الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سند الجزء
• روى هذا الجزء عن ابن السَّمَّاك:
(1)
علي بن محمَّد بن بشران:
وهو الشيخ العالم المعدِّل، المُسْنِدُ، أبو الحسين علي بن محمَّد بن عبد الله بن بِشْران، الأُمَوِيُّ البغداديُّ.
وُلِد سنة 328 هـ، وتُوفِّي سنة 415 هـ.
ترجمته في "سِيَر أعلام النبلاء"، للحافظ الذهبي (1).
وقال فيها: روى شيئًا كثيرًا على سدادٍ وصدقٌ وصحَّة رواية. كان عدلًا وقورًا.
• ورواه عنه:
(2)
أبو علي الحسن بن غالب بن علي الحربي:
ترجم له الخطيب في "تاريخ بغداد"(2) وقال: يعرف بابن المبارك.
(1) 17/ 311 - 313 (189).
(2)
7/ 400 (394).
قال الخطيب رحمه الله: كتبنا عنه وكان له سمت وهيبة، وظاهر وصلاح (1). وكا يقريء القرآن، فأقرأ بحروف خرق بها الإجماع، وادعى فيها رواية عن بعض الأئمة المتقدِّمين، وجعل لها أسانيد باطلة مستحيلة، فأنكر أهل العلم عليه ذلك إلى أن اسْتُتِيبَ منها
…
وقال أيضًا: وادَّعى ابنُ غالب أشياء غير ما ذكرناه تبيَّن فيها كذبه وظهر فيها اختلاقُه.
قال الخطيب رحمه الله: سألت ابنَ غالبٍ عن مولده؟ فقال: في آخر سنة ست وستين وثلاثمائة. ومات في ليلة السبت العاشر من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ودُفِن صبيحة تلك الليلة عند قبر إبراهيم الحربي.
• ورواه عنه:
(3)
أبو بكر محمَّد بن عبد الباقي بن محمَّد البزاز البغدادي، وهو المعروف بقاضي المَرَسْتان، الحنبليُّ:
قال فيه الذهبي: الشيخ الإِمام العالمُ المُتَفَنِّنُ، الفَرَضيُّ العدلُ، مُسْنِدُ العَصْرِ.
وُلِدَ سنة 442 هـ، وتُوُفِّي سنة 535 هـ.
وترجمته في "سِيَر أعلام النُّبلاء"(2) حافلة تدل على جلالة قدر، وغزارة علم، رحمه الله تعالى.
(1) كذا.
(2)
20/ 23 - 28.
ومن طريف ما ورد في ترجمته أنَّه وقع في أَسْرِ الروم -أثناء سفر له- وبقي سنةً ونصفًا، وقيَّدوه وغلُّوه، وأرادوهُ على كلمةِ الكُفْرِ، فأبى، وَتَعَلَّمَ منهم الخطَّ الرُّوميَّ.
وقال السمعاني: وقال لي: أَسَرَتنِي الرُّومُ، وكانوا يقولون لي: قل: المسيحُ ابنُ الله؛ حتَّى نَفْعَلَ ونَصْنَعَ في حَقِّكَ!. فما قُلْتُ!. وَتَعَلَّمْتُ الخَطَّ الرُّوميّ. ذكر ذلك كُلَّهُ الإِمامُ الذهبيُّ رحمه الله في "سِيَر أعلام النُّبلاء".
أقول: ولعلَّ هذا الأَسْر الرُّوميّ كان دافعًا له إلى رواية قصة واصلٍ الأسير الدمشقي عند الروم، والله أعلم!
• ورواه عنه:
(4)
الإِمام الشَّيخ أبو حفص عمر بن محمَّد بن مُعَمَّر بن طَبَرْزذ: والطَّبَرْزذ بذال معجمة: هو السُّكر.
وهو الشيخ المسند الكبير الرحلةُ، مسند أهل زمانه، وقد تُكُلِّم فيه بكلام لم يثبت أكثره في حقّه، كما هو الظاهر من ترجمة الإِمام الذهبي له في "سِيَر أعلام النُّبلاء"(1)، وأكثر ما قيل فيه يمكن الردّ عليه والذبّ عنه.
قال الإِمام الذهبي في آخر ترجمته: وتُوُفِّي أبو حفص بن طَبَرْزَذ في تاسع رجب سنة سبع وست مئة (2)، ودُفِن بباب حرب،
(1) 21/ 507 (266).
(2)
ومولده في ذي الحجَّة سنة 516 هـ.
والله يسامحه، فمع ما أبدينا من ضعفه قد تكاثر عليه الطلبة، وانتشر حديثُه في الآفاق وفرح الحُفَّاظُ بعواليه، ثمَّ في الزَّمن الثاني تزاحموا على أصحابه، وحملوا عنه الكثير، وأحسنوا به الظن، والله الموعد، ووثَّقه ابن نقطة. اهـ.
