الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: الآحاد
ما يفيده خبر الآحاد:
…
ثانياً: الآحاد
وهو: ما لم يجمع شروط المتواتر المتقدمة أو أحدها، سواء كان رواته واحداً أو عدداً.
وينقسم الآحاد باعتبار عدد طرقه ورواياته إلى ثلاثة أقسام:
1-
الغريب، وهو: ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، وقد يعبر علماء الحديث عنه بالفرد.
ومثاله: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" فقد تفرد به عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرويه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يرويه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر الحديث.
2-
العزيز، وهو: ما يرويه اثنان عن اثنين في كل طبقة، ولو كان ذلك في طبقة واحدة، ولا مانع من أن يزيد في بعض طبقاته، فالمدار تحقق التثنية في طبقة ما.
ومثاله ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، والشيخان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" فقد رواه من الصحابة أنس وأبوهريرة، ورواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادة اثنان: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز اثنان: إسماعيل ابن عُلية وعبد الوارث، ثم رواه عن كل منهما جماعة.
3-
المشهور، وسماه جماعة من الفقهاء: المستفيض، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر.
وقد جعل الحنفية المشهور قسيم المتواتر والآحاد، وعرَّفوه بأنه ما كان آحاداً في القرن الأول، ثم تواتر بعد ذلك وكثرت رواته في القرن الثاني والثالث (1) .
ومثاله: حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الشيخان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رِعْل وذكوان"، فقد رواه عن أنس: قتادة وعاصم وأبو مِجْلَز: لاحق بن حُميد، وأنس بن سيرين، ورواه عن كل واحد جماعة.
ما يفيده خبر الآحاد:
ذهب العلماء في مجال الأخذ به مذاهب مختلفة، وإليك بيانها مع ذكر حُجج كل مذهب:
المذهب الأول: أن خبر الواحد الثقة يفيد العلم اليقيني مطلقاً.
وهذا مذهب داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي، ونقل عن الإمام أحمد في رواية، وحكاه ابن خويزمنداد عن الإمام مالك، وجزم به الإمام الشافعي في كتاب اختلاف مالك (2) .وقد أطال ابن حزم النَفَس في إيراد الأدلة على صحة هذا المذهب والرد على مخالفيه في الإحكام، فقال بعد سرد مقدمات:((وإذا صح هذا فقد ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مثله مُبَلَّغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقٌّ مقطوعٌ به، موجب للعلم والعمل معا)) (3) وقال عبد العزيز البخاري في شرح أصول البزدوي: ((ذهب
(1) انظر: تيسير التحرير شرح كتاب التحرير للشيخ محمد أمين باد شاه 3 / 37.
(2)
ذكره ابن القيم في الصواعق المرسلة انظر: مختصر الصواعق ص 575.
(3)
الإحكام في أصول الأحكام1 / 137.
أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجبُ علمَ اليقين بطريق الضرورة، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (1) .
واختاره من المتأخرين العلامة صديق حسن خان فقال في كتابه "الدين الخالص": "والضرب الآخر من السنة خبر الآحاد يرويه الثقات الأثبات بالسند المتصل والصحيح والحسن، فهذا يوجب العمل عند جماعة من علماء الأمة وسلفها الذين هم القدوة في الدين والحجة الأسوة في الشرع المُبِين، ومنهم من قال: يوجب العلم والعمل جميعاً، وهو الحق وعليه درج سلف هذه الأمة وأئمتها، لأن المتواترات – على حساب اصطلاح القوم – قليل جداً، وغالب السنة الشريفة آحاد، والعمل بها واجب حتم"(2) واختار هذا القول من المعاصرين الأستاذ العلامة أحمد شاكر فقال في الباعث الحثيث بعد أن ذكر أقوال العلماء في إفادته: "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله، من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، لا يتحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل
…
وهذا العلم اليقيني النظري يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأن قلبه إليها
…
" (3) . وممن قال هذا الرأي أيضاً الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث حيث قال: "ورأي ابن حزم أولى بالاتباع؛ إذ لا معنى لتخصيص أحاديث الصحيح بإفادة القطع، لأن ما ثبت صحته في غيرهما ينبغي أن يحكم عليه بما حكم عليه
(1) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 2 / 371.
