المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب - جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية (مطبوع ضمن الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الرابع، القسم الأول)

[عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌فصل الأقوال والآراء في قتال الحسين ليزيد

- ‌ بيان مذهب الزيدية من البدع

- ‌فصل الشيعة المعتدلون من أئمة الحديث

- ‌فصل افتراء الشيعة على أهل السنة، الانحراف عن آل البيت وتولي الدّول الجائرة

- ‌فصل في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البت

- ‌فصل في تفسير {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

- ‌فصل في تفسير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وتحريف الشيعة لها

- ‌فصل في أهواء الشيعة في مناقب أحاديث آل البيت

- ‌فصل في زعم الزيدي أن الوهابي كفر من خالف مذهبه، وأبطاله

- ‌فصل في مسألة القدر وإثبات السلف والخلف أهل السنة له

- ‌فصل في شبهة تأويل بعض السلف للصفات

- ‌رَدُّ الإمام أحمد على الزَنَادِقة والجَهْميّة

- ‌فصل في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب

- ‌فصل في كلام بعض أهل البيت في الثناء على معاوية

- ‌الاختلاف بين علي ومعاوية (ورأي أهل السنة في هذه الفتن

- ‌مدة الحرب بين علي ومعاوية

الفصل: ‌فصل في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب

‌فصل في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب

وأما قوله: (وانظر تواريخ الإسلام وما قال الناس، هل أحد روى أن معاوية وأصحابه ضمنوا ما أفسدوا من حقوق المسلمين، وأنهم تابوا من تلك الطامة، والفاحشة العامة، والمعصية الكبيرة، وهو البغي الذي أقررت به، وهل ودوا عمارا وخزيمة وأبا الهيثم وأويسا القرني -سيد التابعين- وغيرهم، وسلموا دياتهم إلى أهليهم، أم ماتوا متلطخين بدمائهم وبالفسق والعصيان؟)

(فالجواب) : أن يقال كل ما ذكرت في معاوية وأصحابه قد جرى مثله لعلي وأصحابه أو ما هو أعظم من ذلك، وهو قتل طلحة والزبير ومن معهما من المهاجرين والأنصار، وأعظم من ذلك أن قتلة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه كانوا مع علي، وكانوا من رؤوس عسكره، فما قلت في معاوية يقال في علي رضي الله عنه فكما تأوَّل علي رضي الله عنه في الدماء كذلك تأوَّل معاوية وأصحابه، فإن صحَّت هذه الدعوى ففيها من القدح والغضاضة في علي والحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنهم ما لا يخفى.

وهذه الحجة التي ذكرت مما يحتج بها معاوية رضي الله عنه وأصحابه على علي رضي الله عنه وأصحابه، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة تُبَرِّيء بها عليا وأصحابه دون معاوية وأصحابه، إلا بالمكابرة والمعاندة.

فظهر بما ذكرناه أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يتناقض؛ لأن الباغي قد يكون متأوِّلا معتقدا أنه على حق، وقد يكون متعمدا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة وهو الغالب، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فأصلهم مستقيم مطرد في هذا الباب، وأما أنتم فمتناقضون.

وذلك أن النواصب من الخوارج وغيرهم الذين يُكَفِّرون عليا أو يُفسِّقُونه أو يشكون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم لو قالوا لكم: ما الدليل على إيمان

ص: 203

علي وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة، فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته، قالوا لكم: وهذا متواتر عن الصحابة والتابعين والخلفاء الثلاثة وغيرهم. فليس قدحنا في إيمان علي وأصحابه إلا مثل قدحكم في إيمان معاوية وأصحابه. وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح على الصحابة، قالوا: آيات القرآن عامة تتناول غير علي منهم مثل ما تتناول عليا رضي الله عنه، وإن أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء، فإخراجنا عليا أيسر وأهون، فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدعونه، كان احتجاجهم بالنصوص التي يدعونها في أبي بكر، بل في العباس معارضا لذلك رضي الله عنهم، ولا ريب عند كل من يعرف الحديث أن تلك أولى بالقبول والتصديق. فإذا قال الرافضي: إن معاوية رضي الله عنه كان باغيا ظالما، قال له الناصبي: وعلي كان باغيا ظالما، قتل المسلمين على إمارته، وبدأهم بالقتال، وصال عليهم، وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان السيف في خلافته مسلولا على أهل الملة مكفوفا عن الكفار.

