المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصة أحمد اليتيم - ثمرات الأوراق في المحاضرات - جـ ٢

[الحموي، ابن حجة]

الفصل: ‌قصة أحمد اليتيم

فحكت شمساً عن متون غمامة فوقفنا متحيرين ننظر إليها فقال لها يزيد بن المهلب يا أمة الله هل لك في أمير المؤمنين فنظرت إلينا ثم أنشأت تقول:

فإن تسألاني عن هواي فإنّه

يحول بهذا القبر يا فتيانِ

وإني لأستحييه والترب بيننا

كما كنت أستحييه وهو يراني

‌قصة أحمد اليتيم

ومن ذلك ما ذكره عبد الله بن عبد الكريم قال: أن أحمد بن طولون وجد عند سقاية طفلاً مطروحاً فالتقطه ورباه وسماه أحمد وشهره باليتيم فلما كبر ونشأ كان أكثر الناس ذكاء وفطنة وأحسنهم زيا وصورة فصار يرعاه ويعلمه حتى تهذب وتمرن فلما حضرت أحمد بن طولون الوفاة أوصى ولده أبا الجيش خمرويه به فأخذه إليه فلما مات أحمد بن طولون أحضره الأمير أبو الجيش إليه وقال له أنت عندي بمكانة أرعاك بها ولكن عادتي أني آخذ العهد على كل أحد أعرفه أن لايخونني في شيء فعاهده ثم حكمه في أمواله وقدمه في أشغاله فصار أحمد اليتيم مستحوذاً على المقام حاكماً على جميع الحاشية الخاص والعام والأمير أبو الجيش بن طولون يحسن إليه فلما رأى أحواله متصفة بالنصح ومساعيه متسمة بالنجح ركن إليه واعتمد في أمور بيوته عليه فقال له يوماً يا أحمد أمض إلى الحجرة الفلانية ففي المجلس حيث أجلس سبحة جوهر فائتني بها فمضى أحمد فلما دخل الحجرة وجد جارية من مغنيات الأمير وحظاياه مع شاب من الفراشين ممن هم من الأمير بمحل قريب فلما رأياه خرج الفتى وجاءت الجارية إلى أحمد وعرضت نفسها عليه ودعته إلى قضاء وطره فقال معاذ الله أن أخون الأمير وقد أحسن إليَّ وأخذ العهد عليَّ ثم تركها وأخذ السبحة وأنصرف إلى الأمير وسلمها إليه وبقيت الجارية شديدة الخوف من أحمد بعدما أخذ السبحة وخرج من الحجرة لئلا يذكر حالها للأمير فأقامت أياما لم تجد من الأمير ما غيره عليها ثم أتفق أن الأمير اشترى جارية وقدمها على حظاياه وغمرها بعطاياه واشتغل بها عمن سواها وأعرض لشغفه بها عن كل من عنده حتى كاد لا يذكر جارية غيرها ولا يراها وكان أولا مشغولاً بتلك الجارية الخائنة العاهرة فلما أعرض عنها اشتغالاً بالجارية الجديدة وصرف لبهجة محاسنها وكثرة أدابها وجهه عن ملاعبة أترابها وشغلته بعذوبة رضابها عن ارتشاف رضاب أضرابها وكانت تلك الجارية الأولى لحسنها متآمرة على تأميره لا تخاف من وليه ولا نصيره كبر عليها أعراضه عنها ونسبت ذلك إلى أحمد اليتيم لاطلاعه على ما كان منها فدخلت على الأمير وقد ارتدت من الكآبة بجلباب نكرها وأعلنت بين يديه لاتمام كيدها وقالت أن أحمد اليتيم راودني عن نفسي فلما سمع الأمير ذلك استشاط

ص: 256

غضباً وهمَّ في الحال بقتله ثم عاوده حاكم عقله فتأنى في فعله واستحضر خادماً يعتمد عليه وقال إذا أرسلت إليك إنساناً ومعه طبق من ذهب وقلت لك على لسانه املأ هذا الطبق مسكا فأقتل ذلك الإنسان وأجعل رأسه في الطبق وأحضره مغطى ثم عن الأمير أبا الجيش جلس لشربه وأحضر عنده ندماءه الخواص وأدناهم لمجلس قربه وأحمد اليتيم واقف بين يديه آمن من سربه لم يخطر بخاطره شيء فلما مثل بين يدي الأمير وأخذ منه الشراب شرع في التذكير فقال يا أحمد خذ هذا الطبق وأمض به إلى فلان الخادم وقل له يقول لك أمير المؤمنين املأ هذا الطبق مسكا فأخذه أحمد اليتيم ومضى فاجتاز في طريقه بالمغنين وبقية الندماء والخواص فقاموا إليه وسألوه الجلوس معهم فقال أنا ماض في حاجة الأمير أمرني بإحضارها في هذا الطبق فقالوا له أرسل من ينوب عنك في إحضارها وخذها أنت وأدخل بها على الأمير فأدار عينيه فرأى الفتى الفراش الذي كان معه الجارية فأعطاه الطبق وقال له امض إلى فلان الخادم وقل له يقول لك الأمير املأ هذا الطبق مسكاً فمضى ذلك الفراش إلى الخادم فذكر له ذلك فقتله وقطع رأسه وغطاه وجعله في الطبق وأقبل به فناوله لأحمد اليتيم فأخذه وليس عنده علم من باطن الأمر فلما دخل به على الأمير كشفه وتأمله وقال ما هذا فقص عليه خبره وقعوده مع المغنين وبقية الندماء وسؤالهم له الجلوس معهم وما كان من أنفاذ الطبق وإرساله مع الفراش وأنه لا علم عنده غير ما ذكر قال أتعرف لهذا الفراش خبرا يستوجب به ما جرى عليه فقال أيها الأمير إن الذي تم عليه بما ارتكبه من الخيانة وقد كنت رأيت الأعراض عن إعلام الأمير بذلك وأخذ أحمد يحدثه بما شاهده وما جرى له من حديث الجارية من أوله إلى آخره لما أنفذه لاحضار السبحة الجوهر فدعا الأمير أبو الجيش بتلك الجارية واستقررها فأقرت بصحة ما ذكره أحمد فأعطاه إياها وأمره بقتلها ففعل وأزدادت مكانة أحمد عنده وعلت منزلته لديه وضاعف إحسانه إليه وجعل أزمَّة جميع ما يتعلق به بيديه.

قلت ويقرب من ذلك ما حكي أن ملكا من ملوك الفرس يقال له أزدشير وكان ذا مملكة متسعة وجند كثير وكان ذا بأس شديد وقد وصف له بنت ملك بحر الأردن بالجمال البارع وأن هذه البنت بكر ذات خدر فسيَّر أزدشير من يخطبها من أبيها فامتنع من إجابته ولم يرضَ بذلك فعظم ذلك على أزدشير وأقسم بالأيمان المغلظة ليغزون الملك أبا البنت وليقتلنه هو وابنته شر قتلة وليمثلن بهما أخبث مثلة فسار إليه أزدشير في جيشه فقاتله أزدشير وقتل سائر خواصه ثم سأل عن ابنته المخطوبة فبرزت إليه جارية من القصر من أجمل النساء وأكمل البنات حسناً وجمالاً وقدا واعتدالاً فبهت أزدشير

ص: 257

من رؤيته إياها فقالت له أيها الملك إنني ابنة الملك الفلاني ملك المدينة الفلانية وأن الملك الذي قتلته أنت قد غزا بلدنا وقتل أبي وقتل سائر أصحابه قبل أن تقتله أنت وإنه أسرني في جملة الأسارى وأتى بي في هذا القصر فلما رأتني ابنته التي أرسلت تخطبها أحبتني وسألت أباها أن يتركني عندها لتأنس بي فتركني لها فكنت أنا وهي كأننا روحان في جسد واحد فلما أرسلت تخطبها خاف أبوها عليها منك فأرسلها إلى بعض الجزائر في البحر الملح عند بعض أقاربه من الملوك فقال أزدشير وددت لو أني ظفرت بها فكنت أقتلها شر قتلة ثم إنه تأمل الجارية فرآها فائقة في الجمال فمالت نفسه لها فأخذها للتسري وقال هذه أجنبية من الملك ولا أحنث في يميني بأخذها ثم إنّه أوقعها وأزال بكارتها فحملت منه فلما ظهر عليها الحمل اتفق أنها تحدثت معه يوماً وقد رأته منشرح الصدر فقالت له أنت غلبت أبي وأنا غلبتك فقال لها ومن أبوك فقالت له هو ملك بحر الأردن وأنا ابنته التي خطبتها منه وإنَّني سمعت أنك أقسمت لتقتلني فتحيلت عليك بما سمعت والآن هذا ولدك في بطني فلا يتهيأ لك قتلي فعظم ذلك على أزدشير إذ قهرته امرأة وتحيلت عليه حتى تخلّصت من بين يديه فانتهرها وخرج من عندها مغضباً وعوّل على قتلها ثم ذكر للوزير ما اتفق له معها فلما رآى الوزير عزمه قويا على قتلها ثم خشي أن يتحدث الملوك عنه بمثل هذا وأنه لا يقبل فيها شفاعة شافع فقال أيها الملك إن الرأي هو الذي خطر لك والمصلحة هي التي رأيتها أنت وقتل هذه الجارية في هذا الوقت أولى وهو عين الصواب لأنه أحق من أن يقال إن امرأة قهرت رأي الملك وحنثته في يمينه لأجل شهوة النفس ثم قال أيها الملك إنّ صورتها مرحومة وحمل الملك معها وهي أولى في الستر ولا أرى في قتلها أهون ولا أستر عليها من الغرق فقال له الملك نعم ما رأيت خذها غرِّقها فأخذها الوزير ثم خرج بها ليلاً إلى بحر الأردن ومعه ضوء ورجال وأعوان فتحيل إلى أن طرح شيئاً في البحر أوهم من كان معه أنها الجارية ثم إنه أخفاها عنده فلما أصبح جاء إلى الملك فأخبره أنه غرَّقها فشكره على فعله ثم إن الوزير ناول الملك حقاً مختوماً وقال أيها الملك إني نظرت مولدي فرأيت أجلي قد دنا على ما يقتضيه حساب حكماء الفرس في النجوم وإن لي أولاداً وعندي مال قد ادخرته من نعمتك فخذه إذا متُّ إن رأيت وهذا الحق فيه جوهر أسأل الملك أن يقسمه بين أولادي بالسوية فإنه إرثي الذي قد ورثته من أبي وليس عندي شيء أكتسبته منه إلا هذا الجوهر فقال له الملك يطول الرب في عمرك ومالك لك ولأولادك سواء كنت حيا أو ميتاً فألحَّ عليه الوزير أن يجعل

ص: 258

الحق عنده وديعة فأخذه الملك وأودعه عنده في صندوق ثم مضت أشهر فوضعت ولدا ذكراً جميلاً حسن الخلقة مثل القمر فلاحظ الوزير جانب الأدب في تسميته فرأى أنه إن إخترع له إسما وسماه به وظهر لوالده بعد ذلك فيكون قد أساء الأدب وإن هو تركه بلا إسم لم يتهيأ له ذلك فسماه شاه بور ومعناه بالفارسية ابن ملك فإن شاه ملك وبور ابن ولغتهم مبنية على تأخير المتقدم وتقديم المتأخر وهذه تسمية ليس فيها مؤاخذة ولم يزل الوزير يلاطف الجارية والولد إلى أن راهق البلوغ هذا كله وأزدشير ليس له ولد وقد طعن في السن وأقعده الهرم فمرض وأشرف على الموت فقال للوزير أيها الوزير قد هرم جسمي وضعفت قوتي وإني أرى إني ميت لا محالة وهذا الملك يأخذه بعدي من قضي له به فقال الوزير: لو شاء الله أن يكون للملك ولد كان قد ولي بعده الملك ثم ذكره بأمر بنت ملك الأردن وبحملها فقال الملك لقد ندمت على تغريقها ولو كنت أبقيتها حتى تضع فلعل حملها يكون ذكراً فلما شاهد الوزير

