المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ - اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى - ضمن مجموع رسائل ابن رجب - جـ ٤

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌الفصل الثاني في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ

‌الفصل الثاني في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ

وهي ثلاث درجات:

أحدها: إطعام الطعام، وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال الله عز وجل:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} إِلَى قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} . [الإنسان: 8 - 25] فوصف فاكهتهم وشرابهم جزاء لإطعامهم الطعام.

وفي "الترمذي"(1) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما مؤمن أطعم مؤمنًا عَلَى جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمنًا عَلَى ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم".

وفي "المسند"(2) و"الترمذي"(3) عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في

(1) برقم (2449).

قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد رُوي هذا عن عطية عن أبي سعيد موقوف، وهو أصح عندنا وأشبه.

وسئل أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/ 171) برقم (2007) عن هذا الحديث فَقَالَ: الصحيح موقوف، الحفاظ لا يرفعونه.

وأخرجه أبو داود (1682) من طريق آخر عن أبي سعيد.

(2)

أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده عَلَى المسند (1/ 155 - 156).

(3)

برقم (1984، 2527) وقال: حديث غريب، وقد تكلم بعضُ أهل العِلْم في=

ص: 36

الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. قالوا: لمن هي يا رسول الله؟. قال: "لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وصلى بالليل والناس نيام".

وفي حديث عبد الله بن سلام الَّذِي خرّجه "أهل السنن"(1) أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم أول قدومه المدينة يقول: "أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

وفي حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله وحج مبرور، وأهون من ذلك: إطعام الطعام، ولين الكلام" خرجه الإمام أحمد (2).

وفي حديث هانئ بن يزيد أن رجلاً قال: يا رسول الله! دُلني عَلَى عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟. قال: "تطعم الطعام، وتفشي السلام"(3).

وفي حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ختم له بإطعام مسكين دخل الجنة"(4).

وفي الصحيحين (5) من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟.

=عبد الرحمن بن إسحاق هذا من قبل حفظه.

(1)

أخرجه الدارمي (1468، 2635)، والترمذي (2485)، وابن ماجه (1334، 3251).

قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

(2)

ليس في المسند، وهو عند الطبراني كما في مجمع الزوائِد للهيثمي (5/ 278 - 279) حيث ذكره وقال: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما: ابن لهيعة، وحديثه حسن وفيه ضعف، وفي الآخر سويد بن إبراهيم وثقه ابن معين في روايتين وضعفه النسائي، وبقية رجالهما ثقات.

(3)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد (811)، وفي خلق أفعال العباد (ص 68)، والبزار (2889 - كشف)، والطبراني في الكبير (22/ 467، 468).

قال الهيثمي في المجمع (5/ 17): رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات.

(4)

أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 218 - 219)، وفي إسناده انقطاع.

(5)

أخرجه البخاري (12)، ومسلم (39).

ص: 37

قال: "تطعم الطعام، وتقرئ السلام عَلَى من عرفت ومن لم تعرف".

وفي حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من أطعم الطعام" خرجه الإمام أحمد (1).

فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة، ويباعد من النار وينجي منها كما قال تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11 - 16].

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"(2).

وكان أبو موسى الأشعري يقول لولده: اذكروا صاحب الرغيف. ثم ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل عبد الله سبعين سنة، ثم إن الشيطان حسَّن في عينيه امرأة فأقام معها سبعة أيام، ثم خرج هاربًا فأقام مع مساكين فتصدق عليه برغيف كان بعض أولئك المساكين (يريده)(*)، فآثره به ثم مات، فوُزنت عبادته بالسبعة أيام التي مع المرأة فرجحت الأيام السبعة بعبادته، ثم وزن الرغيف بالسبعة الأيام فرجح بها (3).

ويتأكد إطعام الطعام للجائع وللجيران خصوصًا، وفي "الصحيح" (4) عن أبي موسى الأشعرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني"(5).

وفي "صحيح مسلم"(6) عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا ذر! إذا طبخت مرقةً فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك".

(1) أخرجه أحمد (5/ 16) وقال الهيثمي في المجمع (5/ 17): رواه أحمد، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

(2)

أخرجه البخاري (6540)، ومسلم (1016).

