الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والله تعالى يمتع الأبصار والأسماع بمشاهدة أمثلته وطيب أخباره، ويفكهنا من بين أوراقها بشهيِّ ثماره، إن شاء الله تعالى انتهى ما دنت قطوفه من ثمرات الأوراق، وحلا في الأذواق السليمة وراق.
وهذا ذيل ثمرات الأوراق للإمام تقي الدين بن حجة رحمه الله تعالى وهي محاضرات لا يستغني عنها وعلي يعول فلذلك ألحقت بالأصل في الطبع وجعلت تتمة للأول.
بسم الله الرحمن الرحيم
يحكى أن هارون الرشيد حج ماشيا وإن سبب ذلك أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى غادر وكانت أحظى الناس عنده وكانت من أحسن النساء وجهاً وغناء فغنت يوما وهو مع جلسائه على الشراب إذ عرض له سهو وفكر وتغير لونه وقطع الشراب فقال الجلساء ما شأنك يا أمير المؤمنين قال قد وقع في قلبي إن جاريتي غادر يتزجها أخي هارون بعدي فقالوا يطيل الله بقاء أمير المؤمنين وكلنا فداؤه فقال ما يزيل هذا ما في نفسي وأمر بإحضار هارون وعرفه ما خطر بباله فاستعطفه وتكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطييب نفسه فلم يقنع بذلك وقال لابد أن تحلف لي قال أفعل وحلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق وعتاق وحجٍّ وصدقة وأشياء مؤكدة فسكن ثم قام فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك ولم يلبث إلا شهراً ثم مات فلما أفضت الخلافة إلى هارون أرسل إلى
الجارية يخطبها فقالت يا سيدي كيف وبما أيمانك فقال أحلف بكل شيء حلفت به من الصدقة والعتق وغيرهما إلا تزوجتك فتزوجها وحجَّ ماشياً ليمينه وشغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره ولا يتحرك حتى تنتبه فبينما هي ذات ليلة نائمة غذ انتبهت فزعة فقال لها مالك قالت رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول:
أخلفتِ وعدك بعدما
…
جاورتُ سكان المقابرْ
ونسيتني وحنثت في
…
أيمانك الكذب الفواجر
فظللت في أهل البلاد
…
وعدت في الحور الغرائر
ونكحت غادرةً أخي
…
صدق الذي سمّاك غادر
لا يهنك الألف الجديد
…
ولا تدرّ عنك الدوائر
ولحقت بي قبل الصَّباح
…
وصرتِ حيث غدوت صائر
والله يا أمير المؤمنين فكأنها مكتوبة في قلبي ما نسيت منها كلمة فقال الرشيد هذه أضغاث أحلام فقالت كلا والله ما أملك نفسي وما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة.
وحكى ابن أبي حجلة في كتابه سلوك السنن إلى وصف السكن أخبرني شمس الدين محمد بن فراج
الحسيني أخبرنا شيخنا أثير الدين أبو حيان أنبأنا فتح الدين بن الدمياطية قال رأيت في النام شيخاً حسن الصورة والمشية وعليه مزدوجة وكأنا نمشي في طريق وأنا راكب دابة فقلت له رافقني فقال ليس الماشي برفيق الراكب فقلت إركب أنت وأمشي أنا فقال المسئلة بحالها ثم أفضنا في الحديث فسألني ما صنعتك فقلت كاتب فقال كاتب إحسان أو كاتب إنشاء فقلت شيء من هذا وشيء من هذا فقال ما يدَّعي دعواك عبد الرحيم ولا عبد الحميد ثم قال هل تنظم الشعر قلت نعم قال أنشدني وكنت قد عملت قصيداً حجازياً وكنت أستجيده فأنشدته إلى أن بلغت قولي:
تركوا بماء النيل ماءً سلسلاً
…
وترشّفوا ماء الثمار مكدّرا
فقال لي لا شيء فقلت لم قلت ذلك وما عيب هذا البيت فقال لو قلت صافياً لكان حسناً وكان طباقا لأن الكدر يقابله الصافي قلت له هذا حسن فمن أنت يرحمك الله قال أبو مرة قلت لا خير ولا مير قال بك ثم بعد ذلك بشهر رأيته في المنام على الهيئة المتقدمة فسلم عليَّ سلام من يعرفني ثم قال هل تعرف من الشعر الميشوم شيئاً قلت نعم قال فأنشدني وكنت قد عملت قطعة شعر حال ضعفي بالنزلة فأنشدته إياها:
لله ما أشكوه من نزلةٍ
…
قد ضرَّ منها ضيق أنفاسي
ومن صداع ضقت ذرعاً به
.. باتت يدي منه على راسي
فقال هذا والله الشعر ثم قال: أضف إليهما:
فأعجب إلى دائين قد عزِّزا
…
بثالثٍ من داء إقلاس
وحكي في مرآة الزمان وغيرها من ترجمة شمس الدين توران شاه بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين قال محمد بن علي الحكيم الأديب رأيت شمس الدولة بعد موته فمدحته بأبيات فلفّ كفنه ورمى به إلي وقال:
لا تستقلنَّ معروفاً سمحت به
…
ميتاً فأمسيت منه عاري بذليَ
ولا تظنّن جوداً شانه بخلٌ
…
من بعد بذليَ ملك الشام واليمن
إني خرجت من الدنيا وليس معي
…
من كلّ ما ملكت كفّي سوى الكفن
حكي أنه كان ببغداد شخص يعرف بأبي القاسم الطنبوري صاحب نوادر وحكايات وله مداس له مدة سنين كلما انقطع منه موضع جعل عليه رقعة إلى أن صار في غاية الثقل وصار يضرب به المثل فيقال أثقل من مداس أبي القاسم الطنبوري فاتفق أنه دخل سوق الزجاج فقال له سمسار: يا أبا القاسم قد وصل تاجر من حلب ومعه زجاج مذهب قد كسد فابتعه منه وأنا ابيعه لك بعد مدة بمكسب المثل مثلين فإبتاعه بستين ديناراً ثم دخل سوق العطارين فقال سمسار آخر قد
ورد تاجر نصيبين بما ورد في غاية الحسن والرخص ابتعه منه وأنا أبيعه لك بفائدة كثيرة فإبتاعه بستين ديناراً أخرى ثم جعله في الزجاج المذهب ووضعه على رفع في صدر البيت ثم دخل الحمام بغلس فقال له بعض أصدقائه يا أبا القاسم: أشتهي أن تغير مداسك فإنه في غاية الوحاشة وأنت ذو مال فقال السمع والطاعة ولما خرج من الحمام ولبس ثيابه وجد إلى جانب مداسه مداساً جديداً فلبسه ومضى إلى بيته وكان القاضي دخل الحمام يغتسل ففقد مداسه فقال الذي لبس مداسي ما ترك عوضه شيئا فوجدوا مداس أبي القاسم فإنه معروف فكبسوا بيته فوجدوا مداس القاضي عنده فأخذ منه وضرب أبو القاسم وحبس وغرم جملة مال حتى خرج من الحبس فأخذ المداس وألقاه في الدجلة فغاص في الماء فرمى بعض الصيادين شبكة فطلع فيها المداس فقال هذا مداس أبي القاسم والظاهر أنه سقط منه فحمله إلى بيت أبي القاسم فلم يجده فرماه من الطاق إلى بيته فسقط على الرف الذي عليه الزجاج فتبدد ماء الورد وأنكسر الزجاج فلما رأى أبو القاسم ذلك لطم على وجهه وصاح وافقراه أفقرني هذا المداس ثم قام يحفر له في الليل حفرة فسمع الجيران حسَّ الحفرة فظنوا أنه نقب فشكوه
إلى الوالي فأرسل إليه من اعتقله وقال له تنقب على الناس حائطهم اسجنوه ففعلوا فلم يلخج من السجن إلى أن غرم جملة مال فأخذ المداس ورماه في مستراح الخان فسد قصبة المستراح وفاض فكشف الصناع ذلك حتى وقفوا على موضع السد فوجدوا مداس أبي القاسم فحملوه إلى الوالي وحكوا له ما وقع فقال غرموه المصروف جملة فقال ما بقيت أفارق هذا المداس وغسله وجعله على السطح حتى يجف فرآه كلب ظنه رمّة فحمله وعبر به إلى سطح آخر فسقط على امرأة حامل فأرتجفت وأسقطت ولدا ذكراً فنظروا ما السبب فإذا مداس أبي القاسم فرفع إلى الحاكم فقال يجب عليه غرة فابتاع لهم علاماً وخرج وقد افتقر ولم يبق معه شيء فأخذ المداس وجاء به إلى القاضي وحكى له جميع ما اتفق له فيه وقال أشتهي أن يكتب مونا القاضي بيني وبين هذا المداس مبارأة بأنه ليس مني ولست منه وإني بريء منه ومهما فعله يؤاخذ به ويلزمه فقد أفقرني فضحك القاضي ووصله بشيء ومضى وانتهى.
هذه قصيدة ليزيد بن معاوية وهي عزيزة الوجود:
وسربٍ كعين الديك ميلٍ إلى الصبا
…
رواتعُ الحاديَ سود المدامع
سمعن غناءً بعد ما عنَّ نومةً
…
من الليل يمللهنّ فوق المضاجع
أيا دهر هل شرخ الشبيبة راجعٌ
.. مع الخفرات البيض أو غير راجع
قنعت بزورٍ من خيال بعثنه
…
وكنت بوصلٍ منهُمُ غيرُ قانع
إذا رمت من ليلى على البعد نظرةً
…
لتطفي جوىً بين الحشا والأضالع
تقول رجال الحيِّ تطمع أن ترى
…
لليلى وصالاً من بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعينٍ ترى بها
…
سواها وما طهّرتها بالمدامع
أجلُّك يا ليلى عن العين إنّما
…
أراك بقلبٍ خاضعٍ لك خاشع
وما سرّ ليلى ما حييت بذائعٍ
…
وما عهد ليلى أن تناءت بضائع
ومن غريب ما يحكى أن عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والدة يزيد بن عبد الملك بن مروان حرمت على اثني عشر من الخلفاء من بني أمية معاوية جدها ويزيد أبوها ومروان أبو زوجها والوليد وسليمان وهشام بنو عبد الملك أولاد زوجها والوليد بن يزيد بن ابنها ويزيد بن الوليد بن زوجها وابراهيم بن مروان بن الوليد بن زوجها أيضاً ويزيد من عبد الملك ابنها ومعاوية بن يزيد بن معاوية أخوها وزوجها عبد الملك بن مروان ولم يتفق ذلك لامرأة غيرها انتهى. وجد بخط قاضي القضاة. شهاب الدين أحمد بن حجر حافظ العصر قال وجد بخط
الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى ابن أبي حجلة التلمساني قال أنشدني القاضي فخر الدين عبد الوهاب المصري لنفسه في الأهرام سنة خمس وخمسين وسبعمائة وأجاد:
أمباني الأهرام كم من واعظٍ
…
صدع القلوب ولم يفُهْ بلسانه
أذْكَرْنَني قولاً تقادم عهدُهُ
…
أين الذي الهرمان من بنيانه
هنّ الجبال الشامخات تكاد أن
…
تمتدَّ فوقَ الأفق عن كيوانه
لو أن كسرى جالسٌ في سفحها
…
لأجلّ مجلسه على إيوانه
ثبتت على حرّ الزمان وبرده
…
مدداً ولم تأسف على حدثانه
والشمس في إحراقها والريح عن
…
د هبوبها والسيل في جريانه
هل عابدٌ قد خصّها بعبادةٍ
…
فمباني الأهرام من أوثانه
أو قائلٍ يقضي برجعة نفسه
…
من بعد فرقته إلى جثمانه
فاختارها لكنوزه ولجسمه
…
قبراً ليأمن من أذى طوفانه
أو أنها للسائرات مراصدٌ
…
يختار راصدها أعزّ مكانه
أو أنها وضعت بيوت كواكبٍ
…
أحكام فُرسِ الدَّهر أو يونانه
أو أنهم نقشوا على حيطانها
.. علماً يحار الفكر في تبيانه
في قلب رائيها ليعلم نقشها
…
فكرٌ يعضُّ عليه طرف بنانه
يحكى أن القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني كان يمر على الناس ولا يسلم عليهم فلامه بعض أصحابه في ذلك فقال:
يقولون لي فيك أنقباضٌ وإنما
…
رأوا رجلاً عن موقف الذلّ أحجما
ارى الناس من واناهُمُ هان عندهم
…
ومن أكرمته عزّة النفس أُكرما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أكن
…
أقلِّب كفي إثره متندّما
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما
…
بدا مطمعٌ صيَرته ليَ سُلَّما
وما كلُّ برقٍ لاح لي ستفزّني
…
ولا كلُّ من في الأرض أرضاه منعما
إذا قيل هذا منهلٌ قلت قد أرى
…
ولكنَّ نفس الحر تحتمل الظما
أنهيتها عن بعض ما لايشينها
…
مخافة أقوال العدا فيمَ أو لِما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
…
لأخدم من لاقيت لكنْ لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلّةً
…
إذاً فاتباع الجهل قد كان أ؛ زما
ولو أنّض أهل العلم صانوه صانهم
.. ولو عظّموه في النفوس لَعُظِّما
ولكن أهانوه فهان ودنّسوا
…
محيّاه بالأطماع حتى تجهّما
قال شيخ الإسلام تاج الدين عبد الوهاب بن شيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي سقى الله عهده لقد صدق هذا القائل لو عظموا العلم عظمهم قال وأنا أقرأ قوله لعظم بفتح العين فإن العلم إذا عظم تعظم وهو في نفسه عظيم ولكن أهانوه فهانوا ولكن الرواية فهان وعظم بضم العين والأحسن ما أشرت إليه انتهى.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي في أجوبته عن الاعتراضات التي على جمع الجوامع ومن ظريف ما يستفاد قول أبي نواس:
أباح العراقيُّ النبيذَ وشُرَبَهُ
…
وقال حرامان المدامة والسكرُ
وقال الحجازيُّ الشرابان واحدٌ
…
فحلِّت لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما
…
وأشربُها لا فَارقَ الوازرَ الوزرُ
وقد سألني الأديب صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي رحمه الله عن معنى هذه الأبيات ومعناها أ، العراقي وهو أبو حنيفة رحمه الله أباح النبيذ وحرم المدامة وهي الخمر أسكرت أم لم تسكر وحرم أيضاً المسكر من كل شيء وأن الحجازي وهو الشافعي رحمه الله قال
الشرابان واحد فأخذ أبو نواس بالموجب فكأنه قال أنهما واحد ولكن في الحل لا في الحرمة وإليه الإشارة بقوله: " فحلّ لنا من بين قوليهما الخمر " ثم هذا إنما ذكره أبو نواس على عادة الشعراء في الكيس والظرافة ولا يقصد حقيقته فإنه لا يقول به أحد ولعله أشار بقوله " سآخذ من قوليهما طرفيهما " إلى آخره أنه لا يعتقده بل هو شاعر كما يقول ولا يفعل كذلك لايعتقد فهو على زعم يشربها وإن لم يعتقد الحل إذ كيف يمكن أن يقال أنه يعتقد الحل وقد قال " لا فارق الوازر الوزر " فهذا إن شاء الله معنى هذه الأبيات وهي على حال من كلمات الشعراء التي لايحتج بها في دين الله تعالى.