(2)
الدين الخالص 3 / 284.
(3)
الباعث الحثيث ص 37.
فيها
…
كما أنه لا معنى للقول بظنية حديث الآحاد بعد ثبوت صحته، لأنَّ ما اشْتُرط فيه لقبول صحته يُزيل كل معاني الظن ويستوجب وقوعَ العلم اليقيني به" (1) .
قلت: وهذا الحق الذي لا يعول على غيره، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وسأذكر تفصيل ذلك بعد سرد المذاهب الأخرى.
المذهب الثاني: أنه يفيد العلم اليقيني إذا احتفت به قرائن.
وهذا مذهب عامة أهل الحديث وكثير من محققي الفقه والأصول والكلام من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنواع الخبر المحتف بالقرائن فقال في نزهة النظر: "والخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن:
- منها جلالتهما في هذا الشأن.
- وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
- وتلقي العلماء كتابيهما بالقبول.
وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.
وماعدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته
…
وممن صرح بإفادة ما أخرجه الشيخان العلم النظري: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ومن أئمة
(1) علوم الحديث ص 151.
الحديث: أبو عبد الله الحميدي وأبو الفضل ابن طاهر وغيرهما".
قلت: ويضاف إلى ذلك أيضاً: وجود المستخرجات الكثيرة على هذين الكتابين، بحيث لا يوجد حديث فيه علة إلا وجاء في المستخرجات في كثير من الأحيان سليماً، مما يفيد تعدد طرق حديث الصحيحين ويزيدها قوة على قوة.
وقال الحافظ: "ومنها المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر بن فُوَرك وغيرهما.
ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريباً؛ كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكاً مثلاً لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة وبَعُدَ عما يُخشى عليه من السهو" (1) .
وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث: "وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه: أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة؛ منهم القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد وأبو يعلى بن الفراء وأبو الخطاب وابن
(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 10.
الزاغوني وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السَّرخسي من الحنفية، قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم؛ كأبي إسحاق الإسفراييني وابن فُوَرك، قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة" (1) .
وقال ابن تيمية: "ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول، فعملوا به
…
فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة؛ فلو كان في نفس الأمر كذباً لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل به وهذا لا يجوز عليها".
ثم قال: "ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور أحاديث البخاري ومسلم؛ فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تبع لهم في معرفة الحديث
…
" (2) .
وقال الإمام الصنعاني: "قد عُلم أن خبر الواحد يفيد الظن، فإذا حفته القرائن أفاد العلم كما قال الحافظ في النخبة وشرحها: وقد يقع فيها - أي أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب، وهي أقسام الآحاد - ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار"(3) .
المذهب الثالث: أن خبر الواحد الثقة يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولا فرق
(1) مختصر علوم الحديث ص 36.
(2)
الفتاوى 18 / 16 – 17.
(3)
توضيح الأفكار 1 / 26.
بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، ولكنه حُجة من حُجج الشرع يلزم العمل به سواء أكان في العقائد أم غيرها. وممن قال بهذا المذهب الإمام ابن عبد البر القرطبي، فهو يقول عن حديث الآحاد:"إنه يوجب العمل دون العلم"(1) .
وقال في أول كتاب التمهيد ما نصه: "أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار - فيما علمت - على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافاً. وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله"(2) وقد أفرد أبو عمر بن عبد البر لهذه المسألة كتاباً مستقلاً سماه "الشواهد في إثبات خبر الواحد" ذكره في مقدمة التمهيد.
ومن القائلين بهذا المذهب أيضاً: النووي ووافقه الإمام العز بن عبد السلام، فقال النووي في كتاب التقريب:"وذكر الشيخ تقي الدين - يعني ابن الصلاح – أن ما روياه - يعني في الصحيحين - أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر"(3) .
وممن قال بهذا الرأي أيضاً: الإمام أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة
(1) نقله ابن تيمية في المسودة ص 244.
(2)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1 / 2 - 3.
(3)
التقريب ص 6.
"جامع الأصول"، حيث قال:"وخبر الواحد لا يفيد العلم، ولكنا مُتَعبدون به"(1) .
