المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الحكمة في النسخ، هل هي التخفيف - رحلة الحج إلى بيت الله الحرام

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: ‌ الحكمة في النسخ، هل هي التخفيف

وسلم، فبعد وفاته لا يصح النسخ بحال؛ لأنه تشريع جديد، وهو صلوات اللَّه وسلامه عليه لا مشرع بعده، بل لم يبق بعده إلَّا اتباع ما جاء به صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، فظهر منع النسخ بالإجماع. قال في "مراقي السعود":

فلم يكن بالعقل أو مجرد

الإِجماع بل ينمى إلى المستند

ومعنى قوله: "بل ينمى إلى المستند" أنك إذا وجدت في كلامهم: هذا الحكم منسوخ بالإجماع فإنهم يعنون كونه منسوخًا بالنص الذي هو مستند الإجماع؛ إذ لابد للمجمعين من مستند من كتاب أو سنة، وذلك المستند هو الناسخ لا الإجماع نفسه، لأنه لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، وحينئذٍ فلا نسخ لأنه تشريع جديد.

ثم قال لنا القاضي المذكور: ما‌

‌ الحكمة في النسخ، هل هي التخفيف

، أو لا؟

فقلت له: لا، لجواز نسخ الأخف بالأثقل. قال في "مراقي السعود":

* ويُنْسَخُ الخِفُّ بما له ثِقَل *

ومنه نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المدلول عليه بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة/ 184] بإيجاب الصوم المدلول عليه بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة/ 185]، والتخيير بين الصوم والإطعام أخف من إيجاب الصوم.

وقيل في آية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أنها محكمة، وتقدَّر: "لا

ص: 29

يطيقونه"

(1)

فيكون المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه كالهَرِم والزَّمِن فدية طعام مسكين.

والجمهور على القول بأنها منسوخة، والناسخ فيها أثقل من المنسوخ.

ومن نسخ الأخف بالأثقل نسخ حبس الزواني في البيوت المدلول عليه بقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء/ 15] بالجلد والرجم المدلول على الأول منهما بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور/ 2]، وعلى الثاني بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها وهي:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم). والناسخ الذي هو الجلد والرجم أثقل من المنسوخ الذي هو الحبس في البيوت.

قال مقيد هذه الرحلة عفا اللَّه عنه: كون حبس الزواني في البيوت منسوخًا بالجلد والرجم ذهب إليه كثيرٌ من أجلاء العلماء، والذي يظهر أن تسمية ذلك نسخًا فيه نظر، بل هو خطأٌ؛ لأن الحبس في البيوت كان مغيًّا بغاية هي جعل اللَّه لهن سبيلًا، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني قد جعل اللَّه لهن سبيلًا" الحديث، وكما هو صريح الآية الكريمة؛ لأن قوله تعالى:{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ} غاية لقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} ، فالإمساك في البيوت نص جل وعلا على أن له غاية ينتهي إليها، وهي

(1)

في الأصل المطبوع: لا تقبل يطيقونه.

ص: 30

أحد أمرين: الموت أو جعل اللَّه لهن سبيلًا. وقد وجد أحد الأمرين وهو جعل اللَّه لهن السبيل، وقد تقرر عند الأصوليين أن الغاية من المخصصات المتصلة، فالكف عن الصيام عند مجيء الليل مثلًا المدلول عليه بقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة/ 187] ليس ناسخًا لصوم النهار، بل الصوم مغيًّا بغاية هي النهار ينتهى بانتهائها.

وإذ بان لك مما ذى نا أولًا أن الأخف ينسخ بما هو أثقل منه كما عليه جمهور العلماء، ظهر أن حكمة النسخ ليست هي التخفيف.

وقد أورد بعض العلماء على ما ذكرنا من جواز نسخ الأخف بالأثقل إشكالًا قويًّا، وهو أن اللَّه جل وعلا يقول:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة/ 106].

قال: فإن كان الأثقل خيرًا لكثرة الأجر فيه امتنع نسخ الأثقل بالأخف؛ لأنه ليس خيرًا منه ولا مثله، مع أنه جائز وواقع، كنسخ قوله:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران/ 102] بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16]، ونسخ قوله:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة/ 284] بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286]، وكنسخ الاعتداد بحول بأربعة أشهر وعشرًا. والناسخ في الجميع أخف من المنسوخ.

وإن كان الأخف خيرًا لسهولته، امتنع نسخه بالأثقل؛ لأنه ليس خيرًا منه ولا مثله، مع أنه جائز واقع كما قدمنا.