والقادحون في علي رضي الله عنه طوائف: طائفة تقدح فيه وفيمن قاتل جميعا. وطائفة تقول: فسق أحدهما لا بعينه، كما يقول ذلك عمرو بن عبيد وغيره من شيوخ المعتزلة، يقولون في أهل الجمل: فسقت إحدى الطائفتين لا بعينها، وهؤلاء يُفَسِّقُون معاوية. وطائفة تقول: هو الظالم دون معاوية كما تقوله المروانية. وطائفة تقول: كان في أول الأمر مصيبا فلما حكَّم الحَكَمَيْن كفر وارتدَّ، وهؤلاء الخوارج، وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون، وخطأ الشيعة مثله أو أظهر بطلانا منه.

فإن قال الذابُّ عن علي رضي الله عنه هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" 1، فللناس في هذا الحديث أقوال منهم: مَنْ قدح في حديث عمار، ومنهم مَنْ تأوَّله على أن الباغي الطالب، وهو ضعيف، ومنهم مَنْ تأوَّله على عليٍّ وأصحابه كما قال معاوية لَمَّا

1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2916) ، وأحمد (6/289 ،6/300 ،6/311 ،6/315) .

ص: 204

قيل له: إن عمارا قُتِل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"تقتلك الفئة الباغية" 1، فقال:"أفنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين أسيافنا ورماحنا، وإنما ندفع عن أنفسنا". وهذا تأويل باطل؛ ولهذا ردَّه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بما لا حيلة فيه، فقال: إذًا فرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حمزة رضي الله عنه حين جاء به يقاتل المشركين.

وأما أهل السنة والجماعة رحمهم الله فكلامهم مستقيم، ولا مطعن فيه لأحد؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا تُفَسَّقُ واحدة من الطائفتين، وإن قالوا في إحداهما إنهم كانوا بغاة؛ لأنهم كانوا متأوِّلين مجتهدين، والمجتهد المخطئ لا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق، وإن تعمَّد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يُرْفَعُ عقابها بأسباب متعددة كالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء المؤمنين، وغير ذلك من الأسباب؛ ولهذا قال محمد بن شهاب الزهري- وهو من أئمة التابعين-:"هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمع رأيهم على أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فهو هدر" أو كلاما هذا معناه، أخرجه غير واحد من الأئمة.

فصل مذهب الزيدية في لعن معاوية

وأما قوله في تحقيق مذهب الزيدية في لعن معاوية: (أنهم يظهرون- حيث يخشون التهمة- بموالاته المحرمة بنص الكتاب العزيز، حيث قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 2 فلا يوجبونها مطلقا ولا يستحبونها مطلقا

) إلى آخر كلامه.

(فالجواب) : أن يقال: أنت قرَّرت في أول اعتراضك أنه لو جاء ملك بلعن إبليس- لعنه الله- على المنابر لَعُدَّ مبتدعا، فكيف استجزتم -أيها المنتسبون إلى زيد رضي الله عنه لعن معاوية رضي الله عنه؟! ما هذا التناقض العظيم والتهور فيما يوجب العذاب الأليم؟!

1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2916) ، وأحمد (6/289 ،6/300 ،6/311 ،6/315) .

2 سورة الممتحنة آية: 1.

ص: 205

وأما استدلاله بهذه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1، وقوله:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2 الآية، فهي دعوى باطلة كدعوى الخوارج والمبغضين لعلي رضي الله عنه وأهل بيته بأن هذه الآيات فيهم، فكما أن دعواهم ظاهرة البطلان، فكذلك دعواكم.

دعوى أن أهل السنة رضوا بسب علي رضي الله عنه

وأما دعواه أن أهل السنة قد رضوا بسبِّ علي رضي الله عنه فكذب عليهم لا يمتري فيه أحد، بل هم ينكرون سب علي رضي الله عنه أشد الإنكار في قديم الزمان وحديثه، وهم الذين عملوا بقوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 3 الآية.