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بجواز الخطأ والنسيان على الثقة عقلاً، ومع هذا الجواز العقلي لا يمكن ادعاء القطع، وتلقي الأمة الحديث بالقبول إنما أفاد وجوب العمل به.
قلت: أرى الخلاف بين هؤلاء وبين الذين يقولون إنها تفيد العلم خلافاً نظرياً ليس له أثر في الواقع، فالجميع يوجبون العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول.
هذا، وإننا لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكننا نقول بالجزم والتصديق عند ظهور علامات تؤيد ذلك، ويقول الإمام ابن القيم:"إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلابد أن يقوم دليل على ذلك، ولابد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته، ولا تلتبس بما ليس منها"(2) .
وينبغي أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يكلف الله عز وجل بأمر - ولم يثبت هذا التكليف من طريق التواتر - ثم يعمل المسلم ذلك التكليف وهو يعتقد أن هذا الذي يفعله أمر ظني أو احتمالي والعلم بصحته غير واجب شرعاً، وقد سُئل الإمام أحمد عن إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، فعاب ذلك وقال: ما أدري ما هو؟! (3) .
(1) جامع الأصول في أحاديث الرسول 1 / 125.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة ص 604.
(3)
نقله ابن تيمية في المسودة ص 242.
المذهب الرابع: أن خبر الآحاد يفيد الظن، ولذلك لا يصح الاعتماد عليه في العقيدة وفي الغيبيات، أما ما سوى ذلك في الأحكام العملية وغيرها فإنه يجب العمل به، وممن قال بهذا المذهب: بعض علماء الكلام، وقال به جمع من المتأخرين والمعاصرين، منهم الشيخ عبد الوهاب النجار؛ فقد قال في كتاب قصص الأنبياء مانصه:"الخبر إذا كان رواته آحادا فلا يصلح أن يكون دليلاً على ثبوت الأمور الاعتقادية الغرض منها القطع، والخبر الظني الثبوت أو الدلالة لا يفيد القطع"(1) .
ومنهم أيضاً: الشيخ محمود شلتوت، فقد قال في الفتاوى - بعد أن ذكر وفاة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه لا يَنْزل في آخر الزمان - ما نصه:"وإذا صح هذا الحديث – يعني حديث أبي هريرة في نزول عيسى – فهو حديث آحاد، وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيَّبات"(2) .
ويستدل هؤلاء على هذا القول بأن العقائد قطعية فلا يجوز أن يحتج عليها إلا بقطعي، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع الظن فى العقائد فقال
(1) قصص الأنبياء في القاعدة رقم (4) وقد رد عليه الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في كتاب (آدم عليه السلام وفي كتاب (عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام .
(2)
الفتاوى ص 54. وما ادعاه من الإجماع ليس صحيحاً؛ حيث إن ذلك مذهب جماعة من المتكلمين، وبعض من سار على نهجهم من المتأخرين. وخالفهم كثير من العلماء المحققين والأئمة المرضيين الذين نقلنا طرفاً من كلامهم في ثنايا هذا البحث. وقد رد عليه جماعة من العلماء منهم الشيخ مصطفى صبري في كتابه القيم (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين) والشيخ محمد زاهد الكوثري في كتابه (نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه السلام قبل الآخرة) .
وقال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] .
وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .
وقولهم هذا ضعيف؛ لأن كل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبراً كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، للنصوص الكثيرة التي ذكرنا بعضها فيما سبق والتي تأمر بطاعة الرسول مطلقاً من غير تقييد، وأما الآيات الناهية عن اتباع الظن فإنها تعني الظن المذموم الذي لا يقوم عليه دليل وليس له أسس ثابتة، بل هو قائم على الهوى والغرض المخالف للشرع، مثل إثبات الألوهية لغير الله عز وجل كما هو الحال فى ظن المشركين فى معبوداتهم، وهذا الظن يختلف تماماً عن الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد فهو ظن راجح ملحق بالقطعي فى وجوب الاعتقاد والعمل به، فلا ارتباط بينه وبين النوع الأول من الظن المشار إليه بالنسبة لمعتقدات المشركين، "فإطلاق كلمة الظن على أحاديث الآحاد - وهي في حقيقتها أكثر السنة النبوية - وربطها بالمعنى الوارد عند بعضهم
فى عبارة: إن الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، وأن الظن لايغني عن الحق شيئاً، خطأ مبين؛ حيث أورد للظن معنى واحداً حصره فى المفهوم الذي اتبعه المشركون فى مواجهة حقائق القرآن الكريم" (1) .
