنْ سُوءِ حَالِهِمْ، أَوْ يُحَرِّفُونَهُ تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ.

(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) فِي الْمُرَادِ بِالنُّورِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. ثَانِيهَا: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآنُ. وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ نُورًا هُوَ أَنَّهَا لِلْبَصِيرَةِ كَالنُّورِ لِلْبَصَرِ، فَلَوْلَا النُّورُ لَمَا أَدْرَكَ الْبَصَرُ شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ، وَلَوْلَا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ لَمَا أَدْرَكَ ذُو الْبَصِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ حَقِيقَةَ دِينِ اللهِ، وَحَقِيقَةَ مَا طَرَأَ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهَا وَنِسْيَانِهِ وَعَبَثِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ بِإِخْفَاءِ بَعْضِهِ وَتَحْرِيفِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَلَظَلُّوا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ لَا يُبْصِرُونَ. وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلَوْلَا عَطْفُهُ عَلَى النُّورِ لَمَا فَسَّرُوا النُّورَ إِلَّا بِهِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ قَدْ يَرِدُ لِلتَّفْسِيرِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ هُنَا لِتُوَافِقَ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ:(يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)(4: 174، 175) وَقَدْ قَالَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا النُّورِ:

ص: 251

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فَبَيَّنَ مَزِيَّةَ النُّورِ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فَقَالَ: (يَهْدِي بِهِ) وَلَمْ يَقُلْ " بِهِمَا "، فَكَانَ هَذَا مُرَجِّحًا لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِهِمَا وَاحِدًا، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَثَمَّ شَوَاهِدُ أُخْرَى تُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ غَيْرُ آيَتَيِ النِّسَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي

الْمُهْتَدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(7: 157) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا)(64: 8) عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَغَيَّرُ إِذَا قُلْنَا: إِنِ النُّورَ هُنَا هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَظْهَرُ الْأَكْمَلُ لِلْقُرْآنِ بِبَيَانِهِ لَهُ، وَتَخَلُّقِهِ بِهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:" كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ "، وَلَا نُعْدَمُ لِذَلِكَ شَاهِدًا مِنْ آيَاتِهِ، فَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ:(وَسِرَاجًا مُنِيرًا)(33: 46) .

وَلْيَرْجِعِ الْقَارِئُ إِلَى تَفْسِيرِنَا لِآيَتَيِ النِّسَاءِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهِمَا مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُبِينًا بِمَا يَنْفَعُهُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ هُنَا لِهَذَا النُّورِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ.

(الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : أَنَّهُ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ; أَيْ إِنَّ مَنِ اتَّبَعَ مِنْهُمْ مَا يُرْضِيهِ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهَذَا النُّورِ يَهْدِيهِ - هِدَايَةَ دَلَالَةٍ تَصْحَبُهَا الْعِنَايَةُ وَالْإِعَانَةُ - الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرْدِيهِ وَيُشْقِيهِ، فَيَقُومُ فِي الدُّنْيَا بِحُقُوقِ اللهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ نَفْسِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَحُقُوقِ النَّاسِ، فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالطَّيِّبَاتِ مُجْتَنِبًا لِلْخَبَائِثِ، تَقِيًّا مُخْلِصًا، صَالِحًا مُصْلِحًا، وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيدًا مُنَعَّمًا، جَامِعًا بَيْنَ النَّعِيمِ الْحِسِّيِّ الْجَسَدِيِّ وَالنَّعِيمِ الرُّوحِيِّ الْعَقْلِيِّ. وَخُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ يَتْبَعُ دِينًا يَجِدُ فِيهِ جَمِيعَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَا تَسْلَمُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ دِينُ السَّلَامِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، دِينُ الْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ.

(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) : الْإِخْرَاجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي أَفْسَدَ بِهَا الرُّؤَسَاءُ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ وَاسْتَعْبَدُوا أَهْلَهَا إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يُحَرِّرُ صَاحِبَهُ مِنْ رِقِّ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَكُونُ بَيْنَ الْخَلْقِ حُرًّا كَرِيمًا، وَبَيْنَ يَدَيِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ عَبْدًا خَاضِعًا. وَقَوْلُهُ:(بِإِذْنِهِ) فَسَّرُوهُ بِمَشِيئَتِهِ وَبِتَوْفِيقِهِ. وَالْإِذْنُ الْعِلْمُ. يُقَالُ أَذِنَ بِالشَّيْءِ: إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَآذَنْتُهُ بِهِ: أَعْلَمْتُهُ فَأَذِنَ، وَيُقَالُ أَذَّنَ - بِالتَّشْدِيدِ - وَتَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ غَيْرَهُ، وَيُقَالُ: أَذِنَ لَهُ بِالشَّيْءِ: إِذَا أَبَاحَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ أَذَنًا: اسْتَمَعَ،

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ ; أَيْ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِعِلْمِهِ الَّذِي جَعَلَ بِهِ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبًا لِانْقِشَاعِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنْ نَفْسِ

ص: 252

مَنْ يَهْتَدِي بِهِ، وَاسْتِبْدَالِ نُورِ الْحَقِّ بِهَا، بِنَسْخِهِ وَإِزَالَتِهِ لَهَا ; فَهُوَ إِخْرَاجٌ يَجْرِي عَلَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي النُّفُوسِ، وَإِصْلَاحِهَا إِيَّاهَا، لَا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِمَحْضِ الْخَلْقِ وَاسْتِئْنَافِ التَّكْوِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ.

(الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ) : الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ إِلَى الْمَقْصِدِ وَالْغَايَةِ مِنَ الدِّينِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ ; لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، فَيُبْطِئُ سَالِكُهُ أَوْ يَضِلُّ فِي سَيْرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِصَامُ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ وَالتَّأْوِيلِ ; بِأَنْ تَكُونَ عَقَائِدُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ مُؤَثِّرَةً فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ وَإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ. وَثَمَرَةُ ذَلِكَ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَسَبَ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ

مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كَافَّةً، ثُمَّ بَيَّنَ مَا كَفَرَ بِهِ النَّصَارَى خَاصَّةً، فَقَالَ:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " هُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِالِاتِّحَادِ

ص: 253

مِنْهُمْ، وَقِيلَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّ فِيهِ لَاهُوتًا، وَقَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا وَاحِدٌ، لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَسِيحَ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ لَازِمُ قَوْلِهِمْ ; تَوْضِيحًا لِجَهْلِهِمْ، وَتَفْضِيحًا لِمُعْتَقَدِهِمْ "، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَأَنَّهُ لَازِمُ مَذْهَبِ النَّصَارَى، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقُولُونَهُ، أَوْ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ مَذْهَبُ الْيَعْقُوبِيَّةِ مِنْهُمْ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ ذَكَرُوا أَنَّ النَّصَارَى ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالْمِلْكَانِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْثَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالرَّازِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِمَا يَعْرِفُونَ عَنِ النَّصَارَى ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا كُتُبَهُمْ، وَلَمْ يُنَاظِرُوهُمْ فِيهَا وَفِي عَقَائِدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ مَا فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ قَضَايَا مُسَلَّمَةً، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِيهَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ بِأَنَّهَا الْوُجُودُ وَالْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ ; فَالْقَوْلُ بِهَا لَا يُنَافِي وَحْدَانِيَّةَ الْخَالِقِ، وَكَانَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ عُلَمَاءِ النَّصَارَى لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا، كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ الْآنَ فِي نَصَارَى أُورُبَّةَ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ نَبِيٌّ رَسُولٌ لَا إِلَهٌ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي النَّصَارَى مَنْ يَقُولُ بِتِلْكَ الْفَلْسَفَةِ ; لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ يُغَيِّرُونَ فِي دِينِهِمْ مَا شَاءُوا أَنْ يُغَيِّرُوا فِي فَلْسَفَتِهِ وَغَيْرِ فَلْسَفَتِهِ، وَكَانَ أَكْبَرُ تَغْيِيرِ حَدَثَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ مَذْهَبَ (الْبُرُوتِسْتَانْتِ) أَيْ إِصْلَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ ; حَدَثَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ قُرُونٍ، وَصَارَ هُوَ السَّائِدَ فِي أَعْظَمِ الْأُمَمِ مَدَنِيَّةً وَارْتِقَاءً ; كَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ وَأَلْمَانْيَةَ. نَسَفَ هَذَا الْمَذْهَبُ أَكْثَرَ التَّقَالِيدِ وَالْخُرَافَاتِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، ثُمَّ اسْتَبْدَلَ بِهَا تَقَالِيدَ أُخْرَى، فَصَارَ عِدَّةَ مَذَاهِبَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَعَ هَذَا تَرَى هَؤُلَاءِ الْمُصْلِحِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَعَادُوا النَّصْرَانِيَّةَ إِلَى أَصْلِهَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا

أَنْ يُرْجِعُوهَا إِلَى التَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرُسُلِ اللهِ أَجْمَعِينَ، فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَبِالتَّثْلِيثِ، وَيَعُدُّونَ الْمُوَحِّدَ غَيْرَ مَسِيحِيٍّ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْفِرْقَتَانِ الْكَبِيرَتَانِ الْأُخْرَيَانِ مِنْ فِرَقِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَهُمُ الْكَاثُولِيكُ وَالْأُرْثُوذُكْسُ، فَجَمِيعُ فِرَقِ نَصَارَى هَذَا الْعَصْرِ تَقُولُ: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ هُوَ اللهُ، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّصَارَى الْقُدَمَاءَ لَمْ يَكُونُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُونَا.

قَالَ (الدُّكْتُورُ بوستُ) فِي تَارِيخِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ مَا نَصُّهُ: " طَبِيعَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ مُتَسَاوِيَةِ الْجَوْهَرِ: اللهُ الْآبُ، وَاللهُ الِابْنُ، وَاللهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، فَإِلَى الْآبِ يَنْتَمِي الْخَلْقُ بِوَاسِطَةِ الِابْنِ، وَإِلَى الِابْنِ الْمُفَدَّى وَإِلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ التَّطْهِيرُ، غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَانِيمَ تَتَقَاسَمُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ عَلَى السَّوَاءِ.

أَمَّا مَسْأَلَةُ التَّثْلِيثِ فَغَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا هِيَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا فِي (تك ص1) حَيْثُ ذُكِرَ " اللهُ " وَ " رُوحُ اللهِ ". . . إِلَخْ (قابل مز 33: ويو 16: 10 و3) وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُشَخِّصَةُ فِي (أم ص 8)

ص: 254

تُقَابِلُ الْكَلِمَةَ فِي (يو ص 1) وَرُبَّمَا تُشِيرُ إِلَى الْأُقْنُومِ الثَّانِي، وَتُطْلَقُ نُعُوتُ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ أُقْنُومٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حِدَتِهِ " انْتَهَى بِحُرُوفِهِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَهْدَ الْقَدِيمَ ; أَيْ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْمَسِيحِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ظَاهِرٌ وَلَا خَفِيٌّ فِي عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ ; لِأَنَّهَا عَقِيدَةٌ وَتَثْنِيَةٌ مَحْضَةٌ. وَمِنْ أَغْرَبِ التَّكَلُّفِ تَفْسِيرُ " الْحِكْمَةِ " فِي أَمْثَالِ سُلَيْمَانَ، بِـ " الْكَلِمَةِ " بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ، وَهُوَ وَهْمٌ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ سُلَيْمَانَ وَلَا الْمَسِيحِ عليهما السلام، وَسَتَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اسْتِعْمَالَ الْكَلِمَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي كَلَامِ يُوحَنَّا، وَقَدْ كَانَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى مُوَحِّدِينَ، أَعْدَاءً لِلْوَثَنِيَّةِ وَالْوَثَنِيِّينَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنِ التَّوْحِيدَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَيْضًا، وَالتَّثْلِيثَ فِيهِ هُوَ الْخَفِيُّ ; فَإِنَّ الْعَقِيدَةَ الَّتِي يَدْعُو إِلَيْهَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَالتَّثْلِيثِ لَا تُفْهَمُ كُلُّهَا مِنَ

الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، بَلْ هُنَالِكَ عِبَارَاتٌ يَتَحَكَّمُونَ فِي تَفْسِيرِهَا وَشَرْحِهَا كَمَا يَهْوَوْنَ عَلَى خِلَافٍ شَهِيرٍ فِيهَا بَيْنَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ.

وَالْعُمْدَةُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَوَّلُ عِبَارَةٍ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَهِيَ:" فِي الْبَدْءِ كَانَتِ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَاللهُ هُوَ الْكَلِمَةُ " وَقَدْ أَطْلَقُوا لَفْظَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَصَارَ مَعْنَى الْفِقْرَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ عِبَارَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: وَاللهُ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذَا عَيْنُ مَا أَسْنَدَهُ الْقُرْآنُ إِلَيْهِمْ؛ فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَيْضَاوِيُّ وَالرَّازِيُّ إِنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ لَازِمَ مَذْهَبِهِمْ؟ ! قَالَ بوستُ فِي قَامُوسِهِ:" يُقْصَدُ بِالْكَلِمَةِ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي مُؤَلَّفَاتِ يُوحَنَّا (1: 1 - 14، و1 يو 1: 1، ورؤ 19: 13) وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفَيْلَسُوفُ (فِيلُو) لَفْظَةَ " الْكَلِمَةِ " غَيْرَ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا غَيْرَ مَا قَصَدَ يُوحَنَّا " اهـ.

أَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرٍ (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ يُوحَنَّا مَا كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، إِلَّا إِجَابَةً لِاقْتِرَاحِ مَنْ أَلَحُّوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ ; لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، فَلَوْلَا هَذَا الِاقْتِرَاحُ وَالْإِلْحَاحُ لَمَا كَتَبَ، وَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ لَمْ تُعْرَفْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمَسِيحُ نَفْسُهُ فِي كَلَامِهِ، وَلَا دَعَا إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ الَّذِينَ انْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى إِنْجِيلِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ إِلَّا فِي الْعُشْرِ الْعَاشِرِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ يُوحَنَّا إِنْجِيلَهُ. هَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّ يُوحَنَّا الْحَوَارِيَّ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ - وَلَنْ يَصِحَّ - وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَسْكُتَ الْمَسِيحُ وَجَمِيعُ تَلَامِيذِهِ عَنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِذَا كَانَتْ هِيَ أَصْلَ الدِّينِ كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى، بَلِ الَّذِي تَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ الدَّوَاعِي أَنْ يُقَرِّرَهَا الْمَسِيحُ نَفْسُهُ فِي كَلَامِهِ، وَيَجْعَلَهَا تَلَامِيذُهُ أَوَّلَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَيُكَرِّرُونَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ.

وَلَا يَغُرَنَّكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ (بوستُ) مِنَ الشَّوَاهِدِ عَنْ رِسَالَةِ يُوحَنَّا وَرُؤْيَاهُ، فَتَظُنَّ أَنَّ هُنَالِكَ

ص: 255

نَصًّا أَوْ نُصُوصًا فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، كَلَّا إِنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَوَّلِ رِسَالَتِهِ الْأُولَى هُوَ:" الَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ "، فَكَلِمَةُ الْحَيَاةِ لَا تُفِيدُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ إِلَّا بِتَحَكُّمِهِمْ. وَأَمَّا الشَّاهِدُ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى الرُّؤْيَا ; فَهُوَ:

" 11 ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ 12، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبٍ مِنْ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلَّا هُوَ 13 وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ اللهِ 14، وَالْأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لَابِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ نَقِيًّا 15 وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ ; لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الْأُمَمَ، وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ "، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى الْمَسِيحِ، وَإِنَّمَا تَنْطَبِقُ عَلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَمِنْ أَسْمَائِهِ الصَّادِقُ وَالْأَمِينُ، وَبِالْعَدْلِ كَانَ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. . . إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسِيحِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ وَلَمْ يُحَارِبْ وَلَمْ يَرْعَ الْأُمَمَ. وَلَفْظُ " كَلِمَةِ اللهِ " هُنَا لَا يُفِيدُ مَعْنَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 36: 82) .

وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَثَنِيَّةً فَهُوَ يَظْهَرُ لَكَ جَلِيًّا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْجُزْءِ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ)(4: 171) وَذَلِكَ أَنَّ زَعْمَهُمْ " أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " جُزْءٌ مِنْ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ وَثَنِيِّي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا هُنَالِكَ مِنْ شَوَاهِدِ كُتُبِ التَّارِيخِ وَآثَارِ الْأَوَّلِينَ مَا عُلِمَ بِهِ قَطْعًا أَنَّ النَّصَارَى أَخَذُوا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ عَنْهُمْ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)(5: 73) .

قَالَ تَعَالَى فِي تَبْكِيتِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَرَدِّ زَعْمِهِمْ: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أَيْ قُلْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى مَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ بِهَذَا الزَّعْمِ الْبَاطِلِ: مَنْ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْئًا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ وَالْإِعْدَامَ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَعَنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِنْ أَرَادَ عز وجل أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيُبِيدَهُمْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ ; أَيْ إِنَّ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ التى هِيَ قَابِلَةٌ لِطُرُوءِ الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ عَلَيْهَا كَسَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُهْلِكَهُمَا وَيُهْلِكَ أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا، لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ إِرَادَتَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ

لِأَمْرِ الْوُجُودِ كُلِّهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا يَسْتَطِيعُ بِهِ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ عَمَلٍ

ص: 256

يُرِيدُهُ أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَمْرٍ لَا يُرِيدُهُ، أَوْ يَسْتَقِلَّ بِعَمَلٍ دُونَهُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: مَلَكَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ أَمْرَهُ: إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، فَصَارَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَ أَمْرًا وَلَا أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَّا بِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي وَصْفِ الْخَمْرَةِ التى لَمْ يَكْسِرِ الْمَزْجُ حِدَّتَهَا، وَلَمْ تُبْطِلِ النَّارُ تَأْثِيرَهَا: لَمْ يَمْلِكِ الْمَاءُ عَلَيْهَا أَمْرَهَا وَلَمْ يُدَنِّسْهَا الضِّرَامُ الْمُحْتَضَى وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أَبْلَغُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ بَعْضَ أَمْرِهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ مِلْكِ أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ أَمْرَهُ، أَوْ يُحَوِّلَهُ عَنْ إِرَادَتِهِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَوِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ ; إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَاهُ، فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَهُ وَحْدَهُ عز وجل، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ عليهم السلام، فَإِذَا كَانَ الْمَسِيحُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوْ عَنْ وَالِدَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى إِنْزَالَهُ بِهِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ اللهَ الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ؟

وَمِنْ غَرِيبِ تَهَافُتِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ شَرَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِهْلَاكِ، وَهُوَ الصَّلْبُ نَزَلَ بِالْمَسِيحِ - الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ وَاللهُ هُوَ الْكَلِمَةُ بِزَعْمِهِمْ - وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ خَائِفًا وَجِلًا ضَارِعًا خَاضِعًا ; لِيَصْرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ الْكَأْسَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ! وَهُمْ يُكَابِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي دَفْعِ هَذَا التَّهَافُتِ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ طَبِيعَتَانِ وَمَشِيئَتَانِ ; ثِنْتَانِ مِنْهُمَا إِلَهِيَّتَانِ، وَثِنْتَانِ بَشَرِيَّتَانِ، وَلَيْتَ شِعْرِي، إِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا؛ فَهَلْ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَجْهَلَ الْمَسِيحُ بِطَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةِ طَبِيعَتَهُ الْإِلَهِيَّةَ، فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (37: 46 إِلَهَيْ إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي) وَيَسْتَنْجِدُهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا يُمْكِنُ وَمَا لَا يُمْكِنُ لَهَا بِمِثْلِ مَا قَالُوهُ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (26: 39 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ) إِلَى أَنْ قَالَ:(42 فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلًا: إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ) وَهَذَا أَعْظَمُ

حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ مُصَدِّقَةٍ لِحُجَّةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ مَشِيئَةَ اللهِ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ.

