المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - كلمة واجبة - جمهرة مقالات محمود شاكر - مقدمة

[محمود شاكر، أبو فهر]

الفصل: ‌3 - كلمة واجبة

‌3 - كلمة واجبة

إذا كانت ظروف النشر قد حالت دون كتابة مقدمة دراسية لهذه المقالات النفيسة، فلأقتصر هنا على بيان جانب معين في شخصية الأستاذ شاكر، وعسى أن يكون في ذلك بيانٌ لما أسلفته في "قصة الكتاب" من كراهية الأستاذ شاكر لإعادة نشر شيء سبق له نشره.

حقق الأستاذ شاكر كُتبا معروفة، وكتب دراسات عن الأدب العربي مذكورة، ونظم أشعارًا فريدة، خاصة القوس العذراء، ولكن فعل ذلك كثيرون غيره، وإن لم يلحقوا به في هذا المضمار. غير أن أعماله قوبلت بالصمت المُنْكَر زمنًا طويلًا، وتوالت الدراساتُ والرسائل الجامعيةُ عن محقِّقِين وكُتَّاب وأدباء وشعراء دون الأستاذ شاكر علمًا وموهبة، وما كُتِبَ عنه حتَّى دخوله في العزلة التي ارتضاها لنفسه سنة 1953 لا يعدو أن يكون نقدًا لبعض ما كتب أو تقريظًا لا يتجاوز أسطرًا معدودات، ولأضرب مثالًا واحدًا بشعره، فالشعر أكثر سيرورةً وقُرَّاء من تفسير الطبري أو طبقات فحول الشعراء. قلت في مقدمة مجموع شعر الأستاذ شاكر "اعْصِفِي يا رياح وقصائد أخرى" ص: 135 - 136 ما يلي "والعجب كل العجب أن يُهْمَل هذا الشعر حتَّى الآن. فإن قلتَ: ربما كان ذلك لأنه كان مُفَرَّقًا في مجلتي المقتطف والرسالة، فعَزَّ تيسُّرُه في أيدي الباحثين. قلتُ: كذلك كان شعر بعض شعراء مدرسة أبوللو الَّذي عكف عليه الدكتور محمد مندور رحمه الله، وهم لا يدانون الأستاذ شاكر في شاعرية أو فكر". وإذا كان التماسُ هذا الشعر لِتفرُّقِه في المجالات أمرًا عسيرًا حال دون دراسته، فكيف نفسر موقف النُّقَّاد من "القوس العذراء"، فهي قصيدة طويلة جدًا ظهرت أول مرة في مجلة الكتاب (المجلد 11، عدد فبراير 1952)، وقدم لها الأستاذ عادل الغضبان بكلمة تقريظ قصيرة بعنوان "توطئة" ص:154. وفي عدد مارس 1952 من نفس المجلة كتب الأستاذ جمال مرسى بدر كلامًا

ص: 17

لا يتعدى صفحة واحدة مزج فيه تقريظًا بنقد، قال ص: 380 "وقفت طويلًا عند ملحمة القوس العذراء للأستاذ الكبير محمود محمد شاكر مأْخُوذًا بمحاسن هذه الخريدة الفريدة، مُمَتِّعا الروح بما حوت من خيال رائع، ونسيج متين. غير أني لاحظت في قليل من أبيات مطلع هذه القصيدة العصماء خَلَلا أَفْقَد نغمها انسجامه"، ثم أورد ثلاثة أبيات هائية (فقضاها، رآها، سَوَّاها) ورأى أن زيادة تفعيلة فيها أخلت بوزن مجزوء الرمل. ثم نشر الأستاذ محمد سعيد المسلم في نفس المجلة (المجلد 12، عدد فبراير 1953، ص: 293 - 295) نقدًا تابع فيه الأستاذ جمال مرسي، حيث زاد أربعة أبيات من الهائية، وهي البيت السادس، وفيه زيادة كلمة، والبيت التاسع وفيه زيادة كلمة، والبيتان السابع عشر والثاني والعشرون، وكلاهما يزيد تفعيلة. ثم أورد الأبيات الثلاثة التالية لذلك وهي (فَداها، وشاها، هواها) وعلق عليها قائلًا: "فذوقي يقف إزاء هذه الأبيات الثلاثة المُدَوَّرة حائرًا! لا يدرى! كيف يرجعها إلى أي بحر من بحور علم العروض؟ ؟ أتراها بحورًا جديدة اخترعها الشاعر؟ "(ص: 294). وأورد بيتًا من اللامية فيه خلل.

ثم نُشِرَت القصيدة في كتاب مستقل من القطع الصغير سنة 1964، فكتب عنها أستاذنا المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود (مجلة الكتاب العربي، العدد: 15، سنة 1965، ص: 11 - 15) مقالًا هو بالمدح والتقريظ أشبه منه بالدرس والتحليل.

فكما ترى لم يكتب شيء جاد عن هذه القصيدة الفريدة طوال ثلاثة عشر عامًا من تاريخ نشرها. ثم مضت سبعة عشر عامًا أُخَر حتَّى كتب عنها الدكتور إحسان عباس -أطال الله بقاءه- والدكتور محمد مصطفى هدَّارة، رحمه الله، دراستيْن قيمتيْن في الكتاب الَّذي أهديناه للأستاذ شاكر بمناسبة بلوغه السبعين، وطُبِع سنة 1982. ولا أَدْرِى إذا كان الأستاذان الجليلان سيكتبان عن هذه القصيدة لولا الكتاب؟ لا أدري! وقد حاول الدكتور إحسان عباس أن يُعلِّل سبب إهمال الدارسين لها بما فيهم هو نفسه، وهو تعليل لم أجد فيها مَقْنعا (ص 13 - 14).

ص: 18

فهذِي ثلاثون سنة من الإهمال والتغاضي والجحود والنكران لإنتاج علَّامة فذّ، لم يَجُد الزمن بضَرِيبة له منذ عبد القادر البغدادي.

وليت الأمر من إهمال مُسْتشنَع اقتصر على عِلْم الأستاذ شاكر وجهوده في ميادين التحقيق والأدب والشعر، بل تعداه إلى ماهو أشد وأنكى وأبشع، تعداه إلى كفاحه الطويل وجهاده العنيد في شمم وإباء وعزم ومضاء في سبيل أمته العربية: أرضها، ووحدتها، وحريتها، وقوميتها، ودينها ولغتها. فهو كما قال عن نفسه بحق -ونقلت ذلك في صدر هذا التقديم- إنه جندي من جنود العربية، نصب نفسه للدفاع عن أمته.

دافع عن مصر دفاعًا مجيدًا وهاجم ساستها هجومًا عنيفًا، واتهمهم بأنهم صنائع بريطانيا، شَنَّ عليهم وعليها غارة شَعْواء، وتمسَّك بشِعار فتى مصر مصطفى كامل رحمه الله "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". يقول الأستاذ شاكر مخاطبًا من اختاروا حَلَّ القضية المصرية عن طريق التفاوض مع بريطانيا "وليعلم هؤلاء المفاوضون أنهم لا يملكون التصرف في رقاب أهل مصر الحاضرين، ولا في رقاب الأجيال الآتية، وأنهم وإن كانوا مصريين كرامًا، إلا أن مصر خالدة على وجه الدهر، وهي أكرم على أبنائها ورجالها الآتين. . . ونحن الشباب الناشيء نعرف أن الحياة لا معنى لها إذا خلت من الشرف والكرامة، وأن الشرف والكرامة عندئذ هي الموت. فَلْنَمُت كرامًا صادقين، فذلك خير من أن نعيش أذلَّاء مُسْتَعْبَدِين"(1).

