المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شبهة المجيزين والجواب عنها - حكم التمثيل

[بكر أبو زيد]

الفصل: ‌شبهة المجيزين والجواب عنها

‌شبهة المجيزين والجواب عنها

لا أعلم قائلاً بجواز (التمثيل) مطلقاً، ومن أجازه حفه بشروط وضوابط، وفي هذه الحال فللمجيز جوازاً مقيداً بشروط: شبَه أفضت به إلى القول بالجواز بشروطه.

يمكن تصنيفها على ما يلي:

1-

التمثيل ترفيه بريئ، ولهو مُباح.

2-

التمثيل هادف إلى: بث الوعي، ومعالجة القضايا الأخلاقية، والمشاكل الإجتماعية،، فهو: وسيلة تربوية.

3-

التمثيل وسيلة إظهار لعظمة الإسلام، ومجد عظمائه.

4-

التمثيل من باب ضرب الأمثال بالمحسوسات وتقرير الحقائق، والدلالة عليها. وفي القرآن والسنة من هذا شيئ كثير، والله تعالى يقول:} وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {الحشر/21. قالوا: فهكذا التمثيل، لإيضاح وتجسيد للغاية التي يُقام من أجلها، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح بحسب غايته.

ص: 49

5-

قياسه على تمثيل جبريل عليه السلام لمريم في صورة بشر، وكذا في مواضع أخر، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

6-

مادرج عليه جماعة من المؤلفين مثل الحريري في مقاماته، وابن المقفع في كليلة ودمنة.

7-

مزاولته لدى بعض المتقديم باسم (خيال الظل) .

والجواب عنها على ما يلي:

(1)

أما أن التمثيل ترفيه بريئ ولهو مباح، فهذا لا يمكن قبوله، لما رأيت في توجيه التحريم لذاته وموضوعه، وآثاره، فأنّى له البراءة، فضلاً عن الإباحة.

(2)

أما أنه وسيلة دينية لإظهار مجد الإسلام، فإن ما يُؤدي إلى خدمة الدين مطلوب، بشرط عدم الإحداث والإبتداع} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً {مريم / 64، والدعوة إلى الله توقيفية في وسيلتها، وغايتها، والوسيلة لا تبررها الغاية، وهذه وسيلة تعبدية محدثة، فسبيلها الرد ابتداء.

إضافة إلى ما يُحيط بها في موضوعها ونتائجها مما تقدم لك بيانه، ينتج من هذا أنها وسيلة محدثة

ص: 50

فهي رد، والله أعلم.

(3)

وأما أنها وسيلة تربوية وهادفة.. فهذا مقدوح بما تقدم لك من علة التشبه، وما يمازجها من محاذير شرعية، وكما أن قاعدة الشريعة منع التشبه، فقاعدة الشريعة أيضاً دفع المفاسد وتقليلها، وجلب المصالح وتكثيرها، وقد علمت ما ينطوي عليه التمثيل هنا من مضامين يرفضها الشرع، فسبيل هذه الوسيلة المنع، والله أعلم.

(4)

وأما قياسه على ضرب الأمثال في الكتاب والسنة، فهذا قياس مقدوح فيه بقيام الفارق بين المقيس والمقيس عليه، إذ الأمثال قولية، أما (التمثيليات) فهي فعليه تمارس بالذوات، فكيف يُقاس هذا، على هذا مع عدم تطابقهما، فثبت فساد القياس

ثم إن ضرب الأمثال في القرآن الكريم قد تنوعت، فضرب المثل بالأعمى والأصم، وبالعنكبوت، ورؤوس الشياطين، والكلب، والحمار، والأنعام، والعبد المملوك، وهكذا.

فهل يقول المستدل على جواز التمثيل بضرب الأمثال، بجواز تمثيل المسلم بدور الشياطين،

ص: 51

والكلاب، والحمير، والأنعام.

وهذا إلزام وارد، على سبيل التنزل، وإلا فأصل القياس غير سليم، والله أعلم.