ثُمَّ إِنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ هِيَ الَّتِي خَاطَبَتِ الْبَشَرَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهَا ; لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَلَا يُوثَقُ بِتَعْلِيمِهَا؛ فَكَيْفَ تُجْعَلُ مَعَ الطَّبِيعَةِ الْأُخْرَى شَيْئًا وَاحِدًا يُسَمَّى رَبًّا وَإِلَهًا وَيُعْبَدُ؟ وَالنَّاسُ مَا رَأَوْا إِلَّا الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَلَا عَرَفُوا غَيْرَهَا، وَلَا سَمِعُوا إِلَّا كَلَامَهَا، وَلَا رَأَوْا إِلَّا أَفْعَالَهَا، وَالنُّكْتَةُ فِي عَطْفِ (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) عَلَى الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ جَازَ عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَاجِيلُهُمْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ كَغَيْرِهِ فِي الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ 5: 75) الْآيَةَ.

ص: 257

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ ; أَيْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ إِهْلَاكَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الْمُطْلَقِ، وَالتَّصَرُّفِ الِاسْتِقْلَالِيِّ الْكَامِلِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ; أَيْ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَالَمَيْنِ ; الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ.

وَهَذَا الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ مِمَّا تَعْتَرِفُ بِهِ النَّصَارَى، وَلَكِنَّهُمْ زَعْمُوا أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ وَالْكَمَالِ الْأَعْلَى قَدْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ - الَّذِي نَدِمَ وَتَأَسَّفَ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ - أَمْرٌ عَظِيمٌ ; وَهُوَ أَنَّ آدَمَ عَصَاهُ، فَاقْتَضَى عَدْلُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، وَاقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُ، فَوَقَعَ التَّنَاقُضُ وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ، فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَخْرَجًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِلَّا أَنْ يَحُلَّ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَيَتَكَوَّنَ جَنِينًا فِيهِ ; فَتَلِدُهُ إِنْسَانًا كَامِلًا وَإِلَهًا كَامِلًا، ثُمَّ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِشَرِّ قِتْلَةٍ، لُعِنَ صَاحِبُهَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَهِيَ الصَّلْبُ ; فِدَاءً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَجَمْعًا بَيْنَ عَدْلِهِ بِتَعْذِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ وَحْدَهُ الْبَرِيءُ مِنَ الذَّنْبِ، وَرَحْمَةِ الْآخَرِينَ إِنْ آمَنُوا بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ عَقْلٍ، ثُمَّ لَمْ يَتِمَّ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّهُ عَذَّبَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَهُ بِهِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ، فَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِدَاءً لَهُمْ؟ وَهَلْ هَذَا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ؟

وَلَمَّا كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ عَلَى كَوْنِ الْمَسِيحِ بَشَرًا إِلَهًا، وَإِنْسَانًا رَبًّا، هِيَ أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى غَيْرِ

السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ عَمِلَ أَعْمَالًا غَرِيبَةً لَا تَصْدُرُ عَنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ، قَالَ تَعَالَى فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ:(يخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أَيْ لَمَّا كَانَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ تَابِعًا لِمَشِيئَتِهِ، فَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَ الْأَحْيَاءِ مِنْ مَادَّةٍ لَا تُوصَفُ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ كَأُصُولِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا أَبُو الْبَشَرِ عليه السلام وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضهَا مِنْ ذَكَرٍ فَقَطْ، أَوْ أُنْثَى فَقَطْ، وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَهَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَا يَدُلُّ شَكْلُ الْخَلْقِ وَلَا سَبَبُهُ وَلَا امْتِيَازُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَالْكَهْرَبَاءِ - عَلَى بَعْضِ أُلُوهِيَّتِهَا أَوْ حُلُولِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ فِيهَا، بَلْ هَذَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يُمْكِنُ. فَامْتِيَازُ الْأَرْضِ عَلَى عُطَارِدَ أَوْ زُحَلَ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ فِيهَا مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُعَدُّ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْأَرْضِ إِلَهًا لِذَلِكَ الْكَوْكَبِ الَّذِي فَضَلَتْهُ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، كَذَلِكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِ الْمَسِيحِ وَمَزَايَاهُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا لِمَنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِمْ هَذِهِ الْمَزَايَا ; لِأَنَّ الْمَزَايَا فِي الْخَلْقِ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهَا الْمَخْلُوقُ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا، نِسْبَتُهُ إِلَى خَالِقِهِ كَنِسْبَةِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الِامْتِيَازُ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ فَهُوَ مَعْهُودٌ مِنَ الْبَشَرِ أَيْضًا، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَقَدِ ادَّعَتِ الْأُمَمُ الْوَثَنِيَّةُ لِأَصْحَابِهَا الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ، وَأَجْمَعَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى

ص: 258

تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، وَسَمَّوْا تِلْكَ الْغَرَائِبَ بِالْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنِ اللهَ تَعَالَى قَدْ يُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، فَلِمَاذَا خَرَجْتُمْ أَيُّهَا النَّصَارَى عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاتَّبَعْتُمْ سُنَّةَ الْوَثَنِيِّينَ، كَقُدَمَاءِ الْهُنُودِ وَالْمِصْرِيِّينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا غَرَابَةَ خَلْقِ مُقَدَّسِيهِمْ وَغَرَابَةَ بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّتِهِمْ وَرُبُوبِيَّتِهِمْ؟ (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَكُلُّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ يَنْفُذُ بِقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ بَعْضُ خَلْقِهِ غَرِيبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْبَشَرِ النَّاقِصِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ غَرَابَةُ بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ عَنْ عِلْمٍ كَسْبِيٍّ يَجْهَلُهُ غَيْرُهُمْ، أَوْ قُوَّةٍ نَفْسِيَّةٍ لَمْ يَبْلُغْهَا سِوَاهُمْ، أَوْ تَأْيِيدٍ رَبَّانِيٍّ لَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا تَأْثِيرَ.

رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ابْنُ أُبَيٍّ وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَشَاسُ بْنُ عَدِيٍّ، فَكَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ؟

نَحْنُ وَاللهِ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى. فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَمَنْ قَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رَأَى فِيهَا لَقَبَ " ابْنِ اللهِ " قَدْ أُطْلِقَ عَلَى آدَمَ.

(انْظُرْ إِنْجِيلَ لُوقَا 3: 38) وَعَلَى يَعْقُوبَ وَدَاوُدَ مَعَ لَقَبِ الْبِكْرِ (انْظُرْ سِفْرَ الْخُرُوجِ 4: 22 و23 وَالْمَزْمُورَ 98: 26 و27) وَكَذَا عَلَى إِفْرَامَ (انْظُرْ نُبُوَّةَ أَرْمِيَاءَ 31: 9) وَعَلَى الْمَسِيحِ، عليهم السلام، وَلَكِنْ مَعَ لَقَبِ الْحَبِيبِ ; فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِكَلِمَةِ ابْنٍ، وَأُطْلِقَ مَجْمُوعًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ مَتَّى فِي وَعْظِ الْمَسِيحِ عَلَى الْجَبَلِ (5: 9 طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ ; لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ يُدْعَوْنَ) وَقَالَ بُولَسُ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلٍ رُومِيَّةَ (8: 14 لِأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ) وَجَاءَ فِي سِيَاقِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَالْيَهُودِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، مَا نَصُّهُ:(8: 41 أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِنًا، لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ 42 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، إِلَى أَنْ قَالَ - 44 أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ، هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتُ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا) وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى، مِنْ رِسَالَتَيْ يُوحَنَّا (3: 9 كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لَا يَفْعَلُ خَطِيئَةً ; لِأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ ; لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ 10 بِهَذَا أَوْلَادُ اللهِ ظَاهِرُونَ، وَأَوْلَادُ إِبْلِيسَ) فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ وَأَشْبَاهِهَا أَنَّ لَفْظَ " ابْنِ اللهِ " يُسْتَعْمَلُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ بِمَعْنَى حَبِيبِ اللهِ الَّذِي يُعَامِلُهُ اللهُ مُعَامَلَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّكْرِيمِ، فَعَطَفَ أَحِبَّاءَ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ اللهِ لِلتَّفْسِيرِ وَالْإِيضَاحِ؛ وَإِنَّمَا تَحَكَّمَ النَّصَارَى بِهَذَا اللَّقَبِ فَجَعَلُوهُ بِمَعْنَى الِابْنِ الْحَقِيقِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ، وَبِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَعْنَى الِابْنِ الْحَقِيقِيِّ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْ تَلْقِيحِ الرَّجُلِ بِمَائِهِ لِبَعْضِ

ص: 259

مَا فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْبَيْضِ، فَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مُتَعَيِّنٌ كَمَا تَرَى، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي تَفْسِيرِ (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (9: 30) وَلَمَّا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مُؤَيَّدًا بِالشَّوَاهِدِ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لِأُولَئِكَ الْمُتَبَجِّحِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَسُنَ رَدُّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:

(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِكُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ تَارِيخِكُمُ الْمَاضِي، وَكَمَا تَرَوْنَ فِي تَارِيخِكُمُ الْحَاضِرِ، وَمِنْ هَذَا الْعَذَابِ لِلْيَهُودِ مَا كَانَ مِنْ تَخْرِيبِ الْوَثَنِيِّينَ لِمَسْجِدِهِمُ الْأَكْبَرِ وَلِبَلَدِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَمِنْ إِزَالَةِ مُلْكِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِلنَّصَارَى مَا اضْطَهَدَهُمْ بِهِ الْأُمَمُ، وَمَا نَكَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ تَنْكِيلِهِمْ وَتَنْكِيلِ الْوَثَنِيِّينَ بِالْيَهُودِ ; أَيْ أَنَّ الْأَبَ لَا يُعَذِّبُ ابْنَهُ، وَالْمُحِبَّ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ، فَلَسْتُمْ إِذًا أَبْنَاءَ اللهِ وَلَا أَحِبَّاءَهُ، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ عز وجل الْحَكَمُ الْعَدْلُ، لَا يُحَابِي أَحَدًا، وَإِنَّمَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَغْفِرَةِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ، فَهُوَ يَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، كَمَا يَجْزِي سَائِرَ الْبَشَرِ أَمْثَالَكُمْ، فَارْجِعُوا عَنْ غُرُورِكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ وَسَلَفِكُمْ وَكُتُبِكُمْ ; فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، لَا بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ مَا أَثْبَتَ فِي الَّتِي مِنْ قَبْلِهَا، مِنْ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَ أَجْرَامِهِمَا وَأَجْزَائِهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَتَمَ تِلْكَ بِكَوْنِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْغَرَابَةِ فِي الْخَلْقِ، وَامْتِيَازِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَخَتَمَ هَذِهِ بِبَيَانِ كَوْنِ الْمَرْجِعِ وَالْمَصِيرِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَنْ فِيهِمَا وَبَيْنَ عَالَمَيْهِمَا نِسْبَتُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الرَّبُّ، ذُو التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَمْلُوكَةُ، وَجَمِيعُ مَنْ يَعْقِلُ فِيهَا مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَبِيدٌ لَهُ لَا أَبْنَاءٌ وَلَا بَنَاتٌ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (19: 93) وَفِي خَتْمِهَا بِقَوْلِهِ: " وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ وَالْغُرُورِ، وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، فَيَعْلَمُونَ عِنْدَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ آبِقُونَ يُجَازَوْنَ، لَا أَبْنَاءٌ وَلَا أَحِبَّاءٌ يُحَابَوْنَ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ تَعْذِيبِهِمْ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا، أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي ادِّعَائِهِمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

وَأُمَّتَهُ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا كَالَّذِي حَصَلَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَقَتْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، عليهما السلام، وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ

ص: 260

الَّذِينَ ابْتُلُوا بِهَذِهِ الْمِحَنِ مِنْ أَحِبَّاءِ اللهِ تَعَالَى. وَأَجَابَ الرَّازِيُّ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ ; حَاصِلُ الْأَوَّلِ: أَنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخِيَارَ أُمَّتِهِ مِنْ أَحِبَّاءِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا نَدَّعِي أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ تَعَالَى. وَحَاصِلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهِ الْيَهُودُ ; إِذْ قَالُوا:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ". وَحَاصِلُ الثَّالِثِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسْخُ الَّذِي وَقَعَ لِبَعْضِ الْيَهُودِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أُضِيفَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ. قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ شَرْحِ الْأَجْوِبَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: وَهَذَا الْجَوَابُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي الْوُجُودِ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ قَدْ وُجِدَ حَتَّى يَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ قَوِيًّا مَتِينًا، انْتَهَى.

وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ أَضْعَفُهَا، وَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ أَيْضًا، وَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَلَا فِي الثَّانِي عَلَى النَّصَارَى ; فَيَكُونُ تَسْلِيمًا لَهُمْ، أَوْ إِقْرَارًا عَلَى دَعْوَى أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَيَتَبَجَّحُونَ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ (يُعَذِّبُكُمْ) يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَعْذِيبًا خَاصًّا بِطَائِفَةٍ وَقَعَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَأَقْوَى أَجْوِبَتِهِ الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْطِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ بَيَانًا تَامًّا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّرْ أَصْلَ الدَّعْوَى ; فَيَهْتَدِي إِلَى تَحْرِيرِ الْجَوَابِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ لَا يَرِدُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَتَضَاءَلُ بِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي خَبَرِ كَانَ.

كَانَ الْيَهُودُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ، مَيَّزَهُمْ لِذَاتِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ ; فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ شَعْبٌ آخَرُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَصَحَّ مِنْهُمْ إِيمَانًا وَأَصْلَحَ عَمَلًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ تَابِعِينَ لِغَيْرِهِمْ فِي الدِّينِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّبِعُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، لَا إِسْرَائِيلِيٌّ، وَالْفَاضِلُ لَا يَتْبَعُ الْمَفْضُولَ بِزَعْمِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَاخِذَهُمُ اللهُ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ شَعْبُهُ الْخَاصُّ الْمَحْبُوبُ، فَهُوَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا مُعَامَلَةَ الْوَالِدِ لِأَبْنَائِهِ الْأَعِزَّاءِ، وَالْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ الْخَاصِّ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ أَرْبَوْا عَلَيْهِمْ فِي الْغُرُورِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ الَّذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ قَدْ جَاهَدَ غُرُورَ الْيَهُودِ جِهَادًا عَظِيمًا، فَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ فَدَاهُمْ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ بِوِلَادَةِ الرُّوحِ، وَالْمَسِيحُ ابْنُهُ الْحَقِيقِيُّ، وَيُخَاطَبُونَ

اللهَ تَعَالَى دَائِمًا بِلَقَبِ الْأَبِ. وَقَدْ كَانَتْ جَمِيعُ فِرَقِهِمْ فِي زَمَنِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ مِنَ الْيَهُودِ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، وَفِسْقًا وَفُجُورًا، وَظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بِشَهَادَةِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ كُلِّهَا، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إِلَى إِصْلَاحٍ فِي دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ ; وَلِهَذَا رَفَضُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْفَضَائِلِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَرَدُّوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ كَوْنِ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَمَثُوبَتِهِ لَا تُنَالَانِ إِلَّا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ.

ص: 261

هَذَا حَاصِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَبِأَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوا هَدْيَهُمْ وَضَلُّوا طَرِيقَهُمْ، وَقَدْ عَبَّرَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ عَنْ ذَلِكَ هُنَا بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَخْصَرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ:(نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وَحَاصِلُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ: أَنَّكُمْ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ مَخْلُوقَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِغَيْرِكُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْبَشَرِ، امْتِيَازٌ ذَاتِيٌّ خَاصٌّ، وَلَا نِسْبَةٌ ذَاتِيَّةٌ إِلَيْهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَقَدْ مَضَّتْ سُنَّتُهُ فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَيَعْفُوَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَغْفِرَهَا فَلَا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِحَسَبَ مَشِيئَتِهِ الْمُطَابِقَةِ لِعِلْمِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِذَا كَانَ لَكُمُ امْتِيَازٌ ذَاتِيٌّ، عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فَلِمَ يُعَذِّبْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، كَمَا يُعَذِّبُ غَيْرَكُمْ بِذُنُوبِهِمْ؟ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا عِلْمَ الْيَقِينِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَمِنْ تَارِيخِكُمْ. وَالْمُضَارِعُ " يُعَذِّبُكُمْ " هُنَا لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْمُسْتَمِرِّ فِي مُعَامَلَتِهِمْ ; فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّعْذِيبَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، مَتَى وَقَعَ سَبَبُهُ وَوُجِدَتْ عِلَّتُهُ، وَالْكَلَامُ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَتَارِيخُهُمْ فِيهِ كَتَارِيخِ غَيْرِهِمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَفِي زَمَنِهَا وَبَعْدَهَا: مَا عُذِّبَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ بِشَيْءٍ إِلَّا وَعُذِّبُوا بِمِثْلِهِ، فَلَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللهِ وَأَحِبَّاءَهُ، وَلَوْ مَجَازًا، بِحَسَبَ مَا بَيَّنَّاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ كُتُبِهِمْ، لَمَا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذُنُوبٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا كَمَا قَالَ يُوحَنَّا (1 يو 3: 9) .

إِذَا فَقِهْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ إِشْكَالَ الرَّازِيِّ غَيْرُ وَارِدٍ أَصْلًا ; فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَإِبْطَالِ دَعْوَى أَنْ يَكُونَ شَعْبٌ مِنْهَا مُمْتَازًا عِنْدَ اللهِ بِذَاتِهِ، لَا تَجْرِي عَلَيْهِ سُنَّتُهُ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدَّعِ أَنَّ أُمَّتَهُ لَهَا مِثْلُ هَذَا الِامْتِيَازِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ اللهِ وَلَا مِنْ أَحِبَّائِهِ، مَهْمَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ ; فَيُقَالُ: لِمَ غُلِبُوا

إِذًا فِي غَزْوَةِ " أُحُدٍ "؟ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ بِأُحُدٍ الْمُنَافِقُينَ، وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ؟ يُثْبِتُ لَكَ هَذَا مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الْآيَاتِ ; فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ بِذُنُوبِ بَعْضِهِمْ ; إِذْ خَالَفَ الرُّمَاةُ أَمْرَ نَبِيِّهِمْ وَقَائِدِهِمْ، وَتَنَازَعُوا وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِالْحَوَادِثِ، فَلَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا عُوقِبُوا بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ:(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)(3: 137 - 141) ثُمَّ قَالَ: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)(3: 152) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ 155، ثُمَّ قَالَ:(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(3: 165) . . . إِلَخْ.