ونافح عن قضية وادي النيل، فهو مصري سوداني، وإن شئت سوداني مصري، يقول واصفًا العلاقة بين شطري الوادي "فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارَى فيها بالعصبية أو الكبرياء هي أن السودان سيد هذا الوادي الَّذي يمده النيل بمائه. وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي

(1)"اسلمي يا مصر"، مجلة الرسالة، العدد 694، سنة 1946، ص 1159، والمقالات 1:313.

ص: 19

النيل كله باسم الدولة المصرية برضَى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر " (1). لذلك انتقد ساسة مصر والسودان الذين قبلوا أن يفصلوا بين قضية مصر وقضية السودان، فقد كان من سياسة بريطانيا قديما أن تمزق وحدة شعب وادي النيل، فأوجدت رجالا يتطلعون إلى مناصب الحكم كما يتطلع الظمآن إلى الماء. وكان من سياسة بريطانيا أن تلاين وتساير حتَّى يصبح السودان شيئًا قائمًا بذاته وقضية منفصلة عن قضية مصر. "وكان من سياستها أن تُغْرِي شهوات قوم من أهل السودان بالحكم أو السلطان، ففعلت، وانقسمت فئةٌ من أبنائه مُضَلَّلين بوعود كاذبة لم تتحقق. وخرجت عن بقية الشعب مؤُزرَةً بالمال فَفَجَرت ومَرَدَتْ، وبريطانيا من ورائهم تنفُخ في نيرانهم حتَّى يأتي اليوم الَّذي يجعلونهم فيه حَرْبًا على بلادهم وهم يظنون أنهم يفعلون لخيرها وفلاحها" (2). لذلك دعا شعبَ مصر والسودان إلى تأييد الوفد المصري السوداني الَّذي سيَعْرِض القضية المصرية السودانية على مجلس الأمن، وإن لم تجتمع لأعضاء هذا الوفد الصفاتُ التي ينبغي أن تجتمع لوفد مثله، "لأن الشعب المصري السوداني شعب كريم ذكيُّ الفؤاد، تجتمع قلوبُه عند المحنة يدًا واحدة على عدوِّه الباغي إليه الغوائل" (3). ومن ثم فقد وجَّه نداء إلى السيد المهدي أن يضع يده في يد أخيه السيد الميرغني ويخرجا على بريطانيا مرة واحدة، ويعلنان أن مصر والسودان أُمَّة واحدة، وأن بريطانيا كاذبة فيما ادَّعت علينا وعليهم، وأن لا حياة لأحد الشطرين إذا اقتطع عن صاحبه (4).

(1)"مصر هي السودان"، مجلة الرسالة، العدد 708، سنة 1947، ص 105، المقالات 1:357.

(2)

"قضى الأمر"، مجلة الرسالة، العدد 726، سنة 1947 ص: 608، المقالات 1: 401 - 402.

(3)

نفس المصدر والصفحة.

(4)

"شهر النصر"، مجلة الرسالة، العدد 734، سنة 1947، ص: 836، المقالات 1:425.

ص: 20

ووادي النيل -مصر والسودان- هو البلد الَّذي وُلِد فيه الأستاذ شاكر، وعاش في شطره الثاني والده الشيخُ محمد شاكر أربع سنوات تولى فيها منصب قاضي القضاة، ولكن وادي النيل ما هو إلا جزء لا يتجزأ من الأمة العربية. والأستاذ شاكر مؤمن بهذه الأُمَّة وبوحدتها واستقلالها "لا يحتلُّ عراقَها جنديٌّ واحد، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول (1)، ولا ينال نيلَها من منبعه إلى مصبه سلطانُ بريطاني أو غير بريطاني. ولا تقع شامُها ولُبْنانها تحت سطوة غاصِب، ولا يعبث في أرجها مَغْرِبها فرنسي خبيثُ القول والفعل مجنونُ الإرادة. هذا كلُّه شيء لا يملك كائنٌ مَن كان أن يُجْبِرنا على خِلافه أو على الرِّضَى بِه"(2).

"وينبغي أن لا نرضى منذ اليوم أن نُفَرِّق قضيةَ العرب ونجعلها قضايا ممزَّقة: هذه قضية مصر والسودان، وتلك قضية فلسطين، والأخرى قضية طرابلس وبرقة، والرابعة قضية تونس، والخامسة قضية الجزائر، والسادسة قضية مراكش، والسابعة قضية العراق. بل إن هذه القضايا كلها قضية واحدة لا تنفكَّ منها واحدة عن أختها أبدًا"(3).

والأُمَّة العربية أيضًا جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية. فأهمَّه ما تتعرَّض له البلادُ الإسلامية من البلاء، يقول عن باكستان "انظروا فهذه دولة باكستان، قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عُبَّاد البُدِّ (بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم ويقتلونهم ويفتكون بالنساء

(1) لا يعني الأستاذ شاكر حكام البلاد، فيما أخبرني، وإنما هؤلاء الأجانب الذين يأخذون بترول بلادنا ليديروا بها مصانعهم لتغزو منتجاتها أسواقنا. ولكن انظر 1:416.

(2)

"شعب واحد وقضية واحدة"، مجلة الرسالة، العدد 730، سنة 1947، ص: 723، والمقالات 1: 412، وانظر أيضًا العدد 732 من الرسالة، سنة 1947، ص 777، والمقالات 1: 415، ومواضع أخرى كثيرة.

(3)

المقالات 1: 413.

ص: 21

والأطفال. . . وانظروا، فهذه أندونيسيا تجمع هيئة الأمم المتحدة على تركها فريسة الطغاة البغاة من شِرْذِمَة الخلق الذين يسمون بالهولنديين" (1).

أما قضية فلسطين، فكانت شغله الشاغل، وكان يعتبرها فِلْذَة أكباد العرب (2) ويسميها "أم المشاكل العربية"(3).

وكان يرقب ما يجرى منذ وعد بلفور فيرى أنذال الأمم يطأون ديارها بعد الحرب العالمية الأولى، ثم أخذوا يسيلون عليها منذ ذلك اليوم لإنشاء دولة يهودية في ربوعها بعد طرد أهلها العرب. ويرى أمريكا تعين اليهود بالمال واللسان والقلب، ويرى بريطانيا تسهل هجرة آلاف اليهود سرًا إلى ربوع فلسطين (4)، وتصبر على إذلال اليهود لها صبرًا لم يعرفه تاريخ دولة عظمى. ويرى الدول الكبرى تلوذ بالصمت وتغمض عيونها مما ترى، فلا تتحرك دفاعًا عن الحرية أو الهضيمة التي تراد بإنسانية شعب فلسطين العربي. كان الأستاذ شاكر يرى كل هذا، والعالم العربي الإسلامي ساكن قار، لا يملك إلا الإستنكار. وكان الأستاذ شاكر يرى إلى أين ستصير الأمور ببصره النافذ وبصيرته المتوقدة، فكتب مقالًا

(1)"نحن العرب"، مجلة الرسالة، العدد 720، سنة 1947، والمقالات 1:384.

(2)

"لبيك يا فلسطين"، المقالات 1:481.

(3)

"ويحكموا هُبُّوا"، مجلة الرسالة، العدد 757، سنة 1948، والمقالات 1:498.