أعتلّ ذو الرياستين الفضل بن سهل بخراسان مدة طويلة ثم أبلَّ واستقبل وجلس للناس فدخلوا إليه وهنأوه بالعافية فانصت لهم حتى انقضى كلامهم ثم أندفع فقال إن في العلل لنعما لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها منها تمحيص الذنوب وثواب الصبر وإيقاظ من الغفلة وإذكار بالنعمة في حال الصحة واستدعاء للتوبة وحض على الصدقة ورضاء بقضاء الله وقدره فانصرف الناس بكلامه ونسوا ما قاله غيره انتهى.
وحكي عن ابن المبارك أنه قال حججت إلى بيت الله
الحرام فبينما أنا في الطواف إذ عييت فجلست أستريح ووضعت راسي على ركبتي فغلبني النوم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول يا ابن المبارك إذا أنت قضيت حجك وحللت عقدك ورجعت إلى أرض العراق ودخلت دار السلام فأقصد الحلة اليت بها بهرام المجوسي فإذا لقيته فأخبره أن النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم يسلم عليه وهو يقول لك أبشر فإن قصرك في الجنة غدا من أقرب القصور إلى قصري قال عبد الله فانتبهت لذلك فزعا مرعوباً وتفكرت ساعة فغلبني النوم ثانيا فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول يا ابن المبارك لا تشك في منامك فهو حق والشيطان لا يتمثل بصورتي قط فإذا قضيت حجَّك وحللت عقدك وأنصرفت إلى العراق فاطلب هذا المجوسي بهرام وبشره بما قلت لك فانتبهت أيضاً مرعوباً واستعذت بالله واستغفرته وتفكرت ساعة فغلبني النوم فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ثالث مرة وهو يقول يا ابن المبارك أنا محمد رسول الله فلا ترتبك في ذلك وامتثل أمري فهو حق فقلت يا رسول الله أريد بذلك علامة ألقاه بها فأخذ رسول كفي بيمينه ثم قال: يا ابن المبارك هذا المجوسي شيخ زمنٌ قد أتى عليه مائة وأربعون سنة وقد ضعف بصره وثقل سمعه وأبيض شعره ودق عظمه
ويبس عصبه وجلده فإذا أتيته وسلمت عليه وبشرته بما قلت لك وطلب منك علامة فأمسح بيدك هذه التي أخذتها بيميني على رأسه ومر بها على وجهه وسائر جسده وبدنه فإنه يعود شاباً ويرجع إليه بصره وسمعه ويسود شعره ويطرى جسده ويقوى عصبه وتعود إليه قوته فانتبهت وأنا كالولهان فلما أن قضيت حجي وحللت عقدي وانصرفت إلى العراق ودخلت بغداد سألت عن دار المجوسي فقلت يا غلام استأذن لي على مولاك فقال الغلام أغريب أنت قلت أجل قال أدخل ليس هنا من يحجبك قال فدخلت إلى دار لم أرّ مثلها وإذا بكتبة ومجوس وصياريف قعود وهم يقبضون الرهون ويعطون الدنانير والدراهم فقلت يا قوم افيكم بهرام فقيل أدخل الدار الثانية فدخلتها فإذا ليس بينها وبين الدار الأولى نسبة بل تفاوت وإذا بشيخ قاعد على دست ومرتبة على الصفة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله جماعة من الكتاب والحساب وبين أيديهم الدنانير والدراهم كالبيادر الصغار وهم في الحساب فسلمت كما أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فرد علي السلام
وكان قد شد حاجبه بعصابة فرفعها عن عينه ثم قال من الرجل قلت عبد الله بن المبارك فقال مرحباً بك لقد شممت بك رائحةً زال بها الهم عن قلبي أدنُ من فجلست إلى جانبه فقال هل لك من حاجة قلت نعم قال وما هي قلت أرى أن أخلو بك ساعة فقال نعم وأمر من هناك بالخروج فتهيأوا ثم خرجوا فبقيت أنا وهو وثلاثة شبان قلت هؤلاء أصرفهم يا بهرام كم تعد من السنين قال أعد مائة وأربعين سنة قلت فهل تعرف أنك عملت شيئاً استوجبت به من الله الجنة قال لا أدري إلا أني رزقت ثلاثة بنين وثلاث بنات فزوجت بعضهم من بعض وأعطيت مهروهن من عندي وافردت لكل واحد منهم مالاً وداراً وعقارات قلت لا تستوجب الجنة بل تستوجب النار فهل عملت شيئاً صالحا لآخرتك قال قسمت ليلي ثلاثة أجزاء أما الجزء الأول فإني أقعد للمساهرة وتُقرأ عليَّ سير الأول فانفرج بذلك والجزء الثاني أعبد فيه النار وأسجد لها من دون الله الواحد القهار والجزء الثالث أفكر فيه في أمر معاشي ومعادي وأمنع نفسي عن النوم في ذلك الجزء فإن النوم فيه جهل وخمول ودماء إلا لضرورة فقلت هل لك فعل غير هذا قال لا قلت يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد فيم استحقيت
يا بهرام الجنة قال ويحك يا بن المبارك أتقطع لي بالجنة وأنت عالم المسلمين من أخبرك بذلك قلت أخبرني الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم قال فما القصة فحدثته بالمنام الذي رأيته وبما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فقال يا بن المبارك وهل لذلك علامة ظاهرة قلت نعم أدنُ مني فدنا فمسحت بيدي رأسه ووجهه وصدره وبدنه وأولاده ينظرون فصار شاباً حسناً طرياً سميعاً بصيراً وأسود شعره وأبيضت بشرته فلما عاين ذلك قال أمدد يدك يا شيخ أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم قال يا شيخ أأخبرك السبب الذي أوجب الله لي به هذه المنزلة قلت نعم قال كنت من مدة قد أولمت وليمة عامة للمسلمين والنصارى
واليهود والمجوس على خاصة فأكلوا وانصرفوا وانقضت الوليمة فلما كان في بعض الليل طرق طارق الباب وقد هدأ الناس ونام الخدم لما أصابهم من التعب بسبب الوليمة وأنا جالس منتبه فقلت من بالباب فقالت يا بهرام أنا امرأة من جيرانك فاوقد لي هذا السراج قال بهرام والمجوس لا ترى إخراج النار من بيوتهم ليلاً فتحيرت في أمري وقمت ولم أنبه أحداً فاسرجت لها السراج فانصرفت وأطفأت السراج وعادت وقالت يا بهرام قد انطفأ فاسرجه لي فلما أسرجته قالت يا بهرام والله ما جئتك لأجل سراج ولكن جئتك من أجل ثلاث بنات شممن روائح طعامك فهن ملقيات على وجوههن يتضاوون كالمرأة الثكلى أو كالحبة في المقلى فإن كان قد بقي في دارك فضل طعام فأعطني فإنك إن شاء الله تملك بذلك الجنة فقلت حباً وكرامة فأخذت منديلاً كبيراً فجعلت فيه من كل شيء كان في البيت من الحلو والحامض وأخرجت كيساً فيه ألف دينار وكيسا فيه ستة آلاف درهم وستة أثواب من ديباج وستة أثواب مروزية وشددت الجميع وقلت أحملي هذا إلى عيالك واقسمي عليهم فمدت يدها فلم تطق حمله لضعفها فقالت يا بهرام أعني أعانك الله على الوقوف بين يديه وخفف عليك الحساب في ذلك اليوم الشديد فقلت يا هذه كيف أفعل وأنا شيخ كبير وقد مضى عليَّ مائة ونيف وثلاثون سنة ثم تفكرت لحظة وطاب لذلك قلبي فقلت لها شيلي على رأسي فشالته واستقل على رأسي فسال لذلك عرقي حتى صرت في منزلها فحططت الطعام ووضعت الرزمة وجعلت ألقم البنات إلى أن شبعن ونشطن ثم قسمت عليهن الثياب والدراهم والدنانير ففرحن وتبسمن فلما أردت القيام قلن بأجمعهن يا برهام أصلح الله لك أمورك وأدام سرورك كما أصلحت أمورنا وأدمت سرورنا وفرحك يوم القيامة كما فرحتنا وختم لك بخير وأنزلك أقرب قصر من قُصُر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دار الجنان وأنا أقول آمين وما زلت أرجو استجابة دعائهن قلت يا بهرام أبشر فإن الله حقق لك ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحقر من المعروف شيئا ولو أنك تفرغ من دلوك في إناء أخيك ماء قال عبد الله بن المبارك فتصدق بهرام في ذلك اليوم بمائة ألف درهم وبمائة ألف دينار وبمائة ألف ثوب مروزيات وبألفي ثوب ديباج وفرق سائر أمواله على أولاده وبناته وأسلموا جميعاً وتفرق الأخوة عن الأخوات وزوج أولاده بالمسلمات وبناته بالمسلمين وأسلم في ذلك اليوم خلق كثير من المجوس ثم انفرج عن أهله ولزم المحراب يعبد الله فلم يلبث إلا قليلاً حتى توفي رحمة الله عليه ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. د والمجوس على خاصة فأكلوا وانصرفوا وانقضت الوليمة فلما كان في بعض الليل طرق طارق الباب وقد هدأ الناس ونام الخدم لما أصابهم من التعب بسبب الوليمة وأنا جالس منتبه فقلت من بالباب فقالت يا بهرام أنا امرأة من جيرانك فاوقد لي هذا السراج قال بهرام والمجوس لا ترى إخراج النار من بيوتهم ليلاً فتحيرت في أمري وقمت ولم أنبه أحداً فاسرجت لها السراج فانصرفت
وأطفأت السراج وعادت وقالت يا بهرام قد انطفأ فاسرجه لي فلما أسرجته قالت يا بهرام والله ما جئتك لأجل سراج ولكن جئتك من أجل ثلاث بنات شممن روائح طعامك فهن ملقيات على وجوههن يتضاوون كالمرأة الثكلى أو كالحبة في المقلى فإن كان قد بقي في دارك فضل طعام فأعطني فإنك إن شاء الله تملك بذلك الجنة فقلت حباً وكرامة فأخذت منديلاً كبيراً فجعلت فيه من كل شيء كان في البيت من الحلو والحامض وأخرجت كيساً فيه ألف دينار وكيسا فيه ستة آلاف درهم وستة أثواب من ديباج وستة أثواب مروزية وشددت الجميع وقلت أحملي هذا إلى عيالك واقسمي عليهم فمدت يدها فلم تطق حمله لضعفها فقالت يا بهرام أعني أعانك الله على الوقوف بين يديه وخفف عليك الحساب في ذلك اليوم الشديد فقلت يا هذه كيف أفعل وأنا شيخ كبير وقد مضى عليَّ مائة ونيف وثلاثون سنة ثم تفكرت لحظة وطاب لذلك قلبي فقلت لها شيلي على رأسي فشالته واستقل على رأسي فسال لذلك عرقي حتى صرت في منزلها فحططت الطعام ووضعت الرزمة وجعلت ألقم البنات إلى أن شبعن ونشطن ثم قسمت عليهن الثياب والدراهم والدنانير ففرحن وتبسمن فلما أردت القيام قلن بأجمعهن يا برهام
أصلح الله لك أمورك وأدام سرورك كما أصلحت أمورنا وأدمت سرورنا وفرحك يوم القيامة كما فرحتنا وختم لك بخير وأنزلك أقرب قصر من قُصُر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دار الجنان وأنا أقول آمين وما زلت أرجو استجابة دعائهن قلت يا بهرام أبشر فإن الله حقق لك ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحقر من المعروف شيئا ولو أنك تفرغ من دلوك في إناء أخيك ماء قال عبد الله بن المبارك فتصدق بهرام في ذلك اليوم بمائة ألف درهم وبمائة ألف دينار وبمائة ألف ثوب مروزيات وبألفي ثوب ديباج وفرق سائر أمواله على أولاده وبناته وأسلموا جميعاً وتفرق الأخوة عن الأخوات وزوج أولاده بالمسلمات وبناته بالمسلمين وأسلم في ذلك اليوم خلق كثير من المجوس ثم انفرج عن أهله ولزم المحراب يعبد الله فلم يلبث إلا قليلاً حتى توفي رحمة الله عليه ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
روي عن سعد بن سعيد أنه قال كان في جوار معروف الكرخي رجل مجوسي من أبناء الأغنياء وجد الخليفة عليه فصادره وأخذ منه ألف ألف دينار فافتقر بعد الغنى وذل بعد العز وكان له أعداء وحساد فقالوا للخليفة أنه قد بقي له مال جسيم فلا تظن أنه عديم فأمر بمصادرته ثانياً فلما علم
المجوسي ذلك دخل بيت النار وقصد ما كان يعبد من دون الجبار وقال إن لم تخلصيني آمنت برب معروف فلم يجبه أحد ولم ينتفع بسجوده للنار ولا للنور فلما جنَّ عليه الليل اغتسل وأتى مسجد معروف الكرخي فلم يجده في المسجد فرفع رأسه وقال يا إله إبراهيم عيسى ومحمد وإله معروف ويما من لا إله إلا هو تحققت أن ما عبدته من دونك باطل لا يضر ولاينفع وإني جئتك تائباً مما فعلت متبرئاً مما عبدت منفصلا عما اعتقدت موقنا بك شاهداً بأن لا إله إلا أنت إله الأولين والآخرين وأنت المعبود الحق تفعل ما تشاء ولا يكون إلاما تريد إنك على كل شيء قدير فأغفر لي ما تقدم من ذنبي وجهلي وإسرافي ولا تنظر إلى سوء عملي ومعصيتي واصرف شر الخليفة وأعوانه عني فقد وجهت وجهي إليك ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله يا محمد تشفعت بك إلى الله فاقبلني ثم سجد وأطال سجوده وهو يناجي ربه ويبكي فأتى معروف المحراب فرآه كذلك فبقي متفكراً في أمره لا يتحقق من هو وإذا هو بغلام من خواص الخليفة قد دخل المسجد يسأل عن المجوسي بإسمه ونسبه فقال معروف بيته في موضع كذا وكذا فقال من هناك جئت وقيل لي إنه في مسجد معروف فوالله
لا بأس عليه فإن الخليفة قد بعثني إليه برسالة لطيفة تسر قلبه وهو منتظره على أن يؤمنه ويرد عليه ما أخذه منه وكفى بالله شهيداً فقال معروف لست أرى في المسجد أحداً يشبه من تذكره إلا هذا الساجد لله المناجي لربع فاصبر له حتى يرفع رأسه فوقف صاحب الخليفة على رأسه ساعة ثم قال يا هذا ارفع رأسك ولا تبك أمير المؤمنين قد قضى حاجتك وبعثني برسالة لطيفة لتسير إليه حتى يرد عليك ما أخذه منك فرفع رأسه وإذا معروف واقف فقال يا معروف ما أكرم هذا الباب وما أحلم صاحبه وما أقربه إلى من دعاه ثم قال يا معروف أمدد يدك إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وإني رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولاً وأن القرآن كلام الله جاء به محمد بن عبد الله وأنا مؤمن بذاك كله ثم تبع الرسول وذهب معروف الكرخي معه فلما وصلوا إلى دار الخليفة وإذا به واقف على الباب فاستقبلهما وسلم عليهما وصافح كلا منهما ومشى معهما إلى مجلسه وأقعدهما إلى جانبه واقبل يعتذر إليهما مما وقع منه وأمر بالأموال التي أخذت من المجوسي فأحضرت بين يديه عن آخرها ثم قال له تأمل هذه الأموال أليست هي التي
أخذت منك قال نعم قال فخذها بارك الله فيها واجعلني في حل ما وقع مني واستغفر الله لي فقال يعفر الله لك ثم قال يا أمير المؤمنين أما الأموال فهي لك حلال بعد أن هداني الله إلى دين الإسلام ولكن أعلمني ما الذي دعاك إلى طلبي في هذا الوقت قال نعم كنت نائماً وإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل عليَّ ومعه صف من الملائكة وصف من الصحابة فسلم علي وقال إن الله تبارك وتعالى يقرئك السلام ويقول لك إن عبدنا فلاناً المجوسي كنا قد دعوناه في الذرا فأجابنا وكان في المجوسية مستتراً ولنا معه عناية وقد جاء الآن إلّي تائباً وهو في مسجد معروف الكرخي مستجيراً بجانبنا منك فإبعث في طلبه ورد عليه ما أخذ منه ولا تقطع المعاملة بيننا فانتبهت مرعوباً فأرسلت في طلبك وها هو مالك قد رددناه عليك ودفعناه إليك فخر الرجل ساجداً لله تعالى ثم رفع رأسه وبكى وقال واندماه وأسفاه والهفاه كيف تركت عبادة الرحمن الرحيم واشتغلت بعبادة النيران وضيعت العمر والزمان ثم قال يا أمير المؤمنين لا حاجة لي في هذا المال خذه فهو حلال لك فقال أمير المؤمنين لا أرجع بشيء أمرني ربي بإخراجه فقال يا أمير المؤمنين
لا حاجة لي في المال أشهد أني قد جعلته صدقة في فقراء المسلمين لا حظ لي فيه ولا لأحد من أهلي فقال الخليفة لمعروف بقي الأمر إليك فإحمل المال وتصدَّق به على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والأيتام والأرامل فدعا له معروف وأخذ بد الرجل وحمل المال على البغال وصافحهما أمير المؤمنين وسأل الرجل أن يحالله
عما وقع منه ولازم الرجل معروفاً الكرخي إلى أن مات تغمده الله برحمته. وقع منه ولازم الرجل معروفاً الكرخي إلى أن مات تغمده الله برحمته.
