المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع - رحلة الحج إلى بيت الله الحرام

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: ‌ الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع

أن له مانعًا من الفعل قبل ابتداء الفعل.

فالحاصل أن وجوده جل وعلا لا أول له، وهو في كل لحظة من وجوده يفعل ما يشاء كيف يشاء، فجميع ما سوى اللَّه كله مخلوق حادث بعد عدم، إلا أن اللَّه لم يسبق عليه زمن هو فيه ممنوع من الفعل سبحانه وتعالى عن ذلك.

فظهر أن وجود حوادث لا أول لها إن كانت بإيجاد من لا أول له لا محال فيه، وكل فرد منها كائنًا ما كان فهو حادثٌ مسبوقٌ بعدم، لكن محدثه لا أول له، وهو في كل وقت يحدث ما شاء كيف شاء سبحانه وتعالى.

وكان جوابنا عن المسألة الثانية: أن‌

‌ الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع

ظاهرٌ، فالتكليف -عند الأصولين-: إلزام ما فيه مشقة أو كلفة. وبعضهم يقول: طلب ما فيه كلفة.

وهو الخطاب المتعلق بفعل المكلف الذي هو أقسام الحكم الشرعي وهي: الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة.

وقيل بإخراج الإباحة منها؛ إذ لا كلفة فيها، وعلى دخولها ففي الحد مسامحة.

وقيل: التكليف بالمباح من حيث اعتقاد أنه مباح تتميمًا للأقسام، وإلا فغيره كذلك.

وخطاب الوضع: هو الخطاب الوارد بأن هذا الشيء مانعٌ لغيره، كالحيض للصلاة، أو سبب لغيره، كالوقت لها، أو شرط لغيره،

ص: 21

كالطهر لها، أو كون الفعل صحيحًا، أو فاسدًا. على نزاع في الصحة والفساد.

وعلامة خطاب الوضع أمران:

أحدهما: أن لا يكون في طوق المكلف أصلًا، كالحيض ودخول الوقت.

والثاني: أن يكون في طوقه ولم يؤمر بتحصيله، كنصاب الزكاة، واستطاعة الحج. فإن من لم يكونا عنده لا يكلف تحصيلهما، كما قال في "مراقي السعود":

وما وجوبه به لم يَجِبِ

في رأي مالك وكل مذهبِ

فمعنى خطاب الوضع: أن اللَّه جل وعلا وضع المنع من الصلاة عند حصول الحيض، ووضع وجوب الصلاة عند دخول الوقت مثلًا، وهكذا. . .

ثم ذهبنا من قرية "تامشكط" قبيل غروب الشمس، ونحن على جمالنا في أخريات جمادى الأخيرة، وشيعنا جل من فيها من الأكابر، وودعونا، وقَدَّمَ لنا وقت الوداع العالم الأديب واللوذعي الأريب الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن جدة بن خليفة القلاوى أبياتًا، وهي هذه:

مني إلى المعهود ذي الفتح الجلي

درع الكماة إذا التقت في الجحفل

مَن كَعَّ صَوْبُ المزن عن إروائه

وانحط في المعقول عنه الدؤلي

هذا وإنا حامدون لوصلكم

ولكم علينا المستناخ النوفلي

ص: 22

ثم سرنا متوجهين تلقاء قرية "العيون" والعيون التي تسمى بها القرية عيون متعددة متفجرة من جبال هناك، ويقال لها باللسان الدارجي:"عيون العتروس" وهو بلسانهم الدارجي "التيس"، ويقال لها أيضًا:"عيون المكفى" بكاف معقودة قبل الفاء.

