الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} الملائكة فإن كثيرا من المفسرين يوافقونه على ما ذهب إليه ولكن تأويل كلمة الجن هنا بالملائكة لا يمنع أن تأتي في آية أخرى بمعنى آخر.
ويأتي بعد هذا الادعاء الأكبر في قول الدكتور: "فيما عدا هذين الموضعين فلفظ الجن مفهوم لغوي لا يقصد منه غير المعهود للإنسان شريرا كان أو خيرا ماهرا أو غير ماهر" يأتي هذا الادعاء ليكون المعمول الهدام الذي يقضي على الموضوعية من أساسها إذ كيف يطلق الدكتور مثل هذا الحكم العام دون استقراء تفصيلي لكل آية ورد فيها ذكر الجن؟ ودون أن يتأكد –مع الاستقراء- أن المعنى الذي ادعاه هو المعنى الوحيد المتعين. وسأورد في هذا الرد بعض الآيات والأحاديث النبوية وسأثبت أن ما قصد بلفظ الجن فيها هو العالم غير المرئي فما رأى الدكتور هل سيكون ((تفسيره)) في هذه الحالة سليما وموضوعيا إن المرء ليحار فيما يعنيه الدكتور بالموضوعية في تفسيره! هل يعني بها تفسيرا لا يخضع للسنة –وهي البيان للقرآن- ولا يهتم بتأويل السلف من الصحابة والتابعين وهم حفظة السنة؟! وأي موضوعية هذه؟ أم يريد بها أن يكون التفسير قادرا على مواجهة ((المادية)) ترجمة للشعار الذي كتبه في صدر تفسيره (القرآن في مواجهة المادية) وهل تكون مواجهة المادية بالاعتراف بها وإنكار كل الغيبيات غير المدركة بالحواس؟ وهل تكون هذه مواجهة أم خضوعا وانسياقا وراء المادية؟
القرآن يخاطب الجن كما يخاطب الإنس:
ولقد ورد لفظ الجن كثيرا في القرآن، وإن وروده بهذه الكثرة مما يستدعي انتباه المتأمل لآيات الكتاب. وفي كثير من الآيات يأتي لفظ الجن في مقابلة لفظ الإنس أو يأتي الخطاب لكل منهما يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الرحمن:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} فمن هما الثقلان إن لم يكونا نوعين مختلفين هما الإنس والجن؟ ويقول الله تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وسنتحدث عن هذه الآية فيما يأتي ولكن نلفت النظر هنا إلى ما في الآية من الحديث عن النوعين ومادة كل منهما التي خلق منها، وفي سورة الرحمن نفسها يقول الله سبحانه:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} فهل يعني القرآن من الجن هنا إنسا غير معهود؟ هذا مع أن الذي يوجه الخطاب هنا هو الله نفسه فكيف يمكن أن يكون الجن عالما غير معهود لخالقه؟! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ألا يوافقني الدكتور على استحالة تأويله هنا؟! وأي فائدة لذكر جماعة غير معهودة من الإنس مع أن لفظ الإنس يشمل كل الإنس مهما اختلفت صفاتهم؟
الأدلة العقلية لا تنفي وجود الجن بل تثبت وجودهم:
ويصل الدكتور في جرأته في إنكار الجن ونفي وجودهم إلى حد الصراحة الواضحة في مناقشته لهذا الموضوع فيقول في تفسير سورة الجن صفحة 22: "وافتراض أن هناك عالما ثالثا يتميز عن عالم الملائكة وعالم الإنس ويتقابل تماما مع أي منهما هو عالم الجن يحتم مثل هذه الأسئلة مم خلق هذا العالم؟ فإذا كان الجواب أنه من نار لقوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} فيسأل بعد ذلك مم خلقت الملائكة وعالمها تماما يقابل عالم الجن على هذا الافتراض فإذا كان الجواب إن الملائكة خلقت من (نور) كما يقال يسأل الآن ما هو الفرق بين النار والنور؟ أليست الشمس نارا ملتهبة، ومع ذلك تشع النور؟ وأليس النور عرضا ومظهرا للنار؟ وأليست النار منبعا للنور" انتهى كلامه، ونقول ردا على مناقشة الدكتور:
أولا: من الذي افترض ((أن هناك عالما ثالثا)) هم عالم الجن؟ إن هذا العالم ذكره الله في كتابه وتحدث عن خلقه وإن من الغريب أن يتكلم الدكتور عن الافتراض وهو نفسه يورد في مناقشته آية من كتاب الله تحدد المادة التي خلق الله منها الجن {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} .