* * *
صورة صفحة الغلاف
صورة الورقة الأولى من المخطوطة
صورة الورقة الأخيرة من المخطوطة
بسم الله الرحمن الرحيم
لَا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، عُدَّة لِلِقَائِهِ وَأَمَانًا مِنْ عَذَابِهِ أخبرنا الشيخُ الأجل أبو حفص عمر بن محمَّد بن معمر بن طبرزذ أثابَهُ الله قراءةً عليه في مدرسةِ أصحابنا الصالحية -كَثَّرَهُم الله تَعَالَى- في يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة من سنةِ ثلاثٍ وستمائة قال:
أخبرنا أبو بكر محمَّد بن عبد الباقي البزَّاز، قال:
أخبرنا أبو علي الحسن بن غالب بن علي الحربيُّ بقراءتي عليه، فَأقَرَّ به، في يوم الثلاثاء حادي عشر ذِي الحجة من سنة ستٍّ وخمسين وأربعمائة، قال:
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمَّد بن عبد الله بن بِشْرَانَ السعْدِيُّ قراءةً عليه، في شَهْرِ ربيعٍ الأوَّل من سنة أربعمائة، فأقَرَّ بِهِ، قال:
أخبرنا أبو عَمرو (1) عثمان بن أحمد بن عبد الله، المعروف بابن
(1) الأصل: عمر، خطأ.
السَّمَّاك، قراءةً عليه، فأقَرَّ بِهِ، في صَفَرَ سنة اثنتين (1) وأربعين وثلاثمائة:
1 -
حدثنا أبو محمد عُبيد بن محمَّد بن خلف البزار صاحبُ أَبُو ثَوْرٍ (2)، حدثنا الربيع بن ثعلب أبو الفضل (3)، حدثنا يحيى بن عُقبةَ بن أبي العَيْزار (4)، عن سفيانَ الثَّوْريِّ (5)، والوليد بنِ نوحٍ (6)، والسَّرِيِّ بن مصرف (7)، يذكرون عن طلحة بن مصرف (8)، عن
(1) الأصل: اثنين.
(2)
كذا الأصل: أبو ثور؛ وهو جائز على الحكاية، والوجه: أبي ثور. له ترجمة في "تاريخ بغداد"، 11/ 100 - 101 (5795)، ووثقه الخطيب.
(3)
المروزي ثم البغدادي، له ترجمة في "الجرح والتعديل"، 3/ 456 (برقم 2060)، ونقل توثيقه وأنه أحد العابدين ببغداد. وانظر:"تاريخ بغداد"، 8/ 418.
(4)
يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، ضعيف منكر الحديث، كذَّبه ابنُ معين، وذكره الساجي والعقيلي والدولابي وابنُ شاهين في الضعفاء. وقال ابن عدي: عامَّة ما يرويه لا يتابع عليه. وخالفهم ابنُ السكن فقال: صالح الحديث. انتهى ملخصًا من "لسان الميزان"، 6/ 270 (948).
قلت: وهو آفةُ هذا الإسناد هنا.
(5)
الإِمام الجليل أمير المؤمنين في الحديث، لا يُسأل عن مثله!
(6)
الوليد بن نوح: لم أعرفه.
(7)
هو السري بن مصرف بن عمرو بن كعب، أو ابن كعب بن عمرو. قال ابنُ أبي حاتم عن أبيه: لم يكن بصاحب حديث. وقال ابن القطان: لا يُعرف، وله حديث في مسح القذال في الوضوء. "لسان الميزان"، 3/ 13 (45).
(8)
طَلحَة بن مُصَرِّف بن عَمرو بنَ كَعْب، الهمْدانيُّ، الياميُّ، أبو محمَّد، ويقال: =
مسروق (1)، عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ (2) قال:
"كَتَبْنَا لِعُمَرَ بنِ الخَطَّاب رضي الله عنه حينَ صالَحَ نَصَارَى أَهْلِ الشَّام:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتابٌ لعبدِ اللَّهِ عُمَرَ أميرِ المؤمنين، من نصارى مدينةِ كذا وكذا:
إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُم علينا سَألْنَاكُمُ الأمانَ لأنْفُسِنا، وذرارينا، وأَمْوالنا، وأهلِ مِلَّتِنا، وشَرَطْنَا لكم على أَنْفُسِنا أن لا نُحْدِثَ في مدائِننا ولا فيما حَوْلنا دَيْرًا ولا كنيسةً ولا قِلَّايةً (3) ولا صومعةَ راهبٍ، ولا نُجَدِّدُ ما خَرِبَ منها، ولا نُحييَ ما كان مِنْهَا في خطط المسلمين.
ولا نمنعَ كنائسَنَا أن ينزلها أحدٌ من المسلمينَ في ليلٍ ولا نهار.
وأَنْ نُوَسِّعَ أبوابَها للمارَّةِ وابْنِ السَّبيل. وأن ننزلَ مَنْ نَزَلَها مِنَ المُسْلِمِينَ ثلاثَ لَيَالٍ نُطْعِمُهُمْ.
= أبو عبد الله. ثقة، سيِّد قُرَّاء زمانه، من رجال "تهذيب الكمال"، 13/ 433 - 437 (2982).
(1)
مسروق بن الأجدع الإِمام الفقيه.
(2)
عبد الرحمن بن غَنْم الأشعريُّ الشامي، مختلف في صحبته، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وكان يُعرف بصاحب معاذ بن جبل لملازمته إيَّاه. وكان أفقه أهل الشام. راجع:"تهذيب الكمال"، 17/ 339 - 343 (3928).
(3)
بهامش الأصل: "الدير كالرباط، والكنيسة كالمسجد، والقلَّاية كالمعبد".