قال مقيد هذه الرحلة عفا اللَّه عنه: لم نر من العلماء من شفى

ص: 31

الغليل في رفع هذا الإشكال، والذي يظهر لنا أن الخيرية تارةً تكون بالتخفيف، وتارةً تكون بالتثقيل، فاللَّه جل وعلا ينسخ الأخف بالأثقل لكثرة الأجر، وينسخ الأثقل بالأخف إذا عسر امتثال الأثقل رحمةً وتخفيفًا، كما في قوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء/ 28]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185].

وإيضاحه بمثاله: أن قوله جل وعلا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة/ 284] لو لم ينسخه اللَّه تعالى بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286] لما نجا من ذلك الحساب أحدٌ؛ لأن ما يخطر في القلوب يعسر التحرز منه جدًّا، فلو استمر تكليفنا بما يخطر في قلوبنا لعسر علينا جدًّا تجنبه ووقعنا في المعصية لا محالة؛ لعسر اجتناب هذا المنهي، وكذلك اتقاؤه {حَقَّ تُقَاتِهِ} لو لم ينسخ بقوله:{مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16] لما قدرنا على الامتثال. فالتخفيف عنَّا به خير لنا، إذ لولاه لوقعنا في المعصية لعسر الاجتناب.

وأما نسخ التخيير بالصوم مثلًا، فلكثرة أجر الصوم، فهو خيرٌ لكثرة أجره، وعامة الناس يقدرون على القيام به من غير تعسر مفرط يكون سببًا لانتهاك الحرمة، وإذا وجد سبب التعسر كالسفر والمرض رفع ذلك التعسر برخصة الإفطار.

والتحقيق في حكمة النسخ أن اللَّه جل وعلا ينيط الحكم والمصالح بالتكليف، فإذا انتهت الحكمة والمصلحة من الخطاب الأول وصارت في غيره، أمر جل وعلا بترك الأول الذي زالت

ص: 32

حكمته، والأخذ بالخطاب الجديد المشتمل على الحكمة الآن، فالمنسوخ وقت العمل به كانت فيه الحكمة والمصلحة، والناسخ هو المشتمل على الحكمة والمصلحة وقت النسخ، كما قال جل وعلا:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل/ 101]، وكما قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة/ 106].

فإن قيل: يزول بهذا التحقيق الإشكال في قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} لكن يبقى الإشكال في قوله {أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة/ 106]. ووجهه أن الأمر الجديد الذي هو الناسخ إذا كان مماثلًا للأول الذي هو المنسوخ، فأيُّ حكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله.

فالجواب: أن الناسخ -وإن كان مثل المنسوخ في حدّ ذاته- لابد أن يكون مستلزمًا لحكمةٍ خارجة عن ذاته، فيكون باعتبار ذاته مماثلًا للمنسوخ، وباعتبار الحكمة اللازمة لذاته الخارجة عنها فيه فائدة ليست في المنسوخ، فيكون مماثلًا للمنسوخ من جهة؛ وخيرًا منه من جهةٍ أخرى.

وإيضاحه بمثاله: أنهم مثلوا لقوله: {أَوْ مِثْلِهَا} بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت اللَّه الحرام، وهما جهتان كلتاهما تماثل الأخرى، ولا فرق بينهما في حد ذاتيهما، إلا أن الناسخ الذي هو استقبال بيت اللَّه الحرام يستلزم حكمة بالغة، وهي دفع حجة اليهود وحجة المشركين على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم.

فاليهود يحتجون عليه بقولهم: "تعيب ديننا وتصلي لقبلتنا"، ويحتجون أيضًا بأن عندهم في كتابهم أنه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم

ص: 33

يؤمر باستقبال بيت المقدس، ثم يحول إلى بيت اللَّه الحرام. فلو لم يحول إليه لقالوا: لست النبي الموعود، لأنه يحول إلى بيت اللَّه الحرام وأنت لم تحول إليه.

والمشركون يقولون: تدَّعي أنك على ملة إبراهيم وتصلي لغير قبلته؟ !

فاستقبال بيت اللَّه الحرام يدفع هذه الحجج.

وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة/ 149 - 150].

فقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} دليلٌ على أن الناسخ مستلزم لحكمة لم تكن في المنسوخ، وإن كانا متماثلين في ذاتيهما. والحكمة في استقبال بيت المقدس أولا هي تمييز قوي الإيمان من ضعيفه، وقت النسخ، كما يدل عليه قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة/ 143].

فالحاصل أن التحقيق في حكمة النسخ إناطة الحكم والمصالح بالأحكام.

