الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه
(1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن للشهوات سلطانًا على النفوس، واستيلاءً وتمكنًا في القلوب؛ فتركُها عزيزٌ، والخلاص منها عسير.
ولكنْ مَن اتقى اللهَ كفاه، ومن استعان به أعانه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .
وإنما يجدُ المشقةَ في ترك المألوفات والعوائدِ من تركها لغير الله.
أما من تركها مخلصًا لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلةٍ؛ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على تلك المشقة قليلًا تحولت لذة.
وكلما ازدادتِ الرغبةُ في المحرم، وتاقتِ النفسُ إلى فعله، وكثرت الدواعي إلى الوقوع فيه -عظمُ الأجرُ في تركه، وتضاعفت المثوبةُ في مجاهدة النفس على الخلاص منه.
ولا ينافي التقوى ميلُ الإنسانِ بطبعه إلى بعض الشهوات المحرمة إذا كان لا يغشاها، وكان يجاهد نفسَه على بغضها.
بل إن ذلك من الجهاد، ومن صميم التقوى؛ فالنار حفت بالشهوات، والجنة حفت بالمكاره.
ولقد جرت سنةُ الله بأنّ مَنْ ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
والعِوضُ من الله أنواع مختلفة، وأجلُّ ذلك العوض: الأنسُ بالله، ومحبتُه، وطمأنينةُ القلبِ بذكره، وقوَّتُه، ونشاطُه، ورضاه عن ربه، مع ما يلقاه العبد من جزاء في هذه الدنيا، ومع ما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى.
ولقد تظاهرت نصوصُ الشرع في هذا المعنى العظيم الذي يعد من أدْعى الأسباب لمخالفة الهوى، ولزوم التقوى؛ إذ فيه نظرٌ للعواقب، وإيثارٌ للآجل على العاجل.
هذا وإن الصيام لمن أعظم ما يؤكد هذا المعنى، ويبعث عليه.
ولو استعرض الإنسانُ نصوصَ الشرعِ في الصيام لتجلى له هذا المعنى غاية التجلي.
ومن تلك النصوص ما جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» الحديث.
وجاء فيهما -أيضًا-: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربَّه فرح بصومه» .
وبوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الصيام بابًا سماه: "باب الريان للصائمين"
ثم ساق بسنده الحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة بابًا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أيها الصائمون، فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم؛ فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» .
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: "الرَّيَّان بفتح الراء، وتشديد التحتانية وزن فعلان من الرِّي: اسمُ علمٍ على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه.
وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتق من الرِّي، وهو مناسب لحال الصائمين، وسيأتي أن من دخله لا يظمأ.
قال القرطبي: اكتُفي بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه.
قلت: أو لكونه أشقَّ على الصائم من الجوع" اهـ.
وهكذا -أيها الصائمون- يتبين لنا أن الجزاءَ من جنس العمل، وأن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه؛ فالصائم لما ترك شهوته، وطعامه، وشرابه من أجل الله جازاه الله على عمله، وعوضه خيرًا مما ترك؛ حيث اختص الصيام من بين سائر الأعمال بأنه له، وأنه يتولى جزاءه.
والصائم لما ترك شهواتِه المجبولَ عليها من شراب، وطعام، ومنكح، وفي ذلك منع له مما يشتهي ، عوضه الله خيرًا مما ترك، ألا وهو الفرح عند الفطر، والفرح عند لقاء الرب وهو فرحٌ لا يقارن بفرح التمتع بالشهوات وسائر الملذات.
وكذلك الحال بالنسبة للحديث الثالث؛ فالصائمون لما صبروا على ألم العطش حال صيامهم، وفي ذلك قهر للنفس، وقمع لها؛ ابتغاء مرضاة الله عوَّضهم الله خيرًا مما تركوا، فجعل لهم بابًا في الجنة لا يدخل منه غيرهم.
وهكذا يتجلى لنا هذا المعنى في الصيام.
والعبرة المأخوذة، والدروس المستفادة من هذا أن يستحضر الصائم هذا المعنى العظيم في جميع ما يأتي وما يذر، وأن يعلم أن الله- عز وجل كريم شكور، وأن مقتضى ذلك أن يجازي الإنسان بالحسنة خيرًا منها تفضلًا وتكرمًا. والجزاء ليس في الآخرة فحسب، بل الغالب أنه في الدنيا والآخرة معًا.
