المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع السادس عشر: في كيفية إنزاله - الإتقان في علوم القرآن - جـ ١

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ

- ‌النوع الثاني: في مَعْرِفَةُ الْحَضَرِيِّ وَالسَّفَرِيِّ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ النَّهَارِيِّ وَاللَّيْلِيِّ

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ: الصَّيْفِيُّ وَالشِّتَائِيُّ

- ‌النوع الخامس: الفراشي والنومي

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ: الْأَرْضِيُّ وَالسَّمَائِيُّ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ مَا نَزَلَ

- ‌النَّوْعِ الثَّامِنِ: مَعْرِفَةُ آخِرِ مَا نَزَلَ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ

- ‌النَّوْعُ الْعَاشِرُ: فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ

- ‌النَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ: مَا تَكَرَّرَ نُزُولُهُ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ: مَا تَأَخَّرَ حُكْمُهُ عَنْ نُزُولِهِ وَمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ عَنْ حُكْمِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مَا نَزَلَ مُفَرَّقًا وَمَا نَزَلَ جَمْعًا

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا نَزَلَ مُشَيَّعًا وَمَا نَزَلَ مُفْرَدًا

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا أُنْزِلَ مِنْهُ عَلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا لَمْ يُنَزَّلْ مِنْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَأَسْمَاءِ سُوَرِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: فِي جَمْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ عَشَرَ: فِي عَدَدِ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ

- ‌النَّوْعُ الْعِشْرُونَ: فِي مَعْرِفَةِ حُفَّاظِهِ ورواته

- ‌النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْعَالِي وَالنَّازِلِ مِنْ أَسَانِيدِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَالسَّادِسِ وَالسَّابِعِ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْآحَادِ وَالشَّاذِّ وَالْمَوْضُوعِ وَالْمُدْرَجِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي بَيَانِ الْمَوْصُولِ لَفْظًا المفصول معنى

- ‌النَّوْعُ الثَّلَاثُونَ: فِي الْإِمَالَةِ وَالْفَتْحِ وَمَا بَيْنَهُمَا

- ‌النَّوْعُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْإِقْلَابِ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْمَدِّ وَالْقَصْرِ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَخْفِيفِ الْهَمْزِ

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي آدَابِ تِلَاوَتِهِ وَتَالِيهِ

الفصل: ‌النوع السادس عشر: في كيفية إنزاله

‌النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ

فِيهِ مَسَائِلُ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

قَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} .

اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي عشرين سنة وثلاث وعشرين أو خمس وَعِشْرِينَ عَلَى حَسْبِ الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بمكة بعد البعثة.

وأخرج الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَكَانَ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَكَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِ الِلَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ في ليلة واحدة إلى السماء الدُّنْيَا لَيْلَةَ الَقَدْرِ ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ قَرَأَ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ

ص: 146

إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} .

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي آخِرِهِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَحْدَثُوا شَيْئًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابًا.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حَسَّانِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَجَعَلَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَسَانِيدُهَا كُلُّهَا صَحِيحَةٌ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما. إسناده لا بأس به.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ أُنْزِلُ الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى وُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَنَزَّلَهُ جبريل على محمد بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ دُفِعَ إِلَى جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ ثُمَّ جَعَلَ يُنَزِّلُهُ تَنْزِيلًا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَطِيَّةَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَقَالَ: أَوْقَعَ فِي قَلْبِي الشَّكُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَهَذَا نَزَلَ فِي شَوَّالَ

ص: 147

وفي ذي القعدة وفي ذي الْحِجَّةِ وَفِي الْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ وَشَهْرِ رَبِيعٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهُ أنزل في رمضان لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ رَسْلًا فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ.

قَالَ أَبُو شَامَةَ: قَوْلُهُ: "رَسْلًا " أَيْ رِفْقًا وَعَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ أَيْ عَلَى مثل مَسَاقِطُهَا يُرِيدُ: أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَا وَقَعَ مُفَرَّقًا يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا عَلَى تُؤَدَةٍ وَرِفْقٍ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نزل إلى السماء الدُّنْيَا فِي عِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ أو ثلاث وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مَا يُقَدِّرُ الِلَّهُ إِنْزَالَهُ فِي كُلِّ السَّنَةِ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ بَحْثًا فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يُنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى إِنْزَالِهِ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ اللَّوْحِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. ثُمَّ تَوَقَّفَ هَلْ هَذَا أَوْلَى أَوِ الْأَوَّلُ!.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الَّذِي جَعَلَهُ احْتِمَالًا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَحَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا.

قُلْتُ: وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِ مُقَاتِلٍ الْحَلِيمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ: قَالَ:

ص: 148

وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلًا رَابِعًا أَنَّهُ نَزَلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَأَنَّ الْحَفَظَةَ نَجَّمَتْهُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَجَّمَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ فِي رَمَضَانَ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ عليه فِي طُولِ السَّنَةِ.

وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: كَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ الِلَّهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَنَجَّمَتْهُ السَّفَرَةُ عَلَى جِبْرِيلَ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَنَجَّمَهُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ سَنَةً.

تَنْبِيهَاتٌ

الْأَوَّلُ: قِيلَ السِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ تَفْخِيمُ أَمْرِهِ وَأَمْرِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ وذلك بإعلام سكان السموات السَّبْعِ أَنَّ هَذَا آخِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِأَشْرَفِ الْأُمَمِ قَدْ قَرَّبْنَاهُ إِلَيْهِمْ لِنُنَزِّلَهُ عَلَيْهِمْ وَلَوْلَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ وُصُولَهُ إِلَيْهِمْ مُنَجَّمًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ لَهَبَطَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ جُمْلَةً كَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ بَايَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَجَعَلَ لَهُ الْأَمْرَيْنِ: إِنْزَالُهُ جُمْلَةً ثُمَّ إِنْزَالُهُ مُفَرَّقًا تَشْرِيفًا لِلْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو شَامَةَ فِي الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ.

وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْأُمَّةِ مَا كَانَ أَبْرَزَ لَهُمْ مِنَ الْحَظِّ بمبعث مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ

ص: 149

أن بعثته كَانَتْ رَحْمَةً فَلَمَّا خَرَجَتِ الرَّحْمَةُ بِفَتْحِ الْبَابِ جَاءَتْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِالْقُرْآنِ فَوُضِعَ الْقُرْآنُ بِبَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيَدْخُلَ فِي حَدِّ الدُّنْيَا وَوُضِعَتِ النُّبُوَّةُ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ وَجَاءَ جِبْرِيلُ بِالرِّسَالَةِ ثُمَّ الْوَحْيِ كَأَنَّهُ أَرَادَ تَعَالَى أَنَّ يُسَلِّمَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي كَانَتْ حَظَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَّةِ.