ولا نُؤوي (1) في منازِلنا ولا كنائسنا جاسوسًا. ولا نكْتُمَ غِشًّا للمسلمين.
ولا نُعَلِّمَ أَوْلادَنا القرآنَ. ولا نُظْهِرَ شِرْكًا ولا ندعو إليه أحدًا. ولا نَمْنَعَ أحدًا من ذوي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ في الإِسلامِ إِنْ أرادُوه.
وأَنْ نُوَقِّرَ المسلمينَ ونقومَ لهم في مجالسنا إذا أرادُوا الجلوسَ. ولا نتشَبَّهَ بهم في شيءٍ من لباسهم: في قَلَنْسُوَةٍ ولا عِمامةٍ، ولا نَعْلَيْنِ، ولا فَرْقِ شَعَرٍ. ولا نتكلمَ بكلامهم، ولا نتكنَّى بكُناهم.
ولا نَرْكبَ السُّروجَ ولا نتَقَلَّدَ السيُوفَ، ولا نتَخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلاحِ ولا نَحْمِلَهُ معنا. ولا ننقشَ على خواتمنا بالعربيةِ. ولا نبيعَ الخمورَ. وأَنْ نَجُزَّ مَقادِمَ رُؤُوسِنا.
وأَنْ نَلْزَمَ زَيَّنَا (2) حيثُ ما كان (3). وأَنْ نَشُدَّ زنانيرنا على أَوْسَاطنا. وَأَنْ لا نُظْهِرَ الصَّليبَ عَلَى كَنَائِسِنا، وَلَا نُظْهِرَ صُلْبَاننا وَكُتبنَا في شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِم.
(1) الأصل: نأوي.
(2)
الأصل: ديننا، وهو تحريف، وكذلك تحرف في "تاريخ دمشق"، لابن عساكر (1/ 178 - ط القديمة)، وهو على الجادة في طبعة دار إحياء التراث العربي الجديدة (2/ 120 - 121).
(3)
في تاريخ ابن عساكر: حيث ما كنا.
وَلَا نَضْرِبَ بنواقيسنا في كنائسنا إلَّا ضَرْبًا خَفيفًا. ولا نَرْفَعَ أصواتنَا بالقِراءَةِ في كنائسنا في شَيْءٍ مِن حَضْرَةِ المُسلمين.
ولا نُخْرِجَ شَعَانِينَنَا (1) ولا باعوثًا، ولا نَرْفَعَ أصواتنا مع مَوْتانا، ولا نُظْهِرَ النيرانَ مَعَهُمْ في شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ المسلمين ولا أَسْواقهم، ولا نُجاوِرَهم بموتانا.
ولا نتَّخِذَ مِنَ الرَّقيقِ ما جَرَى عليه سهامُ المسلمين. ولا نَطَّلِعَ عليهم في منازلهم".
• فَلَمَّا أتيتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَابِ رضي الله عنه بالكتابِ زادَ فيه:
"ولا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. شَرَطْنَا لَكُم ذلكَ على أَنْفُسِنَا وأَهْلِ مِلَّتِنَا وقَبِلْنَا عَلَيْهِ الأمانَ؛ فإِنْ نحنُ خالَفْنا في شَيءٍ ممَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ وضَمِنَّاهُ على أَنْفُسِنَا فلا ذمَّةَ لنا وقد حلَّ لكم [منَّا] (2) ما يَحِلُّ مِن أهل المُعَانَدة والشِّقاقِ".
(1) بهامش الأصل: "الشعنون: الصورة، والباعوث: النفير، وبطل الآن".
قلت: ولكن قال الدكتور صبحي الصَّالح رحمه الله في تعليقه على "أحكام أهل الذمَّة"، 2/ 659:(هو اسم عيد من أعياد النصارى على صيغة الجمع ولا مفرد له). اهـ. وقال المعلِّقان على الطبعة الجديدة منه: (عيد للنصارى يقع يوم الأحد السابق لعيد الفصح يُحتفل فيه بذكرى دخول عيسى عليه السلام بيت المقدس)، عن المعجم الوسيط بتصرُّف.
(2)
زيادة من ابن عساكر.
2 -
وبالإِسناد قال:
أخبرنا الشيخُ أبو الحسين علي بن محمَّد بن محمَّد بن عبد الله بن بشران السُّكَرِيُّ قال:
أخبرنا أبو عمرو عُثمان بن أحمد بن عبد الله بن السَّمَّاكِ، حدثنا عُبيدُ بن محمَّد بن خلف البزار، حدثنا الحسن بن الصبَّاح البزَّار (1)، حدثنا محمَّد بن كثير المصيصي الصنعاني (2)، عن مَخْلد بن الحسين (3)، عن واصلٍ (4) قال:
(1) أبو علي البغدادي، قال ابن أبي حاتم: سُئل أبي عنه؛ فقال: صدوق، وكان له جلالة عجيبة ببغداد، وكان أحمد بن حنبل يرفع من قدره ويجلّه. "الجرح والتعديل"، 3/ 19 (71).
(2)
ضعَّفه أحمد وغيره ووثقه الحسن بن الربيع. "الجرح والتعديل"، 8/ 69 (309).
