المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ففي ميدان الصراع العقدي والمذهبي: - حول الشعر التعليمي - جـ ٥٢

[صالح آدم بيلو]

الفصل: ‌ففي ميدان الصراع العقدي والمذهبي:

فيرسل الأرنب من أظفاره

ويتبع العير على أدباره

والكلب من رقته ترضيه

بلقمةٍ تقذفها في فيه

ويقول في الباب ذاته:

وباذل النّصح لمن لا يشكره

كطارح في سبغ ما يبذره

لا خير للعاقل في ذي المنظر

إن هو لم يحمده عند المخبر

وليس في الصديق ذكر الصفاء

خير إذا لم يك ذا وفاء

الرجل العاقل من لا يسكره

كأس سمو واقتدار يبطره

فالجبل الثابت في أصوله

لا تقدر الريح على تحويله

والناقص العقل الذي لا رأي له

يطغى إذا ما نال أدنى منزله

مثل الحشيش أيّما ريح جرت

مالت به فأقبلت وأدبرت1

وبنظم أبان لهذا الكتاب، ولقيانه المكافأة الجزيلة من البرامكة، وبإقبال الناس عليه، أقبل غيره من الشعراء على نظم هذا الكتاب كذلك، والنّسج على منواله.

ومن هنا تدافع الشعراء ينظمون الشعر التعليمي في عدة أبواب من المعارف والعلوم والفنون، فاستخدموه في الصراع العقدي والمذهبي، وفي الحكمة والموعظة، وفي الفلك والنجوم، والسيرة والتاريخ، وفي اللهو والمجون والحب وأصوله وقوانينه!

(1) الأوراق ص46 وما بعدها.

ص: 216

‌ففي ميدان الصراع العقدي والمذهبي:

كان بشر بن المعتمر يفيد من هذا اللون الشعري في الصراع المذهبي، وتأييد وجهة نظر الاعتزال، وتابعه جماعة من الشعراء الذين أثارهم بشار بن برد بما ذهب إليه من تفضيل النار على الأرض، وإبليس على آدم في أبياته التي يقول فيها:

إبليس أفضل من أبيكم آدم

فتبينوا يا معشر الأشرار 1

فتصدوا له يردون عليه مبينين أن للأرض الفضل على النار، ذلك لأنها أصل النار، وأنّ النار موجودة فيها (بالقوة) ، وأنّ في الأرض أعاجيب لا تحصى ولا تعد من المعادن والنبات والعناصر الأخرى

(1) رسالة الغفران بتحقيق بنت الشاطئ ص310.

ص: 216

فلبشر قصيدتان طويلتان رواهما الجاحظ في الحيوان، أولاهما في ذمّ فرق الإباضية والرافضة والحشوية، وذكر فيها أصنافاً من الحيوان، وتحدث عن أعاجيبها وطبائعها، وما تقتات به، مستدلاً بذلك على قدرة الخالق، وقد بدأها بالحكمة، فقال:

الناس دأباً في طلاب الغنى

وكلهم من شأنه الختر

كأذؤب تنهشها أذؤب

لها عواء ولها زفر

تراهم فوضى وأيدي سبا

كل له في نفسه سحر

تبارك الله وسبحانه

بين يديه النفع والضر

من خلقه في رزقه كلهم

الذيخ والتيتل والعفر

ويعدد أصناف الحيوان، وكيف تعيش وتقتات، حتى ينتهي من ذلك إلى قوله:

إني وإن كنت ضعيف القوى

فالله يقضي وله الأجر

لست إباضياً غبيّاًولا

كرافضي غرّه الجفر

كما يغرّ الآل في سبب

سَفْراً، فأودى عنده السفْر

كلاهما وسّع في جهل ما

فعاله عندهما كفر

لسًنا من الحشو الجفاة الألى

عابوا الذي عابوا ولم يدروا 1

والقصيدة الثانية تتحدث عن العالم وما فيه من المخلوقات المختلفة الأجناس، ويعدد الشاعر الحيوان وأوضاعه مستدلاً بذلك على حكمة الله، مستخلصاً من ذلك أن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يهتدي به الناس، وألاّ يتخذوا غيره رائداً مرشداً كما يفعل من ضلوا واحتكموا إلى التقليد:

أما ترى العالم ذا حشوة

يقصر عنها عدد القطر

أوابد الوحش وأجناسها

وكل سبع وافر الظفر

وبعد أن يعدد أجناساً من الحيوان، يقول:

فكم ترى في الخلق من آية

خفية الحسبان في قعر

أبرزها الفكر على فكرة

يحار فيها واضح الفجر

لله در العقل من رائد

وصاحب في العسر واليسر

وحاكم يقضي على غائب

قضية الشاهد للأمر

(1) الحيوان للجاحظ ج6/84-91.

ص: 217

ثم يعود الشاعر فيعدد الحيوان ويذكر طبائعه، وأنه في طلب رزقه يقلد بعضه بعضا، وعلى مثالهم في هذا أبناء آدم، إلاّ أنهم مختلفون في الدين، ومتفاوتون في الرأي والقدر، وقد تحكمت فيه واستولت عادة الاتباع والتقليد:

وكل جنس فله قالب

وعنصر أعراقه تسري

وتصنع السرفة فيهم على

مثل صنيع الأرض والبذر

والأضعف الأصغر أحرى بأن

يحتال الأكبر بالفكر

متى يرى عدوه قاهرا

أحوجه ذاك إلى المكر

كما ترى الذئب إذا لم يطق

صاح فجاءت رسلاً تجري

وكل شيء فعلى قدره

يحجم أو يقدم أو يجري

والخلد كالذئب على خبثه

والفيل كالأعلم كالوبر

والعبد كالحرّ وإن ساءه

والأبغث الأعثر كالوبر

لكنهم في الدّين أيدي سبا

تفاوتوا في الرأي والقدر

قد غمر التقليد أحلامهم

فناصبوا القياس ذا السَّبر

فافهم كلامي واصطبر ساعة

فإنما النجح مع الصبر

وانظر إلى الدنيا بعين امرئ

يكره أن يجري ولا يدري1

وحين أنشأ بشار قصيدته المتقدم ذكرها في تفضيل النار وإبليس على الأرض وآدم أنشأ صفوان الأنصاري قصيدته المضادة في تفضيل الأرض وآدم، فقال:

زعمت بانّ النار أكرم عنصراً

وفي الأرض تحيا بالحجارة الزند

وتخلق في أرحامها وأرومها

أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد

وفي القعر من لج البحار منافع

من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد

وفي قلل الأجبال خلف مقطم

زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد

وفي الحرّة الرجلاء تلقي معادن

لهن مغارات تبجس بالنقد

من الذهب الإبريز والفضة التي

تروق وتصبي ذا القناعة والزهد

وكلّ فلزّ من نحاس وآنك

ومن زئبق حي ونوشادر يسدي

وكلّ يواقيت الأنام وحليها

من الأرض والأحجار فاخرة المجد

وفيها مقام الحل والركن والصفا

ومستلم الحجاج من جنة الخلد 2

(1) الحيوان ج6/291-297.

(2)

البيان والتبيين ج1/91.

ص: 218