من الملك الرضا قال أيها الملك إنها عندي حية وقد ولدت ذكراً من أحسن الغلمان خُلُقاً وخَلْقاً فقال الملك أحق ما تقول فاقسم الوزير أن نعم ثم قال: أيها الملك إن في الولد روحانية تشهد بأبوة الأب وفي الوالد روحانية تشهد ببنوة الابن لا يكاد ذلك ينخرم أبداً وإني آتي بهذا الغلام بين عشرين غلاماً في سنه وهيئته ولباسه وكلهم ذوو آباء معروفين خلا أباه وإني أعطي كل واحد منهم صولجاناً وكرة وآمرهم أن يلعبوا بين يديك في مجلسك هذا ويتأمل الملك صورهم وخلقتهم وشمائلهم فكل من مالت إليه نفسك وروحانيتك فهو هو فقال الملك نعم التدبير الذي قلت فأخضرهم الوزير على هذه الصورة ولعبوا بين يدي الملك فكان الصبي فيهم إذا ضرب الكرة وقربت من مجلس الملك تمنعه الهيبة أن يتقدم ليأخذها إلا شاه بور فإنه كان إذا ضربها وجاءت عند مرتبة أبيه تقدم فأخذها ولا تأخذه الهيبة منه فلاحظ أزدشير ذلك منه مراراً فقال أيها الغلام ما أسمك قال شاه بور فقال له صدقت أنت ابني حقاً ثم ضمه إليه وقبله بين عينيه فقال له الوزير هذا ابنك أيها الملك ثم أحضر بقية الصبيان ومعهم عدول فأثبت لكل صبي منهم والداً بحضرة الملك فتحقق الصدق في ذلك ثم جاءت الجارية وقد تضاعف حسنها وجمالها فقبلت يد الملك فرضي عنها فقال الوزير أيها الملك قد دعت الضرورة في الوقت إلى إحضار الحق المختوم فأمر الملك بإحضاره ثم أخذه الوزير وفتح ختمه وفتحه فإذا في ذكر الوزير وأنثياه مقطوعة مصانة فيه من قبل أن يتسلم الجارية من الملك وأحضر عدولاً من الحكماء وهم الذين كانوا فعلوا به ذلك فشهدوا عند الملك بأن هذا الفعل فعلناه به من قبل أن يتسلم الجارية بليلة واحدة قال فدهش الملك أزدشير وبهت لما أبداه هذا الوزير وإثبات نسب الولد ولحوقه به ثم إن الملك عوفي من مرضه الذي كان به وصح جسمه ولم يزل يتقلب في نعمه وهو مسرور بابنه إلى أن حضرته الوفاة ورجع الملك إلى ابنه شاه بور بعد موت أبيه وصار ذلك الوزير يخدم ابن الملك أزدشير وشاه بور يحفظ مقامه ويرى منزلته حتى توفاه الله تعالى. الملك الرضا قال أيها الملك إنها عندي حية وقد ولدت ذكراً من أحسن الغلمان خُلُقاً وخَلْقاً فقال الملك أحق ما تقول فاقسم الوزير أن نعم ثم قال: أيها الملك إن في الولد روحانية تشهد بأبوة الأب وفي الوالد روحانية تشهد ببنوة الابن لا يكاد ذلك ينخرم أبداً وإني آتي بهذا الغلام بين عشرين غلاماً في سنه وهيئته ولباسه وكلهم ذوو آباء معروفين خلا أباه وإني أعطي كل واحد منهم صولجاناً وكرة وآمرهم أن يلعبوا بين يديك في مجلسك هذا ويتأمل الملك صورهم وخلقتهم وشمائلهم فكل من مالت إليه نفسك وروحانيتك فهو هو فقال الملك نعم التدبير الذي قلت فأخضرهم الوزير على هذه الصورة ولعبوا بين يدي الملك فكان الصبي فيهم إذا ضرب الكرة وقربت من مجلس الملك تمنعه الهيبة أن يتقدم ليأخذها إلا شاه بور فإنه كان إذا ضربها وجاءت عند مرتبة أبيه تقدم فأخذها ولا تأخذه الهيبة منه فلاحظ أزدشير ذلك منه مراراً فقال أيها الغلام ما أسمك قال شاه بور فقال له صدقت أنت ابني حقاً ثم ضمه إليه وقبله بين عينيه فقال له الوزير هذا ابنك أيها الملك ثم أحضر بقية الصبيان ومعهم عدول فأثبت لكل صبي منهم والداً بحضرة الملك فتحقق الصدق في ذلك ثم جاءت الجارية وقد تضاعف حسنها وجمالها فقبلت يد الملك فرضي عنها فقال الوزير أيها الملك قد دعت الضرورة في الوقت إلى إحضار الحق المختوم فأمر الملك

ص: 259

بإحضاره ثم أخذه الوزير وفتح ختمه وفتحه فإذا في ذكر الوزير وأنثياه مقطوعة مصانة فيه من قبل أن يتسلم الجارية من الملك وأحضر عدولاً من الحكماء وهم الذين كانوا فعلوا به ذلك فشهدوا عند الملك بأن هذا الفعل فعلناه به من قبل أن يتسلم الجارية بليلة واحدة قال فدهش الملك أزدشير وبهت لما أبداه هذا الوزير وإثبات نسب الولد ولحوقه به ثم إن الملك عوفي من مرضه الذي كان به وصح جسمه ولم يزل يتقلب في نعمه وهو مسرور بابنه إلى أن حضرته الوفاة ورجع الملك إلى ابنه شاه بور بعد موت أبيه وصار ذلك الوزير يخدم ابن الملك أزدشير وشاه بور يحفظ مقامه ويرى منزلته حتى توفاه الله تعالى.

قلت ومن بديع ما جاء في المكافأة على الصنيع ما حكي عن الحسن بن سهل قال كنت عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلا في مجلسه لأحكام أمر من أمور الرشيد فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قياما أحمد بن أبي خالد الأحول فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال يا بني: إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثاً فإذا فرغت من شغلي هذا فأذكرني أحدثك به فلما فرغ من شغله قال له ابنه الفضل أعزك الله يا أبي أمرتني أن أذكرك حديث أبي خالد الأحول قال نعم يا بني لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيراً لا يملك شيئاً فاشتد بي الأمر إلى أن قال لي من في منزلي إنا قد كتمنا حالنا وزاد ضررنا ولنا ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتاته قال: فبكيت يا بني لذلك بكاء شديداً وبقيت ولهان حيران مطرقاً مفكراً ثم تذكرت منديلاً كان عندي فقلت لهم ما حال المنديل فقالوا هو باق عندنا فقلت أدعوه إلي فأخذته ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له بعه بما تيسر فباعه بسبعة عشر درهما فدفعتها إلى أهلي وقلت أنفقوها إلى أن يرزق الله غيرها ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي فإذا الناس وقوف على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبا فلما رآني سلم علي وقال كيف حالك فقلت يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلاً بسبعة عشر درهما فنظر إلي نصراً شديداً وما أجابني جواباً فرجعت إلى أهلي كسير القلب وأخبرتهم بما اتفق لي مع أبي خالد

ص: 260

فقالوا بئس والله ما فعلت توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرَّك وأطلعته على مكنون أمرك فأزريت عنده بنفسك وصغرت عنده منزلتك بعد أن كنت عنده جليلاً فما يراك بعد اليم إلا بهذه العين فقلت قد مضى الأمر الآن بما لا يمكن استدراكه فلما كان من الغد بكرت إلى باب الخليفة فلما بلغت الباب استقبلني صاحب أبي خالد فقال لي أين تكون قد أمرني أبو خالد بأجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين فجلست حتى خرج فلما رآني دعاني وأمر لي بمركوب فركبت وسرت معه إلى منزله فلما نزل قال علي بفلان وفلان الخياطين فأحضرا فقال لهما ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم قالا نعم قال ألم أشترط عليكما شركة رجل معكم قالا بلى قال هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما ثم قال لي قم معهما فلما خرجنا قالا لي أدخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون لك فيه الربح الهنيء فدخلنا مسجداً فقالا لي إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله لك فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف فقلت لهما وكم تبذلان لي فقالا مائة ألف درهم فقلت لا افعل فما زالا يزيدانني وأنا لاأرضى إلى أن قالا لي ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا فقلت حتى أشاور أبا خالد قالا ذلك لك فرجعت إليه وأخبرته فدعا بهما وقال لهما هل وافقتماه على ما ذكر قالا نعم قال اذهبا فاقبضاه المال الساعة ثم قال لي أصلح أمرك وتهيأ قد قلدتك العمل فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار ثم قال لولده الفضل يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاءه قال: حق لعمري وجب عليك له فقال والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أن أعزل نفسي وأوليه ففعل ذلك وهكذا تكون المكافأة.

ومن ذلك ما حكي عن العباس صاحب شرطة المأمون قال: دخلت يوماً إلى مجلس أمير المؤمنين ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد فلما رآني قال لي يا عباس قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال خذ هذا إليك فاستوثق منه واحتفظ وبكر به إلّي في غد واحترز عليه كل الاحتراز قال العباس فدعوت جماعة فحملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الإحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي فأمرتهم فتركوه في مجلس لي في داري ثم أخذت أسأله عن قضيته وعن حاله ومن أين هو فقال من دمشق فقلت جزى

ص: 261

الله دمشق وأهلها خيراً فمن أنت من أهلها قال وعمن تسأل قلت أتعرف فلاناً قال ومن أين تعرف ذلك الرجل فقلت وقع لي معه قضية فقال ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه فقال ويحك كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى أن الوالي تدلى في زنبيل من قصر الحجاج وهرب هو وأصحابه وهربت في جملة القوم فبينما أنا هارب في بعض الدروب وإذا بجماعة يعدون خلفي فما زلت أعدو أمامهم حتى فتهم فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك وهو جالس على باب داره فقلت أغثني أغاثك الله قال لا بأس عليك: أدخل الدار فدخلت فقالت زوجته أدخل تلك المقصورة فدخلتها ووقف الرجل على باب الدار فما شعرت إلا وقد دخل الرجال معه يقولون هو والله عندكم فقال دونك الدار فتشوها ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها فقالوا ههنا فصاحت بهم المرأة ونهرتهم فانصرفوا وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف فقالت المرأة أجلس لا بأس عليك فجلست فلم ألبث حتى دخل الرجل فقال لا تخف قد صرف الله عنك شرهم وصرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى فقلت له جزاك الله خيراً فما زال يعاشرني أحسن معاشرة وأجملها وافرد لي مكاناً في داره ولم يحوجني إلى شيء ولم يفتر عن تفقد أحوالي فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش وأهنئه إلى أن سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها فقلت له أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني فلعلي اقف منهم على خبر فأخذ علي المواثيق بالرجوع فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثراً فرجعت إليه وأعلمته الخبر وهو مع هذا كله لا يعرفني ولا يسألني ولا يعرف اسمي ولا يخاطبني إلا بالكنية فقال لي علام تعزم فقلت قد عزمت على التوجه إلى بغداد فقال إن القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج وها أنا قد أعلمتك فقلت له إنك قد تفضلت علي هذه المدة ولك علي عهد الله إني لا أنسى لك هذا الفضل ولا وفينك مهما استطعت قال: فدعا غلاما له أسود وقال له أسرج الفرس الفلاني ثم جهز آلة السفر فقلت في نفسي أظن أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة له أو ناحية من النواحي فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب فلما كان يوم خروج القافلة جاءني في السحر وقال لي يا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها فقلت في نفسي كيف أصنع وليس معي ما أتزود به ولا ما أكري به مركوباً ثم قمت فإذا هو وامرأته يحلان بقجة من أفخر الملابس وخفين جديدين وآلة السفر ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما

ص: 262

في وسطي ثم قدم بغلاً فحمل عليه صندوقين وفوقهما فرش ورفع إلي نسخة ما في الصندوقين وفيهما خمسة ألاف درهم وقدم إليَّ الفرس الذي كان جهزه وقال أركب وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك وأقبل هو وامرأته يعتذران إليَّ من التقصير في أمري وركب معي يشيعني وأنصرفت إلى بغداد وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته أنا أسأل عنه فلما سمع الرجل الحديث قال لقد أمكنك الله تعالى من الوفاء له ومكافأته على فعله ومجازاته على صنعه بلا كلفة عليك ولا مؤنة تلزمك فقلت وكيف ذلك قال أنا ذلك الرجل وإنما الضر الذي أنا فيه غير عليك حالي وما كنت تعرفه مني ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الأسباب حتى أثبت معرفته فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه ثم قلت له فما الذي آل بك إلى ما أرى فقال هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إلي وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد وأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين وأمري عنده عظيم وخطبي لديه جسيم وهو قاتلي لا محالة وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري وهو نازل عند فلان فإن رأيت أن

تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره حتى أوصيه بما أريد فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك قال العباس قلت يصنع الله خيراً ثم أحضر حداداً في الليل فك قيوده وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره والبسه من الثياب ما احتاج إليه ثم أرسل من أحضر إليه غلامه فلما رآه جعل يبكي ويوصيه فاستدعى نائبه وقال: عليَّ بالفرس الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشر من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا ومن الطعام كذا وكذا قال ذلك الرجل وأحضر لي بدرة عشرة آلاف درهم وكيساً فيه خمسة ألاف دينار وقال لنائبه في الشرطة خذ هذا الرجل وشيعه إلى حد الأنبار فقلت له إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيم وخطبي جسيم وإن أنت احتجيت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرادوا قتلي فقال لي أنج بنفسك ودعني أدبر أمري فقلت والله لا ابرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك فإن احتجت إلى حضوري وحضرت فقال لصاحب الشرطة إن كان الأمر على ما يقول فليكن في موضع كذا فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته وإن أنا قتلت فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه وأنشدك الله أن لايذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد وقال الرجل فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفناً قال العباس: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسل المأمون في طلبي يقولون يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم قال: فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين فإذا هو جالس عليه ثيابه وهو ينتظرنا فقال أين الرجل فسكت فقال ويحك أين الرجل فقلت يا أمير المؤمنين اسمع مني فقال لله عليَّ عهدٌ لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري فقال قل فقلت يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أنني أريد أن أوفي له وأكافئه على ما فعله معي وقلت أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين أما أن يصفح عني فأكون قد وافيت وكافأت وأما أن يقتلني فاقيه بنفسي وقد تحنطت وها كفني يا أمير المؤمنين فلما سمع المأمون الحديث قال ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيراً أنها فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غير، هلا عرفتني خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له فقلت يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف أن لا يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتجت إلى حضوره حضر فقال المأمون وهذه منَّةٌ أعظم من الأولى أذهب الآن إليه فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته قال العباس فأتيت إليه وقلت له ليزل خوفك إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت فقال الحمد لله الذي لايحمد على السراء والضراء سواه ثم قام فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه منه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفى فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة بغال بآلاتها وعشرة بدر وعشرة آلاف دينار وعشرة مماليك بدوابهم وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به واطلاق خراجه وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابه يقول لي يا عباس هذا كتاب صديقك والله تعالى أعلم. عل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره حتى أوصيه بما أريد فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك قال العباس قلت يصنع الله خيراً ثم أحضر حداداً في الليل فك قيوده وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره والبسه من الثياب ما احتاج إليه ثم أرسل من أحضر إليه غلامه فلما رآه جعل يبكي ويوصيه فاستدعى نائبه وقال: عليَّ بالفرس الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشر من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا ومن الطعام كذا وكذا قال ذلك الرجل وأحضر لي بدرة عشرة آلاف درهم وكيساً فيه خمسة ألاف دينار وقال لنائبه في الشرطة خذ هذا الرجل وشيعه إلى حد الأنبار فقلت له إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيم وخطبي جسيم وإن أنت احتجيت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرادوا قتلي فقال لي أنج بنفسك ودعني أدبر أمري فقلت والله لا ابرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك فإن احتجت إلى حضوري وحضرت فقال لصاحب الشرطة إن كان الأمر على ما يقول فليكن

ص: 263

في موضع كذا فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته وإن أنا قتلت فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه وأنشدك الله أن لايذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد وقال الرجل فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفناً قال العباس: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسل المأمون في طلبي يقولون يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم قال: فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين فإذا هو جالس عليه ثيابه وهو ينتظرنا فقال أين الرجل فسكت فقال ويحك أين الرجل فقلت يا أمير المؤمنين اسمع مني فقال لله عليَّ عهدٌ لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري فقال قل فقلت يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أنني أريد أن أوفي له وأكافئه على ما فعله معي وقلت أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين أما أن يصفح عني فأكون قد وافيت وكافأت وأما أن يقتلني فاقيه بنفسي وقد تحنطت وها كفني يا أمير المؤمنين فلما سمع المأمون الحديث قال ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيراً أنها فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غير، هلا عرفتني خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له فقلت يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف أن لا يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتجت إلى حضوره حضر فقال المأمون وهذه منَّةٌ أعظم من الأولى أذهب الآن إليه فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته قال العباس فأتيت إليه وقلت له ليزل خوفك إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت فقال الحمد لله الذي لايحمد على السراء والضراء سواه ثم قام فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه منه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفى فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة بغال بآلاتها وعشرة بدر وعشرة آلاف دينار وعشرة مماليك بدوابهم وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به واطلاق خراجه وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابه يقول لي يا عباس هذا كتاب صديقك والله تعالى أعلم.

ومن عجائب هذا الأسلوب وغرائبه ما أورده محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله تعالى أن سواراً صاحب رحبة سوار وهو من المشهورين قال انصرفت يوما من دار الخليفة المهدي فلما دخلت منزلي دعوت بالطعام فلم تقبله نفسي

ص: 264

فأمرت به فرفع ثم دعوت جارية كنت أحبها وأحب حديثها وأشتغل بها فلم تطب نفسي فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم فنهضت وأمرت ببلغة لي فأسرجت فركبتها فلما خرجت من المنزل استقبلني وكيل لي ومعه مال فقلت ما هذا فقال ألفا درهم جبيتها من مستغلك الجديد قلت أمسكها معك واتبعني وأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء ثم رجعت إلى باب الأنبار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم. فعطشت فقلت للخادم أعندك ماء تسقينيه قال نعم ثم دخل وأحضر قلَّة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل فناولني فشربت وحضر وقت العصر فدخلت مسجداً على الباب فصليت فيه فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يلتمس فقلت ما تريد يا هذا: قال إياك اريد قلت فما حاجتك فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال شممت منك رائحة طيبة فظننت أنك من أهل النعيم فاردت أن أحدثك بشيء فقلت قل قال ألا ترى إلى باب هذا القصر قلت نعم قال هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها وعميت فقدمت هذه المدينة فأتيت صاحب هذه الدار لأساله شيئا يصلني به وأتوصل إلى سوار فإنه كان صديقاً لأبي فقلت ومن أبوك قال فلان ابن فلان فتعرفته فإذا هو كان من أصدق الناس إليَّ فقلت له يا هذا إن الله تعالى قد أتاك بسوار منعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه وقلت له إذا كان الغد فسر إلى منزلي ثم مضيت وقلت ما أحدث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذه فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فلما دخلت عليه حدثته بما جرى لي فأعجبه ذلك وأمر لي بألف دينار فأحضرت فقال ادفعها إلى الأعمى فنهضت لأقوم فقال اجلس فجلست فقال أعليك دين قلت نعم قال كم دينك قلت خمسون ألفا وقال يقول لك أمير المؤمنين أقض بها دينك قال: فقبضت منه ذلك فلما كان من الغد أبطأ علي الأعمى وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته فقال قد فكرت البارحة في أمرك فقلت يقضي

ص: 265

دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضاً وقد أمرت لك بخمسين ألفا أخرى قال فقبضتها وأنصرفت فجاءني الأعمى فدفعت إليه الألفي دينار وقلت له قد رزقك الله تعالى بكرمه وكافأك على إحسان أبيك وكافأني على أسداء المعروف إليك ثم أعطيته شيئاً آخر من مالي فأخذه وانصرف والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومن ذلك ما حكاه القاضي يحيى بن أكثم رحمة الله تعالى عليه قال دخلت يوماً على الخليفة هارون الرشيد ولد المهدي وهو مطرق مفكر فقال لي أتعرف قائل هذا البيت:

الخير أبقى وإن طال الزمان به

والشرُّ أخبثُ ما أوعيتَ من زدا

فقلت يا أمير المؤمنين إن هذا البيت شأنا مع عبيد بن الأبرص فقال عليَّ بعبيد فلما حضر بين يديه قال له أخبرني عن قضية هذا البيت فقال يا أمير المؤمنين كنت في بعض السنين حاجاً فلما توسطت البادية في يوم شديد الحر سمعت ضجة عظيمة في القافلة ألحقت أولها بآخرها فسألت عن القصة فقال لي رجل من القوم تقدم ترَ ما بالناس فتقدمت إلى أول القافلة فإذا أنا بشجاع أسود فأغر فاه كالجذع وهو يخور كما يخور الثور ويرغو كرغاء البعير فهالني أمره وبقيت لا أهتدي إلى ما أصنع في أمره فعدلنا عن طريقه إلى ناحية أخرى فعارضنا ثانياً فعلمت أنه لسبب ولم يجسر أحد من القوم أن يقربه فقلت أفدي هذا العالم بنفسي وأتقرب إلى الله تعالى بخلاص هذه القافلة من هذا فأخذت قربة من الماء تقلدتها وسللت سيفي وتقدمت فلما رآني قربت منه سكن وبقيت متوقعاً منه وثبة يبتلعني فيها فلما رأى القربة فتح فاه فجعلت فم القربة في فيه وصببت الماء كما يصب في الإناء فلما فرغت القربة تسيب في الرمل ومضى فتعجبت من تعرضه لنا وإنصرافه عنا من غير سوء لحقنا منه ومضينا لحجنا ثم عدنا في طريقنا ذلك وحططنا في منزلتنا تلك في ليلة مظلمة مدلهمة فأخذت شيئاً من الماء وعدلت إلى ناحية عن الطريق فقضيت حاجتي ثم توضأت وصليت وجلست أذكر الله تعالى فأخذتني عيني فنمت مكاني فلما استيقظت من النوم لم أجد للقافلة حساً وقد ارتحلوا وبقيت منفرداً لم أرَ أحداً ولم أهتدِ إلى ما أفعله وأخذتني حيرة وجعلت أضطرب فإذا بصوت هاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول:

يا أيها الشخص المضلّ مركبه

ما عنده من ذي رشادٍ يصحُبُه

ص: 266

دونك هذا البكر منّا تركبه

وبكرك الميمون حقاً تجنبه

حتى إذا ما الليل غاب غيهبه

عند الصباح في الفلا تسيّبه

فنظرت فإذا أنا ببكر قائم عندي وبكري إلى جانبي فانخته وركبته وجنبت بكري فلما سرت قدر عشرة أميال لاحت لي القافلة وانفجر الفجر ووقفت البكر فعلمت أنه قد حان نزولي فتحولت إلى بكري وقلت:

يا أيها البكر قد أنجيت من كربٍ

ومن هموم تضلُّ المدلج الهادي

الا تخبّرني بالله خالقنا

من الذي جاء بالمعروف في الوادي

وارجع حميداً فقد أبلغتنا منناً

بوركت من ذي سنامٍ رائحٍ غادي

فالتفت البكر إلي وهو يقول:

أنا الشجاع الذي ألفيتني رمضاً

والله يكشف ضرَّ الحائر الصادي

فجدت بالماء لمَّا ضنَّ حامله

تكرُّماً منك لم تمنن بإنكاد

فالخير أبقى وإن طال الزمان به

والشرُّ أخبثُ من أوعيت من زاد

هذا جزاؤك منيّ لا أمنُّ به

فإذهب حميداً رعاك الخالق الهادي

فعجب الرشيد من قوله وأمر بالقصة والأبيات فكتبت عنه وقال لا يضيع المعروف أين وضع.

موعظة حكي أنه كان بمدينة بغداد رجل يعرف بأبي عبد الله الأندلسي وكان شيخا لكل من بالعراق وكان يحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقرأ القرآن بجميع الروايات فخرج في بعض السنين إلى السياحة ومعه جماعة من أصحابه مثل الجنيد والشبلي وغيرهما من مشايخ العراق قال الشبلي فلم نزل في خدمته ونحن مكرمون بعناية الله تعالى إلى أن وصلنا قرية من قرى الكفار فطلبنا ماء نتوضأ به فلم نجد فجعلنا ندور بتلك القرية وإذا نحن بكنائس وبها شمامسة وقساقسة ورهبان وهم يعبدون الأصنام والصلبان فتعجبنا منهم ومن قلة عقلهم ثم انصرفنا إلى بئر في آخر القرية وإذا نحن بجوارٍ يستقين الماء على البئر وبينهن جارية حسنة الوجه ما فيهن أحسن ولا أجمل منها وفي عنقها قلائد الذهب فلما رآها الشيخ تغير وجهه وقال هذه ابنة من فقيل له هذه ابنة ملك هذه القرية فقال الشيخ فلم لا يدلّلها أبوها ويكرمها ولا يدعها تستقي الماء فقيل له أبوها يفعل ذلك بها حتى إذا تزوجها رجل أكرمته ولا تعجبها نفسها فجلس الشيخ ونكس رأسه ثم أقام ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يكلم أحداً غير أنه يؤدي الفريضة والمشايخ واقفون بين يديه ولا يدرون ما يصنعون قال الشبلي

ص: 267

فتقدمت إليه وقلت له يا سيدي أن أصحابك ومريديك يتعجبون من سكوتك ثلاثة أيام وأنت ساكت لم تكلم أحداً قال فأقبل علينا وقال يا قوم اعلموا أن الجارية التي رأيتها بالأمس قد شغفت بها حباً واشتغل قلبي بها وما بقيت أقدر أفارق هذه الأرض قال الشبلي فقلت له يا سيدي أنت شيخ أهل العراق ومعروف بالزهد في سائر الآفاق وعدد مريديك أثنا عشر ألفا فلا تفضحنا وإياهم بحرمة الكتاب العزيز فقال يا قوم جرى القلم بما حكم ووقعت في بحار العدم وقد انحلت مني عرى الولاية وطويت أعلام الهداية ثم إنه بكى بكاء شديداً وقال يا قوم انصرفوا فقد نفذ القضاء والقدر فتعجبنا من أمره وسالنا الله تعالى أن يجيرنا من مكره ثم بكينا وبكى حتى أروى التراب ثم انصرفنا عنه راجعين إلى بغداد فخرج الناس إلى لقائه ومريدوه فبي جملة الناس فلم يروه فسالونا عنه فعرفناهم بما جرى فمات من مريديه جماعة كثيرة حزناً عليه وجعل الناس يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى أن يرده عليهم وأغلقت الرباطات والزوايا والخوانق ولحق الناس حزن عظيم فأقمنا سنة كاملة وخرجت مع بعض أصحابي نكشف خبره فأتينا القرية فسألنا عن الشيخ فقيل لنا إنه في البرية يرعى الخنازير قلنا وما السبب في ذلك قالوا إنه خطب الجارية من أبيها فأبى أن يزوجها إلا ممن هو على دينها ويلبس العباءة ويشد الزنار ويخدم الكنائس ويرعى الخنازير ففعل ذلك كله وها هو في البرية يرعى الخنازير قال الشبلي فانصدعت قلوبنا وانهملت بالبكاء عيوننا وسرنا إليه وإذا به قائم قدام الخنازير فلما رآنا نكس رأسه وإذ عليه قلنسوة النصارى وفي وسطه زنار وهو متوكىء على العصا التي كان يتوكأ عليها إذا قام في الخطبة فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقلنا يا شيخ ما ذاك وما هذه الكروب والهموم بعد تلك الأحاديث والعلوم فقال يا إخواني ليس لي من الأمر شيء سيدي تصرّف فيَّ كيف شاء وحيث أراد أبعدني عن بابه بعد أن كنت من جملة أحبابه فالحذر الحذر يا أهل وداده من صده وإبعاده والحذر الحذر يا أهل المودة والصفاء من القطيعة والجفاء ثم رفع طرفه إلى السماء وقال يا مولاي ما كان ظني فيك هذا ثم جعل يستغيث ويبكي ونادى يا شبلي اتعظ بغيرك فنادى الشبلي بأعلى صوته بك المستعان وأنت المستغاث وعليك التكلان أكشف عنا هذه الغمة بحلمك فقد دهمنا أمر لا كاشف له غيرك قال فلما سمعت الخنازير بكاءهم وضجيجهم أقبلت إليهم وجعلت تمرغ وجوهها بين أيديهم وزعقت زعقة واحدة دوت منها