(3)
هو مَخْلَد بن الحسين الأزديُ المُهَلَّبِيُّ، أبو محمَّد البصريُّ، نزيل المصيصة ولذا يُنسب أيضًا إليها، فهو: مصِّيصيُّ وهو ثقة، عاقل، من رجال "تهذيب الكمال"، 27/ 331 - 334 (5833).
• وتحرَّفت (مخلد) في الأصل إلى (محمَّد)، والتصحيح من "تاريخ ابن عساكر".
(4)
لعله: واصل بن عبد الرحمن البصريّ، أبو حرة، فقد ذكره المزيُّ في ترجمة مخلد بن الحسين المتقدِّم أنه يروي عنه، وذكر في ترجمته "تهذيب الكمال"، 30/ 407 (6665) أنَّه يروي عن مخلد بن الحسين.
وواصلٌ هذا وثَّقه جماعة منهم الإِمام أحمد، وضعفه بعضهم كالإِمام النسائي، والراجح أنَّه ثقة إن شاء الله.
"أُسِرَ غُلامٌ من بني بطارقة الرُّومِ -وكان غُلامًا جميلًا- فلَمَّا صاروا إلى دار السَّلام وَقَعَ إلى الخليفة (1)، وذلك في ولايةِ بني أُمَيَّة؛ فَسَمَّاهُ بَشِيرًا، وأَمَرَ بِهِ إلى الكُتَّابِ؛ فَكَتَبَ وقَرَأَ الْقُرْآنَ وروى الشِّعْرَ وقاسَ وطَلَبَ الأحاديثَ وحَجَّ. فَلَمَّا بَلَغَ واجْتَمَعَ أَتَاهُ الشَّيْطانُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ وذَكَّرَهُ النَّصْرَانِيةَ دينَ آبائِهِ؛ فَهَرَب مُرْتَدًّا مِنْ دَارِ الإِسلامِ إلى أَرْضِ الرُّوم؛ لِلَّذي سَبقَ لَهُ في أُمِّ الكتاب. فَأتِيَ به مَلِكَ الطَّاغيةِ فَسَألهُ عَنْ حَالِهِ، وما كانَ فيهِ، وما الذي دعاهُ إلى الدخولِ في النَّصْرَانِيّة؟ فَأخْبَرَهُ برغْبَتِهِ فيه. فَعَظُمَ في عَيْنِ المَلَكِ؛ فَرَأسَهُ وصَيَّرَهُ بِطْرِيقًا مِن بَطَارِقَتِهِ وأَقْطَعَهُ قُرىً كثيرةً؛ فهي اليوم تُعْرَفُ بِهِ، يقالُ لها: قُرَى بشير.
وكانَ مِنْ قضاءِ الله وقَدرِهِ أَنهُ أُسِرَ ثلاثونَ رَجُلًا مِنَ المسلمين؛ فلما دَخَلُوا على بشيرٍ، سَائَلَهُم رَجُلًا رَجُلًا عن دينهم، وكانَ فيهم شَيْخٌ مِنْ أهلِ دِمَشْقَ يقالُ له: واصل؛ فَسَاءَلَهُ بَشِيرٌ؛ فأبى الشَيْخُ أَنْ يَرُدَّ عليه شَيْئًا؛ فقالَ بَشِيرٌ: ما لَكَ لَا تُجيبُني؟
قالَ الشَّيْخُ: لَسْتُ أُجِيبُكَ اليومَ بشيْءٍ!
قالَ بَشِيرٌ للشَّيْخِ: إني سائِلُكَ غَدًا فَأَعِدَّ جوابًا، وأَمَرَهُ بِالانْصِرافِ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ بَعَثَ بَشِيرٌ؛ فَأدْخِلَ الشَّيْخُ إِلَيْهِ،
فَقَالَ بَشِيرٌ: الحمدُ للهِ الَّذي كانَ قَبْلَ أن يكونَ شَيْءٌ، وخَلَقَ سبع سماواتٍ طِباقًا بلا عَوْنٍ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَعَجبًا لكم معاشِرَ
(1) بهامش الأصل: "وهو عبد الملك بن مروان".
العَرَبِ حين تَقُولونَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} (1)!.
فَسَكَتَ الشَّيْخُ؛ فقالَ لَهُ بَشِيرٌ:
مَا لَكَ لا تُجيبُني؟ فقالَ: كيفَ أُجِيبُكَ وَأنا أَسِيرٌ في يَدِكَ؛ فإنْ أَجَبْتُكَ بما تَهوى أسْخَطْتُ عَلَيَّ رَبِّي، وهَلَكْتُ في دِيني، وإنْ أَجَبْتُكَ بما لا تَهْوَى خِفْتُ عَلَى نَفْسي؟
فأَعْطني عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ وما أَخَذَ النَّبِيُّونَ على الأُمَمِ أَنكَ لَا تَغْدِر بي ولا تمْحل (2) بي ولا تَبْغِ بي باغِيةَ سُوءٍ، وأَنّكَ إذا سَمِعْتَ الحَقَّ تَنْقَادُ لَهُ.
فقال بشيرٌ: فَلَكَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وميثاقُهُ وما أَخَذَ الله عز وجل على النَّبِيِّينَ وما أَخَذَ النَّبِيُّونَ على الأُمَمِ: أني لا أَغْدِرُ بكَ ولا أمحل بكَ ولا أَبْغي بك باغيةَ سُوءٍ وأنِّي إذا سَمِعْتُ الحقَّ انْقَدْتُ إليهِ.