(4)

من أوفى الدراسات المدعمة بالوثائق عن دور بريطانيا في تهويد فلسطين هي دراسة الدكتور علي أبو الحسن بعنوان: دور بريطانيا في تهويد فلسطين: أقذر دور في التاريخ. نشر دار الوحدة العربية بيروت 1977. وبتوَلِّي السير آرثر وشوب Sir Arther Wauchope أصبحت هجرة اليهود "غزوا" ففي سنة 1932 سمح بهجرة 9553 يهوديًا، وسنة 1933: 327 ،30 يهوديًا، وفي سنة 1934: 359 ، 42 يهوديًا، وفي سنة 1935: 854 ، 61 يهوديًا، أي 93 ، 144 يهوديًا في خلال أربع سنوات. انظر فصلا بعنوان The Dark Path of Repression في كتاب Nevill Barbour،Nisi Dominus: Asurvey of the palestine Controversy (London: George G.Harrap and Company limited،1948)،pp.188 - 93

ومن أفضل الكتب الأجنبية عن مأساة فلسطين ودور بريطانيا المخزى كتاب ضخم بقلم الكاتب البريطاني المنصف ج جفريز، ترجمه في أربعة أجزاء الأستاذ أحمد خليل الحاج، ونشرته دائرة الثقافة والإعلام حكومة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة 2000.

ص: 22

سنة 1946 - أي قبل قرار التقسيم بعام- بعنوان "من وراء حجاب". جَهَدَه التعبُ ليلة فتَغشَّتْه نَعْسَة، وسَبَح في غَمْرة رؤيا، وإذا به يُفْضِي في غَمْرَة هذه الرؤيا إلى مقصورة في مسجد، هي مقصورة أبي جعفر الطبري، كان الشيخ نائما فهاب الأستاذ شاكر أن يُوقظه، ونظر حوله فرأى أوراقًا كتبها تَتِمَّة لتاريخه المعررف باسم "تاريخ الأمم والملوك". فتناولها الأستاذ شاكر فإذا بها تبدأ من سنة 1365 هجرية (الموافق 1946 ميلادية). وهذه هي أول التتمة:

[ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف]، 1946.

ذكر ما كان فيها من الأحداث: فمن ذلك إجماع المجلسين الأمريكيين على فتح فلسطين لشذاذ المهاجرين من اليهود. وكتب إليَّ السُّدِّي، وهو مقيم هناك بأمريكا، أن موقف الرئيس ترومان الَّذي ادَّعاه من إيثاره العقل على الهوى في هذا الأمر، إنما كان حيلة مَخْبُوءة أراد أن يغرر بالبلاد العربية والإسلامية، ثم يفاجئها بحقيقته. وهو في ذلك إنما يعمل للظفر بمعونة اليهود في الانتخاب الآتي للرياسة. ولما كان هواه هو الَّذي يُصَرِّفه، فقد علم أنَّه طامع في الرياسة حريص عليها، وأن اليهود في أمريكا هم أهل المال، أي أهل السلطان، أي هم الأنصار الذين إذا خذلوه ضاع. قال السُّدِّي: وقد سمعت بعض أهل العقل والرأى في أمريكا يستنكرون ما كان منه ومن قرار مجلسيْه، ويَرَوْن أن الديمقراطية اليوم قد صارت كلمة يراد بها التدليس على عقول البشر ليبلغ بها القوِىَّ مأربه من الضعيف المغرور بهذه الرقية الساحرة التي يُدَنْدِنُون بها في الآذان. وقد أخبرني الثقة أن الرئيس ترومان قد أوحى إلى بعض بطانة السوء أن العرب والمسلمين قوم أهل غفلة، وأن دينهم يأمرهم بالصبر ويُلِحُّ فيه، فهم لا يلبثون أن يستكينوا للأمر إذا وقع، ولا يجدون في أنفسهم القدرة على تغييره أو الانتقاص منه، وأن الزمن إذا تطاول عليهم في شيء أَلِفوه ولم ينكروه، فإذا دام دخول اليهود فلسطين وبقى الأمر مُسنَدًا إلى الدولة المنتدبة (وهي بريطانيا)، وانفسح لحمقى اليهود مجال الدعوى والعمل والتبجُّح، وألَحَّ على العرب دائمًا إجماعُ الدنيا كلها (أي الديمقراطية) بأن الدولة اليهودية في فلسطين حقيقة ينبغي أن تكون وأن تتم كما

ص: 23

أراد الله، فيومئذ يُلْقِي العرب السَّلَم ولا يزالون مختلفين حتَّى ينشأ ناشِئهم على إِلْف شيء قد صبر عليه آباؤه، فلا يكون لأحد منهم أدنى همة في تغيير ما أراد الله أن يكون، مما صبر عليه آباؤهم وأسلافهم -وهم عند العرب والمسلمين- أهل القدوة".

[ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة بعد الألف]، 1947.

ذكر ما كان فيها من الأحداث: فمن ذلك ما كان من اجتماع ملوك العرب وأمرائهم ووزرائهم. . . . وقَرَّ قرارهم على أن يعلنوا للناس جميعًا وينذرونهم بما رأوا وأجمعوا عليه. . . . الثاني: أن فلسطين ستجاهد، ومن ورائها بلاد العرب والمسلمين تظاهرها بالمال والولد. الثالث: أن الفتك والغدر والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأن حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود ينبغي أن تقابل بالصدق والصراحة، لا بالغيلة والغدر".

[ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة بعد الألف] 1949 م.

ذكر ما كان فيها من الأحداث: اشتعلت نيران الحروب في الشرق كله، واجتمع رؤساء الدول العربية والإسلامية في مكة المكرمة ووحَّدوا قيادة الجيوش العربية. ولكن لم يلبث سفير بريطانيا في مصر وسفير أمريكا أن أرسلا برقية إلى المجتمعين في مكة يطلبون وَقْف الحركات الحربية التي سموها (ثورة)، ورغَّبوا إلى ملوك العرب ووزرائهم أن يتمهلوا حتَّى يصدر تصريح مشترك من الدولتين الكبيرتين، على شريطة أن تمتنع البلاد العربية من متابعة السياسية الروسية التي تتظاهر بمؤازرة العرب والمسلمين. وبعد أيام صدر هذا التصريح، وهو ينص على أن للعرب ما أرادوا من وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعلى العرب أن يتولوا بأنفسهم مفاوضة يهود فلسطين على السياسة التي يريدونها، وأن بريطانيا وأمريكا لن تتدخلا في الخلاف الناشب بين الفريقين، وأن الدولتين الكبيرتين ستمنعان كل مساعدة تُرْسَل من بلادهما إلى فلسطين من مال أو سلاح. . . . ".

[ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بعد الألف]، 1955 م.

ذكر ما كان فيها من الأحداث: كثرت حوادث الاغتيال والفتك في كثير

ص: 24

من البلاد العربية والأجنبية، وقتل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلق كثير، واستفحل الشر استفحالًا عظيمًا، حتَّى ثارت الصحف الإنجليزية والأمريكية وطالبت حكوماتها بإعلان قرار واحد بأن الرأي العام والسياسة العامة في سبيل السلام تقتضي أن تُبْذَل النصرة الكاملة للعرب وللقضية العربية، وأن تتعاون الدول على رد العُدْوان الصهيوني الَّذي صار طغيانًا شديدًا في جميع بلاد الأرض، وأنه ينبغي على الدول جميعًا أن تضحي في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كل الأمم ترسف في أغلالها".

هذا الكلام -على طوله- مختصَر من هذا المقال الفريد الَّذي اخترق به الأستاذ شاكر حُجُبَ الغيب، وجعله حقيقة لا مراء فيها بجعله أحداثًا ماضية سلفت أتم بها شيخ المؤرخين تاريخه. ولأُذكِرنَّ القارئ مرة أخرى أن هذا المقال كتبه الأستاذ شاكر سنة 1946.