(*) أحق به: "نسخة".

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 263) مطولاً.

(4)

أخرجه البخاري (3046).

(5)

هو الأسير، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا. (النهاية: 3/ 314).

(6)

برقم (2625).

ص: 38

وفي المسند" (1) و "صحيح الحاكم" (2) عن [ابن] عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما أهل عَرْصةٍ (3) أصبح فيهم امرؤ جائعًا فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل".

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يشبع المؤمن دون جاره"(4).

وفي "صحيح الحاكم"(5) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس بالمؤمن الَّذِي يشبع وجاره جائع". وفي رواية: "ما آمن من بات شبعانًا، وجاره طاويًا"(6).

فأفضل أنواع إطعام الطعام: الإيثار مع الحاجة كما وصف الله تعالى بذلك الأنصار رضي الله عنهم فَقَالَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقد صحَّ أن سبب نزولها أن رجلاً منهم أخذ ضيفًا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يضيفه، فلم يجد عنده إلا قوت صبيانه، فاحتال هو وامرأته حتى نوّما صبيانهما، وقام إِلَى السراج كأنه يصلحه فأطفأه، ثم جلس مع الضيف يريه أنَّه يأكل معه ولم يأكل، فلما غدا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "عجب الله من

(1)(2/ 33) عن ابن عمر.

(2)

(2/ 11 - 12) عن ابن عمر.

وسئل أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 392) عن هذا الحديث فَقَالَ: "هذا حديث منكر".

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات.

(3)

كل موضع واسع لا بناء فيه (النهاية 3/ 208).

(4)

أخرجه أحمد (1/ 54)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 27) بلفظ:"الرجل" بدلاً من "المؤمن".

قال أبو نعيم: غريب لم نكتبه من حديث عمر بن الخطاب إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الرحمن.

وقال الهيثمي في المجمع (8/ 167 - 168): رواه أحمد وأبو يعلى ببعضه، ورجاله رجال الصحيح إلا أن عباية بن رفاعة لم يسمع من عمر.

(5)

(4/ 167) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(6)

أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 751) بنحوه.

قال الهيثمي في المجمع (8/ 167): رواه الطبراني والبزار، وإسناد البزار حسن.

ص: 39

صنيعكما الليلة". ونزلت هذه الآية (1).

وكان كثير من السَّلف يؤثر بفطوره غيره وهو صائم ويصبح صائما، منهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وداود الطائي، وعبد العزيز بن سليمان، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل وغيرهم.

وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة.

ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له، قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم عَلَى طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إِلَى المسجد (فأكله)(*) مع الناس، وأكل الناس معه.

وكان منهم من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم، منهم الحسن وابن المبارك، وكان ابن المبارك ربما يشتهي الشيء فلا يصنعه إلا لضيف ينزل به فيأكله مع ضيفه.

وكان كثير منهم يفضل إطعام الإخوان عَلَى الصدقة عَلَى المساكين.

وقد رُوي هذا المعنى مرفوعًا من حديث أنس بإسناد ضعيف، ولاسيما إن كان الإخوان لا يجدون مثل ذلك الطعام.

كان بعضهم يعمل الأطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء، ويقول: إنهم لا يجدونها. ومنهم من يقول: إني لا أشتهيه، وإنَّما صنعته لأجلكم. وبعضهم اتخذ حلاوة فأطعمها المعتوه، فَقَالَ له أهله: إن هذا لا يدري!. فَقَالَ: لكن الله يدري.

واشتهى الربيع بن خثيم حلواء فلما صنعت له دعا بالفقراء فأكلوا، فَقَالَ له أهله: أتعبتنا ولم تأكل!. فَقَالَ: ومن أكله غيري!

(1) أخرجه البخاري (3798)، ومسلم (2054) من حديث أبى هريرة بنحوه.

(*) فيأكله: "نسخة".

ص: 40

وقال آخر منهم -وجرى له نحو من ذلك:- إذا أكلته كان في الحش، وإذا أطعمته كان عند الله مذخورًا.

ورُوي عن علي قال: لأنّ أجمع أناسًا من إخواني عَلَى صاع من طعام، أَحَبّ إِلَيَّ من أن أدخل سوقكم هذا فأبتاع نسمة فأعتقها.

وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: لأنّ أدعو عشرةً من أصحابى فأطعمهم طعامًا يشتهونه أَحَبّ إِلَيَّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.

أأصف الإيثار لمن يبخل بأداء الحقوق الواجبة عليه؟! أأطلب الشجاعة من الجبان، وأستشهد عَلَى رؤية الهلال من هو من جملة العميان؟! كم بين من قيل فيه:{فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة: 76] وبين من قيل فيه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].؟! كم بيننا وبين القوم كما بين اليقظة والنوم.

لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم

ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

فيا من يطمع في علو الدرجات من غير عمل صالح هيهات هيهات! {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21].

نزلوا بمكة في قبائل هاشم

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

(الثاني من الدرجات): لين الكلام، وفي رواية:"إفشاء السلام". وهو

داخل في لين الكلام، وقد قال الله عز وجل:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، وقال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35]، وقال تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم. "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" قالوا له: وما الحج المبرور يا

ص: 41

رسول الله؟ قال: "إطعام الطعام، ولين الكلام". خرّجه الإمام أحمد (1)، وقد تقدّم في ذكر إطعام الطعام أحاديث أُخر في طيب الكلام.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والكلمة الطيبة صدقة"(2).

وفيه أيضًا: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"(3).

وأما إفشاء السلام فمن موجبات الجنة، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم عَلَى شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم".

وخرَّج أبو داود من حديث أبي أمامة (5) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام".

ويروى من حديث ابن مسعود مرفوعًا (6) وموقوفًا (7): "إذا مر الرجل بالقوم فسلّم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنّه ذكرهم بالسلام، وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب".

وقد رُوي من حديث عمران بن حصين وغيره أن رجلاً دخل عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السلام عليكم. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "عشر"، ثم جاء آخر فَقَالَ: السلام عليكم ورحمة الله. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشرون"، ثم جاء

(1)(3/ 325، 334) عن جابر بن عبد الله، قال الحافظ في الفتح (3/ 382):"في إسناده ضعف" وطرف الحديث الأول في الصحيحين من حديث أبي هريرة.

(2)

قطعة من حديث أخرجه البخاري (2989) ومسلم (2/ 699) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه البخاري (6023)، ومسلم (1016).

(4)

برقم (54).

(5)

برقم (5197).

(6)

أخرجه البزار (1999 - كشف) والطبراني في الكبير (10/ 9800) قال البزار: رواه غير واحد موقوفًا.

وقال الهيثمي في المجمع (8/ 29): "رواه البزار بإسنادين، والطبراني بأسانيد، وأحدهما رجاله رجال الصحيح عند البزار والطبراني".

(7)

أخرجه البخاري في الأدب (1039).

وقال الحافظ في الفتح (11/ 13): "وطريق الموقوف أقوى".

ص: 42

آخر فَقَالَ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فَقَالَ رسول الله: "ثلاثون".

خرجه الترمذي (1) وغيره (2).

وخرّجه أبو داود (3). وزاد: ثم جاء آخر فَقَالَ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أربعون" ثم قال: "هكذا تكون الفضائل"(4).

وقد سبق حديث: "أن تقرأ السلام عَلَى من عرفت ومن لم تعرف".

وفي حديث ابن مسعود مرفوعًا: "من أشراط الساعة: السلام بالمعرفة.

خرَّجه الإمام أحمد (5).

وإنَّما جمع بين إطعام الطعام ولين الكلام ليكمل بذلك الإحسان إِلَى الخلق بالقول والفعل، فلا يتم الإحسان بإطعام الطعام إلا بلين الكلام وإفشاء السلام، فإن أساء بالقول بطل الإحسان بالفعل من الإطعام وغيره كما قاله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، وربما كان معاملة النَّاس بالقول الحسن أَحَبّ إليهم من الإحسان بإعطاء المال كما قال لقمان لابنه: يا بني! لتكن كلمتك طيبة، ووجهك منبسطا، تكن أَحَبّ إِلَى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلين القول لمن يشهد له بالشر فينتفي بذلك شره، وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدًا بما يكره في وجهه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فحاشًا ولا متفحشًا.