ص: 262

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تُبَيِّنُ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ، لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْوُجُودُ، وَتَشْهَدُ بِهِ تَوَارِيخُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَجْيَالِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ أَنْ يَكُونُوا أَعْرَفَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ ; فَتَكُونَ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي يُعَاقَبُونَ بِهَا مَوْعِظَةً يَتَّعِظُونَ بِهَا، وَتَمْحِيصًا يُكْمِلُ نُفُوسَهُمْ بِالْعِبَرِ، وَيُعْلِي شَأْنَهَا، وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ لِكُلِّ مَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِلْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ ; كَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَالتَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْغُرُورِ وَعَدَمِ النِّظَامِ، وَبِهَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَحِبَّاءِ اللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ قَبِيلِ تَرْبِيَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُسَمَّى تَعْذِيبًا ; لِأَنَّ مَرَارَةَ الدَّوَاءِ الَّذِي يَشْفِيكَ مِنَ السَّقَمِ، لَيْسَ كَالسَّوْطِ الَّذِي لَا يُصِيبُكَ مِنْهُ إِلَّا الْأَلَمُ.

وَمَنْ رَاجِعِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا يَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ تَمَامَ التَّجَلِّي، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْتَصِمُوا بِهَذَا الْبَيَانِ ; فَيَتَّقُوا غُرُورَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلِ اتَّبَعُوا سُنَّتَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، إِلَى أَنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى

ضِدِّ مَا كَانَ، فَتَرَكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ذَلِكَ الْغُرُورَ بِدِينِهِمْ، وَاهْتَدَوْا بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُمْ، فَسَارُوا عَلَيْهَا فِي سِيَاسَةِ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ آخَرُ حَوَادِثِ غُرُورِ دُوَلِهِمُ الْكُبْرَى غُرُورَ دَوْلَةِ الرُّوسِيَّةِ فِي حَرْبِهَا مَعَ دَوْلَةِ الْيَابَانِ الْوَثَنِيَّةِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غُرُورًا دِينِيًّا مَحْضًا، بَلْ كَانَ مَمْزُوجًا بِالِاسْتِعْدَادِ الدُّنْيَوِيِّ مَزْجًا، وَبَقِي مَنِ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَابِتِينَ عَلَى تَقْلِيدِ أُولَئِكَ الْمَخْذُولِينَ، وَفُتِنَ بَعْضُهُمْ بِالْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعْتَبَرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ مَا احْتَذَوْا مِثَالَهُمْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا رَجَعُوا فِي مِثْلِهِ إِلَى هَدْيِ الدِّينِ (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (40: 13) .

أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَدَحَضَ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي غَرَّتْهُمْ فِي دِينِهِمْ، فَحَسُنَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى غُرُورِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَقَالَ:(يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي كُتُبِكُمْ، الْمُنْتَظَرُ فِي اعْتِقَادِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ أَخْبَرَكُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَنَّهُ سَيُقِيمُ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِخْوَتِكُمْ، وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بِأَنْ سَيَجِيءَ بَعْدَهُ الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ فِي كُتُبِكُمْ، وَإِنْ حَرَّفْتُمُوهَا بِسُوءِ فَهْمٍ أَوْ بِسُوءِ قَصْدٍ مِنْكُمْ، وَهُوَ النَّبِيُّ الْكَامِلُ الْمَعْهُودُ الَّذِي سَأَلَ أَجْدَادُكُمْ عَنْهُ يَحْيَى (يُوحَنَّا) عليه السلام. فَفِي أَوَائِلِ الْإِنْجِيلِ الرَّابِعِ أَنَّ الْيَهُودَ أَرْسَلُوا كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ فَسَأَلُوا يُوحَنَّا: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟ قَالَ: لَا. أَأَنْتَ إِيلِيَا؟ قَالَ: لَا. أَأَنْتَ النَّبِيُّ؟ قَالَ: لَا، وَهَذَا هُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا - وَهُوَ يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ - أَيِ انْقِطَاعٍ -

ص: 263

مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ عَهْدٍ عَلَى الْوَحْيِ - جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ دُنْيَاكُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقِّ الَّتِي أَفْسَدَتْهَا عَلَيْكُمْ نَزَغَاتُ الْوَثَنِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقُ وَالْآدَابُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا عَلَيْكُمُ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتُ وَالْأَحْكَامُ، الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أُمُورُكُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ؛ فَتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِمَفْعُولِ (يُبَيِّنُ لَكُمْ) لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا بَيَّنَهُ لَكُمْ مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ; لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَمَا عَرَفَ هَذَا وَلَا ذَاكَ، مِمَّا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ أَحْبَارِكُمْ

وَرُهْبَانِكُمْ وَحُكَمَائِكُمْ وَسَاسَتِكُمْ، جَاءَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ يُبَيِّنُ لَكُمْ كُلَّ هَذَا ; لِيَقْطَعَ مَعْذِرَتَكُمْ، وَيَمْنَعَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) يُبَشِّرُنَا بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرُنَا وَيُخَوِّفُنَا سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُفْسِدِينَ الضَّالِّينَ الْمَغْرُورِينَ.

(فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يَبِينُ لَكُمْ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي دَارِ الْقَرَارِ لَيْسَ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّكُمُ التى تَتَمَنَّوْنَهَا، وَأَوْهَامِكُمُ التى تَغْتَرُّونَ بِهَا، بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحَابِي أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)(4: 123 124)(وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُرِيَكُمْ صِدْقَ نَبِيِّهِ بِنَصْرِ دَعْوَتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا ; لِتَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ - إِنْ عَقَلْتُمْ - مَا يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى.

رَوَى أَبْنَاءُ إِسْحَاقَ وَجَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَرَغَّبَهُمْ فِيهِ وَحَذَّرَهُمْ ; فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللهَ، فَوَاللهِ لَتَعْلَمُونِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: إِنَّا مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ ; أَيْ أَنْزَلَهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ، مُتَضَمِّنَةً لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنْ " الْفَتْرَةَ " مِنْ فَتَرَ الشَّيْءُ: إِذَا سَكَنَ أَوْ زَالَتْ حِدَّتُهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: " الْفُتُورُ " سُكُونٌ بَعْدَ حِدَّةٍ، وَلِينٌ بَعْدَ شِدَّةٍ، وَضَعْفٌ بَعْدَ قُوَّةٍ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ وَظُهُورِ الرُّسُلِ عِدَّةَ قُرُونٍ، وَقَوْلُهُ (أَنْ تَقُولُوا) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ:(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(4: 176) فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ

ص: 264

وَجْهُ إِعْرَابِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّرُ لَهُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَقُولُوا، وَمِثْلُهُ اتِّقَاءَ أَنْ تَقُولُوا، بَلْ هَذَا أَحْسَنُ، وَبَعْضُهُمْ يُقَدِّرُ النَّفْيَ فَيَقُولُ: لِئَلَّا تَقُولُوا، وَالْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَجْهٍ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ مَنْعِهِمْ مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ، وَقَطْعِ طَرِيقِهِ عَلَيْهِمْ.

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ رِسَالَةَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بِشَأْنِهِمْ وَشَأْنِ كُتُبِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَتَحْرِيفِ الْكُتُبِ وَنِسْيَانِ حَظٍّ مِنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَكَوْنِ

ص: 265

مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ عَلَى سُنَّةِ التَّرَقِّي فِي الْبَشَرِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِدَحْضِ شُبُهَاتِهِمْ وَإِبْطَالِ دَعَاوِيهِمْ، وَبَيَانِ مَنَاشِئِ غُرُورِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَاقِعَةً مِنْ وَقَائِعِهِمْ مَعَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، الَّذِي أَخْرَجَهُمُ اللهُ عَلَى

يَدَيْهِ مِنَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَاضْطِهَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَمِلْكِ أَمْرِهِمْ، وَكَوْنُهُمْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ كَانُوا يُخَالِفُونَهُ وَيُعَانِدُونَهُ، حَتَّى فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمُ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ ; لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ بِهَذَا أَنَّ مُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَمُعَانَدَةَ الرُّسُلِ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ سَلَفِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ صلى الله عليه وسلم وَمَزِيدَ عِرْفَانٍ بِطَبَائِعِ الْأُمَمِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ لَاحِقِهِ بِسَابِقِهِ، قَالَ عز وجل:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) أَيْ وَاذْكُرْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَةُ الْقُرْآنِ ; إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالشُّكْرِ لَهُ وَالطَّاعَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمَزِيدَ، وَتَرْكَهُ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ، وَلَفْظُ " نِعْمَةَ " يُفِيدُ الْعُمُومَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مُوسَى مُرَادَهُ بِهَذَا الْعُمُومِ بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كَانَتْ حَاصِلَةً بِالْفِعْلِ بَعْدَ نِعْمَةِ إِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالسَّلْبِ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْحَاصِلَةُ الْمَشْهُودَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ النِّعَمِ وَمَجَامِعِهَا الَّتِي يَنْدَرِجُ فِيهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَاكَ بَيَانُهَا:(الْأَوَّلُ) - وَهُوَ أَشْرَفُهَا -: جَعْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِوُجُودِ الْمُبَلِّغِ لِذَلِكَ، وَوُجُودِ أَخِيهِ هَارُونَ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمَا، عليهم السلام، وَتُشْعِرُ الْعِبَارَةُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ النِّعْمَةَ أَوْسَعُ، وَأَنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرٌ، أَوْ سَيَكُونُ كَثِيرًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَعْلِ بَيَانُ الشَّأْنِ لَا مُجَرَّدُ الْحُصُولِ بِالْفِعْلِ فِي الزَّمَنَيْنِ الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَقِيلَ: كَانَ عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ كَثِيرًا فِي عَهْدِ مُوسَى، حَتَّى حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِيَصْعَدُوا مَعَهُ الْجَبَلَ إِذْ يَصْعَدُهُ لِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى، صَارُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْإِخْبَارُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ مِنَ اللهِ عز وجل، وَكَانَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنَى إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُؤَيِّدِينَ لِلتَّوْرَاةِ، عَامِلِينَ وَحَاكِمِينَ بِهَا، حَتَّى الْمَسِيحِ، عليهم السلام، وَلِلنَّصَارَى تَحَكُّمٌ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَنَفْيِهَا عَمَّنْ شَاءُوا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ سُلَيْمَانَ

بْنَ دَاوُدَ نَبِيًّا! ! بَلْ حَكِيمًا ; أَيْ فَيْلَسُوفًا

ص: 266

عَلَى أَنَّ كُتُبَهُ هِيَ أَعْلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ عِلْمًا وَحِكْمَةً ; فَهِيَ أَعْلَى مِنْ حِكَمِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْتَقِدُهُ عَامَّتُهُمْ عَلَى رُؤَسَاءِ كَنِيسَتِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَحَدُ الْأَذْكِيَاءِ اللُّبْنَانِيِّينَ: إِنَّ الْكَنِيسَةَ لَمْ تَعْتَرِفْ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ ; لِيَكُونَ مُنْتَهَى مُبَالَغَةِ الْمُعْجَبِينَ بِحَكَمِهِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ أَنْ يَرْفَعُوهُ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، فَيَبْقَى دُونَ الْمَسِيحِ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَنِيسَةِ كَانُوا يَخْشَوْنَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الْمَسِيحِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِذَا هُمُ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، أَمَّا عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ فَضَّلُوا الْمَسِيحَ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَهُوَ عِنْدُهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي أَوَاخِرَ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

(الثَّانِي) : جَعْلُهُمْ مُلُوكًا، لَوْلَا مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ مَوْضِعَ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الضُّعَفَاءِ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ بَنَى إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ عَلَى عَهْدِ مُوسَى؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ لِكَلِمَةِ مَلِكٍ وَمُلُوكٍ شَاوِلُ بْنُ قَيْسٍ، ثُمَّ دَاوُدُ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ حَقَّ الْفَهْمُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ رُؤَسَاءً لِلْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ يَسُوسُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بَيْنَهَا، وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ مُلُوكًا ; لِأَنَّهُ قَالَ:(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) وَلَمْ يَقُلْ: وَجَعَلَ فِيكُمْ مُلُوكًا، كَمَا قَالَ:(جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) فَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَارُوا مُلُوكًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِـ " كُلٍّ " الْمَجْمُوعُ لَا الْجَمِيعُ ; أَيْ إِنَّ مُعْظَمَ رِجَالِ الشَّعْبِ صَارُوا مُلُوكًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدًا لِلْقِبْطِ، بَلْ مَعْنَى الْمَلِكِ هُنَا الْحُرُّ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ أَهْلِهِ، فَهُوَ تَعْظِيمٌ لِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ الرِّقِّ وَالِاسْتِعْبَادِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ ; فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ:" كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ كُتِبَ مَلِكًا "، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ:" مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِلَفْظِ " زَوْجَةٍ وَمَسْكَنٍ وَخَادِمٍ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى سَتَأْتِي بِنَصِّهَا، وَقَدْ صَحَّحُوا سَنَدَهَا، وَالْمَرْفُوعُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ

أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْكِ هُنَا: الِاسْتِقْلَالُ الذَّاتِيُّ، وَالتَّمَتُّعُ بِنَحْوِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْمُلُوكُ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ وَسِيَاسَةِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِلَى الْيَوْمِ فِي جَمِيعِ مَا عَرَفْنَا مِنْ بِلَادِهِمْ، يَقُولُونَ لِمَنْ كَانَ مُهَنَّئًا فِي مَعِيشَتِهِ، مَالِكًا لِمَسْكَنِهِ، مَخْدُومًا مَعَ أَهْلِهِ، فَلَانٌ مَلِكٌ، أَوْ مَلِكُ زَمَانِهِ ; أَيْ يَعِيشُ عِيشَةَ الْمُلُوكِ، وَتَرَى مِثْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا، قَالَ:(1: 6 وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً) .

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا آتَاهُمْ

ص: 267

مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي يَرْتَقُونَ بِهَا فِي مَرَاقِي الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّ مَا اسْتَعَدَّتْ لَهُ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ فِي مَجْمُوعِهَا لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ، بَلْ يُجَامِعُهُ وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعِيشَةَ الْمَنْزِلِيَّةَ الرَّاضِيَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِهَذِهِ الْعِيشَةِ الثَّانِيَةِ، عِيشَةِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَةِ، فَإِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي يَفْسُدُ فِيهَا نِظَامُ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ لَا تَكُونُ أُمَمًا عَزِيزَةً قَوِيَّةً ; فَهِيَ إِذَا كَانَ لَهَا مُلْكٌ تُضَيِّعُهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ أَهْلًا لِتَأْسِيسِ مُلْكٍ جَدِيدٍ؟ ! فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا، وَلْيَنْظُرُوا أَيْنَ هُمْ مِنَ الْعِيشَةِ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا.

(الْأَمْرُ الثَّالِثُ) : إِيتَاؤُهُمْ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ ; أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَشُعُوبِهِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْبَدَةً لِلْمُلُوكِ الْعُتَاةِ الطُّغَاةِ ; كَالْقِبْطِ وَالْبَابِلِيِّينَ، رَوَى الْفِرْيَابِيُّ وَابْنَا جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) قَالَ: الْمَرْأَةُ وَالْخَادِمُ (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قَالَ: الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ فِي الْأَخِيرِ أَنَّهُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَرَوَى هُوَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ الْغَمَامِ الَّذِي ظَلَّلَهُمْ فِي التِّيهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمِ الْحَجَرَ الَّذِي انْبَجَسَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْخَصَائِصِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّفْسِيرِ.

(يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الْمُقَدَّسَةُ: الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، لِمَا بَعَثَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دُعَاةِ التَّوْحِيدِ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ " الْمُقَدَّسَةَ ": بِالْمُبَارَكَةِ،

وَيَصْدُقُ بِالْبَرَكَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: مَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا الشَّامُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، فَالْمُرَادُ بِالْقَوْلَيْنِ الْقُطْرُ السُّورِيُّ فِي عُرْفِنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لِسُورِيَّةَ قَدِيمٌ، وَحَسْبُنَا أَنَّهُ مِنْ عُرْفِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى وَلَا أَحَقَّ وَلَا أَعْدَلَ مِنْ قِسْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ، وَفِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ سُورِيَّةَ هِيَ الْقِسْمُ الشَّمَالِيُّ الشَّرْقِيُّ مِنْ هَذَا الْقُطْرِ، وَالْبَاقِي يُسَمُّونَهُ فِلَسْطِينَ أَوْ بِلَادَ الْمَقْدِسِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهَا هِيَ " الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ "، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلَكُوا سُورِيَّةَ، فَسُورِيَّةُ وَفِلَسْطِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُسَمُّونَ الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ أَرْضَ الْمِيعَادِ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ بِهَا ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَدْخُلُ فِيمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ الْحِجَازُ وَمَا جَاوَرَهُ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ; لِيُسْكِنَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي وُعِدُوا بِهَا مِنْ عَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم؛ وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ مُوسَى عليه السلام بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ وَالْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ مَا عَدَا بِلَادَ الْحِجَازِ الَّتِي هِيَ أَرْضُ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ.

ص: 268

قَالَ الدُّكْتُورُ بُوسْتُ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: اخْتُصَّ اسْمُ فِلَسْطِينَ أَوَّلًا بِأَرْضِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ غَرْبِيَّ الْأُرْدُنِّ، فَكَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا فِي الْأَصْلِ اسْمُ كَنْعَانَ، وَكَانَتْ فِلَسْطِينُ مَعْرُوفَةً أَيْضًا بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَرْضِ إِسْرَائِيلَ، وَأَرْضِ الْمَوْعِدِ، وَالْيَهُودِيَّةِ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى الشَّاطِئِ الشَّرْقِيِّ لِلْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ سُهُولِ النَّهْرَيْنِ (الدَّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ) وَالْبَحْرِ الْمَذْكُورِ، وَبَيْنَ مُلْتَقَى قَارَّتَيْ آسِيَةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ أَشُورَ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْيُونَانِ وَالْفُرْسِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَعْسُرُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ حُدُودِ فِلَسْطِينَ، فَإِنَّهُ مَعَ دِقَّةِ الشَّرْحِ عَنِ التُّخُومِ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ سِبْطٍ وَآخَرَ لَمْ يُشْرَحْ لَنَا فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ شَرْحًا مُسْتَوْفًى، تَتَمَيَّزُ بِهِ تُخُومُ فِلَسْطِينَ عَنْ تُخُومِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ التُّخُومَ كَانَتْ تَتَغَيَّرُ مِنْ جِيلٍ إِلَى جِيلٍ، أَمَّا الْأَرْضُ الْمَوْعُودُ بِهَا لِإِبْرَاهِيمَ وَالْمَوْصُوفَةُ فِي كِتَابَاتِ مُوسَى فَكَانَتْ تَمْتَدُّ مِنْ جَبَلِ هُورٍ إِلَى مَدْخَلِ حَمَاهْ، وَمِنْ نَهْرِ مِصْرَ الْعَرِيشِ " إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ " (تك 15: 18 وعد 34: 2 - 12 وتث 1: 17) وَأَكْثَرُ هَذِهِ

الْأَرَاضِي كَانَتْ تَحْتَ سُلْطَةِ سُلَيْمَانَ، فَكَانَ التَّخْمُ الشَّمَالِيُّ حِينَئِذٍ سُورِيَّةَ، وَالشَّرْقِيُّ الْفُرَاتَ وَالْبَرِّيَّةَ السُّورِيَّةَ، وَالْجَنُوبِيُّ بَرِّيَّةَ التِّيهِ وَأَدُومَ، وَالْغَرْبِيُّ الْبَحْرَ الْمُتَوَسِّطَ. انْتَهَى بِنَصِّهِ، مَعَ اخْتِصَارٍ حُذِفَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّوَاهِدِ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا بِغَيْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يُرِيدُ بِهِ مُوسَى مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي: كَتَبَ لَهُمُ الْحَقَّ فِي سُكْنَى تِلْكَ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ، بِحَسَبِ ذَلِكَ الْوَعْدِ، أَوْ فِي عِلْمِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا كُلُّهَا تَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ دَائِمًا، أَوْ لَا يُزَاحِمُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ ; لِأَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ. فَاسْتِنْبَاطُ الْيَهُودِ مِنْ ذَلِكَ الْوَعْدِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ لَهُمُ الْمُلْكُ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَحْسُنُ هُنَا أَنْ نَذْكُرَ نَصَّ التَّوْرَاةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ فِي هَذَا الْوَعْدِ. جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بِأَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ ظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ (12: 7 وَقَالَ لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الْأَرْضَ) وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ (15: 18 فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ إِبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الْأَرْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ) وَهَذَا الْوَعْدُ ذُكِرَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ قَبْلَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَجَاءَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ لَهُ، وَوَعْدِ اللهِ بِتَكْثِيرٍ نَسْلِهِ، وَبِكَوْنِهِمْ يَسْكُنُونَ أَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِمْ (17: 8 وَأُعْطِي لَكَ، وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا، وَأَكُونُ إِلَهَهُمْ) فَهَذَا وَذَاكَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَوْلَى أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ تَنَاوَلَهُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَالْوَفَاءُ الْأَبَدِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِهِ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ كُلُّهَا عَرَبِيَّةً مَحْضَةً.

وَلَيْسَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْحَاقَ وَعْدٌ لِإِبْرَاهِيمَ مِثْلُ هَذَا بِبِلَادٍ وَلَا بِأَرْضٍ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ يُقِيمُ مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَهْدَ لِإِسْحَاقَ دُونَ إِسْمَاعِيلَ، فَمَا هَذَا الْعَهْدُ؟

ص: 269

إِنْ كَانَ عَهْدَ النُّبُوَّةِ، فَالْوَاقِعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَبَدِيَّةً فِي نَسْلِ إِسْحَاقَ ; لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ بِالْفِعْلِ مِنْهُمْ مَنْ زُهَاءِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنْ كَانَ عَهْدَ امْتِلَاكِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ أَبَدِيًّا فِيهِمْ ; لِأَنَّهَا نُزِعَتْ مِنْهُمْ قَبْلَ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَخَذَهَا الْعَرَبُ، وَصَارَتْ لَهُمْ بِالِامْتِلَاكِ السِّيَاسِيِّ، ثُمَّ بِالِامْتِلَاكِ الطَّبِيعِيِّ؛ إِذْ غَلَبُوا عَلَى سَائِرِ الْعَنَاصِرِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَأَدْغَمُوهَا فِي عُنْصُرِهِمُ الْمُبَارَكِ، الَّذِي وَعَدَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ

يُبَارِكَهُ وَيُثَمِّرَهُ، وَيُكَثِّرَهُ جِدًّا جِدًّا، وَيَجْعَلَهُ أُمَّةً كَبِيرَةً (رَاجِعْ 17: 18 مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) .

نَعَمْ إِنَّ الْفَصْلَ الرَّابِعَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ صَرِيحٌ فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَاقْتِسَامِهَا بَيْنَ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا حَقٌّ قَدْ وَقَعَ، فَلَا مِرَاءَ فِيهِ، وَهُوَ يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكُونُ لَهُمْ حَظٌّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فِي وَقْتٍ مَا، وَأَنَّ وَعْدَ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم يَشْمَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ، وَلَا هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ، بَلْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْأَوْلَى كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَكَانَ وَعْدُ اللهِ مَفْعُولًا.

يُوَضِّحُ هَذَا مَا نَقَلَهُ كَاتِبُ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ عَنْ مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَهُوَ (1: 6 الرَّبُّ إِلَهُنَا كَلَّمَنَا فِي حُورِيبَ قَائِلًا: كَفَاكُمْ قُعُودًا فِي هَذَا الْجَبَلِ 7 تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا، وَادْخُلُوا جَبَلَ الْأَمُورِيِّينَ، وَكُلَّ مَا يَلِيهُ مِنَ الْعَرَبَةِ (وَفِي التَّرْجَمَةِ الْيَسُوعِيَّةِ الْقَفْرِ) وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّ، وَلُبْنَانَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ 80 انْظُرُوا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكُمُ الْأَرْضَ، ادْخُلُوا وَتَمَلَّكُوا الْأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لِآبَائِكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ يُعْطِيَهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ) وَأَعَادَ التَّذْكِيرَ بِهَذَا الْوَعْدِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا السِّفْرِ، وَهَذَا النَّصُّ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَلَا التَّأْبِيدِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ نَسْلُ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ.

وَأَمَّا ذِكْرُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هُنَا ; فَلِأَنَّ الرَّبَّ ذَكَّرَهُمَا بِوَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمَا، وَأَكَّدَهُ لَهُمَا وَلِنَسْلِهِمَا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّأْيِيدِ (تَك 26 و28) كَمَا سَبَقَ فِي وَعْدٍ لِإِبْرَاهِيمَ، فَالْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ الْمُؤَبَّدُ إِنَّمَا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَصْدُقْ إِلَّا بِمَجْمُوعِ نَسْلِهِ، وَهُمُ الْعَرَبُ وَالْإِسْرَائِيلِيُّونَ.

وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَ الرَّبِّ لِإِسْحَاقَ مَا وَعَدَ بِهِ أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِعْطَاءِ نَسْلِهِ تِلْكَ الْبِلَادَ مُعَلَّلٌ بِحِفْظِ أَوَامِرِهِ وَفَرَائِضِهِ وَشَرَائِعِهِ (تك 26: 5 وخر 13) وَهُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِيَعْقُوبَ فِي الْمَنَامِ فِي الْفَصْلِ الْـ 28، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ هُنَالِكَ التَّعْدِيلُ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَعْلُولِ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ

ص: 270

النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الَّتِي تُسَمَّى

أَيْضًا سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْ يُذِلُّهُمْ وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَدِينَتِهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، وَيُتَبِّرُوا مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْهُمَا تَتْبِيرًا، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:(عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا 17: 8) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَقَدْ عَادُوا، وَعَادَ انْتِقَامُ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ مِنْهُمْ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الرُّومَ قَبْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَبَعْدَهَا، ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، وَمُزِّقُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَتَدُلُّ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ،، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ آيَةُ (عَسَى رَبُّكُمْ) أَرْجَى الْآيَاتِ لَهُمْ ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وَجُودًا وَعَدَمًا، وَأَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْإِصْلَاحِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ مَا فُقِدَ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا وَاتَّحَدُوا بِبَنِي عَمِّهِمُ الْعَرَبِ يَمْلِكُونَ كُلَّ هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِي هَذَا بِعِيدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ شَدِيدُو التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ فِي جِنْسِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَهَذَا الْعَصْرُ عَصْرُ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ يَحِلُّونَ رَابِطَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ لِأَجْلِ شَدِّ عُرْوَةَ الرَّابِطَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ لُغَاتٌ ذَاتُ آثَارٍ يُحْرَصُ عَلَيْهَا، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّفُونَ تَدْوِينَ لُغَاتِهِمْ وَتَأْسِيسَهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لُغَاتِ عِلْمٍ وَكِتَابٍ، ثُمَّ إِنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا غَالِبٌ فِيهِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَالْيَهُودُ يُرِيدُونَ أَنْ يُعِيدُوا مُلْكَهُمْ لِهَذِهِ الْبِلَادِ بِتَكْوِينٍ وَتَأْسِيسٍ جَدِيدٍ، وَيَسْتَعِينُونَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَطُرُقِ الْعُمْرَانِ الْحَدِيثَةِ.

فَيَا دَارُهَا بِالْخِيفِ إِنَّ مَزَارَهَا قَرِيبٌ وَلَكِنْ دُونُ ذَلِكَ أَهْوَالُ فَإِنَّ الشُّعُوبَ النَّصْرَانِيَّةَ وَدُوَلَهَا الْقَوِيَّةَ تُعَارِضُهُمْ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَالْعَرَبُ أَصْحَابُ الْأَرْضِ كُلِّهَا لَا يَتْرُكُونَهَا لَهُمْ غَنِيمَةً بَارِدَةً، وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْوَسَائِلُ الرَّسْمِيَّةُ وَالْمُكَايَدَةُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُغْنِي وَيُقْنِي هُوَ الِاتِّفَاقُ مَعَ الْعَرَبِ عَلَى الْعُمْرَانِ ; فَإِنَّ الْبِلَادَ تَسَعُ مِنَ السُّكَّانِ أَضْعَافَ مَنْ فِيهَا الْآنَ.

وَيُؤَيِّدُ التَّعْلِيلَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ أَخِيرًا هَذَا النَّهْيُ الَّذِي عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ: لَا تَرْجِعُوا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْهُدَى إِلَى الْوَثَنِيَّةِ أَوِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ; فَيَكُونَ هَذَا الرُّجُوعُ إِلَى

الْوَرَاءِ انْقِلَابَ خُسْرَانٍ تَخْسَرُونَ فِيهِ هَذِهِ النِّعَمَ، وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي سَتُعْطَوْنَهَا جَزَاءً عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا، فَتَعُودُ الدَّوْلَةُ فِيهَا لِأَعْدَائِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ شُكْرَ النِّعَمِ مَدْعَاةُ الْمَزِيدِ مِنْهَا، وَكُفْرَهَا مَدْعَاةُ سَلْبِهَا وَزَوَالِهَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الِارْتِدَادِ عَلَى الْأَدْبَارِ النُّكُوصُ عَنْ دُخُولِهَا، وَالْجُبْنُ عَنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ قِتَالَهُمْ، وَالْخُسْرَانُ عَلَى هَذَا قِيلَ هُوَ

ص: 271

خُسْرَانُ ثَوَابِ الْجِهَادِ، وَخَيْبَةُ الْأَمَلِ فِي امْتِلَاكِ الْبِلَادِ، وَالَّذِي أَجْزِمُ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُسْرَانِ تَحْرِيمُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَحِرْمَانُهُمْ مِنْ خَيْرَاتِهَا الَّتِي وَرَدَ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَنَّهَا " تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا "، وَعِقَابُهُمْ بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يَنْقَرِضُ فِيهَا الْمُرْتَدُّونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ هَذَا الْخُسْرَانَ هُوَ الَّذِي وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَبَيَّنَهُ اللهُ فِي الْكِتَابِ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ كَوْنُ اللهِ تَعَالَى كَتَبَهَا لَهُمْ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ لِأُولَئِكَ الْأَفْرَادِ بِأَعْيَانِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لِشَعْبِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ الَّذِي يُوَجَّهُ إِلَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ مَعْهُودٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَلُغَاتِهِمْ، يُسْنَدُ إِلَى الْحَاضِرِينَ الْمُخَاطَبِينَ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ سَلَفِهِمِ الْغَابِرِينَ، وَيُبَشَّرُونَ أَوْ يُوعَدُونَ بِمَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِخَلَفِهِمُ الْآتِينَ، كَبِشَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ. عَلَى أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا عَلَى جُمْهُورِ الَّذِينَ خَالَفُوا وَعَصَوْا أَمْرَ مُوسَى بِدُخُولِهَا، وَلَمَّا دَخَلُوهَا بَعْدَ التِّيهِ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِأَنَّهَا كُتِبَتْ لَهُمْ بَقِيَّةٌ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ كَوْنَهَا كُتِبَتْ لِأُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ بِأَعْيَانِهِمْ يَصْدُقُ بِهَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَلَكِنَّ الْأُسْلُوبَ الْفَصِيحَ يَأْبَى هَذَا التَّوْجِيهَ اللَّفْظِيَّ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابَةِ هُنَا الْأَمْرُ، فَمَعْنَى " كَتَبَ اللهُ لَكُمْ " أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى آبَائِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوَاقِعُ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَعْنَى كَتَبَ لَكُمْ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ ; أَيْ أَثْبَتَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.

(قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) كَانَ اسْتِعْبَادُ الْمِصْرِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَذَلَّهُمْ وَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُمْ، وَكَانَ بَنُو عَنَاقٍ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَمَامَهُمْ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ

أُولِي قُوَّةٍ وَأُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَكَانُوا كِبَارَ الْأَجْسَامِ، طِوَالَ الْقَامَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ " جَبَّارِينَ ".

فَالْجَبَّارُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الطَّوِيلِ الْقَوِيِّ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْقَتَّالِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَاتِي الْمُتَمَرِّدِ، وَالَّذِي يَجْبُرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَالْقَاهِرِ الْمُتَسَلِّطِ، وَالْمَلِكِ الْعَاتِي، وَكُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ ; أَيْ طَوِيلَةٌ، لَا يُنَالُ ثَمَرُهَا بِالْأَيْدِي، وَإِنْ عَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ فِي أَسَاسِهِ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ لِاسْمِ الْفَاعِلِ، مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الشَّيْءِ ; كَأَجْبَرَهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَلْفَاظِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْأَجْسَامِ وَلِمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا مَا وُضِعَ لِلْمَعَانِي، وَمَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ جَزْمِي بِمَا ذَكَرْتُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِذَا هُوَ يَنْقُلُ مِثْلَهُ وَمَا يُؤَيِّدُهُ. ذَكَرَ الْآيَةَ وَقَالَ: قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَرَادَ الطُّولَ وَالْقُوَّةَ وَالْعِظَمَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ مِنَ النَّخِيلِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ الَّذِي فَاتَ يَدَ التَّنَاوُلِ، وَيُقَالُ جَبَّارٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا عَظِيمًا قَوِيًّا، تَشْبِيهًا بِالْجَبَّارِ مِنَ النَّخْلِ. انْتَهَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ:

ص: 272

أَصْلُ الْجَبْرِ إِصْلَاحُ الشَّيْءِ بِضَرْبٍ مِنَ الْقَهْرِ، يُقَالُ جَبَرْتُهُ فَانْجَبَرَ وَاجْتَبَرَ، وَقَدْ جَبَرْتُهُ فَجُبِرَ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الْإِلَهُ فَجُبِرْ

هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَبَّارُ فِي صِفَةِ الْإِنْسَانِ يُقَالُ لِمَنْ يَجْبُرُ نَقِيصَتَهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّعَالِي لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ عِدَّةَ آيَاتٍ فِيهَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلِتَصَوُّرِ الْقَهْرِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْأَقْرَانِ قِيلَ نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ وَنَاقَةٌ جَبَّارَةٌ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ لِمَادَّةِ الْجَبْرِ، مَعْنَى الْعُلُوِّ وَالْقُوَّةِ وَمَعْنَى جَبْرِ الْكَسْرِ وَجَبْرِ الْجُرْحِ وَتَجْبِيرِهِ وَمَا أُخِذَ مِنْهُ ; كَجَبْرِ الْمُصِيبَةِ بِالتَّعْوِيضِ عَمَّا فُقِدَ، وَجَبْرِ الْفَقِيرِ بِإِغْنَائِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَدْخُلُ فِي مَعْنَى جَبَّارِ النَّخْلِ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ وَالنَّمَاءُ وَالطُّولُ.

وَالْجَبَّارُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ مَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَوْنُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ بِتَأْثِيرٍ مَا، وَمَعْنَى جَبْرِ الْقَلْبِ الْكَسِيرِ، وَإِغْنَاءِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَمَعْنَى جَبْرِ الْخَلْقِ بِمَا وَضَعَهُ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ وَالْمَقَادِيرِ الْمُنْتَظِمَةِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنَ التَّدْبِيرِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، وَهُوَ مِثْلُ اسْمِ الْمُتَكَبِّرِ مَدْحٌ لِلْخَالِقِ، وَذَمٌّ لِلْمَخْلُوقِ ; إِذْ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يُبَالِغَ فِي مَعْنَى الْجَبْرِ؛ وَهُوَ الْعَظَمَةُ وَالْعُلُوُّ وَالِامْتِنَاعُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ

يَتَكَبَّرَ بِأَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُ كَبِيرُ الشَّأْنِ، وَلَوْ بِالْحَقِّ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ! فَإِنَّ الْكَبِيرَ بِالْفِعْلِ لَا يَتَعَمَّدُ وَيَتَكَلَّفُ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ كَبِيرٌ؛ وَإِنَّمَا يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيَتَوَخَّاهُ مَنْ يَشْعُرُ بِصَغَارِ نَفْسِهِ فِي بَاطِنِ سِرِّهِ، فَيَحْمِلُهُ حُبُّ الْعُلُوِّ عَلَى تَكَلُّفِ إِخْفَاءِ هَذَا الصَّغَارِ، بِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ إِظْهَارِ كِبْرِهِ، فَيَكُونُ مِنْ خُلُقِهِ أَلَّا يَخْضَعَ لِلْحَقِّ، وَلَا يُقَدِّرُ النَّاسَ قَدْرَهُمْ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنَ الْحَقِّ وَمِنَ النَّاسِ، فَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونُوا فَوْقَهُ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكِبْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ النَّقْصِ وَسَبَبُ الْمُؤَاخَذَةِ، فَقَالَ:" الْكِبْرُ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا تَكَبُّرُ الْخَالِقِ عز وجل وَهُوَ إِظْهَارُ كِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ لِعِبَادِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْظَمُ تَرْبِيَةً وَتَغْذِيَةً لِإِيمَانِهِمْ، يُوَجِّهُ قُلُوبَهُمْ إِلَى الْكَمَالِ الْأَعْلَى ; فَيَقْوَى اسْتِعْدَادُهُمْ لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَعِرْفَانِهِمْ بِهَا، فَيَكُونُونَ أَحِقَّاءَ بِأَلَّا يَرْفَعُوهَا عَنْ مَكَانِهَا بِالْبَاطِلِ وَلَا يُسَفِّهُوهَا فَيَرْضَوْا لَهَا بِالْخَسَائِسِ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ " جَبَّارِينَ " وَاسْتَطْرَدْنَا إِلَى اسْمِ الْجَبَّارِ وَالْمُتَكَبِّرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى ; لِمَا نَعْلَمُهُ مِنْ ضَلَالِ بَعْضِ النَّاسِ فِي فَهْمِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ.

أَمَّا مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ وَصْفِ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ، فَأَكْثَرُهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْخُرَافِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَبُثُّهَا الْيَهُودُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَرَوَوْهَا مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ إِلَيْهِمْ ; كَقَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُيُونَ

ص: 273

الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ بَعَثَهُمْ مُوسَى إِلَى مَا وَرَاءَ الْأُرْدُنِّ ; لِيَتَجَسَّسُوا وَيُخْبِرُوهُ بِحَالِ تِلْكَ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا قَوْمُهُ، رَآهُمْ أَحَدُ الْجَبَّارِينَ فَوَضَعَهُمْ كُلَّهُمْ فِي كِسَائِهِ، أَوْ فِي حُجْزَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ أَحَدُهُمْ يَجْنِي الْفَاكِهَةَ، فَكَانَ كُلَّمَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُيُونِ وَضَعَهُ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِ مُوسَى اسْتَظَلُّوا فِي ظِلِّ خُفِّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَمَالِيقِ. وَأَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ وَأَصْدَقُهُ قَوْلُ قَتَادَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) قَالَ: هُمْ أَطْوَلُ مِنَّا أَجْسَامًا، وَأَشَدُّ قُوَّةً، وَأَفْرَطُوا فِي وَصْفِ فَاكِهَتِهِمْ، كَمَا أَفْرَطُوا فِي وَصْفِهِمْ ; فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا)(5: 12) الَّذِي مَرَّ تَفْسِيرُهُ: أَرْسَلَهُمْ مُوسَى إِلَى الْجَبَّارِينَ، فَوَجَدُوهُمْ يَدْخُلُ فِي كُمِّ أَحَدِهِمُ اثْنَانِ

مِنْكُمْ، وَلَا يَحْمِلُ عُنْقُودَ عِنَبِهِمْ إِلَّا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ بَيْنَهُمْ فِي خَشَبَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ حَبُّهَا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ أَوْ أَرْبَعَةٌ.