وقد ألف العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى كتاباً سماه "وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام" وذكر عشرين وجهاً تدل على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها، ورد على هذا المذهب القائل بأنه لا يُحتجُّ بهذه الآحاد فى العقيدة لأنها لا تفيد اليقين، وذكر أن القول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة قول مبتدع محدث لا أصل له فى الشريعة، ولم يقل به أحد من الصحابة وسلف هذه الأمة، ومن المعلوم أن كُلَّ أمر مُبتَدع في أمر من أمور الدين باطل مردود، كما أن هذا القول يستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد كونها في العقيدة، وقال أيضاً:"إن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية، وإيجاب الأخذ بحديث الآحاد في هذه دون تلك إنما بُني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل". ثم قال: "ومما يوضح لك أنه لابد من اقتران العقيدة في العمليات أيضاً أو الأحكام: أنه لو افترض أن رجلاً يغتسل أو يتوضأ للنظافة أو يصلي مرتبطاً، أو يصوم تطبباً، أو يحج سياحة، لا يفعل ذلك معتقداً أن الله تبارك وتعالى أوجبه عليه وتعبده به لما أفاده شيئاً، كما لا يفيده
(1) السنة المفترى عليها ص 154، وانظر كتاب (إقامة البرهان على نزول عيسى آخر الزمان) للعلامة عبد الله بن الصديق الغماري.
معرفة القلب إذا لم تقترن بعمل القلب الذي هو التصديق. فإذن كل حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة ولابد ترجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أنه أُخبرنا به في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لما وجب التصديق والعمل به".
ومما قاله أيضاً: "إن قولهم يستلزم تعطيل العمل بحديث الآحاد في الأحكام العملية أيضاً، وهذا باطل لايقولون هم أيضاً به، وما لزم منه باطل فهو باطل، وبيانه: أن كثيراً من الأحاديث العملية تتضمن أموراً اعتقادية، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: إذا جلس أحدكم فى التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. رواه الشيخان
…
" إلى آخر كلامه.
المذهب الخامس: وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء لا يحتجون بأحاديث الآحاد لا في العقائد ولا في الأحكام.
وحجة هؤلاء هي نفس حجة المذهب السابق الذكر، أي أن هذه الأحاديث لا تفيد إلا الظن ولا تفيد علماً مقطوعاً به لما فيها من احتمال الخطأ والوهم والكذب.
قلت: وهذا القول باطل؛ لأن من لوازمه الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم، وعلى الأحاديث المتواترة، والتي لا يصل عددها إلى مائتي حديث. وكأن هؤلاء هم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من حديث المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا هل عسى رجل يبلُغُهُ الحديث عنّي، وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله،
فما وجدنا فيه حلالاً استحللْناهُ، وما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه، وإن ماحرم رسول الله كما حرم الله" (1) وقال الإمام القرطبي في تفسيره: "وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به؛ تحكُّماً فى الدين ودعوى في المعقول، وليس فى ذلك أصل يعوَّل عليه
…
" (2) .
(1) رواه أبو داوود (4604) ، والترمذي (2666) ، وابن ماجه (12) ، وأحمد 4 / 130، واللفظ للترمذي.
(2)
تفسير القرطبي 16 / 332.
القول الحق في قبول خبر الآحاد
وبعد أن سردنا المذاهب فى الاحتجاج بخبر الآحاد نقول: إن الحق الذي لا يعول على غيره: أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً، إذا توافرت فيه شروط القبول، ولم يطعن فيه أحد من العلماء المعتبرين، سواء أكان في الصحيحين أم في غيرهما. وإليك الأدلة التي تفيد ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
أولاً: الكتاب:
1-
قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فالفرقة في الآية يراد بها الثلاثة فأكثر، والطائفة تصدق على الواحد والاثنين فهي جزء من الفرقة، ومن ذلك أن الله أمر بتشكيل واحد أو اثنين للخروج من كل فرقة تضم ثلاثة أفراد من أجل التفقه فى الدين ومن أجل الإنذار بعد العودة، فدل ذلك على صحة أخذ العلم عن خبر الآحاد ودل بالتالي على وجوب العمل به (1) .
