المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعبده لربه وخوفه منه - دلائل النبوة - السقار

[منقذ السقار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌إخباره صلى الله عليه وسلم بغيوب تحققت في حياته

- ‌إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب المستقبلة التي تحققت بعد وفاته

- ‌إخباره صلى الله عليه وسلم بكيفية ومكان وفاة بعض معاصريه

- ‌رابعاً: إخباره صلى الله عليه وسلم بأخبار الفتن

- ‌إخباره صلى الله عليه وسلم بفتوح أمته للبلدان

- ‌إخباره صلى الله عليه وسلم بأخبار آخر الزمان وعلامات الساعة

- ‌المعجزات الحسية للرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام والشراب والوضوء ببركة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌شفاء المرضى بنفْثِه وريقه صلى الله عليه وسلم

- ‌استجابة الله دعاءه صلى الله عليه وسلم

- ‌حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌دلالة القرآن الكريم على نبوته صلى الله عليه وسلم

- ‌شهادات الكتب السابقة وأتباعها بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌دلالة أخلاقه وأحواله صلى الله عليه وسلم على نبوته

- ‌كرم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌حلم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌زهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تواضع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تعبده لربه وخوفه منه

- ‌خاتمة

- ‌قائمة المصادر والمراجع

الفصل: ‌تعبده لربه وخوفه منه

ولقد خيره ربه بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملِكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن ملك نزل إليه، فقال: يا محمد، أرسلني إليك ربُك قال: أفملِكاً نبياً يجعلُك أو عبداً رسولاً؟ فقال جبريل: تواضع لربك يا محمد. فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل عبداً رسولاً)). (1)

‌تعبده لربه وخوفه منه

وإن من دلائل نبوته وأمارات صدقه صلى الله عليه وسلم ما رأينا من تعبده لله تعالى وخشيته منه، ولو كان دعياً لما تعبد لله، ولما أتعب نفسه، ولا ألزمها ضروب العبادة التي قرحت رجليه، بل لكان صنع ما يصنعه سائر الأدعياء من مقارفة الشهوات واستحلال المحرمات، فكل ما اشتهى الدعي أمراً صيره ديناً وشرعة.

ومن ذلك ما فعله مسيلمة الكذاب، فقد أحل لأتباعه الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، فتكاليف الشريعة لا يطيقها الأدعياء، لذا سرعان ما يتخلصون منها.

أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان أعبدَ الناس لله وأخوفَهم منه بما عرف من عظمته وقوته، يقول عليه الصلاة والسلام:((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي)). (2)

وشواهد خوف النبي صلى الله عليه وسلم من الله وتعبده لله كثيرة، منها أن صاحبه أبا بكر رأى شيباً في شعره، فقال: يا رسول الله قد شِبت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)). (3)

قال الطيبي: "وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة والمَثُلات النوازل بالأمم الماضية: أخذ مني مأخذه، حتى شبتُ قبل أوانه". (4) فالذي شيب رسول الله ما قرأه في هذه السور من الأهوال التي يرهبها الأتقياء العارفون بربهم، الذين قدروه حق قدره.

وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وجَلَه صلى الله عليه وسلم من ربه، فتقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواتِه، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف

(1) رواه أحمد ح (7120)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (1002).

(2)

رواه مسلم ح (1868).

(3)

رواه الترمذي ح (3297)، وصححه الألباني ح (2627)

(4)

تحفة الأحوذي (9/ 131).

