الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشمُّ كثيرُ يُدِيِّ النَّوالِ
…
قليل المثالب والقادحه
(1)
لأن معنى قوله: "قليل المثالب والقادحة" أنه لا مثلبة فيه ولا قادحة أصلًا.
فهذا هو جوابنا عن السؤال الأول والأخير عن حكم جمع الأختين بملك اليمين.
ثم سألنا تلامذة قاضي "تنبدقة" المذكور عن
كيفية تركيب القياس الاقتراني
.
فأوضحنا لهم كيفية تركيبه على الوجه الذي تلزم منه النتيجة باندراج الأصغر في الأوسط، والأوسط في الأكبر، وكيفية رجوع الشكل الثاني إلى الشكل الأول بعكس كبراه العكس المستوي، وكيفية رجوع الشكل الثالث إلى الأول بعكس صغراه العكس المستوي، وكيفية رجوع الشكل الرابع إلى الأول بعكس كلتا مقدمتيه العكس المستوي.
ثم في أيامنا عند قاضي "تنبدقة" اختصم إليه رجلان في بعير باعه أحدهما للآخر بالوصف، ثم اختلفا هل هو على الوصف الذي بيع عليه، فالبائع يقول: هو عليه، والمشتري يقول: لا. فقال القاضي للمشتري: هات بينتك على أنه ليس على الوصف. فقال له المشتري: أعليَّ البينة؟ فقال له: نعم. ثم سألني القاضي: هل هذا الذي قال هو
(1)
ورد صدر البيت في الأصل المطبوع: أشم ندى كثير النوادي. وانظر: ديوان الطرماح (139)، وتعليق محمود شاكر على تفسير الطبري (8/ 577).
الحكم أم لا؟ فقلت له: إن الذيمما أعرف في دواوين فروع المالكية إنما هو خلافه، وأن البينة على البائع أنه على الوصف. فقال لي: ألم يقل خليل في "مختصره": "وبقاء الصفة إن شك". فقلت له: بلى، ولكن ذلك في المبيع برؤية متقدمة خاصة، أما الغائب المبيع بالوصف فالقول فيه قول المشتري، كما قال مقيد هذه الرحلة عفا اللَّه عنه في "نظمه الكبير في فروع الإمام مالك رحمه الله":
والبيع إن بالوصف لا بالنظر
…
فالقول في الصفة قول المشتري
وكما نص عليه الحطاب -عند قول خليل في مختصره: "وغائب. . . الخ"-: "وفرقوا بين الغائب المبيع برؤية متقدمة وبين الغائب المبيع بالوصف بأن المبيع برؤية متقدمة تحقق أنه كان على الوصف الذي انعقد عليه البيع فيجب استصحابه حتى يتبين نفيه، والمبيع بالوصف لم يثبت فيه وجود الوصف الذي وقع عليه البيع أصلًا، فهو منفي لم يثبت فيه وجود الوصف الذي وقع عليه البيع أصلًا، فهو منفي حتى يثبت وجوده".
فراجع القاضي المذكور النظر في كتب المالكية فوجد ما قلت له صحيحًا.
ثم ارتحلنا من "تنبدقة" عشية في أخريات رجب الفرد متوجهين إلى قرية "النعمة"، وشيعنا جماعة من أهل "تنبدقة" فيهم القاضي، وأهدى لنا قاضيها هدية قدر طاقته، فوصلنا قرية "النعمة" في ليالٍ قلائل، ونحن على جمالنا، ونزلنا عند تاجر من بني عمنا قاطن في قرية "النعمة" اسمه سالم بن الطيب، فاجتمع علينا تجار من قبيلتنا
الجكنيين كانوا في تلك البلاد، وجمعوا لنا هدايا سنية، ومكثنا في قرية "النعمة" إحدى عشرة ليلة في غاية الإكرام والتبجيل بحمد اللَّه الكريم الجليل، وزارنا بعض من فيها من الفضلاء وسألونا عن مسائل، منها: مسألة سلم الكاغد المتعامل به في فلوس النحاس؛ فأجبناهم بالجواب المتقدم.