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ السِّفْرُ الرَّابِعُ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَفِي أَوَّلِهِمَا أَنَّ الْجَوَاسِيسَ تَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ كَمَا أُمِرُوا، وَأَنَّهُمْ قَطَعُوا فِي عَوْدَتِهِمْ زَرْجُونَةً فِيهَا عُنْقُودُ عِنَبٍ وَاحِدٌ، حَمَلُوهُ بِعَتَلَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَقَالُوا لِمُوسَى وَهُوَ فِي مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ:(12: 29 قَدْ صِرْنَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَعَثْتَنَا إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ تُدِرُّ لَبَنًا وَعَسَلًا، وَهَذَا ثَمَرُهَا 30 غَيْرَ أَنَّ الشَّعَبَ السَّاكِنِينَ فِيهَا أَقْوِيَاءُ، وَالْمُدُنَ حَصِينَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَرَأَيْنَا ثَمَّ أَيْضًا بَنِي عَنَاقٍ - إِلَى أَنْ قَالَ الْكَاتِبُ - 31 وَكَانَ كَالِبٌ يُسْكِتُ الشَّعْبَ عَنْ مُوسَى قَائِلًا: نَصْعَدُ وَنَرِثُ الْأَرْضَ فَإِنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهَا 32 وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ صَعِدُوا مَعَهُ (أَيْ لِلتَّجَسُّسِ) فَقَالُوا: لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصْعَدَ إِلَى الشَّعْبِ ; لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَّا 33، وَشَنَّعُوا عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَجَسَّسُوهَا، وَقَالُوا:. . . هِيَ أَرْضٌ تَأْكُلُ أَهْلَهَا، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ فِيهَا طِوَالُ الْقَامَاتِ 34، وَقَدْ رَأَيْنَا ثَمَّ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، جَبَابِرَةِ بَنِي عَنَاقٍ، فَصِرْنَا فِي عُيُونِنَا كَالْجَرَادِ، وَكَذَلِكَ كُنَّا فِي عُيُونِهِمْ) هَذَا آخَرُ الْفَصْلِ، وَذُكِرَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ تَذَمُّرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى لَهُمْ بِدُخُولِ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ بَكَوْا وَتَمَنَّوْا لَوْ أَنَّهُمْ مَاتُوا فِي أَرْضِ مِصْرَ، أَوْ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَقَالُوا (14: 3 لِمَاذَا أَتَى الرَّبُّ بِنَا إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ؟ حَتَّى نَسْقُطَ تَحْتَ السَّيْفِ وَتَصِيرَ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً؟ أَلَيْسَ خَيْرًا لَنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى مِصْرَ؟) . . . إِلَخْ! ! فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْخُرَافَاتُ الَّتِي بَثُّوهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُمْ لِخَوْفِهِمْ وَرُعْبِهِمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ احْتَقَرُوا

ص: 274

أَنْفُسَهُمْ، حَتَّى رَأَوْهَا كَالْجَرَادِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْجَبَّارِينَ رَأَوْهُمْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا حَمْلُ زَرْجُونِ الْعِنَبِ وَالْفَاكِهَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مُبَالَغَةٍ كَبِيرَةٍ فِي عِظَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ حِفْظَهَا لِطُولِ الْمَسَافَةِ.

وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، الَّتِي رَاجَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ

التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ، وَقَلَّ مَنْ صَرَّحَ بِبُطْلَانِهَا أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُعْتَمَدَةِ لِيَقِفُوا عَلَى الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِيهَا؛ إِذْ لَمْ يَقِفُوا عِنْدَ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْوَامِ هِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، لَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ نَحْوَ مَا يَذْكُرُهُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ غَشَّهُمُ الْيَهُودُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِهِمْ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ حِكَايَتِهِمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَبَيْنَ كَذِبِهِمْ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ الْأُمِّيِّ فِي مِثْلِ مَكَّةَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا يَهُودُ وَلَا كُتُبٌ، وَأَكْثَرُ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.

وَمُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَرُبَ بِقَوْمِهِ مِنْ حُدُودِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الْعَامِرَةِ الْآهِلَةِ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِهَا مُسْتَعِدِّينَ لِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مَنْ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُمْ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالذُّلِّ بِاضْطِهَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ إِيَّاهُمْ أَبَوْا وَتَمَرَّدُوا وَاعْتَذَرُوا بِضَعْفِهِمْ، وَقُوَّةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَحَاوَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى مِصْرَ (كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَبِيدِ يَرْجِعُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى خِدْمَةِ سَادَتِهِمْ فِي أَمِرِيكَةَ، بَعْدَ تَحْرِيرِهِمْ كُلِّهِمْ وَمَنْعِ الِاسْتِرْقَاقِ بِقُوَّةِ الْحُكُومَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَلِفُوا تِلْكَ الْخِدْمَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ، وَصَارَتِ الْعِيشَةُ الِاسْتِقْلَالِيَّةُ شَاقَّةً عَلَيْهِمْ) وَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَ هَذِهِ الْأَرْضَ مَا دَامَ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارُونَ فِيهَا، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ يُخْرِجَهُمْ مِنْهَا بِقُوَّةِ الْخَوَارِقِ وَالْآيَاتِ ; لِتَكُونَ غَنِيمَةً بَارِدَةً لَهُمْ، وَجَهِلُوا أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْقُوا دَائِمًا عَلَى ضَعْفِهِمْ وَجُبْنِهِمْ، وَأَنْ يَعِيشُوا بِالْخَوَارِقِ وَالْعَجَائِبِ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا، لَا يَسْتَعْمِلُونَ قُوَاهُمُ الْبَدَنِيَّةَ وَلَا الْعَقْلِيَّةَ فِي دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا فِي جَلْبِ الْخَيْرِ لَهَا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ أَكْفَرَ الْخَلْقِ بِنِعَمِ اللهِ، فَكَيْفَ يُؤَيِّدُهُمْ بِآيَاتِهِ طُولَ الْحَيَاةِ! وَالْحِكْمَةُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّأْيِيدِ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ أَصْفِيَاءِ اللهِ تَعَالَى مُوَقَّتًا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ ; فَهُوَ كَالدَّوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغِذَاءِ. وَقَوْلُهُمْ (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) تَأْكِيدٌ لِمَفْهُومِ مَا قَبْلَهُ، مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ لَا عِلَّةَ لَامْتِنَاعِهِمْ إِلَّا مَا ذَكَرُوهُ.

(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) اتَّفَقَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالَبُ بْنُ يَفُنَةَ ; وِفَاقًا لِرِوَايَةِ التَّوْرَاةِ عِنْدَ أَهْلِ

الْكِتَابِ ; فَهُمَا

ص: 275

اللَّذَانِ كَانَا يَحُثَّانِ الْقَوْمَ عَلَى الطَّاعَةِ وَدُخُولِ أَوَّلِ بَلَدٍ لِلْجَبَّارِينَ ; ثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:(يَخَافُونَ) مَعْنَاهُ يَخَافُونَ اللهَ تَعَالَى، وَقِيلَ يَخَافُونَ الْجَبَّارِينَ، وَمَعْنَى النِّعْمَةِ هُنَا نِعْمَةُ الطَّاعَةِ وَالتَّوْفِيقِ حَتَّى فِي حَالِ الْخَوْفِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ جُمْلَةِ الْخَائِفِينَ طَبْعًا (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) أَيْ بَابَ الْمَدِينَةِ (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) بِنَصْرِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكُمْ إِذَا أَطَعْتُمْ أَمْرَهُ، وَصَدَّقْتُمْ وَعْدَهُ (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ وَعَلَيْكُمْ، بَعْدَ أَنْ تَعْمَلُوا مَا يَدْخُلُ فِي طَاقَتِكُمْ مِنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ، أَنْ تَكِلُوا أَمْرَكُمْ إِلَيْهِ وَتَثِقُوا بِهِ فِيمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكُمْ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ بَذْلِ الْوُسْعِ فِي مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ حَقٌّ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوَفَاءِ لَكُمْ بِوَعْدِهِ، إِذَا أَنْتُمْ قُمْتُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ وَالْوَفَاءِ بِمِيثَاقِهِ وَعَهْدِهِ.

(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أَيْ لَمْ تَنْفَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْعِظَةُ الرَّجُلَيْنِ، بَلْ أَصَرُّوا عَلَى التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَكَّدُوا لِمُوسَى بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ تِلْكَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَّارُونَ أَبَدًا - أَيْ مُدَّةَ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ - مَا دَامُوا فِيهَا ; لِأَنَّ دُخُولَهَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ وَالْحَرْبَ، وَلَيْسُوا لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَقَالُوا لِمُوسَى مَا مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتَ أَخْرَجْتَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِأَمْرِ رَبِّكَ ; لِنَسْكُنَ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي وَعَدَ بِهَا آبَاءَنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِتَالِ وَأَنَّنَا لَا نُقَاتِلُ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ الَّذِي أَمَرَكَ بِذَلِكَ، فَقَاتِلَا الْجَبَّارِينَ، وَاسْتَأْصِلَا شَأْفَتَهُمْ، أَوِ اهْزِمَاهُمْ وَأَخْرِجَاهُمْ مِنْهَا، إِنَّا هَاهُنَا مُنْتَظِرُونَ وَمُتَوَقِّفُونَ، أَوْ قَاعِدُونَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرُ مُقَاتِلِينَ، فَقَدِ اسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالى:(وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ 9: 46) وَقَوْلِهِ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ)(4: 95) الْآيَةَ. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلَ هَذَا الْقَوْلِ السَّمِجِ الْخَارِجِ مِنْ حُدُودِ الْآدَابِ عَلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ يَلِيقُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ ; كَكَوْنِ الْمُرَادِ بِذَهَابِ الرَّبِّ إِعَانَتَهُ وَنَصْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَاجَةَ إِلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَكَانَ مِنْ فَسَادِ فِطْرَتِهِمْ وَجَفَاءِ طِبَاعِهِمْ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَشَدَّ التَّأْيِيدِ، تَارَةً بِالْإِجْمَالِ،

وَتَارَةً بِأَوْسَعِ التَّفْصِيلِ. وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ صَفْوَةَ الْوَقَائِعِ، وَمَحَلَّ الْعِبْرَةِ فِيهَا، لَا تَرْجَمَةَ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ بِحُرُوفِهَا، وَشَرْحَ الْأَعْمَالِ بِبَيَانِ جُزْئِيَّاتِهَا، فَمَا يَقُصُّهُ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ الْوَاقِعُ وَرُوحُ مَا صَحَّ مِنْ كُتُبِهِمْ، أَوْ تَصْحِيحُ مَا حُرِّفَ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى التَّمَرُّدِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَالْجَفَاءِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَدَبِ، فَلَا وَجْهَ لِتَأْوِيلِهَا بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ.

(قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مُوسَى عليه السلام صُورَتُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ إِنْشَاءٌ، فَهُوَ مِنْ بَثِّ الْحُزْنِ وَالشَّكْوَى إِلَى اللهِ، وَالِاعْتِذَارِ إِلَيْهِ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْ

ص: 276

فِسْقِ قَوْمِهِ عَنْ أَمْرِهِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ: إِنَّنِي لَا أَمْلِكُ أَمْرَ أَحَدٍ أَحْمِلُهُ عَلَى طَاعَتِكَ إِلَّا أَمْرَ نَفْسِي وَأَمْرَ أَخِي، وَلَا أَثِقُ بِغَيْرِنَا أَنْ يُطِيعَكَ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوقِنُ بِثَبَاتِ يُوشَعَ وَكَالِبَ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ إِذَا أَمَرَ اللهُ مُوسَى بِأَنْ يَدْخُلَ أَرْضَ الْجَبَّارِينَ، وَيَتَصَدَّى لِقِتَالِهِمْ هُوَ وَمَنْ يَتْبَعُهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَجْرُؤُ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ الْجَيْشِ الْكَثِيرِ، يَجُوزُ أَلَّا يَجْرُؤَ عَلَيْهِ مَعَ النَّفَرِ الْقَلِيلِ. وَأَمَّا ثِقَتُهُ بِأَخِيهِ فَلِعِلْمِهِ الْيَقِينِيِّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ بِمِثْلِ مَا أَيَّدَهُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا بِإِعْلَامِ اللهِ وَوَحْيِهِ، وَمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوِجْدَانِ الضَّرُورِيِّ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ بَلَاؤُهُ مَعَهُ فِي مُقَاوَمَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ فِي سِيَاسَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، وَفِي حَالِ انْصِرَافِهِ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ مَا يَكْفِي لِلثِّقَةِ التَّامَّةِ، فَلَفْظُ " أَخِي " مَعْطُوفٌ عَلَى " نَفْسِي " وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي " إِنِّي " أَيْ وَأَخِي كَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ.

(فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) الْفَرْقُ: الْفَلْقُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَذَلِكَ قِسْمَانِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ هُنَا: فَافْصِلْ بَيْنَنَا - يَعْنِي نَفْسَهُ وَأَخَاهُ - وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِقَضَاءٍ تَقْضِيهِ بَيْنَنَا، إِذْ صِرْنَا خَصْمًا لَهُمْ وَصَارُوا خَصْمًا لَنَا، وَقِيلَ مَعْنَاهَا: إِذَا أَخَذْتَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى فُسُوقِهِمْ، فَلَا تُعَاقِبْنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ:(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ قَالَ اللهُ لِمُوسَى

مُجِيبًا لِدُعَائِهِ إِجَابَةً مُتَّصِلَةً بِهِ: فَإِنَّهَا - أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ - مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيمًا فِعْلِيًّا، لَا تَكْلِيفِيًّا شَرْعِيًّا، مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ يَسِيرُونَ فِي بَرِّيَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ، تَائِهِينَ مُتَحَيِّرِينَ، لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَنْتَهُونَ فِي سَيْرِهِمْ، فَالتِّيهُ: الْحَيْرَةُ، يُقَالُ: تَاهَ يَتِيهُ، وَيَتُوهُ لُغَةٌ، وَيُقَالُ: مَفَازَةٌ تَيْهَاءُ: إِذَا كَانَ سَالِكُوهَا يَتَحَيَّرُونَ فِيهَا لِعَدَمِ الْأَعْلَامِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا. وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ. (فَلَا تَأَسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ مُسْتَحِقُّونَ لِهَذَا التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا وَحِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَى: الْحُزْنُ، وَحَقِيقَتُهُ إِتْبَاعُ الْفَائِتِ الْغَمَّ، يُقَالُ: أَسِيتُ عَلَيْهِ أَسًى، وَأَسِيتُ لَهُ.

ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْهُمَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَصَوْا أَمْرَ رَبِّهِمْ سَقَطَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى وُجُوهِهِمَا أَمَامَهُمْ، وَأَنَّ يُوشَعَ وَكَالَبَ مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَنَهَيَا الشَّعْبَ عَنِ التَّمَرُّدِ، وَعَنِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَبَّارِينَ لِيُطِيعَ، فَهَمَّ الشَّعْبُ بِرَجْمِهِمَا، وَظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ لِمُوسَى فِي خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ (11 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ؟

ص: 277

وَحَتَّى مَتَى لَا يُصَدِّقُونَنِي بِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي عَمِلْتُ فِي وَسَطِهِمْ؟ 12 إِنِّي أَضْرِبُهُمْ بِالْوَبَاءِ وَأُبِيدُهُمْ، وَأُصَيِّرُكَ شَعْبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ) فَشَفَعَ مُوسَى فِيهِمْ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمِصْرِيُّونَ وَبِهِ، فَقَبِلَ الرَّبُّ شَفَاعَتَهُ، ثُمَّ قَالَ (22 إِنَّ جَمِيعَ الرِّجَالِ الَّذِينَ رَأَوْا مَجْدِي وَآيَاتِي الَّتِي عَمِلْتُهَا فِي مِصْرَ وَفِي الْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُونِي الْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلِي 23 لَنْ يَرَوُا الْأَرْضَ الَّتِي حَلَفْتُ لِآبَائِهِمْ، وَجَمِيعُ الَّذِينَ أَهَانُونِي لَا يَرَوْنَهَا) وَاسْتَثْنَى الرَّبُّ كَالِبَ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ (27 حَتَّى مَتَى أَغْفِرُ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَذَمِّرَةِ عَلَيَّ؟ قَدْ سَمِعْتُ تَذَمُّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي يَتَذَمَّرُونَهُ عَلَيَّ 28 قُلْ لَهُمْ " حَيٌّ أَنَا " يَقُولُ الرَّبُّ لَأَفْعَلَنَّ بِكُمْ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ فِي أُذُنِي 29 فِي هَذَا الْقَفْرِ تَسْقُطُ جُثَثُكُمْ. جَمِيعُ الْمَعْدُودِينَ مِنْكُمْ حَسَبَ عَدَدِكُمْ، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، الَّذِينَ تَذَمَّرُوا عَلَيَّ 30 لَنْ تَدْخُلُوا الْأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لَأُسْكِنَنَّكُمْ فِيهَا مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَةَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ 31 وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً فَإِنِّي سَأُدْخِلُهُمْ، فَيَعْرِفُونَ الْأَرْضَ الَّتِي

احْتَقَرْتُمُوهَا 32 فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هَذَا الْقَفْرِ 33، وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي الْقَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ حَتَّى تَفْنَى جُثَثُكُمْ فِي الْقَفْرِ 34 كَعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ ; أَيْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَعْرِفُونَ ابْتِعَادِي 35 أَنَا الرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ لَأَفْعَلَنَّ هَذَا بِكُلِّ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَّفِقَةِ عَلَيَّ، فِي هَذَا الْقَفْرِ يَفْنَوْنَ، وَفِيهِ يَمُوتُونَ) .