وقال بعض العلماء: ومن الحكمة في النسخ الامتحان بكمال

ص: 34

الانقياد والاستسلام، فإن المكلف إذا أمره ربه بأمر فامتثله، ثم أمره بنقيض ذلك الأمر فامتثله أيضًا، كان ذلك دليلًا على كمال انقياده واستسلامه لمولاه جل وعلا. انتهى.

ثم دارت المذاكرة بيني وبين قاضي "تنبدقة" -وهو المحفوظ بن بيه المذكور- في الكلام على الأختين، هل جمعهما في التسري بملك اليمين جائزٌ، أم لا؟

فقلت له: إني سألني قبل ذلك المرحوم الأمير ابن الأمراء محمد محمود بن سيد المختار الحاجي رحمه الله عن الأختين بملك اليمين، هل يجوز التسري بهما، أو لا؟ وما النصوص الدالة على حكم التسري بهما معًا من كتاب أو سنة؟ فأجبته وأوردت جوابي له لقاضي "تنبدقة" وفيه مقنع في حكم وطء الأختين بملك اليمين.

وحاصله أن الأختين بعقدِ نكاحٍ جَمْعُهما حرامٌ بإجماع العلماء، ووطؤهما معًا بملك اليمين حرامٌ عند جميع العلماء، إلا طائفة قليلة، وهي داود بن علي الظاهري ومن تبعه. وما هو شائعٌ من نسبة القول بجوازه إلى الإمام أحمد رحمه الله لا يصح.

أما دليل جمهور العلماء على منع وطء الأختين بملك اليمين فهو قوله تعالى عاطفًا على ما يحرم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23]، وقوله:{الْأُخْتَيْنِ} محلى بـ "أل"، والمحلى بها مفردًا أو تثنية أو جمعًا يعم عند جمهور الأصوليين ما لم يحقق كونها عهدية. قال في "مراقي السعود" عاطفًا على صيغ العموم:

ص: 35

. . . . .

وما معرفًا بأل قد وجدا

أو بإضافة إلى معرف

إذا تحقق الخصوص قد نُفِي

وعموم المعرف بـ "أل" هو مذهب مالك، كما عزاه له القرافي. وقد احتج مالك على من قال: إن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد نبيٍّ بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة/ 187]. قال زكريا: وإنما كان المعرف بقسميه للعموم لتبادره منه إلى الذهن، والتبادر علامه الحقيقة.

وهذا مذهب أكثر أهل الأصول، فلا عبرة بقول أبي هاشم من المعتزلة: إن المعرف بـ "أل" لا يعم مطلقًا احتمل عهدًا أم لا، فهو عنده للجنس الصادق ببعض الأفراد. ولا بقول إمام الحرمين: لا يعم إن احتمل عهدًا. ولا بقوله وقول الغزالي: لا يعم إذا لم يكن واحده بالتاء، كالماء. زاد الغزالي: أو تميَّز

(1)

واحده بالوحدة، كالرجل إذ يقال: رجل واحد، فهو في ذلك للجنس الصادق بالبعض ما لم تقم قرينةٌ على العموم، نحو الدينار خير من الدرهم، لأن كل دينار خير من كل درهم.

وإنما قلنا: لا عبرة بقول من ذكر، لأنه خلاف قول الجمهور.

وإذا حققت أن الجمهور على أن المعرف بـ "أل" يحمل على العموم إلا لدليل يدل على الخصوص، فقوله:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] محلى بـ "أل"، فهو يعم جمعهما بنكاح وملك

(1)

في الأصل المطبوع: إلى تمييز. وانظر: "نشر البنود"(1/ 209).

ص: 36

يمين.

وما ذهب إليه داود بن علي الظاهري من الإباحة استدل عليه بايتين من القرآن العظيم، إحداهما قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون/ 5 - 6] في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وسورة {سَأَلَ سَائِلٌ} ، والآية الثانية قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء/ 24]؛ إذ تقرر عند الأصوليين أن المخصص المتصل كالاستثناء إذا جيء به بعد جمل متعاطفة يرجع لجميعها، وهو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد رحمة اللَّه عليهم؛ فلو قال إنسان:"هذه الدار حَبْسٌ على الفقراء، وبني زهرة، وبني تميم، إلا الفاسق منهم" خرج الفاسق من الجميع، لرجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة في أصول الأئمة الثلاثة، خلافًا لأبي حنيفة القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط. قال في "مراقي السعود":

وكل ما يكون فيه العطف

من قبل الاستثنا فكلًّا يقفو

دون دليل العقل أو ذي السمع

. . . . . . . . . . . .