ومما سألونا عنه تحقيق النسبة التي بين القدم والأزل في اصطلاح المتكلمين، وأن نكتب لهم كلامًا في ذلك.
فأجبناهم بأن بعض المحققين من المتكلمين ذكر أن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فالأزل أعم مطلقًا، والقدم أخص مطلقًا.
وإيضاح ذلك: أن الأزل في اصطلاح المتكلمين عبارةٌ عما لا افتتاح له مطلقًا، وجوديًّا كان أو عدميًّا، فالأزلي عندهم وجودي وعدمي.
فالأزلي الوجودي: ذات مولانا جل وعلا، وصفاته الوجودية العلية. والأزلي العدمي: هو إعدام ما سوى اللَّه؛ فإن الحوادث كانت معدومة قبل إيجاد اللَّه لها، وعدمها السابق أزلي لا أول له، فعدم كل ما سوى اللَّه أزلي؛ إذ لم يكن له أول لأنه كان اللَّه ولا شيء معه.
والقدم في اصطلاح المتكلمين: سلب العدم السابق عن الوجود، وإن شئت قلت: سلب الأولية عن الوجود، فلا يوصف بالقدم إلا موجود، وهو ذات مولانا جل وعلا وصفاته العلية، ولا يوصف العدم
بالقدم في اصطلاحهم، فلا تقول: عدم ما سوى اللَّه قديم، وإنما تقول: أزلي.
فتحصل أن الأزلي ما لم يكن له أول، وجودًا كان أو عدمًا، والقديم ما لم يكن له أول بقيد الوجود خاصة، وإلى هذا التحقيق أشار علامة زمانه بلا نزاع ابن عمنا المختار بن بونه الجكني في كتابه المنظوم المسمى "وسيلة السعادة" بقوله:
واعلم بأن قِدَمًا مِنْ أزل
…
أخصُّ إذ كل قديم أزلي
من غير عكس وكذا حكم البقا
…
مع حكم الاستمرار فيما حققا
لأنه خص البقاءَ والقدم
…
بذي وجود دون أمر ذي عدم
والأزلي والمستمر عما
…
كلا فكل بهما يسمى
ومما سألونا عنه مذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها، كقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف/ 54، يونس/ 3، الرعد/ 2، الفرقان/ 59، السجدة/ 4، الحديد/ 4]، وقوله جل وعلا:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح/ 10]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن"، ونحو ذلك.
فأجبناهم بأن المذهب الذي يسلم صاحبه من ورطتي التعطيل والتشبيه هو مذهب سلف هذه الأمة من الصحابة والقوون المشهود لهم بالخير وأئمة المذاهب وعامة أهل الحديث، وهو الذي لا شك أنه الحق الذي لاغبار عليه، وضابطه مجانبة أمرين، وهما: التعطيل والتشبيه.
فمجانبة التعطيل هي أن تثبت للَّه جل وعلا كل وصف أثبته لنفسه، أو أثبته له نبيه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، إذ من الضروري أنه لا يصف اللَّه أعلم باللَّه من اللَّه، ولا من رسوله صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/ 4]{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة/ 140]{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء/ 87]{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} [النساء/ 122].
ومجانبة التشبيه هي أن تعلم أن كل وصف أثبته اللَّه جل وعلا لنفسه، أو أثبته له نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو ثابت له حقيقة على الوجه البالغ من كمال العلو والرفعة والشرف ما يقطع علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى/ 11]{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [النحل/ 74]{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص/ 4].
ومن المعلوم أن تغاير الموصوفين يلزمه تغاير صفاتهم، فإذا ثبت عند من ينكر بعض صفاته تعالى أنه جل شأنه ذاته مخالفة لسائر الذوات، فأي وجه لاستشكاله أنه موصوف بصفات مخالفة لسائر
صفات الحوادث، ومن العجيب أن من ينكر بعض الصفات مقر ببعضها مع عدم الفرق بين ما أنكره وما أقرَّ به.
