المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الغربلة قوام الحياة((أيضا)) - جريدة «الشريعة» النبوية المحمدية - جـ ٤

[ابن باديس، عبد الحميد]

الفصل: ‌الغربلة قوام الحياة((أيضا))

_________

الصفحة 3

ــ

ـ[عمود:1]ـ

أن تفكر وعلى الأيدي أن تعمل وعلى الأرجل أن تسعى وعلى الألسن أن تتفتق بكل مفيد - إن في كل ذلك لجوابا للظانين وردا على ما ظنوه.

هذه هي غاية الجمعية التي تسعى لها وتبذل كل عزيز في الوصول إليها وسواء تبدلت الإدارة أو بقيت وسواء واجهها الدهر بالبشر والطلاقة أو بالتهجم والعبوس وسواء أحسنت العبارات تأدية معناها للناس أو لم تحسن.

وسواء خفت لهجات الناشرين لدعوتنا أو اشتدت فتلك هي الغاية وتلك الحالات كلها إنما هي أعراض تسرع بالجمعية في الوصول إلى الكمال أو تبطئ ولكنها لا تخرجها عن المبدأ ولا تزحزحها عن جادته ..

وإننا نبتهل إلى الله أن يقيض لها في كل دور من أدوارها رجالا مخلصين حكماء يستلمونها بيضاء نقية ويسلمونها لمن بعدهم أشد ما تكون بياضا وأشد ما تكون نقاء ويتلقونها وهي أمانة وعهد فيؤدونها لمن بعدهم وهي أمانة وعهد.

وأن يمكن لهم من وسائل التيسير كل ما عجزنا عنه وأن يسدد خطاهم في حملها ويشدد عزائمهم في الدفاع عنها وأن يقوي بصائرهم في تحميلها وأدائها فما هي بميثاق الفرد للفرد ولكنها عهد الجيل للجيل.

أيها الإخوة الكرام

إني لم أر مثلا أضربه لجمعيتكم هذه وهي لم تزل في المهد إلا شيئا نسميه تباشير الصبح هو تلك اللمع المتفرقة من النور في الشرق قبل أن ينشق عمود الفجر يرتاح لها الساري في ظلمات الليل لأنه يرى فيها العنوان الصادق على قرب الخروج من المعاسف والخبط في مضلات السبل-

ويرتاح لها المهموم الساهر الذي يبيت يراعي النجوم لأنه يرى فيها متنفسا لهمه وسببا لسلواه وإن لم تكن حدا لبلواه.

ويرتاح لها المقرور الشاتي لأنه يرى فيها مخايل من آية النهار.

ويرتاح لها الناسك لأنه يسمع فيها الداعي المثوب بعبادة ربه.

ـ[عمود2]ـ

ويرتاح لها الشاعر لأنه يرى فيها مسرحا لخياله وأفقا لروحانيته ويرتاح لها العامل الملتذ بعمله لأنه يرى فيها الأمارة المؤذنة بقرب وقت العمل.

ولكن هل يدرك النائمون شيئا من تلك اللذة؟ نعم إن جمعية العلماء هي تباشير الصبح وسترونها تتصدع عن فجر صادق ثم عن شمس مشرقة.

أطال الله أعماركم أيها الإخوة حتى تثملوا بكل ما في تلك الشمس من إشراق ونور وبهاء وجمال وبكل ما تحمله تلك الشمس من أسباب الحياة.

‌الغربلة قوام الحياة

((أيضا))

ما كان يخطر ببالي أن أكتب مقالا عنوانه هذا، لأن هذا العنوان قد مر عليه عام كامل، فكنت ناسيه لكن جمع غفير من الأدباء والفضلاء في الاجتماع العام الواقع يوم 26 جوان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين اقترح علي أن أكتب مقالا عنوانه ((الغربلة قوام الحياة))، واستحسنوا إعادته و أعجبهم غربالي.