فبهذا الأصل المقرر الذي هو رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة استدل داود بن علي الظاهري على جواز جمع الأختين بملك اليمين من قوله جل وعلا: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء/ 24]، فإنه جعل الاستثناء الذي هو:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} راجعًا لقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] كرجوعه لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء/

ص: 37

24]، فيكون المعنى: وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم، أي فلا يحرم الجمع فيه بين الأختين.

ووجه استدلال داود بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون/ 5 - 6] أن لفظة "ما" من صيغ العموم، سواء كانت شرطية أو موصولة أو استفهامية. قال في "مراقي السعود" عاطفًا على صيغ العموم:

أين وحيثما ومَنْ أيٌّ وما

شرطًا ووصلًا وسؤالًا أفهما

فقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6، المعارج/ 3] يقتضي بعمومه كانتا أختين أم لا؛ للشمول المدلول عليه بما الموصولة.

وقد تقرر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "أحلتهما آية وحرمتهما أخرى". يعني بالآية المحللة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون/ 5 - 7، المعارج/ 29 - 31]، فقد رفع تعالى الملامة عمن لم يحفظ فرجه عن ملك يمينه، وأطلق، وجعل العداء فيما وراء ذلك، وأطلق. ويعني بالآية المحرمة قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23].

وقد كان مقيد هذه الرحلة عفا اللَّه عنه أيام درسه لفن أصول الفقه يشكل عليه جواب الجمهور عن استدلال الظاهرية بالآيتين المذكورتين على إباحة جمع الأختين بملك اليمين، ولم يزل يبحث عنه حتى حرر الجواب المقنع عن الاستدلال بهما.

ص: 38

وحاصل تحرير المقام فيهما هو ما ستراه:

أما في آية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 5 - 6، المعارج/ 29 - 30] فإن بين قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وبين قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} عمومًا وخصوصًا من وجهٍ يحصل التعارض بينهما في جمع الأختين بملك اليمين بحسب ما يظهر للناظر، وإلا فالقرآن ما نزل ليضرب بعضه بعضًا، ولا ليكذبه، بل نزل ليوافق بعضه بعضًا ويصدقه.

وقد تقرر عند الأصوليين أن النصين إذا كان بينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ تعارضا في الصورة التي يجتمعان فيها، ووجب المصير إلى الترجيح، فإن رجّح أحدهما وجب العمل به إجماعًا. قال في "مراقي السعود":

وإن يك العموم من وجه ظهر

فالحكم بالترجيح حتمًا معتبر

والعمل بالراجح إذا كان رجحانه قطعيًّا لا خلاف فيه بين العلماء، وكذا إذا كان ظنيًّا عند الجميع، إلا القاضي أبا بكر من المالكية، فالراجح رجحانًا ظنيًّا لا يجب العمل به عنده. قال في "مراقي السعود":

وعملٌ به أباه القاضي

إذا به الظن يكون القاضي

وهو محجوج بالإجماع.

فإذا حققت ذلك فاعلم أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} أرجح من عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من أربعة أوجه كلها كاف وحده

ص: 39

في الترجيح:

الأول: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} نص في محل القضية لإبانة الحكم؛ لأن السورة "سورة النساء" والمحل محل ذكر

المحرمات منهن، حيث قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء/ 23] إلى أن قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، وأما قوله:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6، المعارج/ 30] فمساق الآية في ذكر صفات المتقين، فذكر منها حفظ الفرج، ولمَّا ذكره منها ذكر أنه لا يلزم في الزوجة والسرية. وقد تقرر عند الأصوليين أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها.

الوجه الثاني: أن {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6، المعارج/ 30] ليس باقيًا على عمومه، بل هو عام مخصوص بإجماع العلماء؛ لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعًا؛ لأن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} بلا خلاف، وكذلك موطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعًا؛ لأن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء/ 22] بإجماع العلماء.

والعام الذي لم يدخله تخصيص مقدم على العام الذي دخله تخصيص عند المحققين من الأصوليين. وإن قال طائفة من الأصوليين بترجيح العام الذي دخله تخصيص، كما أشار لذلك الخلاف في "مراقي السعود" في المرجحات بقوله:

تقديم ما خُصَّ على ما لم يُخَصّ

وعكسه كلٌّ أتى عليه نص

ص: 40

والتحقيق أن العام الذي لم يدخله تخصيص مقدم على العام الذي دخله تخصيص؛ لأن العام الذي دخله تخصيص إذا كان عامًّا مرادًا به الخصوص فهو مجاز عند القائلين بالمجاز في القرآن قولًا واحدًا، وإن كان عامًا مخصوصًا فهو مجاز عند بعضهم، كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله:

والثانيَ اعْزُ للمجاز جزما

وذاك للأصل وفرعٍ يُنْمَى

والعام الذي لم يدخله تخصيص حقيقةٌ قولًا واحدًا، وما هو حقيقة بالاتفاق أولى بالاعتبار مما قيل فيه: إنه مجاز.