فالمعتزلة مقرُّون بالصفات المعنوية في اصطلاح المتكلمين، وبالصفات السلبية في اصطلاحهم، وغيرهم مقرُّون بصفات المعاني التي تستلزم المعنويات، والجميع مقر بالصفات الجامعة وبصفات الأفعال التي اختلف فيها أهل الكلام، هل هي صفات ذاتية أو فعلية؟
كالرأفة والرحمة، وكل هذا التقسيم على اصطلاح المتكلمين، وإنما جئنا بتقسيم الصفات على اصطلاحهم لنبين خطأ المفرقين منهم بين صفاته جل وعلا بإثبات البعض ونفي البعض، وأنه لا فرق بينها البتة.
فصفات المعاني في اصطلاح المتكلمين هي الصفات الوجودية القائمة بالذات، والنافون لبعض الصفات يقرون بسبعة من المعاني، وهي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام.
والمعتزلة منهم ينكرون هذه المعاني السبعة، ويثبتون لوازمها التي هي المعنويات، وهي في اصطلاح المتكلمين كونه تعالى قادرًا ومريدًا وعليمًا وحيًا وسميعًا وبصيرًا ومتكلمًا.
فالمعتزلة يقولون: هو قادر بذاته لا بقدرة قائمة بالذات، وهكذا. . . وهو فرار منهم من تعدد القديم، ومذهبهم ظاهر البطلان، لأن الوصف المشتق منه إذا عدم استحال الاشتقاق عقلًا ضرورة. قال في "مراقي السعود":
وعند فقد الوصف لا يشتق
…
وأعوز المعتزليَّ الحقُّ
فكونه تعالى قادرًا الذي يعترف به المعتزلة -مثلًا- اسمُ فاعل من القدرة، واسم الفاعل إذا حللته انحل إلى ذاتٍ متصفةٍ بالمصدر، فإذا لم يقم المصدر بالذات استحال كونها فاعلة ضرورة، فالضارب مثلًا ذات اتصفت بوقوع الضرب منها. والأسود مثلًا ذات اتصفت بالسواد. فإذا لم يحصل في الذات ضرب ولا سواد استحال كونها ضاربة أو سوداء بغير ضرب ولا سواد.
وكذلك -وللَّه المثل الأعلى- لو لم تقم بذاته جل وعلا القدرة والإرادة والعلم لاستحال كونه تعالى قادرًا بلا قدرة، مريدًا بلا إرادة، عليمًا بلا علم، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
فإذا حققت هذا المقام فاعلم بأنهم مقرون بأنه وصف نفسه جل وعلا بالقدرة فقال: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة/ 284]، ووصف الحادث بها فقال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة/ 34].
ووصف نفسه جل وعلا بالإرادة فقال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج/ 16]، وقال:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس/ 82]، ووصف الحادث بها فقال:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال/ 67]{إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب/ 13]{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف/ 8]، بل نسبها لغير العاقل أصلًا في قوله:{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف/ 77].
[ووصف نفسه بالعلم، فقال: ]
(1)
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)} [البقرة/ 282]، ووصف الحادث به فقال:{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)} [الحجر/ 53].
ووصف نفسه بالحياة فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} [آل عمران/ 2]{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر/ 65]{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان/ 58]، ووصف الحادث بها فقال: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ
(1)
ما بين المعكوفين ساقط من الأصل المطبوع، والسياق يقتضيه.
يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم/ 15]{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء/ 30].
ووصف نفسه جل وعلا بالسمع والبصر فقال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج/ 75]، ووصف الحادث بهما فقال:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان/ 2].