وحكي عن معن بن زائدة الشيباني إن شاعراً قصده فأقام مدة يريد الدخول إليه فلم يتهيأ له ذلك فلما أعياه ذلك قال لبعض خدمه إذا دخل الأمير البستان فعرفني فلما دخل معن البستان عرَّفه الخادم عنه فكتب الشاعر بيتا من الشعر على خشبة وألقاها في الماء الداخل إلى البستان فإتفق أن معنا كان جالساً في ذلك الوقت على رأس الماء فمرت به فأخذها فإذا فيها كتابة فقرأها وهي:
أيا جود معنٍ ناج معناً بحاجتي
…
فمالي إلى معنٍ سواك شفيعُ
فقال من صاحب هذه فدعي بالرجل فقال له كيف قلت فأنشد البيت فأمر له بمائة ألف درهم فأخذها وأخذ الأمير الخشبة فوضعها تحت بساطه فلما كان اليوم الثاني قرأها ودعا بالرجل فدفع له مائة ألف درهم على العادة ثم دعاه ثالث مرة فقرأ البيت ودفع له مائة ألف
درهم فلما أخذ الجائزة الثالثة خشي الشاعر أن يندم فيأخذ منه ما دفع إليه فسافر فلما كان في اليوم الرابع طلبه معن فلم يجده فقال معن حق عليَّ لو مكث لأعطينه حتى لا يبقى في بيتي درهم ولا دينار.
وحكي عنه أيضاً أنه أتى بجملة من الأسرى فعرضهم على السيف فقال له بعضهم أصلح الله الأمير نحن أسراك وبنا جوع وعطش فلا تجمع علينا الجوع والعطش والقتل فأمر لهم بطعام وشراب فأكلوا وشربوا ومعن ينظر إليهم فلما فرغوا قال الرجل أصلح الله الأمير كنا أسراك ونحن الآن أضيافك فأنظر ما تصنع بأضيافك قال قد عفوت عنكم فقال الرجل أيها الأمير ما ندري أي يوم أشرف يوم ظفرك بنا أو يوم عفوك عنا فأمر لهم بمال وكسوة.
وحكي أن المنصور أهدر دم رجل كان يسعى في فساد دولته من الخوارج من أهل الكوفة وجعل لمن دل عليه وجاء به مائة ألف درهم ثم ظهر في بغداد فينما هو يمشي مختفياً في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأخذ بمجامع ثيابه وقال هذا بغية أمير المؤمنين فبينما الرجل على تلك الحالة إذ سمع وقع حوافر الخيل فالتفت فإذا معن بن زائدة فقال يا أبا الوليد أجرني أجراك الله فوقف وقال للرجل المتعلق به ما شأنك
قال بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وجعل لمن دل عليه وأتى به مائة ألف درهم فقال دعه يا غلام أنزل عن دابتك وأحمل الرجل عليها فصاح الرجل بالناس وقال أيحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين فقال له معن أذهب إليه وأخبره أنه عندي فانطلق إلى باب المنصور فأخبره فأمر المنصور بإحضار معن فلما أتى الرسول إلى معن دعا أهل بيته ومواليه وقال أعزم عليكم لا يصل إلى هذا الرجل مكروه وفيكم عين تطرف ثم سار إلى المنصور فدخل عليه وسلم عليه فلم يرد عليه السلام وقال يا معن أتتجرأ عليَّ قال نعم يا أمير المؤمنين قال ونعم أيضاً وأشتد غضبه فقال يا أمير المؤمنين مضت أيام كثيرة قد عرفتم فيها حسن بلائي في خدمتكم فما رأيتموني أهلا أن يوهب إليَّ رجل واحد استجار بي بين الناس وتوسَّم أني عند أمير المؤمنين من بعض عبيده وكذلك أنا فمر بما شئت ها أنا بين يديك فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقد سكن ما به من الغضب وقال قد أجرنا من أجرت يا معن قال فإن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بين الأجرين فيأمر له بصدقة فيكون قد أحياه وأغناه قال قد أمرنا له بخمسين ألف درهم قال يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء
على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فأجزل له الصلة قال قد أمرنا له بمائة ألف درهم قال فعجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر تعجيله فإنصرف معن بالمال للرجل وقال له خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله في أمورهم.
وحكى الجاحظ قال أخبرني فتى من أصحاب الحديث قال دخلت ديراً في بعض المنازل لما ذكر لي أن به راهباً حسن المعرفة بإخبار الناس وأيامهم فسرت له لأسمع كلامه فوجدته في حجرة معتزلة بالدير وهو على أحسن هيئة في زي المسلمين فكلمته فوجدت عنده من المعرفة أكثر مما وصفوا فسألت عن سبب إسلامه فحدثني أن جارية من بنات الروم كانت في هذا الدير نصرانية كثيرة المال بارعة الجمال عديمة الشكل والمثال فأحبت غلاماً مسلماً خياطاً وكانت تبذل له مالها ونفسها والغلام يعرض عن ذلك ولا يلتفت إليها وامتنع عن المرور بالدير فلما أعيتها الحيلة فيه طلبت رجلاً ماهراً في التصوير وأعطته مائة دينار على أن يصور لها صورة الغلام في دائرة على شكله وهيئته ففعل المصور فلم تخطىء الصورة شيئاً منه غير النطق وأتى بها إلى الجارية فلما أبصرتها أغمي عليها فلما أفاقت أعطت المصور مائة دينار أخرى وأخرج الراهب لي الصورة فرأيتها فكاد أن ينزل عقلي فلما خلت
الجارية بالصورة رفعتها إلى حائط حجرتها وما زالت كل يوم تأتي الصورة وتقبلها وتلثم ما تحب منها ثم تجلس بين يديها وتبكي فإذا امست فما زالت على تلك الحال شهراً فمرض الغلام ومات فعملت الجارية مأتماً وعزاء سار ذكره في الآفاق وصارت مثلاً بين الناس ثم رجعت إلى الصورة وصارت تلثمها وتقبلها إلى أن أمست فماتت إلى جانبها فلما أصبحنا دخلنا عليها لنأخذ من خاطرها فوجدناها ميتة ويدها ممدودة إلى الحائط نحو الصورة وقد كتب عليه هذه الأبيات:
يا موتُ حسبك نفسي بعد سيّدها
…
خذها إليك فقد أودت بما فيها
أسلمت وجهي إلى الرحمن مسلمةً
…
ومتُّ حبيبٍ كان يعصيها
لعلّها في جنان الخلد يجمعها
…
بمن تحبُّ غداً في البعث باريها
مات الحبيب وماتت بعده كمداً
…
محبّةٌ لم تزل تُشقي محبّيها
قال الراهب فشاع الخبر وحملها المسلمون ودفنت إلى جانب قبر الغلام فلما أصبحنا دخلنا حجرتها
فرأينا تحت شعرها مكتوباً:
اصبحت في راحةٍ مما جنته يدي
…
وصرت جارة ربٍّ واحدٍ صمد
محا الإله ذنوبي كلّها وغدا
…
قلبي خليّاً من الأحزان والكمد
لما قدمت إلى الرحمن مسلمةً
…
وقلت: إنّك لم تولد ولم تلد
أثابني رحمةً منه ومغفرةً
…
وأنعماً باقياتٍ آخر الأبد
قيل اجتمع الصوفية إلى أبي القاسم الجُنيد، وقالوا يا أستاذ أنخرج ونسعى في طلب الرزق قال لهم إن علمتم أين هو فاطلبوه فنسأل الله أن يرزقنا قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا فنجلس إذاً ونتوكل قال التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة.
قيل اجتمع أربعة من الأئمة الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ومحمد بن الحكم رضي الله عنهم عند أحمد بن حنبل يتذاكرون فصلوا صلاة المغرب وقدموا الشافعي ثم ما زالوا يصلون في المسجد إلى أن صلوا العتمة ثم دخلوا بيت أحمد بن حنبل ودخل أحمد على امرأته ثم خرج على أصحابه وهو يضحك فقال الشافعي مم تضحك يا أبا عبد الله قال خرجت إلى الصلاة ولم يكن في البيت لقمة من طعام والآن فقد
وسع الله علينا قال الشافعي فما سببه قال أحمد قالت لي أم عبد الله أنكم لما خرجتم إلى الصلاة جاء رجل عليه ثياب بيض حسن الوجه عظيم الهيئة ذكي الرائحة فقال يا أحمد بن حنبل فقلنا لبيك فقال هاكم خذوا هذا فسلم إلينا زنبيلاً أبيض وعليه مندل طيب الرائحة وطبق مغطى منديل آخر وقال كلوا من رزق ربكم وأشكروا له فقال الشافعي يا أبا عبد الله فما في الزنبيل والطبق فقال عشرون رغيفاً قد عجنت باللبن واللوز المقشور أبيض من الثلج وأذكى من المسك ما رأى الراءون مثله وخروف مشوي مزعفر حار وملح في سكرجة وخل في قارورة على الطبق وبقل وحلواء متخذة من سكر طبرزد ثم أخرج الكل ووضعه بين أيديهم فتعجبوا من شأنه وأكلوا ما شاء الله قال فلم تذهب حلاوة ذلك الطعام والحلواء مدة طويلة وكل من أكل من ذلك الطعام ما أحتاج إلى طعام غيره مدة شهر فلما أن فرغوا من الأكل حمل أحمد ما بقي منه وأدخله إلى أهله فأكلوا وشبعوا وبقي منه شيء فأجمع رأيهم على أن الطعام كان من غيب الله وأن الرسول كان ملكاً من الملائكة قال صالح بن حنبل ما أصابتنا مجاعة قط ما دام ذلك الزنبيل في بيتنا وكان يأتينا الرزق
من حيث لا تحتسب رضي الله عنهم وأعاد علينا من بركاتهم.