الثالث: أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} جيء به في معرض مدح المتقي، والعام الوارد في مدح أو ذم اختلف فيه الأصوليون، هل يكون عامًّا، أم لا؟ وإن كان جل الأصوليين على أنه على عمومه، وأن وروده في معرض المدح أو الذم لا يجعله خاصًا، كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله:

وما أتى للمدح أو للذم

يعم عند جل أهل العلم

وكون العام الذي سيق لمدح أو ذم يجعله ذلك خاصًا، عزاه غير واحد للشافعي؛ لأنه سيق لقصد المبالغة في الحث أو الزجر، ولهذا منع التمسك بقوله:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة/ 34] الآية في وجوب زكاة الحلي.

فالعام الذي لم يرد لمدح ولا ذم مجمع على عمومه، والوارد لمدح أو ذم مختلف فيه، والمجمع عليه أولى من المختلف فيه.

ص: 41

الوجه الرابع: أنا لو سلمنا أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6، المعارج/ 30] يقاوم عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] كما روي عن عثمان رضي الله عنه، فالأصل في الفروج التحريم حتى يدل دليل جازم سالم من المعارض على الإباحة، إذ لا يجوز الإقدام على فرج مشكوك في حلِّيته كما هو ظاهر.

فهذه الأوجه الأربعة التي بيّنا، يظهر بها رد استدلال الظاهرية بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين.

وأما الجواب عن استدلالهم بالآية الثانية التي هي {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء/ 24] فهو ما حققه بعض المتأخرين من الأصوليين، كابن الحاجب والآمدي والغزالي، وهو أن الاستثناء الآتي بعد جمل متعاطفة الحكم فيه الوقف، وألا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة فقط إلا بدليل منفصل، فالاستثناء بمجرده ليس بنص في الرجوع إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة.

وإنما قلنا بأن هذا المذهب هو التحقيق لشهادة القرآن العظيم له في آيات كثيرة؛ فمن ذلك قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء/ 92] فالاستثناء راجع للدية لسقوطها بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولًا واحدا؛ لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.

ومن ذلك قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور/ 54] فالاستثناء لا يرجع لقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ؛ لأن القاذف إذا تاب لا تُسْقِطُ عنه توبتُه

ص: 42

حدَّ القذف، ولا يرجع الاستثناء في الآية عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله لقبول الشهادة جريًا على أصله من رجوعه للجملة الأخيرة فقط.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء/ 89 - 90] الآية. فالاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} لا يرجع قولًا واحدًا للجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه التي هي قوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} إذ لا يجوز اتخاذ وليٍّ ولا نصير من الكفار ولو وصلوا إلى قومِ بينكم وبينهم ميثاق. بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} [النساء/ 89]. والمعنى: فخذوهم واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم؛ لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم، كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه الآية نزلت فيه، وفي سراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر. ولا يرجع الاستثناء لقوله:{وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} لأن اتخاذ وليٍّ أو نصير من الكفار ممنوع مطلقًا لا يُستثنى منه شيءٌ.

وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع للجملة التي هي أقرب الجمل منه فلا يكون نصًا في الرجوع لغيرها بالأحرى.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} [النساء/ 83] فالاستثناء غير راجع

ص: 43

للجملة الأخيرة التي يليها أعنى جملة {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} لأنه لو رجع لها لكان المعنى: أنه لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لضللتم باتباع الشيطان إلا قليلًا فلا يضل ولا يتبع الشيطان لعدم حاجته إلى فضل اللَّه ورحمته. بل {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} كُلًّا بحيث لم ينج منكم أحدٌ، لا قليل ولا كثير.

والعلماء مختلفون في مرجع هذا الاستثناء. فقيل: راجع لقوله تعالي: {أَذَاعُوا بِهِ} . وقيل: راجع لقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .

فإذا لم يرجع الاستثناء للجملة التي تواليه، فلا يكون نصًّا في أنه راجع إلى غيرها بالأحرى.

وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها، وعليه فالمعنى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} ببعثه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الحقيقة السمحة {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأصنام {إِلَّا قَلِيلًا (83)} ممن كانوا على ملة إبراهيم، كورقة بن نوفل، وزيد بن نفيل، وقس بن ساعدة، وأضرابهم.

وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} هو أن معناه: لاتبعتم الشيطان كُلًّا.

والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم، واستدل القائل بهذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:

ص: 44