لَا نَبْحَثُ هُنَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي أَثْبَتْنَاهَا، وَلَا فِي تَرْكِ مَا تَرَكْنَاهُ مِنَ الْفَصْلِ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ تَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى وَلَا نَبْحَثُ عَنْ كَاتِبِ هَذِهِ الْأَسْفَارِ بَعْدَ سَبْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ وَإِنَّمَا نَكْتَفِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ شَاهِدًا، وَنَقُولُ كَلِمَةً فِي حِكْمَةِ هَذَا الْعِقَابِ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهِيَ:

إِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي تَنْشَأُ فِي مَهْدِ الِاسْتِبْدَادِ، وَتُسَاسُ بِالظُّلْمِ وَالِاضْطِهَادِ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا، وَتَذِلُّ نُفُوسُهَا، وَيَذْهَبُ بِأْسُهَا، وَتُضْرَبُ عَلَيْهَا الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَتَأْلَفُ الْخُضُوعَ، وَتَأْنَسُ بِالْمَهَانَةِ وَالْخُنُوعِ، وَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا أَمَدُ الظُّلْمِ تَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مَوْرُوثَةً وَمُكْتَسَبَةً حَتَّى تَكُونَ كَالْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالطَّبَائِعِ الْخِلْقِيَّةِ. إِذَا أَخْرَجْتَ صَاحِبَهَا مِنْ بِيئَتِهَا وَرَفَعْتَ عَنْ رَقَبَتِهِ نِيرَهَا، أَلْفَيْتَهُ يَنْزِعُ بِطَبْعِهِ إِلَيْهَا، وَيَتَفَلَّتُ مِنْكَ لِيَتَقَحَّمَ فِيهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْبَشَرِ فِي كُلِّ مَا يَأْلَفُونَهُ، وَيَجْرُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَثَلًا لِهِدَايَتِهِ وَضَلَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ " مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ

ص: 278

يَقَعْنَ فِيهَا، وَيَجْعَلُ يَحْجِزُهُنَّ، وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجُزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

أَفْسَدَ ظُلْمُ الْفَرَاعِنَةِ فِطْرَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا طَابَعَ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَقَدْ أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى مَا لَمْ يُرِ أَحَدًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ مُوسَى عليه السلام، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ لِيُنْقِذَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْعَذَابِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَالْعِزِّ وَالنَّعِيمِ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا كُلِّهِ إِذَا أَصَابَهُمْ

نَصَبٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ كُلِّفُوا أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمُوسَى وَيَتَمَلْمَلُونَ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ مِصْرَ وَيَحِنُّونَ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا، وَلَمَّا غَابَ عَنْهُمْ أَيَّامًا لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، اتَّخَذُوا لَهُمْ عِجْلًا مِنْ حُلِيِّهِمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَعَبَدُوهُ، لِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ إِكْبَارِ سَادَتِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِعْظَامِ مَعْبُودِهِمُ الْعِجْلِ (أَبِيسَ) وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا تُطِيعُهُمْ نُفُوسُهُمُ الْمَهِينَةُ عَلَى دُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ وَعْدَهُ تَعَالَى لِأَجْدَادِهِمْ إِنَّمَا يِتِمُّ عَلَى وِفْقِ سُنَّتِهِ فِي طَبِيعَةِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، إِذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَأَ فِي الْوَثَنِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَنَشَأَ بَعْدَهُ جِيلٌ جَدِيدٌ فِي حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَعَدْلِ الشَّرِيعَةِ وَنُورِ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَ قَوْمًا بِذُنُوبِهِمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُمْ وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُمْ عَجَائِبَ تَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ فَأَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنْشَأَ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمًا آخَرِينَ، جَعَلَهُمْ هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ بِهِمَمِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُوَافِقَةِ لِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ ; فَهَذَا بَيَانُ حِكْمَةِ عِصْيَانِهِمْ لِمُوسَى بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَحِكْمَةِ حِرْمَانِ اللهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْجِيلِ مِنْهُمْ مَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ.

فِعْلَيْنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا، وَنَعْلَمَ أَنَّ إِصْلَاحَ الْأُمَمِ بَعْدَ فَسَادِهَا بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِنْشَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ بِهَذَا فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَبَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي حُبِّ الْإِصْلَاحِ وَإِيثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.

ص: 279

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ

إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) جَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَشَأْنِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَصَوْا رَبَّهُمْ فِيمَا كَلَّفَهُمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَبَيَّنَ مَا شَرَعَهُ اللهُ مِنْ جَزَاءِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَيُهَدِّدُونَ الْأَمْنَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ عِقَابِ السَّرِقَةِ.

فَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِلسِّيَاقِ فِي جُمْلَتِهِ أَنَّهَا بَيَانٌ لِكَوْنِ الْحَسَدِ الَّذِي صَرَفَ الْيَهُودَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَمَلَهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ عَرِيقًا فِي الْآدَمِيِّينَ وَأَثَرًا مِنْ آثَارِ

ص: 280

سَلَفِهِمْ، كَانَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْهُ النَّصِيبُ الْأَوْفَرُ، وَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِزَالَةَ اسْتِغْرَابِهِمْ إِعْرَاضَ هَذَا الشَّعْبِ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى وُضُوحِ بُرْهَانِهِ وَكَثْرَةِ آيَاتِهِ. وَأَمَّا مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً ; فَهُوَ بَيَانُ حِكْمَةِ اللهِ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ وَالْقَوْدَ عَلَى مَا شَدَّدَ فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ، ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْأُمَمِ وَقَتْلُ الْحُكُومَاتِ لِلْأَفْرَادِ، أَوْ تَعْذِيبُهُمْ بِقَطْعِ الْأَطْرَافِ، كُلُّ ذَلِكَ قَبِيحًا فِي نَفْسِهِ، كَانَ مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِدَرْءِ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهُ

وَأَضَرُّ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ الدِّينِ أَنَّ يُبَيِّنَ لَنَا حِكْمَةَ ذَلِكَ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اعْتِدَاءَ بَعْضِ الْبَشَرِ عَلَى بَعْضٍ - حَتَّى بِالْقَتْلِ - هُوَ أَصِيلٌ فِيهِمْ، وَقَعَ بَيْنَ أَبْنَاءِ أَبِيهِمْ آدَمَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَعَدُّدِهِمْ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ أَعْمَالِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، حَسَبَ إِرَادَتِهِمُ التَّابِعَةِ لِعِلْمِهِمْ أَوْ ظَنِّهِمْ، وَكَوْنِ عُلُومِهِمْ وَظُنُونِهِمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَكَوْنِهَا لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الْإِحَاطَةِ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَكَذَا مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْكَمَالِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ حَسَدِ النَّاقِصِ لِمَنْ يَفُوقُهُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ، وَكَوْنِ الْحَاسِدِ يَبْغِي إِنْ قَدَرَ، مَا لَمْ يَزَعْهُ الدِّينُ أَوْ يَمْنَعْهُ الْقَدْرُ، وَهُوَ لَا يَبْغِي وَلَا يَقْتُلُ إِلَّا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ، وَأَنْوَهُ بِقَدْرِهِ وَأَرْفَعُ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ لَا يَزُولُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا إِذَا أَحَاطَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ عِلْمًا بِكُلِّ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَارْتِبَاطِ الْمَنَافِعِ الشَّخْصِيَّةِ بِمَنَافِعِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَامُوا الدِّينَ الْقَيِّمَ كُلُّهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِ تَأْبَاهُ، فَهُمْ يُخْلَقُونَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ، وَمَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ بِأَنْوَاعِهَا يَخْتَلِفُ، وَمَا يَتَّحِدُ مِنْهُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; فَالِاخْتِلَافُ فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَالشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ طَبِيعِيٌّ فِيهِمْ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ النَّافِعَةِ اشْتِغَالُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ، وَبِذَلِكَ يُظْهِرُونَ أَسْرَارَ اللهِ وَحِكَمِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَا سَخَّرَهُ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الضَّارَّةِ التَّخَاصُمُ وَالتَّقَاتُلُ. لِأَجْلِ هَذَا صَارُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْحُكَّامِ وَالشَّرَائِعِ. وَكَانَ مِنْ عَدْلِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تَبْنِيَ أَحْكَامَ قَتْلِ الْأَفْرَادِ وَقِتَالِ الشُّعُوبِ عَلَى قَوَاعِدَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (2: 251) فَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُبَيِّنَةٌ لِحُكْمِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ)(5: 11) الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ)(5: 18) الْآيَةَ، وَمَا قُلْنَاهُ أَكْمَلُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، قَالَ تَعَالَى:

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الْأَصْلُ لِمَعْنَى مَادَّةِ (ت ل و) التَّبَعُ ;

فَالتِّلْوُ - بِالْكَسْرِ - وَلَدُ النَّاقَةِ وَالشَّاةِ إِذَا فُطِمَ وَصَارَ يَتْبَعُهَا، وَكُلُّ مَا يَتْبَعُ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ يُقَالُ: هُوَ تِلْوُهُ. وَيُقَالُ

ص: 281

مَا زِلْتُ أَتْلُوهُ حَتَّى أَتْلَيْتُهُ: أَيْ غَلَبْتُهُ فَسَبَقْتُهُ وَجَعَلْتُهُ تِلْوِي، وَتَلَا فُلَانٌ: اشْتَرَى تَلْوًا ; أَيْ بَغْلًا صَغِيرًا أَوْ جَحْشًا، وَالتُّلَاوَةِ - بِالضَّمِّ - وَالتَّلِيَّةِ - بِالْفَتْحِ - بَقِيَّةُ الشَّيْءِ ; لِأَنَّهُ يَتْلُو مَا قَبْلَهُ، يُقَالُ ذَهَبَتْ تَلِيَّةُ الشَّبَابِ، وَالتِّلَاوَةُ - بِالْكَسْرِ - الْقِرَاءَةُ، وَلَمْ تَكَدْ تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ إِنَّ بَعْضَهُمْ عَمَّ بِهِ كُلَّ كَلَامٍ. وَلَعَلَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ سُمِّيَتْ تِلَاوَةً لِأَنَّهُ مَثَانِي، كُلَّمَا قُرِئَ مِنْهُ شَيْءٌ يُتْبَعُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ أَوْ بِإِعَادَتِهِ، أَوْ لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يُقْرَأَ لِيُتْبَعَ بِالِاهْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَعَبَّرَ الْقُرْآنُ بِالتِّلَاوَةِ عَنْ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللهِ وَآيَاتِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)(2: 121) يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْجَدَارَةِ بِالِاهْتِمَامِ.

وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَاتْلُ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ النَّاسِ، ذَلِكَ النَّبَأَ الْعَظِيمَ، نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ، تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ مُظْهِرَةً لَهُ، بِأَنْ تَذْكُرَهُ كَمَا وَقَعَ، مُبَيِّنًا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْكَشْفِ عَنْ غَرِيزَةِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّحَاسُدِ وَالْبَغْيِ وَالْقَتْلِ ; لِيَعْلَمُوا حِكْمَةَ اللهِ فِيمَا شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِقَابِ الْبَاغِينَ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَكَوْنَ هَذَا الْبَغْيِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَسَدِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، فَهُمْ فِي هَذَا كَابْنَيْ آدَمَ ; إِذْ حَسَدَ شَرُّهُمَا خَيْرَهُمَا، فَبَغَى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ مَا بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الِابْنَيْنِ هُمَا ابْنَا آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُمَا أَوَّلُ أَوْلَادِ آدَمَ، اسْمُ أَحَدِهِمَا قَايِنُ أَوْ قَايِينُ، وَهُوَ الْبِكْرُ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ مِنَّا: قَابِيلُ - وَهُوَ الْقَاتِلُ - وَاسْمُ الثَّانِي هَابِيلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ غَرِيبَةً، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ مِثْلُهَا إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَهِيَ لَمْ تُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ ; وَمِنْهَا أَنَّ آدَمَ رَثَى هَابِيلَ بِشِعْرٍ عَرَبِيٍّ، فَنُعْرِضُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا تَصِحُّ وَلَا تُفِيدُ، وَوَصْفُ مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِالْحَقِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا يَلُوكُهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِمَّا سِوَاهُ بَاطِلٌ.

(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) أَيِ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَهُمَا؛ أَيْ وَقْتَ تَقْرِيبِهِمَا الْقُرْبَانَ، وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا، وَغَلَبَ عِنْدَنَا فِي ذَبَائِحِ النُّسُكِ ; كَالْأَضَاحِي، وَكَانَتِ الْقَرَابِينُ عِنْدَ الْيَهُودِ أَنْوَاعًا (مِنْهَا) : الْمُحَرَّقَاتُ لِلتَّكْفِيرِ عَنِ الْخَطَايَا، وَهِيَ ذُكُورُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ السَّالِمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ. وَالذَّبَائِحُ عَنِ الْخَطَايَا: عَنِ الْخَطَايَا الْعَامَّةِ وَالْخَطَايَا الْخَاصَّةِ (وَمِنْهَا) : ذَبَائِحُ السَّلَامَةِ لِشُكْرِ الرَّبِّ تَعَالَى (وَمِنْهَا) : التَّقَدِمَاتُ مِنَ الدَّقِيقِ وَالزَّيْتِ وَاللُّبَانِ (وَمِنْهَا) تَقْدِمَةُ التَّرْدِيدِ مِنْ بَاكُورَةِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْقُرْبَانُ عِنْدَ النَّصَارَى فَهُوَ مَا يُقَدِّمُهُ الْكَاهِنُ مِنَ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ، فَيَتَحَوَّلُ فِي اعْتِقَادِهِمْ

ص: 282

إِلَى لَحْمِ الْمَسِيحِ وَدَمِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا. وَالْقُرْبَانُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَرُبَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ قُرْبًا وَقُرْبَانًا ; فَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَغَيْرُهُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَرَّبَ قُرْبَانًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا قَدْ قَرَّبَا قُرْبَانًا وَاحِدًا، كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) أَيْ فَتَقَبَّلَ اللهُ مِنْ أَحَدِهِمَا قُرْبَانَهُ أَوْ تَقْرِيبَهُ الْقُرْبَانَ ; لِتَقْوَاهُ وَإِخْلَاصِهِ فِيهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ بِهِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ لِعَدَمِ التَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ، وَالتَّقَبُّلُ أَخَصُّ مِنَ الْقَبُولِ ; لِأَنَّهُ تَرَقٍّ فِيهِ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالْمَقْبُولِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا اللهُ تَعَالَى كَيْفَ عَلِمَا أَنَّهُ تُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ لِأَبِيهِمَا آدَمَ عليه السلام بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ وِفَاقًا لِسِفْرِ التَّكْوِينِ، أَوْ لِنَبِيِّ زَمَانِهِمَا، عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ وَزَرْعٍ، وَالْآخَرَ صَاحِبُ غَنَمٍ، وَأَنَّ هَذَا قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، وَصَاحِبُ الزَّرْعِ قَرَّبَ شَرَّ مَا عِنْدَهُ وَأَرْدَأَهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهِ نَفْسُهُ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْقُرْبَانَ الْمَقْبُولَ كَانَتْ تَجِيءُ النَّارُ فَتَأْكُلُهُ وَلَا تَأْكُلُ غَيْرَ الْمَقْبُولِ، وَهَذِهِ أَخْبَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهَا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، بَعْضُهَا يُوَافِقُ مَا عِنْدَ الْيَهُودِ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَبَعْضُهَا يُخَالِفُهُ. وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

(قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أَيْ إِنَّ مَنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ تَوَعَّدَ أَخَاهُ وَأَقْسَمَ لَيَقْتُلَنَّهُ، فَأَجَابَهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ وَأَنْفَعَهُ:(قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أَيْ لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّدَقَاتِ

وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبُولَ الْمَقْرُونَ بِالرِّضَا وَالْإِثَابَةِ، إِلَّا مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى، فَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ سَبَبِ الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ مَعَ الِاعْتِذَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَمْ أُذْنِبْ إِلَيْكَ ذَنْبًا تَقْتُلُنِي بِهِ، فَإِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَتَقَبَّلْ مِنْكَ، فَارْجِعْ إِلَى نَفْسِكَ، فَحَاسِبْهَا عَلَى السَّبَبِ، فَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ; أَيِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ وَالْأَصْغَرَ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالشُّحُّ وَاتِّبَاعُ الْأَهْوَاءِ، فَاحْمِلْ نَفْسَكَ عَلَى تَقْوَى اللهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعَمَلِ، ثُمَّ تَقَرَّبْ إِلَيْهِ بِالطَّيِّبَاتِ يَتَقَبَّلْ مِنْكَ، فَاللهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (3: 92) فَلْيَتَّعِظْ بِهَذَا أَهْلُ الْغُرُورِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا النَّفَقَاتُ الَّتِي يُرَاءُونَ بِهَا النَّاسَ، وَيَبْغُونَ بِهَا الصِّيتَ وَالثَّنَاءَ.

ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَقِّ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، بَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ مَا يَجِبُ لِلنَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا الْإِخْوَةُ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنِ احْتِرَامِ الدِّمَاءِ وَحِفْظِ الْأَنْفُسِ، فَقَالَ:(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أَيْ بَيَّنَ لَهُ حَالَهُ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عَدَمِ مُقَابَلَتِهِ عَلَى جِنَايَتِهِ بِمِثْلِهَا، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِالْقَسَمِ، وَبِجُمْلَةِ النَّفْيِ الِاسْمِيَّةِ

ص: 283

الْمَقْرُونِ خَبَرُهَا بِالْبَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ بَسَطَ يَدَهُ - أَيْ مَدَّهَا - لِيَقْتُلَهُ بِهَا لَا يَجْزِيهِ بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَا تَأْتِي مِنْهُ وَلَا تَتَّفِقُ مَعَ صِفَاتِهِ وَشَمَائِلِهِ ; ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمَنْفِيِّ، كَمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي الْمُثْبَتِ عَنْ عَمَلِ أَخِيهِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، بَلْ قَالَ (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أَيْ لَسْتُ بِالَّذِي يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمُنْكَرَةِ الْمُنَافِيَةِ لِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى وَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَ الصِّفَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَعْدِ بِالتَّرْكِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وَعْدٍ مُؤَكَّدٍ بِبَيَانِ سَبَبِهِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ تَأْكِيدًا آخَرَ بِبَيَانِ عِلَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:(إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أَنْ يَرَانِي بَاسِطًا يَدِيَ إِلَى الْإِجْرَامِ وَسَفْكِ الدَّمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْخِطُهُ، وَيَكُونُ سَبَبَ عِقَابِهِ ; لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يُغَذِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَيُرَبِّيهِمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ; فَالِاعْتِدَاءُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ أَعْظَمُ مُفْسِدٍ لِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَمُعَارِضٍ لَهَا فِي بُلُوغِ غَايَةِ اسْتِعْدَادِهَا، وَمَنْ يَخَافُ اللهَ لَا يَعْتَدِي هَذَا الِاعْتِدَاءَ. وَهَذَا الْجَوَابُ مِنَ الْأَخِ التَّقِيِّ يَتَضَمَّنُ أَبْلَغَ الْمَوْعِظَةِ وَأَلْطَفَ الِاسْتِعْطَافِ لِأَخِيهِ الْعَازِمِ عَلَى الْجِنَايَةِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ بِقَتْلِ الصَّائِلِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ شَرْعَ

آدَمَ لَمْ يَكُنْ يُبِيحُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ. وَالدِّفَاعُ قَدْ يَكُونُ بِمَا دَونَ الْقَتْلِ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم:" إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ; فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ! قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ.

وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا التَّأْمِينِ وَالْوَعْظِ الْبَلِيغِ لَا يُؤَثِّرُ فِي كُلِّ نَفْسٍ قَفَّى عَلَيْهِ هَذَا الْأَخُ الْبَارُّ بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ:(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أَيْ إِنِّي أُرِيدُ بِمَا ذَكَرْتُ مِنِ اتِّقَاءِ مُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ بِمِثْلِهَا أَنْ تَرْجِعَ أَنْتَ إِنْ فَعَلْتَهَا مُتَلَبِّسًا بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ; أَيْ إِثْمِ قَتْلِكَ إِيَّايَ وَإِثْمِكَ الْخَاصِّ بِكَ، الَّذِي كَانَ مِنْ شُؤْمِهِ عَدَمُ قَبُولِ قُرْبَانِكَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْقَاتِلِ يَحْمِلُ فِي الْآخِرَةِ إِثْمَ مَنْ قَتَلَهُ إِنْ كَانَ لَهُ آثَامٌ ; لِأَنَّ الذُّنُوبَ وَالْآثَامَ الَّتِي فِيهَا حُقُوقٌ لِلْعِبَادِ، لَا يَغْفِرُ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى يَأْخُذَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ مَا يُسَاوِي حَقَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِي ذَلِكَ، أَوْ يَحْمِلُ الظَّالِمُ مِنْ آثَامِ الْمَظْلُومِ وَأَوْزَارِهِ مَا يُوَازِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ آثَامٌ أَوْ أَوْزَارٌ، وَمَا نَقَصَ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ يُسْتَعَاضُ عَنْهُ بِمَا يُوَازِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَفِي ذِكْرِ الْمُتَكَلِّمِ إِثْمَهُ وَإِثْمَ أَخِيهِ تَوَاضُعٌ وَهَضْمٌ لِنَفْسِهِ بِإِضَافَةِ الْإِثْمِ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَتَذْكِيرٌ لِلْمُخَاطَبِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِي هَذَا الظُّلْمَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) أَيْ تَكُونَ بِمَا حَمَلْتَ مِنَ الْإِثْمَيْنِ مِنْ

ص: 284

أَهْلِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّكَ تَكُونُ ظَالِمًا، وَالنَّارُ جَزَاءُ كُلِّ ظَالِمٍ، فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا حَتْمًا. تَرَقَّى فِي صَرْفِهِ عَنْ عَزْمِهِ مِنَ التَّبَرُّؤِ إِلَيْهِ مِنْ سَبَبِ حِرْمَانِهِ مِنْ قَبُولِ قُرْبَانِهِ بِبَيَانِ سَبَبِ التَّقَبُّلِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ التَّقْوَى، إِلَى تَنْزِيهِ نَفْسِهِ مِنْ جَزَائِهِ عَلَى جِنَايَتِهِ بِمِثْلِهَا، إِلَى تَذْكِيرِهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ خَوْفِ اللهِ تَعَالَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا يُرْضِيهِ مِمَّنْ وَهَبَهُمُ الْعَقْلَ وَالِاخْتِيَارَ إِلَّا أَنْ يَتَحَرَّوْا إِقَامَةَ سُنَنِهِ فِي تَرْبِيَةِ الْعَالَمِ وَإِبْلَاغِ كُلِّ حَيٍّ يَقْبَلُ الْكَمَالَ إِلَى كَمَالِهِ، إِلَى تَذْكِيرِهِ بِأَنَّ الْمُعْتَدِيَ يَحْمِلُ إِثْمَ نَفْسِهِ

وَإِثْمَ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْقِصَاصِ وَالْجَزَاءِ إِلَى تَذْكِيرِهِ بِعَذَابِ النَّارِ وَكَوْنِهَا مَثْوًى لِلظَّالِمِينَ الْفُجَّارِ، فَمَاذَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْحَاسِدِ الظَّالِمِ؟ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) فَسَّرُوا طَوَّعَتْ بِشَجَّعَتْ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَبِوَسَّعَتْ وَسَهَّلَتْ وَزَيَّنَتْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يُشِيرُ إِلَى حَاصِلِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا شَرَحَ بَلَاغَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِبَعْضِ مَا أَجِدُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِي، وَإِنَّهَا لَبِمَكَانٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ يُحِيطُ بِالْقَلْبِ وَيَضْغَطُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)(50: 1) إِنَّنِي أَكْتُبُ الْآنَ، وَقَلْبِي يَشْغَلُنِي عَنِ الْكِتَابَةِ بِمَا أَجِدُ لَهَا فِيهِ مِنَ الْأَثَرِ وَالِانْفِعَالِ. إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى تَدْرِيجٍ وَتَكْرَارٍ فِي حَمْلِ الْفِطْرَةِ عَلَى طَاعَةِ الْحَسَدِ الدَّاعِي إِلَى الْقَتْلِ ; كَتَذْلِيلِ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تُمَثِّلُ - لِمَنْ يَفْهَمُهَا - وَلَدَ آدَمَ الَّذِي زَيَّنَ لَهُ حَسَدُهُ لِأَخِيهِ قَتْلَهُ، وَهُوَ بَيْنَ إِقْدَامٍ وَإِحْجَامٍ، يُفَكِّرُ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ أَخِيهِ الْحِكَمِيَّةِ، فَيَجِدُ فِي كُلٍّ مِنْهَا صَارِفًا لَهُ عَنِ الْجَرِيمَةِ، يُدَعِّمُ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ صَوَارِفِ الْعَقْلِ وَالْقَرَابَةِ وَالْهَيْبَةِ، فَكَرَّ الْحَسَدُ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ عَلَى كُلِّ صَارِفٍ فِي نَفْسِهِ اللَّوَّامَةِ، فَلَا يَزَالَانِ يَتَنَازَعَانِ وَيَتَجَاذَبَانِ حَتَّى يَغْلِبَ الْحَسَدُ كُلًّا مِنْهَا وَيَجْذِبَهُ إِلَى الطاعَةِ، فَإِطَاعَةُ صَوَارِفِ الْفِطْرَةِ وَصَوَارِفِ الْمَوْعِظَةِ لِدَاعِي الْحَسَدِ هُوَ التَّطَوُّعُ الَّذِي عَنَاهُ اللهُ تَعَالَى. فَلَمَّا تَمَّ كُلُّ ذَلِكَ قَتَلَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِمُقْتَضٍ، فَنَحْنُ نَرَى مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَاخْتِبَارِ الْقُضَاةِ لِلْجُنَاةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِقَتْلِ أَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ (آدَمَ) يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ صَارِفًا، أَوْ عِدَّةَ صَوَارِفَ تَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَيَتَعَارَضُ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي فِي نَفْسِهِ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، حَتَّى تُطَوِّعَ لَهُ نَفْسُهُ الْقَتْلَ بِتَرْجِيحِ الْمُقْتَضِي عِنْدَهُ عَلَى الْمَوَانِعِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْتُلُ إِنْ قَدَرَ. فَالتَّطْوِيعُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ كَتَذْلِيلِ الْحَيَوَانِ الصَّعْبِ، وَتَعْلِيمِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْرَارُ لِأَجْلِ إِطَاعَةِ مَانِعٍ أَوْ صَارِفٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِإِطَاعَةِ عِدَّةِ صَوَارِفَ وَمَوَانِعَ،

وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي قِيلَتْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى

ص: 285

كَلِمَةُ " التَّشْجِيعِ " الْمَأْثُورَةُ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَهَابُ قَتْلَ أَخِيهِ، وَتَجْبُنُ فِطْرَتُهُ دُونَهُ، فَمَا زَالَتْ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ تُشَجِّعُهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَجَرَّأَ وَقَتَلَ عَقِبَ التَّطْوِيعِ بِلَا تَفَكُّرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ لِلْعَاقِبَةِ (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أَيْ مِنْ جِنْسِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، بِإِفْسَادِ فِطْرَتِهَا، وَخَسِرُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْأَخُ الصَّالِحُ التَّقِيُّ، وَخَسِرُوا نَعِيمَ الْآخِرَةِ ; إِذْ لَمْ يَعُودُوا أَهْلًا لَهَا ; لِأَنَّهَا دَارُ الْمُتَّقِينَ.

(فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَتْلُ أَوَّلَ قَتْلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَلْقِ - أَيِ الْإِنْسَانِ - مَوْكُولًا إِلَى كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي عَامَّةِ أَعْمَالِهِ، لَمْ يَعْرِفِ الْقَاتِلُ الْأَوَّلُ كَيْفَ يُوَارِي جُثَّةَ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، الَّتِي يَسُوؤُهُ أَنْ يَرَاهَا بَارِزَةً - فَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ ظُهُورُهُ، وَرُؤْيَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَقْتُولُ، يَسُوءُ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيُوحِشُهُ - وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَتُلْهَمُ عَمَلَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلْهَامًا فِي الْأَكْثَرِ، وَقَلَّمَا يَتَعَلَّمُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ شَيْئًا. وَقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَاتِلَ الْأَوَّلَ تَعَلَّمَ دَفْنَ أَخِيهِ مِنَ الْغُرَابِ، وَيَدُلُّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأُولَى كَانَ فِي مُنْتَهَى السَّذَاجَةِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كَانَ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَاخْتِبَارًا وَيَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ غُرَابًا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَبَحَثَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ حَفَرَ بِرِجْلَيْهِ فِيهَا، يُفَتِّشُ عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الطَّيْرَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الطَّعَامِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْغُرَابَ أَطَالَ الْبَحْثَ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ قَالَ " يَبْحَثُ " وَلَمْ يَقُلْ بَحَثَ، وَالْمُضَارِعُ يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ، فَلَمَّا أَطَالَ الْبَحْثَ أَحْدَثَ حُفْرَةً فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْحُفْرَةَ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِ مُوَارَاةِ سَوْءَةِ أَخِيهِ، زَالَتِ الْحَيْرَةُ، وَاهْتَدَى إِلَى مَا يَطْلُبُ، وَهُوَ دَفْنُ أَخِيهِ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ مِنْ عَادَةِ الْغُرَابِ دَفْنُ الْأَشْيَاءِ، فَجَاءَ غُرَابٌ فَدَفَنَ شَيْئًا، فَتَعَلَّمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنِ اللهَ بَعَثَ غُرَابَيْنِ لَا وَاحِدًا، وَإِنَّهُمَا اقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ حُفْرَةً أَلْقَاهُ فِيهَا، وَمَا جَاءَ هَذَا إِلَّا مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي مَصْدَرُهَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ، عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ

الْغُرَابِ وَالدَّفْنِ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ، لَا فَائِدَةَ لَهَا وَلَا صِحَّةَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(لِيُرِيَهُ) لِلتَّعْلِيلِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللهِ تَعَالَى ; أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ الْغُرَابَ ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ ابْنُ آدَمَ مِنْهُ الدَّفْنَ، وَلِلصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْغُرَابِ ; أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ بَحْثِهِ مَا ذُكِرَ.

وَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْغُرَابَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الدَّفْنِ، وَظَهَرَ لَهُ مِنْ ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ (قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " يَاوَيْلَتَا " كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ

ص: 286

وَإِنَّهَا تُقَالُ عِنْدَ حُلُولِ الدَّوَاهِي وَالْعَظَائِمِ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْوَيْلُ: حُلُولُ الشَّرِّ، وَالْوَيْلَةُ: الْفَضِيحَةُ وَالْبَلِيَّةُ. وَقِيلَ هُوَ تَفَجُّعٌ، وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: يَا وَيْلَتَاهُ! فَإِنَّمَا يَعْنِي وَافَضِيحَتَاهُ! وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ (يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ)(18: 49) انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَالْأَلِفُ فِي الْكَلِمَةِ بَدَلُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ; إِذِ الْأَصْلُ يَا وَيْلَتِي، وَالنِّدَاءُ لِلْوَيْلَةِ ; لِإِفَادَةِ حُلُولِ سَبَبِهَا الَّذِي تَحِلُّ لِأَجْلِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ دَعَاهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَقْبِلِي فَقَدْ آنَ أَوَانُ مَجِيئِكِ، فَهَلْ بَلَغَ مِنْ عَجْزِي أَنْ كُنْتُ دُونَ الْغُرَابِ عِلْمًا وَتَصَرُّفًا؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِقْرَارِ وَالتَّحَسُّرِ، وَأَمَّا النَّدَمُ الَّذِي نَدِمَهُ فَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ عَقِبَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْخَطَأِ فِي فِعْلِ فِعْلِهِ، إِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ شَرًّا لَهُ لَا خَيْرًا، وَقَدْ يَكُونُ النَّدَمُ تَوْبَةً إِذَا كَانَ سَبَبُهُ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّمَ مَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ، وَقَصَدَ بِهِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَأَمَّا النَّدَمُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ وَحْدَهُ تَوْبَةً، وَالتَّوْبَةُ مِنْ إِحْدَاثِ الْبِدْعَةِ لَا تُنْجِي مُبْتَدِعَهَا مِنْ سُوءِ أَثَرِهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ (نَصِيبٌ) مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".

(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) قَالَ فِي اللِّسَانِ وَقَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ: وَقَوْلُ الْعَرَبِ فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ كَذَا وَأَجْلَ كَذَا (بِفَتْحِ اللَّامِ) وَمِنْ أَجْلَاكَ (وَتُكْسَرُ الْهَمْزَةُ فِيهِمَا) قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: " وَالْأَصْلُ فِي قَوْلِهِمْ فَعَلْتُهُ مِنْ أَجْلِكَ: أَجَلَ عَلَيْهِمْ أَجَلًا ; أَيْ جَنَى وَجَرَّ " ثُمَّ قَالَ: وَأَجَلَ عَلَيْهِمْ شَرًّا يَأْجُلُهُ (بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا)

أَجَلًا: جَنَاهُ وَهَيَّجَهُ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ مِنَ الشِّعْرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَجَلْتُ عَلَيْهِمْ آجُلُ أَجَلًا ; أَيْ جَرَرْتُ جَرِيرَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ: جَلَبْتُ عَلَيْهِمْ وَجَرَرْتُ وَأَجَلْتُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ ; أَيْ جَنَيْتُ، وَأَجَلَ لِأَهْلِهِ بِأَجَلٍ: كَسَبَ وَجَمَعَ وَاحْتَالَ، انْتَهَى. وَزَادَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ قَيْدًا فِي تَعْرِيفِ الْأَجَلِ، فَقَالَ: الْأَجَلُ: الْجِنَايَةُ الَّتِي يَخَافُ مِنْهَا آجِلًا، فَكُلُّ أَجَلٍ جِنَايَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ أَجَلًا، يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ تَعَالَى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ مِنْ جَرَّائِهِ. انْتَهَى.

وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَيْدِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ كُلِّ جِنَايَةٍ أَنْ يُخَافَ آجِلُهَا وَتُحْذَرَ عَاقِبَتُهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الشَّوَاهِدَ وَالْأَقْوَالَ يُرَجِّحُ مَعِي أَنَّ الْأَجَلَ هُوَ جَلْبُ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ عَاقِبَةٌ أَوْ ثَمَرَةٌ، وَكَسْبُهُ أَوْ تَهْيِيجُهُ، وَيُعَدَّى بِاللَّامِ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ حَسَنَةً كَقَوْلِهِمْ: أَجَلَ لِأَهْلِهِ، وَغَلَبَ الْفِعْلُ فِي الرَّدِيءِ وَالشَّرِّ، وَإِنْ عُدِّيَ بِاللَّامِ كَقَوْلِ تَوْبَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الْعَيْسِيِّ:

فَإِنْ تَكُ أُمُّ ابْنِي زَمِيلَةُ أَثْكَلَتْ

فَيَا رُبَّ أُخْرَى قَدْ أَجَلْتَ لَهَا ثَكْلَا

ص: 287

ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْلِيلِ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَ عُدَيُّ بْنُ زَيْدٍ

أَجْلَ أَنَّ اللهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ

الْبَيْتَ، وَهُوَ بِغَيْرِ مِنْ.

وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجُرْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي أَحَلَّهُ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَتَبْنَا وَفَرَضْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى (كَتَبْنَا) يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي تَشْنِيعِ الْقَتْلِ كَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ عُرْضَةٌ لِلْبَغْيِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا لَمْ يَرْدَعْهُمُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، أَوْ خَوْفُ الْعِقَابِ الْعَتِيدِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْحَسَنُ قَوْلَهُ: إِنَّ وَلَدَيْ آدَمَ هَذَيْنِ كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لِلتَّعْرِيضِ بِمَا كَانَ مِنْ شِدَّةِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِلْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَبْلُ، وَبِمَا كَانَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي الْبَغْيِ، وَمِنْهُ قَتْلُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، عليهم السلام، بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَأَمَّا هَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْقِصَاصِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(5: 45) أَيْ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا جَزَاءً وِفَاقًا (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ)

أَوْ غَيْرِ سَبَبِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ بِسَلْبِ الْأَمْنِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، كَمَا تَفْعَلُهُ الْعِصَابَاتُ الْمُسَلَّحَةُ لِقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، أَوْ إِفْسَادِ الْأَمْرِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ الْمُقِيمِ لِحُدُودِ اللهِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا)(5: 33) الْآيَةَ.

(فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُمَثِّلُ النَّوْعَ فِي جُمْلَتِهِ، فَمَنِ اسْتَحَلَّ دَمَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْتَحِلُّ دَمَ كُلِّ وَاحِدٍ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، فَتَكُونُ نَفْسُهُ ضَارِبَةً بِالْبَغْيِ لَا وَازِعَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا وَلَا مِنَ الدِّينِ (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) أَيْ وَمَنْ كَانَ سَبَبًا لِحَيَاةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِإِنْقَاذِهَا مِنْ مَوْتٍ كَانَتْ مُشْرِفَةً عَلَيْهِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى إِنْقَاذِ الْوَاحِدَةِ - وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَمَعْرِفَةُ قِيمَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَاحْتِرَامُهَا، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ فِي حُقُوقِهَا - تَنْدَغِمُ فِيهِ جَمِيعُ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُنْقِذَهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ هَلَكَةٍ يَرَاهُمْ مُشْرِفِينَ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا لَا يَنِي فِي ذَلِكَ وَلَا يَدَّخِرُ وُسْعًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُقَصِّرُ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَكَانُوا عُرْضَةً لِلْهَلَاكِ بِالْقَتْلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَوْ كَانُوا مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً احْتِرَامًا لَهَا وَقِيَامًا بِحُقُوقِهَا لَامْتَنَعَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِنَ الْأَرْضِ، وَعَاشَ النَّاسُ مُتَعَاوِنِينَ، بَلْ إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ مُتَوَادِّينَ، فَالْآيَةُ تُعَلِّمُنَا مَا يَجِبُ مِنْ وَحْدَةِ الْبَشَرِ وَحِرْصِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى حَيَاةِ

ص: 288

الْجَمِيعِ، وَاتِّقَائِهِ ضَرَرَ كُلِّ فَرْدٍ ; لِأَنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْفَرْدِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْجَمِيعِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْفَرْدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عُضْوٌ مِنَ النَّوْعِ، وَمَا قَرَّرَ لَهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسَاوَاةِ فِي الشَّرْعِ، قِيَامٌ بِحَقِّ الْجَمِيعِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْعَالِي مَنْ جَعَلَ التَّشْبِيهَ فِي الْآيَةِ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى التَّخْرِيجِ وَالتَّأْوِيلِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَهْدِينَا إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَوُجُوبِ تَكَافُلِهَا، بِمِثْلِ إِسْنَادِ عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهَا إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَوَضْعِ اسْمِ الْأُمَّةِ أَوْ ضَمِيرِهَا فِي مَقَامِ الْحِكَايَةِ، أَوِ الْخِطَابِ لِبَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ

وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (4: 29) فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ - بَعْدَ إِيرَادِ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا - مَا نَصُّهُ: بَلْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُعَدُّ جِنَايَةً عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، لَا عَلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ فَقَطْ بِقَوْلِهِ عز وجل:(مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) الْآيَةَ.