فصل لا أحد يشهد لأحد بالجنة أو النار إلا من ثبت له ذلك

وأما قوله: (قد حكمت بدخوله الجنة) .

(فالجواب) : أن يقال: هذا كذب ظاهر على المجيب؛ وذلك أنه هو وسلفه من أهل السنة والجماعة لا يشهدون لِمُعَيَّنٍ بالجنة إلا لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، كالعشرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، الذين ثبتت الأحاديث في تعيينهم أنهم من أهل الجنة. وأما مَنْ سواهم فلا يشهدون له بذلك، ولكنهم يرجون لجميع المؤمنين دخول الجنة، ويخافون على مَنْ أذنب من النار، ولا يقطعون لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ثبت له ذلك في القرآن كأبي لهب والوليد بن المغيرة وقوم نوح، وجميع المهلكين من الأمم، ومَنْ ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لعنهم لمعاوية يستلزم الطعن في الحسن والحسين وسائر آل البيت

ويقال أيضا: إن كان ما قلت حقا فأول مَنْ يدخل في هذه الآيات الحسن بن علي رضي الله عنهما وأخوه الحسين، ومن معهما من أهل البيت وربيعة ومضر وهمدان، حين انخلع الحسن لمعاوية رضي الله عنه من الخلافة، وولَّى عليها من هو عدو لله ورسوله صلى الله عليه وسلم عندكم، ووافقه على ذلك أخوه الحسين، وكل مَنْ معه من

1 سورة الممتحنة آية: 1.

2 سورة الأنعام آية: 68.

3 سورة النساء آية: 135.

ص: 206

المسلمين، ورضوا بذلك من غير إكراهٍ ولا غلبة من معاوية وأهل الشام، بل بمجرد ما تقابل الجمعان جرت بينهما المفاوضة في الصلح قبل أن يقع بينهما قتال، أفلا يستحي العاقل من هذه الخرافات التي تنادي على قائلها بالارتكاس في الظلمات؟! وهذا كافٍ في بطلان كلامك.

فصل حمل الشيعة أخبار المرتدين على من قاتلهم من الصحابة لا عليهم

وأما قوله: (وإذا كان معاوية في الجنة، فليت شعري، أين تضع الأحاديث الواردة في دواوين الإسلام، كقوله عليه الصلاة والسلام:"يُؤْتَى برجال من أصحابي فَيُؤْخَذُ بهم ذات الشمال" 1 إلى آخره، أفتنَزه معاوية ومَنْ معه مثل عمرو بن العاص وابنه عبد الله، وتضعها في سعد بن معاذ وعمار وخزيمة -ذي الشهادتين- ومن قاتل مع علي رضي الله عنه بصفين؟! أم في العشرة المبشرة بالجنة رضي الله عنهم؟! فاختر لنفسك أين تضعها على مقتضى شهواتك أنت وأهل السنة والجماعة

) إلى آخره.

(فالجواب) : أن يقال: قد بيَّنا فيما تقدم أن أهل العلم الذين رووا هذه الأخبار حملوها على مَن ارتدَّ من جفاة الأعراب بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وماتوا على الردة، كالأسود العنسي وأصحابه الذي تنبَّأ بصنعاء، وتبعه خلق من أهل اليمن حتى قتله الله، وكمسيلمة صاحب اليمامة وأصحابه، وكأصحاب طليحة الأسدي الذين قتلهم خالد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خلقا عظيما. ومنهم مَنْ قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، أفتنكر أنه لم يقع ردة بعد النبي ولا كفر أحد ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى جرى قتال معاوية لعلي رضي الله عنهما؟

ويقال أيضا: دعواك أن هذه الأحاديث محمولة على معاوية، ومن معه من الصحابة من جنس دعوى الخوارج الذين يُكَفِّرون عليا ومن والاه، ويحملون هذه الأحاديث عليهم، فما يمكنك أن تأتي بحجة إلا عارضوك بما هو من جنسها، فاتق الله، ولا تكن من الذين يجادلون بالباطل؛ فتكون مع الهالكين.

1 البخاري: تفسير القرآن (4625)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2423) وتفسير القرآن (3167)، والنسائي: الجنائز (2087) ، وأحمد (1/235 ،1/253) .