قيل أن عبد الله بن معمر القيسي كان أميراً من أمراء العرب وكان بطلا شجاعاً جواداً ذا مروءة وافرة قال حججت سنة من السنين إلى بيت الله الحرام وصحبت مالاً كثيراً ومتجراً عزيزاً، فلما قضيت حجي عدت لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبينما أنا ذات ليلة بين القبر والمنبر في الروضة إذا سمعت أنيناً عالياً وحسَّاً بادياً فانصت إليه فإذا هو يقول:
أشجاك نوحُ حمائم الدرِّ
…
فأهجن منك بلابلَ الصدر
أم ذاد نومك ذكر غانيةٍ
…
أهدت إليك وساوس الفكر
في ليلةٍ نام الخليُّ بها
…
وخلفت بالأحزان والذكر
يا ليلةً طالت على دنفٍ
…
يشكو الغرام وقلّة الصبّر
أسلمت من يهوى لحرِّ جوىً
…
متوقّدٌ كتوقُّدِ الجمر
فالبدر يشهد أنّني دنفٌ
…
بجمال حبِّ مشبّه البدر
قال ثم أنقطع الصوت ولم أر من أين جاء فبهت حائراً وإذا به قد أعاد البكاء والنحيب وهو يقول:
أشجاك من ريّا خيالُ زائرٌ
…
والليل مسودُّ الذوائب عاكرُ
وأعتاد مهجتك الهوى فأبادها
…
وأهتاج مقلتك المنام البائر
ناديت ليلى والظلام كأنّهُ
…
يمٌّ تلاطم فيه موجٌ زاخر
والبدر يسري في السماء كأنّه
…
ملكٌ تبدّى والنجوم عساكر
وإذا تعرضت الثريا خلتها
…
كأساً بها حبُّ السلافة دائر
وترى يد الجوزاء ترقص في الدجا
…
رقص الحبيب علاه سكرٌ ظاهر
يا ليل طلت على حبيبٍ مالهإلَاّ الصباح مؤازر ومسامرفأجابني متْ حتف أنفك وأعلمنْأنَّ الهوى لهو الهوان الحاضرقال عبد الله فنهضت عند ابتدائه بالأبيات أؤم الصوت فما انتهى إلى آخرها إلا وأنا عنده فرأيت غلاماً جميلاً قد نزل عذاره لكن قد علا محاسنه الإصفرار والدموع تجري على خده كالأمطار فقال نعمت ظلاما من الرجل قلت عبد الله بن معمر القيسي فقال ألك حاجة يا فتى قلت إني كنت جالساً في الروضة فما راعني في هذه الليلة إلا صوتك فبنفسي أقيك وبروحي أفديك وبمالي أواسيك ما الذي تجد قال إن كان ولابد فاجلس فجلست فقال أنا عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري غدوت إلى مسجد الأحزاب ولم أزل فيه راكعاً ساجداً ثم اعتزلت غير بعيد فإذا نسوة يتهادين كأنهن القطا وفي وسطهن جارية بديعة الجمال في نشرها بارعة الكمال في عصرها نورها ساطع يتشعشع وطيبها عاطر يتضوَّع فوقفت عليَّ وقالت يا عتبة: ما تقول في وصل من طلب وصلك
ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبراً ولا قفوت لها أثراً فأنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان ثم صرخ صرخة عظيمة وأكبَّ على الأرض مغشياً عليه ثم أفاق بعد ساعة وكأنما صبغت ديباجة خده بورس وأنشد يقول:
أراك بقلبي من بلادٍ بعيدةٍ
…
تُراكَمْ تروني بالقلوب على بعد
فؤادي وطرفي يأسفان عليكُمُ
…
وعندِكُمُ روحي وذكركم عندي
ولست ألذُّ العيش حتى أراكُمُ
…
ولو كنت في الفردوس أو جنّة الخلد
قال فقلت يا أخي تب إلى ربك واستقل من ذنبك واتق هول المطلع وسوء المضجع فقال هيهات هيهات ما أنا مبال حتى يكون ما يكون ولم أزل به إلى طلوع الصباح فقلت له قم بنا إلى مسجد الأحزاب فلعل الله أن يكشف عنك ما بك قال أرجو ذلك ببركة طلعتك إن شاء الله فنزلنا إلى أن وردنا مسجد الأحزاب فسمعته يقول:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما
…
ينفكُّ يحدث لي بعد النهى طربا
ما إن يزال غزالٌ فيه يظلمني
…
يهوى إلى مسجد الأحزاب منتقبا
يخمِّنُ الناس أن الأجر هَّمته
…
وما أنا طالباً للأجر مكتسبا
لو كان يبغي ثواباً ما أتى ظهراً
.. مضمَّخاً بفتيت المسك مختضبا
فجلسنا ثم حتى صلينا به الظهر فإذا النسوة أقبلن وما الجارية بينهن فلما بصرن به قلن يا عتبة وما ظنك بطالبة وصالك وكاسفة بالك قال وما لها قلن قد أخذها أبوها وأرتحل بها إلى السماوة فسالتهن عن الجارية فقلن هي ريا ابنة الغطريف السلمي فرفع الشاب رأسه إليهن وأنشد يقول:
خليليَّ ريّا قد أجدّ بكورها
…
وسار إلى أرض السماوة عيرُها
خليليَّ ما تقضي بها أمُّ مالكٍ
…
عليَّ فما يعدو عليَّ أميرها
خليليَّ إنيّ قد خشيت من البكا
…
فهل عند غيري مقلٌ أستعيرها
فقلت يا عتبة طب قلبا وقر عينا فقد وردت الحجاز بمال جزيل وطرف وتحف وقماش ومتاع أريد به أهل السفر ووالله لأبذلنه أمامك وبين يديك وفيك وعليك حتى أوصلك إلى المنى وأعطيك الرضا وفوق الرضا فقم بنا إلى مجلس الأنصار فقمنا حتى أشرفنا على ناديهم فسلمت فأحسنوا الرد ثم قلت أيها الملأ الكرام ما تقولون في عتبة وأبيه قالوا خيراً إنّه من سادات العرب قلت فإنه قد رمى بفؤاده الجوى وما أريد منكم إلا المعونة فركبنا وركب القوم حتى أشرفنا على منازل بني سليم من السماوة فقلنا أين منزل الغطريف فخرج بنفسه
مبادراً فاستقبلنا استقبال الكرام وقال حييتم بالأكرام والرحب والأنعام قلنا وأنت حييت ثم حييت أتيناك أضيافاً قال نزلتم أفضل معقل ثم نادى يا معشر العبيد أنزلوا القوم وسارعوا إلى الأكرام ففرشت في الحال الأنطاع والنمارق والزرابي فنزلنا وأرحنا ثم ذبحت الذبائح ونحرت النحائر وقدمت الموائد فقلنا يا سيد القوم لسنا بذائقين لك طعاماً حتى تقضي حاجتنا وتردنا بمسرتنا قال وما حاجتكم أيها السادة قلنا نخطب عقيلتك الكريمة لعتبة بن الحباب ابن المنذر الطيب العنصر العالي المفخر فأطرق وقال يا أخوتاه إن التي تخطبونها أمرها إلى نفسها وها أنا داخل إليها أخبرها ثم نهض مغضباً فدخل على ريّا وكانت كاسمها فقالت يا أبتاه إني أرى الغضب بيِّناً عليك فما الخبر قال لها ورد الأنصار يخطبونك مني قالت سادات كرام وأبطال عظام استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم فلمن الخطبة منهم قال لفتى يعرف بعتبة بن الحباب قالت بالله لقد سمعت عن عتبة هذا أنه يفي بما وعد ويدرك إذا قصد ويأكل ما وجد ولا ياسف على ما فقد قال الغطريف أقسم بالله لا أزوجك به أبداً فقد نما إليَّ بعض حديثك معه فقالت ما كان ذلك ولكن إذ أقسمت فإن الأنصار لا يردون
مرداً قبيحاً فأحسن لهم الرد وأدفع بالتي هي أحسن قال يا ريَّا فأي شيء أقول قالت أغلظ لهم المهر ما استطعت فإنهم يرجعون ولا يجيبون وقد أبررت قسمك وبلغت مأربك وراعيت أضيافك قال ما أحسن ما قلت ثم خرج مبادراً فقال يا إخوتاه إن فتاة الحي قد أجابت ولكن أريد لها مهراً مثلها فمن القائم به قال عبد الله فقلت أنا القائم بما تريد فقال أريد ألف مثقال من الذهب الأحمر قلت لك ذلك قال وخمسة آلاف درهم من ضرب هجر قلت لك ذلك قال ومائة ثوب من الأبراد والحبر قلت لك ذلك قال وعشرين ثوباً من الوشي المطرز قلت لك ذلك قال وأريد خمسة أكرشة من العنبر قلت لك ذلك قال وأريد مائة نافجة من المسك الأذفر قلت لك ذلك قال فهل أجبت قلت أجل ثم أجل قال عبد الله فأنفذت نفراً من الأنصار أتوا بجميع ما ضمنته وذبحت النعم والغنم واجتمع الناس لأكل الطعام فأقمنا هناك نحو أربعين يوما على هذا الحال ثم قال الغطريف يا قوم خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين السلامة ثم حملها في هودج وجهز معها ثلاثين راحلة عليها التحف والطرف ثم دعنا ورجع فسرنا حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الغارة وأحسب أنها من
بني سليم فحمل عليها عتبة بن الحباب فقتل منها عدة من رجالها وردها وانحرف راجعاً وبه طعنة تفور دما حتى سقط إلى الأرض فلم يلبث عتبة أن قضى نحبه فقلنا يا عتباه فسمعت الجارية فألقت نفسها عليه وجعلت تقبله وتصيح بحرقة وتقول:
تصبّرت لا إني صبرت وإنّما
…
أعلل نفسي إنّها بك لاحقه
ولا أنصفت نفسي لكانت إلى الردى
…
أمامك من دون البريّة سابقه
فما واحدٌ بعدي وبعدك منصفٌ
…
خليلاً ولا نفسٌ لنفسٍ مصادقه
ثم شهقت شهقة واحدة قضت فيها نحبها فاخترنا لهما مكانا وجدثا وواريناهما فيه ورجعت إلى ديار قومي وأقمت سبع سنين بعدها ثم عدت إلى الحجاز ووردت إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت والله لأعودن إلى قبر عتبة فأزوره فأتيت إلى قبر فإذا عليه أوراق شجرة نابتة عليها أوراق حمر وصفر وخضر وبيض فقلت لأرباب الجهة ما يقال لهذه الشجرة فقالوا شجرة العروسين فأقمت عند القبر يوما وليلة وانصرفت.
وحكي أن شخصا جاء إلى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الشافعي رحمه الله تعالى سلطان العلماء فقال رأيتك في المنام تنشد:
وكنت كذي رجلين رجلٍ صحيحةٍ
…
ورجلٍ رمى فيها الزمان فشُلّتِ
فسكت، ثم قال أعيش ثلاثا وثمانين سنة فإن هذا الشعر لكثير عزة وقد نظرت فلم أجد بيني وبينه نسبة فإني سنّي وهو شيعي وأنا طويل وهو قصير وهو شاعر ولست بشاعر وأنا سلمي وهو خزاعي وأنا شامي وهو حجازي فلم يبق إلا السن فأعيش مثله فكان كذلك انتهى.
ومن ظرف ما يحكى أن الجاحظ قال عبرت يوما على معلم كتاب فوجدته في هيئة حسنة وقماش مليح فقام إليّ وأجلسني معه ففاتحته في القرآن فإذا هو ماهر ففاتحته في شيء من النحو فوجدته ماهرا ثم أشعار العرب واللغة فإذا به كامل في جميع ما يراد منه فقلت قد وجب عليَّ تقطيع دفتر المعلمين فكنت كل قليل أتفقده وأزوره قال فأتيت بعض الأيام إلى زيارته فوجدت الكتاب مغلقا فسألت جيرانه فقالوا مات عنده ميت فقلت أروح أعزيه فجئت إلى بابه فطرقته فخرجت إليَّ جارية وقالت ما تريد قلت مولاك فقالت مولاي جالس وحده في العزاء ما يعطي لأحد الطريق قلت قولي له صديقك فلان يطلب يعزيك فدخلت وخرجت وقالت بسم الله فعبرت إليه فإذا هو جالس وحده فقلت أعظم الله أجرك لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهذا سبيل لا بد منه فعليك بالصبر
ثم قلت أهذا الذي توفي ولدك قال لا قلت فوالدك قال لا قلت فأخوك قال لا قلت فمن قال حبيبتي فقلت في نفسي هذا أول المناحس وقلت له سبحان الله تجد غيرها وتقع عينك على أحسن منها فقال وكأني بك وقد ظننت أني رأيتها فقلت في نفسي هذه منحسة ثانية ثم قلت وكيف عشقت من لا رأيته فقال أعلم أني كنت جالسا وإذا رجل عابر يغني وهو يقول:
يا أمَّ عمروٍ جزاك الله مكرمةً
…
ردّي عليَّ فؤادي أينما كانا
فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما كان الشعراء يتغزلون فيها فلما كان بعد يومين عبر عليَّ ذلك الرجل وهو يغني ويقول:
إذا ذهب الحمارُ بأمِّ عمروٍ
…
فلا رجعت ولا رجع الحمارُ
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وقعدت في العزاء منذ ثلاثة أيام فقال الجاحظ فعادت عزيمتي وقويت على كتابة الدفتر لحكاية أم عمرو.
