الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكروا أن الشعراء ربما هجوا على عدم القرى؛ فذكرت لهم نبذًا من
هجاء الشعراء من لم يقدم إليهم الضيافة
، وأنهم ربما هجوا على قلة المقدم إليهم، كما قال بعض الأدباء:
أبو جعفر رجل عالم
…
بما يصلح المعدة الفاسدة
تخوَّف تخمة أضيافه
…
فعوَّدهم أكلة واحدة
ولما ذكرت لهم بهذه المناسبة بيتي الأديب أحمد عبد اللَّه البوحسني الشنقيطي المعروف بالذئب، وقد استضاف قومًا فلم يضيفوه:
مات الغداء لدينا أهل ذا الأفق
…
والخطب سهل إذا كان العشاء بقي
ولست أحسبه يبقى وقد زعمت
…
عُوَّاده أنه في آخر الرمق
فضحكوا.
ثم سألني صديقي النحوي الكبير ذو الشمائل الطيبة أحد أساتذة المعهد المذكور الأستاذ الشيخ إبراهيم يعقوب فقال لي: أأنت شاعر أم لا؟
فقلت له: أما بالجبلة والطبيعة فنعم، وأما من حيثما التوصل بالشعر إلى الأغراض والأكل به من الملوك والأمراء فلا، فألح عليَّ أن أسمعه من شيء كنت قلته من الشعر فيما مضى، فأخبرته أن عهدي بنسج القريض أيام الصبا، وأكثر ما جرى على لساني منه الغزل في عنفوان الشباب، وربما قلت مقطعات في طلب العلم أيام الاشتغال
به، وأني لما عزمت على أن لا أقول شعرًا قلت أبياتًا في ذلك مقتضاها أن مقاصد الشعراء ليست لي بمقاصد، فطلب مني الشيخ المذكور بإلحاح أن أسمعه هذه الأبيات، وبعض ما قلت في طلب العلم، وطرفًا من الغزل أيام الصبا، فأسعفته بما طلب، ففرح بما سمع هو والحاضرون من مشائخ المعهد فرحًا بان أثره في وجوههم.
والأبيات التي قلت في أن مقاصد الشعراء ليست لي بمقاصد هي هذه:
أنقذت من داء الهوى بعلاج
…
شيب يزين مفارقي كالتاج
قد صد بي حلم الأكابر عن لمى
…
شفة الفتاة الطفلة المغناج
ماء الشبيبة زارع في صدرها
…
رمانتي روض كحق العاج
وكأنها قد أدرجت في برقع
…
يا ويلتاه بها شعاع سراج
وكأنما شمس الأصيل مذابة
…
تنساب فوق جبينها الوهاج
يعلى لموقع جنبها في خدرها
…
فوق الحشية ناعم الديباج
لم يبك عيني بين حي جيرة
…
شدوا المطيَّ بأنسع الأحداج
نادت بأنغام اللحون حداتهم
…
فتزيلوا والليل أليل داج
لا تطبيني عاتق في دنها
…
رقت فراقت في رقاق زجاج
مخضوبة منها بنان مديرها
…
إذ لم تكن مقتولة بمزاج
طابت نفوس الشِّرب حيث أدارها
…
رشأ رمى بلحاظ طرف ساج
أو ذات عود أنطقت أوتارها
…
بلحون قول للقلوب شواجي
فتخال رنان المثاني أحرفًا
…
قد رددت في الحلق من مهتاج
وكأنها قد لقنت رناتها
…
متحيزات حريمها الهياج
فهذه هي الأبيات التي كنت قلتها في هذا المقصد، وقد ضممت إليها بعد ذلك أبياتًا في بحرها ورويها في شأن زيارة أخينا وابن عمنا باشا تاردانت، وهو محمد البيضاوي باشا، حيث زارنا في بلادنا من مسافةٍ بعيدةٍ جدًّا، ولم ييسر اللَّه الاجتماع والملاقاة حتى رجع إلى محله، فضممنا الأبيات للأبيات المذكورة في شأن التأسف على فوات فرصة الملاقاة، وكتبنا الجميع إليه.
وأول الأبيات المضمومة إليها:
بل إنما اهتاج الفؤاد لشأنه
…
أن فاته مرأى حلى الأفواج
راضت به جاكان أثباج العلا
…
من بعد زلزلة عن الإثباج
. . . الأبيات.
ومما قلت في شأن طلب العلم، وقد كنت أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم دائم الاشتغال به عن التزويج، لأنه ربما عاق عنه، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي يرغب في زواجي ويطمع فيه. فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال، أيست مني، فتزوجت ببعض الأغنياء، فقال لي بعض الأصدقاء: إن لم تتزوج الآن من تصلح لك تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال، ولم تجد
من يصلح لمثلك. يريد أن يعجلني عن طلب العلم. فقلت في ذلك هذه الأبيات:
دعاني الناصحون إلى النكاح
…
غداة تزوجت بيض الملاح
فقالو لي: تزوجت ذات دل
…
خلوب اللحظ جائلة الوشاح
ضحوكًا عن مؤشرة رقاق
…
تمج الراح بالماء القراح
كأن لحاظها رشقات نبل
…
تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظ
…
لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلت كميًّا ذا دِلاصٍ
…
ضعيفات الجفون بلا سلاح
فقلت لهم: دعوني إن قلبي
…
من الغيِّ الصراح اليوم صاح
ولي شغل بأبكارٍ عذارى
…
كأن وجوهها غرر الصباح
أراها في المهارق لابسات
…
براقع من معانيها الصحاح
أبيت مفكرًا فيها فتضحى
…
لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبرًا عليها
…
وما كان الحريم بمستباح
ومما كتب عني الشيخ إبراهيم المذكور قصيدةً كنت قلتها في عنفوان شبابي في شأن رجلين من قبيلتنا وقعت بينهما شحناء، فهجا أحدهما الآخر ولحنه، وادعى الهاجي علي أني دسست للمهجو شعرًا ينتقم به منه، فغضبت من تزويره علي؛ لأني -وللَّه الحمد والمنة- لست ممن يهجو، وما كافأت أحدًا بسوء، وما أخذت أخًا بزلة، تحدثًا
بنعمة اللَّه تعالى، فكيف أدخل بين رجلين نزغ الشيطان بينها، فحمل أحدهما على هجو الآخر إلا بالإصلاح بينهما؟
والرجل الذي قيل فيه الشعر المذكور اسمه السالم، وهو رجلٌ من أهل العلم، والذي قال الشعر اسمه محمد محمود وهو من أهل العلم أيضًا.
وسبب الشعر المذكور أن السالم المذكور لم يجز تزكية محمد محمود المذكور لشهود شهدوا عنده في خصومة من أجل قادح ديني يعتقده فيه، فغضب لذلك، وقال هذه الأبيات:
إلى السالم الفقيه حبر بلاده
…
أخي الفضل والإفتاء طبق مداده
تحية من أمسى رهينًا بحبه
…
إلى خله قدمًا وأنس فؤاده
فموجبه أني لنصحك قاصد
…
وقد يرشد الحبيب أهل وداده
فإن كنتَ صوفيًا كما أنت زاعم
…
لسانك أوردْه لنهج رشاده
وإن كنت ذا فقه تريش سهامه
…
تغار لدين اللَّه خوف فساده
فلا تَرُمِ الفتيا ولا تك قاضيا
…
فذاك لدين اللَّه محض سداده
تعرضت للإنكار دون تأهل
…
وكم صيد ذو الإنكار قبل اصطياده
فخضت بلا فلك بحورًا عميقةً
…
ورمت بناء الشيء دون عماده
وعزوك للحطاب آخر نقله
…
مخافة درك الغير عين مراده
وتركك ما أبدى ابتداء كلامه
…
ينبئ عن حيف الفتى وعناده
وحذفك نون الرفع دون مسوغ
…
رأى معشر النحاة هجر اعتماده
وأما القصيدة التي رددت أنا بها هذه الدعوى التي لا تليق فهي هذه:
أرى الربع من أسمائه وسعاده
…
وسُعداه قفرًا غير باقي رماده
وغير أثاف بينهن خصاصةً
…
رواكدَ غطاها الصّلى بسواده
تبدل من بيض الترائب خذلًا
…
كوانس في طلح النقى وقتاده
مطافيل أدمًا آويات لربرب
…
مربٍّ على أولاده بمراده
تراها عليها عاطفات وتارة
…
ترود فيدعوها الكلا برواده
فتتركها فوضى وتمرد يومها
…
على قرد غير المرد بين وهاده
فلما دهاها الليل أسود حالكًا
…
وأعشى عيون الوحش برح اسوداده
تذكرن غزلًا نالهن تركنها
…
سدى كلها لم ينتبه من رقاده
فنادت نزيباها ديات صوارها
…
يبارين عدو الطرف بين جياده
وغادرن في حيزوم كل تنوفةٍ
…
خدوشًا كآثار الفؤوس الكواده
فأخطأنها ذهلًا ولسن ذواهلًا
…
إلى أن تلافى الفحل ظهر وراده
فأنشأ يعدو وأتسَيْنَ بعدوه
…
فجشمها سيرًا بوعثِ نجاده
فما راعاها إلا توجس رزها
…
فنادينها ميئًا نداء النواده
فلله ربع قد عفت كل قاصف
…
من الريح مغنى هنده وسعاده
رعت في رباه الآء والشري هقلة
…
بيوض بمغناه وجلهة واده
ويارب يوم قد أنست بغادة
…
بساحته تدعو الحجا لفساده
وتدعو أخا الحلم الرشيد إلى الصبا
…
فتبدله عني الصبا من رشاده
فبينا أنا في روضة اللهو رائع
…
أسر بندب للتصادق ماده
إذا فجعتني الحادثات بنكبة
…
وربك حسبي في الأمور البواده
مقالة أنْ قد قلت إني أجبت عن
…
إلى السالم الفقيه حبر بلاده
وتمنعني من ذاك نفس عزيزة
…
غلا سعرها في السوق يوم كساده
تهاب الخنا والنقص في كل موطن
…
وقلب يقويها بشدة آده
وقربكم في القلب واللَّه شاهد
…
بصير بما كن الفتى بفؤاده
ولست بمن يغريه من جاء مغريًا
…
ولا من يعاد الدهر من لم يعاده
ألا قل لمن يعلو قرى شد نية
…
سناد يجوب البيد وخد سناده
بلاغًا بلاغًا للسميذع إنني
…
ورب المطايا مخلص لوداده
وأني لم أنطق بشيء علمته
…
سوى مجده قدمًا وطول نجاده
وإني لأكسو الخل حلة سندس
…
إذا ما كساني من ثياب حداده
وكائنْ يغيظ المرء ظن حبيبه
…
به السوء بعض الظن إثم فعاده
صلاة إله العرش ما ذر شارق
…
على خير خلق اللَّه هادي عباده
وكان معى أيام إنشائي هذه القصيدة بعض أقراني من طلبة العلم
الماهرين في النحو، فادعى أن في القصيدة اعتراضًا نحويًا، وهو أنها جاءت فيها "إذا" الفجائية قبل جملة فعلية مع أنها تختص بالجملة الاسمية. فقلت له: إن ذلك الاعتراض قصور من المعترض به؛ لأن "إذا" الفجائية فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: اختصاصها بالجملة الاسمية كما زعم المعترض.