ولو قام هذا المعنى في القلوب لانبعثت إلى فعل الطاعات، ولأقصرت عن كثير من الشرور والمعاصي.
هذا وللحديث صلة في الدرس القادم -بإذن الله- حيث سيذكر فيها نماذج لأمور من تركها لله عوضه الله خيرًا منها.
اللهم إنا نسألك حبك، وحبَّ من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه (2)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد كان الحديث في الدرس الماضي يدور حول معنى: "من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه" وكيف كان الصيام دالًّا على هذا المعنى، ومرشدًا إليه.
والحديث هاهنا إكمال لما مضى، وسيدور حول ذكرٍ لأمور من تركها لله عوضه الله خيرًا منها؛ لعل النفوس تنبعث إلى فعل الخير، والإقصار عن الشر.
فمن ترك مسألَة الناس، ورجاءَهم، وإراقةَ ماءِ الوجه أمامهم، وعلَّق رجاءه بالله دون سواه -عَوّضَه خيرًا مما ترك، فرزقه حريةَ القلب، وعزةَ النفس، والاستغناء عن الخلق «ومن يتصبرْ يصبرْه الله، ومن يستعففْ يُعِفَّهُ الله» .
ومن ترك الاعتراض على قدر الله، فسلم لربه في جميع أمره رزقه الله الرضا واليقين، وأراه من حسن العاقبة ما لا يخطر له ببال.
ومن ترك الذهابَ إلى العرافين والسحرة رزقه الله الصبرَ، وصِدْقَ التوكل، وتَحَقُّقَ التوحيد.
ومن ترك التكالبَ على الدنيا جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبه، وأَتَتْهُ الدنيا وهي راغمةٌ.
ومن ترك الخوفَ من غير الله، وأفرد اللهَ وحده بالخوف -سَلِمَ من الأوهام، وأمَّنه الله من كل شيء، فصارت مخاوفُه أمنًا وبردًا وسلامًا.
ومن ترك الكذبَ، ولزم الصدقَ فيما يأتي وما يذر - هُدي إلى البر، وكان عند الله صديقًا، ورزق لسانَ صدقٍ بين الناس، فسوَّدوه، وأكرموه، وأصاخوا السمع لقوله.
ومن ترك المراءَ وإن كان مُحِقًّا ضُمن له بيتٌ في ربض الجنة، وسلم من شر اللجاج والخصومةِ، وحافظ على صفاء قلبه، وأمن من كشف عيوبه.
ومن ترك الغشَّ في البيع والشراء زادت ثقةُ الناس به، وكثر إقبالُهم على سلعته.
ومن ترك الربا، وكَسْبَ الخبيثِ بارك الله في رزقه، وفتح له أبوابَ الخيرات والبركات.
ومن ترك النظرَ إلى المحرم عوَّضه الله فِراسةً صادقةً، ونورًا وجلاءً، ولذةً يجدها في قلبه.
ومن ترك البخلَ، وآثر التكرمَ والسخاءَ أحبه الناس، واقترب من الله ومن الجنة، وسلم من الهم والغم وضيق الصدر، وترقى في مدارج الكمال ومراتب الفضيلة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
ومن ترك الكبر، ولَزِمَ التواضع كمل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح:«ومن تواضع لله رفعه» .
ومن ترك المنام ودفأه ولذته، وقام يصلي لله عز وجل عوضه الله فرحًا، ونشاطًا، وأنسًا.
ومن ترك التدخينَ، وكافةَ المسكراتِ والمخدراتِ أعانه الله، وأمده بألطاف من عنده، وعوَّضه صحةً وسعادةً حقيقية، لا تلك السعادة الوهمية العابرة.
ومن ترك الانتقامَ والتشفِّيَ مع قدرته على ذلك-عوَّضه الله انشراحًا في الصدر، وفرحًا في القلب؛ ففي العفو مِنَ الطمأنينة والسكينةِ، والحلاوةِ، وشرفِ النفس، وعزها، وترفُّعها -ما ليس شيءٌ منه في المقابلة والانتقام.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا» .
