الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة الطبعة الثانية
ربّ عونك وتيسيرك
هذا نتاج أربعين عاما - خلا فترات استجمام وفتور، وانصراف إلى بعض مشاغل الحياة - أمضيتها في وضع (الأعلام) وطبعه أولا، ثم متابعة العمل فيه، تهذيبا وإصلاحا وتوسعا، وإعداده للطبع ثانيا. وما أطمع من وراء ذلك في أكثر من أن يكون لي، في بنيان تاريخ العرب الضخم، رملة أو حصاة!
أخرجت دور الطباعة، في خلال ربع قرن انقضى بين طبعتي الكتاب الأولى والثانية، مجموعة كبيرة من المصنفات، بينها أمهات في السّير والأحداث والتراجم، كان همّي أن أتتبعها، مستدركا بعض ما فاتني أو عارضا ما عند أصحابها على ما عندي. وكثيرا ما طال وقوفي أمام تعارض النصوص، أتلمس الصواب وأبحث عن مؤيد لأحدها أطمئنّ إليه، وما أكثر التعارض في مخطوط كتبنا ومطبوعها بما تناولته روايات الرواة وأيدي النساخ وأغراض الكتّاب المؤلفين أنفسهم.
وكان في جملة ما أبرزه الطبع، في هذه المدة، كتب أخذت عنها مخطوطة من قبل، فعدت إليها أتصفحها وأجعل لما اقتبست منها، أرقام صفحاتها وأجزائها، تسهيلا لرجوع القارئ إليها، بعد أن أصبحت في متناول يده.
وبدا لي بعد ظهور الطبعة الأولى من الكتاب، أن الباحث عن بعض الترجمات قد تجهده وحدة الأسماء في مثل (أحمد بن محمد) و (محمد ابن عبد الله) و (محمد بن محمد) لكثرة المسمّين بها، بحيث يضطر، وهو يريد (الغزالي) مثلا، واسمه (محمد بن محمد) أن يجيل نظره في عشرات من الصفحات، كلّ ما فيها (محَّمد بن محمد) واهتديت إلى طريقة جديدة هي أن أضيف إلى اسم المبحوث عنه، تاريخ وفاته ورتبت الأسماء المتماثلة، على السنين، حتى إذا عرف القارئ أن اسم الغَزَالي (محمد بن محمد) ورأى بعد الاسم (505) وهو تاريخ وفاته، هان عليه أن يصل إليه في غير ما عناء أو طول بحث.
* * *
وكان حق الاستشراق (L ' orientalisme) فيما قدّمه بعض رجاله من خدمة للعربية، أن أترجم لجماعات منهم خلّفوا آثارا فيها: تأليفا بها، ك: دي سياسي (أنطون سلفستر) وفلوجل (جستاف ليبريخت) أو نشرا لبعض مخطوطاتها ك: دي خُويُّهْ (ميخيل يوهنا) وفستنفلد (هنري فردينند) ومرجليوث (دافيد صمويل) وتوسعت قليلا، فأدخلت في عداد هؤلاء طائفة ممن كتبوا في لغاتهم عن العرب، وقد درسوا العربية، وإن لم يظهر لهم أثر فيها، كآرنلد (توماس) وجورج سيل، وكايتاني.
وحرصت على أن أكتب بالعربية الأسماء الأجنبية، كما ينطق بها أهلها، على الأغلب.
وذلّلت بتعدّد الإحالة إليها في مظانّ وجودها، عقبة اختلاف النطق بين أمة وأخرى في الاسم الواحد. فهناك مثلا (Ignace) يلفظ بالفرنسية (إينياس) وبالألمانية (إغناتس) Ignaz وكان المستشرق المجري (غولد تسيهر) يكتب اسمه بالعربية (اجناس كولد صهر) وكتبه غيره (إغناطيوس) و (إيغناز) وهو بالإيطالية (Ignazio) ويلفظه الإيطاليون (إينياتسيو) وكان المستشرق الإيطالي جويدي يكتب اسمه (إغناطيوس) وكتبه مرة (إغنازيو) .