قال الشَّيخُ: أمَّا ما وَصَفْتَ مِنْ صِفَةِ الله عز وجل؛ فَقَدْ أَحْسَنْتَ الصِّفَةَ. وأَمَّا ما لم يبْلُغ عِلْمُكَ ولم يستحكمِ عليه رَأْيُكَ أكثرُ، والله أَعْظَمُ وأَكْبَرُ ممَّا وَصَفْتَ؛ فلا يَصِفُ الواصفُون صِفَتَهُ.
وأَمَّا ما ذَكَرْتَ مِن هذينِ الرَّجُلَيْنِ؛ فَقَدْ أَسَأتَ الصِّفَةَ! أَلمْ يَكونا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ويَشْرَبَان ويُبَوِّلان ويَتَغَوَّطانِ وينامانِ ويَسْتَيْقِظَان ويَفْرَحَانِ ويَحْزَنَانِ؟
(1) آل عمران، الآية (59).
(2)
تمحل: من المحل، وهو المكر والكيد، كما في "القاموس" وغيره.
قَالَ بَشِير: بَلَى.
قَالَ: فَلِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا؟
قَالَ بَشِير: لأنَّ عِيسى ابن مريم عليه السلام كانَ لَهُ رُوحانِ اثنتانِ في جَسَدٍ وَاحِدٍ: روحٌ يعلمُ بها الغيوبَ وما في قَعْرِ البحارِ وما ينحاث (1) من ورق الأشجار. وروحٌ يُبرئُ بها الأَكمهَ والأَبْرَصَ ويُحْيِي بها الموتى.
قَالَ الشَّيخُ: رُوحان اثنتانِ في جسدٍ واحد؟!!
قَالَ بَشِير: نعم.
قَالَ الشَّيخُ: فهل كانت القويَّةُ تَعْرِفُ مَوْضِعَ الضَّعِيفَةِ بَيْنَهُمَا أَمْ لا؟
قَالَ بَشِير: قَاتَلَكَ الله! ماذا تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ إِنْ قُلْتُ إنَها لَا تَعْلَمُ؟ وماذا تُرِيدُ إنْ قُلْتُ إِنَّها تَعْلَمُ؟
قَالَ الشَّيخُ: إِنْ قُلْتَ إنَّهَا تَعْلَمُ، قُلْتُ: فَمَا يُغني عنها قُوَّتُها حين لا تَطْرُدُ هذه الآفاتِ عنها!؟ وإن قُلْتَ إِنَّها لا تَعْلَمُ، قُلْتُ: فكيفَ تَعْلَمُ الْغُيُوبَ وَلَا تَعْلَمُ مَوْضِعَ رُوحٍ معها في جَسَدٍ واحدٍ؟! فَسَكَت بَشِيرٌ!
قَالَ الشَّيخُ: أَسْأَلُكَ باللهِ! هَلْ عَبَدْتُمُ الصَّلِيبَ مَثَلًا لعيسى بن مريمَ أنَّهُ صُلِبَ؟
(1) بهامش الأصل: "الإنحاث: السقوط".
وفي "تاريخ دمشق": يتحات؛ بالتاء المثناة بدلًا من النون.
قَالَ بَشِير: نعم.
قَالَ الشَّيخُ: فبرضىً كانَ مِنْهُ أَمْ بِسَخَطٍ؟
قَالَ بَشِير: هذه أُخْتُ تِلْكَ! ماذا تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ؟ إِنْ قُلْتُ: برضىً مِنْهُ، قُلْتَ: ما نَقِمْتُم؟ أُعطوا ما سأَلوا وأرادوا؟ وإِنْ قلْتُ: بِسَخَطٍ، قُلْتَ: فَلِمَ تَعبُدونَ ما لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ؟
ثُمَّ قَالَ: الشيخُ لبشير: نَشَدْتُكَ بالله! هَلْ كَانَ عِيسَى يَأْكُلُ الطَّعَامَ ويَشْرَبُ ويَصُومُ ويُصَلِّي ويبولُ وَيَتَغَوَّطُ وَيَنَامُ ويَسْتَيْقِظُ ويَفْرَحُ ويحزنٌ؟
قَالَ: نعم.
قَالَ الشَّيخُ: نَشَدْتُكَ باللهِ! لِمَنْ كَانَ يصومُ ويُصَلِّي؟
قَالَ: للهِ عز وجل؛ ثُمَّ قَالَ بَشِيرٌ: والضَّارِّ النَافعِ، ما ينبغي لمثلكَ أن يعيشَ في النصرانية! أُرَاكَ رَجُلًا قد تَعَلَّمْتَ الكلامَ، وأنا رَجُلٌ صاحبُ سَيْفٍ، ولكن غدًا آتيكَ بمن يُخْزِيكَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ!
ثُمَّ أَمَرَهُ بالانْصِرَافِ.
فَلَمَّا كَانَ مِن غَدٍ، بَعَثَ بَشِيرٌ إلى الشَّيْخِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ إذا عِنْدَهُ قِسٌّ عَظِيمُ اللحيةِ.