والثاني: دخولها على الجملة الاسمية والجملة الفعلية مطلقًا، صدرت بقد، أو جردت منها.
والثالث: دخولها على الجملة الاسمية والجملة الفعلية بشرط كون الفعلية مصدرة بقد.
وقد أشار إلى هذه الأوجه الثلاثة صاحب المغني في الكلام على "قد" وبيَّنها محشيه الدسوقي في الكلام على "إذا".
وقلت له: مثل هذا لا يعترض به إلا قاصر.
وقد جاء في القصيدة نحو هذا مما يتمشى على بعض اللغات دون بعض، كتذكير ضمير السوق في قوله:"غلا سعرها في السوق يوم كساده"، واللغة الفصحى في السوق التأنيث، وإن كان التذكير مسموعًا فيها. وكقوله:"بصير بما كنى الفتى بفؤاده" لأن اللغة الفصحى "أكن" بصيغة الرباعي، وإن كان الثلاثي مسموعًا فيه، فمثل هذا لا يعترض به على شاعرٍ ولا غيره إلا قاصرٌ.
ومما قلت من الغزل أيام الصبا هذه الأبيات:
بشفى الأحيمر قد عرفت لراد
…
داري مرادي أن تكون مرادي
عهدي بها وبها فتاة همها
…
أعذب بها تعذيب كل فؤاد
بيضاءُ واضحةُ الجبين كأنها
…
قمرٌ منيرٌ لاح بين دآدي
وترى شعاع الشمس في وجناتها
…
مترقرقًا بجبينها الوقاد
لمياء تبسم عن لآلئ ركبت
…
في معدن من سمرة وسواد
شنباء مصة ريقها تشفي الجوى
…
من صدر حرَّان الجوانح صادي
واللَّه لا أنسى مبيتي عندها
…
بشفى الأحيمر عن جنوب الوادي
إذ بت أشفي من رضاب بارد
…
داءًا تقادم حره بفؤاد
ويلُ امِّها ما كان أطيب ريقها
…
يا برد ريقتها على الأكباد
ثم سألني بعض أساتذة المعهد الديني "بأم درمان" ممن له مشاركة جيدة في فن المنطق، عن كيفية رد اللَّه جل وعلا على اليهود في قولهم:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} بقوله جل وعلا: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام/ 91]، فإن قوله:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ردًّا لقولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} يتضمن أن موسى بشر، وأنه أنزل عليه كتاب هو التوارة، فإذا قلت: موسى بشر، موسى أنزل عليه كتاب؛ كان هذا على صورة قياس اقتراني من الشكل الثالث، ينتج: بعض البشر أنزل عليه كتاب. وهذه النتيجة التي هي: "بعض البشر أنزل عليه كتاب" جزئية موجبة. وقد تقرر عندهم أن الموجبة الجزئية هي نقيض السالبة الكلية، وقضية اليهود التي هي
قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} سالبة كلية يتحقق نقضها وإبطالها بجزئية موجبة، هي: نزول كتاب على بعض البشر الذي هو موسى، لإقرارهم بذلك.
قال: فإن قولنا: موسى بشر، موسى أنزل عليه كتاب. هذا ينتج من الشكل الثالث:"بعض البشر أنزل عليه كتاب" إنتاجًا لاشك في صحته، مع أن المقدمتين شخصيتان. والمقرر عندهم في الشكل الثالث أنه يشترط لإنتاجه كلية كبراه. فكيف ينتج هذا الشكل الثالث، وليست كبراه كلية؟
فكان جوابنا أن قلنا له: إن الشخصية من قبيل الإنتاج في حكم الكلية المسوَّرة بسور كلي، ووجه استوائهما هو شمول الحكم بالمحمول جميع أفراد الموضوع، فالسور في الكلية محيط بجميع أفراد الموضوع، بحيث لم يتخلف منها فرد عن الحكم بالمحمول، وموضوع الشخصية فردٌ واحدٌ لا تعدد فيه أصلًا، فصار انحصار موضوع الشخصية في فردٍ واحدٍ بالأصالة كانحصار أفراد الموضوع الكلي بالسور الكلي، فاتحدا من هذا الوجه، فصح الإنتاج المذكور.
ثم لما عزمنا على السفر من "أم درمان" اجتمع بنا الأخ الفاضل ذو الأخلاق الطيبة والشمائل الحسنة السيد محمد صالح الشنقيطي رئيس اللجنة بالسودان، فأحسن إلينا وأكرمنا غاية الإكرام، وجمع بيننا وبين السيد عبد الرحمن المهدي فعزيناه في ولد ولده كان متوفى عند ملاقاتنا، ففرح بلقائنا، وأظهر لنا البشر، والإكرام، وأهدى لنا هدية سنية.
وشيعنا محمد صالح المذكور في سيارته الخاصة، وأخذ لنا
ولجميع من معنا تذاكر السفر في قطار الحديد، وسافرنا فيه من تلك الليلة في العشر الأواسط من ذي القعدة من سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف، فسرنا فيه متوجهين تلقاء سواكن فبتنا دونها، وجئناها من الغد وقت المقيل، فنزلنا في خيم مبنية للحجاج، وأخذنا جوازات السفر إلى الحجاز، وما توصلنا إلى أخذها حتى تعبنا من الزحام في المركز، لكثرة الحجاج المزدحمين لأخذ الجوازات، وكان بواب المركز يدخل قبلنا كثيرًا من أخلاط الناس من أسود وأحمر، ونحن جئنا قبلهم، فذكرني ذلك قول عصام بن عبيد الزماني:
أدخلت قبلي قومًا لم يكن لهم
…
في الحق أن يدخلوا الأبواب قدامي
ثم بعد لأيٍ تحصَّلنا على أخذ الجوازات والتذاكر بعد أن سلمنا الرسوم المقررة، ثم مكثنا في محل النظر في صحة الحجاج ثلاثة أيام، ثم ركبنا في السفينة متوجهين إلى جدة، فمكثت السفينة بنا يومًا وليلة في البحر، ثم نزلنا من الغد في جدة، فنزلنا في بيت لآل جمجوم عمومي لنزول أهل قطرنا، فمكثنا ليلتين في جدة، ولم نجتمع بأحدٍ من أهلها، لكن اجتمعنا برجل سوداني موظف في بعض الشركات في جدة اسمه أحمد بكري، قأحسن إلينا وحملنا إلى مكة المكرمة بواسطة رجلٍ طيبٍ من موظفي إدارة الحج اسمه سامي كتبي. فركبنا من جدة بعد صلاة المغرب محرمين ملبين تلبية النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وكان إحرامنا بالحج مفردًا، وإنما أحرمنا إفرادًا من غير تمتع ولا
قران؛ لأن الإفراد في مذهبنا أفضل من التمتع والقران، وأفضلية الإفراد التي هي مذهبنا معاشر المالكية قال بها مالك وأصحابه، وذلك هو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو قول عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وعائشة، والأوزاعي، وأبي ثور، وداود.
وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي: القِران أفضل.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: التمتع أفضل.
وكافة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الكل من التمتع والإفراد والقران جائز، إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا ينهيان عن التمتع.
أما دليل جواز الثلاثة فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهلَّ بحج وعمرة، ومنا من أهلَّ بحج، وأهلَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بالحج" رواه البخاري ومسلم عنها. وفي رواية لمسلم: "منا من أهل بالحج مفردًا، ومنا من قرن، ومنا من تمتع".
