الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنه أغضُّ للبصر
(1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» .
قال ابن حجر في شرح الحديث: (الوجاء: رضُّ الخصيتين، وقيل: رضُّ عُروقِهما، ومن يُفعَل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه أن الصومَ قامعٌ للشهوة) . انتهى كلامه.
معاشر الصائمين: في هذا الحديث إشارة إلى فائدة كبرى من فوائد الصوم، ألا وهي غض البصر، وإحصان الفرج.
فالصائم ينال هذه الفضيلة، ويسلم من معاطب إطلاق البصر وآفاته؛ فالعين مرآةُ القلب، وإذا أطلق الإنسان بصرَه أطلق القلبُ شهوتَه، ومن أطلق بصرَه دامت حسرتُه؛ فأضرُّ شيٍء على القلب إرسالُ البصر؛ فإنه يريد ما يشتدُّ إليه طلبُه، ولا صبر له عنه، ولا سبيل إلى الوصول إليه، وذلك غايةُ ألمه وعذابه.
ثم إن النظرةَ سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس - كما جاء في الحديث - وشأنُ السهمِ أن يسريَ في القلب؛ فيعملَ فيه عملَ السمِّ الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر واستفرغه وإلا قتله ولا بد.
وكذلك النظرةُ؛ فإنها تفعل في القلب ما يفعله السهمُ في الرَّميَّة، فإن لم تقتله جرحته.
والنظرةُ بمنزلة الشرارة تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقْه كلَّه أحرقت بعضه كما قيل:
كلُّ الحوادثِ مبداها من النظر
…
ومعظمُ النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها
…
فتكَ السهام بلا قوسٍ ولا وتر
والمرءُ ما دام ذا عينٍ يقلبها
…
في أعين الغيد موقوفٌ على الخطر
يسرُّ مُقْلَتَهُ ما ضرَّ مهجتَه
…
لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهامٍ غَرضُها قلبه وهو لا يشعر، قال المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُهُ
…
فَمَنِ المطالبُ والقتيلُ القاتلُ
قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كان النظرُ أقربَ الوسائلِ إلى المحرم اقتضت الشريعةُ تحريمَه، وأباحتْه في موضع الحاجة. وهذا شأن كلِّ ما حُرِّم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للمصلحة الراجحة) .
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرفَ بصري» .
قال ابن القيم رحمه الله: (ونظرُ الفجأةِ هي النظرة الأولى، التي تقع بغير قصد؛ فما لم يتعمدْه القلبُ لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانيةَ تَعَمُّدًا أثِم؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند نظرة الفجأة أن يصرفَ بصرَه، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامته كتكريره) .
معاشر الصائمين: ما أحوجنا إلى غضِّ البصر، وإلى ما يذكرنا به، خصوصًا في هذه الأزمنة، التي كثرت فيها الفتن، وتنوعت؛ حيث التبرجُ والسفورُ، والمجلاتُ الهابطةُ، والأفلام الخليعة، والقنوات الفضائية التي تغري بالرذيلة، وتزري بالفضيلة.
فغض البصر - بإذن الله - أمانٌ من الفتنة، وسبيلٌ إلى الراحة والسلامة؛ فإذا غض العبدُ بصره غضَّ القلب شهوتَه وإرادته.
قال - تعالى -: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (النور: من الآية 30) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فجعل - سبحانه - غضَّ البصر، وحفظَ الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس.
وزكاةُ النفوسِ تتضمن زوالَ جميعِ الشرورِ من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله: (والواجب على من وقع بصرُه على مُسْتَحسنٍ، فوجد لذةَ تلك النظرةِ في قلبه أن يصرفَ بصرَه؛ فمتى ما تَثَبَّت في تلك النظرة أو عاود وقع في اللوم شرعًا وعقلًا.
فإن قيل: فإن وقع العشقُ بأول نظرةٍ فأي لومٍ على الناظر؟
فالجواب: أنه إذا كانت النظرةُ لمحةً لم تَكَدْ توجبُ عِشقًا، إنما يوجبه جمودُ العين على المنظور بقدر ما تَثْبُتُ فيه، وذلك ممنوع منه.