ص: 144

ذلك في وجهه. فقلت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَه عُرف في وجهك الكراهية! فقال صلى الله عليه وسلم:((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هذا عارض ممطرنا} (الأحقاف: 24))). (1)

وذات ليلة يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أخبار الفتن وهو في بيت أم سلمة، فيأمر أن تستيقظ نساؤه، وأن يقُمن لقيام الليل فزعاً وتعوذاً مما يأتي من الفتن، تقول أم سلمة: فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فزِعاً، يقول:((سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات، يا رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ في الآخرة)). (2)

وفي ليلة أخرى رآه بعض أزواجه وهو يتلوى في آخر الليل على فراشه، لا يجد الكرى إلى عينيه سبيلاً، فما الذي أرَّقه صلى الله عليه وسلم؟

يجيبنا عبد الله بن عمرو، فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً، فوجد تمرة تحت جنبه، فأخذها فأكلها، ثم جعل يتضور من آخر الليل، وفزع لذلك بعض أزواجه فقال:((إني وجدت تمرة تحت جنبي، فأكلتُها، فخشيتُ أن تكون من تمر الصدقة)). (3) إن الذي أرَّقَ النبي صلى الله عليه وسلم خوَّفَه أن تكون التمرة التي أكلها من تمر الصدقة التي لا تحل له.

وأما عبادة النبي صلى الله عليه وسلم لربه، فهي شاهد لا مراء في صدقه، فهي مما لا يصدر عن دعي يكذب على الله ويضل الناس باسمه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يكون دعياً، فما من دعي يكذب على ربه ثم يجهد نفسه بالعبادة له.

تروي لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال النبي صلى الله عليه وسلم في ليله، فتقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقلتُ له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟)). (4)

(1) رواه البخاري ح (4829)، ومسلم ح (899).

(2)

رواه البخاري ح (1058).

(3)

رواه أحمد ح (11400)، وابن ماجه (2201).

(4)

رواه البخاري ح (4827)، ومسلم ح (2820).

ص: 145

وتصف عائشة رضي الله عنها صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، فتقول:(كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته، يسجد السجدة من ذلك قدرَ ما يقرأ أحدُكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة). (1)

ويصف عليٌّ رضي الله عنه حاله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر حين تعب الصحابة وأسلموا أعينهم للنوم، فيقول:(ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح). (2)

وتكرر بكاؤه صلى الله عليه وسلم وهو يتضرع بين يدي ربه ومولاه عارفاً قدرَه وراجياً فضله، يقول عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال:(أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المِرْجَل [أي القِدر] من البكاء). (3)

لقد كان صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه} (المزمل:20)، فهل سمعت الدنيا عن مدع للنبوة يقوم نصف ليله يتضرع لربه ويبكي بين يديه.

وأما صومه صلى الله عليه وسلم، فكان يداوم على صيام يومي الإثنين والخميس تقرباً إلى ربه وابتغاء رضاه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((تُعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحِبُّ أن يعرض عملي وأنا صائم)). (4)

ولم يكن صيامه هذا فحسب، بل كان صلى الله عليه وسلم يصوم الأيام المتتابعة، يقول أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه شيئاً، ويصوم حتى نظن

(1) رواه البخاري ح (1123)، ومسلم ح (724)،

(2)

رواه أحمد ح (1062).

(3)

رواه النسائي ح (1199)، وأبو داود ح (769)، وأحمد ح (15722)، واللفظ له، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ح (1000).

(4)

رواه الترمذي ح (678)، وابن ماجه ح (1730)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ح (1041).

ص: 146

أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تَشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيتَه). (1)

وما كان صلى الله عليه وسلم يُفوِّتُ على نفسه أجر الصوم في أيام الصيف الهواجر، يبتغي في ذلك المحبة من ربه والزلفى إليه، يقول صاحبه أبو الدرداء رضي الله عنه:(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وإن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما منا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبدُ الله بنُ رواحة). (2)

وبقي هذا حاله، لم يتوانَ عن عبادة ربه، حتى لبى نداء ربه، وهو في كل ذلك يمتثل:{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر: 99)، ولو كان دَعِيّاً لأراح نفسه وأحبابه من جهد القيام في الليل وتفطُرِ الأقدام، ومن الصيام في الهواجر، لكن هيهات، كيف يريح نفسه وربه يأمره:{فإذا فرغت فانصب - وإلى ربك فارغب} ؟ (الشرح: 7 - 8).

(1) رواه البخاري ح (1141)، ومسلم ح (1158).

(2)

رواه أحمد ح (20707).

ص: 147