ومن ترك صحبة السوء التي يظن أن بها منتهى أنسه، وغايةَ سروره - عوَّضه الله أصحابًا أبرارًا، يجد عندهم المتعة والفائدة، وينال من جرّاء مصاحبتهم ومعاشرتهم خيري الدنيا والآخرة.
ومن ترك كثرة الطعام سلم من البطنة، وسائر الأمراض؛ لأن من أكل كثيرًا شرب كثيرًا، فنام كثيرًا، فخسر كثيرًا. ومن ترك المماطلةَ في الدَّين أعانه الله، وسدد عنه بل كان حقًَّا على الله عونُه.
ومن تركَ الغضبَ حفظ على نفسه عزتَها وكرامتَها، ونأى بها عن ذل الاعتذار، ومَغَبَّةِ الندم، ودخل في زمرة المتقين {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} .
«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أوصني ، قال: "لا تغضب» رواه البخاري.
قال الماوردي رحمه الله: "فينبغي لذي اللُّبِّ السوي والحزمِ القوي أن يتلقى قوةَ الغضب بحلمه فيصدَّها، ويقابلَ دواعي شرَّتِهِ بحزمه فيردَّها، ليحظى بأجَلِّ الخيرة، ويسعد بحميد العاقبة".
وعن أبي عبلة قال: غضب عمر بن عبد العزيز يومًا غضبًا شديدًا على رجل، فأمر به، فأُحضر وجُرِّد، وشُدَّ في الحبال، وجيء بالسياط، فقال: خلوا سبيله؛ أما إني لولا أن أكون غضبان لَسُؤْتُكَ، ثم تلا قوله -تعالى-:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} .
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
معاشر الصائمين: للحديث بقية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه (3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد كان الحديث الماضي يدور حول بعض النماذج لأمور من تركها لله عوضه الله خيرًا مما ترك.
والحديث هاهنا إكمال لما مضى، وذكرٌ لنماذج أخرى من ذلك القبيل.
معاشر الصائمين: من ترك الوقيعة في أعراض الناس والتعرضَ لعيوبهم ومغامزهم - عُوِّض بالسلامة من شرهم، ورزق التبصرَ في نفسه.
قال الأحنف بن قيس رحمه الله: "من أسرع إلى الناس فيما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون".
وقالت أعرابيةٌ توصي ولدها: "إياك والتعرضَ للعيوب فَتُتَّخذَ غرضًا، وخليقٌ ألا يثبتَ الغرضُ على كثرة السهام، وقلما اعْتَوَرَتِ السهامُ غرضًا حتى يهيَ ما اشتد من قوته".
قال الشافعي رحمه الله:
المرءُ إن كان مؤمنًا ورِعًا
…
أشغله عن عيوب الورى ورعُهْ
كما السقيمِ العليلِ أشغله
…
عن وجع الناس كلِّهم وجعُهْ
ومن ترك مجاراةَ السفهاء، وأعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
ومن ترك الحسدَ سلم من أضراره المتنوعة؛ فالحسد داء عضال، وسمٌّ قتَّال، ومسلكٌ شائنٌ، وخلقٌ لئيم، ومن لؤم الحسد أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والخلطاء، والمعارف، والإخوان.
قال بعض الحكماء: ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحسود، نَفسٌ دائمٌ، وهمٌّ لازمٌ، وقلبٌ هائمٌ.
ومن سلم من سوء الظن بالناس سلم من تشوش القلب، واشتغال الفكر؛ فإساءَةُ الظنِّ تفسد المودةَ، وتجلب الهمَّ والكدر، ولهذا حذرنا الله عز وجل منها فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظنَّ، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث» رواه البخاري ومسلم.
ومن اطَّرح الدعةَ والكسلَ، وأقبل على الجد والعمل -علت همتُهُ، وبورك له في وقته، فنال الخيرَ الكثير في الزمن اليسير.
ومَنْ هجر اللذات نال المنى ومن
…
أكبَّ على اللذات عضَّ على اليد
ومن ترك تَطلُّبَ الشهرةِ وحبَّ الظهورِ رفع الله ذكره، ونشر فضلَه، وأتته الشهرة تُجَرِّرُ أذيالها.