ولو قَدَّرنا وجودَه باللمحة، فأثَّر محبةً سَهُلَ قمْعُ ما حصل) .
إلى أن قال رحمه الله: (فإن قيل: فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة؟
قيل: علاجهُ الإعراضُ عن النظر؛ فإن النظرةَ مثلُ الحبةِ تُلْقَى في الأرض؛ فإذا لم يُلتَفَتْ إليها يَبَستْ، وإن سقيت نَبَتَتْ؛ فكذلك النظرةُ إذا أُلحقت بمثلها) .
وقال: (فإن جرى تفريطٌ بإتْباعِ نظرةٍ لنظرةٍ فإن الثانية هي التي تُخاف وتُحذر؛ فلا ينبغي أن تُحْقَر هذه النظرةُ؛ فربما أورثت صبابةً، صبَّت دمَ الصبِّ) .
وقال ابن القيم: (فعلى العاقلِ ألا يُحَكِّم على نفسه عشقَ الصور؛ لئلا يؤدِّيَه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرِها، أو بعضِها؛ فمن فعل ذلك فهو المفرِّط بنفسه، المُضِرُّ بها؛ فإذا هلكت فهو الذي أهلكها؛ فلولا تكرارُه النظرَ إلى وجه معشوقه، وطمعه في وصاله لم يتمكَّنْ عِشْقُه من قلبه) اهـ.
اللهم إنَّا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى، وللحديث صلة - إن شاء الله - وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
فإنه أغضُّ للبصر (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد كان الحديث بالأمس يدور حول أثرِ الصيام في غضِّ البصر، وذلك انطلاقًا من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري:«من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» .
وقد جاء في الحديث الماضي ذكرٌ لأضرار إطلاق البصر، والحديث هاهنا إكمال لما مضى، وبيان لفوائد غضّ البصر.
معاشرَ الصائمين قد يقول بعض الناس: إذا نظرتُ نظرةً، فاشتدَّ تعلقي بمن نظرتُ إليه؛ فهل لي أن أكررَ النظرَ، لعلي أراه دون ما في نفسي، فَأَسْلوَ عنه؟
والجواب: أن ذلك من تلبيس الشيطان، ولا يجوز فعلُه لأوجهٍ عديدةٍ ذكرها ابن الجوزي، وابن القيم - رحمهما الله - ومن تلك الأوجه ما يلي:
أولًا: أن الله - سبحانه - أمر بغضِّ البصر، ولم يجعلْ شفاءَ القلبِ فيما حرَّمه على العبد.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن نظر الفجأة، وقد علم أنَّه قد يؤثر في القلب، فأمر بمداواته بصرف البصر، لا بتكرار النظر.
الثالث: أنه صرح بأن الأولى له، وليست له الثانية، ومحالٌ أن يكون داؤه مما هو له، ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهرَ أن الأمرَ كما رآه في أول مرة؛ فلا تحَسُنُ المخاطرةُ بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه؛ فزاد عذابُه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية، يقوم في ركائبه، فيزيِّن له ما ليس بحسن؛ لتتمَّ البلية.
السابع: أنه لا يعان على مطلوبه، إذا أعرض عن امتثال أمر الشرع، وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جديرٌ أن تتخلَّف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرةَ الأولى سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليس، ومعلومٌ أن الثانية أشدُّ سُمًّا؛ فكيف يتداوى من السم بالسم؟ ! التاسع: أن صاحبَ هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب - كما زعم - وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبينَ حالَ المنظور إليه؛ فإن لم يكن مرضيًّا تَرَكَهُ؛ فإذًا يكون تَرْكُهُ لأنه لا يلائم غرضه، لا لله - تعالى - فأين معاملة الله - تعالى - بترك المحبوب لأجله؟
وبهذه الأوجه وغيرها مما لم يذكر يتبينُ لنا خطورةُ إطلاقِ البصر، وإتْبَاعُ النظرةِ النظرة.