فكلام الأستاذ شاكر عن موقف الرئيس ترومان وأهمية أصوات اليهود في انتخابات الرئاسة صحيح لا ريب فيه، وتسهيل أمريكا مع بريطانيا هجرة يهود أمريكا كلام لا باطل فيه. وقد تصدَّى الرئيس ترومان لمحاولة إنجلترا -بعد إعلان قرار انتهاء حماية بريطانيا على فلسطين- بوضع قيود على هجرة اليهود (ويا للسخرية). وأنا أُحيل القارئ هنا إلى كتاب فرانسيس وليمز (1) الَّذي أورد فيه الرسائل المتبادلة من الرئيس ترومان ورئيس وزراء بريطانيا وِنْستون تشرشل (مع أن تشرشل كان صهيونيًا حتَّى النخاع) ليرى مدى دفاع ترومان عن هجرة يهود العالم لا أمريكا فقط إلى فلسطين. وبالرغم من أن وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك كانت دومًا تنصح الرئيس ترومان بعدم اتخاذ موقف متشدد من هذا الأمر، إلا أنَّه جعل نصح مستشاريه دَبْر أُذنه. فقد كانت أصوات اليهود في الانتخابات تستحوذ على نفسه وفكره وفؤاده. فأكد ترومان لِوَيْزمان Weizmann خلال زيارته لأمريكا أنَّه سيبذل ما في وسعه لإنشاء الدولة اليهودية والاعتراف بها، وأن

(1) Francis wiliams.A Pime Minister Rrmember: The War and Post-War Memoirs of the Rt.hon.Earl Attlee(Londan: Heinemann،1961)،pp.181 - 201.

ص: 25

"النجف"- تكون جزء من الدولة اليهودية (1). وفي الرابع من أكتوبر سنة 1946 أيَّد الرئيس ترومان في إعلان يوم كيبور ضَمَّ النجف إلى الدولة اليهودية (لاحظ أن الدولة اليهودية لم تكن قد تكونت بعد، وحين صدر قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947 لم يجعل هذا القرار النجف جزءًا من الدولة اليهودية) وإنشاء ثلاث عشرة مستعمرة زراعية في النجف (2). وفي خلال أسبوعين من هذا الإعلان ضمت القوات اليهودية "النجف" إليها وبلغ من استهانة ترومان بالعرب وتملقه ليهود أمريكا أنَّه أذاع هذا الإعلان في يوم من أيام اليهود الدينية وهو يوم كيبور، ولم يكتف بوَعْده أن تكون صحراء النجف جزءًا من الدولة اليهودية، بل تجاسر في جرأة وقحة فرسم خريطة الدولة اليهودية المرتقبة لتضم تسع مناطق من مناطق فلسطين السِّت عشرة: بيسان (70 % من سكانها عرب)، عَكّا (96 % من سكانها عرب)، طبرية (67 % من سكانها عرب)، صفد (87 % من سكانها عرب)، حيفا (53 % من سكانها عرب)، الناصرة (84 % من سكانها عرب)، يافا (29 % من سكانها عرب)، غزة (98 % من سكانها عرب)، بئر سبع (99 % من سكانها عرب). بالإضافة إلى ذلك من الممكن أن تضم الدولة اليهودية أيضًا منطقتين أخريين: طولكرم (83 % من سكانها عرب). ورام الله (78 % من سكانها عرب)، علاوة على جزء من مقاطعة هبرون (96 % من سكانها عرب). ومعنى ذلك أن لا يبقى للفلسطنيين سوى ثلاث مناطق. ومعناه أيضًا أن 75 % من مساحة الأراضى الفلسطينية يسيطر عليها اليهود في الوقت الَّذي كانوا لا يملكون سوى 7 % من الأرض. وفي 14 مايو سنة 1948 أرسل إلياهو إيثال ممثل الوكالة اليهودية في الولايات المتحدة بصفته ممثلًا "للدولة اليهودية"(لاحِظ هنا أيضًا أن الدولة اليهودية لم تُخْلَق رسميا بعد) رسالة إلى البيت الأبيض يطالبه فيها بالاعتراف بالدولة اليهودية، وما هي إلا ساعات، وبالضبط في الساعة الخامسة

(1) M.W.Weisgal and L.Carmichael،eds.،Chairman Weizmann: A Biography by Several Hands (London: Weidenfeld and Nicholson،1963).pp.303 - 308.

(2)

Ibid.pp.301 - 303

ص: 26

والدقيقة السادسة عشرة من شهر مايو سنة 1948 أعلنت الولايات المتحدة على لسان رئيسها ترومان الاعتراف بالدولة اليهودية (1). ولا يغيب عن فطنة القارئ أن عام 1948 كان عام انتخابات الرئاسة الأمريكية.

ثم حمل الأستاذ شاكر على العرب وأوروبا وأمريكا بأسلوبه الساخر المعهود. أما العرب فهم كما قال قُرَيْط بن أُنَيف:

لكنَّ قَوْمِي وإنْ كانوا ذَوِي عددٍ

ليسوا مِن الشرِّ في شيءٍ وإنْ هانا

فقد أجمع ملوكهم وأمراؤهم ووزاؤهم أن "الفتك والغدر والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأن حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود ينبغي أن تُقابَل بالصدق والصراحة". نعم يجب أن تُقابَل بصدق المستضعفين وصراحة الأذلاء الغافلين. فالعرب لن يغتالوا اليهود في مدنهم وقراهم ولن يفعلوا فعل اليهود في دير ياسين (*) في 10 أبريل 1948 حيث قضت عصابة الأرجون في مذبحة بشعة على كل سكان القرية البالغ عددهم 400 شخصًا لا يحملون سلاحًا (2). ولن يتدنى العرب ويرتكبوا ما ارتكبه اليهود في قرية كولونيا يوم 12 إبريل 1948، ففي خلال نصف ساعة فقط حسب رواية شاهد عيان هرب أكثر أهل القرية تحت نيران عصابة بالماخ Palmach فنجا منهم من نجا وقتل من لم تسعفه قوته أو سِنَّه على الفرار (3). ولن يهاجموا غيلة المدن

(1) Walid Khalidi.From Haven to Conquest (Washington: The Institute for palestine Studies،1987)،p.ixxxii.

وهذا كتاب نفيس، ولا أدري إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا، فإذا لم يكن فَلْيترجَم.

(*) المصادر عن مذبحة دير ياسين وغيرها مما ذكرته كثيرة، ولكني هنا أستشهد بما كتبه شهود العيان.

(2)

Jacaues de Reynier،A Jerusalem un drapeau Flottait sur la ligne defeu (Neuchatel: Editious de la Baconniere،1950)،pp.69 - 79.

(3)

Harry Levin،Jerusalem Embattled: A Diary of the City Under Siege،Mach 25 th،1948 to July 18 th،1948 (London: Victor Gollancz Ltd،1950)pp.64 - 67.

ص: 27

التي ينسحب منها البريطانيون نظرا لانتهاء مدة الانتداب، كما فعل اليهود وهاجموا يافا واستولوا عليها يوم 21 إبريل 1948 (1) ونهبوا كل ما وقعت عليه أعينهم في المحال والمنازل (2).

