الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وَقَدْ أَجْمَعَ غَالِبُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الأَشْعَرِيَّ كَانَ أَوَّلا عَلَى الاعْتِزَالِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَتْبَاعُهُ وَأَحْبَابُهُ، وَأَمَّا الْكَلامُ وَعِلْمُهُ فَلا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ بَلِ الاعْتِزَال، قَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ تَوْبَتَهُ مِنْهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: تَوْبَتُهُ صَادِقَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: أَنَّهُ تَابَ، وَكَذَلِكَ سَمِعْتُ شَيْخَنَا ابْنَ قَنْدَسَ يَقُولُ: إِنَّهُ تَابَ وَصَنَّفَ الإِبَانَةَ، وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرِهِمْ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةٌ مُتَّجِهَةٌ لِغَرَضٍ مِنَ الأَغْرَاضِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كَشْفِ الْعَظَائِمِ، أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبِدْعَةِ وَمِنْ جِهَةِ الدِّينِ، مِنْهُمْ شَيْخُ الإِسْلامِ الأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ الْمُعَظَّمُ عِنْدَ كُلِّ الطَّوَائِفِ، الْمُتَّفَقُ عَلَى عِلْمِهِ وَزُهْدِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى كِتَابِهِ ذَمِّ الْكَلامِ.
وَمِنْهُمُ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ، وَهَذَا إِمَامٌ كَبِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السّيلِيُّ: أَنَّهُ صَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَثَلَبَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ.
وَمِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الأَهْوَازِيُّ الْمُقْرِئ، صَنَّفَ كِتَابًا فِي مَثَالِبِهِ، فَجَاءَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ تَصَدَّى لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَطْ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ فِيهَا، وَقَصَدَ هَذَا الرَّجُلَ فَقَطْ بِالرَّدِّ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِمَّا إِنَّهُ قَاصِرُ النَّظَرِ مَا اطَّلَعَ عَلَى كَلامِ أُولَئِكَ، وَإِمَّا إِنَّهُ رَأَى أَنَّ كَلامَهُ فِي أُولَئِكَ لا يَصْعَدُ مَعَهُ لِمَحَلِّهِمْ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ وَمَا وَقَعَ فِيهِ، وَشَقَاشِقَهُ، وَخَوَافِقَهُ الَّتِي يَخْفِقُ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلٍّ التَّخْفِيقِ، وَيُمَوِّهُ بِهَا فِي غَيْرِ بَابِ التَّمْوِيهِ، فَإِنَّهُ يَرِدُ الْكَلامَ بِأَمْرٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِهِ، وَلا يَرِدُ بِهِ وَيَذْهَبُ بِأَمْرٍ مَذْهَبًا غَيْرَ مَذْهَبِهِ، يَقْصِدُ بِهِ الاسْتِطْرَادَ وَالإِطَالَةَ لِيُكْثِرَ مَا رَدَّ بِهِ وَلَوْ قَصَدْتُ هَذَا الْمَقْصِدَ وَضَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَشْرَ مُجَلَّدَاتٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالرَّدِّ رَدُّ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَكَأَنَّ ابْنَ عَسَاكِرَ جَهِلَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ خَبَّأَ لَهُ مَنْ يَرُدُّ كَلامَهُ، وَيُظْهِرُ أدْغَامَهُ، عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ حِينَ جَمَعَ تِلْكَ الْعَسَاكِرَ، أَنِّي لَا أَسِيرُ خَلْفَهُ بِهَذِهِ الدَّسَاكِرِ، وَهَا أَنَا أَقُولُ لَهُ كَمَا فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: روح جئتك، أَقُولُ تَرْجَمَة هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ، وَوَصَفَهُ بِالْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَإِنَّهُ عَامِّيٌّ جَاهِلٌ، رَأَيْتُ بِخَطِّ ابْنِ الْمُحِبِّ: الشَّيْخُ الْفَقِيهُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزْدَادَ الْمُقْرِئ، نَزِيلُ دِمَشْقَ فَقَدْ وَصَفَهُ هَذَا الْحَافِظُ بِخَطِّهِ بِالْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ.