2-
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
وفى قراءة لحمزة والكسائي وخلف: {فتثبَّتوا} .
(1) انظر الفقيه والمتفقه ص 110.
ذكر الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي فى أضواء البيان: أنَّ أهل الأصول استدلّوا بالآية على "قبول خبر العدل؛ لأن قوله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} يدل بدليل خطابه - أعني مفهوم مخالفته - أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلا لايلزم التبين فى نبئه على قراءة: فتبينوا. ولا التثبيت على قراءة: فتثبتوا. وهو كذلك"(1) .
3-
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قال ابن القيم: "وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولو كان ما بلغه لم يفده علماً لما كان متعرضاً بمخالفة مالا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر"(2) .
4-
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] .
قال ابن القيم: "ووجه الاستدلال: أنه أمر أن يُرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سننه بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النّزاع لم يكن في الرد إليه فائدة، إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى مالا يفيد
(1) أضواء البيان 7 / 627، وذكر نحو ذلك الأستاذ العلامة محمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير 26/231.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة ص 603.
علماً ألبتة؟ ولا يدري حق هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع بحمد الله" (1) .
5-
قال ابن القيم: "وجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أنزل الله، وهو ذكر من الله أنزله على رسوله، وقد تكفل سبحانه بحفظه، فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة، ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه، وهذا من أعظم الباطل"(2) .
وقال الحافظ ابن حجر: "واحتج بعض الأئمة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة:67] . مع أنه كان رسولاً إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الآحاد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة، لتعذر خطاب جميع الناس شفاهاً، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم". قال الحافظ: "وهو مسلك جيد"(3) .
6-
وقال الإمام أبو محمد بن حزم: "قال الله عز وجل عن نبيه
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 603.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة ص 603 – 604.
(3)
فتح الباري 13 / 235
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . وقال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50] . وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .
وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . [النحل:44] . فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لاشك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر مُنَزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه وأن لا يُحَرف منه شيء أبدًا تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه؛ إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعال كذباً وضمانه خائساً، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا، قال تعالى:{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} . [الأنعام:19]
فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل ألبتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عن أحد من الناس بيقين؛ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كذباً ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلم" (1) .
ثانياً: السنة:
1-
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله إلى الملوك فى مختلف الأمصار
(1) الإحكام فى أصول الأحكام 1 / 36.
لدعوتهم إلى دين الإسلام، كما كان يبعث برسله إلى الآفاق لنشر الدعوة الإسلامية وبيان أحكام هذا الدين، فقاموا بذلك وهم فرادى (1) .
قال الشافعي: "وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عماله واحداً واحداً ورسله واحدًا واحداً، وإنما بعث عماله ليخبروا الناس بما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرائع دينهم، ويأخذوا منهم ما أوجب الله عليهم، ويعطوهم مالهم، ويقيموا عليهم الحدود، وينفذوا فيهم الأحكام.. ولو لم تقم الحجة عليهم بهم إذ كانوا في كل ناحية وجههم إليها أهل صدق عندهم ما بعثهم"(2) فمن ذلك:
أ- عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله بعثني رحمة للناس كافة، فأدوا عني رحمكم الله
…
فبعث ابن حذافة إلى كسرى، وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى صاحب هَجَر، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجُلندي ملكي عمان، وبعث دحية الكلبي إلى قيصر، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فرجعوا جميعاً قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير العلاء بن الحضرمي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو بالبحرين" (3) فالحديث يدل على أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل معاً.
(1) ألَّفَ الإمام محمد بن علي بن حُدَيدة المتوفى سنة (783 هـ) كتابا سماه (المصباح المضيء فى كتاب النبي الأمي ورسله الى ملوك الأرض من عربي وعجمي) جمع فيه الرسل الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب مطبوع بالهند.