ص: 268

الجبال قال الشبلي فظننت أن القيامة قد قامت ثم إن الشيخ بكى بكاء شديداً قال الشبلي فقلنا له هل لك أن ترجع معنا إلى بغداد فقال كيف لي بذلك وقد استرعيت الخنازير بعد أن كنت أرعى القلوب فقلت يا شيخ كنت تحفظ القرآن وتقرؤه بالسبع فهل بقيت تحفظ منه شيئاً فقال نسيته كله إلا آيتين فقلت وما هما قال قوله تعالى: " ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء " والثانية قوله تعالى: " ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوء السبيل " فقلت يا شيخ كنت تحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم فهل تحفظ منها شيئاً قال حديثاً واحداً وهو قوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه قال الشبلي فتركناه وانصرفنا ونحن متعجبون من أمره فسرنا ثلاثة أيام وإذا به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع وهو يشهد شهادة الحق ويجدد إسلامه فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور فنظر إلينا وقال يا قوم اعطوني ثوباً طاهراً فأعطيناه ثوباً فلبسه ثم صلى وجلس فقلنا الحمد لله الذي ردك علينا وجمع شملنا بك فصف لنا ما جرى لك وكيف كان أمرك فقال يا قوم لما ولَّيتم من عندي سألته بالوداد القديم وقلت له يا مولاي أنا المذنب الجاني فعفا عني بجوده وبستره غطاني فقلت له بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب قال نعم لما وردنا القرية وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي ما قدر هؤلاء عندي وأنا مؤمن موحد فنوديت في سري ليس هذا منك ولو شئت عرفناك ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي فكان ذلك الطائر هو الإيمان قال الشبلي ففرحنا به فرحاً شديدا وكان يوم دخولنا يوماً عظيماً مشهوداً وفتحت الزوايا والرباطات والخوانق ونزل الخليفة للقاء الشيخ وأرسل إليه الهدايا وصار يجتمع عنده لسماع علمه وأربعون ألفاً وأقام على ذلك زماناً طويلاً ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث وزاده على ذلك فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح إذا بطارق يطرق باب الزاوية فنظرت من الباب فإذا شخص ملتف بكساء أسود فقلت له ما الذي تريد فقال قل لشيخكم إن الجارية الرومية التي تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك قال فدخلت فعرفت الشيخ فاصفر لونه وارتعد ثم أمر بدخولها فلما أدخلت عليه بكت بكاء شديداً فقال لها الشيخ كيف مجيئك ومن أوصلك إلى هنا قالت يا سيدي: لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك فبت ولم يأخذني قرار فرأيت في منامي شخصاً وهو يقول إن أحببت أن تكون من المؤمنات فأتركي ما أنت عليه من عبادة الأصنام واتبعي ذلك الشيخ وادخلي في دينه فقلت وما دينه قال دين الإسلام قلت وما هو قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقلت كيف لي بالوصول إليه قال أغمضي عينيك وأعطيني يدك ففعلت فمشى قليلاً ثم قال افتحي عينيك ففتحتهما فإذا أنا بشاطىء دجلة فقال أمضي إلى تلك الزاوية واقرئي الشيخ مني السلام وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك قال فأدخلها الشيخ إلى جواره وقال تعبدي ههنا فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها وتغير لونها فمرضت مرض الموت وأشرفت على الوفاة ومع ذلك لم يرها الشيخ فقالت قولوا للشيخ يدخل علي قبل الموت فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها فلما رأته بكت فقال لها لا تبكي فإن اجتماعنا غداً في القيامة في دار الكرامة ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياماً قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه قال الشبلي فرأيته في المنام وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما. وسلم فهل تحفظ منها شيئاً قال حديثاً واحداً وهو قوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه قال الشبلي فتركناه وانصرفنا ونحن متعجبون من أمره فسرنا ثلاثة أيام وإذا به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع وهو يشهد شهادة الحق ويجدد إسلامه فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور فنظر إلينا وقال يا قوم اعطوني ثوباً طاهراً فأعطيناه ثوباً فلبسه ثم صلى وجلس فقلنا الحمد لله الذي ردك علينا وجمع شملنا بك فصف لنا ما جرى لك وكيف كان أمرك فقال يا قوم لما ولَّيتم من عندي سألته بالوداد القديم وقلت له يا مولاي أنا المذنب الجاني فعفا عني بجوده وبستره غطاني فقلت له بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب قال نعم لما وردنا القرية وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي ما قدر هؤلاء عندي وأنا مؤمن موحد فنوديت في سري ليس هذا منك ولو شئت عرفناك ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي فكان ذلك الطائر هو الإيمان قال الشبلي ففرحنا به فرحاً شديدا وكان يوم دخولنا يوماً عظيماً مشهوداً وفتحت الزوايا والرباطات والخوانق ونزل الخليفة للقاء الشيخ وأرسل إليه الهدايا وصار يجتمع عنده لسماع علمه وأربعون ألفاً وأقام على ذلك زماناً طويلاً ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث وزاده على ذلك فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح إذا بطارق يطرق باب الزاوية فنظرت من الباب فإذا شخص ملتف بكساء أسود فقلت له ما الذي تريد فقال قل لشيخكم إن الجارية الرومية التي تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك قال فدخلت فعرفت الشيخ فاصفر لونه وارتعد ثم أمر بدخولها فلما أدخلت عليه بكت بكاء شديداً فقال لها الشيخ كيف مجيئك ومن أوصلك إلى هنا قالت يا سيدي: لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك فبت ولم يأخذني قرار فرأيت في منامي شخصاً وهو يقول إن أحببت أن تكون من المؤمنات فأتركي ما أنت عليه من عبادة الأصنام واتبعي ذلك الشيخ وادخلي في دينه فقلت وما دينه قال دين الإسلام قلت وما هو قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقلت كيف لي بالوصول إليه قال أغمضي عينيك وأعطيني

ص: 269

يدك ففعلت فمشى قليلاً ثم قال افتحي عينيك ففتحتهما فإذا أنا بشاطىء دجلة فقال أمضي إلى تلك الزاوية واقرئي الشيخ مني السلام وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك قال فأدخلها الشيخ إلى جواره وقال تعبدي ههنا فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها وتغير لونها فمرضت مرض الموت وأشرفت على الوفاة ومع ذلك لم يرها الشيخ فقالت قولوا للشيخ يدخل علي قبل الموت فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها فلما رأته بكت فقال لها لا تبكي فإن اجتماعنا غداً في القيامة في دار الكرامة ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياماً قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه قال الشبلي فرأيته في المنام وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.

فليتأمل العاقل في ذلك ولا يُرى له فضلاً على أحد من خلق الله تعالى فهو الفاعل المختار يعطي من يشاء ويمنع فالكل منه وإليه.

موعظة قيل عشش ورشان في شجرة في دار رجل فلما همت أفراخه بالطيران زينت امرأة ذلك الرجل له أخذ أفراخ ذلك الورشان ففعل ذلك مراراً وكلما خرج الورشان أخذ أفراخه فشكا الورشان ذلك إلى سليمان عليه الصلاة والسلام وقال يا رسول الله أردت أن يكون لي أولاد يذكرون الله تعالى من بعدي فأخذها الرجل بأمر امرأته ثم أعاد الورشان الشكوى فقال سليمان لشيطانين إذا رأيتماه يصعد الشجرة فشقاه نصفين فلما أراد الرجل أن يصعد الشجرة أعترضه سائل فأطعمه كسرة من خبز شعير ثم سعد وأخذ الأفراخ على عادته فشكا الورشان ذلك إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فقال للشيطانين ألم تفعلا ما أمرتكما به فقالا اعترضنا ملكان فطرحانا في الخافقين.

وكان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه فإن لم يكن عنده من ذلك شيء أعطاه دهنا أو غيره مما ينتفع به فإن لم يكن عنده شيء أعطاه كحلا أو أخرج إبرة وخيطاً فرقع بهما ثوب السائل.

وحكي أن رجلاً جلس يوماً يأكل هو وزوجته وبين أيديهما دجاجة مشوية فوقف سائل ببابه فخرج إليه وانتهره فذهب فاتفق بعد ذلك أن الرجل افتقر وزالت نعمته وطلق زوجته وتزوجت بعده برجل آخر فجلس يأكل معها في بعض الأيام وبين

ص: 270

أيديهما دجاجة مشوية وإذا بسائل يطرق الباب فقال الرجل لزوجته ادفعي إليه هذه الدجاجة فخرجت بها إليه فإذا هو زوجها الأول فدفعت إليه الدجاجة ورجعت إليه وهي باكية فسألها زوجها عن بكائها فأخبرته أن السائل كان زوجها وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول فقال لها أنا والله ذلك السائل.

ومما وقفت عليه ما حكي أن بعضهم قال: دخلت البادية فإذا أنا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وإلى جانبها جرو ذئب فقالت أتدري ما هذا فقلت لا قالت هذا جرو ذئب أخذناه صغيراً وأدخلناه بيتنا وربيناه فلما كبر فعل بشاتي ما ترى وأنشدت:

بقرت شويهتي وفجعت قلبي

وأنت لشاتنا إبنٌ ربيبُ

غذيت بدرِّها ونشأت معها

فمن أنباك أنّ أباك ذيب

إذا كان الطباع طباع سوءٍ

فلا أدبٌ يفيد ولا أديب

قيل مر عمر بن عبيد بجماعة وقوف فقيل ما هذا قيل السلطان يقطع سارقاً فقال لا إله إلا الله سارق العلانية يقطع سارق السر.

ومن ذلك ما حكي أنا رجلاً من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه وصار يدخل على حريمه من غير استئنذان وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده وقال في نفسه أن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله فطبخ له طعاماً وأكثر فيه من الثوم فيتأذى من ذلك فإنه يكره رائحته ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به وقال يا أمير المؤمنين إن البدوي يقول عنك للناس إن أمير المؤمنين أبخر وهلكت من رائحة فمه فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم فلما رآه أمير المؤمنين كتب كتاباً إلى بعض عماله يقول له فيه إذا وصل إليك كتابي هذا فأضرب رقبة حامله ثم دعا بالبدوي ودفع الكتاب إليه وقال له أمض به إلى فلان وائتني بالجواب فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال أين تريد قال أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان فقال الوزير هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل فقال يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار فقال له أنت الكبير وأنت الحاكم ومهما أردت أفعل فقال أعطني الكتاب فدفعه إليه فأعطاه الوزير الفي دينار وسار بالكتاب إلى المكان

ص: 271

الذي هو قاصده فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الويزر فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي وسأل عن الوزير فأخبر بأن له أياماً ما ظهر وأن البدوي بالمدينة مقيم فتعجب من ذلك وأمر بإحضار البدوي فحضر فسأله عن حاله فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها فقال له أنت قلت للناس عني إني أبخر فقال يا أمير المؤمنين أنا أتحدث بما ليس لي به علم إنما كان ذلك مكراً منه وحسداً وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه فقال يا أمير المؤمنين قاتل الله الحسد ما عد له بدأ بصاحبه فقتله ثم أتخذ البدوي وزيراً وراح الوزير بحسده انتهى.