وَقَالَ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: فِي نُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ جُمْلَةً تَكْرِيمُ بَنِي آدَمَ وَتَعْظِيمُ شَأْنِهِمْ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَتَعْرِيفُهُمْ عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَرَحْمَتَهُ لَهُمْ وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنْ تُشَيِّعَ سُورَةَ الْأَنْعَامِ وَزَادَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْ أَمَرَ جِبْرِيلَ بِإِمْلَائِهِ عَلَى السَّفَرَةِ الْكِرَامِ وَإِنْسَاخِهِمْ إِيَّاهُ وَتِلَاوَتِهِمْ لَهُ.

قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا التَّسْوِيَةُ بين نبينا وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام فِي إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ جُمْلَةً وَالتَّفْضِيلُ لِمُحَمَّدٍ فِي إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ مُنَجَّمًا لِيَحْفَظَهُ.

قَالَ أَبُو شَامَةَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ جُمْلَةً أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَمَا نَزَلَ جُمْلَةً وَإِنْ كَانَ مِنْهُ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ؟

قُلْتُ: لَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِنَّا حَكَمْنَا بِإِنْزَالِهِ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ وَقَضَيْنَاهُ وَقَدَّرْنَاهُ فِي الْأَزَلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْمَاضِي وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْ يُنَزِّلُهُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ انْتَهَى.

الثَّانِي: قَالَ أَبُو شَامَةَ أَيْضًا: الظَّاهِرُ أَنَّ نُزُولَهُ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَبْلَ ظُهُورِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي وَسِيَاقُ الْآثَارِ السَّابِقَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحٌ فِيهِ.

ص: 150

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ البخاري: قد أخرج أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ والإنجيل لثلاث عشرة خَلَتْ مِنْهُ وَالزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: "وَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ لِأَوَّلِ لَيْلَةٍ " قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَلِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الَقَدْرِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَتْ اللَّيْلَةَ فَأُنْزِلَ فِيهَا جُمْلَةً إِلَى سماء الدُّنْيَا ثُمَّ أُنْزِلَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْأَرْضِ أَوَّلُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} .

قُلْتُ: لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ فِي شَهْرٍ رَبِيعٍ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا ذَكَرُوهُ أنه نبئ أَوَّلًا بِالرُّؤْيَا فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ ثُمَّ كَانَتْ مُدَّتُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.

نَعَمْ يُشْكِلُ عَلَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ أُنْزِلَتِ الْكُتُبُ كَامِلَةً لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ.

الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو شَامَةَ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ مَا السِّرُّ فِي نُزُولِهِ مُنَجَّمًا وَهَلَّا نزل كَسَائِرِ الْكُتُبِ جُمْلَةً!

قُلْنَا: هَذَا سُؤَالٌ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ جَوَابَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} ، يَعْنُونَ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَأَجَابَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:{كَذَلِكَ} أَيْ أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أَيْ لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ

ص: 151

كَانَ أَقْوَى بِالْقَلْبِ وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ وَتَجَدُّدِ الْعَهْدِ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَابِ الْعَزِيزِ فَيَحْدُثُ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ وَلِهَذَا كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ لِقَائِهِ جِبْرِيلَ.

وَقِيلَ: مَعْنَى {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أَيْ لنحفظه فَإِنَّهُ عليه السلام كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ فَفُرِّقَ عَلَيْهِ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ حِفْظُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبًا قَارِئًا فَيُمْكِنُهُ حِفْظُ الْجَمِيعِ.

وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكَ: قِيلَ: أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى نَبِيٍّ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَهُوَ مُوسَى وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مُفَرَّقًا لِأَنَّهُ أُنْزِلَ غَيْرَ مَكْتُوبٍ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا لَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ مِنْهُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا وَمِنْهُ ما هو جواب لسؤال وما هُوَ إِنْكَارٌ عَلَى قَوْلٍ قِيلَ أَوْ فِعْلٍ فُعِلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَنَزَّلَهُ جِبْرِيلُ بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ وَفَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ حِكْمَتَيْنِ لِإِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا.

تَذْنِيبٌ

مَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ سَائِرَ الْكُتُبِ أُنْزِلَتْ جُمْلَةً. هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى ألسنتهم. حتى كاد يَكُونَ إِجْمَاعًا وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ

ص: 152

فُضَلَاءَ الْعَصْرِ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ إِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَالْقُرْآنِ.

وَأَقُولُ: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ الْفَرْقَانِ السَّابِقَةُ.

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ لَوْلَا أُنْزِلُ هَذَا الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى فَنَزَلَتْ وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ بِلَفْظِ: "قَالَ الْمُشْرِكُونَ " وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.

فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ قَوْلُ الْكُفَّارِ!

قُلْتُ: سُكُوتُهُ تَعَالَى عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَعُدُولِهِ إِلَى بَيَانِ حِكْمَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَلَوْ كَانَتِ الْكُتُبُ كُلُّهَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً لَكَانَ يَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى الرُّسُلِ السَّابِقَةَ كَمَا أَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} فَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} وَقَوْلُهُمْ: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} وَقَوْلُهُمْ كَيْفَ يَكُونُ رَسُولًا وَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا النِّسَاءُ! فَقَالَ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

ص: 153

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى يَوْمَ الصَّعْقَةِ: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} {وألقى الألواح} {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ} {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى إِتْيَانِهِ التَّوْرَاةَ جُمْلَةً.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُعْطِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فِي سَبْعَةِ أَلْوَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَوْعِظَةٌ فَلَمَّا جَاءَ بِهَا فَرَأَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عُكُوفًا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ رَمَى بِالتَّوْرَاةِ مِنْ يَدِهِ فَتَحَطَّمَتْ فَرَفَعَ اللَّهُ مِنْهَا سِتَّةَ أَسْبَاعٍ وَبَقِيَ مِنْهَا سُبْعٌ.

وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ قَالَ: الْأَلْوَاحُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى كَانَتْ مِنْ سِدْرِ الْجَنَّةِ كَانَ طُولَ اللَّوْحِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفِتُونِ، قَالَ: أَخَذَ مُوسَى الْأَلْوَاحَ بَعْدَمَا سكت عَنْهُ الْغَضَبُ فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا حَتَّى نَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ فَأَقَرُّوا بِهَا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: جَاءَتْهُمُ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يأخذوها حَتَّى ظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ فَأَخَذُوهَا عِنْدَ ذَلِكَ.

ص: 154

فَهَذِهِ آثَارٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ جُمْلَةً وَيُؤْخَذُ مِنِ الْأَثَرِ الْأَخِيرِ مِنْهَا حِكْمَةٌ أُخْرَى لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ إِذَا نَزَلَ عَلَى التَّدْرِيجِ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِرُ مِنْ قَبُولِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْمَنَاهِي.

وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلُ شَيْءٍ: "لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ " لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ: "لَا تَزْنُوا " لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا. ثُمَّ رَأَيْتُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ مُصَرَّحًا بِهَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِمَكِّيٍ.

فَرْعٌ

الَّذِي اسْتُقْرِئَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ يَنْزِلُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ خمس آيات وعشرا وَأَكْثَرُ وَأَقَلُّ وَقَدْ صَحَّ نُزُولُ الْعَشْرِ آيَاتٍ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ جُمْلَةً وَصَحَّ نُزُولُ عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ "الْمُؤْمِنُونَ" جُمْلَةً، وَصَحَّ نُزُولُ:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَحْدَهَا وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ أَوَّلِ الْآيَةِ كَمَا حَرَّرْنَاهُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وَذَلِكَ بَعْضُ آيَةٍ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ نُجُومًا ثَلَاثَ آيَاتٍ وَأَرْبَعَ آيَاتٍ وَخَمْسَ آيَاتٍ.

وَقَالَ النِّكْزَاوِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ مُفَرَّقًا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 155

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ بِالْغَدَاةِ وَخَمْسَ آيَاتٍ بِالْعَشِيِّ وَيُخْبِرُ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ.

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلْدَةَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ فَإِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا خَمْسًا وَمِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ خَمْسًا خَمْسًا إِلَّا سُورَةَ الْأَنْعَامِ وَمَنْ حَفِظَ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ - إِنْ صَحَّ - إِلْقَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الَقَدْرَ حَتَّى يَحْفَظَهُ ثُمَّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْبَاقِي لَا إِنْزَالُهُ بِهَذَا الَقَدْرِ خَاصَّةً وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جِبْرِيلَ خَمْسًا خَمْسًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْزَالِ وَالْوَحْيِ:

قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِهِ: اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِظْهَارُ الْقِرَاءَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ كَلَامَهُ جِبْرِيلَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ عَالٍ مِنَ الْمَكَانِ وَعَلَّمَهُ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ جِبْرِيلُ أَدَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ يَهْبِطُ فِي الْمَكَانِ. وَفِي التَّنْزِيلِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم انْخَلَعَ مِنْ صُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى صُورَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَأَخَذَهُ مِنْ جِبْرِيلَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَلَكَ انْخَلَعَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَهُ الرَّسُولُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ الْحَالَيْنِ. انْتَهَى.

ص: 156

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَلَقَّفَهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا أَوْ يَحْفَظُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَنْزِلُ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُلْقِيهِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْقُطْبُ الرَّازِيُّ فِي حَوَاشِي الكشاف: الإنزال لُغَةً بِمَعْنَى الْإِيوَاءِ وَبِمَعْنَى تَحْرِيكِ الشَّيْءِ مِنَ علو إلى أسفل وكلاهما لا يتحققان فِي الْكَلَامِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ فِي مَعْنَى مَجَازِيٍّ فَمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْزَالُهُ أَنْ يُوجِدَ الْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَيُثْبِتَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ هُوَ الْأَلْفَاظُ فَإِنْزَالُهُ مُجَرَّدُ إِثْبَاتِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ لِكَوْنِهِ مَنْقُولًا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِهِ إِثْبَاتُهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِثْبَاتِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُلِ أَنْ يَتَلَقَّفَهَا الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَلَقُّفًا روحيا أَوْ يَحْفَظَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَيَنْزِلُ بِهَا فَيُلْقِيهَا عَلَيْهِمُ. انْتَهَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى وَأَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلٍ قَافٍ وَأَنَّ تحت كل حرف منها معان لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَعَانِي خَاصَّةً وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِي وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَتَمَسَّكَ قَائِلُ هَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ}

ص: 157

وَالثَّالِثُ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى إِلَيْهِ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يقرؤونه بِالْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّا أَسْمَعْنَا الْمَلَكَ وَأَفْهَمْنَاهُ إِيَّاهُ وَأَنْزَلْنَاهُ بِمَا سَمِعَ فيكون الملك منتقلا به مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ.

قَالَ أَبُو شَامَةَ: هَذَا الْمَعْنَى مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْإِنْزَالِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُعْتَقِدُونَ قِدَمَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ أَنَّ جِبْرِيلَ تَلَقَّفَهُ سَمَاعًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاءَ رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاءِ صُعِقُوا وَخَرُّوا سُجَّدًا فَيَكُونُ أَوَّلُهُمْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ فَيَنْتَهِي بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَكُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ أَهْلُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ قَالَ: الْحَقُّ. فَيَنْتَهِي بِهِ حَيْثُ أَمَرَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سمع أهل السموات صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَيَفْزَعُونَ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الساعة وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ.

وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ النَّيْسَابُورِيِّ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتٍ يُقَالُ لَهُ بَيْتُ الْعِزَّةِ فَحِفْظَهُ جبريل وغشي على أهل السموات مِنْ هَيْبَةِ كَلَامِ اللَّهِ فَمَرَّ بِهِمْ جِبْرِيلُ وَقَدْ أَفَاقُوا فَقَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ - يَعْنِي الْقُرْآنَ،

ص: 158

- وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} فَأَتَى بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فَأَمْلَاهُ عَلَى السَّفَرَةِ الْكَتَبَةِ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .

وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ قَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ: قُلْ لِلنَّبِيِّ الَّذِي أَنْتَ مُرْسَلٌ إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: افْعَلْ كَذَا وكذا وأمر بكذا وكذا فَفَهِمَ جِبْرِيلُ مَا قَالَهُ رَبُّهُ ثُمَّ نَزَلَ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ مَا قَالَهُ رَبُّهُ وَلَمْ تَكُنِ الْعِبَارَةُ تِلْكَ الْعِبَارَةَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ: قُلْ لِفُلَانٍ: يَقُولُ لَكَ الْمَلِكُ: اجْتَهِدْ فِي الْخِدْمَةِ وَاجْمَعْ جُنْدَكَ لِلْقِتَالِ فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: يَقُولُ الْمَلِكُ لَا تَتَهَاوَنْ فِي خِدْمَتِي وَلَا تَتْرُكِ الْجُنْدَ تَتَفَرَّقُ وَحُثَّهُمْ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ لَا يُنْسَبُ إِلَى كَذِبٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ. وَقِسْمٌ آخَرُ قَالَ اللَّهُ لجبريل: اقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم هَذَا الْكِتَابَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ كَمَا يَكْتُبُ الْمَلِكُ كِتَابًا وَيُسَلِّمُهُ إِلَى أَمِينٍ، وَيَقُولُ اقْرَأْهُ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ لَا يُغَيِّرُ مِنْهُ كَلِمَةً وَلَا حَرْفًا. انْتَهَى

قُلْتُ: الْقُرْآنُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ كَمَا وَرَدَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ. وَمِنْ هُنَا جَازَ رِوَايَةُ السُّنَّةِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَدَّاهُ بِالْمَعْنَى وَلَمْ تَجُزِ الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَدَّاهُ بِاللَّفْظِ وَلَمْ يُبِحْ لَهُ إِيحَاءَهُ بِالْمَعْنَى وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهِ وَالْإِعْجَازُ بِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ مَعَانِيَ لَا يُحَاطُ بِهَا كَثْرَةً فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلَهُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَالتَّخْفِيفُ عَلَى الْأُمَّةِ حَيْثُ جَعَلَ الْمُنَزَّلَ إِلَيْهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ:

ص: 159

قِسْمٌ يَرْوُونَهُ بِلَفْظِهِ الْمُوحَى بِهِ وَقِسْمٌ يَرْوُونَهُ بِالْمَعْنَى وَلَوْ جُعِلَ كُلُّهُ مِمَّا يُرْوَى بِاللَّفْظِ لَشَقَّ أَوْ بِالْمَعْنَى لَمْ يُؤْمَنِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فَتَأَمَّلْ.

وَقَدْ رَأَيْتُ عَنِ السَّلَفِ مَا يُعَضِّدُ كَلَامَ الْجُوَيْنِيِّ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْوَحْيِ فَقَالَ: الْوَحْيُ مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ فَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْهُ مَا لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا يَكْتُبُهُ لْأَحَدٍ وَلَا يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ وَلَكِنَّهُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ حَدِيثًا وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ ويبلغهم إياه.

فصل

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْوَحْيِ كَيْفِيَّاتٍ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَلَكُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَأَلَتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ فَقَالَ أَسْمَعُ صَلَاصِلَ ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تُقْبَضُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَوْتٌ مُتَدَارِكٌ يسمعه ولا يبين له أَوَّلَ مَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَفْهَمَهُ بَعْدُ. وَقِيلَ: هُوَ صَوْتُ خَفْقِ أَجْنِحَةِ الْمَلَكِ وَالْحِكْمَةُ فِي تَقَدُّمِهِ أَنْ يَفْرُغَ سَمْعُهُ لِلْوَحْيِ فَلَا يَبْقَى فِيهِ مَكَانًا لِغَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَشَدُّ حَالَاتِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَنْزِلُ هَكَذَا إِذَا نَزَلَتْ آيَةُ وعيد وتهديد.

ص: 160

الثَّانِيةُ: أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ الْكَلَامَ نَفْثًا كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رُوحَ الَقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي ". أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَهَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا بِأَنْ يَأْتِيَهُ فِي إِحْدَى الْكَيْفِيَّتَيْنِ وَيَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْتِيَهُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ فَيُكَلِّمَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحِ: "وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ "، زَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ:"وَهُوَ أَهْوَنُهُ عَلَيَّ".

الرَّابِعَةُ: أَنَّ يَأْتِيَهُ الْمَلَكُ فِي النَّوْمِ وَعَدَّ مِنْ هَذَا قَوْمٌ سُورَةَ الْكَوْثَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

الْخَامِسَةُ: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِمَّا فِي الْيَقَظَةِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ أَوْ فِي النَّوْمِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: "أَتَانِي رَبِّي فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى.." الْحَدِيثَ.

وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ شَيْءٌ فِيمَا أَعْلَمُ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ مِنْهُ آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَبَعْضُ سُورَةِ الضُّحَى وَأَلَمْ نَشْرَحْ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لِمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ قُلْتُ: أَيْ رَبِّ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُ وَضَالًّا فَهَدَيْتُ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْتُ وَشَرَحْتُ لَكَ صَدْرَكَ وَحَطَطْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ وَرَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ فَلَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي! ".

فَائِدَةٌ

أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَقَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلَ ثَلَاثَ سِنِينَ فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ وَلَمْ يُنَزِّلْ عَلَيْهِ

ص: 161

الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلَ فَنَزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَالْحِكْمَةُ في توكيل إسرافيل أَنَّهُ الْمُوَكَّلُ بِالصُّورِ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ الْخَلْقِ وَقِيَامُ السَّاعَةِ وَنَبُّوتُهُ مُؤْذِنَةٌ بِقُرْبِ السَّاعَةِ وَانْقِطَاعِ الْوَحْيِ كَمَا وَكَّلَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ رِيَافِيلَ الَّذِي يَطْوِي الْأَرْضَ وَبِخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ مَالِكَ خَازِنَ النَّارِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ: "فِي أُمِّ الْكِتَابِ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَوَكَّلَ ثَلَاثَةً بِحِفْظِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَوَكَّلَ جِبْرِيلَ بِالْكُتُبِ وَالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَبِالنَّصْرِ عِنْدَ الْحُرُوبِ وَبِالْمُهْلِكَاتِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا وَوَكَّلَ مِيكَائِيلَ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ وَوَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَارَضُوا بَيْنَ حِفْظِهِمْ وَبَيْنَ مَا كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَجِدُونَهُ سَوَاءً ".

وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ جِبْرِيلُ لْأَنَّهُ كَانَ أَمِينَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ.

فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ

أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنِ بِالتَّفْخِيمِ كَهَيْئَتِهِ: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} وَ: {الصَّدَفَيْنِ} وَ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَأَشْبَاهُ هَذَا. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي

ص: 162

كِتَابِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ فَقَطْ وَأَنَّ الْبَاقِيَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ.

فَائِدَةٌ أُخْرَى

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ لَمْ يَنْزِلْ وَحْيٌ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ تَرْجَمَ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ.

فَائِدَةٌ أُخْرَى

أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَغُطُّ فِي رَأْسِهِ وَيَتَرَبَّدُ وَجْهُهُ أَيْ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ بِالْجَرِيدَةِ وَيَجِدُ بَرْدًا فِي ثَنَايَاهُ وَيَعْرَقُ حَتَّى يَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ الجمان.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا.

قُلْتُ: وَرَدَ حَدِيثُ: "نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ " مِنْ رِوَايَةِ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَسٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وسليمان بْنِ صُرَدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَهِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَأَبِي جَهْمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ.

فَهَؤُلَاءِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ صَحَابِيًّا وَقَدْ نَصَّ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى تَوَاتُرِهِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذْكَرَ اللَّهُ رَجُلًا،

ص: 163

سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ " لَمَّا قَامَ فَقَامُوا حَتَّى لَمْ يُحْصَوْا فَشَهِدُوا بِذَلِكَ فَقَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ مَعَهُمْ.

اختلاف الأقوال في نزول القرآن على سبعة أحرف

وَسَأَسُوقُ مِنْ رُوَاتِهِمْ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَأَقُولُ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعِينَ قَوْلًا:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنِ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لْأَنَّ الْحَرْفَ يَصْدُقُ لُغَةً عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ وَعَلَى الْكَلِمَةِ وَعَلَى الْمَعْنَى وَعَلَى الْجِهَةِ قَالَهُ ابْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ بَلِ الْمُرَادُ التَّيْسِيرُ وَالتَّسْهِيلُ وَالسَّعَةُ وَلَفْظُ [السَّبْعَةِ] يُطْلَقُ عَلَى إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ فِي الْآحَادِ كَمَا يُطْلَقُ السَّبْعُونَ فِي الْعَشَرَاتِ وَالسَّبْعُمِائَةِ فِي الْمِئِينَ وَلَا يُرَادُ الْعَدَدُ الْمُعَيَّنُ. وَإِلَى هَذَا جَنَحَ عِيَاضُ وَمَنْ تَبِعَهُ وَيَرُدُّهُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ "،وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ عِنْدَ مُسْلِمِ:"إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنْ أَقْرَأَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي: فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ".

وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: "إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِي وَمِيكَائِيلَ عَنْ يَسَارِي فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ،

ص: 164

فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ

حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ:، وفي حديث أبي بكرة عنه:"فَنَظَرْتُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَسَكَتَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْعَدَدِ وَانْحِصَارِهِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا سَبْعُ قِرَاءَاتٍ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ على سبعة أوجه إلاالقليل مثل: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} و، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} .

الرَّابِعُ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُقْرَأُ بِوَجْهٍ أَوْ وَجْهَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ إِلَى سَبْعَةٍ وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا أَنَّ فِي الْكَلِمَاتِ مَا قُرِئَ عَلَى أَكْثَرَ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا رَابِعًا.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَوْجُهُ الَّتِي يَقَعُ فيها التَّغَايُرُ ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: فَأَوَّلُهَا مَا يَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ وَلَا يزول معناه وصورته مثل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ} بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ وَثَانِيهَا مَا يَتَغَيَّرُ بِالْفِعْلِ مِثْلُ: {بَاعَدَ} و {بَاعِدْ} بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالطَّلَبِ وَثَالِثُهَا مَا يَتَغَيَّرُ بِالنَّقْطِ مثل: {نُنْشِزُهَا} و {نَنْشُرُهَا} وَرَابِعُهَا مَا يَتَغَيَّرُ بِإِبْدَالِ حَرْفٍ قَرِيبِ الْمَخْرَجِ مثل: {طَلْحٍ مَّنْضُودٍ} وَ {طَلْعٍ} وَخَامِسُهَا مَا يَتَغَيَّرُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِثْلُ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وَ "سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ". وَسَادِسُهَا مَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةٍ

ص: 165

أَوْ نُقْصَانٍ مِثْلَ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} و" الذكر وَالْأُنْثَى "، وَسَابِعُهَا مَا يَتَغَيَّرُ بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى مِثْلُ:{كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وَ" كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ ". وَتَعَقَّبَ هَذَا قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَنَّ الرُّخْصَةَ وَقَعَتْ وَأَكْثَرُهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَعْرِفُ الرَّسْمَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحُرُوفَ وَمَخَارِجَهَا. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَوْهِينُ مَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ لَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الَانْحِصَارُ الْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ.

السَّادِسُ: وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِّيُّ فِي اللوامح الْكَلَامُ لَا يَخْرُجُ عَنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: فِي الِاخْتِلَافِ. الْأَوَّلُ: اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ وتذكير وتأنيث. الثاني: اخْتِلَافُ تَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ مِنْ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ. الثَّالِثُ: وُجُوهُ الْإِعْرَابِ. الرَّابِعُ: النَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ. الْخَامِسُ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ. السَّادِسُ: الْإِبْدَالُ. السَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ، وَالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ السَّادِسُ.

السَّابِعُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهَا كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ بِالتِّلَاوَةِ مِنْ إِدْغَامٍ وَإِظْهَارٍ وَتَفْخِيمٍ وَتَرْقِيقٍ وَإِمَالَةٍ وَإِشْبَاعٍ وَمَدٍّ وَقَصْرٍ وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ السَّابِعُ.