ومن غريب ما يحكى ما حكاه القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة: أنّ منارة صاحب الخلفاء قال رفع إلى هارون الرشيد أن رجلا بدمشق من بقايا بني أمية عظيم المال كثير الجاه مطاع له في البلدان جماعة وأولاد ومماليك وموال
يركبون الخيول ويحملون اليلاح ويغزون الروم وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة وأنه لا يؤمن من فتق يبعد رتقه فعظم ذلك على الرشيد قال الرشيد قال منارة وكان وقوف الرشيد على هذا وهو بالكوفة في بعض حججه في سنة 186 وقد عاد من الموسم وبايع للأمين والمأمون والمؤتمن أولاده فدعاني وهو خال وقال أني دعوتك لأمر يهمني وقد منعني النوم فانظر كيف تعمل ثم قص علّي خبر الأموي وقال أخرج الساعة فقد أعددت لك الجائزة والنفقة والآلة ويضم إليك مائة غلام واسلك البرية وهذا كتبي إلى أمير دمشق وهذه قيود فادخل فأبدأ بالرجل فإن سمع وأطاع فقيده وجئني به وإن عصى فتوكل به أنت ومن معك وأنفذ هذا الكتاب إلى نائب الشام ليركب في جيشه ويقبضوا عليه وجئني به وقد أجلتك لذهابك ستا ولمجيئك ستا وهذا محمل تجعله في شقة إذا قيدته وتقعد أنت في الشق الآخر ولا تكل حفظه إلى غيرك حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها وأهله وولده وحشمه وغلمانه وقدر النعمة والحال والمحل واحفظ ما يقوله الرجل حرفا بحرف من
ألفاظه من حين وقوع طرفك عليه إلى أن تأتيني به وإياك أن يشذ عنك شيء من أمره انطلق، قال منارة، فودعته وخرجت وركبت الإبل وسرت أطوي المنازل أسير الليل والنهار ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين والبول وتنفيس النفس قليلاً إلى أن وصلت دمشق في أول الليلة السابعة وأبواب البلد مغلقة فكرهت الدخول ليلا فنمت بظاهر البلد إلى أن فتح الباب فدخلت على هيئتي حتى أتيت دار الرجل وعليها صف عظيم وحاشية كثيرة فلم أستأذن ودخلت بغير إذن فلما رأى القوم ذلك سألوا بعض غلماني فقالوا هذا منارة رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم فلما صرت في صحن الدار أنزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه قوما جلوساً فظننت أن الرجل فيهم فقاموا رحبوا بي فقلت افيكم فلان قالوا لا نحن أولاده وهو في الحمام فقلت استعجلوه فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والأحوال والحاشية فوجدتها قد ماجت بأهلها موجا شديداً فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن طال واستربت به واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى إلى أن رأيت شيخاً بزي الحمام يمشي في الصحن وحواليه جماعة كهول وأحداث وصبيان وهم أولاده وغلمانه فعلمت أنه الرجل فجاء حتى جلس فسلم علي سلاماً خفياً
وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته فأخبرته كما وجب وما قضى كلامه حتى جاءوا بأطباق فاكهة فقال تقدم يا منارة فكُلْ معنا فقلت مالي إلى ذلك من حاجة فلم يعاودني وأقبل يأكل هو ومن عنده ثم غسل يديه ودعا بالطعام فجاءوا بمائدة عظيمة لم أرّ مثلها إلا للخليفة فقال تقدم يا منارة فساعدنا على الأكل لا يزيدني على أن يدعوني بإسمي كما يدعوني الخليفة فامتنعت عليه فما عاودني وأكل هو ومن عنده وكانوا تسعة من أولاده فتأملت أكله في نفسه فوجدته أكل الملوك ووجدت جأشه رابضاً وذلك الأضطراب الذي في داره قد سكن ووجدتهم لا يرفعون من بين يديه شيئاً قد وضع على المائدة إلا نهبا وقد كان غلمانه أخذوا المال لما نزلت الدار وجمالي وجميع غلماني بالمنع من الدخول فما أطاقوا ممانعتهم وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة غلمان وقوف على رأسي فقلت في نفسي هذا جبار عنيد وإن امتنع علي من الشخوص لم أطق إشخاصه بنفسي ولا بمن معي ولا أطيق حفظه إلى أن يلحقني أمير البلد فجزعت جزعاً شديداً ورابني منه استخفافه بي في الأكل ولا يسألني عما جئت به ويأكل مطمئناً وأنا مفكر في ذلك فلما فرغ من أكله وغسل يديه دعا ببخور فتبخر وقام
إلى الصلاة فصلى الظهر وأكثر من الدعاء والابتهال فرأيت صلاته حسنة فلما انتقل من المحراب أقبل علي وقال ما أقدمك يا منارة فقلت أمر لك من أمير المؤمنين وأخرجت الكتاب ودفعته إليه فقرأه فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته فاجتمع منهم خلق كثير فلم أشك أنه يريد أني وقع بي فلما تكاملوا ابتدأ فحلف إيماناً غليظة فيها الطلاق والعتاق والحج وأمرهم أن ينصرفوا ويدخلوا منازلهم ولا يجتمع منهم إثنان في مكان واحد
ولا يظهروا إلى أن يظهر لهم أمر يعملون عليه وقال هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالتوجه إليه ولست أقيم بعد نظري فيه لحظة واحدة فاستوصوا بمن ورائي من الحرم خيرا وما بي حاجة من أن يصحبني غلام هات قيودك يا منارة فدعوت بها وكانت في سفط فأحضر حداداً فمد ساقيه فقيدته وأمرت غلماني بحمله في المحمل وركبت في الشق الآخر وسرت من وقتي ولم ألق أمير البلد ولا غيره فسرت بالرجل ليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة فقال لي ترى هذا قلت نعم قال أنه لي وقال إن فيه من غرائب الأشجار كيت وكيت ثم انتهى إلى آخر فقال مثل ذلك ثم انتهى إلى مزارع حسان وقرى سنية وقال هذه لي فاشتد غيظي منه فقلت له أعلم أني شديد التعجب منك قال ولم تعجب قلت أليس تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من
بين أهلك ومالك وولدك وأخرجك عن جميع ما لك فريداً وحيداً مقيداً ما تدري إلى ما يصير إليه أمرك ولا كيف يكون وأنت فارغ القلب من هذا تصف ضياعك وبساتينك هذا وقد رأيتك وقد جئت وأنت لا تعلم فيم جئت وأنت ساكن القلب قليل الفكر لقد كنت عندي شيخاً فاضلاً فقال لي مجيباً إنا لله وإنا إليه راجعون أخطأت فراستي فيك ظننتك رجلاً كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا بعد أن عرفك بذلك فإنا والله رأيت عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقلهم والله المستعان أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقة من الله عز وجل الذي بيده ناصيتي ولا يملك أمير المؤمنين لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرا إلا بإذن الله ومشيئته ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه وبعد فإذا عرف أمري وعلم سلامتي وصلاحي وبعد ناحيتي وإن الحسدة والاعداء رموني عنده بما ليس فيَّ وتقوّلوا عليَّ الأباطيل الكاذبة لم يستحل دمي وتحلل من أذاي وإزعاجي وردني مكرما وأقامني ببابه معظماً وإن كان سبق في علم الله عز وجل أنه يبدر إليَّ منه بادرة سوء وقد حضر أجلي وكان سفك دمي على يده فلو اجتمعت الأنس والجن والملائكة وأهل الأرض وأهل السماء على صرف ذلك عني ما استطاعوه فلم أتعجل الغم وأتسلف الفكر فيما قد فرغ الله منه وإني حسن الظن بالله عز وجل الذي
خلق ورزق وأحيا وأمات وأحسن وأجمل وإن الصبر والرضا والتفويض والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة أولى وقد كنت أحسب أنك تعرف هذا فإذا قد عرفت مبلغ فهمك فإني لا أكلمك بكلمة واحدة حتى تفرق حضرة أمير المؤمنين بيننا إن شاء الله تعالى قال ثم أعرض عني فما سمعت منه لفظة غير القرآن والتسبيح أو حاجة أو ما يجري مجراها حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر والنجب قد استقبلنني على فراسخ من الكوفة يتجسسون خبري فحين رأوني رجعوا عني بالخبر إلى أمير المؤمنين فانتهينا إلى الباب في آخر النهار فحططت ودخلت على الرشيد فقبلت الأرض بين يديه ووقفت فقال هات ما عندك يا منارة وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة فسقت والحديث من أوله إلى آخره حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والبخور والصلاة وما حدثت به نفسي من امتناعه والغضب يظهر في وجه الرشيد ويتزايد حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة والتفاته ومسئلته عن سبب قدومي ودفعي الكتاب إليه ومبادرته إلى إحضار ولده وأهله وحلفه عليهم أن لا يتبعه أحد منهم وصرفه إياهم ومد رجليه حتى قيدته فما زال وجه الرشيد يسفر حتى أنتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخه إياي لما ركبنا المحمل قال صدق والله ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه لعمري لقد أزعجناه وآذيناه وروعنا أهله فبادر ينزع قيوده عنه وائتني به قال فخرجت
فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد فما هو إلا أن رآه حتى رأيت ماء الحياء يجول في وجه الرشيد فسأله عن حاله ثم قال بلغنا عنك فضل هيئة وأمور أحببنا معها أن نراك ونسمع كلامك ونحسن إليك فأذكر حاجتك فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا فقال ما لي إلا حاجة واحدة قال مقضية ما هي قال يا أمير المؤمنين تردني إلى بلدي وأهلي وولدي قال نحن نفعل ذلك إن شاء الله تعالى ولكن سل ما تحتاج إليه في مصالح جاهك ومعاشك فإن مثلك لا يخلوا أن يحتاج إلى شيء من هذا فقال عمال أمير المؤمنين منصفون وقد استغنيت بعدله عن مسئلته
فأموري منتظمة وأحوالي مستقيمة وكذلك أمور أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل أمير المؤمنين فقال الرشيد انصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر إن عرض لك فودعه فلما ولى خارجاً قال الرشيد يا منارة أحمله من وقتك وسر به راجعاً إلى أهله كما جئت به حتى إذا أوصلته إلى محله الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف ففعلت والله أعلم. موري منتظمة وأحوالي مستقيمة وكذلك أمور أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل أمير المؤمنين فقال الرشيد انصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر إن عرض لك فودعه فلما ولى خارجاً قال الرشيد يا منارة أحمله من وقتك وسر به راجعاً إلى أهله كما جئت به حتى إذا أوصلته إلى محله الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف ففعلت والله أعلم.
وحكي في الكتاب المذكور قال حدثني أبو الربيع سليمان بن داود قال كان في جوار القاضي قديماً رجل انتشرت عنه حكاية وظهر في يده مال جليل بعد فقر طويل وكنت أسمع أن أبا عمر حماه من السلطان فسألته عن الحكاية فأطرق طويلاً ثم حدثني قال ورثت مالا جزيلاً فأسرعت في اتلافه وأتلفته حتى أنهيت
بيع أبواب داري وسقوفها ولم يبقَ لي حيلة وبقيت مدة لا قوت لي إلى والدتي لما تغزله وتطعمني وتأكل منه فتمنيت الموت فرأيت ليلة في منامي كأن قائلاً يقول لي غناك بمصر فأخرج إليها فبكرت إلى دار أبي عمر القاضي وتوسلت بالجوار وبالخدمة وكان أبي قد خدمه اياماً وسألته أن يزودني كتاباً إلى مصر لاتصرف فيها ففعل وخرجت فلما حصلت بمصر أوصلت الكتاب وسألت التصرف فسد الله عليَّ باب الرزق حتى لم أظفر بتصرف ولا لاح لي شغل ونفدت نفقتي فبقيت متفكراً في أن أسأل الناس فلم أستبح المسئلة ولم يحملني الجوع عليها وأنا ممتنع إلى أن مضى من الليل صدر صالح فلقيني الطائف فقبض علي ووجدني غريباً فأنكر حالي فسألن فقلت رجل ضيف فلم يصدقني وبطحني وضربني مقارع فصحت وقلت أنا أصدق فقال هات فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها وحديث المنام فقال ما رأيت أحمق منك والله لقد رأيت منذ كذا وكذا سنة في النوم كأن رجلاً يقول لي ببغداد في الشارع الفلاني في المحلة الفلانية قال فذكر شارعي ومحلتي وأصغيت فتم الشرطي الحديث فقال دار يقال لها دار فلان فذكر داري وأسمي وفيها بستان وفيه سدرة تحتها مدفون ثلاثون ألف دينار فامض وخذها فما فكرت في هذا الحديث ولا التفت إليه وأنت يا أحمق فارقت وطنك وجئت إلى مصر بسبب منام قال فقوي قلبي وأطلقني الطائف
فبت في المسجد وخرجت من الغد من مصر وقدمت بغداد فقلعت السدرة وأثرت مكانها فوجدت جراباً فيه ثلاثون ألف دينار فأخذتها وأمسكت يدي ودبرت أمري وأنا أعيش من تلك الدنانير ومن فضل ما ابتعته منها من ضياع وعقار إلى الآن.