وقد يكون المسمّى إنكليزيا: (Charles) فيلفظه الإنكليز (تشارلس) ويجعله من يأخذه عن الفرنسية (شارل) وعن الإسبانيولية (كارلوس) وعن الإيطالية (كارلو) وعن الألمانية (كارل) .
أو يكون ألمانيا (Wilhelm) فيلفظه بعض الألمان (فلهلم) وكثير منهم (فيللم) والهولنديون (فيلم) ويكتبه السويديون (Vilhelm) بفاء واحدة، وينطقون الهاء، ويحوّله الفرنسيون إلى غيّوم (Guillaome) فينقل عنهم
إلى العربية (غليوم) ورأيته في مخطوطة عربية كتبت في القرن السادس للهجرة (كليام) وكان ابن جبير يكتبه (غليام) ويقابله عند الإنكليز ((William يكتبه النقلة إلى العربية وليم وويليام ووليام. وعند الإنكليز ((Paul يلفظونه (پول) ويلفظه الألمان والهولنديون (پاول) وهو بالإسبانية (پاولو) وعند العرب عن بعض اللغات القديمة: (بولس) . ومما اختلف فيه النطق، مع وحدة الرسم Juan)) يقرأها الفرنسي (جوان) والإسباني (خوان) و Macdonald)) يلفظها الإنكليز (ماكدونلد) والأميركيون (ماكدانلد) و (August) يلفظها الإنكليز (أوغست) والألمان والدنمارك (آوغست) .
ويشترك الألمان وغيرهم في اسم (Georg) إلّا أن الإنكليز والفرنسيين يزيدونه (Georgee) ويلفظونه (جورج) ومثلهم الإسبان، ويلفظونه (خورخي) بإمالة الخاء الثانية، والألمان ينطقونه (جي أورج) وهو عند الفنلنديين (جوري) . ويشترك الجميع في كتابة اسم يعقوب Jacob)) وينطقه الإنكليز والفرنسيون (جاكوب) أما الألمان ومن جرى مجراهم فينطقونه (ياكب) .
وفي المستشرقين من عرّب اسمه ولم يتقيد بما ينطق به في لغته، كالمستشرق (Freitz)(Krenkow) تسمى بسالم الكرنكوي، و ((Joseph Hammer Purgstall تسمى (يوسف حامر) ومن كان على هذا النمط جعلته في أشهر اسميه أو لقبيه، وأحلت إليه حيث يقع اسمه الآخر أو لقبه. إلى آخر ما هنالك، وهو غير قليل.
* * *
وضقت ذرعا بما يقابل حرف ((G غير المتصل به أحد الحروف الثلاثة: e، i، y أهو الجيم (جويدي) أم الغين (غوردون) أم الكاف (إنكليز) أم القاف (شنقيط) أم الكاف عليها ثلاث نقط، كما كتبها ابن خلدون أم الكاف عليها خط (گ) وهذا في رأيي أصوب ما يكتب، إلّا أن الأكثرين لم يقبلوا عليه. وفي القدماء من اقتصر على الغين، فكان بمصر (غبريال) Gabriel من ابناء المئة الثامنة للهجرة، ترجم له ابن الوردي (2: 306) و (الإغريقيون) Gress في رحلة ابن جبير (338 طبعة بريل) وما وسعني إلا أن آخذ بالأكثر تداولا في كل اسم اشتمل على هذا الحرف.
وربما أتيت به مختلف الرسم في الترجمة الواحدة، للدلالة على تساوي الرسمين عندي.
وإن جاء في ابتداء أحد الأسماء جيما أشرت إليه في الغين، وبالعكس.
وقد عالجه مجمع اللغة العربية بمصر ووضع له قواعد ليس هنا مجال الحديث عنها.
وعانيت في تراجم المعاصرين نصبا، بدت لي فيه ظاهرة خلقية غير مرضية، في كثير ممن كتبت إليهم أو كلّمتهم، لاستكمال نقص في ترجمة أب لهذا أو أخ أو قريب لذاك، ولم يفعلوا.
أما خطوط المترجم لهم، فكانت بداية أمرها معي، كذلك الّذي يكون، أوّل ما يكون، مجانة، فإذا تمكن صار شغلا شاغلا!