فوصلناها في ليال قلائل، فقابلنا من فيها من الفضلاء باللائق من الإكرام والتبجيل، وبالغ في إكرامنا قاضيها، مع هدية سنية، وأخلاق مدنية، وسألنا عن الكاغد المتعامل به في نواحي البلاد التي تحت أيدي فرنسا، هل يجوز سَلَمُه في فلوس النحاس المتعامل بها أيضًا عندهم في مذهب الإمام مالك رحمه اللَّه تعالى، أم لا؟

فكان جوابنا أن قلنا له: لا يجوز ذلك في مذهب مالك. فطلب منا دليل المنع، فقلنا له: للمنع ثلاثة أوجه:

الأول: أن فلوس النحاس لا توجد غالبًا في الأماكن التي وقع فيها السؤال، والمُسْلَمُ فيه يشترط وجوده غالبًا عند الحلول في البلد المعين لقبضه، أو بلد العقد إن لم يعين للقبض محل. قال خليل في "مختصره" في عدة شروط السَّلَم:"ووجوده عند حلوله".

الوجه الثاني: أنهم لم يسوُّوا بين العين وبين فلوس النحاس، فلا يُسْلَمُ عندهم دينار ولا درهم في فلوس نحاس، مع أن العين بنوعيها مباينة لفلوس النحاس، فالنسبة التي بين النحاس وبين الذهب أو الفضة التباين، وهم ذكروا منع سلم أحدهما في الآخر نظرًا لاتحاد منفعتهما، واتحاد المنفعة عندهم موجب لمنع السلم؛ لأن الشيئين المتحدي المنفعة عندهم في باب السلم كالشيء الواحد، وإن اختلفا بالذات

ص: 23

والحقيقة.

وإن تقاربت منفعتهما ولم تتحد ففيهما في مذهب مالك خلاف. والمشهور أن التقارب في المنفعة لا يمنع السلم، ولا يجعلهما كالشيء الواحد، كما قال خليل في "مختصره":"ولو تقاربت المنفعة" وقد قال في الترجمة: "وبـ "لو" إلى خلاف مذهبي".

وفلوس النحاس والكاغد المتعامل بهما في بلاد السؤال من أفريقية الفرنسية منفعتهما متحدة من كل وجهٍ، إذ لا نفع في أحدهما إلا برواجه بتعهد الحكومة بأن من دلمحعه يعطى كذا، فنحاس الفلوس في بلد السؤال لا يصلح لشيء من أنواع الصناعات البتة، ولا نفع فيها إلا التعامل الواقع به، وكذلك الكاغد.

والوجه الثالث: المنع لأجل التهمة؛ لأن أكثر الناس في محل السؤال إذا أفتاهم بعض العلماء بأن الكاغد المتعامل به لا يجوز سَلَم شيءٍ منه في أكثر منه من جنسه؛ لأن الشيء في مثله قرض عند المالكية، فيؤول إلى القرض بزيادةٍ، وهو حرام، يتحيلون إلى سلم كاغد في كاغدين بأن يسمّوا المُسْلَمَ فيه نحاسًا، ثم إذا حل الأجل لا يأخذون إلا نفس الكاغد؛ لأنه هو قصدهم، وتسميتهم النحاس تحيل بالظاهر للتوصل إلى باطن حرام. والشيء إذا كثر قصد الناس لباطنه الحرام متوسلين له بظاهره المباح، يحرم عند مالك، قال خليل في "مختصره":"ومنع للتهمة ما كثر قصده".

والحاصل أن الإمام مالكًا يوجب سد الذريعة الوسطى.

ص: 24

وإيضاحه أن الذريعة عند العلماء واسطة وطرفان، طرف يجب سده بإجماع العلماء، وطرف لا يجب سده بإجماع العلماء، وواسطة هي محل الخلاف بين العلماء، وسدها أصل من أصول مذهب الإمام مالك رحمه الله.

فالطرف الذي يجب سده إجماعًا كتحريم سب الأصنام إذا كان عابدوها يسبون اللَّه بسبب سب المسلمين أصنامهم، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام/ 108]، وكحفر الآبار في طرق المسلمين الذي هو وسيلة ترديهم فيها.

والطرف الذي لا يجب سده إجماعًا كغرس شجر العنب الذي هو وسيلة لعصر الخمر منه الذي هو وسيلة لشربها المحرم، وكمساكنة الرجال والنساء في قربة واحدة التي هي وسيلة الزنى.