وأما دليل مذهبنا ومذهب الشافعي في ترجيح الإفراد، وأنه أفضل من القران والتمتع، فهو ما ثبت في الصحيح من رواية جابر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم.
أما حديث عائشة فقد سبق الآن في قولها: "وأهلَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بالحج" رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أهلَّ بالحج مفردًا". وفي رواية البخاري ومسلم قالت: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم لا يذكر لنا إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت. . . " وذكرت تمام الحديث إلى قولها: "ثم رجعوا مهلين بالحج".
وأما حديث ابن عمر فعن بكر بن عبد اللَّه المزني عن أنس رضي الله عنه قال: "سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعًا" قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده. فلقيت أنسًا فحدثته بقول ابن عمر، فقال: ما تعدوننا إلا صبيانًا؟ ! سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم يقول: "لبيك عمرةً وحجًّا" رواه البخاري ومسلم.
وعن زيد بن أسلم "أن رجلًا أتى ابن عمر فقال: بم أهل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم؟ قال: بالحج. ثم أتاه من العام المقبل فسأله فقال: ألم تأتني عام أول؟ قال: بلى، ولكن أنسًا يزعم أنه قرن. قال ابن عمر: إن أنسًا كان يدخل على النساء وهن منكشفات الرؤوس، وإني كنت تحت ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، فكنت أسمعه يلبي بالحج" رواه البيهقي بإسناد صحيح.
وفي رواية لمسلم أيضًا عن ابن عمر قال: "أهللنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بالحج منفردًا".
وأما حديث جابر فعن عطاء عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: "أهل النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم هو وأصحابه بالحج". رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم أيضًا عن جابر قال: "أهللنا أصحاب محمد صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بالحج خالصًا وحده، فقدمنا صبح رابعة من ذي الحجة، فأمرنا أن نحلّ".
وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر في حديث طويل قال: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم لمناسك الحج. . . " وذكر الحديث إلى أن قال: "حتى إذا كان آخر طوافٍ على المروة قال النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليتحلل وليجعلها عمرة".
وأما حديث ابن عباس ففيه قال: أهلَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بالحج، فقدم لأربع مضين من ذي الحجة وصلى الصبح. وقال لما صلى الصبح:"من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة" رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أيضًا عن ابن عباس: "أن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعى بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم وقلدها نعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهلَّ بالحج".
وروى البيهقي بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال لابنه: "يا بني أفرد الحج فإنه أفضل"، وبإسناده عن ابن مسعود أنه أمر بإفراد الحج.
فهذه الأحاديث الصحيحة دالة على أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أحرم في حجة الوداع بالحج مفردًا، وهو صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم لا يحرم إلا بما هو الأفضل.
وإنما كانت هذه الأحاديث الدالة على إفراده صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أرجح عند المالكية والشافعية ومن وافقهم في تفضيل الإفراد من الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان قارنًا، ومما ثبت في الصحيح أيضًا أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان متمتعًا، وترجيحهم لأحاديث الإفراد، بسبب أمور:
منها: أنه الأكثر في الروايات الصحيحة في حجة النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم.
ومنها: أن رواته أخص بالنبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم في هذه الحجة، فإن منهم جابرًا وهو أحسنهم سياقًا لحجة النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، فإنه ذكرها من أول خروجه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم من المدينة إلى فراغه، وذلك مشهور في صحيح مسلم وغيره، وهذا يدل على ضبطه لها واعتنائه بها، ومنهم ابن عمر وقد قال:"كنت تحت ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج"، ومنهم عائشة وقربها من النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم معروف، واطلاعها على باطن أمره وفعله في خلوته وعلانيته مع فقهها وعظيم فطنتها، ومنهم ابن عباس وهو
بالمحل المعروف من الفقه والفهم الثاقب مع كثرة بحثه وحفظه أحوال النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم.
ومن أدلة تفضيل الإفراد أن الخلفاء الراشدين رضي للَّه عنهم أفردوا الحج، وواظبوا على ذلك بعد النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، كذلك فعل أبو بكر، وعمر، وعثمان، واختلف فعل عليٍّ رضي الله عنهم أجمعين.
وقد حج عمر بالناس عشر حجج مدة خلافته كلها مفردًا، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم وعلموا أن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم حج مفردًا لم يواظبوا على الإفراد مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعل النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم؟ !
وأما الخلاف عن علي وغيره فالظاهر أنهم إنما فعلوه لبيان جواز غير الإفراد، فلا ينافي أفضلية الإفراد عندهم.
ومن أدلة ترجيح الإفراد أنه لا يجب فيه دم بالإجماع، وذلك لكماله، ويجب الدم في التمتع والقران، وذلك الدم جبران لسقوط الميقات وبعض الأعمال، لأن ما لا خلل فيه ولا يحتاج إلى جبران أفضل. وقول المخالف:"إنه دم نسك لا جبران" غير مسلم، بدليل أن الصيام يقوم مقامه عند العجز، ولو كان دم نسك لم يقم مقامه كالأضحية.
ومن أدلة ترجيح الإفراد أن الأمة أجمعت على جوازه من غير كراهة، وكره عمر وعثمان وغيرهما التمتع، وبعضهم التمتع والقران، وإن كانوا يجوزونه على ما سبق بيانه، فكان ما أجمعوا على أنه لا كراهة فيه أفضل.
وقد قال البيهقي رحمه الله: فثبت بالسنة الثابتة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم جواز التمتع والإفراد والقران، وثبت بمضي النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم في حج مفرد، ثم باختلاف الصدر الأولى في كراهة التمتع والقران دون الإفراد كون إفراد الحج عن العمرة أفضل. واللَّه تعالى أعلم.
والمالكية والشافعية ومن وافقهم في أفضلية الإفراد مقرون بأن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يفسخ حجه إلى عمرة ويتحلل منها، ثم يهل بحج من مكة. وقد قال هو صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة"، كما ثبت في الصحيح ثبوتًا لا مطعن فيه ولا شبهة، إلا أنهم يقولون: إن هذا خاص بأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم لعلةٍ موجودةٍ في ذلك الوقت، وقد زالت، وهي أن الكفار كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأمر النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة ليظهر بذلك بطلان ما يعتقدونه من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
واستدلوا لخصوص هذا الفسخ بأصحاب النبي صلى اللَّه عليه
وعلى آله وسلم بأدلة:
منها: أنه مأخوذٌ من حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين قال: "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول اللَّه أي الحل؟ قال: "حِلٌّ كله". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية مسلم: "الحل كله".
ففي هذا الحديث دلالةٌ ظاهرةٌ أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم إنما أمرهم بفسخ الحج في عمرة لمخالفة ما كان الجاهلية عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج، وقولهم:"إنها من أفجر الفجور"؛ إذ لو لم يكن هذا هو علة الفسخ لما كان في ذكره وترتيب الفسخ عليه فائدةٌ.
فكون مخالفة الجاهلية علة للفسخ المذكور تؤخذ من هذا الحديث بمسلكين من مسالك العلة، وهما ظهور النص والإيماء؛ لأن مسلك النص مرتبتان: نص صريح، ونص ظاهر. وقد تقرر عند الأصوليين أن الفاء ظاهرة في التعليل، كقولهم:"سها فسجد" و"سرق فقطعت يده".
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن قوله: "فأمرهم أن يجعلوها عمرة" بالفاء بعد قوله: "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض" يدل بظاهره على أن ذلك هو علة الفسخ.
قال في "مراقي السعود" في مسالك العلة:
الاجماعُ فالنص الصريح مثلُ
…
لعلة فسبب فيتلو
من أجل ذا فنحو كي إذًا فما
…
ظَهَر لامٌ ثمت البا علما
فالفاء للشارع فالفقيه
…
فغيره يتبع بالشبيه
ومحل الشاهد منه قوله: "فالفاء للشارع. . . " إلخ.
والمسلك الثاني هو الإيماء، وهو عند الأصوليين: اقتران الوصف بحكم، لو لم يكن الوصف علة لذلك الحكم عابه الفطن بمقاصد الكلام. فقوله في الحديث المذكور:"كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض" لو لم يكن علة لقوله: "فأمرهم أن يجعلوها عمرة" لكان الكلام معيبًا عند الفطن بمقاصد الكلام، فترتيب الوصف على الحكم عند الأصوليين من أفراد الإيماء، وقد بينه في "مراقي السعود" بقوله:
والثالث الإيما اقتران الوصف
…
بالحكم ملفوظين دون خلف
وذلك الوصف أو النظير
…
قرانه لغيرها يضير
كما إذا سمع وصفًا فحكم
…
وذكره في الحكم وصفًا قد ألم
إن لم يكن علته لم يفد
…
ومنعه مما يفيت استفد
ترتيبه الحكم عليه واتضح
…
تفريق حكمين بوصف المصطلح
. . . الخ.
ومحل الشاهد منه قوله: "ترتيبه الحكم عليه".
وإذا كانت علة الفسخ المذكور مخالفة ما كان عليه الجاهلية، فلا دلالة فيه على أفضلية التمتع بفسخ الحج إلى عمرة.
