الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم يمكثان إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟ لأن رفاعة راويه يقول في حديثه: "حتى ينفجر الفجر"، قد علمتم إن شاء الله تعالى أن هذا التأويل باطل، ولا يقبله إلا ساهل، وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منكم هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأن الحي القيوم يفعل ما شاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك. كل حي متحرك لا محالة، كل ميت غير متحرك لا محالة. ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة، ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروعا منصوصا، ووقت لنزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولأصحابك فيه لعبا ولا عويصا. انتهى، والله أعلم.
إرادة الله لأعمال العباد من طاعة ومعصية
…
"ومنها" ما ذكره الشارح في صفحة ثلاثة وثلاثين على قول الناظم:
وكل ما يفعله العباد
…
من طاعة أو ضدها مراد
لربنا من غير ما اضطرار
…
منه لنا فافهم ولا تمار
قال الشارح: وكل ما أي فعل يفعله العباد من طاعة وهي متعلق المدح في العاجل، والثواب في الآجل، أو ضدها أي وكل ما يفعله من ضد الطاعة وهي المعصية يعني ما فيه ذم في العاجل، وعقاب أو لوم في الآجل مراد لربنا تعالى داخل تحت إرادته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير. انتهى.
فأقول: اعلم وفقك الله تعالى أن الشارح والناظم أطلقا لفظ الإرادة من غير تفصيل ولا بيان، وهو كلام مجمل موهم من جنس ما تقدم من الألفاظ التي نبهنا عليها من كلام أهل البدع، فإن الظاهر من هذا اللفظ الذي أطلقه الشارح والناظم إنما يراد به الإرادة الكونية القدرية، وفي المسألة تفصيل قد ذكره المحققون من أهل العلم، لأن الإرادة إرادتان، كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية
وبيان ذلك بما ذكره شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه في منهاج السنة حيث قال: "الوجه الثالث" طريقة الأئمة الفقهاء وأهل الحديث وكثير من أهل النظر وغيرهم، أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة تتعلق بالأمر، وإرادة تتعلق بالخلق، فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمر به، وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو، فإرادة الأمور هي المتضمنة للمحبة والرضا، وهي الإرادة الدينية، والإرادة المتعلقة بالخلق هي المشيئة، وهي الإرادة الكونية القدرية، فالأولى، كقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} ، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم} إلى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، وقوله:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية والثانية، كقوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْس أَهْلَ الْبَيْت} الآية. والثانية، كقوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ، وقوله:{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ، ومن هذا النوع
قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن الأول: كقولهم لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله منه، فإذا كان كذلك فالكفر والفسوق والعصيان ليس مراداً للرب عز وجل بالاعتبار الأول، والطاعة موافقة لتلك الإرادة، وموافقة للأمر المستلزم لتلك الإرادة. فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعا وحينئذ فالنبي يقول له أن الله يبغض الكفر ولا يحبه ولا يرضاه لك أن تفعله ولا يريده بهذا الاعتبار، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالإيمان الذي يحبه الله ويرضاه له ويريده بهذا الاعتبار. ثم ذكر كلاما طويلا في منهاج السنة في الجزء الثاني من المجلد الأول في صفحة اثنين وعشرين: فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه في محله.
وقال أيضا رحمه الله تعالى في موضع آخر: وقد قسم الإرادة أربعة أقسام، فقال رحمه الله:"الأول" ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله تعالى أرادها إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون، فوقع ولولا ذلك لما كان. "الثاني" ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولم تقع. "الثالث" ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضي لعباده الكفر ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لما كانت ولما وجدت، فإن ما شاء الله كان
وما لم يشأ لم يكن. "الرابع" من أقسام الإرادة الذي لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي، أنتهي.
إذا تبين لك هذا فاعلم أن قول الناظم والشارح يوافق ما قالته القدرية الجبرية حين ردوا ما قالته القدرية النفاة لما أنكروا القدر وزعموا أن الأمر أنف فقابلهم أولئك بالقول بالجبر 1 وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} ، ونحو ذلك من الآيات. ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان لا بد منه في حصول الإيمان وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية التي نزلت بها الكتب الإيمانية، ودلت عليها النصوص النبوية وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما وآمنوا
1 اقتصر المؤلف وفقنا الله وإياه على رد الجبرية على القدرية، ولم يذكر مذهب أهل الحديث ومتبعي السلف في الرد على الفريقين للجمع بين النصوص المثبتة لأفعال العبد بمشيئة الله تعالى إذ عليها مدار صحة التكليف وقد أثبته وأوضحه المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه شفاء الغليل بما لم يأت بمثله أحد، وقول المؤلف وأنهم لا يخرجون عن قدره الخ، يقوله الأثريون أيضا لا الجبرية وحدهم.