الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فضائل الحلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا ريب أن للصوم أثرًا في اكتساب الحلم، ولا ريب أن للحلم فضائلَ عديدةً، والحديث هاهنا تبيان لبعض فضائل الحلم.
معاشر الصائمين: من فضائل الحلم أنك ترى الناسَ في جانب الحليم متى كان خصمُه أو مناظره ينحدر في جهالة، ولا يندى جبينه أن يقول سوءًا.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حلمُك على السفيه يكثر أنصارَك عليه) .
قال الحكيم العربي:
والحلمُ أعظمُ ناصرٍ تَدْعُونه
…
فالزمْهُ يَكْفِكَ قلةَ الأنصار
ومن فضل الحلم أن رئاسةَ الناسِ -صغيرةً كانت أم كبيرة- لا ينتظم أمرُها إلا أن يكون الرئيس راسخًا في خلق الحلم.
قال معاوية رضي الله عنه لعرابةَ الأوسيِّ: بم سُدْتَ قومك حتى قال فيك الشماخ:
رأيت عرابةَ الأوسيَّ يسمو
…
إلى الخيرات منقطعَ القرينِ
إذا ما رايةٌ رُفعت لِمَجدٍ
…
تلقَّاها عرابةُ باليمينِ
قال عرابةُ: غيري أولى مني بذلك يا أمير المؤمنين.
قال معاوية: عزمتُ عليك لَتُخبرَنِّي.
قال عرابة: يا أمير المؤمنين، كنت أحلِم على جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في قضاء حوائجهم.
وما ذلك - أيها الصائمون - إلا أن الناس يكرهون جافي الطبع، ولا يجتمعون حولَ مَنْ يأخذه الغضبُ لأدنى هفوة، إلا أن يساقوا إليه سوقًا.
والرئيس بحق هو مَنْ يملك القلوب قبل أن يبسط سلطانه على الرقاب.
ولقد امتن ربنا -جل وعلا- على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جبله على هذه السيرة الحميدة، وأنْ جَنَّبه الغلظةَ والفظاظة، فقال عز وجل:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: من الآية 159) .
ولقد كانت سيرةُ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حافلةً بهذا الخلق الكريم؛ فلقد كان يلاقي الإساءة بالإحسان، ويدفع بالحسنة السيئة، ويقابل الغِلظَ بالرفق؛ فهذه السيرةُ ترشدُ رئيسَ القومِ، والداعيةَ، والعالمَ، والمعلمَ أن يوسِّع صدرَه لمن يناقشه أو يجادله ولو صاغ أقواله في غلظة وجفاء؛ فسيرته عليه الصلاة والسلام هي التي علَّمت معاوية رضي الله عنه أن يقول:(والله لا أحْمِلُ سيفي على مَنْ لا سيفَ له؛ فإن لم يكن لأحدكم سوى كلمةٍ يقولها ليستشفيَ بها فإني أجعل لها ذلك دبر أذني، وتحت قدمي) .
ويقول رضي الله عنه: (لا أحمل سيفي ما كفاني سوطي، ولا أحمل سوطي ما كفاني مقولي) .
وإليكم - معاشر الصائمين - هذه القصةَ العجيبةَ من سيرة معاوية رضي الله عنه.
قال رجل من قريش: ما أظن معاويةُ أغضبه شيءٌ قطُّ.
فقال بعضهم: إذا ذُكرَت أُمُّه غضب.
فقال مالك بن أسماء المنى القرشي: أنا أغضبه إن جعلتم لي جعلًا، ففعلوا، فأتاه في الموسم، فقال له: يا أمير المؤمنين إن عينيكَ لتشبهانِ عيني أمِّك.
قال معاوية: نعم كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان! ثم دعا مولاه شقران فقال له: أَعْدِدْ لأسماء المنى ديةَ ابنها؛ فإني قد قتلته وهو لا يدري.
فرجع مالكُ بنُ أسماءِ المنى وأخذ الجعلَ، فقيل له: إن أتيت عمر بن الزبير فقلت له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا.
فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات.
فبلغ ذلك معاوية، فقال: أنا والله قتلته، وبعث إلى أمه بديته، وأنشأ يقول:
ألا قل لأسماء المنى أمِّ مالكٍ
…
فإني لَعَمْرُ الله أهلكت مالكا
قال ابن الأثير رحمه الله متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي: (وكان رحمه الله حليمًا، حسن الأخلاق، صبورًا على ما يكره، كثير التغاضي عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعلِمُهُ بذلك، ولا يتغير عليه.
وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسر موزة - أي بنعل - فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين، فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها) .
معاشر الصائمين: قد يقطع الحلم شَرًّا عظيمًا لو لم يقابل بالحلم لتمادى وعظم.
قال أيوب: (حلمُ ساعةٍ يدفع شرًّا كبيرًا) .
وقال الأحنف: (ربَّ غيظٍ تَجَرَّعْتُه، مخافةَ ما هو شرٌّ منه) .
بل قد يضع الحلمُ مكان الضغينة مودة؛ ذلكم أن الفضيلةَ محبوبةٌ في نفسها، وتدعو إلى إجلال مَنْ يتمسَّك بها.
وكثيرًا ما يكون الصفح عن المسيء دواءً لسوء خلقه، وتقويمًا لعوجه، فيعود الجفاء إلى ألفة، والمناوأة إلى مسالمة.
أما التسرُّع في دفع السيئة بمثلها أو أشدَّ دونما نظرٍ إلى الأثر السيئ - فذلك دليلُ ضيقِ الصدرِ، والعجزِ عن كبح جماح الغضب.
وإنما يتفاضل الناس في السيادة على قدر تدبُّرهم للعواقب، وإسكاتهم للغضب إذا طغى. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 34-35)
أيها الصائمون الكرام، ومن فوائد الحلم: السلامة من تشوش القلب، ومرض البدن، وسائر المشكلات الناجمة عن الغضب.
أما أعظم فوائده فهي الفوزُ برضا الخالق -جل وعلا- فإنه قد دعا إليه في آيات كثيرة، قال - تعالى -:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134) .
وأثنى على عباده المؤمنين بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: من الآية 63) .
أيها الصائم الكريم، تذكَّر أنك تتفيَّأُ في ظلال دين قويم، وتعيش في أيام شهر مبارك كريم؛ فإذا سابَّك أحدٌ أو شاتمك فقل:«إني امرؤ صائم» .
وبذلك ترضي ربك، وتحافظ على صومك، وتسلم من سماع ما يسوؤك.
وإذا لزمت هذه السيرة الرضية في شهرك هذا، كان ذلك دافعًا لك أن تلزم الحلم في بقية عمرك، (وإنما الحلم بالتحلُّم، وإنما العلم بالتعلُّم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.