ولا يقدح في هذا أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بين بطلان ما كان الجاهلية عليه في عمره الثلاث قبل حجة الوداع؛ لأن عمرة الحديبية التي صده المشركون فيها عن البيت عام سبع كانت في ذي القعدة من أشهر الحج، وكذلك عمرة القضاء عام سبع كانت في ذي القعدة، وكذلك عمرة الجعرانة عام ثمان عام الفتح كانت في ذي القعدة أيضًا؛ لأن حجة الوداع اجتمع فيها من الخلق ما لم يجتمع في غيرها، فالبيان فيها أعظم موقعًا، وله فائدة لم تكن في غيره، ولذلك جاء في الحديث:"فتعاظم ذلك عندهم".
ومن أدلة المالكية والشافعية على الخصوص المذكور حديث الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه قال: قلت يا رسول اللَّه، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم:"بل لكم خاصة". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
قال النووي في هذا الحديث: إسناده صحيح، إلا الحارث بن بلال فإني لم أر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقد رواه أبو داود ولم يضعفه، وما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده إلا أن يوجد فيه ما يقتضي ضعفه. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به. قال: وقد روى الفسخ أحد عشر صحابيًّا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ ! .
قال النووي رحمه الله: لا معارضة بينهم وبينه حتى يقدموا عليه؛ لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة، ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث بن بلال في إثبات الفسخ للصحابة، لكنه زاد زيادة لا تخالفهم، وهي اختصاص الفسخ بهم.
واحتجوا أيضًا للاختصاص المذكور بحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم خاصة" رواه مسلم موقوفًا على أبي ذر.
قال البيهقي وغيره من الأئمة: أراد بالمتعة فسخ الحج إلى العمرة؛ لأنه كان لمصلحةٍ، وهي بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، وقد زالت، فلا يجوز ذلك اليوم لأحد.
واحتج أبو داود في "سننه" والبيهقي وغيرهما في ذلك برواية محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان بن الأسود أن أبا ذر كان يقول: "من حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم" وإسناده هذا لا يحتج به؛ لأن محمد بن إسحاق صاحب "المغازي" مدلس، وقد قال:"عن"، واتفقوا على أن المدلس إذا قال:"عن" لا يحتج به.
قال النووي: واعلم أن البيهقي ذكر بابًا في جواز الإفراد، والتمتع، والقران، ثم بابًا في تفضيل الإفراد، ثم باب من زعم أن القران أفضل، وأن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان متمتعًا. وذكر في كل نحو ما ذكرته من الأحاديث. ثم قال: باب كراهة من كره التمتع والقران، وبيان أن جميع ذلك جائز، وإن كنا اخترنا الإفراد. فذكر في هذا الباب
بإسناده عن سعيد بن المسيب: "أن رجلًا من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج" رواه أبو داود في "سننه".
وقد اختلفوا في سماع سعيد بن المسيب من عمر، لكنه لم يرو هنا عن عمر، بل عن صحابي غير مسمى، والصحابة كلهم عدول.
وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم "نهى أن يقرن بين الحج والعمرة" رواه البيهقي بإسناد حسن.
وقال القاضي عياض في "شرح صحيح مسلم": جمهور الفقهاء على أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصًّا للصحابة. قال: وقال بعض أهل الظاهر: هو جائز الآن.
وقال النووي في "شرح المهذب": فرع: إذا أحرم بالحج لا يجوز له فسخه وقلبه عمرة، وإذا أحرم بالعمرة لا يجوز له فسخها حجًا، لا لعذر ولا لغيره، سواء ساق الهدي أم لا. هذا مذهبنا. قال ابن الصباغ والعبدري وآخرون: وبه قال عامة الفقهاء. وقال أحمد: يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي. انتهى كلام النووي.
والغرض منه قوله: "وبه قال عامة الفقهاء" غير أحمد، وقد بيَّنا طرفًا من أدلة الشافعية والمالكية على أفضلية الإفراد.
وأما الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان قارنًا، فلا يرد الإشكال بها على ما ذكرنا، لظهور الجمع
بينهما بأنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أحرم أولًا بحج مفردًا، كما تضافرت به الروايات الصحيحة، ثم لما أمر من لم يكن معه هدي من أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة لمخالفة ما كان عليه أهل الجاهلية، وشق عليهم رضي للَّه عنهم إحلالهم مع كونه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم باقيًا على إحرامه تأسف على سوق الهدي، وذكر أنه لو لم يسقه لفعل مثل ما أمرهم به مواساة لهم وتطييبًا لنفوسهم، ثم إنه أدخل العمرة على الحج ليوافقهم في إدخالها عليه، إلا أنه منعه من التحلل معهم كونه معه الهدي، فلم يحل من شيء حتى أتم حجه، فقد صار صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم قارنًا بإدخاله العمرة على الحج.
وكونه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم صار قارنًا في آخر الأمر، لم يدل عند المالكية والشافعية ومن وافقهم على أفضلية القران على الإفراد، لأنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم قرن للموجب المذكور، وقد زال.
وأما الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان متمتعًا، فلا يرد الإشكال بها على ما ذكرنا أيضًا؛ لأن التمتع ربما أطلق على مطلق العمرة في أشهر الحج فيشمل القِرانَ، فيكون معناه القِران. وقد بينا أنه كان قارنًا في آخر الأمر، للأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك، مع وجوب الجمع بين الأحاديث إذا أمكن، أو أن معنى كونه كان متمتعًا: أمره أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة؛ لأن ذلك تمتع، حيث أحلوا بالعمرة في شهر ذي الحجة، ثم أهلوا محرمين بحج.
قال مقيد هذه الرحلة عفا اللَّه عنه: وإنَّما الإشكال الذي يصعب الانفكاك عنه على المالكية والشافعية ومن وافقهم في أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصًا بأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم = هو ما جاء في حديث جابر الثابت في الصحيحين قال: "أهل النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم وطلحة، وكان علِيٌّ قدم من اليمن ومعه هدي. فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، فأمر النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ويقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي. فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر. فبلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت". وأن سراقة بن مالك لقي النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بالعقبة وهو يرميها. فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول اللَّه؟ فقال: "بل للأبد".
وهو نص صريح في عدم الاختصاص بأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، ومعلومٌ أن حديث جابر هذا لا يقاومه حديث الحارث بن بلال بن الحارث الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كما قدمنا؛ لأن فيه الحارث بن بلال، ولا يقاومه حديث أبي ذر الذي قدمنا أنه أخرجه مسلم؛ لأنه موقوفٌ على أبي ذر.
فهذا النص الصريح الصحيح عن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بعدم الاختصاص بأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم
يردُّ على المالكية والشافعية ومن وافقهم احتجاجهم بالاختصاص المذكور، وأجويتهم عن قوله صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم:"بل للأبد" لا تنهض كل النهوض، ولا تتضح كل الوضوح.
قال النووي: معنى قوله: "بل للأبد" عند الجمهور: أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إبطالًا لما كان عليه في الجاهلية، وليس معناه جواز القِران. أي دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج. وقيل: معناه: سقط وجوب العمرة.
قال مقيد هذه الرحلة عفا اللَّه عنه: هذه الأجوبة التي ذكرها النووي وغيره غير ظاهرة، والحجة بها غير ناهضة؛ لأن سياق سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي رضي الله عنه يقتضي أن السؤال إنما وقع عن فسخ العمرة إلى الحج؛ لأنه هو القضية الواقعة، فصرف السؤال عنها إلى غيرها غير ظاهر.
ويدل على أن السؤال عن الفسخ المذكور سياق مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، فإنه يقتضي أنه قال له ذلك لما أمر أصحابه أن يجعلوا حجهم عمرة، فهو دليلٌ واضحٌ لمن قال:"إن السؤال كان عن فسخ الحج إلى العمرة"، ولا يعارض هذا ما في صحيح البخاري وبعض روايات مسلم من أن سؤال سراقة للنبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان عند رمي جمرة العقبة لإمكان تعدد السؤال لتعدد المكان، مع أن السؤال عند جمرة العقبة أيضًا ظاهر في أنه عن القضية الواقعة كما قدمنا قريبًا، فلا يصرف عنها إلى غيرها إلا بدليل جازم.
فالذي يظهر من جهة النقل عدم اختصاص الفسخ المذكور بأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم لقوله الثابت في الصحيح: "بل للأبد".
فالذي يظهر أن هذا الفسخ لو كان أفضل من إتمام الحج من غير إحلال منه بعمرةٍ الثابتِ بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} لما أعرض عنه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم لشدة حرصهم على متابعة النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم واطلاعهم على أحواله.
وقد أخرج مسلم عن أبي نضرة قال: "قلت لجابر بن عبد اللَّه: إن الزبير ينهي عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها. فقال جابر: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، فلما قام عمر قال: إن اللَّه كان يحل لرسوله صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة للَّه كما أمركم اللَّه، وأبتُّوا نكاح هذه النساء، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة". وفي رواية زيادة: "فإنه أتم بحجكم وأتم بعمرتكم".
وقد روى البيهقي بإسناده الصحيح عن عبيد بن عمير قال: قال علي بن أبي طالب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: أنهيت عن المتعة؟ قال: لا، ولكني أردت كثرة زيارة البيت. فقال علي: من أفرد الحج فحسن، ومن تمتع فقد أخذ بكتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم.