عرض لي وأنا أتلقط صور الأقربين عهدا، من هنا وهناك، أن لبعض من تقدم بهم الزمن، ما قد يحل محل الصورة، من توقيع أو إجازة أو تملك. وبدأت انظر فيما بين يدي من أسانيد وأثبات ورقاع. ثم اندفعت أنقب عن خطوط المصنفين في أوائل كتبهم وأواخرها، وبين سطور ما نسخ على عهدهم منها. ونشط البررة من إخواني فأمدوني بالتحف النفائس منها. وتهيأت لي رحلات، اقتنصت فيها خطوطا لم أكن أحلم ببقائها. وتفتحت أمامي أبواب المتاحف والمكتبات ومخلفات الخزائن السلطانية والبيوت العريقة في القدم، فإذا بي، والأفق أمامي لا نهاية له، كخائض البحر أيام الجزر، داهمه المدّ!.
والخطوط، إلى جانب قيمتها الأثرية، فلذ من أرواح أصحابها أبديّة الحياة، يكمن فيها من معاني النفوس، ما لا تعرب عنه صور الأجسام. والعهد بالحرص عليها، قديم، قال ابن النديم (1: 40 - 41) وهو من أبناء القرن الخامس للهجرة، الحادي عشر للميلاد، ما مؤداه: كان بمدينة (الحديثة) رجل يقال له (محمد بن الحسين) أخرج لي قمطرا كبيرا، خصه به رجل من أهل الكوفة، فيه أنواع مختلفة من الورق، تشتمل على تعليقات عن العرب وقصائد وحكايات وأخبار وأنساب، وعلى كل جزء أو ورقة أو مدرج، توقيع بخطوط العلماء، واحدا إثر واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كل توقيع توقيع خمسة أو ستة من العلماء بشهادة بعضهم على خطوط بعض،
ورأيت أربع أوراق كتب عليها أنّها بخط (يحيى بن يعمر) وتحت هذا الخط، بخط عتيق:(هذا خط علان النحويّ) وتحته: (هذا خط النَّضْر بن شُمَيْل) قال ابن النديم: ومات الرجل ففقدنا القمطر.
وكان فيما أخذت عنه للطبعة الأولى، فهارس مكتبات فاتني العزو إليها وغابت عني أسماؤها، فتداركت في هذه الطبعة ما استطعت تداركه. واكتفيت للتعريف بأماكن ما زاد فيها من المخطوطات، بالإحالة إلى مصادرها. وقلت فيما تهيأ لي الاطلاع عليه منها أو اقتناؤه: هو في خزانة فلان، أو هو عندي، لئلا يذهب سعى الباحث عنه سدى.
وكثيرا ما ينسب الرجل إلى أحد جدوده، فتتكرر في المصادر ترجمته، كمحمد بن غازي - مثلا - وهو محمد بن أحمد، ومثله محمد بن جابر (محمد بن أحمد) اتقيت التكرار في أمثالهما جهدي، وأحلت إلى الأول في (ابن غازي) وإلى الثاني في (ابن جابر) وهلمّ جرّا.
* * *
وكنت على نية أن أجعل مكان الشكر آخر الكتاب، ثم رأيت أن أتعجل فأنوّه بمؤازرة أعلام من فضلاء المعاصرين، كان أسبقهم زمنا الاستاذ محمَّد كُرْد عَلي رئيس المجمع العلمي العربيّ بدمشق: رجعت إليه أيام اشتغالي بجمع مادة الكتاب، ناشئا، فأخذ بيدي يرشدني إلى صحاح المصادر، وفتح لي خزانة كبته آخذ عنها ومنها ما أنا في حاجة إليه. كما فعل من بعد، بمصر، الصديقان الجليلان رحمهما الله، وإياه، أحمد تيمور (باشا) وأحمد زكي (باشا) وكان أولهما أسرع من بادر، بعيد صدور الطبعة الأولى، إلى كتابة ما عنّ له إصلاحه في الثانية. وتلقيت من المستشرق المحقق (كرنكو) المتقدم ذكره، ثلاث صفحات في نقد تلك الطبعة استفدت من أكثرها.