و كنت أسأل نفسي هل هذا الإعجاب بغربالي له أسباب وموجبات، ولكل شيء أسباب وموجبات؟ فذهبت أستقصيها فاهتديت وأجبت بأن ((الغربلة قوام الحياة حقا))، فها قد ظهرت نتائج غربلتك في هذا الاجتماع الذي نحن فيه على سرر متقابلين، ولمس الجميع هذه النتائج لمسا وسمعت الكثير من الأدباء يرددها على لسانه عند نهاية كل اجتماع من اجتماعات الجمعية وما يسع مثلي أمام رجال الأدب إلا الإجابة وحسن الطاعة، فأجبت وها أناذا أغربل: أغضب الحق على الباطل، أم غضبت الفضيلة على الرذيلة. أم هو استعداد في الجزائري أم هي من محاسن الصدف أم ماذا؟. أم هو صحو من الأحلام وطول المنام أم شدة

ـ[عمود3]ـ

بعد لين، أم حدة بعد سكون، أم صحة بعد سقام، أم ماذا؟

هي مجموعة عوامل صادفت من الجزائري مواهب اختص بها من دون سائر الناس وغرائز فطرية نبيلة، واستعدادات عصامية فنفض الكرى من عينيه وسط هذه الزعازع واستأنف سفر الحياة ورحلة الأيام.

والجزائري إن مات يجد في موته وإن نهض يجد في نهضته، وإن انتابته الحوادث وتوالت عليه الخطوب والكوارث يجد في صبره = بيد أنه صبر الكرام = فهو جاد مقبلا ومدبرا، هابطا وصاعدا، فكذلك كان الجزائري، فهمت هذا ودريته من الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الواقع يوم 26 جوان، فقدت شاهدت فيه مشاهد نبل وعز وشرف وعلم وأدب، مشاهد في منتهى الروعة والمهابة والجلال، صدقت ظنوني وتكهناتي نحو الجمعية، ولم يبق عندي ريب ولا شك، بل لم يبق معها شك لشاك، ولا لمعرقل، ولا لمضاد ومناصب، ومطل من النوافذ بالمناظير ولا لواش في أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي جمعية الأمة الإسلامية الجزائرية المحدودة غربا بالمغرب الأقصى، وشرقا بالإيالة التونسية، وشمالا بالبحر الأبيض المتوسط، وجنوبا بالصحراء الكبرى، هي جمعية ستة ملايين ونيف من النفوس، فأما الذين حضروا وشاهدوا وكانوا من الذين يؤمنون بالمشاهدة فيعلمون أنه الحق، وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الكاتب بهذا؟ أولئك هم الخاسرون.

لقد تحركت الهمم إلى الجمعية من كل مركز من مراكز القطر الجزائري غربا وشرقا وشمالا وجنوبا ومن أقصى النقط وتوافدت الوفود من كل حاضرة وكل قبيلة جاءت

ص: 3

_________

الصفحة 4

ــ

ـ[عمود:1]ـ

تروم كل مرام فمن كل صوب قدم عالمان أو ثلاثة هم في العلم علماء، وفي التفكير مفكرون، ومعهم وفود من وجوه ذلك الصقع وعيونه وذوي النفوذ والاحترام، والكلمة العلياء عند قومهم، فقطعوا المهامه والمفاوز واجتازوا الهضاب والتلاع واخترقوا الجبال وضربوا أكباد الإبل في الصحاري ومجاهلها الرملية من سوف وتوقرت وما دونها، وآثار السفر على وجوههم وتكبد مشاقه تلوح على جبينهم ونزلوا بالعاصمة تأييدا للجمعية، يرون فيها صالحهم وحياتهم الدينية والأدبية، ودفعا لكل ما ترمى به الجمعية من أنها جمعية التسعة وجمعية أفراد، وحدث عن عزائمهم المتقدة وقلوبهم المستعرة نارا نحو جمعيتهم ونحو نجاحها، هذا رغم ما اصطف في طريقهم من عراقيل ومثبطات وترهيبات ووشايات اصطفافا ولسان حالهم ينشد:

نحن النيام إذا الليالي سالمت

فإذا وثبن نحن غير نيام

قل للحوادث أقدمي أو أحجمي

إنا بنو الإقدام والإحجام

عبست إلينا الحادثات وطالما

نزلت فلم نغلب على الأحلام

الحق كل سلاحهم وكفاحهم

والحق نعم مثبت الأقدام

فينا من الصبر الجميل بقية

لحوادث خلف الغيوب جسام

فجاءوا على بكرة أبيهم صافي الاعتقاد والعقيدة يحملون فكرة الإصلاح بأجلى معانيها وأرواحا بين ضلوعهم عالية تثب للمعاني وثبا، وتطمح للحياة طموحا، فكان اجتماعهم بالعاصمة شجى في حلوق من لا يروقهم وجود هذه الجمعية. وهذه المنجاة البشرية حدا فاصلا بين الحق والباطل، وفيصلا حاسما في رفع كل نزاع وكل تقول على الأمة فحرام اليوم ولا يصح -والله-