وحكي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه لما مرض مرضه الذي مات فيه دخل عليه بعض بني هاشم ليعوده فلما استأذن عليه قام وجلس وأظهر القوة والتجلد وأذن للهاشمي فدخل عليه ثم قال متمثلاً بقول أبي ذؤيب الهذلي من قصيدة رثى بها أولاداً له ماتوا بالطاعون:

وتجلُّدي للشامتين أُريهُمُ

أنِّي لريب الدهر لا أتضعضعُ

فأجابه على الفور من القصيدة المذكورة بعينها:

وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارها

ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفع

ومما يشاكل ذلك ما حكاه لي سيدي ومولاي عمدة العلماء الأعلام ونتيجة قضايا الأدباء الفخام الشيخ عبد الغني أفندي الرافعي حفظه الله تعالى أنه حكى له عبد الله أفندي ابن قاضي الموصل أن بعض علماء بغداد وفد على دار الخليفة العلية في أيام السلطان سليم بن السلطان عثمان خان ونزل في دار صاحب المشيخة العظمى إذ ذاك فاتفق له أن رأى السلطان سليمان في القائق بين أسكي دار واسلامبول فمر قائق الشيخ بالقرب من قائق السلطان فلما وقع عليه نظر الملك ورأى سيما أهل العلم أحب أن يداعبه فقال عندما ناداه:

فيم أقتحامك لجَّ البحر تركبه

وأنت يكفيك منه مصّة الوشل

فأجابه على الفور من القصيدة:

أريد بسطة كفٍّ أستعين بها

على قضاء حقوقٍ للملا قِبَلي

فعند ذلك سأله عن مكانه فأخبر أنه نزيل شيخ الإسلام ثم مر كل منهما بقائقه وبعد أيام اجتمع السلطان سليم بشيخ الإسلام وسأله عن الشيخ فذكر له صفته ثم أمره أن يسأله عن مراده فسأله من غير أن يعلمه أن ذلك عن أمر الملك فقال بغيتي القرية الفلانية في محل كذا وكذا إن قطعنيها كفتني ولا أريد سواها فأخبر الملك بذلك فأقطعه القرية وعاد وقد ربحت تجارته ببضاعة

ص: 272

أدبه.

ومن هذا القبيل ما وقع ما وقع في عصرنا لعوض بيك الأسعد رحمه الله تعالى أنه حين بدا تغير إبراهيم باشا سر عسكر الدولة المصرية على بكوات عكا وكان جالساً على دكان في سوق العقادين من طرابلس الشام وكان أحد أمراء الآلايات جالساً على دكان يقابله فكتب له أمير الآلاي يهدده ضمنا بقول عنترة من قصيدة وأرسل يقول له أنظر خطي وهو:

ليَ النفوس وللطير اللحوم ولل

وحش العظام وللخيّالة السَّلبُ

فأجابه بقوله من القصيدة بعينها وأرسل يقول له أنظر خط من أحسن:

إن كنت تعلم يا نعمان أن يدي

قصيرةٌ عنك فالأحوال تنقلب

وكتب العلامة زين الدين بن الوردي إلى قاضي القضاة الكمال البازري وقد كان عزله من منصب القضاء وولى أخاه:

حَملتني وأخي تباريح البلا

وتركتنا ضدّين مختلفين

أيا حيّ عالم عصرنا وزماننا

ألك التصرف في دم الأخوين

فأجابه بقوله:

يا عمرُ أنزجرْ عن مثل هذا

فأحمدُ بالولاية مطمئن

فإن يك فيك معرفةٌ وعدلٌ

فأحمدُ فيه معرفةٌ ووزن

قال صاحب التالد والطريف وأذكر لك هنا حكاية لطيفة فيها لفظ أمرع من كلام الخصيب أبي محمد أغرب فيه وأبدع كنت أقرأ عليه زمن الحداثة فذكر له أنني أزن الشعر فأخبرني بكلام هذا نصه أدام الله عزك أن بيني وبينك ما شددت عليه من بعد ذلك راحتي وبحق ذا كم علينا فأعلموا من ود أمرع والحمد لله وقال لي أخرج من هذا الكلام بيتين تامين فقلت له هذا الشعر من بحر الوافر وآخر البيت الأول حرف العين من بعد وآخره أمرع فقال أحسنت انتهى.

وذكر ابن خلكان في تاريخه أنه كان بين الملك العادل نور الدين وبين أبي الحسن سنان صاحب قلاع الأسماعيلية ومقدم الفرق الباطنية مكاتبات ومحاورات فكتب إليه نور الدين كتابا يهدده فيه ويتوعده بسبب اقتضى ذلك فشق على سنان فكتب جوابه نثراً وأبياتاً منها:

يا ذا الذي بقراع السيف هدّدني

لا قام مصرعُ جنبي حين تصرعُهُ

قام الحمام إلى البازي يهُدِّده

وأستيقظت لأسود البرِّ أضبعه

وقفنا على تفصيله وجمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل وبعوضة تعض في التماثيل ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمنا عليهم وما كان لهم ناصرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وهي عجيبة طويلة

ص: 273

غريبة.

قال صاحب التالد والطريف أنشدت بعض الإخوان الظرفاء بيتي ذي القرنين ابن حمدان الحمداني وهما:

إنيّ لأحسد لا في أسطر الصحف

إذا رأيت أعتناق اللام للألف

وما أظنهما طال اعتناقهما

إلاّ لما لقيا من شدَّة الشغف

فلما سمعهما قال وقد وقع لي في هذين البيتين حكاية لطيفة غريبة ظريفة وهي أني كنت أحب غلاماً لطيفاً أديباً ظريفاً فكتبت له صورة لام ألف لا وقصدت بها ما قاله الشاعر في البيتين فكتب ل امفترقين هكذا وقصد أذيتي بها وأرسلها إلي كأنه يقول لا أملكك من عناقي أبدا فكتبت له لفظ لام هكذا وأردت مقلوب ذلك فكتب لا متصلة هكذا وأرسلها إليَّ فعلمت بذلك رضاه وتعجبت من فهمه وحذقه فلما اجتمعنا عتب عليَّ وقال عميت الأمر عليَّ وأعتبتني قلت مثلك يصلح للمنادمة والمجالسة.

قلت وهذه الحكاية تشبه أن تكون عن أبي زيد السروجي أو من باب التجريد.

قلت مثل هذين البيتين المتقدمين قول القائل:

يا من إذا قرأ الإنجيل ظلّ به

قلب الحريف عن الإسلام منحرفا

إنِّي رأيتك في نومي تعانقني

كما تعانق لام الكاتب الالفا

وقولي من قصيدة:

إن تنأ عمَّن يعاني فيك كلّ عنا

فحسبه صوب دمعِ للنوى وكفا

بالحب صيّرت لاماً قامتي أترى

يوماً تعانق من أعطافك الألفا

وما أرق قول بعضهم في المعنى:

حكت قامتي لاماً وقامة منيتي

حكت ألفاً للوصل قلت مسائلا

إذا اجتمعت لامي مع الألف التي

حكتك قواماً ما يصير فقال لا

وذكر ابن خلكان في تاريخه أنه اجتمع الإمام أبو بكر محمد ابن الإمام داود الظاهري وأبو العباس بن شريح في مجلس الوزير الجراح فتناظرا فقال له ابن شريح أنت الذي تقول من كثرت لحظاته دامت حسراته أنا أبصر منك بالكلام فقال له أبو بكر لئن قلت ذلك فإني أقول:

أنزِّهُ في روض المحاسن مقلتي

وأمنع نفسي أن تنال المحرَّما

وأحمل من ثقل الهوى ما لوانَّه

يصب على الصخر الأصمّ تهدّما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري

فلولا اختلاسي ردّه لتكلَّما

رأيت الهوى دعوى من الناس كلّهم

فما أن أرى حبًّا صحيحاً مسلَّما

فقال له ابن شريح ولم تفتخر عليَّ ولو شئت أنا أيضاً لقلت:

ومسامرٍ بالغنج من لحظاته

قد بتُّ أمنعه لذيذ سناتِهِ

ضنَّاً بحسن حديثه وغنائه

وأكرِّر اللحظات في وجناته

حتى إذا ما الصبح لاح عموده

ولَّى بخاتم ربّه وبراته

ص: 274

فقال أبو بكر يحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل أنه ولى بخاتم ربه فقال أبو العباس بن شريح يلزمني من ذلك ما يلزمك في قولك:

أنزِّهُ في روض المحاسن مقلتي

وأمنع نفسي أن تنال المحرما

فضحك الوزير وقال جمعتما لطفاً وظرفاً وفهماً وعلماً.

ويذكر أبو بكر الخطيب أنه كان في مدينة بغداد محلة تسمى باب الطاق كان بها سوق الطير يزعمون أنه من عسر عليه أمر أطلق طيراً فتيسر أمره فمر عبد الله بن طاهر وقد طال مكثه في بغداد ولم يأذن له الخليفة بالذهاب فمر بذلك السوق فرأى قمرية تنوح فأمر بشرائها فامتنع صاحبها فدفع له بها خمسمائة درهم فاشتراها وأطلقها في ذلك السوق وأنشد يقول:

ناحت مطوّقةٌ بباب الطاق

فجرت سوابق دمعي المهراق

كانت تغرّد بالأراك وربّما

كانت تغرِّد في فروع الساق

فرمى الفراق بها العراق فأصبحت

بعد الأراك تنوح في الأسواق

فجعت بأفراخٍ فأسبل دمعها

إنَّ الدموع تبوح بالأشواق

تعِسَ الفراق وبتَّ حبل متينه

وسقاه من سمّ الأساود ساقي

ماذا أراد بقصده قمريةً

لم تدر ما بغداد في الآفاق

بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي

من فكّ أسرك أن يحلّ وثاقي

قيل أنه في ثاني يوم أطلق ورجع إلى بلاده.

وحكي عن خالد الكاتب أنه قال جاءني يوماً رسول إبراهيم فسرت إليه فوجدته على فرش قد غاص فيها فاستجلني وقال أنشدني من أجود شعرك فأنشدته:

رأت عينيَّ منه منظرين كما رأت

من الشمس والبدر المنير على الأرض

عشية حيّاني بوردٍ كأنّه

خدودٌ أضيفت بعضهن إلى بعض

ونازعني كأساً كأنَّ حبابها

دموعيَ لمَّا صدّ عن مقلتي غمضي

وراح فكلُّ الرّاح في حركاته

كفعل نسيم الريح في الغصن الغضّ

فزحف حتى صار في ثلثي الفراش وقال يا فتى شبهوا الخدود بالورد وأنت شبهت الورد بالخدود فزدني فأنشدته:

عاتبت نفسي في هواك فلم أجدها تقبل

وأطعت داعيها إليك ولم أطع من يعزلُ

لا والذي جعل الوجوه بحسن وجهك تمثل

لا قلت إنَّ الصبر عنك من الصبابة أجمل

فزحف حتى انحدر من الفراش واستخف طرباً ثم قال لخادمه كم معك لنفقتنا قال ثمانمائة وخمسون درهماً فقال له أقسمها بيني وبين خالد فدفع لي نصفها وانصرفت.

لطيفة جاز بعض اللطفاء على باب دار فعزمه شيخها وأدخله عنده وأجلسه في المكان منفرداً ثم استدعى بجاريتين أحداهما صفراء والأخرى سوداء ودفع لكل واحدة مزهراً وقال لهما اضربا له عليهما وغنيا وشاغلاه ثم ذهب الشيخ وبقي الضيف

ص: 275

والجاريتان فلما اشتد به الجوع ومضى النهار ولم ير للطعام رائحة كتب في مكان الشيخ هذين البيتين:

دعوةٌ كانت علينا دعوةً

عُزَّا الطعام بها وغيض الماءُ

سودا وصفرا كلّما غنَّين لي

لعبت بي السوداء والصفراء

يحكى أن شهاب الدين الخفاجي المصري شرب الدخان هو وجماعة فاعترض عليهم شيخي زادة فكتب له الشهاب بقوله:

إذا شُرِب الدخان فلا تلمنا

وجُدْ بالعفو يا روض الأماني

تريد مهذّباً لا عيب فيه

وهل عودٌ يفوح بلا دخان

فأجابه شيخي أفندي بقوله:

إذا شرب الدخان فلا تلمني

على لومي لأبناء الزمان

أريد مهذّباً من غير ذنبٍ

كريح المسك فاح بلا دخان

وحكي عن شرف الدين بن الشريحي أنه اجتمع هو وشهاب الدين في ليلة أنس عند الملك الناصر فاتفق أن قام شرف الدين إلى الطهارة وعاد فأمره الناصر بالإشارة أن يصفع شهاب الدين فلما صفعه أمسك التلعفري بذقن شرف الدين وأنشد سريعاً وذقنه بيده:

قد صفعنا بذا المحلِّ الشريف

وهو إن كان يرتضي تشريفي

فارثِ للعبد من مصيف طباعٍ

يا ربيع الندى وإلاّ خريفي

فانقلب المجلس ضحكا.

وروي أن ابن القطان الشاعر البغدادي دخل يوماً على الوزير الرضى وعنده الحيص بيص الشاعر المشهور فقال ابن القطان قد نظمت بيتين لا يمكن أن يعمل لهما ثالث لأني قد استوفيت المعنى فيهما فقال له الوزير ما هما فأنشده:

زار الخيال بحيلاً مثل مرسله

فما شفاني منه الضمّ والقبلُ

ما زارني قطُّ إلا كي يوافقني

على الرقاد فينفيه ويرتحل

فقال الوزير للحيص بيص:

وما درى أنّ نومي حيلةٌ نصبت

لطيفه حين أعيا اليقظة الحيلُ

ومما يشاكل ذلك ما اتفق للوزير القوصي وقد أنشد ابن المرصَّص بيتين بين يديه نظمها في جارية حسناء كاملة المعاني والأوصاف وزعم أنه لا ثالث لهما وهما:

تبدَّت فهذا البدر منكسفٌ بها

وحقّك مثلي في دجى الليل حائرُ

وماست فشقَّ الغصن غيظاً ثيابه

ألست ترى أوراقه تتناثر

فأطرق الوزير يسيرا وقال:

وفاحت فألقى العود في النار نفسه

كذا نقلت عنه الحديثَ المجامرُ

وقالت فغار الدرُّ واصفر لونه

كذلك ما زالت تغار الضرائر

ص: 276

وكان في المجلس النواجي الشاعر فأنشد ارتجالاً:

وغنّت فظل الجنك يطرق نفسه

وجادت لها بالروح منها المزامرُ

ومن لحظها الهنديُّ في غمده اختفى

وظبي الفلا في لفتةٍ وهو نافر

ومن وجنتيها الورد راح بخجلةٍ

ألست تراه أحمراً وهو فاتر

ومن ريقها الصهبا شكت نار شوقها

فاطفأها بالماء ساقٍ مسامر

ذكر ابن شاكر الكتبي في تاريخه في ترجمة شمس الدين بن عفيف الدين التلمساني أن جماعة من أهل الأدب اجتمعوا وعملوا سماعا وفيهم غلمان حسان فبعثوا منهم غلاماً مليحاً إلى الشيخ عفيف الدين يطلبون شمس الدين للحضور فلما جاء الرسول كتب عفيف الدين على يده:

أرسلتما لي رسولاً في رسالته

حلو المراشف والأعطاف والهيفِ

وقد تمادى يسيراً ذاك أنّكما

أوقدتما النار في أحشاء ذي دنف

فلما حضر والده شمس الدين وأخبره بالقضية كتب إلى ولده:

مولاي كيف انثنى عنك الرسول ولم

تكن لوردة خدَّيه بمقتطف

جاءتك من بحر ذاك الحسن لؤلؤةٌ

فكيف ردّت بلا ثقبٍ إلى الصدف

ومما نقلته من التاريخ المذكور أن علية بنت المهدي العباسية أخت أمير المؤمنين هارون الرشيد كانت من أحسن خلق الله وجها وأظرف النساء وأعقلهنَّ ذات صيانة وأدب بارع تزوجها موسى بن عيسى العباسي وكان الرشيد يبالغ في إكرامها واحترامها ولها ديوان شعر عاشت خمسين سنة وتوفيت سنة عشر ومائتين وكان سبب موتها أن المأمون سلم عليها وضمها إلى صدره وجعل يقبل رأسها ووجهها مغطى فشرقت من ذلك وماتت بعد أيام يسيرة وكانت تتغزل بشعرها في خادمين اسم الواحد طل والآخر رشاء فمن قولها في طل وصحفت اسمه:

أيا سروة البستان طال تشوّقي

فهل إلى ظلٍّ لديك سبيلُ

متى يلتقي من ليس يُقضى خروجه

وليس لمن يهوى إليه وصول

فبلغ الرشيد ذلك فحلف أنها لا تذكره أبدا ثم تسمَّع عليها الرشيد يوما فوجدها وهي تقرأ في آخر سورة البقرة حتى بلغت قوله تعالى فإن لم يصيبها وابل فقالت فإن لم يصبها وابل فالذي نهى عنه أمير المؤمنين فدخل الرشيد وقبل رأسها وقال لها قد وهبتك طلا ولا منعتك بعد هذا عما تريدين وكانت من أعف الناس كانت إذا طهرت لازمت المحراب وإن لم تكن طاهرة غنت ولما خرج الرشيد إلى الري أخذها معه فلما وصل إلى المرج نظمت قولها:

ومغتربٍ بالمرج يبكي لشجوه

وقد غاب عنه المسعدون على الحبّ

ص: 277

إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه

تنشّق يستسقي برائحة الركب

ونمنت بعما فلما سمع الرشيد الصوت علم انها قد اشتاقت الى العراق واهلها وامر برادها واما شعرها:

إنّي كثرت عليه في زيارته

فملَّ والشيء مملولُ إذا كثرا

ورابني منه أنّي لا أزال ارى

في طرفه قصراً عنّي إذا نظرا

انتهى.

لطيفة يحكى أن عبد الملك بن مروان جمع بن أبي ربيعة وكثيرة عزة وجميل بثينة وأحضر لديه ناقة موقرة ودعاهم وقال ينشد كل واحد منكم بيتاً في الغزل فأيكم كان أبدع فهي له بما عليها فقال جميل:

ولو أنَّ راقي الموت يرقى جنازتي

بمنطقها في العالمين حييتُ

وقال كثير:

وسعى إليَّ بعيب عزّة نسوةُ

جعل الإله خدودهنَّ نعالها

وقال عمر بن أبي ربيعة:

فليت الثريا في المنام ضجيعتي

لدى الجنة الخضراء أو في جهنَّم

فقال له عبد الملك خذها يا صاحب جهنم والثريا هي بنت علي بن عبد الله الأموية تزوجها سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فقال فيه عمر:

أيُّها المنكحُ الثريّا سهيلاً

عمرُك الله كيف يلتقيان

هي شاميةٌ إذا ما استقلَّت

وسهيلٌ إذا استقلّ يماني

وكان يتشبب بذكرها كثيراً.

حكي أنها واعدته يوما فجاءت في الوقت الذي وعدته به فصادفت أخاه الحرث قد نام مكانه فلم يشعر الحرث إلا والثريا قد ألقت نفسها عليه فانتبه وجعل يقول اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله فانصرفت فلما جاء عمر أخبره الحرث بذلك فاغتم لفواتها وقال له أيم الله لا تمسك أبدا وقد ألقت نفسها عليك فقال له الحرث عليك وعليها لعنة الله. ومات عمر بعد أن تاب وأحسن التوبة وقد عاش ثمانين سنة ويقال إنه تغزل أربعين سنة وتنسك أربعين سنة رحمه الله تعالى.

روي أنه عرضت جارية على الرشيد ليشتريها فطلب بها البائع مبلغا جليلا فقال الرشيد أنا أعرض عليها بيتا إن أجابت عنه أعطيتك ما تقول وزدتك والتفت إليها وقال:

ماذا تقولين فيمن شفّه ارقٌ

من أجل حبّك حتى صار حيرانا

فقالت بديها:

إذا رأينا محبّاً قد أضرّ به

أمر الصبابة أوليناه إحسانا

فأعجبه جوابها واشتراها.

ومن اللطائف ما حكي عن الشيخ يحيى المسالخي أنه لما قدم إلى دمشق الشام، وقرأ في الجامع الأموي،

ص: 278

نظر إلى غلام بديع الجمال فوقع حبه في قلبه فافتتن به فسأل عنه فأخبر عن أبيه وكان ممن يتردد إلى الشيخ فاجتمع معه وقال له لم لا تحضر ولدك يتعلم عندي العلم قال له أنه يحضر علم الحساب عند بعض المشايخ فقال أنا أقرِّأ قبل شيخه فإذا حضر عندي يكون محصلاً للفضيلتين فأجابه لذلك وأمر ابنه بما ذكر فتوجه الغلام عند الشيخ يحيى فأجلسه بجانبه وأطال القراءة في ذلك اليوم أكثر من الأيام الماضية فلما انقضى الدرس وأراد الغلام الإنصراف لقراءة علم الحساب دفع له الشيخ يحيى رقعة وقال أدفعها إلى شيخك فلما حضر قال له ما أبطأك عن الحضور فأخبره بالقصة ودفع له الورقة فإذا فيها:

يا جاعلاً علم الحساب وسيلةً

تصطاد فيه فاتن الألباب

إن كنت في علم الحساب رزقته

فالله يرزقنا بغير حساب

فكتب له على ظهر الرقعة وأمره أن لا يحضر عنده بعدها فأخذ الغلام الرقعة ودفعها للشيخ يحيى فإذا فيها:

لهوت به ظبياً غريراً مهفهفاً

ومذ صار تيساً بعته للمسالخي

ومما نقلته أن أحد أمراء العرب كان عنده جماعة من أجلَاّء العرب فقام صاحب المنزل إلى الطهارة وعاد وهو قابض بيده على شيء من تحت ثوبه كهيئة المستبرىء من البول ودخل على الجماعة وهو على تلك الصفة قال من يأخذ الذي بيدي إلى زوجته فأطرق القوم خجلاً فقام رجل منهم وقال زوجتي أولى به يا أمير العرب فأطلق الأمير يديه وقال هو لك خذه وإذا بعقد مجوهر في يده فبهت القوم وحسدوا الرجل فقال الأمير للرجل ما أجرأك على ذلك قال ثقتي أنه لا يظهر منك إلا الكمال فدفع له ألف دينار.

ذكر ابن خلكان في تاريخه في ترجمة يحيى بن أكثم ما نصه رأيت في بعض المجاميع أنه أي يحيى بن أكثم مازح الحسن بن وهب وهو يومئذ صبي ثم جمشه فغضب الحسن فأنشد يحيى:

أيا قمراً أجمشته فتغضّبا

وأصبح لي من تيهه متجنّبا

إذا كنت للجمش والعضّ كارهاً

فكن أبداً يا سيدي متنقِّبا

ولا تظهر الاصداغ للناس فتنةً

وتجعل منها فوق خدّيك عقربا

فتقتل مشتاقاً وتفتن ناسكاً

وتترك قاضي المسلمين معذَّبا

قال صاحب التالد والطريف أنشد الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إمام الشافعية لنفسه:

جاء الربيع وحُسْنُ ورده

ومضى الشتاء وقبح بردِهِ

فأشرب على وجه الحبي

ب ووجنتيه وحسن خدّه

قال ابن السمعاني قال لي المظفر شعيب بن الحسين القاضي أنشدني الشيخ

ص: 279

أبو اسحق الشيرازي هذين البيتين لنفسه ثم بعد مدة كنت جالساً عند الشيخ فذكر بين يديه أن هذين البيتين أنشدا عند القاضي عين الدولة حاكم صور بلد على ساحل بحر الروم فقال لغلامه أحضر ذاك الشأن يريد الشراب فقد أفتانا به الإمام أبو إسحق فبكى الشيخ ودعا على نفسه وقال ليتني لم أقل هذين البيتين ثم قال لي كيف تردهما من أفواه الناس فقلت يا سيدي هيهات قد سار بهما الركبان أورد ذلك ابن البخاري في تاريخه واسمه محمد ويلقب بمحب الدين انتهى.

لطيفة حكى الصفدي رحمه الله بالوافي بالوفيات أن أبا الحسين الجزار رحمه الله تعالى سأله طلبته يوماً للتنزه فقالوا له يا سيدي أنت أجدر بشراء اللحم منا فتقدم للجزار وأطلعه من مكانه ووقف هو وأخذ السكين وقطع قطعاً ثم أنه قطع قطعة رديئة فقالوا له يا سيدي هذه ليست جيدة فقال الشيخ معتذراً والله يا أولادي لما وقفت خلف الفرمة أدركني لؤم الجزارين.

قصد أبو عيينة قبيصة المهلبي واستباحه فلم يسمح له بشيء فأنصرف مغضباً فتوجه إليه داود بن زيد بن حاتم فترضاه وأحسن إليه فقال في ذلك:

داود محمودٌ وأنت مذمّمٌ

عجباً لذاك وأنتما من عود

ولربَّ عودٍ قد يشقُّ لمسجدٍ

نصفاً وباقيه لحشّ يهودي

فالحشُّ أنت له وذاك بمسجدٍ

كم بين موضع مسلحٍ وسجود

وله هجاء في خالد:

أبوك لنا غيثٌ نعيش بوبله

أنت جرادٌ لست تبقي ولا تذر

له أثرٌ في المكرمات يسرُّنا

وأنت تعفّي دائماً ذلك الأثر

ولما قتل جعفر بن يحيى بكى عليه أبو نواس فقيل له أتبكي على جعفر وأنت هجوته فقال كان ذلك لركوبه الهوى وقد بلغه والله أني قلت:

ولست وإن اطنبت في وصف جعفرٍ

بأوّل إنسانٍ خري في ثيابه

فكتب: يُدفع إليه عشرة آلاف درهم ويغسل بها ثيابه.

ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده اسماعيل بن علي وعيسى بن موسى والعباس بن محمد وجماعة من بني هاشم فقال له المهدي والله إن لم تهج واحداً ممّن في هذا البيت لأقطعن لسانك فنظر إلى القوم وتحيرّ في أمره وجعل ينظر إلى كل واحد فيغمزه بأن عليه رضاه قال أبو دلامة فازددت حيرة فما رأيت أسلم من أن أهجو نفسي فقلت:

ألا بلّغ لديك أبا دلامة

فلست من الكرام ولا كرامة

جمعت دمامةً وجمعت لؤماً

كذاك اللؤم تتبعه الدمامة

ص: 280

إذا لبس العمامة قلت قردٌ

وخنزيرٌ إذا نزع العمامة

فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.