ووصف نفسه جل وعلا بالكلام فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء/ 164 {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف/ 144]{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة/ 6]، ووصف الحادث به فقال جل وعلا:{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس/ 65]{فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} [يوسف/ 54].
فهذه المعنويات السبع التي يقر بها المعتزلة وغيرهم المستلزمة بالضرورة لصفات المعاني التي أنكرها المعتزلة ليست واحدة منها إلا وجاء في القرآن العظيم وصف الخالق والمخلوق بها، وهم لا ينكرون ذلك، بل يقرون أنها ثابتة للَّه حقيقة، وثابتة للحادث حقيقة، إلا أنها من حيث كونها صفة له جل وعلا مخالفة لها من حيث كونها صفة للمخلوق، كمخالفة ذاته جل وعلا لذوات خلقه. فلم يحتاجوا لنفي السمع والبصر مثلًا عنه جل وعلا خوفًا من مشابهة الحوادث المتصفة بالسمع والبصر، ولم يؤولوا سمعه وبصره بغير معناهما، مقرين بأنه متصف حقيقة بالسمع والبصر، وأن سمعه وبصره جل وعلا مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم كمخالفة ذاته جل وعلا لذواتهم.
وهذا الذي ذكرنا في المعاني والمعنويات على اصطلاحهم مثله
أيضًا في الصفات السلبية عندهم.
وإيضاحه: أن الصفة السلبية في اصطلاح المتكلمين هي: كل صفة كان مدلولها المطابقي سلب ما لا يليق باللَّه عن اللَّه جل وعلا.
والسلبيات عندهم خمس صفات، وهي: القدم، والبقاء، والمخالفة للخلق، والقيام بالنفس الذي هو الغنى المطلق عندهم، والوحدانية. مع أن بعضهم يقول في القدم والبقاء: إنهما من المعاني. وبعضهم يقول: نفسيتان. وبعضهم يقول في الوحدانية: إنها صفة معنى.
وجمهورهم على أن الخمس المذكورة صفات سلبية، وإنما سموها سلبية لأن معناها عندهم سلب ما لا يليق باللَّه عن اللَّه، وهذا السلب هو مدلولها المطابقي.
فمعنى القدم مثلًا عندهم بدلالة المطابقة هو سلب الحدوث عن اللَّه، أي نفيه عنه جل وعلا، والحدوث هو الطروء بعد عدم، ولا معنى للقدم عندهم إلا نفي الحدوث عنه جل وعلا، فمدلوله المطابقي ليس أمرًا وجوديًّا، بل معناه نفي الحدوث عنه جل وعلا.
والفرق عندهم بين القدم والبقاء مثلًا مع القدرة والإرادة مثلًا، فالأوليان عندهم من الصفات السلبية، والأخريان من صفات المعاني، مع أن القدرة سالبة لضدها الذي هو العجز، والإرادة سالبة لضدها الذي هو الكراهة، كما أن القدم سالب لضده الذي هو الحدوث، والبقاء سالب لضده الذي هو الفناء، وأن سلب القدرة والإرادة
ضديهما بواسطة مقدمة عقلية، بخلاف سلب القدم والبقاء ضديهما فبأصل الوضع؛ إذ سلب ضديهما بهما هو المعنى المدلوك عليه بالمطابقة.
وإيضاحه أنهم يقولون: إن مادة القاف والدال والراء من لفظ القدرة تدل بأصل الوضح على معنى وجودي قائم بالذات، يتأتى به إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة، لكن إذا تعقلت النفس قيام هذا المعنى الوجودي الذي هو القدرة مثلًا بالذات، تعقلت انتفاء العجز عنها بواسطة مقدمة عقلية، وهي استحالة اجتماع الضدين، فقيام القدرة مثلًا بالذات يلزمه انتفاء العجز عنها ضرورةً؛ لاستحالة اجتماع الضدين عقلًا، فسلب القدرة للعجز مثلًا لا بأصل الوضح، بل من حيث إن القدرة التي هي المعنى الوجودي القائم بالذات يلزم من وجودها انتفاء العجز؛ لاستحالة اجتماع الضدين عقلًا، بخلاف القدم مثلًا فسلبه للحدوث الذي هو ضده إنما هو بأصل الوضع؛ لأن معنى القدم عندهم هو انتفاء الحدوث، ولا تدل مادة القاف والدال والميم من لفظ القدم على معنى وجودي، بل معناه المطابقي نفي الحدوث عندهم، وقس على القدرة باقي المعاني، وعلى القدم باقي السلبيات.