(2)
الفقيه والمتفقه ص 113_ 114.
(3)
أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (20 /8) رقم 12، وفي الأحاديث الطوال رقم 23، وذكره الهيثمي فى مجمع الزوائد 5 / 305 وعزاه للطبراني. وقال:«وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف» . قلت: ومفردات الحديث رويت من طرق أخرى صحيحة، انظر كتاب المصباح المضيء.
وقال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني فى كتاب الانتصار: "لو لم يقع العلم بخبر الواحد فى أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من الصحابة فى هذا الأمر"(1) .
ب- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"(2) .
قال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث قبول خبر الواحد ووجوب العمل به"(3) .
2-
مارواه الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نَضَر الله عبداً سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها، فَرُبَّ حامِل فقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(4) . ووجه دلالته أنه أمر كل عبد يسمع مقالته أن يبلغها، مع إمكان كونه غير فقيه، والعبد حقيقة للشخص الواحد،
(1) نقله عنه ابن القيم فى مختصر الصواعق المرسلة ص 609.
(2)
رواه البخاري 8/51، ومسلم (19) ، ورواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم.
(3)
فتح الباري 3/360.
(4)
في الرسالة (1102) وهو حديث صحيح رواه أصحاب السنن والمسانيد عن زيد بن ثابت وغيره.
ولا يأمره إلا وخبره مما تقوم الحجة به.
وقال الإمام الشافعي: "فلما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها، والمرء واحد، دلَّ على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدى عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وحدّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا، ودلَّ على أنه قد يحمل الفقهَ غيرُ الفقيهِ يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً"(1) .
3-
حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه الآنف الذكر: "ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته
…
" الحديث. ووجه الاستدلال كما قال ابن القيم: "أن هذا نهي عام لكل من بلغه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالفه أو يقول: لا أقبل إلا القرآن، بل هو أمر لازم، وفرض حتم بقبول أخباره وسننه، وإعلام منه صلى الله عليه وسلم أنها من الله أوحاها إليه، فلو لم تفد علماً لقال من بلغته: إنها آحاد لا تفيد علماً فلا يلزمني قبول مالا علم لي بصحته، والله تعالى لم يكلفني العمل بما لم أعلم صحته ولا اعتقاده، بل هذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ونهاهم عنه، ولما علم أن في هذه الأمة من يقوله حذرهم منه، فإن القائل إن أخباره لاتفيد العلم هكذا يقول سواه لا ندري ما هذه الأحاديث، وكان سَلَفُ هؤلاء يقولون: بيننا وبينكم القرآن، وخَلَفُهُم يقولون: بيننا وبينكم أدلة العقول، وقد صَرَّحوا بذلك وقالوا: نقدم العقول على هذه الأحاديث، آحادها ومتواترها ونقدم الأقيسة عليها" (2) .
(1) الرسالة (1103،1104) ونقله عنه ابن القيم فى مختصر الصواعق المرسلة ص 604.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة ص 605.
4-
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتي يؤذن ابنُ أمِّ مكتوم"(1) .
ودلالة هذا الحديث فى الأمر بتصديق المؤذن وهو واحد والعمل بخبره فى فعل الصلاة، والعلم بدخول وقت الصلاة، وأول وقت الإفطار والإمساك، مع أن هذه من العبادات التي تختل بتغير وقتها، ولم يزل المسلمون فى كل وقت ومكان يقلدون المؤذنين، ويعملون بأذانهم في أوقات مثل هذه العبادات، وإن هذا لأوضح دليل على وجوب العمل بخبر الآحاد.
5-
ما ثبت عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهني رضي الله عنهما في قصة العسيف، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اغد يا أُنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. (2)
ووجه الاستدلال فيه أن النبي اعتمد خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد وقتل نفس مسلمة. وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح:"فيه دليل على أن الحكم المبني على الظن ينقضي بما يفيد القطع"(3) .
ثالثاً: الإجماع (4) :
1-
قال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني في كتاب الانتصار:
(1)
رواه البخاري 4 / 117، ومسلم (1092) ، ومالك 1 / 74، والنسائي 2 / 10.