ثم يسخر الأستاذ شاكر من ضعف العرب وتشتتهم وعدم يقظتهم لما يراد بهم، فهل صحيح أن رؤساء الدول العربية "وحَّدوا قيادة الجيوش العربية"، وبذلك شكَّلوا خطرا محققًا تُخْشَى مَغبَّته على يهود فلسطين، جعل بريطانيا وأمريكا تسارعان وترجوان العرب وقف "الحركات الحربية" حتَّى يتدبرا الأمر وسوف يكون في ذلك مَرْضاة للعرب؟ وبالفعل بعد أيام أصدرتا تصريحًا أعلنتا فيه "إن للعرب ما أرادوا من وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. . . . وأن الدولتين الكبيرتين ستمنعان كل مساعدة ترسل من بلادهما إلى فلسطين من مال أو سلاح". فجيش التحرر العربي الَّذي أرسلته الجامعة العربية كان لا يضارع جيش الصهيونين عددًا أو عُدَّة وسلاحًا. ثم أين كان ملوك العرب وأمراؤهم عندما كان اليهود يقومون بتنطيم قواتهم المحاربة. ومن يقرأ التقرير الَّذي أعدته لجنة تقصي الحقائق الإنجليزية الأمريكية (3) The Anglo-American Committee of Inquiry سنة 1946 يرى مدى القوة العسكرية اليهودية، يذكر التقرير أن التنظيم العسكري المعروف بالهجاناه Hagana كان يتكون من:

1 -

أربعين ألف مستوطن يهودي.

2 -

جيش مدرب ذي كفاءة عالية في الحركة السريعة قوامه ستة عشر ألف جندي.

3 -

قوة حرس مستديمة وهي البالماخ Palmach قوامها ألفا حارس للمحافظة

Roland Dara Wilson،cordon and search: with 6 th airborn division in palestine (aldershot: gale and polden limited،1949)،pp.191 - 199.

(2)

Jon Kimche،seven fallen pillars: the middle east 1915 - 1950(landon: secker and Warburg،1950)،pp.217 - 218.

(3)

see the chapter entitled "the zionist military organization 1946 quoted from the report of the anglo-american committee of enquiry: from haven to conquest،pp.595 - 600

ص: 28

على السلام وستة آلاف مدربين تدريبًا عسكريًا عاليًا. ولكن هذا التقرير -كما لاحظ الأستاذ وليد الخالدى- أهمل جزء هامًا من تنظيم الهجاناه وهو شرطة المستعمرات اليهودية Jewish Settlement Polics، وقوامها 410 ،15 شرطيًا. وكانت القوات البريطانية تقوم بتدريبهم، وكلما تم تدريب مجموعة منهم ضمتها الهجاناه الى صفوفها، واستبدلت بهم آخرين، فتقوم القوات البريطانية بتدريب هذه المجموعة الجديدة دون أن تنتبه لما يحيكه تنظيم الهجاناه (1).

ثم يسخر الأستاذ شاكر أيضًا من غفلة ملوك العرب واحتسابهم أن الدول الأوروبية وأمريكا وصحافتهما متعاطفة جميعا مع القضية العربية وأن هناك خيرًا يرجى منها جميعًا إذا دخلوا معهم في حوار ومفاوضات، خاصة أن الصحف الإنجليزية والأمريكية ثارت لأنه "قُتِل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلق كثير" وطالبت حكومتيهما "رد العدوان الصهيوني الَّذي طَغَى طغيانًا شديدًا في جميع بلاد الأرض، وأنه ينبغي أن على الدول جميعًا أن تضحى في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كل الأمم ترسف في أغلالها". وبطبيعة الحال لم تَثُر الصحف البريطانية ولا الأمريكية بسبب اغتيال أنصار العرب، ولعل خير مثال على ذلك هو اغتيال الكونت برنادوت count folke bernadotte ممثل الأمم المتحدة. فقد كان برنادوت يرى أن خطة التقسيم فيها إجحاف للجانب العربي واقترح إدخال بعض التعديلات، فحشدت القوى الصهيونية كل قواها الإعلامية والسياسية في أوروبا وأمريكا لشَنِّ هجوم لارحمه فيه ولا هوادة. وفي زيارة له لفلسطين موفدًا من قبل الأمم المتحدة أعد الصهيونيون لسيارته وسيارة الوفد المرافق له كمينًا (17 سبتمبر 1948) وأطلقوا عليه الرصاص فأردوه قتيلًا، ويعلق صديقه الجنرال آجى لَنْدستروم الَّذي كان يرافقه في مهمته على هذا الحادث بقوله: "أنا على يقين أن الإغتيال كان متعمدًا، وخُطِّط له بعناية، فالمكان الَّذي أوقفوا فيه سيارتنا اختير بعد تدبر،

(1) Ibid،p.Lxxviii.

ص: 29

والجنود الذين اندفعوا نحو السيارة، لم يكونوا يعرفون أي سيارة يستقلها فقط، بل كانوا أيضًا يعرفون أين كان يجلس وأي مقعد كان يحتَّل" (1).

وبطبيعة الحال لا تستطيع دول العالم "أن تضحِّي في سبيل ذلك (أي ردَّ العُدْوان الصهيوني) بكثير من المصالح المالية". فاليهودية العالمية قد سيطرت على أكثر المؤسسات المالية في الدول التي تعيش فيها وتنتمي إليها.

وكما يرى القارئ من هذا العرض الموجز -الوافي إن شاء الله- أن الأستاذ شاكر قد تنبأ سنة 1946 بما سوف يحدث خلال السنوات التي تلت هذه السنة فكأنما "كُشِف عنه الحجاب". فتنبُّه الرجل وفطنتُه، تتبُّعه اليقظ لما يرى من أحداث واستماتته في الدفاع عن أمته جعله يعلق الأسباب بالنتائج، ويرى ما هو آت لأنه أحدَّ إليه البصر منذ بدأ ناشئًا لا يكاد يُرَى، فما زاغ البصر وما كذب الفؤاد ما رأى.

وحتى لا تخرج هذه الكلمة الواجبة عن القصد فسوف أكتفي ببيان هذا القدر من جهاد الأستاذ شاكر في سبيل قضية مصر وقضية مصر والسودان، وقضايا الأمة العربية خاصة فلسطين، وقضايا العالم الإسلامي، ولن يفوت القارئ بأيسر نظر في هذه المقالات الجهاد الَّذي خاضه الأستاذ شاكر في سبيل الحرية، والحضارة العربية والإسلامية، وفي هجومه على الحضارة الغربية، والدول الأوربية وأمريكا والأمم المتحدة، لا يملُّ ولا ييأس رغم التدهور الَّذي كان يزداد يومًا بعد يوم. كان عظيم الثقة بالأمة العربية وحضارتها، وأنها لا جرم منبعثة مرة أخرى لترث سائد الحضارات، وتسود العالم كما سادته من قبل.