وَرَأَيْتُ بِخَطِّ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعِرَاقِيِّ: الإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزْدَادَ الأَهْوَازِيُّ الْمُقْرِئ، رضي الله عنه، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: أَبُو عَلِيٍّ الأَهْوَازِيُّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ الْمُحَدِثُ مُقْرِئُ أَهْلِ الشَّامِ، وَصَاحِبُ التَّصَانِيفِ، وُلِدَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، وَعَنِيَ بِالْقِرَاءَاتِ، وَلَقِيَ فِيهَا الْكِبَارَ كَأَبِي الْفَرَجِ الشنبوذي، وَعَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْغَضَائِرِيِّ، وَقَرَأَ بِالأَهْوَازِ لِقَالوُنَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ نَصْرٍ الْمَرْجِيِّ، وَالْمُعَافَى الْحَرِيرِيِّ، وَطَبَقَتِهِمَا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، رحمه الله، فَقَدْ وَصَفَهُ الذَّهَبِيُّ بِالْقِرَاءَةِ، وَأَنَّهُ مُقْرِئُ الشَّامِ، وَوَصَفَهُ بِالْحَدِيثِ، وَالتَّصَانِيفِ، وَكَذَلِكَ وَصَفَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ مُقْرِئُ الشَّامِ، وَقَدْ وَصَفَهُ آخَرُونَ بِالْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ ، وَالْقِرَاءَاتِ، وَالنَّحْوِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَا للَّهِ الْعَجَب مِنْ هَذِهِ صِفَته وَتَرْجَمَته، كَيْفَ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّهُ جَاهِلٌ عَامِّيٌّ، وَأَنَّ أَلْفَاظَهُ رَكِيكَةٌ، وَهَلْ فِي الأَلْفَاظِ شَيْءٌ مِنْهُ؟ إِنَّمَا ذَكَرَهَا رُوَاتُهُ، ونقلا عَلَى قَاعِدَةِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَمَّا ابْنُ عَسَاكِرَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَرْجَمَةِ هَذَا الإِمَامِ، فَذَلِكَ قُصُورٌ، وَقِلَّةُ اطِّلاعٍ، وَكَيْفَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَافِظٌ؟ وَلا يَعْرِفُ الْمَشَاهِيرَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ تَرْجَمَتَهُ وَمَنْزِلَتُهُ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَهُ بِالإِمَامَة وَالْمَشْيَخَةِ، وَيُنْكِرُ ذَلِكَ لِلْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَعَمْرِي مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ وَالْجَهْلِ وَأَغْرَاضِ النُّفُوسِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ هَذَا بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ وَأَنَّهُ عَامِّيٌّ لَا يَعْرِفُ مَا يَقُولُ، وَأَنَّ عِبَارَاتِهِ رَكِيكَةٌ بِحَيْثُ أَنَّ مَنْ رَأَى كَلامَهُ فِيهِ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لا يَعْرِفُ شَيْئًا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مُؤَرِّخِي الإِسْلامِ بِالإِمَامَةِ، فَكَيْفَ يَسَعُ ابْنَ عَسَاكِرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الرَّجُلِ بِالْجَهْلِ، مَعَ كَلامِ هَذِهِ الأُمَّةِ فِيهِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِمَّا أَنَّهُ مُقَصِّرٌ قَلِيلُ الاطِّلَاعِ، وَإِمَّا أَنَّهُ حَمَلَهُ الْهَوَى عَلَى الْقَوْلِ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ، قَوْلُهُ فِي الْخُطْبَةِ: وَفُرِضَ عَلَى الأَنَامِ الاقْتِدَاءُ بِهُدَاهُمْ وَشِرْعَتِهِمْ إِلْزَامًا، يَعْنِي الأَنْبِيَاءَ، وَالاقْتِفَاءَ بِنَهْجِهِمْ فِيمَا نَهَجُوهُ لَهُمْ نَقْصًا وَإِبْرَامًا، هَلْ كَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ عِلْمُ الْكَلامِ أَوِ التَّأْوِيلِ؟ أَوْ كَانَ مِنْ هَدْيِهِمُ الإِقْرَارُ بِذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ؟ أَيْنَ الْمُنْصِفُ؟ أَيْنَ الْمُحَقِّقُ؟ هَلْ وَرَدَ عِلْمُ الْكَلامِ وَالتَّأْوِيلِ عَنْهُمْ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْتَ: بَلَى، فَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قُلْتَ: لَا، فَلا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَهُمْ، وَأَيْنَ الاقْتِفَاءُ بِنَهْجِهِمْ مَعَ التَّأْوِيلِ وَالنَّفْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْخُطْبَةِ: إِنَّ اللَّهَ أَتَمَّ الدِّينَ، وَنَصَبَ لَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ مَنِ انْتَدَبَ لِنَصْرِهِ حِينَ هَمَا سَحَابُ الْبَاطِلِ وَهَطَلَ، وَحَادَ أَهْلُ الاعْتِزَالِ عَنْ سُنَنِ الاعْتِدَالِ حِينَ نَفَوْا عَنِ الرَّبِّ مَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ، فَهُوَ كَلامٌ حَسَنٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالأَشْعَرِيِّ الَّذِي أَرَادَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَفَى التَّشْبِيهَ، وَمَا عَنِى إِلَّا مَنْ رَدَّ عَلَى الأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُ إِذَا رَأَى مَنْ يَذْكُرُ التَّشْبِيهَ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، فَإِنَّ مَنْ رَدَّ عَلَى الأَشْعَرِيِّ لا يَقُولُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ أَشَدَّهُمْ بِذَلِكَ اهْتِمَامًا لِمَنْ حَاوَلَ الإِلْحَادَ، أَوْ عَانَدَ السُّنَّةَ، وَإِنَّهُ لَمْ يُسْرِفْ فِي التَّعْطِيلِ، وَلَمْ يَغْل فِي التَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي بَعْدَ ذَلِكَ قواما كَذَبَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى الاعْتِدَالِ يَنْقُلُ الثِّقَاتِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، حَتَّى عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْعَدُ مَعَهُ فَمَوَّهَ بِمَذْهَبٍ وَسَطٍ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُ نُصْرةَ السُّنَّةِ، هَذَا أَمْرٌ لَا كَانَ، وَلَمْ يَرِدْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلا أَنَّهُ قَامَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهَا، بَلْ كَانَ مُخْتَفِيًا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ، كَذِبٌ وَاللَّهِ، وَإِنَّهُ نَفَى مَا لَا يَلِيقُ بِجَلالِهِ مِنْ شَبَهِ خَلْقِهِ، إِنَّمَا أَتَى بِهَذَا التَّمْوِيهِ لأَجْلِ النَّفْيِ بِالْكُلِّيِّ، لأَنَّهُ لَا يَصْعَدُ مَعَهُ النَّفْيُ الْكُلِّيُّ فَمَوَّهَ، وَأَتَى بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ إِلَى النَّفْيِ، وَقَدْ قَالَ عِدَّةٌ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ: إِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَلا مَا وَصَفَهُ بِهِ نَبِيَّهُ تَشْبِيهٌ.
