المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌شطط يقود إلى شطط:

السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن"1.

ولا بأس من إيراد تعليق الأستاذ سيد قطب عليه يقول: "وهي أن رواية ابن عباس –قاطعة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما علم بالحادث عن طريق الوحي وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم" إلى أن يقول: "ويقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن"{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فهل يمكن في رأي الدكتور أن يختفي شخص الإنسان بحيث يكون قريبا منك ومواجها لك ثم لا تراه عينك؟!

رابعا: ماذا يفعل الدكتور في رواية مسلم التي جاء فيها وسألوه – صلى الله عليه وسلم الزاد. أي سأله الجن زادا لهم. فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" 2 فهل يرى الدكتور في هذا طعاما للإنس؟ وما رأي الدكتور في قوله صلى الله عليه وسلم: "أوفر ما يكون لحما"؟ أو ليس هذا الكلام واضحا في أنه يحدد طعام عالم آخر وهو عالم الجن الذي ينكره الدكتور والذي يثبته الحديث بل ويثبت له دوابا لها طعامها الخاص.

1 أخرجه البخاري في التفسير وفي الصلاة والترمذي والنسائي في التفسير.

2 مختصر تفسير ابن كثير اختصار وتحقيق الشيخ محمد علي الصابوني الجزء الثالث، الطبعة الأولى صفحة 324 -325.

ص: 314

‌شطط يقود إلى شطط:

لقد ساق الدكتور شططه في أمر الجن إلى شطط في تفسيره لأمور أخرى وردت في سورة (النمل) وذلك حتى تتسق المعاني مع المعنى الذي ذهب إليه الدكتور في تفسير الجن بأنهم إنس غير معهودين فماذا قال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ

ص: 314

فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} (النمل 38 -42) .

وهذه الآيات الكريمة بينات واضحات ومن الكلام المستساغ فيها أن يقول المرء إن الشرح والتفسير لا يزيدها إلى قليلا. ولكن الدكتور أخذ على نفسه أن يدخلنا في معميات تأويله حتما عليه حتى يتمكن من تنسيق معاني الآيات مع ما ذهب إليه – مسبقا - من تحريف في معنى ((الجن)) فما دام العفريت من الجن يعني – لديه - (واحد من الأقوياء واسع الحيلة شديد الدهاء من غير الظاهرين في ملأ سليمان عليه الصلاة والسلام ما دام الجن يفسر عنده بالإنسان غير معهود فكيف يكون معنى عرش الملك كما هو لابد إذن أن يتغير معنى العرش إلى معنى يفتن الدكتور في ابتكاره واختراعه فماذا يكون العرش الذي طلب سليمان عليه السلام من أصحاب الرأي عنده الإتيان به وعلى وجه السرعة؟ إنه لا يعدو لدى الدكتور أن يكون خريطة ترسم لمملكة سبأ ولندع عبارة الدكتور تكشف عن المراد بالعرش يقول: "وطلب – إلى أصحاب الرأي عنده - وضع خريطة تصور مملكة بلقيس كي يستعد لغزوها طلب وضع هذه الخريطة وأن تكون جاهزة عنده قبل أن يأتيه الرد منها على رسالته الثانية بالخضوع والقبول" انتهى كلامه. وإذا كان المراد بعرش بلقيس خريطة يقوم برسمها مهندس فما معنى اهتمام سيدنا سليمان بسرعة الإتيان بهذا الرسم قبل أن تأتيه بلقيس وقومها مسلمين؟! وأي إعجاز ستلمسه بلقيس في صورة لعرش تستمتع هي بالفعل بالجلوس عليه؟! وهل تبهر الصورة من يستمتع بحقيقة الشيء المصوّر؟ إن الذي سيبهرها حقا هو أن تجد أمامها عرشها الذي خلفته وراءها بذاته أن تجده قد سبقها إلى سليمان دون علم منها أو إرادة، هذا هو الشيء الخارق المعجز ولذلك كانت دهشتها واضحة فيما حكاه الله عنها {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} .