ولما كانت مصر أقوى الدول العربية وأكثرها تقدُّما، وكانت هي البلد الَّذي يعيش فيه الأستاذ شاكر، فقد أرَّقه ما آل إليه أمرها من الاضمحلال والفساد وما اعتراها من الضعف والوهن، وما ترزح تحته من أعباء الاحتلال، وترسف في القيود والأغلال التي ربضت بها إلى الأرض فما تطيق حراكًا. فصلاح مصر

(1) General Aage Lundstrom،the Death of Count Folke Bernadotte.Quoted in Haven to conquest،op.cit.،pp.789 - 794

ص: 30

وقوتها صلاحٌ للأمة العربية وشدٌّ لأَزْرها. أيقن الأستاذ شاكر أن هذا الإصلاح في كافة مجالاته "موقوف على شيء واحد، على ظهور الرجل الَّذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلوم، يحمل في رجولته السِّراج الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوب في أَجْلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحيِّ المتحرك على هذه الأرض الَّذي يسمى في اللغة: الإنسان"(1). كتب هذا الكلام في أعقاب ثلاث مقالات كتبها الدكتور هيكل والدكتور طه حسين والأستاذ أحمد حسن الزيات، وبلغ من ازدراء الدكتور طه لحالة الفساد التي انتشرت في مصر أن اقترح ساخرًا إنشاء "مدرسة المروءة" حتَّى يتعلم جيل ذلك الزمان غير ما نشأ عليه من سفاسِف الأخلاق، وتحطَّمت عنده مكارمُ الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضربًا من التجارة يُلَبِّسها الغشُّ والخِلاب والمواربة. ولكن الأستاذ محمود شاكر رأى أن التهكم في هذا الزمن المائج بصنوف العذاب والآلام والبلاء لا يجدي في الإصلاح شيئًا، وإنما الإصلاح موقوف على خروج رجل فرد من عُرْض الشعب عانى ما يعانيه الناس آنذاك. ثم كتب الأستاذ محمود المنجورى مقالًا (2) في العام (سنة 1940) الَّذي نُشِرت فيه المقالات السالفة الذكر تحدث فيه عن عهد الاحتلال وما صنعت سياسته في أخلاق مصر وتعليمها، وكيف حطم بجوره وعُدْوانه كل الصلات القوية التي يعتمد عليها ترابط الكيان الاجتماعي، فتمزقت الجهود المصرية في الإصلاح، واستبدت الشهوات الجارفة بأخلاق الطبقات على اختلاف مراتبها، ففشل الاجتماع المصري في إرادته، وقام على أساس فاسد من الأخلاق حتَّى صار أكثر ما يرمي إليه كل شخص غرضًا فرديًا لا سَهْمَ له في البناء الاجتماعي للأمة، ومن هنا استبدَّ مَن آنس في نفسه قوَّة، فصار كل فرد بأنانيته

(1) من مقاله بعنوان "الإصلاح الاجتماعي" المنشور بمجلة الرسالة، عام 1940، انظر المقالات 1: 54 - 55.

(2)

نشر في "السياسة الأسبوعية"، العدد 155، سنة 1940.

ص: 31

يريد هدم عمل الأوَّل لينفرد بالأحدوثة والصِّيت. وامتدت هذه العدوى إلى الحكومات المصرية التي تعاقبت فشَرَعت ووَعَدت وسارت، ثم خَلَفتْها أختُها لتنقض كل ذلك وتبدأ من جديد بلجانها ومشروعاتها، وهكذا دواليك. ويتعجب من ذلك الأستاذ شاكر متساءلًا "فهل في الذين يصير إليهم السلطان الوازع العامل من يستطيع أن يتجرَّد لمكافحة هذه الأوبئة، ولو كان في كفاحها كفاحٌ لنفسه وشهواته وأغراضه؟ " هيهات! وهو سؤال يعرف الأستاذ شاكر سلفًا إجابته قبل أن يلفظ به، والسؤال الحقيقي عنده هو "هل تَجِدُ مصر أخيرًا طبيبها المغامر؟ ليتها تجد"(1). فهو لا يزال يؤمن أن الإصلاح لن يكون إلا على يد رجل مغامر طَبٍّ خبير بأدواء هذا الشعب المسكين. ولكن هذا الشعب المسكين ما هو إلا جزء من أمة كلها تعاني ما يعانيه، غير أنَّ في هذا الشرق ميراثًا نبيلًا من السمو والفُتّوة والقدرة على البقاء، ولكنه يفقد "زعيمه الَّذي يُهبّ من جماعاته كالأسد تنفرج عنه الأجمة الكثيفة عالي الرأس حديد النظرة، تتفجر القوة من أعضائه"(2).

وظلت مصر والعالم العربي والأستاذ شاكر في انتظار خروج هذا الرجل، وطال الانتظار ولكن الأستاذ شاكر لم يخامر قلبه شك قط، بل كلما امتد الزمان وطال البلاء تحوَّل ما كان يذكره مجرد ذِكْر ورجاء إلى يقين قاطع بيِّن. ففيما يشبه النبوءة كتب في مقال بعنوان "لَمنْ أكتب" هذه الأسطر بنور البصر المُوحَى من البصيرة "لَمنْ أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولِمَ أكتب؟ ولكني أحسُّ الآن من سِرِّ قلبي أني إنما كنت أكتب، ولازلت أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو؟ أهو حيٌّ فيسمعني، أم جنين لم يُولَد بعدُ سوف يُقَدَّر له أن يقرأني؟ ولست على يقين من شيء إلا أن الَّذي أدعو إليه سوف يتحقق يومًا على يد مَن يُحْسِن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية (3) "فأنا

(1) انظر مقال "العيد"، مجلة الرسالة، 1940. وانظر المقالات 1:76.

(2)

انظر مقال "هذه هي الساعة"، مجلة الرسالة، 1940، وانظر المقالات 1:204.

(3)

انظر مجلة الرسالة، 1948، وانظر المقالات 1:556.

ص: 32

أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غِمار هذا الخَلْق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروي أرضا صالحة تنبت نباتًا طيبًا. . . . سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقِّها لأنه منها: يشعر بما كانت تَشْعُر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الَّذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصِم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حُب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة. إنه الرجل الَّذي خُلِطت طينتُه التي خُلِق منها بالحرية، فأبَتْ كل ذَرَّةٍ في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض. فهو يُشْرِق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس ترمي بأشعتها هنا وهنا. ولا يملك الناس إلا أن يَنْصِبُوا لها وجوهَهم وأبدانهم ليَذْهَب عنهم هذا البَرْدُ الشديد الَّذي شَلَّهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتَسْرِي نَفْسُه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغتْ قوَّته وجبروته" (1). ثم يختم المقال مؤكدًا أن هذا الرجل آت لا محالة، فقد بلغ السيل الزُّبَى، وتأصل الفساد واستشرى، واستشعر الناس أن شيئًا سوف يقع ما له من محيص، وأنه مُواتٍ قريب، "ألا إن هذا الشرق لينتظر صابرًا -كعادته- هذا الرجل. وإني لأحسُّ أن كل شرقي يتلفَّت لا من حَيْرة وضلال، بل توقُّعًا لشيء سوف يأتي قد أَتَى زمانه" (2). "فأنا إن كتبتُ، فإنما أكتب لأتعجَّل قيام هذا الرجل من غِمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صَفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل" (3).

وبعد أربع (4) سنوات من كتابة هذا المقال خرج جمال عبد الناصر من غمار

(1) المصدر السابق 1: 556.

(2)

نفس المصدر 1: 558.

(3)

نفس المصدر 1: 559.

(4)

خلال هذه السنوات لم يكتب الأستاذ مقالات سياسية في مجلة الرسالة، وليس معنى ذلك أنَّه توقف عن كتابة المقال السياسي، فقد نشر ست مقالات سياسية في "اللواء الجديد" بين عدد 7 أغسطس 1951، وعدد 25 سبتمبر من نفس السنة.