وروى البيهقي عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها أخبرته في
تمتع النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بالعمرة إلى الحج، وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم. فقال الزهري: فقلت لسالم: فلم ينهى عن التمتع وقد فعل ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم وفعله الناس معه؟ قال سالم: أخبرني ابن عمر: أن الأتم للعمرة آن تفردوها من أشهر الحج، الحج أشهر معلومات: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فأخلصوا فيهن الحج، واعتمروا فيما سواهن من الشهور. قال: وإن اعتمر بذلك لزمه إتمام العمرة؛ لقول اللَّه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وذلك أن العمرة إنما يتمتع بها إلى الحج، والتمتع لا يتم إلا بالهدي أو الصيام إذا لم يجد هديًا، والعمرة في غير أشهر الحج تتم بلا هدي ولا صيام، فأراد عمر بترك التمتع إتمام العمرة، كما أمر اللَّه تعالى بإتمامها، وأراد أيضًا أن تكرر زيارة الكعبة في كل سنة مرتين، فكره التمتع لئلا يقتصروا على زيارته مرة، فتردد الأئمة في التمتع حتى ظن الناس أن الأئمة يرون ذلك حرامًا. قال: ولعمري لم ير الأئمة ذلك حرامًا، ولكنهم اتبعوا ما أمر اللَّه به عمر رضي الله عنه إحسانًا للخير.
وبإسناده الصحيح عن سالم قال: سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها. فقيل: إنك تخالف أباك؟ فقال: إن أبي لم يقل الذي تقولون، إنما قال: أفردوا الحج من العمرة، أي أن العمرة لا تتم في أشهر الحج [إلَّا بهدي، وأرأد أن يزار البيت شهور الحج]، فجعلتموها أنتم حرامًا، وعاقبتم الناس عليها، وقد أحلها اللَّه عز وجل
وعمل بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم. قال: فإذا أكثروا عليه قال: وكتاب اللَّه أحق أن يتبع أم عمر؟!
فهذا الذي ذكرنا يدل على أن عمر يقول بجواز التمتع إلا أن الإفراد أفضل عنده منه.
واعلم أن أحسن وجوه الجمع بين الأحاديث الصحيحة الثابتة في حجة الوداع التي في بعضها أن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان مفردًا، وفي بعضها: أنه كان قارنًا، وفي بعضها: أنه كان متمتعًا = هو ما قدمنا الإشارة إليه أنه أحرم أولًا مفردًا، ثم أدخل بعد ذلك العمرة على الحج، فصار في آخر الأمر قارنًا. ومعنى تمتعه أمره أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة مع قوله لهم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة". أو أن معنى تمتعه عمرته في أشهر الحج، فيرجع معناه إلى القران. وبهذا تتفق الأحاديث وتنتظم، واللَّه أعلم.
ثم دخلنا "مكة المكرمة" تلك الليلة محرمين ملبين تلبية النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، وطفنا تلك الليلة طواف القدوم، وسعينا بعده بين الصفا والمروة، وكنا عند دخولنا المسجد الحرام قلنا: أعوذ باللَّه العظيم، وبوجه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لنا أبواب رحمتك. وعندما وقعت أبصارنا على الكعبة المشرفة قلنا: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابةً، وزد من شرَّفه وكرَّمه ممَّن حجه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًّا.
ثم ابتدأنا طوافنا من ركن الحجر، فقبلنا الحجر الأسود وقلنا: بسم اللَّه واللَّه أكبر وللَّه الحمد، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم. ورملنا ما أمكن في الأشواط الثلاثة الأولى، ومشينا في الأربعة الباقية، وكان جل دعائنا في الطواف:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". ودعونا بما أحببنا وبما شاء اللَّه من الأدعية المأثورة، وكان من جملة دعائنا "اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت".
ولما أكملنا الأشواط السبعة عمدنا إلى مقام إبراهيم وقرأنا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة/ 125] وجعلنا المقام بيننا وبين البيت وصلينا ركعتين بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} ثم رجعنا إلى الركن فاستلمناه.
ثم خرجنا من الباب إلى الصفا، فلما دنونا من الصفا قرأنا {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة/ 158] وبدأنا بما بدأ اللَّه به، فرقينا على الصفا، فاستقبلنا القبلة، فوحدنا اللَّه وكبرناه وقلنا:"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، ثم دعونا بما شاء اللَّه، ثم نزلنا إلى المروة فأسرعنا في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشينا حتى أتينا المروة، ففعلنا عليها كما فعلنا على الصفا،
حتى أتممنا سعينا سبعة أشواط على هذه الحالة التي ذكرنا.
ثم لما كان يوم التروية توجهنا إلى "منى" مهلين بالحج، ملبين تلبية النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، فصلينا "بمنى" الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكثنا قليلًا حتى طلعت الشمس، ثم سرنا إلى عرفة فنزلنا بـ "نمرة" قرب المسجد، حتى إذا زاغت الشمس صلينا الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم أتينا "الموقف" فوقفنا غير بعيد من الصخرات، واستقبلنا القبلة، ولم نَزَلْ واقفين حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا، ثم دفعنا إلى "المزدلفة" فصلينا بها المغرب والعشاء والفجر، ثم أتينا "المشعر الحرام" فاستقبلنا القبلة، فدعونا وكبرنا وهللنا ووحدنا اللَّه تعالى، ولم نَزَلْ واقفين حتى أسفرنا جدًّا، فدفعنا إلى "منى" قبل أن تطلع الشمس، فجئنا "منى" وقت الضحى، فرمينا جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات مثل حصا الخذف، نكبر مع كل واحدة.
وعندما طفنا طواف الإفاضة على ما نحو ما قدمنا طواف القدوم تحللنا من كل شيء التحلل الأكبر بعد التحلل الأصغر برمي جمرة العقبة لأنا كنا قد سعينا بعد طواف القدوم. وقد تمت مناسك حجنا جعله اللَّه حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا آمين آمين.
ثم إنا في يوم "عرفة" بقرب مسجد "نمرة" مررنا مصادفة من غير قصد على خيمة من خيام الحجيج فيها الأميران الساميان اللذان هما أخوان، وهما الأمير السامي تركي أمير أبها السديري، والأمير السامي أخوه خالد السديري أمير تبوك، فجلسنا قليلًا في ظل الضحى من
خيمتهم ننتظر رفقتنا، فآوونا وأكرمونا غاية الإكرام، وأظهروا السرور بالمعارفة معنا، وتذاكرنا معهم مذاكرة أدبية.
وسألنا الأمير خالد المذكور عن معنى قول جرير في شعره: "ومسحهم صلبهم رحمن قربانًا" وعن إعراب "قربانًا" من بيت شعر جرير.