(2)
أخرجه البخاري (برقم 6842، 6843) .
(3)
فتح الباري 12 / 124.
(4)
ولعل الباحث – وفقه الله – لم يقصد الإجماع الاصطلاحي، وإنما قصد الإجماع اللغوي؛ فإن الإجماع بمعناه الاصطلاحي لم يقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما بعد وفاته، لذا فإن الدليلين الثاني والثالث اللذين ذكرهما الباحث لا يدخلان في أدلة الإجماع بالمعنى الذي أراده. (اللجنة العلمية) .
"أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموجودين من المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وفي فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين وأخبار الرقاق وغيرها مما يكثر ذكره، وهذه الأشياء علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولاينفعه، ويصير كأنهم قد دوَّنوا في أمور الدين مالا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه". ثم قال: "وربما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من الصحابة، وهذا الواحد يؤديه إلى الأمة وينقله عنه، فإذا لم يُقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدِّي، نعوذ بالله من هذا القول البشع والاعتقاد القبيح"(1) .
2-
ما ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "كنت ساقي القوم في منْزِل أبي طلحة، فكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأتاهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها
…
" الحديث (2) . وهذا فيه دليل على أنهم اعتمدوا خبر هذا الشخص، وأن العمل بخبر الواحد كان معروفاً عندهم.
3-
وقال الإمام القرطبي فى تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ
(1) نقله ابن القيم فى الصواعق المرسلة انظر مختصره ص 608_609.
(2)
رواه البخاري 13 / 232، ومسلم (1980) ، ومالك 2 / 846.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: من الآية150] . مانصه: "في الآية دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعاً به من الشريعة عندهم، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي، وأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون"(1) .
4-
وقال ابن القيم: "إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم والإباحة والفروض ويُجْعَلُ ذلك ديناً يدان به في الأرض إلى آخر الدهر، فهذا الصدّيق رضي الله عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدَّة وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مَسلمة والمغيرة بن شعبة فقط، وجعل حكم ذلك الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نص القرآن في إثبات فرض الأم، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد، وأثبت عمر بن الخطاب بخبر حمل بن مالك دية الجنين وجعلها فرضاً لازماً للأمة، وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده، وصار ذلك شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة، وأثبت شريعة عامة في حق المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده، وأثبت عثمان بن عفان شريعة عامة في سكنى المتوفى عنها بخبر فريعة بنت مالك وحدها، وهذا أكثر من أن يذكر، بل هو إجماع معلوم منهم، ولا يقال على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد في الظنيات ونحن لاننكر ذلك لأنا قد قدمنا أنهم أجمعوا
(1) تفسير القرطبي 2/151، وقصة أهل قباء المذكورة رواها البخاري 13 / 233، ومسلم (926) ومالك 1/195.
على قبوله والعمل بموجبه، ولو جاز أن يكون كذباً أو غلطاً في نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة عل قبول الخطأ والعمل به، وهذا قدح فى الدين والأمة" (1) .
وبعد: فهذه بعض الأدلة التي تشير إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً إذا كان صحيحاً وقبله علماء الحديث من غير نكير منهم عليه أو طعن فيه، وأنه حجة قاطعة فى الدين سواء أكان فى العقائد أم في غيرها، وأن الادعاء بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن أو لايعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن والسنة وعمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان، بل أفادت هذه الأدلة مجتمعة أن الحديث إذا صحت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسَلِمَ من القوادح الخارجية والداخلية وجب العمل به فى جميع أمور الدين، وأما ما نجده من تردد بعض الأئمة فى العمل به فى بعض الأحوال، فإنَّ ذلك كان لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد، من ريبة فى الصحة أو تهمة للراوي، كالذي حدث من سيدنا عمر رضي الله عنه فى عدم قبوله لخبر فاطمة بنت قيس، فإنَّ عدم القبول لم يكن لأنه خبر آحاد، ولكن لأن عمر لم يثق برواية فاطمة بدليل قوله:"لا ندري حفظت أم نسيت"(2) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 609.
(2)
رواه مسلم 1481.