ص: 33

هذا الشعب المسكين وخرج معه رجال من غمار هذا الخلق، فاستبشر الأستاذ شاكر، فقد صح ما توقَّع وتحقق ما به تنبأ. فكان من أشد المؤيدين لهؤلاء الرجال خلال الشهور الأولى من ثورة 23 يوليو 1952، وكان له دور فعال -لا يعلمه إلا قليل- في مسألة الإصلاح الزراعى، فكما ذكرت قَبْلُ أن الأستاذ رشا مهنا -الَّذي عُيِّن وصيًّا على العرش- كان من أصدقاء الأستاذ شاكر ومِن روَّاد ندوته. وقد أسرَّ للأستاذ شاكر أن جماعة الإخوان المسلمين يقفون ضد إصدار قانون الإصلاح الزراعي ويمارسون شتى أنواع الضغوط لإيقافه، ولكن الأستاذ شاكر استطاع أن يقنع الأستاذ رشا مهنا ببطلان حجج الإخوان المسلمين الذين تبنَّوا هذه الدعوى، وأبان له تاريخ محمد علي وأسرته من بعده في الاستيلاء على أراضي المصريين دون وجه حق، ودون سبب شرعي أو مبرر تاريخي. وبذلك اكتسب أنصار الإصلاح الزراعي مؤيدًا قويًا، فقد نافح عنه الأستاذ رشاد مهنا مسلَّحًا بما زوَّده به الأستاذ شاكر -وهو من هو في تاريخ السياسة المصرية- بالحجج الدامغة والبراهين التاريخية الناصعة.

ولكن سرعان ما تبيَّن للأستاذ شاكر وغيره من الشعراء والمفكرين الأحرار أن النظام الملكي الفاسد الَّذي ولَّى أفسح مكانًا لآخر طاغٍ مستبدٍّ. فكتب بعد ما يَقْرُب من خمسة أشهر من قيام ثورة 1952 مقالًا -استجابة لدعوة الأستاذ أحمد حسن الزيات- في مجلة الرسالة (5 يناير 1953) بعنوان "فيم أكتب". والمقال يُشْعِر أن الأستاذ شاكر يتحدث عن العالم العربي عامة وما نزل به من بلاء المحتل قرابة قرن أو يزيد، ولكن القارئ اليقظ لن يفوته هجوم الأستاذ شاكر على النظام السياسي الجديد، وأنا ناقِلٌ منه هنا فقرات لترى مصداق ما أقول:"ومنذ ذلك اليوم والأحداث في الشرق العربي الإسلامى آخِذٌ بعضها برقاب بعض. وحركت الأحداثُ المتتابعة نَواعسَ الآمال، فهبَّت تمسح عن عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم. فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يُومض من بعيد ببصيص من نور، فتنادت الصيحات بانقشاع الظُّلَم: وافرحتاه! وصرختُ وأنا في محبسي: واحسرتاه، أَعْمَى رأى الظلامَ نهارا! "

ص: 34

ولك أن تسأل أي أحداث تلك التي حركت نواعس الآمال في الشرق العربي الإسلامي بين سنة 1948 (وفي السنة التي كتب فيها الأستاذ شاكر آخر مقال سياسي في مجلة الرسالة بعنوان "لِمَن أكتب" وبين سنة 1952 التي قامت فيها الثورة المصرية؟ أهي جلاء بريطانيا عن مصر والسودان؟ أهي تبنيِّ الأمم المتحدة لقضية مصر والسودان؟ أم هي احتلال فلسطين والهزيمة المنكرة للجيوش العربية، أم هي المجازر التي ارتكبها الصهاينة ضد عرب فلسطين العُزَّل؟ أم هي جلاء فرنسا عن الجزائر؟ أي هذه الأحداث حرك نواعس الآمال فهبت الشعوب تمسح عن عيونها النوم المتقادم؟ واقرأ المقالات الست التي أشرتُ إليها في الهامش السابق، والمنشورة في "اللواء الجديد" سنة 1951 فكلها تتحدث عن النوازل التي داهمت الشرق الإسلامي من جراء الاحتلال وفساد الساسة الذين صنعهم الاستعمار ليقودوا بلادنا. ولا يُفْلِت القارئ مغزى كلمة "وصرخت وأنا في محبسي"، فالأستاذ شاكر لا يلقى الكلام على عواهنه، فكل كلمة يكتبها هي في حاقِّ موضعها عما استقر في ضمير نفسه، فهو يعرف حق الكلام، ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وما يوجبه اللفظ من المعاني وما يتناوله من دقيق الاستنباط، فهي صرخة سجين "طعين أفنى الليالي انتظارًا" كما يقول في رائيته. وإذا كنتَ في شك مما أقول فاقرأ هذه الفقرة من نفس المقال: "ثم وَجَدْتُنِي فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، وضلالات الرأي المدلس، وضلالات السياسة الخداعة، وإذا الأرض من حولي تعجُّ بترتيل مظلم مخبول، وإذا السماء تهتف بتسبيح كالح مزور، وإذا صوتي يضيع في سمعي، فهو إِذَنْ في أسماع الناس أَضْيَعُ، وتردَّد في صدري شِعر الحَكَميُّ، فاستمعتُ له وسكتُّ:

مُتْ بداء الصمت خَيْرٌ

لكَ عن داء الكلامِ

إنما السَّالِمُ من أَلْـ

ـجَمَ فاهُ بِلِجامِ

والأستاذ شاكر لم يسكت أبدًا من قبلُ، فقد هاجم دون وَجَل شرذام الساسة الذين لوَّثُوا تاريخ الحياة الإسلامية والعربية، وأصحاب السلطان الذين وصفهم

ص: 35

بأنهم "حثالة التاريخ الإنساني"، وأعمل مِعْولًا لم يفلَّ أبدًا في صَرْح الاحتلال. فما الَّذي جدَّ الآن يجعله يؤثر "السلامة والسكوت"! ولكن أنَّى لهذه النفس التي تَأْبَى أن تَتهضَّم أن تركن للصمت، وأنَّى لهذه النفس التي حملت سلاحًا مغموسًا في المداد تدافع به عن الحرية وكرامة الإنسان أن تستكين، وهي نفس إذا أُخِذَت بالعَسْف والاقتسار انقلب الَّذي فيها ضاريًا لا يُطيق ولا يُطاق. لذا يخاطب الأستاذَ الزيات في آخر المقال بقوله "وإذنْ قد كُتِبَ عليَّ أن أنصب وجهي لهذا الشقاء الصَّيْخُود، لا أبالي أن أحترق، ولا أحفل أن أعود سالمًا ولا آبه لما يصيبني، مادام حقًا علي أداؤه. . . . فمنذ حملتُ إليك هذا القلم، استجابة لدعوة لم أجد ردَّها من الأدب ولا من الوفاء في شيء، عرفتُ أنى سوف أكتب كما كنت أكتب قديمًا، لأتعجل انبعاث رجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين، تسمع يومئذ لحكمته الأجِنَّة في بطون أمَّهاتها، وتهتدي بهديه الذرارِي في أصلاب الآباء والأمَّهات، ولكنك بعدُ قد أنزلتني بحيث يقول القائل:

حيث طابتْ شرائعُ الموت، والمو

تُ مِرارًا يكون عَذْبَ الحِياضِ" (1)

خاب ظن الأستاذ شاكر في الرجل الَّذي خرج من غمار الشعب المصري المسكين، ظنَّه رجله المنتظر ولكن لأَيْا ما تبيَّن غير ذلك، فولَّى وجهه شطر الأمة الإسلامية كلها ينفضها بناظريه يترقَّب خروج هذا الرجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين. رأى الأستاذ شاكر بعد ثورة 1952 بلاء نازلًا يخوضه الناس كأنه رحمة مُهْداة. ورأى حيث تلفَّتَ وجوها تكذِب، ووجوهًا مَكْذُوبًا عليها. وسمع أصواتًا تَخْدَع، وآذانا مَخْدُوعة بما تَسْمَع، وقرأ كلامًا مَغْموسًا في النفاق، وشاهد بطشًا وبغيًا. فأوجس في نفسه خيفة واستشعر خطرًا مُحَوِّمًا، ومن ثم تستطيع أن تفهم لماذا قال إنه نصب وجهه لهذا الشقاء الصيخود،

(1) انظر 1: 587 من المقالات.