ثانيا: أن مسألة خلق الجن ليست مسألة افتراضية حتى يحيطها الدكتور بهذا الركام من الأسئلة التي تنبعث من ظلمات الشك بل والإنكار، وإنما هي مسألة حددها القرآن بوضوح تام يقول الله تعالى:{خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} ثم يأتي بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فيزيد المسألة تأكيدا ويكشف عن أصل كل واحد من العوالم الثلاثة الإنس – الملائكة - الجن في حديثه الذي يقول فيه: "خلقت الملائكة من نور. وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم"1 رواه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، فما رأي الدكتور في هذا الحديث وهو في غاية الوضوح، ولا أحسبه يقبل شيئا من التأويل الغريب الذي جنح إليه الدكتور في تفسيره لمعنى ((الجن)) وإنني أستبعد أن يكون الدكتور جاهلا بهذا الحديث، وحتى لو سلمنا باتحاد أصل الملائكة والجن حسب رأيه فإننا نقول: ليس في اتحاد أصل عالمي الملائكة والجن مع اختلاف طبائعهما ومواصفاتهما أي غرابة حتى يثير الدكتور الدخان حول نار الجن ونور الملائكة بتساؤله ما الفرق بين النار والنور؟ راميا بذلك إلى إثبات أن الأصل الواحد لا يمكن أن ينشأ عنه نوعان مختلفان متجاهلا أو متغافلا عن حقيقة هامة هي أن الأصل سواء أكان النور أو النار لا فعالية له من ذاته في الخلق والإيجاد وإنما يكون الخلق منه بقدرة الله
1 مختصر ابن كثير الجزء الثالث الطبعة الأولى صفحة 417.
وكلمته ((كن فيكون)) إذن فما دام الأمر بيد الله سبحانه وتعالى فإن مناقشة ((كيفية)) الخلق لنوع أو نوعين لا تنتج إلا العبث، ولا تفضي إلا إلى فساد الفكر وضعف الإيمان بقدرة الله على خلق ما يشاء ومما يشاء كيفما يشاء.
ولماذا لم يستغرب الدكتور اتحاد الأصل الذي كان منه الإنسان وهو نوع له مميزاته ومواصفاته ثم كان منه الحيوان فكلاهما من ماء وطين يقول الله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم لننظر إلى اختلاف عالم الحيوان عن عالم الزواحف عن الأسماك عن الطير في الخصائص والمميزات واختلاف أحد هذه العوالم عن عالم الإنسان الذي يتحد مع كل هذه العوالم في أصل مادة خلقه فهل يسوغ لنا أن ننكر ((وجود)) بعض هذه العوالم نظريا لأن الأصل لا ينبغي أن يكون إلا لواحد منها لا يتعداه. بل إن في عالم الإنسان ما يجعلنا نقف مبهورين أمام إبداع القدرة الخلاقة عندما نتأمل اختلاف خلق آدم عن خلق أبنائه ثم عن خلق واحد متميز من أبنائه وهو سيدنا عيسى عليه الصلاة السلام. ولكن هذا لا يثير الاستغراب الذي يؤدي للشك أو للإنكار بل بالعكس فإنه يلمس في النفس أعمق مشاعر الإيمان التي يحركها إدراكنا لإبداع القدرة الإلهية. فما لعنصر ولا لمادة معينة فعالية ذاتية في خلق كائن أو إفراز نوع ولكن الإيجاد لكل الأنواع – بقطع النظر عن أصل المادة التي خلقت منها- إنما يكون بقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون. ولا أحسب الدكتور محمد البهي يجهل هذا ولكني أخشى أن يكون إنكاره للجن انسياقا وراء بريق الجديد وإن كان زائفا أو إحياء لانحراف الفكر القديم ولو كان باليا.
وفي القديم أنكر الجن بعض الفلاسفة قال الإمام القرطبي: "وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن وقالوا إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله وافتراء.. والقرآن والسنة ترد عليهم" كما أنكر الجن في عصرنا هذا – بعض الفرق الضالة كالقاديانية1 الذين ادعى زعيمهم الرسالة- ولهم أصحاب بالسودان يسيرون على نهجهم فهل يود الدكتور أن يدعم رأي هذه الجماعة الضالة وما أحسبه – وهو الذي عرفناه داعية للحق- يرضى أن يكون سندا لأهل الضلال. مرة أخرى نؤكد أن الكتاب والسنة يدلان دلالة واضحة على وجود عالم الجن بل ويحددان له كثيرا من السمات يقول الأستاذ العالم سيد قطب في تفسير الظلال صفحة 312 تفسير سورة الجن: "فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا كما يصفون أنفسهم هنا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا
1 شرح الألباني 0للعقيدة الطحاوية) صفحة 24.