الثَّامِنُ: وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: قَدْ تَتَبَّعْتُ صحيح القراءة وَشَاذَّهَا وَضَعِيفَهَا وَمُنْكَرَهَا فَإِذَا هِيَ يَرْجِعُ اخْتِلَافُهَا إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا وَذَلِكَ إِمَّا فِي الْحَرَكَاتِ بِلَا تَغَيُّرٍ فِي الْمَعْنَى والصورة نحو: {بِالْبُخْلِ} بِأَرْبَعَةٍ وَيُحْسَبُ بِوَجْهَيْنِ أَوْ مُتَغَيِّرٌ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ نَحْوَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ

ص: 166

كَلِمَاتٍ} وَإِمَّا فِي الْحُرُوفِ بِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى لَا الصُّورَةِ نحو: {تَبْلُو} وَ: {تَتْلُو} أَوْ عَكْسُ ذَلِكَ نَحْوُ: {الصِّرَاطَ} وَ: "السِّرَاطَ" أَوْ بتغيرهما نحو: {وَامْضُوا} " واسعوا " وَإِمَّا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نَحْوُ: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أَوْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ نَحْوُ: {وَصَّى} وَ " أَوْصَى " فَهَذِهِ سَبْعَةٌ لَا يَخْرُجُ الَاخْتِلَافُ عَنْهَا قَالَ: وَأَمَّا نَحْوُ اخْتِلَافِ الْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالرَّوْمِ والإشمام والتحقيق وَالتَّسْهِيلِ وَالنَّقْلِ وَالْإِبْدَالِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الِاخْتِلَافِ الذي يتنوع فيه اللفظ أو المعنى لْأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ فِي أَدَائِهِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّامِنُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ:"عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ".

التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ نَحْوَ أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ وَهْبٍ وَخَلَائِقُ. وَنَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ " أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ

حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، قَالَ: كُلُّ شَافٍ كَافٍ ما لم تختم آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ رَحْمَةٌ بِعَذَابٍ نَحْوُ قَوْلِكَ: تَعَالَ وَأَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَعَجِّلْ ". هَذَا اللَّفْظُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

ص: 167

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أُبَيٍّ: "قُلْتُ: سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا مَا لَمْ تُخْلَطْ آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آية رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ ".

وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا " وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ: "أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ صَوَابٌ مَا لَمْ تَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً " أَسَانِيدُهَا جِيَادٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا ضَرْبَ الْمَثَلِ لِلْحُرُوفِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مَعَانٍ مُتَّفِقٌ مَفْهُومُهَا مُخْتَلِفٌ مَسْمُوعُهَا لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعْنًى وَضِدُّهُ وَلَا وَجْهٌ يُخَالِفُ مَعْنَى وَجْهٍ خِلَافًا يَنْفِيهِ وَيُضَادُّهُ كَالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ الْعَذَابِ وَضِدُّهُ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} " مَرُّوا فِيهِ "" سَعَوْا فِيهِ " وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} أَمْهِلُونَا أَخِّرُونَا.

قَالَ الطَّحَّاوِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ وَتَيَسُّرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَاقِلَّانِيُّ وَآخَرُونَ.

وَفِي فَضَائِلِ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أقرأ رجلا: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} فَقَالَ الرَّجُلُ: "طَعَامُ الْيَتِيمِ " فَرَدَّهَا فَلَمْ يَسْتَقِمْ بِهَا لِسَانُهُ فَقَالَ: أتسطيع أَنْ تَقُولَ: طَعَامُ الْفَاجِرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَافْعَلْ.

ص: 168

الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ لُغَاتٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ وثعلب والأزهري وَآخَرُونَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لُغَاتِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْصَحُهَا فَجَاءَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْهَا خَمْسٌ بِلُغَةِ الْعَجُزِ مِنْ هَوَازِنَ قَالَ وَالْعَجُزُ: سَعْدُ بْنُ بكر وجشم بن بَكْرٍ وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَثَقِيفٌ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ هَوَازِنَ وَيُقَالُ لَهُمْ: عُلْيَا هَوَازِنَ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَفْصَحُ الْعَرَبِ عُلْيَا هَوَازِنَ وَسُفْلَى تَمِيمٍ - يَعْنِي بَنِي دَارِمٍ.

وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْكَعْبِيِّينَ: كَعْبِ قُرَيْشٍ وَكَعْبِ خُزَاعَةَ قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: لْأَنَّ الدَّارَ وَاحِدَةٌ - يَعْنِي أَنَّ خُزَاعَةَ كَانُوا جِيرَانَ قُرَيْشٍ فَسَهُلَتْ عَلَيْهِمْ لُغَتُهُمْ.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَهُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ وَالْأَزْدِ وَرَبِيعَةَ وَهَوَازِنَ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَاسْتَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: لَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ إِلَّا بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللُّغَاتُ السَّبْعُ فِي بُطُونِ قُرَيْشٍ وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ بَلِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ مُفَرَّقَةٌ فِيهِ فَبَعْضُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ وَبَعْضُ اللغات أسعد بها مِنْ بَعْضٍ وَأَكْثَرُ نَصِيبًا.

وَقِيلَ: نَزَلَ بِلُغَةِ مُضَرَ خَاصَّةً لِقَوْلِ عُمَرَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ مُضَرَ.

ص: 169

وَعَيَّنَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ السَّبْعَ مِنْ مُضَرَ أَنَّهُمْ: هُذَيْلٌ وَكِنَانَةُ وَقَيْسٌ وَضَبَّةُ وَتَيْمُ الرِّبَابِ وَأَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَقُرَيْشٌ فَهَذِهِ قَبَائِلُ مُضَرَ، تَسْتَوْعِبُ سَبْعَ لُغَاتٍ.

وَنَقَلَ أَبُو شَامَةَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ أَوَّلًا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ ثُمَّ أُبِيحَ لِلْعَرَبِ أَنْ يقرؤوه بِلُغَاتِهِمُ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا على اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْإِعْرَابِ وَلَمْ يكلف أحد مِنْهُمْ الِانْتِقَالُ عَنْ لُغَتِهِ إِلَى لُغَةٍ أُخْرَى لِلْمَشَقَّةِ وَلِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَلِطَلَبِ تَسْهِيلِ فَهْمِ الْمُرَادِ.

وَزَادَ غَيْرُهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَقَعْ بِالتَّشَهِّي بِأَنْ يُغَيِّرَ كُلُّ أَحَدٍ الْكَلِمَةَ بِمُرَادِفِهَا فِي لُغَتِهِ بَلِ الْمَرْعِيُّ فِي ذَلِكَ السَّمَاعُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْفِظُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ سَبْعَ مَرَّاتٍ!

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنما يَلْزَمُ هَذَا لَوِ اجْتَمَعَتِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ قُلْنَا كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي فِي كُلِّ عَرْضَةٍ بِحَرْفٍ إِلَى أَنْ تَمَّتْ سَبْعَةً.

وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ رد هذا الْقَوْلُ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ كِلَاهُمَا قُرَشِيٌّ من لغة واحدة وقبيلة وَاحِدَةٍ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمَا وَمُحَالٌ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ عُمَرُ لُغَتَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السبعة غير اللغات.

الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ تَرُدُّهُ وَالْقَائِلُونَ بِهِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ السَّبْعَةِ. فَقِيلَ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ

ص: 170

عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أحرف زاجر وآمر وحلال وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ

" الْحَدِيثَ.

وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى لْأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ يَأْبَى حَمْلَهَا عَلَى هَذَا بل هي ظَاهِرِهِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ إِلَى سَبْعَةٍ تَيْسِيرًا وَتَهْوِينًا وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَلَالًا وَحَرَامًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ هُنَا الْأَنْوَاعُ الَّتِي نَزَلَ عَلَيْهَا وَالْمُرَادُ بِهَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ اللُّغَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ أول الأحرف السبعة بِهَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ لْأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ مِنْهَا حَرَامًا لا ما سواه أو حلالا لا مَا سِوَاهُ وَلْأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُقْرَأُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ كُلُّهُ أَوْ حَرَامٌ كُلُّهُ أَوْ أَمْثَالٌ كُلُّهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لْأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ وَلَا تَحْلِيلِ حَرَامٍ وَلَا فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ لْأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَإِبْدَالِ حَرْفٍ بِحَرْفٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ إِبْدَالِ آيَةِ أَمْثَالٍ بِآيَةِ أَحْكَامٍ.

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ وأبو العلاء الهمذاني: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "زَاجِرٌ وَآمِرٌ " إِلَخْ. اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ أَيْ هُوَ زَاجِرٌ أَيِ الْقُرْآنُ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ تَفْسِيرُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الَاتِّفَاقِ فِي الْعَدَدِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ زَجْرًا وَأَمْرًا - بِالنَّصْبِ - أَيْ نَزَلَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْأَبْوَابِ السَّبْعَةِ.

ص: 171

وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ لِلْأَبْوَابِ لَا لِلْأَحْرُفِ أَيْ هِيَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهَا عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ.

الثَّانِي عَشَرَ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ وَالْعَامُّ والخاص والنص والمؤول وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ وَالَاسْتِثْنَاءُ وَأَقْسَامُهُ حَكَاهُ شَيْذَلَةُ عَنِ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ.

الثَّالِثَ عَشَرَ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْحَذْفُ وَالصِّلَةُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَالَاسْتِعَارَةُ وَالتَّكْرَارُ وَالْكِنَايَةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ وَالظَّاهِرُ وَالْغَرِيبُ حَكَاهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ عَشَرَ.

الرَّابِعَ عَشَرَ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وَالتَّصْرِيفُ وَالْإِعْرَابُ وَالْأَقْسَامُ وَجَوَابُهَا وَالْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ وَالتَّصْغِيرُ وَالتَّعْظِيمُ وَاخْتِلَافُ الْأَدَوَاتِ حَكَاهُ عَنِ النُّحَاةِ وَهَذَا هُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الزُّهْدُ وَالْقَنَاعَةُ مَعَ الْيَقِينِ وَالْجَزْمِ وَالْخِدْمَةُ مَعَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ وَالْفُتُوَّةُ مَعَ الْفَقْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْمُرَاقَبَةُ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارُ مَعَ الرِّضَا وَالشُّكْرِ وَالصَّبْرُ مَعَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. حَكَاهُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ وَهَذَا هُوَ الْخَامِسَ عشر.

السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا سَبْعَةُ عُلُومٍ: عِلْمُ الْإِنْشَاءِ وَالْإِيجَادِ وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَعِلْمُ صِفَاتِ الذَّاتِ وَعَلَمُ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَعِلْمُ الْعَفْوِ وَالْعَذَابِ وَعَلَمُ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَعَلَمُ النُّبُوَّاتِ.

ص: 172

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ بَلَغَ الَاخْتِلَافُ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْطُبِيُّ مِنْهَا سِوَى خَمْسَةٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ ابْنِ حَبَّانِ فِي هَذَا بَعْدَ تَتَبُّعِي مَظَانَّهُ.

قُلْتُ: قَدْ حَكَاهُ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الشَّرَفِ الْمُزَنِيِّ الْمُرْسِيِّ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ حِبَّانَ. اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا.

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ زَجْرٌ وَأَمْرٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ.

الثَّانِي: حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ وَزَجْرٌ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ وَأَمْثَالٌ.

الثَّالِثُ: وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمَوَاعِظُ وَأَمْثَالٌ وَاحْتِجَاجٌ.

الرَّابِعُ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَبِشَارَةٌ وَنِذَارَةٌ وَأَخْبَارٌ وَأَمْثَالٌ.

الْخَامِسُ: مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَنَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ وَخُصُوصٌ وَعُمُومٌ وَقَصَصٌ.

السَّادِسُ: أَمْرٌ وَزَجْرٌ وَتَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ وَجَدَلٌ وَقَصَصٌ وَمَثَلٌ.

السَّابِعُ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَحَدٌّ وَعِلْمٌ وَسَرٌّ وَظَهْرٌ وَبَطْنٌ.

الثَّامِنُ: نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَرُغْمٌ وَتَأْدِيبٌ وَإِنْذَارٌ.

التَّاسِعُ: حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَافْتِتَاحٌ وَأَخْبَارٌ وَفَضَائِلُ وَعُقُوبَاتٌ.

الْعَاشِرُ: أَوَامِرُ وَزَوَاجِرُ وَأَمْثَالٌ وَأَنْبَاءٌ وَعَتَبٌ وَوَعْظٌ وَقَصَصٌ.

الْحَادِي عَشَرَ: حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَأَمْثَالٌ وَمَنْصُوصٌ وَقَصَصٌ وَإِبَاحَاتٌ.

الثَّانِي عَشَرَ: ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَفَرْضٌ وَنَدْبٌ وَخُصُوصٌ وَعُمُومٌ وَأَمْثَالٌ.

ص: 173

لثالث عَشَرَ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَإِبَاحَةٌ وَإِرْشَادٌ وَاعْتِبَارٌ.

الرَّابِعَ عَشَرَ: مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ وَفَرَائِضُ وَحُدُودٌ وَمَوَاعِظَ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: مُفَسَّرٌ وَمُجْمَلٌ وَمَقْضِيٌّ وَنَدْبٌ وَحَتْمٌ وَأَمْثَالٌ.

السَّادِسَ عَشَرَ: أَمْرُ حَتْمٍ وَأَمَرُ نَدْبٍ وَنَهْيُ حَتْمٍ وَنَهْيُ نَدْبٍ وَأَخْبَارٌ وَإِبَاحَاتٌ.