فقلنا له: هذا البيت من قصيدة لجرير يهجو بها الأخطل التغلبي وقومه، ويعيرهم بدين النصرانية. وذكرنا له القصيدة، ومعنى البيت، وإعراب الكلمة، والقصيدة هي:
بان الخليط ولو طووعتُ ما بانا
…
وقطَّعوا من حبال الوصل أقرانًا
حي المنازل إذ لا نبتغي بدلًا
…
بالدار دارًا ولا الجيران جيرانًا
قد كنت في أثر الأظعان ذا طرب
…
مروَّعًا من حذار البين محزانًا
يا رب مكتئب لو قد نُعِيتُ له
…
باك وآخر مسرور بمنعانا
لو تعلمين الذي نلقى أويت لنا
…
أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا
كصاحب الموج إذ مالت سفينته
…
يدعو إلى اللَّه إسرارًا وإعلانا
يا أيها الراكب المزجي مطيته
…
بلغ تحيتَنا لُقِّيت حملانا
بلغ رسائل عنا خف محملها
…
على قلائص لم تحملن حيرانا
كيما نقول إذا بلغت حاجتنا
…
أنت الأمين إذا مُسْتأمنٌ خانا
نهدي السلام لأهل الغور من مَلَحٍ
…
هيهات من مَلَحٍ بالغَور مهدانا
أحبب إليَّ بذاك الجزع منزلة
…
بالطلح طلحًا وبالأعطان أعطانا
يا ليت ذا القلب لاقى من يعلله
…
أو ساقيًا فسقاه اليوم سلوانا
أو ليتها لم تعلقنا علاقتها
…
ولم يكن داخل الحب الذي كانا
هلا تحرجت مما قد فعلت بنا
…
يا أطيب الناس يوم الدَّجن أردانا
قالت ألم بنا إن كنت منطلقًا
…
ولا إخالك بعد اليوم تلقانا
يا طَيْبَ هل من متاع تمتعين به
…
ضيفًا لكم باكرًا يا طيب عجلانا
ما كنت أول مشتاق أخي طرب
…
هاجت له غدوات البين أحزانا
يا أم عمرو جزاك اللَّه مغفرة
…
ردي عليَّ فؤادي كالذي كانا
ألستِ أحسن ممن يمشي على قدم
…
يا أملح الناس كل الناس إنسانا
يلقى غريمكم من غير عسرتكم
…
بالبذل بخلًا وبالإحسان حرمانا
لا تأملننَّ فإني غير آمنة
…
غدر الخليل إذا ما كان ألوانا
قد خنت من لم يكن يخشى خيانتكم
…
ما أنت أول موثوق به خانا
لقد كتمت الهوى حتى تَهَيَّمني
…
لا أستطيع لهذا الحب كتمانا
كاد الهوى يوم سُلمانين يقتلني
…
وكاد يقتلني يومًا ببيدانا
لا بارك اللَّه في من كان يحسبكم
…
إلا على العهد حتى كان ما كانا
من حبكم فاعلمي للحب منزلة
…
نهوى أميركم لو كان يهوانا
لا بارك اللَّه في الدنيا إذا انقطعت
…
أسباب دنياك من أسباب دنيانا
يا أم عثمان إن الحب عن عرض
…
يصبي الحليم ويبكي العين أحيانا
ضنت بموردة كانت لنا شرعًا
…
تشفي صدى مستهام القلب صديانا
كيف التلاقي ولا بالقيظ محضركم
…
منا قريب ولا مبداك مبدانا
ما أحدث الدهر مما تعلمين لكم
…
كالعرق عرقًا ولا السُّلان سلانا
نهوى ثرى العرق إذْ لم نلق بعدكم
…
للحبل صرمًا ولا للعهد نسيانا
أبُدِّلَ الليلُ لا تسري كواكبه
…
أم طال حتى حسبت النجم حيرانا
يَارُبَّ عائدةٍ بالغور لو شهدت
…
عزت عليها بدير اللُّج شكوانا
إن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيينن قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق اللَّه أركانا
يَارُبَّ غابطنا لو كان يطلبكم
…
لاقى مباعدة منكم وحرمانا
أرينه الموت حتى لا حياة به
…
قد كن دِنَّكَ قبل اليوم أديانا
طار الفؤاد مع الخود التي طرقت
…
في النوم طيِّبة الأعطاف مبدانا
مثلوجة الريق بعد النوم واضعة
…
عن ذي مثان يمج المسك والبانا
تستاف بالعنبر الهندي قاطعة
…
هم الضجيع فلا دنياك دنيانا
بينا ترانا كأنا مالكون لها
…
ياليتها صدَّقت بالحق رؤيانا
قالت تعَزَّ فإن القوم قد جعلوا
…
دون الزيارة أبوابا وخُزَّانا
لما تبينت أن قد حيل دونهم
…
ظلت عساكر مثل الموت تغشانا
ماذا لقيت من الإظعان يوم منًى
…
يتبعن مفتريًا بالبين ظعانا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق
…
هل ما ترى تارك للعين إنسانًا
كأن أحداجهم تُحدَى مُقَفِّيةً
…
نخل بِمَلْهَمَ أو نخل بقُرَّانا
يا أم عثمان ما تلقى رواحلنا
…
لو قِسْتِ مصبحنا من حيث ممسانا
تخدي بنا نجب دَمَّى مناسِمها
…
نقلُ الحزابي حِزَّانا فحزّانا
ترمي بأعينها نجدًا وقد قطعت
…
بين السلوطح والروحان صوّانا
يا حبذا جبلُ الريان من جبل
…
وحبذا ساكن الريان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية
…
تأتيك من قبل الريان أحيانا
هبت شمالًا فذكرى ما ذكرتكم
…
عند الصفاة التي شرقي حورانا
هل يرجعنّ وليس الدهر مرتجعًا
…
عيش بها طالما احْلَوْلَى وما لانَا
أزمان يدعونني الشيطان من غزل
…
وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
من ذا الذي ظل يغلي أن أزوركم
…
أمسى عليه مليك الناس غضبانا
ما يَدَّري شعراء الناس ويلهمُ
…
من صولة الخادر العادي بخفَّانا
جهلًا تمنى حُدائي من ضلالتهم
…
فقد حدوتُهمُ مثنى ووحدانا
غادرتهم من حسير مات في قرن
…
وآخرين نسو التهدار خصيانا
ما زال حبلي في أعناقهم مَرِسًا
…
حتى اشتفيت وحتى دان من دانا
من يدعني منهم يبغي محاربتي
…
فاستيقننَّ أُجِبْهُ غير وسنانا
ما عض نابي قومًا أو أقول لهم
…
إياكم ثم إياكم وإيانا
قل للأخيطل لم تبلغ موازنتي
…
فاجعل لأمك أير القَسِّ ميزانا
إني امرؤ لم أرد فيمن أنَاوِئه
…
في الناس ظلمًا ولا للحرب إدهانا
أحمي حماي بأعلى المجد منزلتي
…
من خِنْدِف والذرى من قيس عيلانا
قال الخليفة والخنزير منهزم
…
ما كنت أول عبد مُحلبِ خانا
لاقى الأخيطل بالجولان فاقرة
…
مثل اجتداع القوافي وَبْرَ هزّانا
يا خُزْر تغلب ماذا بال نسوتكم
…
لا يستفقن إلا الديرين تَحنانا
لما روين على الخنزير من سَكرِ
…
نادين يا أعظم القَسّيْنِ جُرْدانا
هل تتركن إلى القسين هجرتكم
…
ومسحهم صلبهم رحمن قربانا
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءتكم
…
بالخز أو تجعلوا التَّنُوم ضمرانا
ومعنى البيت الذي سأل عنه الأمير المذكور الذي هو قوله:
هل تتركن إلى القسين هجرتكم
…
ومسحهم صلبهم رحمن قربانا
أن جريرًا يذم الأخطل وقومه بني تغلب بأنهم على دين النصرانية، وأنهم يهاجرون إلى النصارى، ويتمسحون بصلبهم التي يعبدونها، ويدعون أنها ترحمهم وتقربهم إلى اللَّه. فقوله:"ومسحهم صلبهم" مصدر مضاف إلى فاعله، كَمُلَ عمله بمفعوله المنصوب، على حد قول ابن مالك في "ألفيته":
وبعد جره الذي أضيف له
…
كمل برفع أو بنصبٍ عمله
والمفعول المنصوب المذكور هو قوله: "صلبهم" وهو جمع صليب، والصليب: ما يعبده النصارى.
وقوله: "رخمن" يروى بالخاء المعجمة، والحاء المهملة، فعلى رواية الحاء المهملة فهو فعلان من الرحمة، والرحمن عندهم ما يعبدونه من دون اللَّه، لدعواهم الكاذبة أن عبادته سبب لرحمة اللَّه لهم. وعلى رواية الخاء المعجمة فهو من قولهم:"وقعت عليه رخمته" أي: محبته ولينه وعطفه، ومنه قول ذي الرمة:
كأنها أم ساجي الطرف أحدرها
…
مستودع خمرَ الوعساء مرخوم
فقوله: "مرخوم" أي: ألقيت عليه رخمة أمه، بالخاء المعجمة، أي: رحمتها وحبها وعطفها.
فعلى رواية: "رخمان" فهو فعلان من الرخمة، بالخاء المعجمة، بمعنى الرحمة والحب والعطف.
وقوله: "قربانًا" القربان: هو ما يتقرب به إلى اللَّه تعالى، سواء كان معبودًا يعبد من دون اللَّه تعالى، كما في هذا البيت وكما في قوله تعالى:{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف/ 28] أو كان شيئًا آخر يتقرب به إلى اللَّه، كما في قوله تعالى من قول اليهود:{إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران/ 183]، وكما في قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} [المائدة/ 27] الآية.
وقوله: "رحمان قربانا" يحتمل فيما يظهر وجهين من الإعراب:
أحدهما: أن "رحمان" بدل من قوله: "صلبهم"؛ لأن "الرحمان" المذكر هو عين الصليب المتقرب به إلى اللَّه عندهم، فهو تابع له مقصود بالنسبة بلا وساطة، كما هي عادة البدل، "وقربانا" بدل من "رحمان" بناء على جواز أن يكون من البدل بدل، كما قال به بعض المحققين، وأجروا عليه قوله تعالى:{مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام/ 143] فإنه بدل من قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} مع أن قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} .
أو كل من "رحمان" و"قربانا" بدل من قوله: "صلبهم"؛ لأن المراد بالرحمان والقربان عنده هو عين الصليب لا شيء آخر.
ونظير هدا الإعراب قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} لأن أحسن أوجه الإعراب فيه أن قوله: {قُرْبَانًا} هو المفعول الثاني لـ {اتَّخَذُوا} ومفعوله الأول الضمير المحذوف الذي هو الرابط بين الصلة والموصول الذي أشار ابن مالك للزومه بقوله:
وكلها تلزم بعده صلة
…
على ضمير لائق مشتملة
وأشار إلى المراد حذفه في مثل الآية الكريمة بقوله:
. . . . . . . . . .
…
والحذف عندهم كثير منجلي
في عائدٍ متصل إن انتصب
…
بفعل أو وصف كمن نرجو يهب
والتقدير: فلولا نصرهم الذين اتخذوهم قربانًا، وقوله:"آلهة"
بدل من قوله: "قربانًا" كما قال غير واحد من المحققين.
وذكرنا أنه أحسن أوجه الإعراب في الآية المذكورة، ونظيره الإعراب الذي ذكرنا في البيت.
ولا يقدح في الإعراب الذي ذكرنا أن البدل الذي هو "الرحمن" مفرد، والمبدل منه الذي هو "صلبهم" جمع، والبدل المذكور بدل كل من كل، لا بدل بعضٍ من كل، لأن المراد بالرحمن المذكور في البيت جنس ما يعبدونه من دون اللَّه، ويزعمون أن عبادته سبب لرحمتهم، مع أن إطلاق المفرد وإرادة معنى الجمع لا نزاع فيه في العربية، وهو كثيرٌ في القرآن العظيم، وفي كلام العرب، فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر/ 54]، فالمراد بالنهر: الأنهار، بدليل قوله:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد/ 15] الآية.