ص: 207

فصل

وأما قوله: (إن المراد بقوله تعالى: {إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1 أي: أرادوا الاقتتال، وأنها كقوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} 2، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من بدَّل دينه فاقتلوه" 3 إلى آخر كلامه) .

(فالجواب) : أن يقال: هذا لو عارضناه بكلام أهل التفسير من أهل السنة والجماعة، أو بما رووه من الأحاديث لم يقبل ذلك، فالواجب معارضته بما لا يقدر على إنكاره، وهو ما اتفقنا نحن وهم عليه، وهو أن الحسن بن علي رضي الله عنهما انخلع من الخلافة لمعاوية مع حضور أهل البيت وجمهور المسلمين معه، أفتقول: إن الحسن لا يفهم كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفته أنت وشيعتك؟ فيلزم من كلامك أن الحسن ومَنْ معه هم الذين سلَّطوا الكفار والفساق على فساد الدين، والكفر برب العالمين.

(وجواب ثان) : وهو أنه تواتر عن علي رضي الله عنه أنه لَمَّا قتل أهل الجمل، لم يفعل فيهم كفعله في الكفار المرتدين من السبي، وأخذ الأموال، والإجهاز على الجريح كما احتجَّ بهذه الحجة على الخوارج حبر الأمة، وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما.

(وجواب ثالث) : وهو أن يقال: الآية نفسها مصرِّحة بنقيض ما فسَّرها به هذا المعترض؛ لأن الله تبارك وتعالى قال في أولها: "اقتتلوا" وهذا فعل ماض بإجماع النحويين، ثم قال:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} 4 أي: بعد الاقتتال والإصلاح، ثم قال:{فَإِنْ فَاءَتْ} 5 أي: رجعت عن البغي {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 6 ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ

1 سورة الحجرات آية: 9.

2 سورة المائدة آية: 54.

3 البخاري: الجهاد والسير (3017)، والترمذي: الحدود (1458)، والنسائي: تحريم الدم (4059 ،4060 ،4061 ،4062 ،4064 ،4065)، وأبو داود: الحدود (4351)، وابن ماجه: الحدود (2535) ، وأحمد (1/217 ،1/282 ،1/322) .

4 سورة الحجرات آية: 9.

5 سورة الحجرات آية: 9.

6 سورة الحجرات آية: 9.

ص: 208

أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1.

فالآية من أولها إلى آخرها تنادي بتكذيب هذا المعترض الذي يفسر كتاب الله برأيه.

(وجواب رابع) : وهو أن يقال: إذا جوَّزت أن يكون المراد بقوله تبارك وتعالى: {إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 2 أن يكون المعنى أي: أرادوا الاقتتال، أو قوله:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} 3 أي: أرادوا البغي؛ جاز أن يقال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم "من بدَّل دينه فاقتلوه" 4، فيكون معنى الحديث عندكم: مَنْ أراد تبديل دينه وَهَمَّ بذلك -وإن لم يتكلم ويعمل- فاقتلوه.

وهذا لا يقوله من يفهم ما يقول؛ وذلك لأن ما في القلوب من الإرادات والنيات لا يعلمه إلا الله، وجاز أن يكون معنى قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 5 أي: يرد قتله وإن لم يقتله، وجازه –أيضا- ذلك في جميع آيات الوعد والوعيد كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً} 6 أي: يرد أن يعصي الله ورسوله ويتعد حدوده، وإن لم يفعل ذلك، فإن طردت ما قلت لزمك أن تقول ذلك في جميع ما شابهها في آيات الوعد والوعيد والأمر والنهي.

حكاية مكذوبة

وأما الحكاية التي ذكرها أن معاوية رضي الله عنه أظهر لأهل الشام، أن عليا لا يصلي، حتى حاجَّ بذلك بعض أهل الشام هاشم بن عتبة رضي الله عنه فهي من أظهر الكذب والبهتان عند من له أدنى معرفة بهذا الشأن، وقد ذكرنا بالنقول المتواترة أن أهل الشام إنما قاتلوا عليا ومَن معه للطلب بدم عثمان رضي الله عنه؛ لأن قتلة عثمان كانوا رؤوس جيش علي، ولا يحكي مثل هذه الحكاية إلا من لا يستحي من الكذب.