وحكى القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتابه في أخبار المذاكرة ونشوان المحاضرة قال حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهمة قال حدثني بعض الكتاب قال سافرت أنا وجماعة من أصدقائي نريد مصر للتصرف فلما حصلنا بدمشق وكان معنا عدة بغال عليها ثقل وغلمان لنا ونحن على دوابنا أقبلنا نخترق الطرق لا ندري أين ننزل فاجتزنا برجل شاب حسن الوجه جالس على باب دار شاهقة وبناء فسيح وغلمان بين يديه فقام إلينا وقال أظنكم سفراً وردتم الآن فقلنا نحن كذلك قال فتنزلون علينا ألح علينا فاستحيينا من محله وحسن ظاهره وهيئته فحططنا على بابه ودخلنا وأقبل أولئك الغلمان يحملون ثقلنا ويدخلونه الدار ولا يدخلون أحدا من غلماننا يخدمنا حتى حملوه بأسره في أسرع وقت وجاءونا بالطسوت والأبارق فغسلنا وجوهنا واجلسونا في مجلس حسن مفروش بأنواع الفرش التي لم نر مثلها وإذا الدار في نهاية الحسن والفخر والكبر وفيها دور وبستان عظيم وصاحب الدار يخدمنا بنفسه وعرض علينا الحمام فقلنا نحن إليه محتاجون فأدخلنا إلى الحمام في الدار في غاية السرور ودخل إلينا غلامان أمردان وصبيان في نهاية
الحسن فخدمونا بدلا من القين وأخرجنا من الحمام إلى غير ذلك المجلس فقدم إلينا مائدة حسنة جليلة عليها من الحيوان وفاخر الطعام والألوان ونادر الخبز وغريب البوادر من كل شيء وإذا بغلامين أمردين في ناهية الحسن والزي قد دخلوا إلينا فغمزوا أرجلنا فلحقنا من ذلك مع الغربة وطول العهد بالجماع عنت فأمرناهم بالانصراف وفينا من لم يستحل التعرض لهم وتعففنا عن ذلك لنزولنا على صاحبهم ثم انتهينا إلى مجلس في بستان حسن وأخرج إلينا من آلات النبيذ كل ظريف وأحضر من الأنبذة كل شيء طيب حسن وشربنا أقداحا يسيرة ثم ضرب بيده على ستارة ممدودة وإذا جوار خلفها فقال غنين فغنت الجواري اللواتي كن خلفها أحسن غناء وأطيبه فلما توسطنا الشرب قال ما هذا الاحتشام لأضيافنا أعزهم الله أخرجن وهتك الستارة قال فخرج علينا جوار لم ير قط أحسن ولا أملح ولا أظرف منهن ما بين عوادة وطنبورية وزامرة وصناجة ورقاصة ودفافة بفاخر الثياب والحلي فغنيننا واحتطن بنا في المجلس فاشتدت محبتنا ولكن ضبطنا أنفسنا فلما كدنا أنا نسكر ومضى قطعة من الليل أقبل صاحب الدار علينا وقال يا سادة إن تمام الضيافة وحقها الوفاء بشرطها وأن يقوم المضيف بحق الضيف في جميع ما يحتاج إليه من طعام وشراب وجماع وقد أنفذت إليكم نصف النهار الغلمان فأخبروني بعفافكم عنهم فقلت هم أصحاب نساء فأخرجت
هؤلاء فرأيت من انقباضكم عن ممازحتهن ما لو خلوتم بهن كانت الصور واحدة فما هذا فقلنا يا سيدي أجللناك عن تبذل ما في دارك وفينا من لم يستحل الحرام فقال هؤلاء مماليك وهن أحرار لوجه الله تعالى إن كان بد من أن يأخذ كل واحد منكم بيد واحدة يتمتع بها ليلة فمن شاء زوجته بها ومن شاء غير ذلك فهو أبصر لأكون قد قضيت حق الضيافة فلما سمعنا بهذا وقد انتشينا طربا أخذ كل واحد منا بيد واحدة فأجلسها إلى جانبه وأقبل يقبلها ويقرصها ويمازحها فتزوجت أنا بواحدة وغيري من رغب في ذلك وبعضنا لم يفعل وجلس معنا بعد ذلك ساعة ثم نهض فإذا بخدم قد جاءوا فأدخلوا كل واحد وصاحبته إلى بيت في نهاية الحسن والطيب مفروش بفاخر الفرش الوطيئة فبخرونا عليها ونمنا والجواري إلى جنوبنا وتركوا معنا شمعة في البيت وما نحتاج إليه من آلة البيت وأغلقوا علينا وانصرفوا فبتنا في أرغد عيش ليلتنا فلما كان السحر بادر الخدم فقالوا ما رأيكم في الحمام فقد أصلح فقمنا ودخلنا ودخل المردان معنا فمنا من أطلق نفسه معهم فيما كان امتنع منه بالأمس وخرجنا فبخرنا بالند الفتيق وأعطينا الماورد والمسك والكافور وقدمت إلينا المرآة المجلاة وأخبرنا غلماننا أن صورتهم في ليلتهم كصورتنا وأنهم أتوا بجواري الخدمة الروميات فوطؤهن فأقبل بعضنا على بعض يعجب من قضيتنا وبعضنا
يقول هذا في النوم نراه ونحن في الحديث إذ أقبل صاحب الدار فقمنا إليه وعظمناه فأكبر بذلك وأخذ يسألنا عن ليلتنا فوصفناها له وسألنا عن خدمة الجواري لنا فأجبناه بحسنها فقال أيما أحب إليكم الركوب إلى بعض البساتين للتفرج إلى أن يدرك الطعام أو اللعب بالشطرنج والنرد أو النظر في الدفاتر فقلنا أما الركوب فلا نؤثره ولكن الشطرنج والنرد والدفاتر فأحضر لنا
ذلك وتشاغل كل منا بما اختاره ولم يكن إلا ساعتان أو ثلاث من النهار حتى أحضر لنا مائدة كالمائدة الأمسية فأكلنا وقمنا إلى الفرش وجاء المردان فغمزونا وغمزهم منا من كان يدخل في ذلك وزالت المراقبة فلما انتهينا حملنا إلى الحمام وخرجنا فتبخرنا وجلسنا في مجالسنا بالأمس وجاء أولئك الجواري ومعهن غيرهن ممن هو أحسن منهن وتصدت كل واحدة صاحبها بالامس بغير احتشام وشربنا إلى نصف الليل وحملوا معنا إلى الفراش وكانت هذه حالنا مدة الأسبوع فقلت لأصحابي ويحكم أرى الأمر متصلا ومن المحال أن يقول لنا الرجل ارتحلوا عني وقد استطبتم أنت مواضعكم وانقطعتم عن سفركم في هذا فقالوا ما ترى فقلت أرى أن نستأنس الرجل فننظر أي شيء هو فإن كان ممن يقبل هدية أو بر عملنا على تكرمته وارتحلنا عنه وإن كان بخلاف ذلك كنا معتقدين له المكافأة في وقت ثان وسألناه أن يحضر لنا من نكرى منه ورحلنا فتقرر رأينا على ذلك فلما جلسنا تلك الليلة على الشرب
قلنا له قد طال مقامنا عندك وما أضاف أحد أحدا أحسن مما ضفتنا ونريد الرحيل إلى مصر لما أردناه من طلب التصرف وأنا فلان بن فلان فعرفته نفسي والجماعة وقد حملتنا من أياديك ومننك ما لا يسعنا معه أن نجهلك ونحب أن تعرفنا بنفسك لنأتي بشكرك ونقضي حقك ونعمل على الرحيل فقال أنا فلان بن فلان أحد أهل دمشق فلم نعرفه فقلنا إن رأيت تزيدنا في الشرح فقال جعلت فداءكم إن لقيادتي خبراً أظرف مما شاهدتموه فقلت إن رأيت أن تخبرنا فقال نعم أنا رجل كان أبي تاجراً عظيم النعمة والأموال وكان ممسكا مكثرا ونشأت له فكنت متخرّقا مبذّرا محباً للفساد والنساء والمغنيات والشرار فأتلفت مالا عظيما من مال أبي إلا أنه لم يؤثر في ماله لعظمه ثم اعتل وايس من نفسه فدعاني فقال يا بني غني قد خلّفت لك النعمة وقميتها مائة ألف دينار بعد أن أتلفت علي خمسين ألف دينار وأن الإنفاق لا آخر له إذا لم يكن بإزائه داخل ولو أردت أن أتلف هذا المال عليك في حياتي أو الآن حتى لاتصل إلى شيء منه لفعلت ولكن هو ذا أتركه عليك فاقض حقي بحاجة تقضيها إليَّ لا ضرر عليك فيها فقلت افعل فقال أنا أعلم أنك ستتلف المال في مدة يسيرة فعرفني إذا افتقرت ولم يبق معك شيء أتقتل نفسك ولا تعيش في الدنيا فقلت لا قال فعرفني من أين تعيش قال ففكرت ساعة فلم يقع لي إلا أن قلت أصير قوادا قال
فبكى ساعة ثم مسح عينيه وقال لست بصارف عنك هذه الصناعة فإنها ما جرت على لسانك إلا وقد دارت في فكرك ولا دارت في فكرك إلا وأنت لا تنصرف عنها أبدا بعدي ولكن أخبرني كيف يتم لك المعاش منها فقلت قد تدبرت بكثرة دعواتي القحبات والمغنيات ومعاشرتي لشراب النبيذ فأجمعهم على الرسم فيقيمون في بيتي ويعملون ما يريدون وآخذ أنا منهم الدراهم وأعيش بها فقال إذا يبلغ السلطان خبرك في جمعة فيلحقون رأسك ولحيتك وينادى عليك ويفرق جمعك ويبطل معاشك ويقول أهل بلدك انظروا إلى فلان كيف ينادى عليه وقد صار بعد موت أبيه قوادا ولكن إذا أردت هذه الصناعة فأنا أعلمك وإن كنت لا أحسنها فلا تستغني فيها ولا تفتقر ولا يتطرق عليك السلطان بشيء فقلت افعل قال إذا أنا متُّ فاعمل على أنك قد أنفقت جميع مالك وافتقرت تكون قوادا ولك ضياع وعقار وأثاث ودور وجوار وآلة وقماش وخدم وجاه وتجارات واعمل على ما كان في نفسك أن تعمله إذا افتقرت فاعمله وأنت مستظهر على زمانك بما معك وهبه عند إخوانك واعمل أنك قد أنفقته واجعل معيشتك ما تريد أن تجعله إذا افتقرت فإنك تستفيد بذلك أمورا منها أنك تبتدىء أمرك بهذا فلا ينكر عليك في آخره ومنها أنك تفعل ذلك بجاه وعقار وضياع وأحوال قوية فلا يطمع فيك سلطان وإن طمع فيك سلطان بذلت أو أعطيت من ناوأك فتخلصت فقلت كيف أفعل قال
تجلس إذا أنا متُّ ثلاثة أيام للعزاء إلى أن تنقضي المصيبة فإذا انقضت نفذت وصيتي وتجملت بذلك عند الناس وقضيت حقي ثم تظهر أنك قد تركت اللعب وأنك تريد حفظ مالك مع ضرب من اللذة ثم تبتدىء فتشتري من الجواري المغنيات والسراري كل لون ومن الغلمان المردان والخدم السود والبيض ما تحتاج إليه وتشتهيه ودارك كما تحب في السرور وتنوف على سرور من تريد ان تعاشره ولا تخل إلا الأمير والعاقل وادعهما مرة في شهر أو شهرين وهادهما أيام الأعياد بالألطاف الحسنة والقهما في كل أسبوع مرة واجتهد أن
تعاشرهما على النبيذ في دورهما والقهما بالسلام وقضاء الحاجة واتخذ في كل يوم مائدة حسنةوادع القوم ومن يتفق معهم وليكن ذلك بعقل وترتيب فإن ذلك أولا لا يظهر مدة فإذا ظهر صدق به أعداؤك وكذب به إخوانك وقالوا هذه على سبيل المجون والشهوة على طرق التخالع أو مسامحة الإخوان وإلا فأي لذة له في ذلك وليس هو مجنونا ولا مخنثا ولا فقيرا ولا محتاجا إلى هذه فيبقى الخلاف فيك مدة أخرى وقد اتصلت مع سلطانك ولعل العشرة بينكما قد وقعت فيستدعي مغنياتك ويسمعهن في منزله فيصير لك بمنادمته رسم وجاهك باق بملاقاتك لهم فهم يحتاجون إليك وسيحافظ عليك الأمير فتصير في مراتب ندمائه وفي جملته وتصير قيادتك نفعا عليك بغير ضرر وتخرج عن حد القواد المحض الذين يؤذون وتكبس منازلهم قال فاعتقدت في الحال أن الصواب ما قاله ومات في علته فجلست ثلاثة أيام ثم أنفذت وصيته وما فيها كما أمرني ثم بيضت الدور وهي هذه وزدت فيها ما اشتهيت واستزدت في الآلات والفرش والأبنية كما أردت وابتعت هذه الجواري والغلمان والخدم من بغداد ودبرت أمري على ما قاله لي من غير مخالفة لشيء منه وأنا أفعل هذه منذ سنين كثيرة ما لحقني منه ضرر ولا خسران ولا فيه أكثر من إسقاط المروءة وقلة الاكتراث بالعيب وأنا أعيش أطيب عيش وأهنأه وأمر معاشي عليهم ودخلي بهم أكثر من خرجي ونعمتي الموروثة باقية بأسرها ما بعت منها شيئاً بحبة قط فما فوقها وقد اشتريت من هذه الصناعة عقارا جليلا وضفته إلى ما خلف علي وأمري يمشي كما ترون فقلنا يا هذا فرجت والله عنا واريتنا طريقاً إلى قضاء حقك وأخذنا نمازحه ونقول فضلك في هذه الصناعة غير مدفوع لأنك قواد ابن قواد وما كان الشيخ ليدبر لك هذه الأمر وهو بالقيادة أحذق منك فضحك وضحكنا وكان الفتى أديباً خفيف الروح وبتنا ليلتنا على تلك الحال فلما كان من الغد جمعنا له من بيننا ثلثمائة دينار وحملناها إليه ورحلنا عنه. ما على النبيذ في دورهما والقهما بالسلام وقضاء الحاجة واتخذ في كل يوم مائدة حسنةوادع القوم ومن يتفق معهم وليكن ذلك بعقل وترتيب فإن ذلك أولا لا يظهر مدة فإذا ظهر صدق به أعداؤك وكذب به إخوانك وقالوا هذه على سبيل المجون والشهوة على طرق التخالع أو مسامحة الإخوان وإلا فأي لذة له في ذلك وليس هو مجنونا ولا مخنثا ولا فقيرا ولا محتاجا إلى هذه فيبقى الخلاف فيك مدة أخرى وقد اتصلت مع سلطانك ولعل العشرة بينكما قد وقعت فيستدعي مغنياتك ويسمعهن في منزله فيصير لك بمنادمته رسم وجاهك باق بملاقاتك لهم فهم يحتاجون إليك وسيحافظ عليك الأمير فتصير في مراتب ندمائه وفي جملته وتصير قيادتك نفعا عليك بغير ضرر وتخرج عن حد القواد المحض الذين
يؤذون وتكبس منازلهم قال فاعتقدت في الحال أن الصواب ما قاله ومات في علته فجلست ثلاثة أيام ثم أنفذت وصيته وما فيها كما أمرني ثم بيضت الدور وهي هذه وزدت فيها ما اشتهيت واستزدت في الآلات والفرش والأبنية كما أردت وابتعت هذه الجواري والغلمان والخدم من بغداد ودبرت أمري على ما قاله لي من غير مخالفة لشيء منه وأنا أفعل هذه منذ سنين كثيرة ما لحقني منه ضرر ولا خسران ولا فيه أكثر من إسقاط المروءة وقلة الاكتراث بالعيب وأنا أعيش أطيب عيش وأهنأه وأمر معاشي عليهم ودخلي بهم أكثر من خرجي ونعمتي الموروثة باقية بأسرها ما بعت منها شيئاً بحبة قط فما فوقها وقد اشتريت من هذه الصناعة عقارا جليلا وضفته إلى ما خلف علي وأمري يمشي كما ترون فقلنا يا هذا فرجت والله عنا واريتنا طريقاً إلى قضاء حقك وأخذنا نمازحه ونقول فضلك في هذه الصناعة غير مدفوع لأنك قواد ابن قواد وما كان الشيخ ليدبر لك هذه الأمر وهو بالقيادة أحذق منك فضحك وضحكنا وكان الفتى أديباً خفيف الروح وبتنا ليلتنا على تلك الحال فلما كان من الغد جمعنا له من بيننا ثلثمائة دينار وحملناها إليه ورحلنا عنه.