فإذا عرفت كلامهم هذا فاعلم أن الصفات السلبية في اصطلاحهم جاء في القرآن العظيم وصف الخالق والمخلوق بها، فالقدم والبقاء اللذان أثبتهما المتكلمون للَّه تعالى، قائلين إنه أثبتهما لنفسه بقوله:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد/ 3] وصف اللَّه بهما الحادث في القرآن العظيم فقال: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} [يس/ 39] {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ
الْقَدِيمِ (95)} [يوسف/ 95] وقال في البقاء: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات/ 77].
وكذلك الأولية والآخرية الملفوظتان في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} وصف اللَّه بهما الحوادث فقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)} [المرسلات/ 16 - 17].
وكذلك الغنى من السلبيات وصف اللَّه به نفسه فقال: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر/ 15]{وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن/ 6]، ووصف به الحادث فقال:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء/ 6].
وكذلك الوحدانية من الصفات السلبية وصف بها نفسه فقال جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة/ 163] ووصف الحادث بها فقال: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد/ 4].
فهذه الصفات السلبية عندهم لم تبق واحدةٌ منها إلا جاء في القرآن العظيم وصف الخالق والمحلوق بها ما عدا المخالفة للخلق الثابتة بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى/ 11] وبقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل/ 74] وبقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص/ 4].
والمتكلمون مقرُّون بأن هذه الصفات يوصف بها اللَّه حقيقة، وتوصف بها الحوادث حقيقة، ووصف اللَّه مخالفٌ لوصف غيره من خلقه كمخالفة ذاته لذوات خلقه، ولم ينفوها ولم يؤولوها.
وكذلك الصفات الجامعة، كالعظمة، والكبر، والعلو، والملك،
وصف بها نفسه جل وعلا، ووصف بها الحوادث فقال في وصف نفسه جل وعلا بالعلو والعظمة:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة/ 255]، وقال في وصف نفسه بالعلو والكِبَر:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء/ 134]{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9]، وقال في وصف نفسه بالملك:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} [الجمعة/ 1]. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر/ 23]، وقال في وصف الحادث بالعظمة:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور/ 15]{إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)} [الإسراء/ 40]، {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء/ 63]، وقال في وصف الحادث بالعلو:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)} [مريم/ 50] وقال في وصف الحادث بالكبر:{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} [هود/ 11]، {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال/ 73]، {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء/ 31]، {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة/ 219]، وقال في وصف الحادث بالملك:{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف/ 43]{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف/ 54]، وقال:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل/ 34] لأنه تصديقِ من اللَّه لقول بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل/ 34].
فكل هذه الصفات يقرون بثبوتها للَّه حقيقة، وبثبوتها للحادث حقيقةً أيضًا، إلا أن ما وصف اللَّه به منها مخالفٌ لما وصف به الحادث كمخالفة ذاته جل وعلا لغيرها من ذوات الخلق، ومن المعلوم أن تباين
الموصوفين مقتضٍ لتباين الصفات، ولم ينفوا هذه الصفات ولم يصرفوها عن ظاهرها بالتأويل خوفًا من مشابهة الحوادث المتصفة بها، بل أثبتوها للَّه تعالى قائلين: إنها مخالفة لصفات الحوادث كمخالفة ذاته تعالى لذواتهم.