1 سورة الحجرات آية: 10.

2 سورة الحجرات آية: 9.

3 سورة الحجرات آية: 9.

4 البخاري: الجهاد والسير (3017)، والترمذي: الحدود (1458)، والنسائي: تحريم الدم (4059 ،4060 ،4061 ،4062 ،4064 ،4065)، وأبو داود: الحدود (4351)، وابن ماجه: الحدود (2535) ، وأحمد (1/217 ،1/282 ،1/322) .

5 سورة النساء آية: 93.

6 سورة النساء آية: 14.

ص: 209

فصل

وأما ذكره من استدلاله بحديث غَدِير خُمٍّ، وأنه ورد من روايات جماعة من الصحابة، فقد قدَّمنا الجواب عنه، وقد بيَّن أهل العلم أنه لا يدل على ما ذهب إليه الروافض والزيدية؛ لأن المولى يطلق على معاني متعددة.

وأما قوله: " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه"، فهذا ليس في الأحاديث الصحيحة التي صحَّحها أهل العلم بالحديث، بل طعن كثير منهم في هذه الزيادة، قالوا: والواقع يشهد بكذبها؛ لأن النصر والغلبة والإعانة وقع لمن حاربه وقاتله، ومعلوم أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مجاب، فلو كان هذا حقا وصدقا لوقع الأمر بخلاف ما وقع، وأنت لا تنكر أن الغلبة والظفر والإعانة كان لمن قاتله وحاربه، فبطل ما ذكرت -ولله الحمد والمنة-.

وأكثر هذه الأحاديث التي ذكرها في أول هذا الاعتراض وآخره قد بين أهل العلم بالحديث أنها كذب موضوعة مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم من العجب استدلاله بكلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين ذكروا عثمان وعليا وطلحة والزبير رضي الله عنهم وما كان منهم، فأكثروا وعمر ساكت، فقال القوم: ألا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: "لا أقول شيئا، تلك دماء طَهَّرَ الله منها كفي، فلا أغمس فيها لساني". اهـ.

وهذا هو الذي أراد المجيب؛ لأن الله أثنى عليهم في كتابه جملة قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1، وأثنى على من جاء بعدهم، فدعا لهم بالمغفرة، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.

فإن قلت: إن هؤلاء الآيات في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،

1 سورة الفتح آية: 29.

2 سورة الحشر آية: 10.

ص: 210

قلنا: جاءتك قاصمة الظهر، وهي قوله تبارك وتعالى:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1.

أحاديث في مناقب معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما

ومعلوم بإجماعنا وإجماعكم أن معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما ممن أسلم بعد الفتح، والأحاديث الواردة في فضل معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما قد رواها مَنْ روى تلك الأحاديث في فضل علي رضي الله عنه وأهل البيت، فإما أن تقبل الجميع، وإما أن ترد الجميع، وأما أن تقبل ما وافق هواك، وترد ما خالفه بلا برهان ولا حجة يوافقك عليها أهل المعرفة، فهذا تناقض، وقد قال السيوطي: أخرج الترمذي وحسَّنه عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هاديا مهديا"2.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب"3.

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير قال: "قال لي معاوية رضي الله عنه: ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معاوية، إذا ملكت فأحسن".

وأخرج الترمذي عن أبي إدريس الخولاني قال: "لما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عن حمص، وولَّى معاوية رضي الله عنه، فقال الناس: عزل عميرا وولى معاوية، فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد به"4.

وقال آدم عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "أبناء العاص مؤمنان عمرو وهشام" 5 وقال عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة قال طلحة: "ألا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 سورة الحديد آية: 10.

2 الترمذي: المناقب (3842) ، وأحمد (4/216) .

3 أحمد (4/127) .

4 الترمذي: المناقب (3843) .

5 أحمد (2/304) .

ص: 211

بشيء؟ ألا إني سمعته يقول: عمرو بن العاص من صالح قريش"1 وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم أهل البيت: أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله" 2. اهـ ما ذكره الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه.