ويحق لنا أن نتساءل أيضا عن سر التسابق – في اختصار الزمن - بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب أي معنى لهذا التسابق لو كان الأمر المطلوب لا يعدو أن يكون ((خريطة)) ترسم. ثم ما معنى (القوة) والأمانة اللتين وصف بهما العفريت نفسه في قوله تعالى حكاية عنه: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} فهل يحتاج ((رسم)) الخرائط إلى قوة عظيمة وصيانة ومحافظة ((حتى لا تقع خطوط الرسم وتنكسر الزوايا والمنحنيات)) ؟ لو كان ((العرش)) خريطة كما يزعم الدكتور لكان المناسب أن يقول هذا العفريت وإني لرسام ماهر أو مهندس بارع أو ذكي لماح أو دكتور

في علم الخرائط. ثم إن التسابق في اختصار

ص: 315

الزمن كان أمرا حاسما في الدلالة على أن المراد ((العرش)) ذاته لا صورة له ولا لمملكة سبأ فقد كان بين زمن انفضاض الاجتماع وزمن ارتداد الطرف فرق كبير في اختصار المدة ومن الواضح أن زمن ارتداد الطرف زمن يسير جدا وهو أقل بكثير من الزمن الذي حدده العفريت بانفضاض الاجتماع.

ولهذا كان الإعجاز في انتقال العرش من سبأ بهذه السرعة المذهلة واستقراره أمام سليمان عليه السلام ومازال أصحاب الرأي عنده مما دعا سليمان عليه الصلاة والسلام إلى الاعتراف بفضل ربه واعتبار هذا الفضل العظيم اختبارا من الله له أيشكر أم يكفر وقد شكر ولله الحمد، قال تعالى:{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وهذه المعاني كلها واضحة لمن تدبر آيات النمل فماذا تقول ((موضوعية)) الدكتور فيها إنه يقول عن الذي عنده علم من الكتاب: "وعد أن يحضره في أقصر مدة ممكنة وهي ما يعبر عنه بارتداد الطرف" فيخيل إليك أنه يريد أن هذه المدة أسرع من مدة ((انفضاض الاجتماع)) ولكن الدكتور يفاجئك بعكس ما تظن عندما يقول: "فالأمر يحتاج إلى تحضير ودقة فيه وليس من السهولة بحيث يؤتى به قبل انفضاض الاجتماع" يعني هذا بوضوح أن مدة انفضاض الاجتماع أقصر من المدة التي يرتد فيها الطرف حتى قبل أن يرتد!.

وهكذا يقلب الدكتور المعاني قلبا وبصورة مدهشة وكأنها السحر فيحول مدة ارتداد الطرف إلى زمن أطول وأكثر تراخيا من مدة انعقاد الاجتماع وإلى حين انفضاضه! وقد قلت – فيما سبق - معنى العرش إلى خريطة مرسومة لمملكة سبأ ومن الحق أن نسأل الدكتور من أي كتاب من كتب اللغة أتى بهذا المعنى المبتكر للعرش؟ أم أن الاستعمال مجازي؟ وإذا كان مجازيا فما العلاقة؟ وهل ظهر للدكتور كيف أن سياق الكلام يأبى ويرفض تأويله الجديد للعرش؟ ونلاحظ هنا أنه يخاطب جماعة مع أن الذي تصدى لرسم الخريطة كان واحدا معينا وهو الذي عنده علم من الكتاب، ألا ينبه هذا الدكتور إلى ما في تأويله من خطأ ظاهر؟! ولم طلب سليمان عليه السلام تغيير معالم خريطة هامة كهذه، وكيف سيستعين بها بعد هذا التغيير؟ أليس المناسب في مثل هذه الحالة أن يحفظ هذه الخريطة في مكان آمن شأن الأوراق السرية الهامة التي لا يفرط فيها القائد المحنك؟ ولماذا عرض هذه الخريطة – وهي سر من أسراره الحربية - على بلقيس ملة أعدائه فور حضورها؟ وكيف يعرضها عليها مهما كان السبب قبل أن يستيقن من استسلامها لا سيما وقد ظهر له ما تتمتع به من حيلة ودهاء، إن هذا التأول فوق أنه لا يستند على إثارة من علم تأويل لا يقبله العقل ولا يكون عناء وتكلفا جشمنا إياه الدكتور ليؤيد تفسيره الموضوعي الذي ينادي بإنكار وجود الجن.

ص: 316