وكذلك الصفات التي اختلف فيها أهل الكلام، هل هي من الصفات الذاتية، أو من الصفات الفعلية؟ فإنه جاء في القرآن العظيم وصف الخالق والمخلوق بها، فقد وصف جل وعلا نفسه بالرأفة والرحمة فقال:{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)} [النحل/ 7]، ووصف الحادث بهما فقال في وصف نبينا صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم:{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة/ 128]، ووصف نفسه جل وعلا بالحلم فقال:{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحج: 59]، ووصف الحادث به فقال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات/ 101]{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة/ 114].
وأما صفة الفعل فوصفُ الخالق والمخلوق بها في القرآن العظيم واضح، وقد جمع مثالهما قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال / 17].
ولم يبق من الصفات على طريق المتكلمين في تقسيمهم لها إلا الصفة النفسية، وهي عندهم واحدة، وهي: الوجود، وبعضهم يقول: الوجود هي نفس الذات. فلم يعدَّه صفةً. وعلى عدِّهم له صفة نفسية فلا يخفى أن جميع العقلاء من الكفار والمسلمين مقرون بأنه تعالى
موجود، وأن الحوادث موجودة، والنافون لبعض صفاته تعالى معترفون بوجوده، ووجود الحوادث، إلا أن وجوده جل وعلا مخالف لوجود الخلق، ومحاولة الملاحدة القائلين بالوحدة المطلقة نفي وجود الحوادث مكابرةٌ ظاهرةٌ لا يستحق القائل بها أن يجاب. والوجود عند المتكلمين ضد العدم، والعدم عبارة عن لا شيء، والشيء عندهم مرادفٌ للوجود، فالمعدوم ليس بشيء.
فتحصل أن المتكلمين يقسمون الصفات إلى ستة أقسام، وهي: نفسية، وسلبية، ومعنى، ومعنوية، وصفة فعل، وصفة جامعة. وكل واحدٍ من الأقسام الستة يقرون بوصف الخالق والمخلوق به، إلا أن وصف اللَّه مخالفٌ لوصف المخلوق كمخالفة ذاته لذات المخلوق، ومع هذا ينكرون بعض الصفات كالاستواء واليد، ولو قالوا فيها ما قالوا فيما أقروا به من الصفات لأصابوا الصواب، وسلموا من التعطيل والتشبيه، على أن قولهم: إن في صفات اللَّه جل وعلا نفسية، بالغ من الجرأة على اللَّه تعالى ما اللَّه عالم به، ولا يخفى على المطلع على القوانين المنطقية والكلامية.
وإيضاح ذلك أن الصفة النفسية عندهم هي التي لا يمكن تعقُّل الذات بدونها، كالنطق بالنسبة للإنسان؛ لأن الإنسان عندهم لا يمكن تعقُّله ممن لم يعقله بطريق التعريف إلا بالنطق، يقولون: لو عُرِّفَ بأنه جسم لشاركه الحجر، فلو زيد في التعريف كونه حساسًا لشاركه الفرس مثلًا، فلو عُرِّف بأنه منتصب القامة يمشي على اثنين لشاركه الطير، فلو زيد كونه لا ريش له لشاركه منتوف الريش وساقطه من الطير، فلو عرف
بأنه الناطق تميز عن غيره عندهم. والنطق عندهم القوة المفكرة التي يقتدر بها على إدراك العلوم والآراء، لا نفس الكلام.
فلو اعترض عليهم بإمكان تعريفه، بكونه ضاحكًا أو كاتبًا؛ لأن الضحك والكتابة خاصتان من خواصه، فجوابهم أنهم يقولون: الضحك حالة تعرض عند التعجب من أمر بعد أن تتفكر فيه القوة الناطقة، والكتابة نقوش على هيئات معينة لا توجد إلا بتفكير القوة الناطقة، فالضحك والكتابة فرعان عن النطق، فانحصر عندهم موجب التعريف بالأصالة في النطق.