ومن أمثلته قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان/ 74]، إذ المراد بالإمام: الأئمة، كما هو واضحٌ من سياق الكلام.
ومن أمثلته قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان/ 75]، لأن المراد بالغرفة: الغرف، بدليل قوله تعالى:{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ/ 37].
ومن أمثلته قوله تعالى: {بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران/ 119] أي: بالكتب كلها، بدليل قوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة/ 285].
وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها
…
فبيضٌ وأما جلدها فصليب
إذ المراد: أما جلودها فصليبة.
ومن هذا القبيل قول الآخر:
كلوا في بعض بطنكم تعفُّوا
…
فإن زمانكم زمن رخيص
والوجه الثاني من الإعراب: أن يكون قوله: "رحمان قربانا" منصوبًا بعامل محذوفٍ دل المقام عليه، وتقديره: ومسحهم صلبهم يدعونها، أو يجعلونها رحمان. وناصب الفضلة إذا دلَّ المقام عليه جاز حذفه، كما أشار إليه ابن مالك بقوله:
ويحذف الناصبها إن علما
…
وقد يكون حذفه ملتزما
وما يسبق إلى الذهن من أن قوله: "قربانًا" مفعول لأجله لا يصح؛ لأن القربان اسم لما يتقرب به إلى اللَّه، لا مصدر بمعنى التقرب، فظهر أنه ليس مفعولًا لأجله.
ثم في أيامنا في "مكة المكرمة" بعد قضاء مناسك الحج دعانا العالم الشهير اللوذعي الكبير أحد أعيان علماء مكة المكرمة، ومدرس حرمها الشريف، ذو العلوم والشمائل الطيبة، والظرافة التامة، الأستاذ الشيخ السيد علوي مالكي يومين متفرقين للغداء عنده، ففرح بنا، وأكرمنا غاية الإكرام، وأظهر السرور بالتعارف معنا، جازاه اللَّه خيرًا، وأنسنا بحديثه لملحه وظرافته وعلمه، وكان من ظرفه وكرمه وإظهاره لنا المنزلة العليا -وإن كنا لسنا أهلًا لذلك- أنا لما قابلنا شعاع الشمس
من كوةٍ تمثل قول الشاعر:
*والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا *
فتمثلنا قول الشاعر:
يراعي الشمس أنى قابلتنا
…
فيَحْجُبها ويأذن للنسيم
وكان في مجلسنا بعض الأذكياء من طلبة العلم من أهل بلادنا، ومن جملة الحاضرين الشريفان صاحبا العلم والفضائل: محمد والمصطفى ابنا سيدي محمد بن سيدي جعفر.
ومن جملة ما دار في المذاكرة أن بعض الناس انتقد على إمامنا مالك رحمه الله قوله: "إن السرقة إذا شهد عليها رجلٌ وامرأتان ثبت الغرم، وانتفى القطع"، لأن السرقة علة لكل من الغرم والقطع، فإذا ثبتت ثبتا معًا، وإذا لم تثبت لم يثبت واحدٌ منهما، فأي وجه لقول مالك بثبوت أحدهما دون الآخر؟ وأي وجه للفرق بين مسألة السرقة هذه، وبين شهادة الرجل والمرأتين على أداء نجوم الكتابة، أو على بيع الأمة من زوجها، أو بيع الرقيق ممن يعتق عليه؟ فإن الرجل والمرأتين إذا شهدوا على أداء المكاتب نجوم الكتابة صحت شهادتهم؛ لأنها بمال، وإن ترتب عليها عتق المكاتب بأداء آخر نجم منها. وكذلك شهادة الرجل والمرأتين على بيع الأمة من زوجها فهي صحيحة؛ لأنها بمال، ولو ترتب عليها فسخ النكاح. وكذلك شهادتهم على بيع العبد ممن يعتق عليه فهي صحيحة، ولو ترتب عليها العتق. والسرقة قالوا فيها بثبوت الغرم دون القطع. وفي كلا الموضعين شهادة بما يتعلق بالأموال والأبدان، فأي وجه للفرق بين ما ذكر؟
فقال لي السيد العلوي المذكور: ما تقول في دفع هذا الاعتراض؟
فقلت له: هذا الاعتراض تعرض بعض المحققين من المالكية لدفعه، وذكره المحقق البناني في "حاشيته على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله" في شرح قوله:"والمال دون القطع في سرقة"، وسنذكر لك كلام البناني برمته، ثم نوضح وجه دفع الاعتراض.
ففي البناني في شرح قول خليل: "والمال دون القطع في سرقة" ما نصه: الوانُّوغي
(1)
: هذه المسألة على خلاف قول الأصوليين: العلة إذا أوجبت حكمين متساويين لزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر. وهنا القطع والضمان حكمان للسرقة ثبت أحدهما دون الآخر. وخلاف قول المنطقيين: إن وجود الملزوم يلزمه وجود لازمه. فيلزم على هذا وجوب القطع لوجود السرقة.
ويتضح ذلك بذكر فرق ابن المناصف في هذا الباب، وتقرير السؤال الذي استلزمه فرقه أن يقال: قال في المدونة: "إذا شهد رجل وامرأتان على السرقة ثبت الضمان وانتفى القطع. ولو شهد رجل وامرأتان على أداء نجوم الكتابة، أو أن فلانًا باع أمته من زوجها، أو باع عبدًا ممن يعتق عليه، صحت الشهادة، ولو ترتب عليها العتق وفسخ النكاح"، ففي كلا الوصفين شهادة بما يتعلق بالأموال والأبدان، والفرق بينهما أن وجود الضمان لا يستدعي القطع حتى لا يتم إلا به، بخلاف الكتابة وأخواتها، فكأنه يقول: قول الأصوليين في الاستدلال بثبوت أحد الموجبين على الموجب الآخر إذا كان بينهما تلازم، أما إذا فقد
(1)
أي: وقال الوانُّوغي. وهو من فقهاء المالكية (ت: 819).
التلازم فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر.
وهنا نكتتان:
إحداهما: أن الشهادة إذا أبطل بعضها للتهمة بطل جميعها، بخلاف ما إذا بطل بعضها للسنة. ومسألتنا من هذا القبيل.
الثانية: قال غير واحد: إن المراد بالضمان هنا ضمان الغصب والتعدي، لا ضمان السرقة، وهو مذهب ابن القاسم. انتهى منه بلفظه.
وحاصله الجواب عن اعتراضين:
أحدهما: أن السرقة علة لضمان المال، وقطع يد آخذه، فإذا ثبتت ثبتتا معًا، وإذا لم تثبت لم يثبت واحد منهما؟
والجواب عن هذا: أن الضمان الذي ثبت به الغرم هنا ضمان الغصب والتعدي، لا ضمان السرقة. وغصب المالك والتعدي عليه يثبت بشهادة رجلٍ وامرأتين. فاندفع هذا الاعتراض.
والاعتراض الثاني: أن شهادة الرجل والمرأتين على السرقة تعلقت بأمرين: أحدهما: مالي، يثبت بالشاهد والمرأتين وهو الغرم. والثاني: غير مالي ولا يثبت إلا بعدلين وهو القطع.
فأثبتوا المال دون غيره بشهادة الرجل والمرأتين، ولم يقولوا بمثل هذا في شهادة الرجل والمرأتين على أداء نجوم الكتابة، أو بيع العبد ممن يعتق عليه، فإنها تعلقت في هاتين المسألتين بأمرين: أحدهما:
مالي، وهو أداء نجوم الكتابة في الأولى، وبيع العبد في الثانية. والثاني: غير مالي، وهو العتق في كل منهما؛ لأن أداء نجوم الكتابة الذي صحت الشهادة المذكورة به يلزمه خروج المكاتب حرًّا، وكذلك بيع العبد ممن يعتق عليه يلزمه عتقُه. والمالكية يثبتون الجميعَ الماليَّ وغيرَه بشهادة الرجل والمرأتين، وكذلك بشهادة الرجل والمرأتين على بيع الأمة من زوجها، فإنها تتعلق بأمرين: أحدهما: مالي، وهو بيع الأمة للزوج. والثاني: غير مالي، وهو فسخ نكاحها اللازم لملك الزوج لها بالشراء. والمالكية يثبتون الجميع بشهادة الرجل والمرأتين.
فأي وجه للفرق بين ما أثبتوا فيه المالي دون غيره، وبين ما أثبتوا فيه الجميع؟ هذا هو وجه الاعتراض الثاني.
وإيضاح الجواب عنه: أن الضمان والقطع لا ملازمة بينهما، فوجود الضمان لا يستدعي القطع حتى لا يتم إلا به، فالغاصب ضامن ولا قطع عليه، والسارق من غير حرز ضامن ولا قطع عليه، والسارق أقل من نصابٍ ضامن ولا قطع عليه، فظهر انفكاك الربط بين الضمان والقطع، بخلاف الكتابة وأخواتها.
فأداء نجوم الكتابة يلزمه عتق المكاتب لزومًا لا يتخلف ولا ينفك، وكذلك بيع العبد لمن يعتق عليه يلزمه عتقه، وكذلك بيع الأمة لزوجها يلزمه فسخ نكاحها.