السَّابِعَ عَشَرَ: أَمْرُ فَرْضٍ وَنَهْيُ حَتْمٍ وَأَمْرُ نَدْبٍ وَنَهْيُ مُرْشِدٍ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَقَصَصٌ.

الثَّامِنَ عَشَرَ: سَبْعُ جِهَاتٍ لَا يَتَعَدَّاهَا الْكَلَامُ لَفْظٌ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَلُفِظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامٌّ وَلَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَلَفْظٌ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ ولفظ ييستغنى بِتَنْزِيلِهِ عَنْ تَأْوِيلِهِ وَلَفْظٌ لَا يَعْلَمُ فِقْهَهُ إِلَّا الْعُلَمَاءُ وَلَفْظٌ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا الرَّاسِخُونَ.

التَّاسِعَ عَشَرَ: إِظْهَارُ الرُّبُوبِيَّةِ وَإِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَعْظِيمُ الْأُلُوهِيَّةِ وَالتَّعَبُّدُ لِلَّهِ وَمُجَانَبَةُ الْإِشْرَاكِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الثَّوَابِ وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْعِقَابِ.

الْعِشْرُونَ سَبْعُ لُغَاتٍ مِنْهَا خَمْسٌ مِنْ هَوَازِنَ وَاثْنَتَانِ لِسَائِرِ الْعَرَبِ.

الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ لُغَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِجَمِيعِ الْعَرَبِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا لِقَبِيلَةٍ مَشْهُورَةٍ.

الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ لُغَاتٍ أَرْبَعٌ لِعَجُزِ هَوَازِنَ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وجشم بن بكر ونصر بن مُعَاوِيَةَ وَثَلَاثٌ لِقُرَيْشٍ.

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ لُغَاتٍ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَلُغَةٌ لِلْيَمَنِ وَلُغَةٌ لَجُرْهُمَ وَلُغَةٌ لِهَوَازِنَ وَلُغَةٌ لِقُضَاعَةَ وَلُغَةٌ لِتَمِيمٍ وَلُغَةٌ لطيء.

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: لُغَةُ الْكَعْبِيِّينَ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو كعب بْنِ لُؤَيٍّ وَلَهُمَا سَبْعُ لُغَاتٍ.

ص: 174

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: اللُّغَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ لِأَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِثْلُ هَلُمَّ وَهَاتِ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ.

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ قِرَاءَاتٍ لِسَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ.

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَمْزٌ وَإِمَالَةٌ وَفَتْحٌ وَكَسْرٌ وَتَفْخِيمٌ وَمَدٌّ وَقَصْرٌ.

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: تَصْرِيفٌ وَمَصَادِرُ وَعَرُوضٌ وَغَرِيبٌ وَسَجْعٌ وَلُغَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ كُلُّهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ.

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْرَبُ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ حَتَّى يَكُونَ الْمَعْنَى وَاحِدًا وَإِنِ اختلف اللفظ فيه.

الثَّلَاثُونَ: أُمَّهَاتُ الْهِجَاءِ الْأَلِفُ وَالْبَاءُ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ وَالرَّاءُ وَالسِّينُ وَالْعَيْنُ لْأَنَّ عَلَيْهَا تَدُورُ جَوَامِعُ كَلَامِ الْعَرَبِ.

الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ مِثْلُ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ.

الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: هِيَ آيَةٌ فِي صِفَاتِ الذات آية تَفْسِيرُهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَآيَةٌ بَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَآيَةٌ فِي قِصَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَآيَةٌ فِي خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَآيَةٌ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَآيَةٌ فِي وَصْفِ النَّارِ.

الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: آية فِي وَصْفِ الصَّانِعِ وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ رُسُلِهِ وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ كُتُبِهِ وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْإِسْلَامِ وَآيَةٌ فِي نَفْيِ الْكُفْرِ.

ص: 175

الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: سَبْعُ جِهَاتٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لِلَّهِ الَّتِي لَا يَقَعُ عَلَيْهَا التَّكْيِيفُ.

الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمُبَايَنَةُ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتُ الْأَوَامِرِ وَمُجَانَبَةُ الزَّوَاجِرِ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ.

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فَهَذِهِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ قَوْلًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَهِيَ أَقَاوِيلُ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَكُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَتَحْتَمِلُ غَيْرَهَا.

وَقَالَ الْمُرْسِيُّ: هَذِهِ الْوُجُوهُ أَكْثَرُهَا مُتَدَاخِلَةٌ وَلَا أَدْرِي مُسْتَنَدَهَا وَلَا عَمَّنْ نُقِلَتْ وَلَا أَدْرِي لِمَ خَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ بِمَا ذَكَرَ مَعَ أَنَّ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا أَدْرِي مَعْنَى التخصيص! وفيها أشياء لَا أَفْهَمُ مَعْنَاهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَكْثَرُهَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي تَفْسِيرِهِ وَلَا أَحْكَامِهِ إِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ حُرُوفِهِ وَقَدْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ أَنَّ الْمُرَادَ بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح.

تَنْبِيهٌ

اخْتُلِفَ: هَلِ الْمَصَاحِفُ الْعُثْمَانِيَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى ذَلِكَ وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْهَا وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى نَقْلِ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ.

وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ

ص: 176

عَلَى مَا يُحْتَمَلُ رَسْمُهَا مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَقَطْ جَامِعَةٌ لِلْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِبْرِيلَ مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا لَمْ تَتْرُكْ حَرْفًا مِنْهَا.

قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ صَوَابَهُ.

وَيُجَابُ عَنِ الْأَوَّلُ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ وَمُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ إِذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعًا شَائِعًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ وَلَا فِعْلُ حَرَامٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ مِنْهُ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَغُيِّرَ فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنْ كَتَبُوا مَا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ قُرْآنٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَتَرَكُوا مَا سِوَى ذلك.

أَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي الْمَصَاحِفِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: الْقِرَاءَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَقْرَؤُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ جِبْرِيلُ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كُلَّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ [مَرَّةً] ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ مَرَّتَيْنِ فَيَرَوْنَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُنَا هَذِهِ عَلَى الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُقَالُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي بُيِّنَ فِيهَا مَا نُسِخَ وَمَا بَقِيَ وكتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِهَا حَتَّى مَاتَ وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي جَمْعِهِ وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ كَتْبَ الْمَصَاحِفِ.

ص: 177