والصفة النفسية عندهم جزء من الماهية، ولا تكون أبدًا إلا جنسًا أو فصلًا؛ لأن جزء الماهية عندهم إما مساو لها في الماصدق، أو أعم منها، فإن كان مساويًا لها فهو الفصل، كـ "الناطق" بالنسبة للإنسان. فإن الناطق والإنسان متساويان ماصدقًا، والناطق جزء من ماهية الإنسان؛ لأنها مركبة عندهم من حيوان وناطق، وإن كان أعم منها فهو الجنس، كالحيوان بالنسبة للإنسان، لأن الحيوان أعم من الإنسان، وهو جزء من ماهية الإنسان المركب من حيوان وناطق عندهم، فالأعم جزء من ذات الأخص، والأخص فرد من أفراد الأعم، وجزؤها المساويها عندهم مقوم لها، مقسم لجزئها الذي هو أعم منها.
فالفصل عندهم مقوِّم للنوع، مقسم للجنس، فالنوع مثلًا: هو الإنسان، والجنس مثلًا: هو الحيوان، والفصل مثلًا: هو الناطق، فالناطق مقوم للإنسان بمعنى أن حقيقة الإنسانية لا تتقوم إلا بالنطق، لأنه صفتها النفسية التي لا تعقل بدونها عندهم كما تقدم. فالإنسانية
عندهم دون النطق محال لاستحالة انفكاك الماهية من جزئها، وتقدم أن النطق عندهم القوة المفكرة لا الكلام، والناطق مقسم للحيوان، أي قسم من أقسامه؛ لأنك تقول: الحيوان ينقسم إلى ناطق وغير ناطق، فالفصول التي هي عندهم المميزات الذاتية مقومة للأنواع، مقسمة للأجناس كما بيّنا.
وإيضاح المقام أن الماهية عندهم مركبة من جنسها وفصلها فهما جُزءاها. وأحدهما: أعم منها ماصدقًا وهو الجنس. والثاني: مساوٍ لها ماصدقًا وهو الفصل، وهما صفتاها النفسيتان.
فإذا حققت أن الصفة النفسية في اصطلاحهم جزء من الماهية، وجُزءاها منحصران في الجنس والفصل، وحققت أن ذات اللَّه جل وعلا يستحيل عقلًا ونقلًا في حقها الجنس والفصل؛ لأن الجنس لا يكون إلا كليًّا مشتركًا بين ماهيات كالحيوان، فإن الكلِّي هو القدر المشترك بين الإنسان والفرس مثلا، وحقيقة الألوهية لا يشترك مع اللَّه فيها غيره البتة {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة/ 163] والفصل لا يكون إلا كليًّا مميزًا لبعض أفراد الجنس التي هي الأنواع عن بعض، لأن الأنواع مشتركة في الجنس تتمايز فيما بينها بفصولها، ففصل الإنسان عندهم الناطق، وفصل الفرس الصاهل، وفصل الحمار الناهق. وقس على ذلك.
وإنما سموا الفصل فصلًا؛ لأن به فصل النوع عما يشاركه من الأنواع في الجنس، فالإنسان والفرس مثلًا مشتركان في الحيوانية التي هي عندهم مركبة من جسمية ونمائية وحساسية، والجسمية عندهم
تستلزم الجوهرية الفردية؛ لأن الجسم عندهم ما تألف من جوهرين فردين فصاعدًا، وإذا كان الإنسان والفرس مثلًا يشتركان في كون كل منهما جسمًا ناميًا حساسًا، ففصل الإنسان الذي انفصل به عن الفرس المشارك له فيما ذكر إنما هو الناطق، كما أن فصل الفرس الذي انفصل به عن الإنسان المشارك له فيما ذكر إنما هو الصاهل.