وَقَوْلُهُ: وَائْتَمَّ بِهِ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لاتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ ائْتِمَامًا الإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلامِ، فَأَيْنَ أَهْلُ الْكَلامِ؟ وَأَيْنَ أَهْلُ السُّنَّةِ؟ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا انْتَقَمَ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِنَّهُ بَيَّنَ عَلَيْهِمْ مَا ابْتَدَعُوهُ، يَا للَّهِ الْعَجَب، هَلِ التَّأْوِيلُ مُبْتَدَعٌ، أَوْ مَنْ يَقُولُ: عُدَّهَا كَمَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا، أَيْ ذَلِكَ الْبِدْعَةُ، وَهَلِ التَّمَسُّكُ بِالْحَدِيثِ مُبْتَدَعٌ أَوْ عِلْمُ الْكَلامِ، أَيْنَ الْعُقُولُ وَالأَفْهَامُ؟ أَيُّ ذَلِكَ الْمُبْتَدَعُ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ قَالُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبُهْتَانِ مَا لا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ كَمَا رَمَتِ الْيَهُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ، فَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ مُقِرٌّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الاعْتِزَالِ، وَتَدَّعِي أَنَّهُ تَابَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ غَيْرَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي تُكَذِّبُهُ.
وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يُنْقِصُوهُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، بَلْ زَادُوهُ بِمَا قَالُوهُ تَمَامًا ، لَعَمْرِي لَقَدْ نَقَصُوهُ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، وَقَوْلُهُ أَنَّهْمُ مَدَحُوهُ بِذَمِّهِمْ لَعَمْرِي لَقَدْ أَخَذُوهُ بِذَلِكَ، وَأَيْنَ الْحُسْنَى؟ وَقَوْلُهُ: وَقُلْ مَا انْفَكَّ عَصْرٌ مِنَ الأَعْصَارِ عَنْ غَاوٍ يَقْدَحُ فِي الدِّينِ، وَيَغْوِي إِيهَامًا ، إِنْ كَانَ شَيْخُ الإِسْلامِ الأَنْصَارِيُّ مِنَ الْغُوَاةِ الَّذِي قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَائِرُ الطَّوَائِفِ، وَقِيلَ كَلامُهُ عِنْدَ كُلّ أَحَدٍ خَافَ عَلَى الدِّينِ، وَقَوْلُهُ: وَغَاوٍ يُجَرِّحُ بِلِسَانِهِ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْنَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ؟ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ؟ أَيْنَ أَقْوَالُ الأَشْعَرِيِّ فِي الدِّينِ؟ أَيْنَ كَلامُهُ فِي الطَّهَارَةِ، وَالصَّلاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاقِ؟ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ، إِنَّمَا كَلامُهُ فِي عِلْمِ الْكَلامِ فَقَطْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، كَيْفَ يَحِلُّ لِمَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ أَنْ يُحَقِّقَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ كَلامٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطُّ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ قَوْله، وَيَحْمِلُ بِجَهْلِهِ عَلَى سَبِّ الْعُلَمَاءِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ، أَيْنَ الْعُلَمَاءُ؟ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ كَلامٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطُّ يُعَدُ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ وَقَدْ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِكُتُبِ الْعِلْمِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ كُتُبُ الْكَلامِ، قوله: وَلَنْ يَعْبَأَ اللَّهُ بِتَقَوُّلِهِمْ فِيهِ، وَبِكَذِبِهِمْ عَلَيْهِ، هُوَ قَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الاعْتِزَالِ، فَحِينَئِذٍ لَيْسَ، ثُمَّ يَقُولُ: وَأَنَا كَلامه مُنَاقِض وَمُقِرّ بِأَنَّهُ إِمَامُ عِلْمِ الْكَلامِ، وَقَدْ ذَمَّ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ إِمَامُ السُّنَّةِ ذَلِكَ، وَأَمَّا ذِكْرُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِلَّا كَانَ الصِّدْق عَنْ ذِكْرِهِ وَقِيعَة ذَوِي الْجَهْلِ احْتِشَامًا، فَلَوْ صَدَقَ كَانَ أَحْسَنَ لَهُ وَأَسْتَرَ فَقَدْ تَقَوَّلَ هُوَ عَلَى هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الْجَهْلَ أَكْثَرَ مِمَّا تَقَوَّلُوا عَلَى الأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ صِفَةَ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ، مِثْلَ شَيْخِ الإِسْلامِ الأَنْصَارِيِّ، وَالإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ، وَالإِمَامِ الْمُحَدِّثِ الْمُقْرِئ أَبِي عَلِيٍّ الأَهْوَازِيِّ، قَالَ: لَكِنِّي اغْتَنَمْتُ الثَّوَابَ فِي إِيضَاحِ الصَّوَابِ، يَا وَيْحَهُ فِي هَذَا الْكَلامِ، وَلِلَّهِ لَقَدْ أَثِمَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ الإِثْمِ، وَارْتَكَبَ الْخَطَأَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَقِّ أَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ وَلِمَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْبِدَعِ قَاهِرِينَ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِنَّ ذِكْرَ أَبِي الْحَسَنِ عَمَلا يُحَرِّمُونَهُ بِهِ إِعْلاءً، وَذِكْرَ مَظَالِمِهِ، وَالتَّرَحُّمَ عَلَيْهِ مِنَ الانْتِقَاصِ لَهُ عِنْدَ عُلَمَاء أَوْلَى، وَمخلدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الأَقْطَارِ مَشْهُورٌ، نَعَمْ مَشْهُورٌ بِعِلْمِ الْكَلامِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ بِالتَّبَايُنِ عَلَى مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَتِهِ فِي الْعِلْمِ مَذْكُورٌ، نَعَمْ مَذْكُورٌ بِعِلْمِ الْكَلامِ لَا مُنَازِعَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: مَوْصُوفٌ بِالدِّينِ وَالرَّجَاحَةِ ، فَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الإِسْلامِ الأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ قِلَّةَ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الأَهْوَازِيُّ، وَابْنُ طَاهِرٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنِ الْكَاذِبُ، وَأَمَّا الرَّجَاحَةُ فَإِنَّمَا تَرَجَّحَ فِي عِلْمِ الْكَلامِ، وَأَمَّا النُّبْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ فَذَلِكَ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي هَذِهِ الأَعْصَارِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِشَرَفِ الأُبُوَّةِ وَالأَصْلِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لَهُ الأَشْعَرِيُّ، لأَنَّ جَدَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقِيلَ لَهُ الأَشْعَرِيّ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ تَصَانِيفَهُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ مَشْهُورَةٌ بِالإِجَادَةِ، وَالإِصَابَةِ لِلتَّحْقِيقِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، فَلَيْسَ لَهُ كُتُبٌ فِي غَيْرِ الْكَلامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى كِتَابِهِ الإِبَانَةِ عَرَفَ مَوْضِعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّفْسِيرِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا وَضَعَ الإِبَانَةَ وَغَيْرَهَا حِينَ تَابَ، وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ وَضَعَهَا يُمَوِّهُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ أَخَذَ يَذْكُرُ أَنَّ لُحُومَ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ، وَأَنَّ الْوُقُوعَ فِيهِمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَالتَّطَاوُلَ لأَعْرَاضِهِمْ بِالزُّورِ وَالافْتِرَاءِ مَرْتَع وَخِيمٌ، وَالاخْتِلافَ عَلَى مَنِ اخْتَارَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ لَنَقْشِ الْعِلْم خُلُقٌ ذَمِيمٌ، وَقَدْ صَدَقَ فِي ذَلِكَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَنْ فِيهِ أَمْرًا وَبِدْعَةً، فَبَيَانُ أَمْرِهِ وَإِظْهَارُهُ أَفْضَلُ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الأَئِمَّةُ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الاغْتِيَابِ، فَهَذَا لَيْسَ هُوَ مِنَ الاغْتِيَابِ وَأَنَّمَا هَذَا مِنَ الدِّينِ ، الْكَلامُ فِي الْمُبْتَدَعِ، وَإِظْهَارُ بِدْعَتِهِ، وَالْكَذَّابِ وَبَيَانِ كَذِبِهِ مِنَ الدِّينِ الْمُتَعَيَّنِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَتَّبِعَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَالانْتِصَارُ لأَهْلِ الْبِدَعِ أَمْرٌ مَذْمُومٍ، أَذَمُّ مِنَ السَّبِّ، ثُمَّ جَاءَ وَقَصَدَ الإِطَالَةَ وَالشَّقَاشِقَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ فَسَاقَ أَحَادِيثَ فِي لَعْنِ آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، وَفِيمَنْ كَتَمَ عِلْمًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَالإِقْدَامِ عَلَى الْغِيبَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهَا أَمْرٌ كَبِيرٌ، وَمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهَا، وَعَنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ كَثِير، وَإِنَّمَا الْغِيبَةُ الْمُحَرَّمَةُ كَمَا قُلْنَا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، أَوِ الْكَذِبِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِ بَمُحَرَّمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَمْرَ الْغِيبَةِ، وَحَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا تَتَّبِعُوا عوَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلا عَثَرَاتِهِمْ» .
وَحَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ» ، وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ أَمْرُهَا مَشْهُورٌ، وَكَلامُ الأَئِمَّةِ فِيهَا مَعْلُومٌ، وَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا مُحَرَّمٌ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ، دُونَ أَهْلِ الشَّرِّ.
ثُمَّ عَقَدَ بَابًا لاسْمِهِ، وَنَسَبِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَالِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ بِلالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَمِثْلُ هَذَا لا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِهِ عَنْ أَحَدٍ، إِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْخَطِيبِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي بِشْرٍ: وَاسْمُهُ إِسْحَاقُ بْنُ سَالِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ بِلالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ، الْمُتَكَلِّمُ، قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، أَنَّ أَبَاهُ هُوَ أَبُو بِشْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَأَنَّهُ كَانَ سبيا جَمَاعِيًّا حَدِيثِيًّا، فَقَدْ ذَكَرَ هَذَا بِهَذَا التَّبَايُنِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بِشْرٍ جَدُّهُ إِسْحَاقُ كَمَا سَبَقَ، قَالَ: وَفِي نِسْبَةِ أَصْحَابِهِ إِيَّاهُ إِلَى أَبِي بِشْرٍ تَكْذِيبٌ لأَبِي عَلِيٍّ الأَهْوَازِيِّ، فِيمَا اخْتَلَقَ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحِ النَّسَبِ، وَأَنَّهُ مَا كَنَّى عَنِ اسْمِ أَبِيهِ إِلا لِهَذَا السَّبَبِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ لَهُ بِأَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَأَنْسَابِهِمْ عِنَايَةٌ لِفُرِّقَ بَيْنَ قَوْلِنَا كُنْيَةٌ، وَكِنَايَةٌ، قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: مِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ، أَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ بِالْبَصْرَةِ إِلا بِابْنِ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: وَأَصْحَابُهُ يَفِرُّونَ مِنْ هَذَا الاسْمِ، وَلا يَصِفُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ شُيُوخًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، يَقُولُونَ: مَا فِرَارُهُمْ مِنْ هَذَا الاسْمِ إِلا لِسَبَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ جَدَّهُ أَبَا بِشْرٍ كَانَ يَهُودِيًّا، كَانَ يَهُودِيًّا أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ يُنْسَبُ إِلَى الأَشْعَرِيِّينَ فَانْتَسَبَ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِي الأَشْعَارِ السَّائِرَةِ:
وَمَا كَنَى عَنْ أَبِيهِ إِلا وَثَمَّ سَبِيبٌ
فَأَيُّ إِنْكَارٍ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ كَنَى هَذَا، وَهُوَ يَدَّعِي الْمَعْرِفَةَ الزَّائِدَةَ، فَإِنَّ الأَهْوَازِيَّ لَمْ يُرِدِ الْكُنْيَةَ، إِنَّمَا أَرَادَ الْكِنَايَةَ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ بِالاسْمِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى الاسْمِ، فَكَنَى عَنِ الاسْمِ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي إِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالأَشْعَرِيِّ تَكْذِيبٌ لِمَا قَالَهُ هَذَا الْمُفْتَرِي هَذَا كَلامٌ لا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى نِسْبَتِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى نِسْبَةِ رَجُلٍ إِلَى نِسْبَةٍ لا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ مَنِ اسْمُهُ كَذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْعُمَرِيَّ لا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْمُحَمَّدِيَّ لا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْبَكْرِيَّ لا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْعَلَوِيَّ لا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ، وَالْعُثْمَانِيَّ لا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ عُثْمَانٍ، وَالْحَنْبَلِيَّ لا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، فَلا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالأَشْعَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ إِلَى نَسَبِ الإِنْسَانِ غَيْرُهُ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ» ، ثُمَّ أَرَادَ الإِطَالَةَ وَالشَّقَاشِقَ بِذِكْرِ نَسَبِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَفَضَّلَهُ بِأُمُورٍ لَيْسَ لِذِكْرِهَا مَحَلٌّ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الإِطَالَةُ وَالتَّمْويهُ وَالتَّخْفِيقُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لا شَكَّ فِيهِ، وَلا خَفِيَ، وَلا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَذَكَرَ نَسَبَ إِبْرِاهِيمَ وَالْخِلافَ فِيهِ بِأُمُورٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا سَبَبُ رُجُوعِ أَبِي الْحَسَنِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَتَبَرِّيهِ مِمَّا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَدْ أُثْبِتَ لَهُ الاعْتِزَالَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ.