فظهر الفرق، وبظهوره يظهر دفع الاعتراض المذكور. والعلم عند اللَّه.
ثم سافرنا من "مكة المكرمة" وبعد أن اعتمرنا من التنعيم، وطفنا وقت السفر طواف الوداع، ودعونا اللَّه ألا يجعل ذلك آخر عهدنا ببيته الحرام، فنزلنا "جدة" في البيت الذي نزلنا فيه أول نزولنا بـ "جدة" من الباخرة، وبتنا في "جدة" ليلة واحدة، وسافرنا منها بعد صلاة العصر متوجهين إلى "المدينة" فركبنا في سيارة، ومالكها معنا فيها، وهو يحفظ القرآن العظيم، وعرض علينا في الطريق أجزاء عديدة من القرآن، ولا بأس بقرائته وحفظه، وقد ضاع علينا اسمه قبل تقييده، فوقفت بنا قليلًا بعد المغرب في محطة اسمها "ذهبان"، ثم مرت بنا على محطة اسمها "تول" ووقفت فيها قليلًا، ثم سارت بنا، فقدمنا على البلد المعروف بـ "رابغ" فسألتهم عن موضع يسمى "عزور" هل يعرفونه؟ فأخبرني بعض أهل "رابغ" أنه معروفٌ عندهم الآن، ويقولون له باللسان الدارجي:"عزورة" وأراني حرَّةً زعم أنها عند الموضع المذكور. وسبب سؤالي لهم عن "عزور" المذكور أني تذكرته بسبب ذكر عمر بن أبي ربيعة المخزومي له غير بعيد من "رابغ" في شعره حيث يقول:
فلما أجزنا الميل من بطن رابغ
…
بدت نارها قمراء للمتنور
ولما أضاء الفجر عنا بدا لنا
…
ذرى النخل والقصرالذي دون عزْوَر
ووجدنا في "رابغ" غالب الطعام الموجود لحم السمك. ثم ذهبنا في تلك الليلة من "رابغ"، وبعد ظرفٍ قليلٍ من الزمن صعدت بنا السيارة جبلًا عبدت فيه الطريق للسيارات، فقال لنا صاحب السيارة: هذا الجبل اسمه "هرشى" فتذكرت قول الشاعر وتمثلت به:
خذا بطن هرشى أوقفاها فإنه
…
كلا جانبي هرشى لهن طريق
وأخبرتهم أنه يروى عن بدوي من الأعراب أنه قرأ سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} " فقالو اله: قدمت المؤخر وأخرت المقدم فقال له:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه
…
كلا جانبي هرشى لهن طريق
يعني أن تقديم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} وتأخيره سواء، وإنما قال ذلك لجهله وجفائه.
ثم عرسنا آخر الليل بين جبال كثيرة، وأخذنا هجعة لنستريح، ما استيقظنا حتى اتضح الصبح فتوضأنا وصلينا الرغيبة، وفرض الفجر، وركبنا ومررنا بمحطات متعددة، وما مكثنا في شيء منها حتى ارتفعت الشمس، وتمكن وقت الضحى، فجئنا محطة تسمى "مسيجيد"، فَقِلْنَا فيها، وصلينا فيها الظهر والعصر، وركبنا منها بعد صلاة العصر، ومررنا قبل وقت المغرب بمحطة تسمى "الفريش" وما وقفنا فيها، وصلينا المغرب في خلاء من الأرض.
ولما كنا غير بعيد من "ذي الحليفة" وهو المعروف الآن "بآبار علي" حصل للسيارة عائق منعها من السير حتى تمكن وقت صلاة العشاء، ثم خلصت منه فركبنا فيها، فقدمت بنا المدينة المنورة بعد صلاة العشاء، ووقفت بنا في مناخة المدينة المعروفة، فوجدنا الحرم النبوي قد غلقت أبوابه، وانصرف الناس عنه على العادة من إغلاقه بعد
صلاة العشاء إلى آخر الليل. فنزلنا عند أخينا الأستاذ الشيخ محمد عبد اللَّه بن آدُ، فتلقانا بالبشر والترحيب والسرور، ولم ندرك ذلك اليوم صلاة الصبح مع الجماعة، لأنا لم نستيقظ من شدة تعب السفر حتى ضاق الوقت، فصلينا الرغيبة وفرض الصبح في محلنا لضيق الوقت، ثم لما ارتفعت الشمس وحل النفل ذهبنا إلى الحرم النبوي فدخلنا مسجد النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم من باب "الرحمة"، وقلنا عند دخوله: أعوذ باللَّه العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لنا أبواب رحمتك؛ وصلينا في الروضة ركعتين، ثم ذهبنا إلى المواجهة للسلام على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، وسألنا اللَّه له الوسيلة، وأن يجازيه عنا خير ما جازى به نبيًا عن أمته. وصلينا عليه وسلمنا أيضًا على صاحبيه، وعند سلامنا عليه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم خطر في قلوبنا حديث أبي هريرة الذي أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أنه قال:"ما من أحد يسلم علي إلا رد اللَّه روحي حتى أرد عليه السلام" فقلنا في أنفسنا: هذه مزية عظيمة ينالها من سلم عليه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، وهي أن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم يرد عليه السلام، ومعلومٌ أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم لا يرد إلا بمثل التحية أو بأحسن منها، لأن اللَّه أنزل عليه:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء/ 86].
وكان سلامنا عليه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم "السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته" كما روي عن إمامنا مالك رحمه الله أنه كان سلامه.
فقلنا في أنفسنا: إذا كان النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم يرد علينا السلام والرحمة والبركة فهذا أمر عظيم.
ولما خطر في قلوبنا أن هذا الأمر مزية يختص بها من سلَّم على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم حالة القرب من قبره صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، كما فهمه العلماء من حديث أبي هريرة المذكور = تذكرنا في ذلك الموضوع النص الدالَّ أن هذه الفضيلة لا يختص بها من سلَّم عليه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم من قرب، بل دلَّ النص على أن الصلاة والسلام عليه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم في أي ناحيةٍ من مشارق الأرض ومغاربها تحصل بكل منها فضيلة أكبر، وأعظم من المزية المذكورة.
وبيان ذلك أن من صلى على نبينا صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم مرةً واحدةً صلى اللَّه بها عشرًا، ومن سلم عليه مرةً واحدةً سلّم اللَّه عليه بها عشرًا، ولا يخفى أن صلاة اللَّه وسلامه عشر مرات على من سلّم على خير الخلائق وصلى اللَّه عليه صلوات اللَّه وسلامه عليه تترى إلى يوم القيامة أكبر وأعظم من رد النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم على ذلك المسلِّم، ولا نزاع في أن سلام اللَّه تعالى أعظم من سلام النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم.
فاتضح أن فضائل الصلاة والسلام عليه، وسائر أنواع طاعته صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم لا تختص بمكانٍ لا زمانٍ؛ لأنها فضائل منتشرة عامة؛ لعموم الفضل الذي أكرم اللَّه به هذه الأمة على يد نبيها صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، نسأل اللَّه له الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة
والمقام المحمود الذي وعده إنه لا يخلف الميعاد، وأن يجزيه عنا خير ما جازى به نبيًا عن أمته، وأن يمسكنا بسنته حتى نلقى اللَّه غير مفتونين ولا ضالين، إنه قريب مجيب.
واعلم أن ما ذكرنا من أن من صلى عليه -صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم- صلى اللَّه عليه بها عشرًا ثابتٌ عنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم.
ففي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلّى عليّ مرةً صلى اللَّه عليه بها عشزا، ثم سلو اللَّه لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل اللَّه لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي".
وما ذكرنا من أن من سلَّم عليه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم واحدة سلّم اللَّه عليه بها عشرًا وردت فيه أحاديث:
منها ما فيه: "أن من سلم عليه مرة سلم اللَّه عليه عشرًا".
ومنها ما فيه: "أن من سلم عليه سلم اللَّه عليه" من غير ذكر عدد.
ومعلوم أن المطلق الذي لم يقيد بعشر محمولٌ على المقيد بعشر؛ لأن المقيد مفسر للمطلق، كما عليه المحققون من علماء الأصول. وإليه الإشارة بقوله في "مراقي السعود":
وحمل مطلق على ذاك وجب
…
إن فيهما اتحد حكم والسبب
ومن أشهر الأحاديث المقيدة بعشر حديث عبد اللَّه بن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن سليمان مولى الحسن بن علي عن عبيد اللَّه بن أبي طلحة عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أنه جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال:"إنه جاءني جبريل عليه السلام فقال: أما يرضيك يا محمد أنه لا يصلّي عليك أحدٌ من أمتك إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرًا".
ومن الأحاديث التي لم يذكر فيها عدد ما ذكره عياض من رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه الصلاة والسلام قال: "لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن اللَّه يقول من سلّم عليك سلمت عليه، ومن صلّى عليك صليت عليه". قال: ونحوه من رواية أبي هريرة، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعبيد اللَّه بن أبي طلحة
(1)
.
(1)
في آخر الأصل المطبوع هنا ما نصه: هذا آخر ما كتبه المؤلف رحمه اللَّه تعالى. وقد فرغنا من مقابلتها مع أصليها في 25 من رجب عام 1399. وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي.