الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة سماحة المفتي
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن ليوم عرفة شرفا عظيما وفضلا كبيرا، ذلكم اليوم العظيم الذي نالت فيه الأمة المحمدية وسام الرفعة والشرف على سائر الأمم؛ إذ في ذلك اليوم أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، أنزلها على نبيه وهو واقف يوم عرفة في يوم الجمعة.
ولقد انتبه لهذا الفضل العظيم بعض أتباع الملل الأخرى كاليهود، «قال يهودي لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال:. قال عمر: إني أعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم الجمعة (3) » ،
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
صحيح البخاري الإيمان (45) ، صحيح مسلم التفسير (3017) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3043) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5012) ، مسند أحمد (1/28) .
(3)
سورة المائدة الآية 3 (2){الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
وكلاهما لنا عيد.
أخي المسلم، خطبة يوم عرفة خطبة تميزت بأنها خطبة تلقى على مسامع الحجيج على اختلاف بلادهم ولغاتهم، وزادت أهمية في هذا العصر الذي أصبحت تبث فيه بواسطة الأقمار الصناعية إلى أرجاء المعمورة، يسمعها العالم كله في آن واحد. إذا فلهذه الخطبة شانها وفضلها، وينبغي العناية بها قدر الإمكان.
ومن منة الله علينا وتوفيقه لنا أن هيأ لنا إلقاء الخطبة بمسجد نمرة يوم عرفة منذ عام (1402 هـ) ، فلقد تلقيت في خامس ذي القعدة عام (1402 هـ) خطابا موجها لي من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته- تضمن هذا الكتاب العهد إلي بإلقاء خطبة يوم عرفة بنمرة، نيابة عن فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ -الذي طالما صعد هذا المنبر لعقود عديدة-، وباشرت الخطبة في ذلك العام، وفي العام التالي كذلك، ثم جاء التوجيه من خادم الحرمين الشريفين رحمه الله في عام (1404 هـ) بالخطابة في هذا المكان بصفة مستمرة، أرجو من الله أن نوفق فيها لكل خير.
أخي المسلم، إن هذه الخطبة بحق تهم من يلقيها ويتحدث
فيها، حيث إن الواقع يقتضي ذلك، فأنت تخاطب العالم لتوضح فيها شريعة الإسلام: محاسن هذه الشريعة، ومزاياها، وخصائصها، لتدعو العالم إلى التدبر والتعقل والتأمل، لتقول لهم: هذه شريعة الله، هذا دين الله، هذه أخلاق الإسلام، هذه مبادئ الإسلام تمسكوا بها أيها المسلمون، واقبلوا الإسلام يا من لم يعتنقه؛ فهو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه.
إن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد خطباء يوم عرفة على الإطلاق، إنه خطب الناس في ذلك المجمع الكريم خطبة كانت وجيزة في لفظها، كثيرة في معانيها، ولا غرو فهو سيد أهل البيان صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح الخلق بيانا، وأحسنهم أداء، وأقدرهم على جمع المعاني في الكلمة الواحدة؛ حيث أعطاه الله جوامع الكلم، واختصر له اختصارا، ألقى تلك الخطبة العظيمة التي بين فيها حرمة أموالهم، وأن تحريم الدماء والأموال حرام كتحريم هذا اليوم العظيم في بيت الله الحرام، وفي الشهر الحرام، بين فيها ما للمرأة من حقوق وما عليها من واجبات، بين للأمة أن الله ألغى به مآثر الجاهلية التي قبل الإسلام، سواء في الأموال أو الدماء أو الأعراض. قال لهم:«إن كل أمر من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع (1) » . وحقا إنه قضى على ظلم الجاهلية
(1) صحيح مسلم الحج (1218) ، سنن أبي داود المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي المناسك (1850) .
وضلالتها، وأقام المجتمع المسلم الوسطي القائم على العدل والخير والهدى، ألغى فيها ما كان بينهم من معاملات ربوية، وخص عمه العباس لأنه كان ممن يتعامل بالربا، وليكون أمر العباس أمرا شاملا للجميع.
ألغى فيها دعوات الجاهلية وآثارها السيئة في الدماء.
كل ذلك يبين أن الإسلام جاء لينقل العالم من حياة إلى حياة، من صورة قاتمة مظلمة إلى صورة مشرقة، ليستقبلوا عملا جديدا، ولينسوا الماضي اللئيم، وليستقبلوا عمرا جديدا وأياما سعيدة، حقا إنها أيام الخير والبركة، لقد ذكر الله الأمة بهذه النعمة فقال:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (1)
إن الرعيل الأول من هذه الأمة يتذكرون تلك الضلالات التي كانوا يعيشونها، وتلك المصائب التي مرت بهم، ويتذكرون نعمة الله عليهم بهذا الدين الذي جمع بين قلوبهم، ووحد به صفوفهم، وأخرجهم به من ظلمات الجهل إلى نور العلم والهدى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) .
(1) سورة البقرة الآية 198
(2)
سورة آل عمران الآية 164
موقف يوم عرفة موقف إسلامي غيرته الجاهلية وحرفته عن سبيله، فكان سكان الحرم لا يقفون بعرفة ويقولون: نحن أهل الحرم نقف بالحرم. ويجعلون موقف عرفة للآفاقيين، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم وأعاد الحج على قواعد إبراهيم، فوقف بعرفة وقال:«الحج عرفة (1) » . وقال: «وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف (2) » .
أخي المسلم، دونك خطبا جمعتها لمدة عشر سنوات، وهي من عام (1402 هـ) إلى عام (1411 هـ) ألقيتها بمسجد نمرة.
هذه الخطب المتواضعة التي حرصت فيها بتوفيق من الله أن تكون خطبا شاملة جامعة لأصول الدين، فتحدثت عن العبادة، وعن الأخلاق، وعن مناسك الحج، وماذا يجب على المسلمين نحو دينهم ونحو أنفسهم، هي خطب تعالج تلك القضايا، أسال الله أن أكون موفقا فيها للصواب.
وما وجدته يا أخي فيها من أسلوب قد لا يعجبك أحيانا، أو بعض الأخطاء التي ليست مقصودة، فإني أرجو أن تصحح هذا الخطأ، وأن تدعو لمن ألقاها بالمغفرة والرضوان، وأرجو من الله أن يعم نفعها وأن يكون في إخراجها خير للإسلام والمسلمين.
(1) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3016) ، سنن أبي داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد (4/335) ، سنن الدارمي المناسك (1887) .
(2)
صحيح مسلم الحج (1218) ، سنن أبي داود المناسك (1907) ، مسند أحمد (3/321) .
وفي ختام كلمتي هذه أحب أن أنوه بأمر عظيم مهم، ألا وهو ما من الله به على العالم الإسلامي في هذه المائة عام المتأخرة، حيث هيأ الله لهم زيارة البيت الحرام لأداء العمرة والحج للوقوف بتلك المشاعر العظيمة، وزيارة مسجد محمد صلى الله عليه وسلم، لقد كان الحج لبيت الله الحرام أمنية تختلج في نفس كل مؤمن يتمنى أن يزور البيت الحرام، ولو في عمره مرة، ولقد مضى على العالم الإسلامي بعد القرون الثلاثة المفضلة سنون عديدة تمر بهم، ما يأتي البيت الحرام من أرجاء العالم الإسلامي أحد إلا النزر من الناس، فيتعذر من المشرق الإسلامي أو من مغربها الوصول إلى الحج، لماذا؟
يتعذر أولا لصعوبة الوصول إلى البيت الحرام، ولاختلال الأمن في العالم الإسلامي، بعد ضعف الدولة الإسلامية ضعف الأمن وكثر الخوف وقطاع الطرق الذين ينهبون الناس ويسلبون أموالهم، وربما قتلوهم، وربما استرقوهم.
إن الحج أصبح مشكلة من أكبر المشاكل، ولقد مضى على بعض علماء الأمة ذوي المكانة والفضل عمرهم، ما تمكن واحد منهم من زيارة البيت الحرام، فسبحان الحكيم العليم!
ولكن في هذه العصور المتأخرة منذ أيام الملك عبد العزيز –غفر الله له– فإن الله جعل على يديه تسهيل أمر الحجيج، فأمن الوصول إلى البيت
الحرام.
ثم البيت الحرام – ولله الحمد – آمن في هذه الأزمنة شرعا وقدرا، آمن شرعا بما ألزم الله المسلم من احترام أمنه والتأدب فيه، وآمن قدرا بما هيأ الله له من أولئك القيادة الذين بذلوا كل غال ونفيس في سبيل تأمين راحة الحجيج.
إن تأمين راحة الحجيج أمر مهم، اعتنت به هذه الحكومة – وفقها الله -، اعتنت بالطرق الموصلة إلى البيت الحرام، ثم اعتنت بأمنه، واعتنت بعمارته، واعتنت برخائه، فأصبح البلد الأمين رخاء سخاء، يأتي الحاج من أقصى الدنيا لا سلاح يحمله، لا زاد يصحبه، ولهذا ترى العدد الكثير يأتون البيت الحرام من طريق الجو، وهؤلاء الذين يأتون من طريق الجو لا يحملون زادا ولا سلاحا؛ لأنهم يجدون أمنا ورخاء واستقرارا وطمأنينة.
إن من يشاهد الحرمين الشريفين، وهذه التوسعة العظيمة والمتوالية والخدمات المستمرة، ليسأل الله لأولئك القادة أن يوفقهم ويسدد خطاهم، ويجزيهم عما فعلوا خيرا.
لقد بذل الملك عبد العزيز – رحمه الله – جهده العظيم في تأمين الحجيج، فيسر الله عليه هذه النعمة، ثم تعاقب أبناؤه الكرام: سعود،
وفيصل، والملك فهد بن عبد العزيز – رحم الله الجميع -، ثم دور خادم الحرمين الملك عبد الله – وفقه الله وأيده ونصره –، وما من أولئك إلا وله لمسات في تيسير أمر الحجيج وتذليل الصعاب: كالتوسعة في بيت الله الحرام، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حصل أيضا في المشاعر من تسهيل وتيسير: أنفاق أقيمت، طرق هيئت، مياه كثيرة يسر الوصول إليها، وهذه الخيام المتعددة، كل ذلك من توفيق الله، فوفق الله خادم الحرمين، وشد أزره بصاحب السمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي عهده الأمين، الذي ساعد وساهم في هذا الأمر العظيم، فجزى الله الجميع خيرا، ووفقهم لما يحبه ويرضاه.
وإنما قلت ذلك حقيقة، يشهدها كل من أتى إلى هذه البلاد المقدسة فرأى الأمن والاستقرار والطمأنينة والخدمة والرعاية، وبذل كل الوسائل في سبيل راحة الحجيج.
فالدولة تستنفر كل قواها وتبذل كل جهودها، وما من إدارة حكومية إلا ولها تعلق في هذا المسجد الحرام، تؤدي الواجب الذي عليها، وذلك بتوفيق الله، ثم بتوجيه قادة هذا البلد، وفقهم الله وسدد خطاهم، ورزقهم الاستقامة والسير على الخير والهدى، ووفق المسلمين جميعا لشكر نعمة الله وحسن عبادته.
وإني أشكر الله قبل كل شيء، ثم أشكر أخانا الشيخ بدر بن محمد الوهيبي، الذي انبرى لجمع هذه الخطب والإشراف عليها، فجزاه الله خيرا، ووفقنا وإياه لما يحب ويرضى.
وصلى الله وسلم وبارك عبده ورسوله محمد.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