قَالَ لَهُ بَشِيرٌ: إِنَّ هذا رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ لَهُ عِلْمٌ وعَقْلٌ وَأَصْلٌ في العرب، وقد أحبَّ الدخولَ في ديننا؛ فَكَلِّمْهُ حَتَّى تُنَصِّرَهُ؛ فَسَجَدَ القِسُّ لِبَشِيرٍ وقَالَ: قَدِيمًا أتيتَ إلى الخيرِ وهذا أَفْضَلُ مِمَّا أَتَيْتَ إليّ.
ثُمَّ أَقْبَلَ القِسُّ عَلَى الشَّيْخِ فَقَالَ: أَيُّهَا الشيَّخُ! مَا أَنْتَ بالكبيرِ الذي قد ذهبَ عَقْلُهُ وتَفَرَّقَ عَنْهُ حِلْمُهُ [ولا أنت بالصغير الذي لم يستكمل عقله ولم يبلغ حلمه]، (1)، غدًا أغطسُكَ في المعموديَّة غَطْسةً تَخرجُ منها كيومَ وَلَدَتْكَ أمُّكَ!
قَالَ الشَّيخُ: وما هذهِ المَعْمُودِيّة؟
قَالَ القسُّ: ماءٌ مُقَدَّسٌ.
قَالَ الشَّيخُ: مَنْ قَدَّسَهُ؟
قَالَ القسُّ: قَدَّسْتُهُ أنا والأساقِفَةُ قَبْلِي.
قَالَ الشَّيخُ: فهل كان لكم ذنوبٌ وخطايا؟
قَالَ القسُّ: نعم؛ غير أنَّها كثيرة.
قَالَ الشَّيخُ: فهل يُقدِّسُ الماءَ مَنْ لَا يقدِّسُ نَفْسَهُ؟
قَالَ: فَسَكَتَ القِسُّ؛ ثُمَّ قَالَ: إِنّي لَمْ أُقَدسْهُ أنا!
قَالَ الشَّيخُ: فكيفَ كانت القِصَّةُ إذنْ؟
قَالَ القسُّ: إنَّما كانت سُنَّةً مِنْ عيسى بن مَرْيَمَ.
قَالَ الشَّيخُ: فكيفَ كانَ الأمرُ؟
قَالَ القِسُّ: إنَّ يحيى بن زكريا أَغْطَسَ عيسى ابن مريمَ عليهم السلام بالأُرْدُن (2) غطسةً ومَسَحَ بِرَأْسِهِ وَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ.
(1) من "تاريخ ابن عساكر".
(2)
بهامش الأصل: "الأردن: نهر حماه، وهو العاصي".
قَالَ الشَّيخُ: فاحتاجَ عيسى إلى يحيى يمسحُ رَأسَهُ ويدعو له بالبركةِ؟! فاعبدوا يحيى، فيحيى خيرٌ لكم من عيسى إذن؟
فَسَكَتَ القسُّ؛ فاستلقى بَشِيرٌ على فِرَاشِهِ وأَدْخَلَ كُمَّهُ في فيهِ وجَعَلَ يَضْحَكُ؛ قَالَ لِلْقِسِّ: قُمْ أَخْزَاكَ الله، دَعَوْتُكَ لِتُنَصِّرَهُ فَإذا أَنْتَ قَد أَسْلَمْتَ!
قَالَ: ثُمَّ إِنَ أَمْرَ الشَّيْخِ بَلَغَ المَلِكَ؛ فَبَعَثَ إليهِ؛ فَقَالَ: ما هذا الذي قد بلغني عنكَ وعن تنقُّصِكَ ديننا وَوَقِيعَتِكَ؟
قَالَ الشَّيخُ: [إنَّ لي دِينًا كُنْتُ سُئِلْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا نصصت عنه سُئِلتُ عنهُ](1)؛ فَلَمَّا لمْ أَجِدْ بُدًّا للذبِّ عَنْهُ ذَببتُ عنه.
قَالَ المَلكُ: فهل في يَدِكَ حُجَجٌ؟
قَالَ الشَّيخُ: نعم! ادْعُ إليَّ مَن شِئْتَ يُحاجِجْنُي؛ فإنْ كان الحق في يدي؛ فَلِمَ تَلومني (2) عَنِ الذَّبِّ عَنِ الحَق؟ وإن كانَ الحق في يديكَ، رَجَعْتُ إلى الحق.
فَدَعَا الملكُ بعظيمِ النصرانية؛ فلمَّا دخل عليه سَجَدَ لَهُ الملكُ ومَن عِنْدَهُ أَجْمَعُون.
قَالَ الشَّيخُ: أَيُّها الملك، مَنْ هذا؟
(1) العبارة مضطربة هنا، وفي "تاريخ دمشق"، (65/ 288 - 289):(إنَّ لي دينًا كنتُ ساكتًا عنه، فلما سُئِلتُ عنه لم أجد بُدًّا من الذبِّ عنه). وكذلك العبارة في "مختصر تاريخ دمشق"، لابن منظور 26/ 249.
(2)
كذا، وفي "تاريخ دمشق": تَلُمني؛ وهو الصواب.
قَالَ الملكُ: هذا رَأْسُ النَّصرانِيةِ، هذا الذي تأخُذُ النَّصْرَانِيّة دينَها عنه.
قَالَ الشَّيخُ: فهل لَهُ مِنْ ولدٍ أَمْ هَلْ لَهُ مِن امرأةٍ أَمْ هل لَهُ مِن عَقِبٍ؟
قَالَ الملكُ: ما لكَ خزاكَ الله! هذا أزكى وَأَطْهَرُ أَن يُدَنَّسَ بالحيضِ (1)! هذا أزكى وأطهرُ من ذلك.