(5)

أما تمثيل جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي وغيره، فقياس فاسد لما يلي:

وهو أن القدرة على التشكل من خصائص عالم الغيب عن عالم الشهادة، فقد جعل الله سبحانه وتعالى للملائكة القدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم تشكلاً حقيقياً، كما في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

ففي القرآن، أرسل الله تعالى جبريل إلى مريم في صورة بشر} فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {مريم / 17.

وجاءت الملائكة إلى إبراهيم في صورة بشر.

وجاء جبريل إلى نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في صور وأشكال متعددة، في صورة دحية الكلبي، وفي صورة أعرابي..

ومن إعطاء الله لهم القدرةعلى التشكل ما في قصة:

ص: 52

الأقرع، والأبرص، والأعمى.

وقد أعطى الله الشياطين والجان القدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان.

ومنها: مجيئ الشيطان إلى المشركين يوم بدر في صورة سُراقة بن مالك.

كما تتشكل في صورة كلب.. أو حيات.

والشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم.

فهذه تشكلات حقيقية أقدر الله عليها عالم الغيب من الملائكة الأبرار، والشياطين والجن الأشرار، واختصهم بها لعلة الإمتحان والإبتلاء والإختبار في بعضها. ولعلل وأحكام لا يعلمها إلا من قدرها. ولم تكن هذه التشكيلات الحقيقية لآدمي قط، فهي قاصرة على محلها في (عالم الغيب) .

بناءاً على هذا، فقياس (عالم الشهادة) على (عالم الغيب) في ذلك قياس فاسد، لأنه قياس تشكل جزئي وهمي كاذب، على تشكل كلي حقيقي صادق. ولأن العلة الجامعة قاصرة على محلها في عالم الغيب، وتوفرها في طرفي القياس ركن في صحته، وفقدانها هنا ظاهر، فضلاً عن شرط تساويهما في الفرع والأصل، لو وجدت،

ص: 53

فهي مفقودة أصلاً في النوع المقيس.

ولو اشتركا في العلة فشرطها أن تكون بوصف ظاهر، وليست في عالم الغيب كذلك.

فنخلص من هذا أنه قياس فاسد لاختلال ركنه وشرطه، والله أعلم.

5 -

أما ما درج عليه بعض الأدباء في تأليف غريب اللغة بمقامات على لسان شخصيات وهمية متخيلة مثل (مقامات الحريري) وغيرها، فهذا أيضاً من القياس الباطل، الفاقد لشروطه، المختل ركنه. إذ أنه مقدوح فيه، وذلك بالفرقان بين المقيس والمقيس عليه. حيث أن الحريري في سياقته لمقاماته، لم يتقمص شخصية معيّنه ولا وهمية، بخلاف التمثيل.

ثم هذا من باب القول لا من باب الفعل، ثم هو من باب المحاورة والتعليم لا من باب التمثيل والتشبيه، كالشأن فيما هو أبعد من ذلك، كحديث تعليم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان. وهكذا.

ثم أرونا أثراً واحداً مرفوضاً شرعاً يترتب على هذا.

ص: 54

وأما كليلة ودمنة، فهو ليس من تأليف ابن المقفع المتوفي سنة 145هـ، وإنما هو من ترجمته، وحسبك أنه ابن المقفع الذي ليس له رواية في الإسلام مع تقادم عهده في صدر عصر الرواية.

وعلى كل حال فهذه الكتب:

مقامات الحريري، وألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، جميعها من باب ضرب الأمثال، لا من باب التمثيل. وقد ألمح إلى ذلك ابن حجر الهيثمي في " فتاويه " ونقله عنه الكتاني في " التراتيب الإدارية "(2 / 226 - 227) .

6 -

وأما ما تقدم في تاريخ التمثيل من وجود لعب وحكايات في هذا كانت معروفة باسم (خيال الظل) ، فهذه وإن وُجدت في عصور متأخرة، فهي منقطعة الإتصال بصدر هذه الأمة. ثم وجودها في طبقة الصعاليك والمترفين، وهؤلاء ليسوا بحجة على الدين.

ثم وجد من أنكرها من العلماء، فاستجاب له الأمراء. والله أعلم.

ص: 55