وَرُوِيَ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ هُوَ الْقِصَاصُ، فَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً كَمَنْ قَتَلَ كُلَّ النَّاسِ فِي كَوْنِهِ يُقْتَلُ قِصَاصًا بِالْوَاحِدَةِ وَبِالْكَثِيرِ؛ إِذْ لَا عُقُوبَةَ فَوْقَ الْقَتْلِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَظْهَرُ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْإِحْيَاءِ ". وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِيهِ أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ إِذَا عَفَا عَنِ الْقَاتِلِ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَقِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي الْقَتْلِ؛ وَهُوَ أَنَّ إِثْمَ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِثْمِ قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَجَزَاؤُهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ بُيِّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (ص37 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَفْسُ النَّبِيِّ أَوِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَإِحْيَاؤُهَا نَصْرُهُ وَشَدُّ عَضُدِهِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ قَتْلَ الْمُصْلِحِ أَوْ إِنْقَاذَهُ وَنَصْرَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ يَأْبَاهُ، وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَ نَفْسٍ بِدُونِ حَقٍّ حَيَى النَّاسُ جَمِيعًا مِنْهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا كَانَ قَتْلُهَا كَقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَنْقَذَهَا مِنَ الْقَتْلِ كَانَ عِنْدَ الْمُنْقَذِ كَإِحْيَاءِ النَّاسِ جَمِيعًا، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاخْتَارَ مِنْهَا أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ فِي الْقَتْلِ هُوَ عِقَابُ الْآخِرَةِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ سَلَامَةُ النَّاسِ مِمَّنْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا أَوْضَحُ وَأَجْمَعُ لِلْمَعَانِي.

وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الْعَالِيَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ ; إِذْ فُقِدَتِ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ كَتَبُوا مَا بَقِيَ فِي حِفْظِهِمْ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَأَمَّا قِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ فَهِيَ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَدَّمَ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدَّمَ هَابِيلُ قُرْبَانًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ، وَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ دُونَ أَخِيهِ اغْتَاظَ

ص: 289

قَايِينُ وَقَتَلَ هَابِيلَ، فَسَأَلَهُ الرَّبُّ عَنْهُ: أَيْنَ هُوَ؟ فَأَجَابَ: لَا أَعْلَمُ، وَهَلْ أَنَا حَارِسٌ لِأَخِي؟ فَلَعَنَهُ الرَّبُّ وَطَرَدَهُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ! فَنَدِمَ، وَاسْتَرْحَمَ الرَّبَّ، وَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (15 - فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:

لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةُ أَضْعَافٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (! !) فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نَوْدٍ شَرْقِيَّ عَدَنَ! !) وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْهُ أَنَّ نُوحًا قَالَ لِبَنِيهِ (6 سَافِكُ دَمِ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ ; لِأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الْإِنْسَانَ) وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ إِنْسَانًا عَمْدًا يُقْتَلُ، وَمَنْ بَغَى عَلَى صَاحِبِهِ لِيَقْتُلَهُ بِغَدْرٍ " فَمِنْ عِنْدَ مَذْبَحِي تَأْخُذُهُ لِلْمَوْتِ " وَمَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ شَتَمَهُمَا، أَوْ سَرَقَ إِنْسَانًا وَبَاعَهُ أَوْ وُجِدَ فِي يَدِهِ يُقْتَلُ، فَأَسْبَابُ الْقَتْلِ عِنْدَهُمْ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشِّدَّةُ رَادِعَةً لَهُمْ عَنِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَتَّى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَلْ يَكْثُرُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى غَدْرًا؟ لَا، لَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:

(وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ بَيِّنَاتُ الرُّسُلِ، وَلَا هَذَّبَتْ نُفُوسَهُمْ، بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الْقَتْلِ، وَمِنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، يُسْرِفُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْبَغْيِ. أَكَّدَ إِثْبَاتَ وَصْفِ الْإِسْرَافِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ ; لِأَنَّ تَشْدِيدَ الشَّرِيعَةِ، وَتَكْرَارَ بَيِّنَاتِ الرُّسُلِ، كَانَتْ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَلِكَ أَوْ نُدُورَهُ. وَالْحُكْمُ عَلَى الْكَثِيرِ دُونَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا الرُّسُوخُ فِي الْإِسْرَافِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ، وَالنَّاسُ يُطْلِقُونَ وَصْفَ الْكَثِيرِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي الْغَالِبِ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعَمَلِ ; أَيْ حَدِّ الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْمِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ شَرْعٌ. وَكُلُّ مَا يُتَجَاوَزُ فِي الْحَدِّ يُفْسِدُ. وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْرَافِ الْإِفْسَادُ، فَهُوَ مِنَ السُّرَقَةِ، وَهِيَ بِالضَّمِّ الدُّودَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَالْخَشَبَ، وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَافُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ يَجْعَلُهُ شَرًّا ; كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي تَذْهَبُ بِالْمَالِ كُلِّهِ، فَتُفْسِدُ عَلَى صَاحِبِهَا أَمْرَ مَعَاشِهِ. فَمَا بَالُكَ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ وَتَجَاوُزُ مَا اعْتَادَهُ الْأَشْرَارُ فِيهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ:(فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)(17: 33) فَهُوَ نَهْيٌ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ الْقِصَاصِ إِلَى قَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ تَعْذِيبِ الْقَاتِلِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ.

وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ أَقْدَمُ قِصَّةٍ تَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ كَانَ مَثَارَ أَوَّلِ جِنَايَةٍ فِي الشَّرِّ، وَلَا يَزَالُ هُوَ الَّذِي يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ اجْتِمَاعِهِمْ، مِنِ اجْتِمَاعِ الْعَشِيرَةِ

ص: 290

فِي الدَّارِ إِلَى اجْتِمَاعِ الْقَبِيلَةِ إِلَى اجْتِمَاعِ الدَّوْلَةِ. فَتَرَى الْحَاسِدَ تَثْقُلُ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَخِيهِ فِي النَّسَبِ أَوِ الْجِنْسِ أَوِ الدِّينِ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمِثْلِهَا لِيَنَالَهَا، فَيَبْغِي عَلَى أَخِيهِ، وَلَوْ بِمَا فِيهِ شَقَاؤُهُ هُوَ. وَأَكْبَرُ الْمَوَانِعِ لِارْتِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْآنَ هُوَ الْحَسَدُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ أَهْلِهِ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْأُمَمَ لَا تَرْتَقِي إِلَّا بِنُهُوضِ الْمُصْلِحِينَ بِهَا، وَكُلَّمَا قَامَ فِينَا مُصْلِحٌ تَصَدَّى الْحَاسِدُونَ لِإِحْبَاطِ عَمَلِهِ.

مَنْ قَرَأَ الْآيَةَ وَفَهِمَ مَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَكَوْنِ هَذَا الْحَقِّ لَا يَعْدُو الْقِصَاصَ وَمَنْعَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، يَتَوَجَّهُ ذِهْنُهُ لِاسْتِبَانَةِ الْعِقَابِ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ الْمُفْسِدُونَ، حَتَّى لَا يَتَجَرَّأَ غَيْرُهُمْ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ الْعِقَابَ بِقَوْلِهِ:

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) . اخْتَلَفَ نَقَلَةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِيمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنِ اتِّصَالِهِمَا بِمَا قَبْلَهُمَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا

فَلْيَشْرَبُوا

ص: 291

مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ. زَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ قَتَادَةَ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ (أَيْ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا) وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَطَعَ أَيْدِيَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ:(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الْآيَةَ، وَفِي الْقِصَّةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى مُفَصَّلَةٌ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ إِبِلَ الصَّدَقَةِ كُلَّهَا فِي غُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمْ مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ (وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ) وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ فَخَيَّرَ اللهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتُلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ: إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ عِتَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَمْلِ أَعْيُنِ الْعُرَنِيِّينَ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَتَرْكِهَا بِدُونِ حَسْمٍ ; فَكَانَتِ الْآيَةُ تَحْرِيمًا لِلْمُثْلَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَرُوِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَمَرَ بَسْمَلِ أَعْيُنِهِمْ وَقَطْعِهِمْ كَمَا

فَعَلُوا بِالرَّاعِي الْمُسْلِمِ - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " الرُّعَاةِ " بِالْجَمْعِ - فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَتَرَكَ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِمِثْلِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا، أَوِ الَّذِينَ غَدَرُوا مِنَ الْيَهُودِ، أَوِ الَّذِينَ خَدَعُوا النَّبِيَّ وَالْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِذَا تَمَكَّنُوا مِنَ الْإِفْسَادِ بِالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ عَادُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَأَظْهَرُوا شِرْكَهُمْ

ص: 292

مَعَهُمْ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَأَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِمَا أَظْهَرَهُ الْعُرَنِيُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَرَوَوْا عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي تَطْبِيقِ الْآيَةِ عَلَى الْخَوَارِجِ، بَلْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ.

وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ - أَنَّهَا عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا بِالْفِعْلِ أَوْ الِاسْتِعْدَادِ. وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ جَعَلُوهَا خَاصَّةً بِالْمُسْلِمِينَ: إِنَّ أَحْكَامَ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ مَعْرُوفَةٌ بِالنُّصُوصِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الدَّرَجَاتُ فِي الْعِقَابِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ خَاصٌّ بِمَنْ فَعَلَ مِثْلَ أَفْعَالِ الْعُرَنِيِّينَ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يُتَّبَعَ فِي حَرْبِ كُلِّ مَنْ حَارَبَنَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِمْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ هَذَا الْإِفْسَادِ هِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، لَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ.

وَمَجْمُوعُ الرِّوَايَاتِ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ تُفِيدُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ خَدِيعَةً لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ، ثُمَّ قَتَلُوهُمْ وَمَثَّلُوا بِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى الْأَعْرَاضِ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَاقَبَهُمْ بِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ ; عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)(42: 40) وَقَوْلِهِ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ)(2: 194) إِنْ صَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ عِقَابِهِمْ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُمْ كَعَادَتِهِ ; لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ عَلَى مِثْلِ فَعْلَتِهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ أَعْرَابِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ الْقِصَاصَ وَسَدَّ الذَّرِيعَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْآيَةَ بِهَذَا التَّشْدِيدِ فِي الْعِقَابِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِفْسَادِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ؛ وَهِيَ سَدُّ ذَرِيعَةِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَكِنَّهُ حَرَّمَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ

الْمُثْلَةَ؛ وَهِيَ تَشْوِيهُ الْأَعْضَاءِ، وَلَا مَفْسَدَةَ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ سَلْبِ الْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ النَّاطِقَةِ وَالصَّامِتَةِ. فَرُبَّ عُصْبَةٍ مِنَ الْمُفْسِدِينَ تَسْلُبُ الْأَمَانَ وَالِاطْمِئْنَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةٍ كَبِيرَةٍ، وَرُبَّ عُصْبَةٍ مُفْسِدَةٍ تُعَاقَبُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ فَتَطْهُرُ الْأَرْضُ مِنْ أَمْثَالِهَا زَمَنًا طَوِيلًا.

وَالتَّشْدِيدُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السِّيَاسَةِ، لَا تَزَالُ جَمِيعُ الدُّوَلِ تُحَافِظُ عَلَيْهِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُحَكِّمُ الْوَهْمَ فِيهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْإِدِّ مَا اجْتَرَحَتْهُ إِنْكِلْتِرَةُ فِي مِصْرَ بِهَذَا الْقَصْدِ؛ إِذْ مَرَّ بِقَرْيَةِ (دِنْشُوَايْ) مُنْذُ سِنِينَ قَلِيلَةٍ أَفْرَادٌ مِنْ جُنْدِ الْإِنْكِلِيزِ، كَانُوا يَصِيدُونَ الْحَمَامَ عِنْدَ بَيْدَرِهَا، فَتَخَاصَمُوا مَعَ أَصْحَابِ الْحَمَامِ وَتَضَارَبُوا، فَعَظُمَ عَلَى الْإِنْكِلِيزِ

ص: 293

تَجَرُّؤُ الْفَلَّاحِ الْمِصْرِيِّ عَلَى ضَرْبِ الْجُنْدِيِّ الْإِنْكِلِيزِيِّ، فَعَقَدُوا الْمَحْكَمَةَ الْعُرْفِيَّةَ لِمُحَاكَمَةِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِرِيَاسَةِ بُطْرُسَ بَاشَا غَالِي، فَحَكَمَتْ عَلَى بَعْضِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِأَنْ يُصْلَبُوا وَيُعَذَّبُوا بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ (الْكَرَابِيجِ) ذَاتِ الْعُقَدِ، حَتَّى تَتَنَاثَرَ لُحُومُهُمْ، وَأَنْ يَبْقَوْا مَصْلُوبِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَعْيُنِ أَهْلِيهِمْ وَأَعْيُنِ النَّاسِ، وَنُفِّذَ الْحُكْمُ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقَسْوَةَ وَاسْتَفْظَعَهَا النَّاسُ، حَتَّى بَعْضُ أَحْرَارِ الْإِنْكِلِيزِ فِي بِلَادِهِمْ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهَا فِي الْجَرَائِدِ وَفِي مَجْلِسِ النُّوَّابِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَا تُعَدُّ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ، وَلَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ قَصَدَ الْإِنْكِلِيزُ بِالْقَسْوَةِ فِيهَا أَلَّا يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلَى مُقَاوَمَةِ جُنْدِيٍّ إِنْكِلِيزِيٍّ، وَإِنِ اعْتَدَى، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِي سَاوَى خَلِيفَتُهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ ابْنِ فَاتِحِ مِصْرَ وَقَائِدِ جَيْشِهَا وَحَاكِمِهَا الْعَامِّ (عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) وَبَيْنَ غُلَامٍ قِبْطِيٍّ ; إِذْ تَسَابَقَا، فَسَبَقَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْحَاكِمِ، فَصَفَعَهُ هَذَا وَقَالَ: أَتَسْبِقُنِي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْرَمَيْنِ؟ فَلَمَّا رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَرْضَ إِلَّا أَنْ يَصْفَعَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْفَاتِحِ الْحَاكِمِ كَمَا صَفَعَهُ، وَقَالَ لِعَمْرٍو كَلِمَتَهُ الذَّهَبِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ: يَا عَمْرُو مُنْذُ كَمْ تَعَبَّدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا؟ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَرَكُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَمِمَّنْ دُونَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يُعَلِّمُوهُمُ الْعَدْلَ وَقَوَانِينَهُ! ! .

أَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَةِ فَهُوَ مَا تَرَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) أَيْ إِنَّ جَزَاءَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ مَحْصُورٌ فِيمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ وَالتَّوْزِيعِ عَلَى جِنَايَاتِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ، لِكُلٍّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ.

وَالْمُحَارَبَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحَرْبِ، وَهِيَ ضِدُّ السِّلْمِ، وَالسِّلْمُ السَّلَامُ ; أَيِ السَّلَامَةُ مِنَ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَالْآفَاتِ، وَالْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ الْحَرْبِ التَّعَدِّي وَسَلْبُ الْمَالِ. لِسَانُ الْعَرَبِ: الْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ، أَنْ يُسْلَبَ الرَّجُلُ مَالَهُ، حَرَبَهُ يَحْرُبُهُ (بِوَزْنِ طَلَبَ، وَكَذَا بِوَزْنِ تَعِبَ) إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ، مِنْ قَوْمٍ حَرْبَى وَحُرَبَاءَ، ثُمَّ قَالَ: حَرِيبَةُ الرَّجُلِ مَالُهُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ، وَالْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ أَخْذُ الْحَرِيبَةِ ; فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ وَيَتْرُكَهُ بِلَا شَيْءٍ يَعِيشُ بِهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَرْبَ وَالْمُحَارَبَةَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلْقَتْلِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ فِيهَا الِاعْتِدَاءُ وَالسَّلْبُ وَإِزَالَةُ الْأَمْنِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِقَتْلٍ وَقِتَالٍ، وَبِدُونِهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ فِي الْقُرْآنِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ. وَأَمَّا الْمُحَارَبَةُ فَلَمْ تُذْكَرْ إِلَّا فِي هَذِهِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ عِلَّةِ بِنَاءِ الْمُنَافِقِينَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ:(وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)(9: 107) . قَالَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: أَيْ تَرَقُّبًا وَانْتِظَارًا لِلَّذِي حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ

;

ص: 294

فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَوَعَدَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنْ يَذْهَبَ وَيَأْتِيَهُمْ بِجُنُودٍ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ لِلْإِيقَاعِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، فَمُحَارَبَةُ هَذَا الرَّاهِبِ مِنْ قَبْلُ كَانَتْ بِإِثَارَةِ الْفِتَنِ، لَا بِالْقِتَالِ وَالنِّزَالِ، وَأَمَّا لَفْظُ " الْحَرْبِ " فَقَدْ ذُكِرَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ أَرْبَعِ سُوَرٍ ; مِنْهَا إِعْلَامُ الْمُصِرِّينَ عَلَى الرِّبَا بِأَنَّهُمْ فِي حَرْبٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْبَاقِي بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ ضِدُّ السِّلْمِ. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي - وَلَا يَزَالُونَ - يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَجْلِ السَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَقَدْ جَعَلَ الْفُقَهَاءُ كِتَابَ الْمُحَارَبَةِ - وَيَقُولُونَ الْحَرَابَةُ أَيْضًا - غَيْرَ كِتَابِ الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ. وَجَعَلُوا الْأَصْلَ فِيهَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَعَرَّفُوهَا بِأَنَّهَا إِشْهَارُ السِّلَاحِ وَقَطْعُ السَّبِيلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ كَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشَّوْكَةِ.

(كَالَّذِينِ يُؤَلِّفُونَ الْعِصَابَاتِ الْمُسَلَّحَةَ لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ وَقَتْلِ مَنْ يُعَارِضُهُمْ، أَوْ لِمُقَاوَمَةِ السُّلْطَةِ ; ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ

وَالْفَسَادِ) وَاشْتَرَطُوا فِيهَا شُرُوطًا سَنُشِيرُ إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا.

أَمَّا كَوْنُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعُدْوَانِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَلِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَرِيعَةِ السِّلْمِ وَالْأَمَانِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ. فَمُحَارَبَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ هِيَ عَدَمُ الْإِذْعَانِ لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا:(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)(2: 279) وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فَمَنْ لَمْ يُذْعِنُوا لِلشَّرْعِ فِيمَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُعَدُّونَ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عليه السلام فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي يُقِيمُ الْعَدْلَ وَيَحْفَظُ النِّظَامَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه بِمَانِعِي الزَّكَاةِ، حَتَّى يَفِيئُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَمَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُفُّ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا امْتَنَعُوا عَلَى إِمَامِ الْعَدْلِ الْمُقِيمِ لِلشَّرْعِ، وَعَثَوْا إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ مَا بَيَّنَهُ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ ; أَيْ يَسْعَوْنَ فِيهَا سَعْيَ فُسَّادٍ أَوْ مُفْسِدِينَ فِي سَعْيِهِمْ لِمَا صَلَحَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَأَسْبَابِ الْمَعَاشِ.

وَالْفَسَادُ ضِدُّ الصَّلَاحِ، فَكُلُّ مَا يَخْرُجُ عَنْ وَضْعِهِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ صَالِحًا نَافِعًا، يُقَالُ إِنَّهُ قَدْ فَسَدَ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا كَانَ سَبَبًا لِفَسَادِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يُقَالُ إِنَّهُ أَفْسَدَهُ، فَإِزَالَةُ الْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ أَوِ الْأَمْوَالِ أَوِ الْأَعْرَاضِ، وَمُعَارَضَةُ تَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ وَإِقَامَتِهَا، كُلُّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْفَسَادَ هُنَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَوْلَ مُجَاهِدٍ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ وَالْمَفَاسِدَ لَهَا عُقُوبَاتٌ فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مَا فِي الْآيَةِ، فَلِلزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ حُدُودٌ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، وَيَضْمَنُهُ

ص: 295