قَالَ الشَّيخُ: فأنتم تكرهونَ لآدميٍّ يكونُ مِنْهُ ما يكونُ من بني آدم من الغائطِ والبول والنوم والسهر وبأحدكم (2) من ذكر النساء، وتزعمون أَنَّ رَبَّ العالمين سَكَنَ في ظُلْمَةِ الأَحْشَاءِ (3) وضيق الرَّحَمِ وَدُنِّسَ بالحيضِ؟
قَالَ القسُّ: هذا شيطانٌ مِنْ شَيَاطِينِ العَرَبِ رَمَى بِهِ البَحْرُ إليكُم؛ فأخرِجوهُ مِنْ حيثُ جاء.
فأقْبَلَ الشَّيْخُ على القِسِّ، فَقَالَ: عَبَدْتُمْ عيسى ابن مريمَ أنّهُ لا أَبَ له؛ فهذا آدم لا أبَ له ولا أُمَّ، خَلَقَهُ اللهُ عز وجل بِيَدِهِ وأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ؛ فَضُمُّوا آدمَ مَعَ عِيسى حَتَّى يكونَ لَكُم إِلهَانِ اثنانِ!؟
فَإِنْ كُنْتُم إنَّما عبدتموه لأنَّهُ أَحْيَا المَوْتَى؛ فهذا حزقيل (4) تجدونَهُ
(1) في "تاريخ ابن عساكر"، 65/ 289:[هو أزكى وأطهر من أن يتدنَّس بالنساء، هذا أزكى وأطهر من أن ينسبَ إليه ولد، وهذا أزكى وأطهر من أن يتدنَّس بالحيض، هذا أزكى وأطهر من ذلك]. وكأن في الأصل سقطًا. والله أعلم.
(2)
في الأصل: ويأخذكم، وهو تحريف.
(3)
"تاريخ دمشق": البطن.
(4)
بهامش الأصل: "وحزقيل بن بوذي من أنبياء بني إسرائيل، وله كتاب".
مكتوبًا عندكم في التوراةِ والإِنجيل، لا نُنكِرُهُ نحنُ ولا أنْتُمْ، مَرَّ بميت فدعا اللهُ عز وجل له فأَحْياه حتَّى كَلَّمَهُ؛ فَضُمُّوا حزقيل مع عيسى حتَّى يكونَ لكم حزقيل ثالثَ ثلاثة!؟
وَإِن كُنْتُمْ إنما عبدتموهُ لأنَّهُ أَراكُم العجبَ، فهذا يوشع بن نون قاتل قومه، حتَّى غربت الشمس؛ قال لها: ارجعي بإذنِ اللَّهِ؛ فَرَجَعَتْ اثني عَشَرَ بُرْجًا؛ فَضُمُّوا يوشعَ بن نون مع عيسى يكون لكم رابع أَرْبَعة؟!
وَإِنْ كُنْتُم إنَّما عبدتموه لأنَّهُ عُرِجَ بِهِ إلى السَّماءِ، فَمِنْ (1) ملائكةِ الله عز وجل مَعَ كُلِّ نَفْسٍ اثنان بالليل واثنان بالنَّهار يَعْرُجونَ إلى السَّماءِ، ما لو ذَهَبْنَا نَعُدُّهم لالْتبَسَ علينا عقولنا واختلطَ علينا دينُنا وما ازْدَدْنا في دينِنَا إلَّا تَحَيُّرًا!؟
ثُمَّ قَالَ: أَيُّها القسُّ: أَخْبِرني عَنْ رَجُلٍ حَلَّ بِهِ مَوْتٌ، أَيَكُونُ أهونَ عليه أَوِ القَتْل؟
قَالَ القِسُّ: القتل.
قَالَ: فَلِمَ لَمْ يقتل عيسى أُمَّهُ، عَذَّبَهَا بنَزْعِ النَّفْس (2)؟ إِنْ قُلْتَ إنَّهُ قَتَلَهَا؛ فما بَرَّ أُمَّهُ من قَتَلَهَا!؟ وإِنْ قُلْتَ إِنَّهُ لم يَقْتُلْهَا؛ ما بَرَّ أُمَّهُ مَنْ عَذَّبَها بنَزْعِ النَّفْس؟!
(1) في "تاريخ دمشق": فثم.
(2)
ها هنا سقط في "تاريخ دمشق" المطبوع واضطراب يُصلح من نسختنا هذه، فانتبه.
قَالَ القِسُّ: اذهبوا بهِ إلى الكنيسة العُظُمَى، فَإِنَّهُ لا يَدخُلها أحدٌ إِلَّا تنصَّرَ!
قَالَ الملكُ: اذهبوا به.
قَالَ الشَّيخُ: لماذا يُذْهبُ بي ولا حُجَّةَ عليَّ دُحِضَتْ؟
قَالَ الملكُ: لن يَضُرَّك، إنَّما هو بَيْتٌ مِن بُيُوتِ رَبِّكَ عز وجل، تذكرُ اللَّهَ عز وجل فيه.
قَالَ الشَّيخُ: إِنْ كانَ هكذا فلا بَأْسَ.
قَالَ: فذهبوا به؛ فلمَّا دَخَلَ الكنيسة، وَضَعَ أُصْبعيه في أُذُنَيْهِ ورَفَعَ صَوْتَهُ بالأذانِ؛ فجزعوا لذلك جزعًا شديدًا وضَرَبُوهُ ولَبَّبُوهُ (1) وجاؤوا بِهِ إلى المَلك؛ فقالوا (2): أَيُّهَا الملك! أَحَلَّ بِنَفْسِهِ القَتْلَ!
فَقَالَ لَهُ الملكُ: لم أَحْلَلْتَ بِنَفْسِكَ القَتْلَ؟
فَقَالَ: أَيُّهَا الملكُ، أينَ ذُهِبَ بي.
قَالَ ذَهَبُوا بكَ إلى بَيْتٍ مِن بُيُوتِ الله عز وجل لِتَذْكُرَ فِيِهِ رَبكَ عز وجل!
قَالَ: فَقَدْ دَخَلْتُ وذَكَرْتُ ربي بلساني وعَظَّمْتُه بقلبي، فإن كان كُلما ذُكِرَ اللَّهُ في كنائِسِكُمْ يَصْغُرُ دينكم؛ فزادَكُمُ اللَّهُ صَغارًا!
قَالَ المَلك: صَدَقَ، ولا سبيلَ لكم عليه.
(1) بهامش الأصل: "التلبب: الخنق".
(2)
هنا نقص وسقط في "تاريخ دمشق" أيضًا، يقوم من نسختنا هذه.
قالوا: أَيُّها الملكُ! لا نرضى حتَّى تَقْتُلَهُ.
قَالَ الشَّيخُ: إِنَّكمْ مَتَى قَتَلْتُمُوني، فَبَلَغَ ذلكَ مَلِكَنَا وَضَعَ يَدَهُ في قَتْلِ القِسِّيسينَ والأَساقِفَةِ وخَرَّبَ الكَنَائِسَ وكَسَرَ الصُّلُبَانَ ومنعَ النواقيس.
قَالَ: فَإِنَّهُ يَفْعَلُ؟
قَالَ: نعم! فَلَا تَشُكُّوا!
فَفَكَّروا في ذلكَ؛ فَتَركوه.
قَالَ الشَّيخُ: أَيُّها الملكُ! ما عابَ أهلُ الكتاب على أَهْلِ الأَوْثَانِ؟
قَالَ: بما عبدوا ما عملوا بأيديهم.
قَالَ: فهل أنتم تعبدون ما عملتُم بأيديكم هذا الذي في كنائسكم؟ فَإِنْ كان في الإنجيل؛ فلا كلامَ لنا فيه، وإن لم يكن في الإنجيل فلم تُشَبِّهُ دينكَ بدينِ أَهْلِ الأَوْثَانِ؟
قَالَ الملكُ: صَدَقَ؛ هل تجدونَ في الإنجيل؟
قَالَ القِسُّ: لا.
قال الملك: فلم تشبّه ديني بدين أَهْلِ الأوثانِ؟ فَأَمَرَ بِنَقْضِ الكَنَائِسِ؛ فجعلوا يَنْقضونها ويبكون.
قَالَ القِسُّ: إنَّ هذا لشيطانٌ من شياطينِ العَرَبِ رَمَى به البحرُ إليكم؛ فَأخْرِجُوهُ مِن حيثُ جاءَ؛ فلا يقطر من دمِهِ قطرةٌ في بلادكم؛ فيفسدُ عليكُم دينكم؛ فَوَكَّلُوا به رجالًا؛ فأخرجوه إلى بلاد دمشق،
وَوَضَعَ الملكُ يَدَه في قَتْلِ القِسِّيسينَ والأَسَاقِفَةِ والبَطَارقةِ حتَّى هَرَبْوا إلى الشَّام لأنَّهم لم يجدوا أحدًا يُحاجّه.
تَمَّ الحديثُ بحمدِ الله وعَوْنه.
وصَلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم (1).
* * *
(1) فَرَغْتُ مِن نسخها بالمسجد الحرام تُجاه الكعبة المشرفة قبيل أذان العصر يوم الاثنين 22 رمضان المبارك 1421 هـ، والحمد لله وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
• قابلتُهُ بأصله المصور مع أخي وقرة عيني وحبيبي في الله فضيلة الشيخ المحقق والباحث المدقق تُفاحةِ الكويت محمَّد بن ناصر العجمي وصورة الأصل بيده وبقراءتي من منسوختي مع أذان العصر بالمسجد الحرام تجاه الكعبة المشرَّفة يوم الاثنين 22 رمضان المبارك 1421 هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. آمين.
• فرغتُ من كتابة التعليقات والمقدمة بعد صلاة الفجر يوم الأربعاء 25 جمادى الأولى 1422 هـ، الموافق 15/ 8/ 2001 م بمكتبتي العامرة بأم الحصم من البحرين حرسها الله تعالى من الآفات والفتن ما ظهر منها وما بطن بمنِّه وكرمه، آمين.
والحمد لله وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
قاله وكتبه الفقير إلى الله تعالى خويدم العلم والعلماء بدولة البحرين: نظام بن محمَّد صالح يعقوبي العباسي، نفعه الله بالعلم وزيَّنه بالحلم، آمين.