الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول في ذكر الكفَّارات
وهي إسباغ الوضوء في الكريهات، ونقل الأقدام إِلَى الجُمعات (أو)(*) الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات.
وسميت هذه كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات، ولذلك جاء في بعض الروايات:"من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه".
وهذه الخصال المذكورة الأغلب عليها تكفيرُ السيئات، ويحصل بها أيضاً رفعُ الدرجات كما في صحيح مسلم (1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أدلكم عَلَى ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟! ".
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: "إسباغ الوضوء عَلَى المكاره، وكثرة الخطأ إِلَى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط".
وقد رُوي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة. فهذه ثلاثة أسباب تُكفَّر بها الذنوب: أحدها: الوضوء، وقد دلَّ القرآن عَلَى تكفيره للذنوب في قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} إلى قوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] فقوله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ} يشمل طهارة ظاهر البدن بالماء، وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمامُ النعمة إِنَّمَا يحصل بمغفرة الخطايا وتكفيرها، كما قال تعالى لنبيه
(*)(و): "نسخة".
(1)
برقم (251).
- صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2].
وقد استنبط هذا المعنى محمد بن كعب القرظي، ويشهد له الحديث الَّذِي خرّجه الترمذي (1) وغيره (2) عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو، يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة.
فَقَالَ له: "أتدري ما تمامُ النعمة؟ ". قال: دعوةٌ دعوت بها، أرجو بها الخير.
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تمام النعمة: النجاةُ من النار، ودخول الجنة". فلا تتِمُّ نعمة الله عَلَى عبده إلا بتكفير سيئاته.
وقد تكاثرت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتكفير الخطايا بالوضوء كما في "صحيح مسلم"(3) عن عثمان رضي الله عنه أنَّه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ هكذا غُفرَ له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إِلَى المسجد نافلة".
وفيه (4) أيضاً عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره".
وفيه أيضاً (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ
(1) برقم (3527) وقال: هذا حديث حسن.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 231، 235)، والبخاري في الأدب المفرد (725)، والطبراني في الكبير (20/ 97)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 204).
قال أبو نعيم في الحلية: تفرد به عن اللجلاج أبو الورد، وحدث به الأكابر عن الجريري منهم: إسماعيل بن علية، ويزيد بن زريع، وعنهما الإمامان: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل.
(3)
برقم (229).
(4)
برقم (245).
(5)
برقم (244).
العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء، فَإِذَا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيًّا من الذنوب".
وفي "الموطأ"(2)"ومسند الإمام أحمد"(3)"وسنن النسائي"(4)"وابن ماجه"(5) عن الصنابحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَوَضَّأَ الْمُؤْمِنُ فَمَضْمَضَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ، فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهُ نَافِلَةً» .
(1) برقم (832).
(*) في صحيح مسلم "خرَّت".
(2)
(1/ 56) برقم [301].
(3)
(4/ 348، 349).
(4)
(1/ 74، 75).
(5)
برقم (282).
وفي "المسند" عن أبي أمامة (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ وَيُمَضْمِضُ فَاهُ وَيَتَوَضَّأُ كَمَا أَمَرَ اللهُ إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ: مَا نَطَقَ بِهِ فَمُهُ، وَمَا مَسَّ بِيَدَيْهِ، وَمَا مَشَى إِلَيْهِ، حَتَّى إِنَّ الْخَطَايَا تَحَادَرُ مِنْ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ إِذَا هُوَ مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ فَرِجْلٌ تَكْتُبُ حَسَنَةً، وَأُخْرَى تُمْحِي سَيِّئَةً» . وفيه أيضًا (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه، نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة، فإذا مضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرةٍ، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له، ومن كل خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه، فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته، وإن قعد قعد سالماً".
وفي هذا المعنى أحاديثُ (أخر)(*)، وفيما ذكرناه كفاية. وقد وردت النصوص أيضاً بحصول الثواب عَلَى الوضوء، وهذا زيادة عَلَى تكفير السيئات به:
ففي "صحيح مسلم"(3) عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا اله الا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ الثَمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ".
وفيه أيضاً (4): عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث
(1) لم أجده في "المسند" وهو عند "الطبرانى في "الكبير" (8/ 7995) قال: الهيثمي في "المجمع" (1/ 223): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه: لقيط أبو المساور (*)، روى عن أبي أمامة، وروى عنه الجريري وقرة بن خالد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ ويخالف.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 252، 256، 263، 264) من طرق عن شهر بن حوشب.
وشهر ضعيف. وانظر الترغيب والترهيب للمنذرى (1/ 155) ومجمع الزوائد للهيثمي (1/ 222 - 226).
(*) كثيرة: "نسخة".
(3)
برقم (234).
(4)
برقم (250).
_________
(*) هكذا في المجمع، وفي الثقات لابن حبان "أبو المثنى وفي إسناد الطبراني الكبير "أبو المشاء".
يبلغ الوضوء".
وفيه أيضاً (1): عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم الغر المحجلون من إسباغ الوضوء".
وخرّجه البخاري (2)، ولفظه:"إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من أثر الوضوء".
واعلم أن حديث معاذ بن جبل في المنام إِنَّمَا فيه ذكر إسباغ الوضوء عَلَى الكريهات، وكذا في حديث أبي هريرة المبدوء بذكره في هذا الفصل، فهاهنا أمران:
أحدهما: إسباغ الوضوء، وهو إتمامه إبلاغه مواضعه الشرعية كالثوب السابغ المغطي للبدن.
وفي "مسند البزار"(3) عن عثمان مرفوعًا: "من توضأ فأسبغ الوضوء غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". إسناده لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم (4) من وجه آخر عن عثمان.
وخرَّج النسائي (5) وابن ماجه (6) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان".
[وخرّجه مسلم (7)، ولفظه: "الطهور شطر الإيمان"](*).
(1) برقم (246).
(2)
برقم (136).
(3)
برقم (262 - كشف) بنحوه
وقال الهيثمي في "المجمع"(1/ 237): "ورجاله موثقون والحديث حسن إن شاء الله، وكذا حسنه المنذري فى الترغيب والترهيب (1/ 103).
(4)
لم أقف عليه.
(5)
في المجتبى (5/ 5).
(6)
برقم (280).
(7)
برقم (223).
(*) ما بين المعقوفتين من المطبوع.
وثانيهما: أن يكون إسباغه عَلَى الكريهات، والمراد أن يكون عَلَى حالة تكره النفس فيها الوضوء، وقد فُسِّر بحال نزول المصائب فإن النفس حينئذٍ تطلب الجزع، فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إِلَى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان كما قال الله عز وجل:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] وقال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
والوضوء مفتاح الصلاة، وقد يٌطفأ به حرارة القلب الناشئة عن ألم المصائب، كما يؤمر من غضب بإطفاء غضبه بالوضوء.
وفُسِّرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ: "
…
إسباغ الوضوء (عَلَى)(*) السبرات"، والسبرة: شدة البرد، ولا ريب أن إسباغ الوضوء في البرد يشق عَلَى النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفوس ويشق عليها فإنَّه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنعٌ ولا تسبب كالمرض وغيره كما دلت النصوص الكثيرة عَلَى ذلك.
وأما إن كان ناشئًا عن فعل هو طاعة لله فإنَّه يكتب لصاحبه به أجر، وترفعِ به درجات كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، وكذلك [ألم](**) الجوع والعطش الَّذِي يحصل للصائم، فهكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر عَلَى الألم بذلك، فإن حصل به الرضى فذلك مقام خواصِّ العارفين المحبين، وينشأ الرضا بذلك عن ملاحظة أمور:
أحدها: تذكر فضل الوضوء من حطَّه للخطايا، ورفعه للدرجات وحصول الغرة والتحجيل به، وبلوغ الحلية في الجنة إِلَى حيث يبلغ، وهذا كما انكسر ظفر
(*) في: "نسخة".
(**) من المطبوع.