ومن ترك العقوقَ، فكان بَرًّا بوالديه رضي الله عنه، ويسر الله له أمره، ورزقه الله الأولاد البررة وأدخله الجنة في الآخرة.
ومن ترك قطيعةَ أرحامِه، فواصلهم، وتودَّد إليهم، واتقى الله فيهم - بسط الله له في رزقه، ونَسَأَ له في أثره، ولا يزال معه ظهير من الله ما دام على تلك الصلة.
ومن ترك العشقَ، وقطع أسبابَه التي تُمِدُّه، وتجرَّع غُصَصَ الهجر، ونارَ البعادِ في بداية أمره، وأقبل على الله بِكُلِّيته -رُزِقَ السلوَّ، وعزةَ النفس، وسلم من اللوعةِ والذلة والأَسْر، ومُلئ قلبُه حريةً ومحبةً لله عز وجل تلك المحبة التي تَلُمُّ شعثَ القلبِ، وتسدَّ خَلَّتَهُ، وتشبع جوعته، وتغنيه من فقره؛ فالقلب لا يُسَرُّ ولا يُفْلِحُ، ولا يطيب ولا يسكُن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
ومن ترك العبوسَ والتقطيبَ، واتصف بالبشر والطلاقة - لانت عريكته، ورقت حواشيه، وكثر محبوه، وقلَّ شانؤوه.
قال صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك صدقة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قال ابن عقيل الحنبلي: "البشرُ مُؤنسٌ للعقول، ومن دواعي القَبول، والعبوسُ ضدُّه".
وبالجملة فمن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه؛ فالجزاء من جنس العمل {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .
أيها الصائم الكريم: إذا أردت مثالًا جليًّا، يبين لك أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه فانظر إلى قصة يوسف -مع امرأة العزيز؛ فلقد راودتْهُ عن نفسه فاستعصم، مع ما اجتمع له من دواعي المعصية، فلقد اجتمع ليوسف ما لم يجتمع لغيره، وما لو اجتمع كلُّه أو بعضُه لغيره لربما أجاب الداعي، بل إن من الناس من يذهب لمواقع الفتنِ بنفسه، ويسعى لحتفه بظلفه، ثم يبوءُ بعد ذلك بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.
أما يوسف عليه السلام فقد اجتمع له من دواعي الزنا ما يلي:
أولًا: أنه كان شابًّا، وداعيةُ الشباب إلى الزنا قوية.
ثانيًا: أنه كان عَزَبًا، وليس له ما يعوضه ويرد شهوته من زوجة، أو سُرِّيَّة.
ثالثًا: أنه كان غريبًا، والغريبُ لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه بين أصحابه ومعارفه.
رابعًا: أنه كان مملوكًا، فقد اشتري بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوكُ ليس وازعه كوازع الحر.
خامسًا: أن المرأة كانت جميلة.
سادسًا: أنها ذاتُ منصبٍ عالٍ.
سابعًا: أنها سيدته.
ثامنًا: غياب الرقيب.
تاسعًا: أنها قد تهيأت له.
عاشرًا: أنها غلقت الأبواب.
حادي عشر: أنها هي التي دعته إلى نفسها.
ثاني عشر: أنها حرصت على ذلك أشد الحرص.
ثالث عشر: أنها توعدته إن لم يفعل بالصغار والسجن، وهو تهديد من قادر.
ومع هذه الدواعي صبر إيثارًا واختيارًا لما عند الله، فنال السعادة والعز في الدنيا، وإن له للجنةَ في العقبى، فلقد أصبح هو السيد، وأصبحت امرأة العزيز فيما بعد كالمملوكة عنده، وقد ورد أنها قالت:"سبحانَ مَنْ صيَّر الملوك بِذُلِّ المعصية مماليك، ومن جعل المماليك بعز الطاعة ملوكًا".
فحري بالعاقل الحازم أن يتبصَّر في الأمور، وأن ينظر في العواقب، وألا يؤثر اللذة الحاضرة الفانية على اللذة الآجلة الباقية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.