ـ[عمود2]ـ

أن تنطق جمعية إن صح أنها جمعية أو فرد أو رئيس أو كائن بلفظة الأمة غير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكل من ذكر لفظة ((الأمة)) غير جمعية العلماء فإنه والله ليضحكنا كثيرا ويضع نفسه محل ازدراء الأمة ومنبعث السخرية والفذالك الليلية، فخير للذين لا يريدون أن تضرب بهم الأمثال في السخرية والازدراء أن يكفوا عن التعبير بالأمة وذكر لفظة الأمة وخير لهم أن ينسلخوا من هذه الجامعة التي طال استغلالهم لها كتابة ونطقا وحسا ومعنى وليدع الأمة تستغل جمعيتها وتستثمر ثمراتها اليانعة وقطوفها الدانية.

من لي بمن يحسن الإصغاء ويدرك كلامي. ويرعوي بنصائحي ويتوجع من إيلامي، ومالي أذهب في غربلتي ذهاب من يناضل عن الجمعية ويذود عن حياضها فكأنه توجد جمعيات بجانبها تناوئها ولا ورب الكعبة جمعية بعد هذا الاجتماع الأخير للجمعية يصح أن تكون لها مذاود، أو ما يجدر بالكتاب أن ينتقلوا عن ذكر كل جمعية أو كل طائفة أو كل رئيس أو كل فرد من أفراد الناس في كتاباتهم إلى ذكر فضائل هذه الجمعية وما تحمل من خير للأمة وما تنويه من أعمال وما هي طريقتها التي تريد أن تحمل عليها الناس للوصول إلى غاياتها المباركة.

فلكل مقام مقال، ولكل زمان عقلية وأسلوب ولكل سنة تحول في العمل وتجدد في الفكر، فلننتقل من قيل وقال ولنعبد الله رغبة ورهبة ولنسلك الاعتدال في عباداتنا ولندع المكان فسيحا لأهل الجدال ولنشطب عن كل شيء من هذا القبيل فلنا ثقتنا الدينية والعلمية في علماء جمعيتنا فلنعمل بما أمرونا به، ولننته عما نهونا عنه هذا إذا أردنا التقدم السريع، فهلموا بنا فهلموا.

ـ[عمود3]ـ

فنحن ولله الحمد، قد أصبحنا رجالا، لنا أن نفتخر بأعمالنا، ونتحدث بثمرات جهودنا بعد هذا الاجتماع الأخير ويجدر بالرجال أن يضربوا صفحا عن كل ما لا يهم الأمة ولنشتغل بخدمة الأمة، ولنضرب الأمثال للناس في الشجاعة، والصبر عند الملمات ولنشرع في تطبيق ما فكرنا فيه وقررناه حتى يرى الناس أعما لنا ويشاهدوها بأبصارهم ويلمسوها بأيديهم.

لست أذكر في مقالي هذا ما جرى في الاجتماعات مرتبا لها دورا بعد دور. فقد قامت الجرائد وكتابها الكرام ببيان كاف شاف فيما جرى بالجمعية في الأيام الثلاثة تفصيلا، إنما الأجدر بالمغربل أن لا يتناول من الكلام والمواضيع إلا ما لم يغربله الناس ويستحق الغربلة. حتى لا يبقى في الجمعية غث و سمين إلا غربل.

لقد حططنا رجال السفر عشية يوم الأحد 25 جوان بساحة الحكومة مع وفد عظيم من الأدباء والعلماء. وقلوبنا تحدثنا ونفوسنا تنقبض آونة وتنبسط أخرى. وعيوننا شاخصة إلى النادي، هل أولئك الجالسون على سطوحه من الوجوه النيرة والعمائم البيض من الوافدين للجمعية. أم تلك الجلسة من الجلسات المعتادة فيه، فنزلنا من السيارة وذهبنا توا إلى النادي وولجناه فإذا هو على ظاهره من أروع الظواهر، ماذا وجدنا؟ وجدنا قاعته وردهاته متراصة بالكراسي ووجدنا أصحاب العمائم البيض و الآداب الغضة والأخلاق الطرية جالسين على هذه الكراسي حتى ضاق النادي بالوافدين فعرفنا وتيقنا أن الأمر جد وأن الاجتماع هو اجتماعي إنساني عظيم. وشاهدنا بأعين رؤوسنا الهيئة العلمية حقا وكان الأستاذ الطيب العقبي الداعية الديني الكبير بالشمال الإفريقي يلقي على السامعين محاضرته العلمية الدينية المعتادة التي كان يلقيها يوم الأحد

ص: 4