بعض الصالحات من السَّلف من عثرة عثرتها فضحكت وقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه.
وقال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثَقُلت عليه في جميع الأحوال.
الثاني: تذكُّر ما أعده الله عز وجل لمن عصاه من العذاب بالبرد والزمهرير، فإن [شدة](*) برد الدُّنْيَا يذكِّر بزمهرير جهنم، وفي الحديث الصحيح (1):"إن أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم".
فملاحظة هذا الألم الموعود يهون الإحساس بألم برد الماء، كما رُوي عن زبيد اليامي أنَّه قام ليلة للتهجد -[وكان](*) البرد شديدًا- فلما أدخل يده في الإناء وجد شدة برده فذكر زمهرير جهنم فلم يشعر ببرد الماء بعد ذلك، وبقيت يده في الماء حتى أصبح، فقالت له جاريته: مالك لم تصل الليلة كما كنت تصلي؟!.
فَقَالَ: إني لما وجدت شدة برد الماء (ذكرتُ)(**) زمهرير جهنم فما شعرت به حتى أصبحت، فلا تخبري بهذا أحدًا ما دمت حيًّا.
الثالث: ملاحظة جلال من أمر بالوضوء، ومطالعة عظمته وكبريائه، وتذكُّر التهيؤ للقيام بين يديه ومناجاته في الصلاة (فذلك يهوِّن) (
…
) كل ألم ينال العبدَ في طلب مرضاته من برد الماء وغيره، وربما لم يشعر بألمه بالكلية كما قال بعض العارفين: بالمعرفة هانت عَلَى العاملين العبادة.
قال سعيد بن عامر: بلغني أن إبراهيم الخليل عليه السلام كان إذا توضأ سُمع لعظامه قعقعة.
(*) من المطبوع.
(1)
أخرجه البخاري (536)، مسلم (617).
(**) تذكرت: "نسخة".
(
…
) فبذلك يهون: "نسخة".
وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه، فيقال له: ما هذا الَّذِي يعتريك عند الوضوء؟!. فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟.
وكان منصور بن زاذان إذا فرغ من وضوئه يبكي حتى يرتفع صوته، (فقيل) (*) له: ما شأنك؟!. (فَقَالَ)(**): وأي شيء أعظم من شأني، إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله (يعرض) (
…
) عني.
وكان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه ارتعد وانتفض وبكى بكاءً شديدًا، فقِيلَ لَهُ في ذلك، فَقَالَ: إني أريد أن أتقدم إِلَى أمر عظيم: إني أريد أن أقوم بين يدي الله عز وجل.
الرابع: استحضار اطلاع الله عز وجل عَلَى عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله، فمن تيقَّن أن البلاء بعين من يحبه هان عليه الألم كما أشار تعالى إِلَى ذلك وله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. وقال: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"(1).
وقال أبو سليمان الداراني: قرأت في بعض الكتب: يقول الله عز وجل: "بعيني ما تحمَّل المتحمِّلون من أجلي، وكابد المكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا في جواري، وتبحبحوا في رياض خلدي؟
فهنالك فليبشر المُصَفُّون لله أعمالهم بالمنظر العجيب من الحبيب
(*) فيقال: "نسخة".
(**) فيقول: "نسخة".
(
…
) في المطبوع: "يرضى".
(1)
أخرجه البخاري (50) ومسلم (8) في سياق حديث جبريل الطويل.
القريب، أترون أني أضيع لهم عملاً؟
فكيف وأنا أجود عَلَى المولين عني، فكيف بالمقبلين إليّ؟ ".
فبإسباغ الوضوء في البرد -لاسيما في الليل- يطلع الله عليه، ويرضى به، ويباهي به الملائكة، فاستحضار ذلك يهون ألمه.
وفي "المسند"(1) وصحيح ابن حبان (2) عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إِلَى الطهور وعليه عُقَدٌ فيتوضأ، فَإِذَا وضّأ يديه انحلَّت عقدة، وإذا وضّأ وجهه انحلَّت عقدة، إذا مسح برأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلَّت عقدة، فيقول الرب عز وجل للذين وراء الحجاب: انظروا إِلَى عبدي هذا يعالج نفسه، ما سألني عبدي هذا فهو له
…
" وذكر بقية الحديث.