وحكى أحمد بن فضل العمري في كتابه المسمى مسالك الأبصار في ممالك الأمصار في ترجمة صفي الدين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر المويسيقي قال ذكر العم حسن الاربلي في تاريخه قال جلست مع صفي الدين عبد المؤمن بالمدرسة المستنصرية
جرى ذكر واقعة بغداد فأخبرني أن هلاكو طلب رؤساء البلد وعرفاءها وطلب منهم أن يقسموا دروب بغداد ومحالها وبيوت دوي يسارها على أمراء دولته فقسموها وجعلوا كل محلة أو محلتين أو سوقين باسم أمير كبير فوقع الدرب الذي كنت أسكنه في حصة أمير مقدم على عشرة آلاف فارس اسمه نانو نوين وكان هلاكو قد رسم لبعض الأمراء أن يقتل ويأسر وينهب مدة ثلاثة أيام ولبعضهم يومين ولبعضهم يوما واحداً على حسب طبقاتهم فلما دخل الأمراء إلى بغداد كان أول درب جاء إليه الأمير الدرب الذي أنا ساكنه وقد اجتمع فيه خلق كثير من ذوي اليسار واجتمع عندي نحو خمسين جارية من أرباب المغاني وذوات الحسن والجمال فوقف نانو نوين على باب الدرب وهو مننَّرس بالأخشاب والتراب وطرقوا الباب وقالوا افتحوا لنا وادخلوا في الطاعة ولكم الأمان وإلا أحرقنا الباب وقتلناكم ومعه النجارون وخلافهم وأصحابه بالسلاح قال صفي الدين عبد المؤمن فقلت السمع والطاعة أنا أخرج إليه ففتحت الباب وخرجت وحدي عليَّ أثواب وسخة وأنا أنتظر الموت فقبلت الأرض بين يديه فقال للترجمان قل له أنت كبير هذا الدرب فقلت نعم فقال إن أردتم السلامة من الموت فأحملوا لنا كذا وكذا وطلب شيئاً كثيراً فقبلت الأرض مرة ثانية وقلت كل ما طلبه الأمير يحضر وصار كل ما في هذا الدرب بحكمك ومن تريد من خواصك فإنزل لأجمع
لك كل ما طلبت فشارو أصحابه ونزل في نحو ثلاثين رجلا من خواصه فأتيت به داري وفرشت له الفرش الخليفية الفاخرة والسرر المطرزة بالزركش وأحضرت له في الحال أطعمة فاخرة وشواء وحلواء وجعلتها بين يديه فلما فرغ من الأكل عملت له مجلساً ملوكياً وأحضرت الأواني المذهبة من الزجاج الحلبي وأواني فضة فيها شراب مروق فلما دارت الأقداح وسكر قليلاً أحضرت عشر مغنيات كل واحدة تغني بملهاة غير ملهاة الأخرى فغنين كلهن فارتج المجلس وطرب وانبسطت نفسه فضم واحدة من المغنيات أعجبته فواقعها في المجلس ونحن نشاهده وأتم يومه في غاية الطيبة فلما كان وقت العصر وحضر أصحابه بالنهب والسبايا قدمت له ولأصحابه الذين كانوا معه تحفاً جليلة من أواني الذهب والفضة ومن النقد ومن الأقمشة الفاخرة شيئاً كثيراً سوى العليق ووهبت له الغواني التي كان بين يديه واعتذرت من التقصير وقلت جاء الأمير على غفلة لكن غدا إن شاء الله تعالى أعمل للأمير دعوة أحسن من هذه فركب وقبلت ركابه ورجعت فجمعت أهل الدرب من ذوي النعمة واليسار وقلت لهم أنظروا لأنفسكم هذا الرجل غدا عندي وكذا بعد غد وكل يوم أزيد اضعاف اليوم المتقدم فجمعوا إلي من بينهم ما يساوي خمسين ألف دينار من أنواع الذهب والأقمشة الفاخرة والسلاح فما طلعت الشمس إلا وقد وافاني فرأى ما أذهله وجاء في هذا اليوم ومعه نساؤه فقدمت له ولنسائه من الذخائر
والذهب النقد ما قيمته عشرون ألف دينار وقدمت له في اليوم الثالث لآلىء نفيسة وجواهر ثمينة وبغلة جليلة بآلات خليفية وقلت هذه من مراكب الخليفة وقدمت لجميع من معه وقلت هذا الدرب صار بحكمك وإن تصدقت على أهله بأرواحهم فيكون لك وجه أبيض عند الله وعند الناس فما بقي عندهم سوى أرواحهم فقال قد عرفت ذلك من أول يوم وهبتهم أرواحهم وما حدثتني نفسي بقتلهم ولا سلبهم لكن أنت تجهز معي إلى حضرة الأمير فقد ذكرتك وقدمت له شيئاً من المستظرفات التي قدمتها إلي فأعجبته ورسم بحضورك فخفت على نفسي وعلى أهل الدرب وقلت هذا يخرجني إلى خارج بغداد ويقتلني وينهب الدرب فظهر عليَّ الخوف وقلت يا خوند هلاكو ملك كبير وأنا رجل حقير مغن أخشى منه ومن هيبته فقال لا تخف ما يصيبك إلا الخير فإنه رجل يحب أهل الفضائل فقلت في ضمانك أنه لا يصيبني مكروه قال نعم فقلت لأهل الدرب ما عندكم من النفائس فائتوني بكل ما تقدرون عليه فأخذت معي من المغنيات الجليلة ومن النقد الكثير من الذهب والفضة وهيأت مآكل كثيرة طيبة وشراباً كثيراً عتيقاً فائقا وأواني فاخرة كلها من الفضة المنقوشة بالذهب وأخذت معي ثلاث جوار مغنيات من أجلِّ من كان عندي وأنفسهن للضرب ولبست بدلة من القماش
الخليفي وركبت بغلة جليلة كنت أركبها إذا رحت إلى الخليفة فلما رآني نانو نوين بهذه الحالة قال لي أنت وزير قلت لا أنا مغني الخليفة ونديمه ولكن لما خفت منك لبست القماش الوسخ ولما صرت من رعيتك أظهرت نعمتي وأمنت وهذا الملك هلاكو ملك عظيم وهو أعظم من الخليفة فما ينبغي أن أدخل عليه إلا بالحشمة والوقار. ي وركبت بغلة جليلة كنت أركبها إذا رحت إلى الخليفة فلما رآني نانو نوين
بهذه الحالة قال لي أنت وزير قلت لا أنا مغني الخليفة ونديمه ولكن لما خفت منك لبست القماش الوسخ ولما صرت من رعيتك أظهرت نعمتي وأمنت وهذا الملك هلاكو ملك عظيم وهو أعظم من الخليفة فما ينبغي أن أدخل عليه إلا بالحشمة والوقار.
فأعجبه مني هذا وخرجت معه إلى مخيم هلاكو فدخل عليه وأدخلني معه وقال لهلاكو هذا الرجل الذي ذكرته لك وأشار إليَّ فلما وقعت عين هلاكو عليَّ قبلت الأرض وجلست على ركبتي كما هو من عادة التتار فقال نانو نوين هذا كان مغني الخليفة وقد فعل معي كذا وكذا وقد أتاك بهدية فقال قد قبلتها فقبلت الأرض مرة ثانية ودعوت له وقدمت له ولخواصه الهدايا التي كانت معي فكلما قدمت شيئاً منها يفرقه ثم فعل بالمأكول كذلك ثم قال لي أنت مغني الخليفة فقلت نعم فقال أي شيء أجود ما تعرف قلت أحسن أن أغني غناء أذا سمعه الإنسان ينام فقال غن لي الساعة حتى أنام فندمت وقلت إن غنيت له ولم ينم قال هذا كذاب وربما قتلني ولا بد من الخلاص منها بحيلة فقلت يا خوند الطرب بأوتار العود لا يطيب إلا بشرب الخمر ولا بأس بأن يشرب الأمير قدحين أو ثلاثة حتى يقع الطرب في موقعه فقال أنا ما لي في الخمر رغبة لأنه يشغلني عن مصالح ملكي ولقد أعجبني من نبيكم تحريمه ثم شرب ثلاثة أقداح كبار فلما أحمر وجهه أخذت عوداً وغنيته وكان معي مغنية اسمها ضياء لم يكن في بغداد أحسن منها صورة ولا
أطيب منها صوتا فأصلحت أنغام العود وضربت ضروباً جالبة للنوم مع زمر رخيم الصوت وغنيت فلم أتم النوبة حتى رأيته قد نعس فقطعت الغناء بغتة وقويت ضرب الأوتار فانتبه فقبلت الأرض وقلت نام الملك فقال صدقت نمت تمنَّ علي فقلت أتمنى على الملك أن يطلق لي على السمكية قال وأي شيء هي السمكية قلت بستان للخليفة فتبسم وقال لأصحابه هذا مسكين مغن قصير الهمة وقال للترجمان قل له لم لا تمنيت قلعة أو ومدينة أي شيء هذا البستان فقبلت الأرض وقلت يا ملك العالم هذا البستان يكفيني وأنا ما يجيىء مني صاحب قلعة ولا صاحب مدينة فرسم لي بالبستان وبجميع ما كان لي من الراتب في أيام الخليفة وزادني علوفة تشتمل على خبز ولحم وعليق دواب تساوي دينارين وكتب بذلك فرماناً مكمل العلائم وخرجت من بين يديه وأخذ لي نانو نوين أميراً بخمسين فارساً ومعهم علم أسود هو كان علم هلاكو الخاص به برسم حماية داري فجلس الأمير على باب الدرب ونصب العلم الأسود على أعلى باب الدرب فبقي الأمر كذلك إلى أن رحل هلاكو عن بغداد قال الأربلي فقلت له كم نابك من المغارم في الثانية قال أكثر من ستين ألف دينار وذهب أكثرها مما كان انزوى إلى دربي من ذوي اليسار والباقي من نعم موفرة كانت عندي من صدقات الخليفة فسألته عن المرتب والبستان فقال البستان أخذه مني أولاد الخليفة وقالو هذا إرث من أبينا والعلوفة قطعها عني الصاحب شمس الدين ألجويني وعوضني عنها وعن البستان في السنة مائة
ألف درهم.
وقال كان بمدينة السلام مغن يعرف بالغيور وكان عنده من الجواري عدد كثير ذوات حسن وكان خبره فاشياً يقصده المتصون وغيره فبلغ رجلاً من الكتاب المشهورين خبره فتشوقت نفسه إلى قصده ثم تجنبته لما شهر به فحمل نفسه على أن جعل بينه وبين الرجل حالاً بأن دعاه وبرَّه ووصله وكان قصد الناس منزله آثر عندهم من دعاء من يدعونه من جواريه لما يجتمع لهم فيه قال الكاتب يسألني المصير إليه وأقشعر لشناعة لقبه إلى أن لقيني بالقرب من منزله فحلف على أن لا أفارقه فكان ذلك أن صادف مني موافقة فمضيت معه فرأيت أحسن موافقة وآلة فلما استقر بنا الجلوس قال لغلماني إذا كان في غد بكروا فجيئوا بالدواب فاستوحشت وقلت بلى يقيم بعضهم عندي ويعود الباقون ليلا للأنصراف إلى منزلي فأبى وحلف فاتبعت ما أراد فأحضر أحسن طعام وألطفه وأكلنا وأتى بأنواع الأشربة والفواكه والرياحين وأخذنا في أمرنا وخرجت وجوه كالشموس وكنت عند دخولي إلى الدار قد رأيت على بعض الأبواب طبلاً معلقاً فظننته لبعض الجواري فلم أسأل عنه فلما صرنا على حالنا وأخذ النبيذ منا أحضر عموداً فجعله بين يديه فأوحشني جداً وقلت رجل غيور كما لقب وجوار حسان ونبيذ شديد ولست آمن أن أعبث بهن فيضربني بالعمود قال أخبرك يا أخي أني رجل غيور كما قد بلغك ويحضر منزل
قوم معهم سوء أدب فما هو إلا أن تغنى الجارية حتى أرى الواحد منهم قد لاحظها وضحك في وجهها وضحكت في وجهه فأقول أقوم بهذا العمود فإنما هي ضربة له وضربة لها فأقتلهما وأستريح إلا أني على ما ترى رجل معي تأن شديد فأقول شرب الرجل فسر وضحك ولعله بعد يعرفها وتعرفه فضحكت إليه وضحك إليها قال فلما ذكر هذا الحديث طابت نفسي وأصغيت إلى حديثه فقلت ثم ماذا قال ثم إن الأمر يزيد حتى أراه قد دنا فسارَّها وسارته فتقوم عليَّ القيامة وأقول ضحك إليها وضحكت إليه للمعرفة فما وضع السر ثم أهم بالعمود والتأني الذي فيَّ يقول لعله طالبها بصوت تغنيه فأمسك فلا يطول الأمر بينهما حتى أراه قد أدخل يده في ثوبها فقرصها وعبث بثديها فتداخلني الغيرة وأقول ما بعد هذا شيء وأهم بضربهما بالعمود لكن على ما ترى عندي تأن فأقول بعد لم يبلغ الأمر بهما إلى القتل وهي أوائل وسيكون لها أواخر فإن أتى بما يوجب القتل قتلتهما فاسترحت فأمسك فيطول الأمر حتى أرى الواحدة قد قامت وقام الرجل في أثرها فيدخلان ذلك البيت وبابه وثيق جداً فأسعى خلفهما بهذا العمود لأقتلهما البتة فيسبقاني فيغلقان الباب وأبقى أنا خارجه وأنا غيور كما قد علمت فأقول متى علمت حركتهما مت أو قتلت نفسي فلا يكون والله يا أخي لي إعتصام إلا بذلك الطبل المعلق فأتناوله وأضعه في عنقي فلا أزال أضرب أبداً حتى يخرجا قال فما قمت
والله وأنا أرى أوفى منه قولا وفعلا.
قال صلاح الدين الصفدي في الجزء الخامس والثلاثين من التذكرة ومن خطه نقلت حجَّت جميلة الموصلية بنت ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان أخت أبي ثعلب سنة ست وثمانين وثلثمائة فسقت أهل الموسم كلهم السويق بالطبرزد والثلج واستصحبت البقول المزروعة في المواكب وعلى الجمال وأعدت خمسمائة راحلة للمنقطعين ونثرت على الكعبة عشرة آلاف دينار لم تستصبح عندها وفيها إلا بشموع العنبر واعتقت ثلثمائة عبد ومائتي جارية وأغنت الفقراء والمجاورين. وحج عبد الله بن جعفر ومعه ثلاثون راحلة وهو يمشي على رجليه بثلاثين ألفا وقال أعتقهم لله تعالى لعل الله أن يعتقني من النار.
وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقيم عشية عرفة مائة بدنة ومائة رقبة فيعتق الرقاب عشية عرفة وينحر البدن يوم النحر وكان يطوف بالبيت ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم الرب ونعم الإله أحبه وأخشاه.
عمر بن زر الهمداني لما قضى مناسكه أنسد ظهره إلى الكعبة الشريفة ثم قالت مودعاً للبيت ما زلنا نحل لك عروة ونشد أخرى ونصعد أكمة ونهبط وادياً وتخفضنا أرض وترفعنا أخرى حتى أتيناك غير محجوبين فليت شعري بم يكون منصرفنا أبذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من إليه خرجنا وإليه قصدنا وبحرمه
أنخنا أرحم إملاق الوفد لغناك فقد أتيناك بعيسنا معراة جلودها ذابلة أسنتها نقبة أخفافها وإن أعظم الرزية أن نرجع وقد اكتفينا الغيبة اللهم وإن للزائرين حقا فأجعل حقنا غفران ذنوبنا فإنك جواد ماجد لا ينقصك نائل ولا يخصبك سائل.
ونقلت من خط الشيخ صلاح الدين الصفدي من الجزء الثامن والثلاثين من تذكرته ما صورته نقلت من خط شيخنا الشيخ الإمام الحافظ علم الدين البرزلي رحمه الله تعالى ما صورته قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة المحروسة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادي الآخرة في سنة اثنين وسبعمائة ظهرت دابة عجيبة من بحر النيل إلى ارض المنوفية صفة لونها لون الجاموس بلا شعر وآذانها كآذان الجمال وعيناها وفرجها مثل الناقة يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمكة ورقبتها مثل غلظ التيس المحشو تبناً وفمها وشفتاها مثل الكربال ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل طولهن دون الشبر وعرضهن أصبعين وفي فمها ثمانية واربعون ضرساً وسناً مثل بيادق الشطرنج وطول يدها من باطنها الى الارض شبران ونصف ومن ركتبها الى حافرها مثل بطن الثعبان أصغر مجعد ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل وعرض ظاهرها مقدار ذراعين ونصف وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما وفي بطنها ثلاث كروش ولحمها أحمر زفرته مثل السمك وطعمه
كطعم الجمل وغلظ جلدها أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل وأحضروه إلى القلعة المعمورة بحضرة السلطان وحشوه تبنا وأقاموه بين يديه.
ونقلت منه أيضاً كُتب إلى زين الدين الرحبي أنه وجد بالقاهرة بالقرب من المشهد كلبة ميتة ولها جروان يرضعان مقدار عشرين يوما بعد موتها ويلعبان حولها واللبن يخرج من أبزازها من الجانب الأعلى وأما الجانب الأسفل فإنه يبس وكان الناس يمرون بها ويتعجبون فسبحان من لايعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
وذكر الشيخ في حوادث سنة 726 قال قال شيخنا علم الدين رحمه الله تعالى نقلت من خط الصدر بدر الدين الفرازي قال في السابع من ذي الحجة سنة 721 أخبرني شخص أن كلبة ولدت بالقاهرة ثلاثين جرواً وأنها أحضرت بين يدي السلطان فلما رآها عجب من أمرها وسأل المنجمين عن ذلك فأعترفوا أنهم ليس لهم علم بذلك.