ورُوي عن ابن عمر أنَّه كان ينشد:

بني إن البر شيء هين

وجه طليق وكلام لين

(1) برقم (2689) وقال: حسن صحيح.

(2)

وأخرجه أحمد (4/ 439 - 440)، والدارمي (2/ 277 - 278) والنسائي في عمل اليوم والليلة (337).

(3)

برقم (5195).

(4)

هذه الزيادة أخرجها أبو داود (5196) وقال الحافظ. في الفتح (11/ 6): سندها ضعيف.

(5)

(1/ 387، 405 - 406).

ص: 43

ولبعضهم:

خذ العفو وأمر بعرف كما

أمرت وأعرض عن الجاهلين

ولن في الكلام لكل الأنام

فمستحسن من ذوي الجاه لين

وقد وصف الله عز وجل في كتابه أهل الجنة بمعاملة الخلق بالإحسان بالمال واحتمال الأذى، فَقَالَ تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134] فالإنفاق في السراء والضراء يقتضي غاية الإحسان بالمال من الكثرة والقلة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس يقتضي عدم المقابلة عَلَى السوء بمثله من قول وفعل، وذلك يتضمن إلانة القول، واجتناب الفحش والإغلاظ في المقال ولو كان مباحًا، وهذا نهاية الإحسان، فلهذا قال تعالى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .

ومن هذا قول بعضهم وقد سئل عن حسن الخلق، فَقَالَ: بذل الندى (1) وكف الأذى. وهذا الوصف المذكور في القرآن أكملُ من هذا، لأنّه وصفهم ببذل الندى، واحتمال الأذى.

وحُسن الخُلُق يبلغ به العبد درجات المجتهدين في العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم النهار، القائم الليل"(2).

ورؤي بعض السَّلف في المنام فسئل عن بعض إخوانه الصالحين، فَقَالَ: وأين ذلك؟ رُفع في الجنة بحُسن الخلق.

ومما يندب إِلَى إلانة القول فيه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون برفق كما قال تعالى في حق الكفار:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]

(1) الندى: السخاء والكرم. (لسان العرب: 15/ 315).

(2)

أخرجه أبو داود (4798) وغيره وفيه إرسال بين المطلب بن حنطب وعائشة.

وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (284) وغيره عن أبي هريرة.

وأخرجه الطبراني في الأوسط (6273) عن علي وقال: لا يروى هذا الحديث عن علي رضي الله عنه إلا بهذا الإسناد، تفرد به إسماعيل بن عياش.

ص: 44

قال بعض السَّلف: ما أغضبت أحدًا فقبل منك.

وكان أصحاب ابن مسعود إذا رأوا قومًا عَلَى ما يُكره يَقُولُونَ لهم: مهلاً مهلاً بارك الله فيكم.

ورأى بعض التابعين رجلاً واقفًا مع امرأة فَقَالَ لهما: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما.

ودُعي الحسن إِلَى دعوة، فجيء بآنية فضة فيها حلواء، فأخذ الحسن الحلواء فقلبها عَلَى رغيف وأكل منها، فَقَالَ بعض من حضر: هنا نهيٌ في سكون.

ورأى الفُضيل رجلاً يعبث في صلاته فزبره، فقال له الرجل: يا هذا! ينبغي لمن يقوم لله أن يكون ذليلاً. فبكى الفضيل، وقال له: صدقت.

قال شعب بن حرب: ربما مرَّ سفيان الثوري بقوم يلعبون الشطرنج، فيقول: ما يصنع هؤلاء؟ فيقال له: يا أبا عبد الله ينظرون في كتاب. فيُطأطئ رأسه ويمضي، وإنَّما يريد بذلك ليُعلم أنه قد أنكر.

وقال سفيان: لا يأمرُ بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى.

وقال الإمام أحمد: الناس يحتاجون إِلَى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً معلنًا بالفسق فإنَّه لا حرمة له.

وكان كثير من السَّلف لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا سرًّا فيما بينه وبين من يأمره وينهاه.

وقالت أم الدرداء: من وعظ أخاه سرًّا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شأنه (1).

وكذلك مقابلة الأذى بإلانة القول كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، وقال تعالى:{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}

(1) أخرجه الخلال (ص 10).

