الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب الثاني من مكفّرات الذنوب: المشيُ عَلَى الأقدام إِلَى الجماعات وإلى الجُمُعات
ولا سيما إن توضأ الرجل في بيته ثم خرج إِلَى المسجد لا يريد بخروجه إلا الصلاة فيه كما في الصحيحين (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسة وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ".
وفي صحيح (2) مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ (*) إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً» .
وفي الصحيحين (3) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل خطوة يمشيها إِلَى الصلاة صدقة".
وفي "المسند"(4) وصحيح ابن حبان (5) عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1) أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649).
(2)
برقم (666).
(*) خطواته: "نسخة".
(3)
ليس في الصحيحين بهذا اللفظ عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد (2/ 312، 316، 350).
(4)
(4/ 157).
(5)
برقم (2045 - إحسان).
"إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إِلَى المسجد عشر حسنات"(1).
وفيهما أيضًا (2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ رَاحَ إِلَى مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فَخَطَوَاتِهِ: خَطْوَةٌ تَمْحُو سَيِّئَةً، وَخَطْوَةٌ تُكْتَبُ حَسَنَةٌ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا".
وفي سنن أبي داود (3) عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من خرج من بيته متطهرًا إِلَى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم".
وفية (4) أيضاً عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ الْيُمْنَى إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ الْيُسْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، فَلْيُقَرِّبْ أَوْ لِيُبَعِّدْ، فَإِنْ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ غُفِرَ لَهُ".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
والمشي إِلَى الجُمُعات له مزيد فضل، لاسيما إن كان بعد الاغتسال، كما في السنن (5) عن أوس بن أوس -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
(1) قال المنذري في الترغيب (1/ 207) عن هذا الحديث: "بعض طرقه صحيح" وقال الهيثمي في المجمع (2/ 29): "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط، وفي بعض طرقه ابن لهيعة، وبعضها صحيح وصححه الحاكم" قلت: ولفظ الحكم في المستدرك (1/ 211): هذا حديث صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 172)، وابن حبان (419 - موارد).
وقال الهيثمي في المجمع (2/ 29) رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال الطبراني رجال الصحيح ورجال أحمد فيهم ابن لهيعة.
(3)
برقم (558).
(4)
برقم (563).
(5)
أخرجه أبو داود برقم (345، 346)، والترمذي (496) وقال: حسن، والنسائي (3/ 95، 96، 97)، وابن ماجه (1087).
وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ، وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ سَنَةٍ: صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا».
وكلما بعد المكان الَّذِي يمشي منه إِلَى المسجد كان المشي منه أفضل لكثرة الخُطا.
وفي صحيح مسلم (1) عن جابر قال: كانت دارُنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"إن لكم بكل خطوة حسنة".
وفي صحيح البخاري (2) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني سلمة! ألا تحتسبون آثاركم؟ ".
وفي الصحيحين (3) عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة: أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم".
ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه لكنَّ المشي من الدار البعيدة أفضل.
ففي المسند (4) عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَضْلُ الدَّارِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَى الدَّارِ البَعِيدَةِ الشَّاسِعَةِ كَفَضْلِ الْغَازِي عَلَى الْقَاعِدِ» وإسناده منقطع.
والمشيُ إِلَى المسجد أفضل من الركوب كما تقدّم في حديث أوس في الجُمُعة، ولهذا جاء في حديث معاذ ذكرُ المشي عَلَى الأقدام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرجُ إِلَى الصلاة إلا ماشيًا حتى العيد يخرج إِلَى المُصلَّى ماشيًا، فإن الآتي للمسجد زائر
(1) برقم (664).
(2)
برقم (655).
(3)
أخرجه البخاري (651)، ومسلم (662).
(4)
(5/ 387) وقال الهيثمي في المجمع (2/ 16): رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وفيه كلام. قلت: وفي إسناده أبي عبد الملك وهو علي بن يزيد الألهاني، وهو مع ضعفه فإن روايته عن حذيفة منقطعة.
الله، والزيارة عَلَى الأقدام أقربُ إِلَى الخضوع والتذلل كما قيل:
لو جئتكم زائرًا أسعى عَلَى بصري
…
لم أدِّ حفًّا وأي الحق أديت؟!
وفي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غدا إِلَى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما كدا أو راح".
والنزل: هو ما يعد للزائر عند قدومه.
وفي الطبراني (2) من حديث سلمان مرفوعًا: "من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائرُ اللهِ تعالى، وحق عَلَى المزور أن يكرم الزائر".
وفي "صحيح مسلم"(3) عن أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تُخطئه صلاة في المسجد، قال: فقِيلَ لَهُ -أو قلت له- لو اشريت حمارًا تركبه في الظلمات وفي الرمضاء. فَقَالَ: ما يسرني أن منزلي إِلَى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتبَ لي ممشاي إِلَى المسجد ورجوعي إذا رجعت إِلَى أهلي فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد جمع الله لك ذلك كله".
وكلما شقَّ المشي إِلَى المسجد كان أفضل، ولهذا فضل المشي إِلَى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعدل بقيام الليل كله كما في "صحيح مسلم" (4) عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صلّى العشاء في جماعة فكأنَّما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله".
وفي "الصحيحين"(5) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل صلاة
(1) برقم (66).
(2)
في "الكبير"(6/ 311 - 312) وقال المنذري (1/ 214): رواه الطبراني بإسنادين أحدهما جيد وقال الهيثمي (2/ 31): وأحد إسناديه رجاله رجال الصحيح.
(3)
برقم (663).
(4)
برقم (644).
(5)
أخرجه البخاري (644) ومسلم (651).
عَلَى المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا".
وإنما ثقلت هاتان الصلاتان عَلَى المنافقين لأنّ المنافق لا ينشط للصلاة إلا إذا رآه الناس كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
وصلاة العشاء والصبح يقعان في ظلمة، فلا ينشط للمشي إليهما إلا كل مخلصٍ يكتفي برؤية الله عز وجل وحده لعلمه به.
وثواب المشي إِلَى المساجد في الظلم: النور التام في ظلم القيامة كما في سنن أبي داود (1) والترمذي (2) عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إِلَى المساجد بالنور التام يوم القيامة" وخرّجه ابن ماجه (3) من حديث سهل بن سعد، وقد رُوي من وجوه كثيرة (4).
(1) برقم (561).
(2)
برقم (223) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
(3)
برقم (780).
(4)
من حديث:
1 -
أنس: أخرجه ابن ماجه (422) وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 406): فيه مجاهيل وقال البوصيري في الزوائد (1/ 100) حديث ضعيف.
2 -
أبي الدرداء: عند ابن حبان (422 - موارد). وقال الهيثمي في المجمع (2/ 30) فيه جناد بن أبي خالد ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.
3 -
أبي سعيد الخدري: أخرجه الطيالسي (2212)، والعقيلي (3/ 105)، وابن عدي (5/ 334). وقال العقيلي عن هذه الرواية: فيها لين. وقال ابن عدي: ولعبد الحكم غير ما ذكرت من الأحاديث وعامة أحاديثه مما لا يتابع عليه، وبعض متون ما يرويه مشاهير إلا أنَّه بالإسناد الَّذِي يذكره عبد الحكم لعله لا يروي ذاك.
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 408): هذا لا يصح، وقال ابن حبان: لا يحل كتابة حديث عبد الحكم إلا عَلَى سبيل التعجب.
4 -
أبي هريرة: أخرجه ابن ماجه (779) وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف، أبو رافع أجمعوا عَلَى ضعفه، والوليد بن مسلم مدلس وقد عنعنه.=
وفي بعضها زيادة: "يفزع الناسُ ولا يفزعون"(1).
قال النخعي: وكانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء موجبة، يعني: توجب المغفرة.
وروينا عن الحسن قال: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فيقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟! فيناديهم منادٍ: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظُلم الليل إِلَى المساجد.
كما أن مواضع السجود من عصاة الموحدين في النار لا تأكلها النار (2)، فكذلك الأقدام التي تمشي إِلَى المساجد في الظلم لا تقيد في النار، ولا يُسوِّي في العذاب بين من خدمه وبين من لم يخدمه وإن عذبه:
=5 - عائشة: أخرجه الطبراني في الأوسط (1275) وقال: لم يرو هنا الحديث عن عطاه عن عائشة إلا الحسن، تفرد به قتادة. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 30): فيه الحسن بن علي الشروي قال الذهبي: لا يعرف وفي حديثه نكرة، وقال العقيلي: لا يتابع عليه.
6 -
أبي أمامة: أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 7633، 7634، 8125).
7 -
عمر: أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية: (683) وقال: هذا حديث لا يثبت.
8 -
ابن عمر: عند الطبراني في الكبير (12/ 13335).
9 -
زيد بن حارثة: أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 4662) قال الهيثمي في المجمع (2/ 30): رواه الطبراني في الأوسط وفي الكبير، وفيه ابن لهيعة، وهو مختلف في الاحتجاج به.
10 -
ابن عباس: أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 10689). قال الهيثمي في المجمع (2/ 30): رواه الطبراني في الكبير وفيه العباس بن عامر الضبي، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله موثقون.
11 -
أبي موسى الأشعرى: أخرجه البزار (432 - كشف). قال الهيثمي في المجمع (2/ 30): وفيه محمد بن عبد الله بن عمير بن عبيد، وهو منكر الحديث.
(1)
وهي في حديث أبي أمامة.
(2)
أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182) كلاهما من حديث أبي هريرة مطولاً.
ومن كان في سخطه محسنًا
…
فكيف يكون إذا ما رضي؟!
لما كانت الصلاة صلة بين العبد وربه، ومناجاة تظهر فيها آثارُ تَجَلِّيه لقلوب العارفين وقربه، شرع قبل الدخول فيها الطهارة، فإنَّه لا يصلح للوقوف بين يدي الله عز وجل والخلوة بمناجاته إلا طاهر، فأما المتلوث بالأوساخ الظاهرة والباطنة فلا يصلح للقرب، فشرع الله عز وجل للمُصلي غسل أعضائه بالماء، ورتب عليها طهارة الذنوب وتكفيرها، حتى يجتمع لمن يريد المناجاة طهارة ظاهره وباطنه، ثم شرع المشي إِلَى المساجد.
وفيه أيضاً: تكفير الخطايا حتى تكمل طهارة الذنوب إن بقى منها شيء بعد الوضوء، حتى لا يقف العبد في مقام المناجاة إلا بعد كمال طهارة ظاهره وباطنه من درن الأوساخ والذنوب.
ولهذا شرع له تجديد التوبة والاستغفار عقب كل وضوء حتى تكمل طهارة ذنوبه كما خرَّج النسائي (1) من حديث أبي سعيد مرفوعًا وموقوفًا: "من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال عند فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك خُتم عليها بخاتم، فوضعت تحت العرش فلم يكسر إِلَى يوم القيامة".
ومتى اجتهد العبد عَلَى تكميل طهارته ومشيه إِلَى المسجد ولم يقوَ ذلك عَلَى تكفير ذنوبه فإن الصلاة يكمل بها التكفير، كما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ "
قالوا: لا ييقى من درنه شيء.
قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا".
وإن قويَ الوضوء وحده عَلَى تكفير الخطايا فالمشي إِلَى المسجد والصلاة بعده
(1) في عمل اليوم والليلة (81) وقال: هذا خطأ، والصواب موقوف ثم ساقه موقوفًا.
(2)
أخرجه البخاري (528)، ومسلم (667).
تكون زيادة حسنات، وهذا هو المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان والصنابحي: "
…
وكان مشيه إِلَى المسجد وصلاته نافلة"، وقد سبق ذكر الحديثين.
واعلم أن جمهور العُلَمَاء عَلَى أن هذه الأسباب كلها إِنَّمَا تكفر الصغائر دون الكبائر، وقد استدل بذلك عطاء وغيره من السَّلف في الوضوء.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إِلَى المسجد يكفر (أكثر)(*) من ذلك، والصلاة تكفر (أكثر)(*) من ذلك. خرَّجه محمد بن نصر المروزي.
ويدل عَلَى أن الكبائر لا تكفر بذلك ما في "الصحيحين"(1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إِلَى الجمعة، ورمضان إِلَى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
وفي "صحيح مسلم"(2) عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله".
فانظر إِلَى كم تُيَسَّرُ لك أسباب تكفير الخطايا لعلك تطهر منها قبل الموت فتلقاه طاهرًا، فتصلح لمجاورته في دار السلام، وأنت تأبى إلا أن تموت عَلَى خبث الذنوب فتحتاج إِلَى تطهيرها في كير جهنم.
يا هذا! أما علمت أنَّه لا يصلح لقربنا إلا طاهر؟! فإن أردت قربنا ومناجاتنا اليوم فطهِّر ظاهرك وباطنك لتصلح لذلك، وإن أردت قربنا ومجاورتنا غدًا فطهر قلبك من سوانا لتصلح لمجاورتنا {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ
(*) أكبر: "نسخة".
(1)
أخرجه مسلم (233)، وليس عند البخاري، وعزوه له وهم من ابن رجب رحمه الله.
(2)
برقم (228).
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، القلب السليم الَّذِي ليس فيه غير محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فما كل أحد يصلح لمجاورة الله تعالى غدًا، ولا كل أحد يصلح لمناجاة الله اليوم، ولا عَلَى كل الحالات تحسن المناجاة:
الناس من الهوى عَلَى أصناف
…
هذا نقض العهد وهنا وافي
هيهات من الكدور تبغي الصافي
…
ما يصلح للحضرة قلبٌ جافي
***