يحكى أن المهدي خرج يتصيد فلقيه الحسين بن مطير الأسدي فأنشده:
أضحت يمينك من جودٍ مصوّرةً
…
لا بل يمينك منها صورة الجودِ
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقةً
…
ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال المهدي كذبت يا فاسق وهل تركت في شعرك موضعاً لأحد مع قولك في معن بن زائدة:
المَّا بمعنٍ ثم قولا لقبره
.. سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ كنت أول حُفرةٍ
…
من الأرض خطَّت للمكارم مضجعا
ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده
…
وقد كان منه البرُّ والبحر مترعا
ولكن حويت الجود والجود ميّتٌ
…
ولو كان حيّا ضقت حتى تصدّعا
وما كان إلاّ الجود صورة وجهه
…
فعاش ربيعاً ثم ولىّ فودّعا
فلما مضى معنٌ مضى الجود والندى
…
وأصبح عرنين المكارم أجدعا
فأطرق الحسين وقال يا أمير المؤمنين وهل معن إلا حسنة من حسناتك فرضي عنه وأمر له بألفي دينار.
قال سعيد بن مسلم لما ولَّى المنصور معن بن زائدة أذربيجان قصده قوم من أهل الكوفة فلما صاروا ببابه استأذنوا عليه فدخل الآذن فقال أصلح الله الأمير وفد من أهل العراق قال من أي أهل العراق قال من الكوفة قال ائذن لهم فدخلوا عليه فنظر إليهم معن في هيئة مزرية ووثب على أريكته وأنشد يقول:
إذا نوبةٌ نابت صديقك فاغتنمْ
…
ترقُّبها فالدهر بالناس قالبُ
فأحسنُ ثوبيك الذي هو لابسٌ
…
وأفره مهريك الذي هو راكب
وبادرْ بمعروفٍ إذا كنت قادراً
…
زوال اقتدارٍ فهو عنك يعاقب
قال فوثب إليه رجل من القول فقال أصلح الله الأمير ألا أنشدك أحسن من هذا قال لمن قال لابن عمك هرمة قال هات
فأنشد يقول:
والنفس تاراتٌ تحلّ بها العرى
…
وتسخو عن المال النفوس الشحائحُ
إذا المرء لم ينفعك حيًّا فنفعه
…
أقلّ إذا ضمّت عليه الصفائح
لأيّة حالٍ يمنع المرء ماله
…
غداً فغداً والموت غادٍ ورائح
فقال معن أحسنت والله وإن كان الشعر لغيرك يا غلام اعطهم أربعة آلاف يستعينون بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد الغلام اجعلها دنانير أم دراهم فقال معن والله لا تكون همتك أرفع من همتي.
مدح مطيع بن أياس معن بن زائدة فقال له معن إن شئت مدحتك وإن شئت أثنيتك فاستحي من اختيار الثواب وكره اختيار المدح فقال:
ثناءٌ من أميرٍ خيرُ كسبٍ
…
لصاحب مغنمٍ وأخي ثراءٍ
ولكنَّ الزمان برى عظامي
…
وما مثل الدراهم من داوء
فأمر له بألف دينار.
ولما قدم معن بن زائدة أتاه الناس فأتاه ابن جحفة فإذا المجلس غاص بأهله فدق بعصاه الباب ثم قال:
وما أحجم الأعداء عنك تقيَّةً
…
عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الجود والحتف فيهما
…
أبا الله إلا أن يضرَّ وينفعا
فقال معن تحكم يا ابا السمط فقال عشرة الاف فقال معن ونزيد له ايضاً.
أتى أعرابي إلى معن بن زائدة ومعه نطع فيه صبي حين ولد فاستأذن عليه فلما دخل جعل الصبي بين يديه وقال:
سَمَّيَت معناً بمعنٍ ثم قلت له
…
هذا سميُّ فتىً في الناس محمودِ
أنت الجواد ومنك الجود نعرفه
…
ومثل جودك فينا غير معهودِ
أمست يمينك من جودٍ مصوّرةً
…
لا بل يمينك منها صورة الجود
قال كم الأبيات: قال ثلاثة قال أعطوه ثلثمائة دينار ولو كنت زدتنا لزدناك قال حسبك ما سمعت وحسبي ما أخذت.
أخبرنا الشيخ الجليل العدل الأصيل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن غانم بن وافد المهدي قال أخبرنا المشايخ الثلاثة الإمام فخر الدين أبو الحسن علي ابن أحمد بن عبد الواحد البخاري وأبو العباس أحمد بن شيبان بن ثعلب الشيباني وأم حميد زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني قال أخبرنا أبو حفص عمر بن عمر ابن محمد بن أبي نصر الحميدي قال أنشدني أبو غالب محمد بن سهل النحوي الواسطي المعروف بابن شبران بواسط قال أنشدني الأمير أبو الهيجاء محمد بن عمران بن زريق الكاتب البغدادي لنفسه هذه القصيدة إلى آخرها وقد أنشدنيها جماعة بالمغرب وقال لي أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد وغيره يقال من تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل الظرف وهي:
لا تعذليه فإنّ العذل يوجعُهُ
…
قد قلت حقّاً ولكنْ ليس يسمعُهُ
جاوزتِ في لومه حدَّاً أضرَّ به
…
من حيثُ قدّرتِ أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً
…
من عنفه فهو مُضنى القلب موجعُهُ
قد كان مضطلعاً بالبين يحمله
…
فضُلِّعت بخطوب البيت أضلعُه
يكفيه من لوعة التفنيد أنَّ له
…
من النَّوى كلَّ يومٍ ما يروِّعُهُ
ما آبَ من سفرٍ إلَاّ وأزعجَهُ
…
رأيٌ إلى سفرٍ بالرغم يتبعُهُ
كأنّما هو في حِلٍّ ومُرتحَلٍ
…
موكّلٌ بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراه بالرحيل غنىً
…
ولو إلى السدّ أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلاّ أنْ تجشّمه
…
للرزق كدًّا وكم ممّن يودعه
وما مجاهدةُ الإنسان واصلةٌ
…
رزقاً ولا دِعةُ الإنسان تقطعه
والله قسّم بين الناس رزقَهُمُ
…
لم يخلقِ الله مخلوقاً يضيّعه
مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
لكنّهم ملؤوا حرصاً فلست ترى
…
بغيٌ إلا إنّ بغيَ المرءِ يصرعه
والحرص في المء والارزاق قد قسمت
…
بغي الا ان بغي المرء يصرعه
والدهرُ يعطي الفتى ما ليس يطلُبُهُ
…
حقّاً ويطعمُهُ من حيث يمنعه
أستودع الله في بغداد لي قمراً
…
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودّعته وبودّي لو يودّعني
…
طيبُ الحياة وأنيّ لا أودعه
كم قد تشفّع بي أنْ لا أفارقه
…
وللضرورات حالٌ لا تشفِّعه
وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحىً
…
وأدمعي مستهلاتُ وأدمعه
لا أكذبُ الله ثوبُ العذر منخرقٌ
…
عنيّ برقته لكنْ أرقّعه
إنيّ أوسَّع عذري في جنايته
…
بالبين عنه وقلبي لا يوسّعه
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته
…
كذاك من لا يسوس الملك يخلعُهُ
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا
…
شكر عليه فإنّ الله ينزعه
اعتضت من وجه خلِّي بعد فرقته
…
كأساً تجرع منها ما أجرعه
كم قائلٍ لي ذنبُ البين قلت له
…
الذنب والله ذنبي لست أدفعه
إلَاّ أقمت مكان الرشد أتبعه
…
لو أنني يوم بان الرشد أجمعه
أن لا أقطّع أياماً وأنفذها
…
بحسرةٍ منه في قلبي تقطّعه
بمن إذا هجع النّوام بتُّ به
…
بلوعةٍ منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجعٌ وكذا
…
لا يطمئن له مذْ بنت مضجعه
ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني
…
به ولا أظنُّ بيَ الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيدٍ
…
عسراء تمنعني حظّي وتمنعه
وكنت من ريب دهري جازعاً فرقا
…
فلم أوقّ الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل الأنس الذي درست
…
آثاره وعفت مذ بنت أربُعُه
هل الزمان معيدٌ فيك لذّتنا
…
أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله
…
وجاد غيثٌ على مغناك يمرعه
من عِنده ليَ عهدٌ لا يضيع كما
…
عندي له عهدُ ودٍّ لا أضيّعه
ومن يصدّع قلبي ذكره وإذا
…
جرى على قلبه ذكري يصدّعه
لأصبرن لدهرٍ لا يمتّعُني
…
به ولا بيَ في حالٍ يمتّعه
علماً بأن اصطباري معقبٌ فرجاً
…
فأضيق الأمر إن فكّرتُ أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا
…
جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تنل أحداً منّا منيته
…
فما الذي بقضاء الله يصنعه
يحكى أنه وقع في ليلة الجمعة خامس عشر المحرم سنة 831أن حضرت صلاة العشاء بالجامع النووي بحماة فتقدم إمامه للصلاة بعد الإقامة وكبر تكبيرة الافتتاح وقرأ دعاء الإفتتاح والفاتحة ثم قرأ ألم السجدة ولما أتى على آية السجدة سجد ثم أتمها إلى آخرها وركع وسجد السجدتين ثم قام إلى الركعة الثانية وقرأ الفاتحة ثم قرأ سورة النحل وبني إسرائيل والكهف ومريم وجانبا من طه فأرتجَّ عليه فركع ثم اعتدل واقفاً ثم سجد السجدتين وتشهد وسلم على رأس الركعتين.
حكى الدينوري في المجالسة في ترجمة أبي عبد الله سعيد بن يزيد البناجي قال سمعت أبي يقول قال: قال خالي أحمد بن محمد بن يوسف سمعت محمد بن يوسف يقول كان أبو عبد الله البناجي مجاب الدعوة وله آيات وكرامات، بينما هو في بعض أسفاره إما حاجاً وإما غازياً على ناقة وكان في الطريق رجل عائن قلَّما ينظر إلى شيء إلا أتلفه وأسقطه وكان ناقة أبي عبد الله ناقة فارهة فقيل له إحفظها من العائن فقال أبو عبد الله ليس له إلى ناقتي سبيل فأخبر العائن بقوله فتخيَّر غيبة ابي عبد الله فجاء إلى رحله وعان ناقته فاضطربت وسقطت تضطرب فأتى عبد الله فقيل قد عان ناقتك وهي كما تراها تضطرب قال دلوني على العائن فدل عليه فقال بسم الله حبس حابس وحجر يابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه في كليتيه رشيق وفي ماله يليق فإرجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير فخرجت حدقة العائن وقامت الناقة لا بأس بها.
وله في أسماء الولائم:
وليمة أعراسِ وخرس ولادة
…
عقيقة مولودٍ نقيمة قادم
وخيمة حزنٍ والبناء وكيرةُ
…
عذيرة ختنٍ مأدبات المكارم
وله أيضاً في أسماء أيام العجوز على الترتيب:
بصنٌ وصنبرٌ ووبرٌ معللٌ
…
بمطفىء جمرٍ آمرٌ نعم مؤتمر
تولّت عجوزٌ ثم أعقب بعدها
…
شبابُ ربيعٍ زهره يانعُ نضر
ولغيره في أسماء خيل الحلبة:
سبق المجلّي والمصلّي والمسلّي
…
بعد تاليه ترى المرتاحا
وبعاطفٍ وبفسكلٍ وحطيَّة
…
حَلْبُ اللطيم على الكميتِ صباحا
لأبي العلائ المعري:
سألن فقلتُ مقصدُنا سعيدٌ
…
فكان اسم الأمير لهنّ فالا
إذا ما الغيمُ لم يمطرْ بلاداً
…
فإنّ له على يدك اتكالا
ولو أنَّ الرياح تهبُّ غرباً
…
وقلتَ لها هلا هبّت شمالا
وأقسم لو غضبت على ثبيرٍ
…
لأزمع عن محلَّته ارتحالا
نبذة لغوية يفتقر كل متأذب إليها: البلج هو أن ينقطع الحاجبان فلا يكون بينهما تضام للشعر وكان العرب تمدج البلج ويقال رجل أبلج وامرأة بلجاء.
ثم العين فجملة العين المقلة وهي الشحمة التي تجمع البياض والحدقة والناظر هو موضع البصر وفيه الإنسان والإنسان ليس بخلق له حجم والحجم ما وجدت مسه والعين كالمرآة إذا استقبلتها بشيء رأيت شخصه فيها وفيها الناظران وهما عرقان على حرف الأنف يسيلان من الموقين إلى الوجه وفيها الأجفان وهي غطاء المقلة من أعلى وأسفل وفيها الأشفار وهي حروف الأجفان التي تلتقي عند الغمض الواحد شفر والشفر الذي ينبت فيه الهدب الواحد هدب فإذا طالت الأهداب قيل رجل أهدب وامرأة هدباء ورجل أوطف وامرأة وطفاء وكذلك أذن هدباء إذا كانت كثيرة الشعر ووطفاء دليل على الطول والمحجر ما خرج من النقاب من الرجل والمرأة من الجفن الأسفل وفي العين الحماليق والواحد حملاق
والحماليق النواحي وفيها اللحاظ وهي في مؤخرها الذي يلي الصدغ والموق طرفها الذي يلي الأنف وهو مخرج الدموع وفي العين الحوص وهو ضيق في مؤخرها يقال رجل أحوص امرأة حوصاء وفيها النجل وهو سعة العين وعظم المقلة وكثرة البياض وفيها الخنس وهو ضعف في النظر وفيها الكحل وهو سواد العين بين الحمرة والسواد والشهل أن يشوب سوادها زرقة يقال رجل أشهل وامرأة شهلاء ويقال نظر إليَّ شزراً وذلك إذا نظر عن يمينه أو عن شماله ولم يستقبله بنظره في النظر والإغضاء وهو أن يطبق جفنه على حدقته فيقال رايته مغضياً.
ثم الفم وفي الفم الثنايا والرباعيات والضواحك والأرحاء والنواجذ فالضواحك أربعة أضراس تلي الأنياب إلى جنب كل باب من أسفل الفم وأعلاه ضاحك وأما الأرحاء فهي ثمانية أضراس من أسفل الفم وأعلاه وفي الظلم ساكن وهو ماء الأسنان وفي الأسنان الشنب وهو برد وعذوبة في المذاق والفلج تباعد ما بين الأسنان.
ثم اللثة هو اللحم تنبت فيه الأسنان وفي اللثة اللمى وهو سمرة تضرب إلى سواد وكذلك الحوة واللهاة واللحمة الحمراء المعلقة على الحنك
نقلت من الجزء الثالث والعشرين من التذكرة للصفدي أن شهاب الدين أحمد الحموي النقاش ورد إلى القاهرة سنة 732 وكتب الختمة الشريفة على خوصة من أولها إلى آخرها مفصلة الأجزاء