ص: 45

[الرعد: 22]، قال بعض السَّلف: هو الرجل يسبه الرجل فيقول له: إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك.

قال رجل لسالم بن عبد الله وقد زحمت راحلتُه راحلتَه في سفر: ما أراك إلا رجل سوء. فَقَالَ له سالم: ما أراك أبعدت.

وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مُرائي!. قال: متى عرفت اسمي؟! ما عرفه أحدٌ من أهل البصرة غيرك.

ومرَّ بعضهم عليَّ صبيان يلعبون بجوزٍ، فوطئ عَلَى بعض الجوز بغير اختياره فكسره، فَقَالَ له الصبي: يا شيخ النار! فجلس الشيخ يبكي ويقول: ما عرفني غيره.

ومرَّ بعضهم مع أصحابه في طريق فرموا عليهم رمادًا، فَقَالَ الشيخ لأصحابه: من يستحق النار فصالحوه عَلَى الرماد؟! يعني فهو رابح.

ورأى جندي إبراهيم بن أدهم خارج البلد فسأله عن العمران، فأشار له إِلَى القبور، فضرب رأسه ومضى، فقِيلَ لَهُ إنه إبراهيم بن أدهم! فرجع يعتذر إِلَيْهِ، فَقَالَ له إبراهيم: الرأس الَّذِي يحتاج إِلَى اعتذارك تركته ببلخ.

ومرَّ به جندي آخر وهو ينظر بستانًا لقوم بأجرة، فسأله أن يناوله شيئًا فلم يفعل وقال: إن أصحابه لم يأذنوا لي في ذلك. فضرب رأسه، فجعل إبراهيم يُطأطئ رأسه وهو يقول: اضرب رأسًا طالما عصى الله (1).

من أجلك قد جعلت خدي أرضًا

للشامت والحسود حتى ترضى

(1) قال الشيخ جاسم الدوسري: هذا ضعف وخور، وينبغي للمسلم أن يكون عزيز النفس أبيًّا لا يرضى بالذل والمهانة، ومثل هذه الحكايات نلاحظ فيها التأثر بحكمة نصرانية تقول:"إذا ضرب خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر". وهذا غير مجود في الإسلام، وقد ألصقت بهذا الزاهد حكايات وأقوال هو منها براء، قد افتراها عليه المتأخرون، فينبغي التثبت من صحتها قبل أن يُحكم عَلَى الرجل عَلَى ضوء هذه الروايات المختلفة فيكون الحكم جائرًا ولابد.

ص: 46

(الثالث من الدرجات): الصلاة بالليل والناس نيام، فالصلاة بالليل من موجبات الجنة كما سبق ذكره في غير حديث، وقد دلّ عليه قول الله عز وجل:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19]، فوصفهم بالتيقظ بالليل، والاستغفار بالأسحار، وبالإنفاق من أموالهم.

وكان بعض السَّلف نائمًا فأتاه آتٍ في منامه فَقَالَ له: قم فصلِّ، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، هم خُزّانها هم خُزّانها.

وقيام الليل يوجب علو الدرجات في الجنة، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، فجعل جزاءه عَلَى التهجد بالقرآن بالليل أن يبعثه المقام المحمود، وهو أعلى درجاته صلى الله عليه وسلم.

قال عون بن عبد الله: يدخل الله الجنة أقوامًا فيعطيهم حتى يملوا، وفوقهم ناس في الدرجات العلى، فلما نظروا إليهم عرفوهم، فقالوا: ربنا إخواننا كنا معهم، فبم فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات! إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمئون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون".

ويوجب أيضاً من نعيم الجنة ما لم يطلع عليه العباد في الدُّنْيَا، قال الله عز وجل:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17]. وفي "الصحيح"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر عَلَى قلب بشر. اقرءوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا

(1) أخرجه البخاري (4780) ومسلم (2174 - 2175) عن أبي هريرة.

ص: 47

يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].

قال بعض السَّلف: أخفوا لله العمل فأخفى الله لهم الجزاء، فلو قدموا عليه لأقر تلك الأعين عنده.

ومما يجزي به المتهجدين في الليل: كثرة الأزواج من الحور العين في الجنة، فإن المتهجد قد ترك لذة النوم ولذة التمتع بأزواجه طلبًا لما عند الله عز وجل، فعوضه الله تعالى خيرًا مما تركه وهو الحور العين في الجنة، ومن هنا قال بعضهم: طول التهجد مهور الحور العين في الجنة.

وكان بعض السَّلف يحيى الليل بالصلاة ففتر عن ذلك، فأتاه آتٍ في منامه فَقَالَ له: قد كنت يا فلان تدأب في الخطبة، فما الَّذِي قصر بك عن ذلك؟. قال: وما ذلك؟. قال: كنت تقوم من الليل، أو ما علمت أن المتهجد إذا قام إِلَى التهجد قالت الملائكة: قد قام الخاطب إِلَى خطبته؟!

ورأى بعضهم في منامه امرأة لا تشبه نساء الدُّنْيَا فَقَالَ لها: من أنت؟ قالت: حوراء أمة الله. فَقَالَ لها: زوجيني نفسك. قالت: اخطبني إِلَى سيدي وأمهرني. قال: وما مهرك؟. قالت: طولُ التهجد.

نام بعض المتهجدين ذات ليلة فرأى في منامه حوراء تنشد:

أتخطب مثلي وعني تنام

ونوم المحبين عنا حرام

لأنا خلقنا لكل امرئ

كثير الصلاة براه (1) الصيام

وكان لبعض السَّلف ورد من الليل فنام عنه ليلة، فرأى في منامه جارية كأنّ وجهها القمرُ ومعها رق فيه كتاب مكتوب، فقالت: اتقرأ؟ قال: نعم. فأعطته إياه ففتحه فإذا فيه مكتوب:

أألهتك لذة نومة عن خير عيش

مع الخيرات في غُرف الجنان

تعيش مخلدًا لا موت فيه

وتنعم في الجنان مع الحسان

(1) أهزله وأضعفه: (اللسان: 14/ 71).

ص: 48

تيقظ من منامك إن خيرًا

من النوم التهجد بالقران

فاستيقظ، قال: فوالله ما ذكرتها إلا ذهب عني النوم.

كان بعض الصالحين له وردٌ فنام عنه، فوقف عليه فتى في منامه فَقَالَ له بصوت محزون:

تيقظ لساعات من الليل يا فتى

لعلك تحظى في الجنان بحورها

فتنعم في دار يدوم نعيمها

محمد فيها والخليل يزورها

فقم فتيقظ ساعة بعد ساعة

عساك تُوفِّي ما بقى من مهورها

كان بعض السَّلف الصالحين كثير التعبد، وبكى شوقًا إِلَى الله ستين سنة، فرأى في منامه كأنه عَلَى ضفة نهر يجري بالمسك، حافتاه شجر لؤلؤ ونبتٌ من قضبان الذهب، فإذا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد:

ذرانا إله الناس رب محمد

لقوم عَلَى الأقدار بالليل قُوَّم

يناجون رب العالمين إلههم

وتسري هموم القوم والناس نُوَّم

فَقَالَ: بخ بخ لهؤلاء! من هم؟ لقد أقر الله أعينهم بكن.

فقلن: أوما تعرفهم؟ قال: لا.

فقلن: بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر.

وكان بعض الصالحين ربما نام في تهجده فتوقظه الحوراء في منامه فيستيقظ بإيقاظها.

ورُوي عن أبي سليمان الداراني أنَّه قال: ذهب بي النوم ذات ليلة في صلاتي، فإذا بها -يعني: الحوراء- تنبهني وتقول: يا أبا سليمان! أترقد وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟!.

وفي رواية عنه أنَّه نام ليلة في سجوده قال: فإذا بها قد ركضتني برجلها وقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إِلَى المتهجدين في

ص: 49

تهجدهم؟ بؤسًا لعين آثرت لذة نوم عَلَى مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ، ولقي المحبون بعضهم بعضا، فما هذا الرقاد يا حبيبي وقرة عيني؟

أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟. فوثب فزعًا وقد عرق من توبيخها له، قال: وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي (1).

وكان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدُّنْيَا.

وقال يزيد الرقاشي لحبيب العجمي: ما أعلم شيئًا أقر لعيون العابدين في الدُّنْيَا من التهجد في ظلمة الليل، وما أعلم شيئًا من نعيم الجنان وسرورها ألذَّ عند العابدين ولا أقرّ لعيونهم من النظر إِلَى ذي الكبرياء العظيم إذا رفعت تلك الحجب وتجلّى لهم الكريم. فصاح حبيب عند ذلك وخرَّ مغشيًّا عليه.

وكان السري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل.

وقال أبو -سليمان-: إذا جنَّ الليل وخلا كل حبيب بحبيبه، افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم عَلَى خدودهم، أشرف الجليل جل جلاله فنادى؟ يا جبريل! بعيني من تلذذ بكلامي، واستروح إِلَى مناجاتي، ناد فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء؟! هل رأيتم حبيبا يعذب أحبَّاءه؟ أم كيف يجمل بي أن أعذب قومًا إذا جنَّهم الليل تلمقوني؟ فبي حلفت إذا قدموا عليّ يوم القيامة لأكشفنَّ لهم عن وجهي الكريم ينظرون إليّ وأنظر إليهم (2).

وسئل الحسن: لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوهًا؟.

قال: لإنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره.

(1) قال الشيخ جاسم الدوسري: قد أسرف المصنف رحمه الله في إيراد مثل هنه الحكايات التي هي من نسج الخيال، وتظهر عليها لوائح الوضع والانتحال، وإن امرءا لم يرغبه في قيام الليل ما ورد في الكتاب والسنة، لن يرغبه فيه أمثال هذه الحكايات الغثة.

(2)

قال الشيخ جاسم الدوسري: الإخبار عن الله عز وجل أمر عظيم، وما لم يرد في أحد الوحيين: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مردود عَلَى قائله.

ص: 50

رأت امرأة من الصالحات في منامها كأن حللا قد فرقت عَلَى أهل مسجد محمد بن جحادة، فلما انتهى الَّذِي يفرقها إِلَيْهِ دعا بسفط (1) مختوم فأخرج منه حلة صفراء، قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه إياها، وقال: هذه لك بطول السهر.

قالت: فوالله لقد كنت أراه -تعني: محمد بن جحادة- بعد ذلك فأتخايلها عليه- تعني تلك الحلة.

قال كرز بن وبرة: بلغني أن كعبًا قال: إن الملائكة ينظرون من السماء إِلَى الذين (يتهجدون)(*) بالليل كما تنظرون أنتم إِلَى نجوم السماء.

يا نفس فاز الصالحون بالتقى

وأبصروا الحق وقلبي قد عمي

يا حُسْنَهُم والليل قد جنهم

ونورهم يفوق نور الأنجم

ترنموا بالذكر في ليلهم

فعيشهم قد طاب بالترنم

قلوبهم للذكر قد تفرغت

دموعهم كلؤلؤ منتظم

أسحارهم بهم لهم قد أشرقت

وخلع الغفران خير القِسَمِ

في بعض الآثار يقول الله عز وجل كل ليلة: يا جبريل أقم فلانًا وأنم فلانًا.

قام بعض الصَّالحين في ليلة باردة، وكان عليه خلقان رثَّة فضربه البرد فبكى، فسمع هاتفًا يقول: أقمناك وأنمناهم، ثم تبكي علينا!

تنبهوا أيا أهيل ودي

كم ذا الكرى، هب نسيم نجد

كم بين خال وجوٍّ وساهر

وراقد وكاتم ومبدي

قيل لابن مسعود: ما نستطيع قيام الليل.

قال: أبعدتكم ذنوبكم.

وقيل للحسن: أعجزنا قيام الليل.

(1) كيس يعبأ فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. (اللسان: 7/ 315).

(*) يصلون: "نسخة".

ص: 51

قال: قيدتكم خطاياكم. إِنَّمَا يؤهل الملوك للخلوة بهم ومخاطبتهم من يخلص في ودادهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم فلا يرضونه لذلك:

الليل لي ولأحبابي أحادثهم

قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا

لهم قلوب بأسرار لها ملئت

عَلَى ودادي وإرشادي لهم طبعوا

قد أثمرت شجرات الفهم عندهم

فما جَنَوْا إذ جَنَوْا مما به ارتفعوا

سَرَوْا فما وهنوا عجزًا وما ضعفوا

وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا

***

ص: 52