ص: 36

لا يبالي أن يحترق ولا يحفل أن يعود سالمًا، ثم استشهد بهذا البيت عن شرائع الموت التي أنزله إياها الأستاذ الزيات حين دعاه أن يكتب بعد انقطاع دام خمس سنين. ولولا خشية الإطالة لأتيتك بأدلة أخرى من المقالات الثلاث التي أعقبت هذا المقال، وهي: أبصر طريقك، باطل مشرق، غرارة ملقاة، وهي آخر ما كتب في 23 فبراير 1953 وهو في محبس عزلته التي ارتضاها لنفسه منذ ذلك التاريخ. فقد عزم على أن يدع قلمه قارًّا حيث هو في سِنَة لا تنقطع حتَّى يعلوه صدأ لا ينجلى. وكان قبلُ قد نذر على قلمه أن لا يكفَّ عن القتال في سبيل العرب ما استطاع أن يحمله وما أتيح له أن يجد مكانًا يقول فيه الحق ويدعو إليه، ولكن مجلة الرسالة التي وصفها بأنها "ملاذ الأقلام الحُرَّة التي لا تَثْنيها عن الحق رهبةٌ، ولا تصدَّها عن البيان مخافةٌ" قد بات عسيرًا أن يجرى قلمه على صفحاتها، فقد أُغْلِقت مجلة الرسالة بعد آخر عدد كتب فيه مقاله "غرارة ملقاة" في 23 فبراير 1953. وإذا كان الأستاذ شاكر قد كفَّ قلمه عن الكتابة، فلم يكف لسانه عن الكلام ونقد النظام السياسي آنذاك فاعْتُقِل مرتين خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر، أولاهما استمرت تسعة أشهر من 9 فبراير سنة 1959 إلى آخر أكتوبر من نفس السنة، وثانيتهما دامت ثمانية وعشرين شهرًا من 31 أغسطس عام 1965 إلى 30 ديسمبر 1967. وكانت الذريعة التي تعلق بها النظام بشأن الاعتقال الثاني أن الأستاذ شاكر كان يرمي إلى إثارة فتنة طائفية بمقالاته التي كتبها ردًا على لويس عوض.

فانظر الآن أي ضرب من الرجال هو! شاعر فذٌّ تجاهل شعره النقاد، ولم يلتفت أحد منهم إلى "القوس العذراء" إلا بعد ثلاثين سنة من نشرها. وباحث عبقري أتى بمنهج فريد في كتابه "المتنبي" لم ينتبه إليه أحد، وكاتب واسع الثقافة يقوم بكل علوم العربية لم يقدره أحد حق قدره، ومجاهد سياسي أفنى حياته يدافع عن وطنه وعروبته، وتراثه وحضارته وعربيته، فذهب قوله باطلًا وضاع صوته مختنقًا، ولم يجن من حياته إلا شقاء انتهى به إلى ظلام السجون.

جعل الرَّجُل كل ذلك ظهريًا، وعاش في عزلة فرضها على نفسه غير مبال

ص: 37

بشيء، ذكره الناس أو نسوه، وقنع بطلاب العلم وأهله الذين كانوا يترددون عليه للنهل من علمه، وضنَّ على جيله وما تلاه من أجيال بعلمه القديم أن يبعثه من رفاته التي قبروها بتجاهلهم وجحودهم. ولم يغب عنه أن هذه العزلة قد فعلت أفعالها بالأجيال التي تعاقبت فحالت بينهم وبينه، يقول "وضعت اسمي في صندوق مغلق، لا يعرف ما فيه إلا عدد من قدماء القراء. أما الأجيال الحديثة فهي تمرُّ عليه بلا مبالاة، ثم لا تجد ما يحفزها على الكشف عما يحتويه الصندوق المغلق، والكاتب إذا وضع قلمه صدئ، وإذا حجب اسمه عن القراء، نُسِى اسمه، وانطمس رسمه، ودخل في حيز الموتى، وإن كان يعد في الأحياء" ص 1071.

وإذا كانت هذه العزلة قد حجبته عن جيلنا والجيل الَّذي سبقنا، فما بال الأجيال الَّذي تلتنا؟ ألم تكن مقالاته في الرد على لويس كفيلة بنزع الغشاوة عن العيون فتبصر هذا المجاهد السياسي الَّذي شرع قلمه رمحًا حديد السنان مدافعًا عن أمته وعروبته وإسلامه غير عابئ بما يصيبه، ولا يبالي أن يعود من رحى هذه الحروب سالمًا أو مُكَلَّمًا مثخنًا بالجراح، أو مكبلًا بالقيود في غياهب السجون؟ ألم تكن مقالاته "نَمَطٌ صعب ونمط مخيف" زعيمة أن تجعل النقاد ودارسي الأدب يقتفون خطاه في تحليل القصائد العربية القديمة؟

وأين كانت مجامع اللغة العربية منذ تأسست حتَّى انتخابه عضوًا مراسلًا بمجمع اللغة العربية بدمشق 1980، وعضوًا عاملًا بمجمع اللغة العربية بمصر سنة 1982؟ فهذي أربعون سنة أو تزيد أغفلته المجامع كأنه غير جدير بعضويتها، وقل مثل ذلك في كل مؤسسات مصر الثقافية والتعليمية التي كانت ستفيد من خبرته لو أفسحت له مكانا حين كانت تعج بأشباه المثقفين وأدعياء العِلْم.

وأين كانت الهيئات التي تمنح الجوائز للعلماء والأدباء ورجال الفكر كِفاءَ ما أسهموا به في تقدم أمتهم والتمكين لبقاء حضارتها؟ هل ضُرِب بينها وبين عطائه الَّذي لم ينقطع أربعين حولًا كَرِيتًا بالأَسداد حتَّى عام 1981؟

ص: 38

وأين كانت الجامعات ومعاهد العلم هذه السنين ذوات العدد، فلم توجه طلابها لدراسة إنتاجه البعيد الغور في أعماق الفكر والمتراحب الآفاق في أجواء الشعر والأدب والنقد واللغة حتَّى سنة 1985؟

إذا استطعت أن تكون مُقْسِطًا، وأجبت في حَيْدة دون أن تهوى في مزالق الأهواء فهمتَ لماذا آثر الأستاذ شاكر أن يعيش رهين بيته، وقد صار إحساسه المبهم القديم بانغماسه في "حياة فاسدة من كل وجه" متصاعدًا يقينًا لاشك فيه، وفهمت أيضًا قصة الكتاب التي حكيتُها في صدر هذا التقديم.

وبعد،

فقد خالفتُ الأستاذَ محمود شاكر مرتين، مرة في حياته في صدر شبابي بِنَشْري شعر الأحوص الأنصاري، ومرة بعد مماته بعد أن ولَّى الشباب وأَنَفْتُ على العمر بنشري مقالاته، وكنت محقًا في الأولى، وما أخطأتُ في الثانية، فلعله -طيب الله ثراه- يفيء إلى الحق في هذه كما عاد إليه في تلك.

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} .

عادل سليمان جمال

دبي، دولة الإمارات العربية

ليلة النصف من شعبان 1423 هـ. الاثنين 21 أكتوبر 2002 م

ص: 39

نموذج من خط الأستاذ محمود محمد شاكر

(*) انظر "الاستعمار البريطاني لمصر"، محاضرة بخطه لم تنشر من قبل - ص 911 من المقالات.

ص: 40