500 -
ثُمَّ ذُكِرَ بِسَنَدِهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا، يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ لَمَّا تَبَحَّرَ فِي كَلامِ الاعْتِزَالِ، وَبَلَغَ غَايَةً، كَانَ يُورِدُ الأَسْئِلَةَ عَلَى أُسْتَاذَيْهِ فِي الدَّرْسِ، وَلا يَجِدُ فِيهَا جَوَابًا شَافِيًا فَتَحَيَّرَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ صَلَّى وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَشَكَا إِلَيْهِ، «فَأَمَرَهُ بِالسُّنَّةِ» .
فَانْتَبَهَ، وَعَارَضَ مَسَائِلَ الْكَلامِ بِمَا وَجَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالأَخْبَارِ فَأَثْبَتَهُ، وَنَبَذَ مَا سِوَاهُ، فَهَا هُوَ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا وَأَنَّهُ تَابَ
501 -
وَذُكِرَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الطَّرَابُلُسِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَزْرَةَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، فَقُلْتُ لَهُ: قِيلَ لِي عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا، وَأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، أَبْقَى لِلْمُعْتَزِلَةِ نَكْثًا لَمْ يَنْقُضْهَا، فَقَالَ لِي: الأَشْعَرِيُّ شَيْخُنَا وَإِمَامُنَا، وَقَدْ عَلِمْتُهُ مُعْتَزِلِيًّا، أَقَامَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُمْ إِمَامًا، ثُمَّ غَابَ عَنِ النَّاسِ فِي بَيْتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَبَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَى الْجَامِعِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَقَالَ: مَعَاشِرَ النَّاسِ، إِنِّي إِنَّمَا تَغَيَّبْتُ عَنْكُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، لأَنِّي نَظَرْتُ فَتَكَافَأَتْ عِنْدِي الأَدِلَّةُ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي حَقٌّ عَلَى بَاطِلٍ، وَلا بَاطِلٌ عَلَى حَقٍّ، فَاسْتَهْدَيْتُ اللَّهَ تبارك وتعالى، فَهَدَانِي إِلَى اعْتِقَادِ مَا أَوْدَعْتُهُ فِي كُتُبِي هَذِهِ، وَانْخَلَعْتُ مِنْ جَمِيعِ مَا كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ كَمَا انْخَلَعْتُ مِنْ ثَوْبِي هَذَا، وَانْخَلَعَ مِنْ ثَوْبٍ كَانَ عَلَيْهِ، وَرَمَى بِهِ، وَدَفَعَ الْكُتُبَ إِلَى النَّاسِ فَمِنْهَا كِتَابُ اللُّمَعِ، وَكِتَابٌ أَظْهَرَ فِيهِ عَوَارَ الْمُعْتَزِلَةِ سَمَّاهُ بِكِتَابِ كَشْفِ الأَسْرَارِ، وَغَيْرُهُمَا، فَلَمَّا قَرَأَ تِلْكَ الْكُتُبَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَخَذُوا بِمَا فِيهَا وَانْتَحَلُوهُ، وَاعْتَقَدُوا تَقْدِمَتَهُ، وَاتَّخَذُوهُ إِمَامًا حَتَّى نُسِبَ مَذْهَبُهُمْ إِلَيْهِ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالاعْتِزَالِ، وَأَنَّهُ كَانَ دَاعِيَةً فِيهِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، حَتَّى يُتَّخَذَ مُبْتَدِعٌ تَابَ مِنْ بِدْعَتِهِ إِمَامًا، كَأَنَّ النَّاسَ مَاتُوا إِلَى هَذَا الْحَدِّ كُلِّهِ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِلإِمَامَةِ حَتَّى يَتُوبَ مُبْتَدِعٌ مِنْ بِدْعَتِهِ، فَيَصِيرَ إِمَامَهُمْ، وَأَهْلُ الإِسْلامِ قَاطِبَةً تُقَدِّمُ مُتَكَلِّمًا عَلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ جَمِيعِهِمْ فِي حَالِ كَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ، مَا هَذَا الْهَذَيَانُ؟
502 -
ثُمَّ ذَكَرَ بِسَنَدِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَمْدَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَمْ نَشْعُرْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا بِالأَشْعَرِيِّ قَدْ طَلَعَ عَلَى مِنْبَرِ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ بَعْدَ صَلاةِ الْجُمُعَةِ، وَمَعَهُ شَرِيطٌ قَدْ شَدَّهُ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ قَطَعَهُ، وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ عَلَى غَيْرِ دِينِ الإِسْلامِ، وَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ السَّاعَةَ، وَإِنِّي تَائِبٌ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالاعْتِزَالِ، ثُمَّ نَزَلَ.
ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدَانِيُّ مَجْهُولٌ.
وَإِنَّمَا رَمَاهُ بِالْجَهْلِ لأَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ لا مَطْعَنَ فِيهِ، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُهُ وَأَنْكَرَهُ لِهَوَاهُ، فَذَلِكَ وَصْمَةٌ فِيهِ، وَإِمَّا أَنَّهُ جَاهِلٌ بِهِ حَقِيقَةً فَهُوَ قُصُورٌ، وَعَدَمُ اطِّلاعٍ، وَإِنَّمَا رَمَاهُ بِالْجَهَالَةِ لأَنَّ فِي تَمَامِ الْحِكَايَةِ أَمْرًا كَتَمَهُ وَأَخْفَاهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَمْدَانِيُّ: ثُمَّ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَمُتَابِعُوهُ وَمَنْ بَِهْوَاهُ: بَانَ لَهُ الْحَقُّ فَتَبِعَهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ قَدْ مَاتَ لَهُ قَرَابَةٌ، وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ بِالْبَصْرَةِ قَاضٍ يَغْلُو فِي السُّنَّةِ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوَارَثَانِ، وَمَنَعَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ بِتَأْوِيلٍ يَتَأَوَّلُهُ عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ حَتَّى أَخَذَ الْمِيرَاثَ، وَقَالَ طَائِفَةٌ: كَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِالْكَلامِ، وَأَفْنَى فِيهِ عُمْرَهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ أَقْصَى مَبْلَغٍ، وَلَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ رُتْبَةً عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلا مَنْزِلَةً عِنْدَ الْخَاصَّةِ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ لِيُؤْخَذَ عَنْهُ، وَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَيُحَصِّلَ لَهُ مَنْزِلَةً، فَبَلَغَ بِذَلِكَ بَعْضَ مَا أَرَادَ.
هَذَا آخِرُ كَلامِ الْحَمْدَانِيِّ، فَكَتَمَ هَذَا مِنْهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَأَخْفَى لِهَوَاهُ بِيَانَ حَالِ الْحَمْدَانِيِّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الأَهْوَازِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَمْدَانِيُّ رحمه الله إِمَامًا فِي اللُّغَةِ قَيِّمًا بِالنَّحْوِ وَالْعَرُوضِ وَالْغَرِيبِ وَالأَخْبَارِ وَالأَشْعَارِ، مُقَدَّمًا فِي ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَصَبِيَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ، وَلا مَيْلٌ إِلَى الْغُلُوِّ فِي ذَلِكَ، وَلا يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، آخِر كَلامِهِ.
وَقَدْ وَصَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْحَمْدَانِيَّ هَذَا بِالْمَعْرِفَةِ بِالنَّحْوِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ نَقَلَ عَنِ الأَشْعَرِيِّ حِكَايَاتٍ عَدِيدَةً شَنِيعَةً، رَوَاهَا عَنْهُ الأَئِمَّةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهَا فِي كِتَابِ كَشْفِ الْغِطَاءِ، مِنْهَا الْحِكَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا عَنْهُ حِينَ لَقَّنَ الْمَيِّتَ، فَقَالَ الدَّافِنُ: اللَّهُمَّ أَوْسِعْ مُدْخَلَهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، فَقَالَ الأَشْعَرِيُّ: وَأَلْعِقْهُ خَرَاهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا الْكَلامُ لَيْسَ مِنْ ذَا الْجَانِبِ، هَذَا مِنْ ذَاكَ الْجَانِبِ، فَقَالَ: وَأَنَا فِي ذَاكَ الْجَانِبِ وُلِدْتُ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: قُلْتُ لَهُ: هَذَا مَذْهَبُ الإِلْحَادِيَّةِ، فَقَالَ: وَأَنَا وُلِدْتُ مُلْحِدًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، لَكِنِّي لَمْ أَرَ تَرْجَمَةَ هَذَا الرَّجُلِ فِي تَارِيخِ الذَّهَبِيِّ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ عَنْهُ الْخَبَرَ، قَدْ ذَكَرَ أَنَّ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الآنَ اخْتَلَفُوا فِي تَوْبَتِهِ، هَلْ هِيَ صَادِقَةٌ أَمْ لا؟ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَهُ: إِنَّ النَّاسَ اتَّخَذُوهُ إِمَامًا، وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَ الْحَمْدَانِيُّ هَذَا أَنَّ النَّاسَ لَمْ تَقْبَلْ تَوْبَتَهُ، وَلَمْ تَأْخُذْ بِكُتُبِهِ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى ابْنِ عَسَاكِرَ قَوْلَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا وَأَنَّهُ تَابَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَمْرًا آخَرَ كَذَلِكَ بِسَنَدٍ، وَأَنَّهُ تَابَ عَنِ الاعْتِزَالِ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذَا سَبَبُ رُجُوعِهِ عَنْ مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَ عُمْرِهِ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا مُتَكَلِّمًا، وَأَنَّهُ تَابَ عَنِ الاعْتِزَالِ، وَلَمْ يَتُبْ عَنِ الْكَلامِ فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَبِهَذِهِ الْحَالَةِ، يُجْعَلُ إِمَامُ الإِسْلامِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِ يُتْرَكُ مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَلا يُقْتَدَى وَلا يُذْكَرُ إِلَّا هَذَا الَّذِي أَقَامَ عَلَى الْبِدْعَةِ عُمْرَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَوْبَتِهِ، هَلْ كَانَتْ حَقِيقَةً أَمْ لا؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَوْبَتَهُ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَبْرَأُ مِنَ الْبِدْعَةِ مَنْ كَانَ رَأْسًا فِيهَا، وَهَلْ يُثْبِتُ لِلَّهِ الصِّفَاتِ مَنْ كَانَ دَهْرَهُ يَنْفِيهَا؟ وَهَلْ رَأَيْتُمْ بِدْعِيًّا رَجَعَ عَنِ اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ، أَوْ حُكِمَ لِمَنْ أَظْهَرَ الرُّجُوعَ مِنْهَا بِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَوْبَةَ الْبِدْعِيِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَفَيْئَتَهُ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ الضَّلالِ لَيْسَتْ بِمَأْمُولَةٍ، وَهَبْ أَنَّا قُلْنَا بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ إِذَا أَظْهَرَهَا فَمَا يُنْقِصُ ذَاكَ مِنْ رُتْبَتِهِ عِنْدَ من خبرها، قَالَ: قُلْنَا هَذَا قَوْلُ عَرِيَ عَنِ الْبُرْهَانِ، وَقَائِلُهُ بَعِيدٌ مِنَ التَّحْقِيقِ عِنْدَ الامْتِحَانِ، بَلِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَابَ، وَالْعَفْوُ مِنَ اللَّهِ مَأْمُولٌ عَنْ كُلِّ مَنْ أَنَابَ، وَالأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ غَيْرُ قَوِيَّةٍ عِنْدَ أَرْبَابِ النَّقْلِ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الإِفْكِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُقْبَلُ إِسْلَامُ الْكِتَابِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَافِرِ الأَصْلِيِّ، فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ عِنْدَكُمْ قَبُولُ تَوْبَةِ الْمُبْتَدِعِ الْمِلِّيِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، قَالَ: وَالْبِدْعَةُ إِذَا كَشَفْتَ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَجَدْتَهَا دُونَ الشِّرْكِ بِمَا هُنَالِكَ، فَإِذَا كَانَ يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ، فَكَيْفَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مُبْتَدِعٍ لَا يُشْرَكُ بِهِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَلَى الْقَوْلِ بِقَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ مَعَ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ اعْتِقَادُهُ الرَّدِيءُ مِنَ الْخُبْثِ، وَمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ جُحُودِ الصَّانِعِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَالْمُبْتَدِعُ لَا يَجْحَدُ الرُّبُوبِيَّةَ، وَلا يُنْكِرُ عَظَمَةَ الإِلَهِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ لِشُبْهَةٍ وَقَعَتْ لَهُ يَنْكَبُّ بِهَا رُشْدُهُ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْنَا بِجَمَاعَةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ كَانُوا عَلَى أَشْيَاءَ رَجَعُوا عَنْهَا وَتَرَكُوهَا بَعْدَ مَا سَلَكُوهَا وَتَبَرَّءُوا مِنْهَا فَلَمْ يُنْقِصُهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الابْتِدَاعِ لِمَا أَقْلَعُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا إِلَى الاتِّبَاعِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ، كَانُوا عَلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، ثُمَّ صَارُوا سَادَةَ الإِسْلامِ، وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ تَوْبَتُهُ، وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ هَذَا مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ: الأَوَّلُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ طَعَنُوا فِي تَوْبَتِهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي الْمُعَمَّرِ: وَقَعْتُ إِلَى مَسْأَلَةٍ فِي الإِيمَانِ فَتَعَجَّبْتُ مِنْهَا، وَأَخَذْتُهَا وَانْحَدَرْتُ إِلَى بَغْدَادَ مِنْ أَجْلِهَا لَا غَيْرَ، وَجِئْتُ ابْنَ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَأَرَيْتُهُ إِيَّاهَا، وَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ لِي: هَذَا صَحِيحٌ عَنْهُ قَدْ صَنَّفَهَا يَتَّقِي بِهَا الْحَنَابِلَةَ بِبَغْدَادَ، وَلا يَعْتَقِدُ بِهَا وَإِنَّمَا جَعَلَهَا وِقَايَةً مِنْ مُخَالِفِيهِ، قَالَ الأَهْوَازِيُّ: فَحَالُهُ فِي التَّوْبَةِ كَذَلِكَ أَظْهَرَ ذَلِكَ وِقَايَةً لَا اعْتِقَادًا وَمَذْهَبًا.
الثَّانِي أَنَّ جَمَاعَةً قَدْ قَالُوا: إِنَّهُ إِنَّمَا تَابَ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ فَمَنَعَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ إِرْثِهِ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ لِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَابَ عَنِ الاعْتِزَالِ، وَلَمْ يَتُبْ عَنْ عِلْمِ الْكَلامِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَمَّا رَدُّهُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُبْتَدِعِ، فَهَذَا أَمْرٌ قَدْ وَرَدَ فِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، أَحَدُهَا ذَكَرَهَا الأَهْوَازِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«التَّوْبَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ» .
الثَّانِي ذَكَرَهُ الأَهْوَازِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ تَوْبَةً» .
وَالثَّالِثُ ذَكَرَهُ الأَهْوَازِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ حَجَزَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» ، وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَأَخْبَرَنَا بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِنَا.
120 -
أَخْبَرَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْهَادِي، أَنَا الْحَجَّارُ، أَنَا ابْنُ اللَّتِيِّ، أَنَا السِّجْزِيُّ، أَنَا شَيْخُ الإِسْلامِ الأَنْصَارِيُّ، أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَهْرَامٍ، قَالَ: ثَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنا دَاوُدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ الأَنْصَارِيُّ: وَثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَبِيوَرْدِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ.