معاشر الصائمين: لغضِّ البصر فوائدُ عظيمةٌ، لو استحضرها العاقل لقادته إلى غض البصر، ولمنعته من الاسترسال فيه، ومن تلك الفوائد ما يلي:
الفائدة الأولى: تخليص القلب من ألم الحسرة.
الفائدة الثانية: أنه يورثُ القلبَ نورًا وإشراقًا، يَظْهرُ في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.
الفائدة الثالثة: أن غضَّ البصر يورثُ صحةَ الفِرَاسَة؛ فإنها من النور، وثمراته، وإذا استنار القلبُ صحَّت الفِراسةُ؛ لأنه يصير بمنزلة المرآةِ المجلوَّةِ تظهر فيها المعلوماتُ كما هي، والنظرُ بمنزلة التنفُّس فيها؛ فإذا أطلق العبد نظره تنفَّست نفسُه الصُّعَداءُ في مرآة قلبه، فطمست نورها كما قيل:
مرآةُ قلبِكَ لا تُريكَ صلاحَهُ
…
والنَّفسُ فيها دائمًا تتنفسُ
والله عز وجل يجازي العبدَ على عمله بما هو من جنسه، فمن غضَّ بصرَه عن المحارم عوَّضه الله إطلاقَ بصيرتِه؛ فلما حبس بصرَه لله أطلق اللهُ نور بصيرتِه، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرتَه.
الفائدة الرابعة من فوائد غض البصر: أنه يفتحُ للعبد طرقَ العلمِ ويسهلُ عليه أسبابَه، وذلك بسب نور القلب؛ فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائقُ المعلومات، وانكشفتْ له بسرعة، ونفذَ من بعضها إلى بعض.
ومن أرسلَ بصَره تكدَّر عليه قلبه، وأظلم، وانسدَّ عليه بابُ العلم وطرقُه.
الفائدة الخامسة: أن غضَّ البصر يورث القلبَ سرورًا، وفرحًا، وانشراحًا، أعظم من اللذة والسرور الحاصلِ بالنظر؛ وذلك لقهره عدوَّه بمخالفته، ومخالفة نفسه، وهواه.
ثم إنه لما كفَّ لذَّتَهُ، وحبسَ شهوتَه لله وفيها مسرةُ نفسه الأمارةِ بالسوء أعاضه الله مَسَرَّةً ولذةً أكملَ منها، كما قال بعضهم: والله لَلَذَّةُ العفةِ أعظمُ من لذة الذنب.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحًا، وسرورًا، ولذّةً أكملَ من لذّة الهوى بما لا نسبة بينهما، وهاهنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السادسة: أن غضَّ البصر يُخَلِّص القلب من أسر الشهوة؛ فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه.
الفائدة السابعة: أن غضَّ البصر يسد عنه بابًا من أبواب جهنم؛ فإن النظرة باب الشهوة الحاملة على مواقعة الإثم.
الفائدة الثامنة: أن غضَّ البصر يقوي العقلَ، ويزيده ويثبِّته؛ فإن إطلاق البصر وإرسالَه لا يحصل إلا من خِفة العقل، وطيشِه، وعدمِ ملاحظته للعواقب.
الفائدة التاسعة: أنه يُخَلِّصُ القلب من سُكْرِ الشهوة، ورقدةِ الغفلة.
وبالجملة ففوائدُ غضِّ البصر، وآفاتُ إرسالِه أضعافُ أضعاف ما ذكر؛ فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغضَّ طرفَه عما تشتهيه نفسُه من الحرام، وليكن له في ذلك الغض نيةٌ يحتسب بها الأجرَ، ويكتسب الفضلَ، ويدخل في جملة مَنْ نهى النفسَ عن الهوى.
وهكذا معاشر الصائمين: يتبيَّن لنا أثرُ الصيامِ في غضِّ البصر، ويتّضح لنا آثار إرسالِ البصر، وثمراتُ غَضِّه.
وإذا استفاد الصائم هذا الدرس من صيامه بعثه ذلك إلى غضِّ بصره، واستحضار مشاهدة الرب عز وجل له؛ فينال بذلك فوائدَ غضِّ البصر، ويدخل في زمرة المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم.
اللهم اجعلنا ممن خافك، واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.