وكان لأعرابي امرأتان فولدت إحداهما جارية والأخرى غلاماً فرقصته أمه يوماً وقالت معيرة لضرّتها:

الحمد لله الحميد العالي

أنقذني اليوم من الجوالي

من كلّ شوهاء كشنٍّ بالي

لا تدفع الضيمَ عن العيال

فسمعتها فأقبلت ضرتها ترقِّص ابنتها وتقول:

تغسل رأسي وتكون الفالية

وترفع الساقط من خماريه

حتى إذا ما بلغت ثمانية

أزَّرتها بنقبةٍ يمانية

أنكحتها مروان أو معاوية

أصهار صدقٍ ومهورٍ غالية

قال فسمعها مروان فتزوجها على مائة ألف مثقال وقال إن أمها حقيقة أن لا يكذب ظنها ولا يخان عهدها فقال معاوية لولا مروان سبقنا إليها لأضعفنا لها المهر لكن لا تحرم الصلة فبعض إليها بمائة ألف درهم.

قيل إن رجلاً قال لولده وهو في المكتب في أي سورة أنت فقال لا أقسم بهذا البلد ووالدي بلا ولد فقال لعمري من كنت ولده فهو بلا ولد.

وأرسل رجل ولداً يشتري له رشاء للبئر طوله عشرون ذراعاً فوصل إلى نصف الطريق ثم رجع فقال يا أبتي عشرون ذراعاً في عرض كم.

ص: 281

قال في عرض مصيبتي فيك يا بني.

وكان لرجل من الأعراب ولد اسمه حمزة فبينما هو يوما مع أبيه إذا برجل يصيح بشاب يا عبد الله فلم يجبه ذلك الشاب فقال ألا تسمع فقال يا عم كلنا عبيد الله فأي عبد الله تعني فالتفت أبو حمزة إليه وقال يا حمزة فقال حمزة بن الأعرابي كلنا جماميز الله فأي حمزة تعني فقال أبوه أعنيك يا من أخمد الله به ذكر أبيه.

ويعجبني قول الصفدي:

لولا شفاعة شعره في صبِّه

ما كان زار ولا أزال سقاما

لكنْ تنازل في الشفاعة عنده

وغدا على أقدامه يترامى

وقال ابن الصائغ:

ثنى غصناً ومدّ عليه فرعاً

كحظّي حين أطلب منه وصلا

وبلبله على الأرداف منه

فلم أر مثل ذاك الفرع أصلا

وقول الآخر:

أبدت ثريا قرطها وشعرها

متصلٌ بكعبها كما ترى

يا عجباً لشعرها لما ابتدى

من الثريا فانتهى إلى الثرى

وقول ابن نباتة:

وبمهجتي رشأٌ يميس قوامه

فكأنّه نشوانُ من شفتيه

شغف العذار بخدّه ورآه قد

نعست لواحظه فدبّ عليه

وقوله أيضا مضمنا:

وضعت سلاح الصبر عنه فما له

يغازل بالألحاظ من لا يغازله

وسال عذارٌ فوق خدّيه سائلٌ

على خدّه فليتق الله سائله

ولبعضهم في ذم العذار:

غدا لمَّا التحى ليلاً بهيماً

ص: 282

.. وكان كأنذه قمرٌ منيرُ

وقد كتب السواد بعارضيه

لمن يقرا وجاءكم النذير

ولآخر:

ما زال ينتف ريحاناً بعارضه

حتى استطال عليه صار يحلقه

كأنّه طور سينا فوق عارضه

طول الزمان فموسى لا يفارقه

برهان الدين القيراطي:

شبّه السيف والسنان بعيني

من لقتلي بين الأنام استحلاّ

فأبى السيف والسنان وقالا

حدّنا دون ذاك حاشا وكلاّ

ابن الصائغ:

لمثلي من لواحظها سهام

لها في القلب فتكٌ أيُّ فتكِ

إذا رامت تشكُّ به فؤاداً

يموت المستهام بغير شكِّ

الصلاح الصفدي:

يا عاذلاً لي على عينٍ محجّبةٍ

خفْ سحر ناظرها فالسحر فيه خفي

وخذ فؤادي ودعه نصب مقلتها

لا ترمِ نفسك بين السهم والهدف

آخر:

أنفقت كنز مدامعي في ثغره

وجمعت فيه كلَّ معنىً شاردِ

وطلبت منه جزاء ذلك قبلةً

فمضى وراح تغزّلي في البارد

عز الدين الموصلي:

كالزرد المنظوم أصداغه

وخدّه كالورد لما وردْ

بالغت في اللثم قبّلته

في الخدّ تقبيلاً يفكُّ الزرد

ص: 283

ابن نباتة:

انسيةً في مثال الجنِّ تحسبها

شمساً بدت بين تشريقِ وتغميم

شقَّت لها الشمس ثوباً من محاسنها

فالوجه للشمس والعينان للريم

آخر:

بصدرها كوكباً درٍّ كأنهمّا

ركنان لم يدنسا من لمس مستلم

صانتهما بستورٍ من غلائلها

فالناس في الحلّ والركنان في الحرم

الصلاح الصفدي:

تقول له الأغصان مذْ هزَّ عطفه

أتزعم أنَّ اللين عندك ما قوى

فقم نحتكم للروض عند نسيمه

ليقضي على من مال منّا إلى الهوى

وكأنه ينظر إلى قول السراج:

ومهفهفٍ عنيّ يميل ولم يمل

يوماً إليَّ فَصِحْتُ من ألم الجوى

لم لم تميل إليَّ يا غصن النقى

فأجاب كيف وأنت من جهة الهوى

أراد ملك الروم أن يباهي أهل الإسلام فبعث إلى معاوية رجلين أحدهما طويل والثاني قصير شديد القوة فدعا للطويل بقيس بن سعد بن عبادة فنزع قيس سراويله ورمى بها إليه فلبسها الطويل فبلغت

ص: 284

ثدييه فلاموا قيساً على نزع السراويل فقال:

أردت لكيما يعلم الناس أنَّها

سراويل قيسٍ والوفود شهودُ

وكيلا يقولوا خان قيسٌ وهذه

سراويل عادٍ أحرزتها ثمود

وإني من القوم اليمانين سيّدٌ

وما الناس إلاّ سيّدٌ ومسود

ثم دعا معاوية للرجل الشديد القوة بمحمد بن الحنفية فخيره بين أن يقعد فيقيمه أو يقوم فيقعده فغلبه في الحالتين وأنصرفا مغلوبين.

وحكى الجاحظ ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له أعمل مثل هذا فبقيت مبهوتاً ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان فقلت: لا أدري كيف أصوِّره فأتت بك إليَّ لأصوره على صورتك وفي الجاحظ يقول بعضهم:

لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً

ما كان إلاّ دون قبح الجاحظ

رجلٌ ينوب عن الجحيم بوجهه

وهو القذى في عين كل ملاحظ

لو أن مرآةً جلت لمثاله

ورآه كان له كأعظم واعظ

قيل إنه قدم تاجر إلى المدينة يحمل من أخمرة العراق فباع الجميع غلا السود فشكا إلى الدارمي وقد تنسك وتعبد فعمل بيتين وأمر من يغني

ص: 285

بهما في المدينة وهما:

قل للمليحة في الخمار الأسود

ماذا فعلت بزاهدٍ متعبد

قد كان شمر للعبادة ذيله

حتى وقفت له بباب المسجد

فشاع الخبر في المدينة أن الدارمي رجع عن زهده وتعشق صاحبة الخمار الأسود فلم تبق في المدينة مليحة إلا اشترت لها خماراً أسود فلما أنفذ التاجر ما كان معه رجع الدارمي إلى تعبده وعمد إلى ثياب نسكه فلبسها.

ومر رجل أشمط بامرأة عجيبة في الجمال فقال يا هذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه وإلا فاعلمينا فقالت كأنك تخطبني قال نعم فقالت إنَّ في عيباً قال وما هو قالت شيب في رأسي فثنى عنان دابته فقالت على رسلك فلا والله ما بلغت عشرين سنة ولكنني أحببت أن أعلمك أني أكره منك مثل ما تكره مني.

وقال عبد الله الماجشون وهو من فقهاء المدينة قال لي المهدي يوما يا ماجشون ما قلت حين فارقت أحبابك قال قلت يا أمير المؤمنين:

لله باكٍ على أحبابه جزعاً

قد كنت أحذر هذا قبل أن يقعا

ما كان والله شؤمُ الدهر يتركني

حتى يجرّعني من بعدهم جزعا

إنّ الزمان راى إلف السرور لنا

فدبّ بالبين فيما بيننا وسعى

ص: 286

فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهداً

فلا زيادة شيءٍ فوق ما صنعا

فقال والله لأعيننك فأعطاه عشرة آلاف دينار.

وحكى بعضهم قال دخلنا إلى دير هرقل فنظرنا إلى مجنون في شباك وهو ينشد شعراً فقلنا له أحسنت فأومأ بيده إلى حجر يرمينا به وقال لمثلي يقال أحسنت ففررنا منه فقال أقسمت عليكم إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أنا أحسنت فقولوا أحسنت وإن أنا أسأت فقولوا أسأت فرجعنا إليه فأنشد يقول:

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمُ

وحَّملوها وسارت بالدّمى الإبلُ

وقلّبت بخلال السجف ناظرها

ترنو إليَّ ودمع العين ينهمل

وودعت ببنانٍ زانها عنمٌ

ناديت لاحملت رجلاك يا جمل

يا حادي العيس عرّج كي أودّعهم

يا حادي العيس في ترحالك الأجل

إنيّ على العهد لم أنقض مودّتهم

يا ليت شعري لطول البعد ما فعلوا

فقلنا له ماتوا فقال وأنا والله أموت ثم شهق شهقة فإذا هو ميت.

قيل لما وفد المهدي من الري إلى العراق امتدحه الشعراء فقالوا أبو دلامة:

إني نذرت لئن رأيتك قادماً

أرض العراق وأنت ذو وفرِ

لتصلِّينَّ على النبيّ محمّدٍ

ولتملأنّ دراهماً حجريَ

ص: 287

فقال المهدي صلى الله على محمد فقال أبو دلامة ما أسرعك للأولى وأبطأك عن الثانية فضحك وأمر ببدرة فصبت في حجره.

وتزوج مغنٍّ بنائحة فسمعها تقول اللهم أوسع لنا في الرزق فقال لها يا هذه إنما الدنيا فرح وحزن وقد أخذنا بطرفي ذلك فإن كان فرح دعوني وإن كان حزن دعوك.

وكان عروة بن الزبير صبوراً حين يبتلي حكي أنه خرج إلى الوليد بن يزيد فوطىء عظماً فما بلغ دمشق حتى بلغ به كل مذهب جمع له الوليد الأطباء فأجمع رأيهم على قطع رجله فقالوا له اشرب مرقداً فقال ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى فأحمي له المنشار وقطعت رجله فقال ضعوها بين يدي ولم يتوجع ثم قال لئن كنت ابتليت في عضو فقد عوفيت في أعضاء فبينما هو كذلك إذا أتاه خبر ولده أنه اطلع من سطح على دواب الوليد فسقط بينها فمات فقال الحمد لله على كل حال لئن أخذت واحداً لقد أبقيت جماعة.

وقدم على الوليد وفد من عبس فيهم شيخ ضرير فسأله عن حاله وسبب ذهاب بصره فقال خرجت مع رفقة مسافرين ومعي مالي وعيالي ولا أعلم عبسياً يزيد على مالي فعرسنا في بطن واد فطرقنا سيل فذهب

ص: 288

ما كان لي من أهل ومال وولد غير صبي صغير وبعير فشرد البعير فوضعت الصغير على الأرض ومضيت لآخذ البعير فسمعت صيحة الصغير فرجعت إليه فإذا رأس الذئب في بطنه وهو يأكل فيه فرجعت إلى البعير فحطم وجهي برجليه فذهبت عيناي فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل فقال الوليد اذهبوا به إلى عروة ليعلم إن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه.