قَالَ الأَنْصَارِيُّ: وَثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: وَابْنُ زِيَادٍ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ.
قَالَ الأَنْصَارِيُّ: وَثَنَا يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَدِيٍّ الصَّابُونِيُّ، ثَنَا أَبُو ذَرٍّ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْوَسِيمِ، ثَنَا كَثِيرٌ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: هُوَ وَمَنْ تَقَدَّمَ، ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ الأَنْصَارِيُّ: وَثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ، ثَنَا ابْنُ نَاجِيَةَ، قَالَ الأَنْصَارِيُّ: وَثَنَا لُقْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْن أَحْمَد، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، قَالَ: هُوَ وَابْنُ نَاجِيَةَ، ثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى الْفَرْوِيُّ، ثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَحْجُبُ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» .
وَالْحَدِيثُ قَدْ ذَكَرَهُ الأَهْوَازِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ إِلَّا صَاحِبَ بِدْعَةٍ مَا لَهُ تَوْبَةٌ» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَغِيرِ مِنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ الْقَاضِي، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا:«يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الأَهْوَاءِ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، أَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَهُمْ مِنِّي بُرَآءٌ» .
حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُحِبِّ فِي كِتَابِ الصِّفَاتِ.
وَالْحَدِيثُ قَدْ ذَكَرَهُ الأَهْوَازِيُّ، أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَظْهَرَ بِدْعَةً ثُمَّ تَابَ مِنْهَا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ: قُلْ لِفُلانٍ تُبْتَ أَنْتَ مِنْ بِدْعَتِكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَضْلَلْتَ؟
505 -
وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ خَالِدٍ الرَّبَعِيِّ، قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ، وَكَانَ مَغْمُورًا فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً، فَدَعَا النَّاسَ فَاتُّبِعَ، وَإِنَّهُ ذكر ذات ليلة فقال: هَبْ هَؤُلاءِ النَّاسَ لا يَعْلَمُونَ مَا ابْتَدَعْتَ، أَلَيْسَ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا ابْتَدَعْتَ؟ قَالَ: فَبَلَغَ مِنْ تَوْبَتِهِ أَنْ خَرَقَ تَرْقُوَتَهُ، وَجَعَلَ فِيهَا سِلْسِلَةً وَرَبَطَهَا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: لا أَنْزِعُهَا حَتَّى يُتَابَ عَلَيَّ، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ لا يُسْتَنْكَرُ بِالْوَحْيِ: أَنْ قُلْ لِفُلانٍ: لَوْ أَنَّ ذَنْبَكَ كَانَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ لَغَفَرْتُ لَكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِمَنْ أَضْلَلْتَ مِنْ عِبَادِي ، فَدَخَلَ النَّارَ
121 -
وَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: الأُوَّلُ: قَالَ: ثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا مَعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَحَدَّثَ عَنِ الرَّبَعِيِّ، أَنَّ رَجُلا كَانَ يُوطَأُ عَقِبَاهُ، قَالَ: ثُمَّ أَنَّهُ تُرِكَ فَأَحْدَثَ بِدْعَةً وَاتُّبِعَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ انْتَبَهَ فَخَرَقَ تَرْقُوَتَهُ، فَجَعَلَ فِيهَا سِلْسِلَةً أَوْ قَالَ شَيْئًا، ثُمَّ أَنَاطَ نَفْسَهُ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: تَوْبَةً لِمَا صَنَعَ، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى نَبِيِّهِ، أَنْ قُلْ لَهُ:«كَيْفَ تَصْنَعُ بِمَنْ أَضْلَلْتَ مِنْ عِبَادِي؟» وَالثَّانِي: قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ ثَابِتٍ الرَّبَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ شَابٌّ قَرَأَ الْكِتَابَ، وَعَلِمَ عِلْمًا، وَكَانَ مَغْمُوزًا، وَأَنَّهُ طَلَبَ بِعِلْمِهِ وَقِرَاءتِهِ الشَّرَف وَالْمَال وَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعًا أَدْرَكَ الشَّرَفَ وَالْمَالِ فِي الدُّنْيَا وَلَبِثَ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ، وَأَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ لَيْلَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ إِذْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: هب هَؤُلاءِ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ مَا ابْتَدَعْتُ ،أَلَيْسَ اللهُ قَدْ عَلِمَ مَا ابْتَدَعَتُُ ، وَقَدِ اقْتَرَبَ الأَجَلُ، فَلَوْ أَنِّي تُبْتُ ، فَبَلَغَ مِنَ اجْتِهَادِهِ فِي التَوْبَةِ أَنْ عَمَدَ فَخَرَقَ تَرْقُوَتَهُ وَجَعَلَ فِيهَا سِلْسِلَةً ثُمَّ أَوْثَقَهَا إِلَى آسِيَةٍ مِنْ أَوَاسِي الْمَسْجِدِ ، وَقَالَ: لا أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى يُنَزِّلَ اللَّهُ عز وجل فِيَّ تَوْبَةً أَوْ أَمُوتَ مَوْتَ الدُّنْيَا، قَالَ: وَكَانَ لا يُسْتَنْكَرُ الْوَحْيُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَوْحَى اللَّهُ فِي شَأْنِهِ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ: إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَصَبْتَ ذَنْبًا بَيْنِي وَبَيْنَكَ لَتُبْتُ عَلَيْكَ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلَكِنْ كَيْفَ مَنْ أَضْلَلْتَ مِنْ عِبَادِي فَمَاتُوا فَأَدْخَلْتَهُمْ جَهَنَّمَ؟ فَلا أَتُوبُ عَلَيْكَ.
قَالَ عَوْفٌ: وَحَسِبْتُهُ أَنَّهُ يُقَالُ: اسْمُهُ بَارسيا