وأهدى إليّ الصديق الوفي السيد أحمد عبيد (أحد أصحاب المكتبة العربية في دمشق) وهو من أعلم الناس اليوم بمخطوط الكتب ومطبوعها، نسخته الخاصة من الطبعة الأولى، وكانت بين يديه نحو عشرين عاما، يعلّق عليها بما يقع له من مخطوط ومطبوع وغريب وطريف. وأضاف إلى هذا أن أتاح لي مطالعة مجموعة مما ظفر به من قديم المخطوطات ونادرها، وحمل عني عبء استخراج (الخطوط) المكنوزة في خزائن دمشق ومكتباتها، وتولى قراءة هذه الطبعة، في فترة اشتغالي بإعداد المستدرك، فنبّه إلى ما وقف عليه من خطأ الطبع، وأضاف تعليقات مفيدة أثبتّها في المستدرك منسوبة إليه. وتفضل السيد الوجيه أحمد خيري، فأرسل إليّ من (روضته) في إقليم البحيرة، بمصر، تعليقات كان أثبتها على نسخته أيضا، من الطبعة الأولى، جديرة بالنظر.
وكان لي من مكتبة عالم الحجاز المعاصر، بجدة، الشيخ محمد حسين نصيف، ومن علمه بالمتأخرين من رجال الحرمين، معين لا ينضب. وأحسن الصديق الأستاذ أمين مرسي قنديل، صاحب كت أبي التربية وعلم النفس، ومدير دار الكتب المصرية بالأمس القريب، فتناول ما أعددته للطبعة الثانية - هذه - من تراجم المستشرقين، فأعاد عرضه على ثقات المصادر، مبالغة في التثبّت والاستقصاء، وكشف لي مدة تولّيه دار
الكتب عن جملة من كنوزها. ونشر الباحث (محمد غسان) في المجلد الثاني عشر من مجلة (الرسالة) نقدا للطبعة الأولى أجاد فيه وأنصف. وتفضل الصديق المؤرّخ حسن حسني (باشا) عبد الوهاب الصمادحي التونسي، فأتحفني بنوادر من الخطوط، استخرجها من مكنونات (مكتبته) القيمة. كما تفضل المجمع العلمي العراقي بتصوير عدة خطوط، سألته اقتباسها من خزانة الأوقاف ببغداد. أما المكتبات العامة التي وفقت إلى زيارتها في بعض بلدان المشرق والمغرب، وأوربا وأميركا، فقد طوق القائمون عليها عنقي، بمنة تيسيرهم لي سبيل الاطلاع على قديمها وحديثها، والتصوير عنها. ومثلهم أصحاب المكتبات الخاصة من العلماء أو الأعيان، حفظة كنوز الأجداد والسّاهرون على صون التراث الخالد.
وجزى الله خيرا أمين مخطوطات دار الكتب المصرية السيد (فؤاد سيد) العارف حق المعرفة بخبايا الدار وفرائدها، وأمين معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية السيد (رَشَاد عَبْدِ المُطَّلِب) الخبير كل الخبرة بما في المعهد من (أفلام) لمفردات من خزائن الهند والقسطنطينية والحجاز والشام وغيرها، فلقد كان كلاهما نعم العون على ما صوّر لي من خطوط الدار والمعهد.
* * *
أمّا ما استقبل به الكتّاب الكتاب، عند ظهوره الأوّل، من تعريف به وتقريظ، وما فسح له العلماء من مكان بين المراجع القريبة المأخذ، السهلة التناول، وما نوّه به الكثيرون من أن الحاجة إلى معجم في سير الأفراد، لا تقل عن مثلها إلى معاجم مفردات اللغة، فذلك ما أهاب بي إلى الدؤوب وشجعني على السير وخفف عني ألم الجهد.
* * *
وبعد، فقد كانت الطبعة الأولى تجربة، رضي عنها من نظر إليها بعين الرضا، ونقد بعض هناتها من تطوع للمشاركة في مجهود إصلاحها، عكفت عليها الأعوام الطوال، أشذّب وأهذّب، وأمحو وأثبت، مضيفا إليها من تراجم المتقدمين والمتأخرين ما جعلها في أضعاف ما كانت عليه. وللزيادة
مجال، كان وما يزال متسعا للمستزيد، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد!
خير الدين الزركلي