وروى عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يضحك إِلَى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطُّهور فصلى
…
" (3) وذكر الحديث.
كان بعض السَّلف له ورد بالليل ففتر عنه، فهتف به هاتف يقول:
بعين الله في الليل لما يصنع خدّامه
…
إذا قاموا وحثَّتهم عَلَى الخدمة أحكامه
الخامس: الاستغراق في محبة من أمر بهذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فمن امتلأ قلبه من محبة الله عز وجل أَحَبّ ما يحبه وإن شق عَلَى النفس وتألمت به، كما يقال: المحبة تهوَّن الأثقال.
وقال بعض السَّلف في مرضه: أحَبُّهُ إِلَيّ أحَبُّهُ إِلَيْهِ.
(1)(4/ 159، 201) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 224) عن الثاني: رجاله ثقات.
(2)
برقم (168 - موارد).
(3)
أخرجها "البزار"(715 - كشف) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطية العوفي به، وقال الهيثمي في المجمع (2/ 256)، فيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام كثير لسوء حفظه لا لكذبه.
وكما قيل:
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وكما قيل أيضاً:
في حبكم يهون ما قد ألقى
…
ما يسعد بالنعيم من لا يشقى
من خدم من يحب تلذّذ بشقائه في خدمته.
وقال بعضهم: القلبُ المحبُّ لله يحب النصب له.
وقال عبد الصمد: أوجدهم في عذابه عُذوبة.
فإسباغ الوضوء عَلَى المكاره من علامات المحبِّين كما في "كتاب الزهد" للإمام أحمد (1) عن عطاء بن يسار قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب! من أهلك الذين هم أهلك، الذين تظلهم في ظل عرشك؟.
قال: هم البريئة (أيديهم)(*)، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذُكرت ذكروا بي، وإذا ذُكروا ذكرت بذكرهم، الذين يُسبغون الوضوء في المكاره، ويُنيبون إِلَى ذكري كما تنيب النسور إِلَى أوكارها، ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حَرِبَ".
وقد يخرق الله العادة لبعض المحبِّين له فلا يجد ألم برد الماء، كما كان بعض السَّلف قد دعا الله أن يهوِّن عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء وله بخار، وربما سُلِب بعضهم الإحساس في الحرِّ والبرد مطلقًا.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب الله عنه الحر والبرد، فكان يلبس في الصيف لباس الشتاء، وفي الشتاء لباس
(1)(ص 74 - 75) وبين عطاء بن يسار وموسى عليه السلام مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي.
(*) أبدانهم: "نسخة".
الصيف (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "إنه يحب الله رسوله، ويحبه الله ورسوله"(2).
ورأى أبو سليمان الداراني في طريق الحج في شدة برد الشتاء شيخًا عليه أخلاقٌ رثَّة وهو يرشح عرقًا، فسأله عن حاله، فقال: إِنَّمَا الحر والبرد خلقان لله عز وجل، فإن أمرهما أن يغشياني أصاباني، لأن أمرهما أن يتركاني تركاني.
وقال: أنا في هذه البرية منذ ثلاثين سنة يلبسني في البرد فيحًا من محبته، ويُلبسني في الصيف بردًا من محبته.
وقيل لآخر -وعليه خرقتان في برد شديد: لو استترت في موضع يكنك من البرد!. فأنشد:
ويحسن ظني أنني في فنائه
…
وهل أحدٌ في كنِّه يجد البردا
…
(1) أخرجه ابن ماجه (117) قال البوصيري في الزوائد (1/ 70): هذا إسناد ضعيف، ابن أبي ليلى شيخ وكيع هو محمد، وهو ضعيف الحفظ لا يحتج بما ينفرد به وأخرجه الطبراني في الأوسط (2286) وقال الهيثمي في المجمع (9/ 122): إسناده حسن.
(2)
أخرجه البخاري (3009)، ومسلم (2406).