ومما نقلته ما حكي عن مسلم بن الوليد أنه قال: كنت يوماً جالساً عند خباء لي بازاء منزلي فمر بي إنسان أعرفه فقمت إليه وسلمت عليه وجئت به إلى منزلي لأضيفه وليس معي دراهم بل كان عندي زوج أخفاف فأرسلتهما مع جاريتي لبعض معارفي فباعهما بتسعة دراهم واشترى بها ما قلته لها من الخبز واللحم فجلسنا نأكل وإذا بالباب يطرق فنظرت من شق الباب وإذا بإنسان يسأل هذا منزل فلان ففتحت الباب وخرجت فقال أنت مسلم بن الوليد قلت نعم واستشهدت له بالضيف على ذلك فأخرج لي كتاباً وقال هذا من الأمير يزيد بن مزيد فإذا فيه قد بعثنا لك بعشرة آلاف درهم لتكون في منزلك

ص: 289

وثلاثة آلاف درهم تتجمل بها لقدومك علينا فأدخلته إلى داري وزدت في الطعام واشتريت فاكهة وجلسنا فأكلنا ثم وهبت لضيفي شيئاً يشتري به هدية لأهله وتوجهنا إلى باب يزيد بالرقة فوجدناه في الحمام فلما خرج استؤذن لي عليه فدخلت فإذا هو جالس على كرسي وبيده مشط يسرِّح به لحيته فسلمت عليه فرد أحسن رد وقال ما الذي أقعدك عنا قلت ذات اليد وأنشدته قصيدة مدحته بها قال أتدري لم أحضرتك قلت لا أدري قال كنت عند الرشيد منذ ليال أحادثه فقال لي يا يزيد من القائل فيك هذه الأبيات:

سلَّ الخليفة سيفاً من بني مضرٍ

يمضي فيخترق الأجسام إلهاما

كالدهر لا ينثني أبداً عمَّا يهمُّ به

قد أوسد الناس إنعاماً وإرغاما

فقلت والله لا أدري يا أمير المؤمنين فقال سبحان الله أيقال فيك مثل هذا ولا تدري من قاله: فسألت فقيل لي هو مسلم بن الوليد فأرسلت إليك فانهض بنا إلى الرشيد فسرنا إليه واستؤذن لنا فدخلنا عليه فقبلنا الأرض وسلمت

ص: 290

فرد علي السلام فأنشدته ما لي فيه من شعر فأمر لي بمائتي ألف درهم وأمر لي يزيد بمائة وتسعين ألف درهم وقال ما ينبغي لي أن أساوي أمير المؤمنين في العطاء انتهى.

نادرة قيل ترافق رجلان في طريق فلما قربا من مدينة من المدن قال أحدهما للآخر قد صار لي عليك حق وإني رجل من الجان ولي إليك حاجة قال وما هي قال إذا وصلت إلى المكان الفلاني من هذه المدينة فهناك عجوز عندها ديك فاشتره منها وإذبحه فقال له الآخر وأنا أيضاً لي إليك حاجة قال وما هي قال إذا ركب الجني إنساناً ما يعمل له قال تشد إبهاميه بسير من جلد اليحمور وتقطر في أذنيه من ماء السَّذاب أربعاً وفي السرة ثلاثاً فإن الراكب له يموت ثم تفرقا ودخل الأنسي ففعل ما أمره به الجني من شراء الديك وذبحه فلم يشعر بعد إلا وقد أحاط به أهل صبية من تلك البلدة وقالوا له أنت ساحر ومن حين ذبحت الدين سلبت صبية عندنا عقلها فلا نفلتك إلى إلى صاحب المدينة قال فقلت لهم أئتوني بسير

ص: 291

من جلد اليحمور وقليل من ماء السَّذاب ودخلت على الصبية فربطت إبهاميها وقطرت ماء السذاب في أذنيها فسمعت صوتاً يقول آه علمتك على نفسي ثم مات من ساعته وشفى الله تلك الشابة واليحمور دابة وحشية لها قرنان طويلان كأنهما منشاران تنشر بهما الشجر وقيل هو كالإبل يلقي قرنيه كل سنة وهما صامتان وقال الجوهري هو الحمار الوحشي.

ومن اللطائف ما حكاه أبو الفرج في كتاب النساء وابن الكرديوس في الاكتفاء قالا كانت عند أبي العباس السفاح أم سلمة بنت يعقوب بن عبد الله المخزومي وكان قد أحبها حباً شديداً ووقعت في قلبه موقعاً عظيماً فحلف لها أن لا يتخذ عليها سرية ولا يتزوج عليها امرأة فوفى لها بذلك فخلا به خالد بن صفوان يوما وقال له يا أمير المؤمنين فكرت في أمرك وسعة ملكك وأنك قد ملكت امرأة واقتصرت عليها فإذا مرضَتْ مرضْتَ وإذا حاضَتْ حضْتَ وحرمت نفسك التلذذ بالسراري واستطراف

ص: 292

الجواري ومعرفة اختلاف حالاتهن وأجناس التمتع بما تشتهي منهن فمنهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء والعتيقة الادماء والزهية السمراء والمولدات المغنيات اللواتي يفتن بحلاوتهن ولو رأيت يا أمير المؤمنين السمراء واللعساء من مولدات البصرة والكوفة وذوات الألسن العذبة والقدود المهفهفة والأوساط المختصرة والثدي النواهد المحققة وحسن زيهن وشكلهن رأيت فتنا ومنظراً حسنا وأين أنت يا أمير المؤمنين من بنات الأحرار والنظر إلى ما عندهن من الحياء والتخفر والدلال والتعطر ولم يزل خالد يجيد في الوصف ويكثر في الإطناب بحلاوة لفظه وجودة كلامه فلما فرغ قال له أبو العباس ويحك والله ما سلك مسامعي قط كلام أحسن مما سمعته منك فاعده علي فأعاده عليه أم سلمة وكانت تبرِّه كثيرا وتتحرى مسرته وموافقته في جميع ما أراده فقالت له مالي أراك مغموما يا أمير المؤمنين فهل حدث أمر

ص: 293

تكرهه أو أتاك أمر ارتعت له قال لم يكن شيء من ذلك قالت فما قصتك فجعل يكتم عنها فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد قالت فما قلت لابن الفاعلة قال سبحان الله ينصحني وتشتمينه فخرجت من عنده وأرسلت إلى خالد عبيدا وأمرتهم بضربه والتنكيل به قال خالد: وانصرفت إلى منزلي مسرورا بما رأيت من اصغاء أمير المؤمنين إلى كلامي وإعجابه بما ألقيت إليه وأنا لا أشك في الصلة فلم ألبث أن جاء العبيد فلما رأيتهم أقبلوا نحوي أيقنت بالجائزة فوقفوا علي وسألوا عني فعرفتهم نفسي فأهوى إليَّ أحدهم بعمود كان في يده فبادرت إلى الدار وأغلقت الباب ومكثت أياما لا أخرج من منزلي وطلبني أمير المؤمنين طلبا شديدا فلم اشعر ذات يوم إلا بقوم هجموا عليَّ فقالوا أجب أمير المؤمنين فأيقنت بالموت وقلت لم أردم شيخ اضيع من دمي وركبت فلم اصل إلى الدار حتى استقبلني عدة رسل فدخلت على أمير المؤمنين فوجدته جالسا فأومأ إلي بالجلوس

ص: 294

فثاب إلى عقلي وفي المجلس باب عليه ستور وقد أرخيت وخلفه حركة فقال لي يا خالد مذ ثلاث لم ارك قلت كنت عليلاً يا أمير المؤمنين قال أنت وصفت في آخر دخلة لي من أمر النساء والجواري ما لم يطرق سمعي قط كلام أحسن منه فأعده عليَّ قلت نعم يا أمير المؤمنين أعلمتك أن العرب إنما اشتقت اسم الضرّة من الضرر وإن أحداً لم يك عنده امرأتان إلا كان في ضرر وتنغيص قال ويحك لم يكن هذا في حديثك قلت نعم يا أمير المؤمنين إن الثلاث من النساء كأسفي القِدْر تغلي عليها أبداً وإن الأربع شر مجموع لصاحبه يمرضنه ويسقمنه ويضعفنه وإن أبكار الأماء رجال ولكن لا خصي لهن قال فقال أبو العباس: برئت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منك من هذا شيئاً قط قال خالد بلى والله يا أمير المؤمنين وعرفتك إن بني مخزوم ريحانة قريش وإن عندك ريحانة الرياحين وأنت تطمح بعينك إلى الإماء والسراري قال خالد فقال لي أبو العباس

ص: 295

ويحك أتذكبني قلت أفتقتلني يا أمير المؤمنين قال فسمعت ضحكاً من وراء الستر وقائلا يقول صدقت والله يا عماه هذا الذي حدثته ولكنه بدل وغير ونطق على لسانك بما لم تنطق به قال خالد فقمت عنهما وتركتهما يتراودان في أمرهما فما شعرت إلا برسل أم سلمة معهم المال وتخوت ثياب فقالوا لي تقول لك أم سلمة إذا حدثت أمير المؤمنين فحدثه بمثل حديثك هذا انتهى.

ومن البدائع ما يحكى أن السلطان الملك الكامل أصبح متمرضاً فأشار عليه الأطباء باستعمال شراب ليمون شتوي فأمر بعض الخدام بإحضاره فمضى الخادم وأحضر شراب ليمون سائل فقال الطبيب ما طلبت إلاّ شتوياً وهذا سائل ردوه فقال الامير صلاح الدين والله مامن عادة مولانا السلطان ان يرد سائلاً فقال السلطان والله ما أرد سائلا هاتوه أحسنت والله يا صلاح الدين فأكله وكان الشفاء فيه.

ونظير ذلك ما حكي أنه كان بالقاهرة شاب حسن الوجه يسمى بركن الدين وله معلم اسمه إبراهيم كان ربما يتهم به وكان بعض

ص: 296

الأدباء يميل إلى هذا الصبي وله فيه غزل حسن قال الناقل فركبت يوماً مع الأمير صلاح الدين فمررنا على باب ذلك الصبي فوجدت ذلك الأديب قريباً من الباب فقلت له أي شيء تصنع ههنا فقال أطوف بالبيت فلعلي أستلم الركن أو أصل إلى مقام إبراهيم فاستحسنت ذلك منه وسألني الأمير صلاح الدين ما معنى ذلك فغالطته في الجواب فأقسم أن لا بد أن أخبره فأخبرته فاستحسن ذلك منه وأمر بإحضاره إلى مجلسه ونال منه راحة.

ذكر ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم الأدباء عن محمد بن عثمان بن أبي خيثمة السلمي عن أبيه عن جده قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف ذات ليلة في سكك المدينة إذ سمع امرأة تقول:

هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربها

أم من سبيلٍ إلى نصر بن حجاج

إلى فتىً ماجدِ الأعراق مقتبلٍ

سهل المحيَّا كريمٍ غير ملجاج

ص: 297

تنميه أعراق صدقٍ حين تنسبه

أخي وفاءٍ عن المكروب فرّاج

فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا أدري معي بالمدينة رجلا تهتف به العواتق في خدورهن عليّ بنصر بن حجاج فلما أصبح أتى بنصر بن حجاج فإذا هو من أحسن الناس وجهاً وأحسنهم شعراً فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذنَّ من شعرك فأخذ من شعره فخرج من عنده وله وجنتان كأنهما شقتا قمر فقال له اعتم فاعتم فافتتن الناس بعينيه فقال له عمر والله لا تساكنني في بلدة أنا فيها فقال يا أمير المؤمنين ما ذنبي قال هو ما أقول لك ثم سيره إلى البصرة وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدو من عمر إليها شيء فدست إليه أبياتاً وهي:

قل للإمام الذي تُخشى بوادره

مالي وللخمر أو نصر بن حجاج

لا تجعل الظّنّ حقاً أن تبِّيته

إنَّ السبيل سبيل الخائف الراجي

إنَّ الهوى زُمَّ بالتقوى لتحجبه

حتى يقرَّ بألجام وإسراج

قال فبكى عمر رضي الله

ص: 298

تعالى عنه وقال الحمد لله الذي زم الهوى بالتقوى قال وطال مكث نصر بن حجاج بالبصرة فخرجت أمه يوماً بين الأذان والإقامة متعرضة لعمر فإذا هو قد خرج في إزار ورداء وبيده الدرة فقالت يا أمير المؤمنين والله لأقفنَّ أنا وأنت بين يدي الله تعالى وليحاسبنَّك الله أيبيتن عبد الله وعاصم إلى جنبيك وبيني وبين ابني الفيافي والأودية فقال لها: إنَّ ابنيَّ لم تهتف بهما العواتق في خدورهن ثم أرسل عمر إلى البصرة بريداً إلى عتبة فقال عتبة من أراد أن يكتب إلى أمير المؤمنين فليكتب فإن البريد خارج فكتب نصر بن حجاج بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك يا أمير المؤمنين أما بعد فإسمع مني هذه الأبيات:

ص: 299

لعمري لئن سيَّرتني أو حرمتني

وما نلت من عرضي عليك حرامُ

فأصبحت منفيّاً ملوماً بمنيةٍ

وبعض أمانّي النساء غرام

ظننت بي الظن الذي ليس بعده

بقاء ومالي جرمة فالام

فيمنعني ممَّا تقول تكرُّمي

وآباء صدقٍ سالفون كرام

ويمنعها مّما تقول صلاتها

وحالٍ لها في قومها وصيام

فهاتان حالانا فهل أنت راجعي

فقد جُبّ مني كاهلٌ وسنام

قال فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال أمّا وليُّ السلطان فلا وأقطعه داراً بالبصرة في سوقها فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه المدينة.

قيل دخل بعض العشراء على الأديب جمال الدين بن نباتة فرأى

ص: 300

في نواحي منزله نملا كثيراً فأنشد يقول:

مالي أرى منزل المولى الأديب به

نملٌ تجمّع في أرجائه زمرا

فأجابه ابن نباتة بقوله:

لا تعجبنّ إذن من نمل منزلنا

فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا

هذا آخر ما أردت إيراده في هذا الذيل مما وقفت عليه من المستطرف والنكات المفتخرة والزند الواري والتالد والطريف وغير ذلك والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 301