فصل كذب الشيعة على معاوية وما أنكره أهل السنة عليه

وأما ما ذكره من إحداثات معاوية، منها: إلحاقه زياد بن سمية بأبيه، فأهل العلم ينكرون ذلك على معاوية في قديم الزمان وحديثه، وكذلك أخذ البيعة لابنه الظالم، ينكرون ذلك ولا يرضونه حتى أنكر مَنْ أنكر منهم ذلك عليه بنفسه في حياته، وأما قوله: إنه أمر علماء السوء بأن يضعوا أحاديث في فضائل الصحابة الذين تقدموا عليا، وفي مثالب علي، فهذا من أظهر الكذب عند الخاصة والعامة من أهل العلم بالأخبار والسير، وأهل الوضع للحديث هم الشيعة كما تقدم ذكره عن أهل الحديث. وأما لعن علي رضي الله عنه فهو من المنكرات، وأهل السنة والجماعة ينكرون على من فعله كائنا من كان.

ومن العجب قوله: ولو لم يقطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لبقي في الشام إلى اليوم. فيقال: وما يدريك بذلك، أقرأت في اللوح المحفوظ، فكتبت هذا الكلام منه؟! أم بلغك ذلك في حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بذلك فهو الصادق فيما أخبر به؟ وأيضا أنت ذكرت عن ابن تيمية رحمه الله في أول كتابك، وفي هذا الموضع أنه لم ينقطع إلا قبل وقته، فهذا يرد قولك أنه لو لم يقطعه عمر لبقي إلى اليوم، وأيضا أنت كذبت على ابن تيمية، فإنه لم يقل ذلك، وابن تيمية رحمه الله أجلُّ من أن يقول مثل هذه الخرافات والجهالات في المنقولات.

وأيضا من المعلوم المتواتر أن بني أمية بعد موت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه استمروا على سبِّ علي، ولم ينقطع من الشام ولا من غيره من بلاد الإسلام إلا بعد انقراض دولة بني أمية في ولاية بني العباس.

1 الترمذي: المناقب (3845) .

2 أحمد (4/150) .

ص: 212

وأما قوله: ومن إحداثاته ترك الجهر ببسم الله الرحمن الر حيم في أول السورة، فهذا كذب ظاهر، وما ذكره عن الرازي دعوى مجردة لا دليل عليها، وأيضا معارضة بما هو من أصح الأسانيد، وهو ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الر حيم في أول القراءة ولا في آخرها"1.

وأما تشريعه الإقامة في صلاة العيدين، فكذب ظاهر، فإن الذي أحدثه بنو أمية بعد معاوية في العيدين هو تقديم الخطبة على الصلاة كما في الصحيحين: أن أول من فعل ذلك مروان بن الحكم، فأنكر عليه أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

فصل دعوى الزيدية العصمة لعلي كدعوى الإمامية النص على إمامته

وأما دعواه العصمة لعلي رضي الله عنه وقوله: (قد حصل القطع بها، ولا ينكرها إلا مكابر، إلى آخره.

(فالجواب) : أن يقال: (أولا) هذه الدعوي من جنس دعوى الإمامية بالنص والعصمة لعلي وأولاده، ومن جنس دعوى الباطنية، وجنس دعوى السبائية في محمد بن علي -المعروف بابن الحنفية-، وما أحسن ما قال بعضهم:

لي حيلة فيمن ينم

وليس في الكذاب حيلة

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليلة

وقد تقدم الجواب عن أدلته التي ذكر مفصلا مبينا، ولكن نذكر فصلا نختم به كتابنا هذا، ننقل فيه كلام أهل البيت في الرد على هذا المعترض وأشباهه؛ ليتبين الحق لمن أراد الله هدايته، وأما من أراد الله به الشقاء والخذلان، فذلك لا حيلة فيه كما قال تعالى:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} 2 الآية.

1 البخاري: الأذان (743)، ومسلم: الصلاة (399)، والترمذي: الصلاة (246)، والنسائي: الافتتاح (902 ،903)، وأبو داود: الصلاة (782)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (813) ، وأحمد (3/101 ،3/111 ،3/168 ،3/176 ،3/179 ،3/203 ،3/205 ،3/223 ،3/255 ،3/264 ،3/273 ،3/275 ،3/278 ،3/289)، والدارمي: الصلاة (1240) .

2 سورة المائدة آية: 41.

ص: 213