وضابطه أن تكون المصلحة أقرب والفساد أبعد، أو تكون المصلحة راجحة على الفساد، كفداء أسارى المسلمين بسلاح لا تقوى به شوكة الكفار قوة تضر المسلمين، كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله:

وبالكراهة وندب وردا

وألغ إن يك الفساد أبعدا

أو رجح الإصلاح كالأسارى

تفدى بما ينفع للنصارى

وانظر تدلي دوالي العنب

في كل مشرق وكل مغرب

والذريعة الوسطى التي هي محل الخلاف بين العلماء ضابطها أن

ص: 25

يكون الأمر حلالًا في ظاهر الأمر إلا أن الناس يقصدون بظاهره الحلال التوسل إلى باطن حرام.

ومذهب مالك تحريم ذلك حسمًا للمادة وسدًّا للذريعة.

مثال ذلك: ما لو بعت سلعة بثمن لأجل، ثم اشتريتها بعينها بثمن أقل من الأول نقدًا أو إلى أجل أقرب من الأجل الأول، أو اشتريتها بثمن أكثر من الأول لأجلٍ أبعد من الأجل الأول. فالشراء الثاني مباح في الظاهر إذ لا موجب لمنعه ظاهرًا، لكن يمكن التوسل به إلى باطن حرام، فمنعه مالك رحمه اللَّه تعالى حسمًا للمادة وسدًّا للذريعة؛ لأن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، فيؤول الأمر إلى أنك دفعت دراهم فأخذت عنها بعد ذلك أكثر منها، أو أخذت دراهم فدفعت عنها بعد ذلك أكثر منها، وكل ذلك حرام عند مالك، وإن سمي بيعًا في الظاهر؛ لأن الشيء في مثله عند المالكية قرض، وإن سمي بيعًا أو سَلَمًا؛ لأن العبرة عندهم بالحقيقة لا بالعنوان، فالحقائق لا تتغير بتغير عناوينها.

ومثل هذه البيوع المحرمة عند المالكية المسماة في اصطلاحهم الخاص بهم "بيوع الآجال" جائزة كلها عند الإمام الشافعي رحمه الله، وكثير من العلماء، لأنهم لا يوجبون سد الذريعة الوسطى التي بيناها، وسَدُّها أصل من أصول مذهب مالك رحمه الله.

قال في "مراقي السعود":

سد الذرائع إلى المحرم

حتم كفتحها إلى المنحتم

ص: 26

وبالكراهة وندب وردا

. . . . . . . . . .. .

ومن الأصول الدالة على سد الذرائع قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام/ 108]، وقوله صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم:"من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول اللَّه، وهل يشتم الرجل والديه، قال:"نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه " أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فتراه صلوات اللَّه عليه وسلامه جعل ذريعة السب سبًّا، وهو دليل على أن وسيلة الحرام حرام؛ لأن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فهم يسمون فلوس النحاس تحيُّلًا عند العقد، ليأخذوا بعد ذلك عند الحلول "فِرَنكيْنِ" عن واحد، والجميع ورق. ومالك لا يجوز عنده سَلَمُ شيءٍ في أكثر منه من جنسه، وإن جاز عند الشافعي وغيره.

وكنا أيامنا في قرية "العيون" نازلين عند أمير أولاد الناصر عثمان بن الحبيب الناصري، واجتمع علينا تجار من قبيلتنا الجكنيين، وأسدوا إلينا صنائع الإحسان.

ثم ارتحلنا من قرية "العيون" أثناء رجب الفرد قاصدين قرية "تنبدقة" المعروفة على لسان الأفرنج "بتنبدره"، ورفع تجارنا الذين هم في قرية "العيون" إلى قاضي "تنحدقة" برقية بتوجهنا إلى "تنبدقة"، وأنَّا سننزل في ضيافته، فخرجنا من قرية "العيون" وقت الضحى، يشيعنا جل من فيها من الفضلاء، وودعنا ثَمَّ صديقنا ابن الأمراء الرئيس وأنيس

ص: 27