والغرض عندنا هنا إيضاح أن الصفة النفسية في اصطلاحهم مستلزمة للجنسية والنوعية استيعاب مباحث الجنس والفصل، فإذا حققت بما ذكرنا: أن الصفة النفسية في اصطلاحهم مستلزمة للجنسية والنوعية علمت أن إطلاقها في حق اللَّه الأحد الصمد جل وعلا فيه ما فيه، وأنه مضاد لما تضمنته "سورة الإخلاص" من توحيده تعالى في ذاته وصفاته جل شأنه، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره، فليس له نظير ولا شبيه حتى يدخل معه في جنس، أو يتميز عنه بفصل، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى/ 11].
ثم إذا حققت جميع ما قدمنا من أن كل صفة من الصفات على تقسيم المتكلمين لها، جاء في القرآن العظيم وصف الخالق والمخلوق بها، فاعلم أن الاستواء على العرش ونحوه من الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، كاليدين كذلك، فإذا لم يشكل عليك قوله:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج/ 75] في وصفه لنفسه جل وعلا مع قوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان/ 2] في وصف الإنسان، فكيف يشكل عليك قوله جل وعلا في وصف نفسه:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
[الأعراف/ 54] مع قوله في وصف المخلوق: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون/ 128]، {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف/ 13]، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود/ 44]، وقوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح/ 10]؟ فأي فرق بين المقامين؟ وهلا قلتم في الاستواء واليد وغيرهما ما قلتم في السمع والبصر من أنهما ثابتان للَّه حقيقة، وللحوادث أيضًا حقيقة، مع أن الوصف الثابت له جل وعلا مخالف للوصف الثابت لغيره، كمخالفة ذاته جل وعلا لغيرها من ذوات الحوادث.
والفرق بين الصفات بإثبات البعض ونفى البعض لا وجه له البتة كما هو واضح مما كتبنا، والقائل به يقال له: ما لِبائك تَجُرُّ وبائي لا تَجُر؟ !
فتحصل أن المسلك الذي لا شك أنه الحق أن كل ما وصف اللَّه به نفسه جل وعلا، أو وصفه به نبيه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم نثبته له؛ إذ هو أعلم بنفسه منا، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم به منا، ولا يخطر في عقولنا أن ذلك الوصف الثابت للَّه يشابه صفات المخلوقين؛ لأن من أثبت للَّه ما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم معتقدًا تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق، سَلِمَ من ورطتي المعطيل والمَشبيه، ومن خطر في عقله أن الوصف الذي وصف اللَّه به نفسه جل وعلا، أو وصفه به نبيه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم مشابهٌ لصفات الحوادث، فحمله ذلك على نفيه بالتأويل، فقد ارتطم في ورطتي التشبيه والتعطيل؛ لأنه شَبَّه أولًا، فأَدَّاهُ
التشبيه إلى التعطيل، ولو أثبت للَّه ما أثبته لنفسه من صفات الكمال معتقدًا أن تلك الصفات بالغة من كمال العلو والرفعة والشرف ما يقطع علائق المشابهة بينها وبين صفات المخلوقين، لسلم من التشبيه والتعطيل واعتقد الحق.
ومن المعلوم أن هذه الصفات لو كان يقصد بها شيء آخر من المجازات التي يحملها عليها المؤولون لبادر صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم إلى بيانه؛ لأنه لا يجوز في حقه صلوات اللَّه عليه وسلامه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد، والمحققون من علماء الأصول ذكروا أن تأخيره صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه، وشذت طائفة فجوزته، والجميع متفقون علي عدم وقوعه، والخلاف بينهم إنما هو في الجواز عقلًا، لا في الوقوع، كما هو مقرر في محله. قال في "مراقي السعود":
تأخر البيان عن وقت العمل
…
وقوعه عند المجيز ما حصل
وقال في "المراقي" أيضًا في حدّ البيان:
تصيير مشكل من الجلي
…
وهو واجب على النبي
إذا أريد فهمه وهو بما
…
من الدليل مطلقًا يجلو العمى
وأيضا فالصفات التي أثبت اللَّه لنفسه جل وعلا أو أثبتها له من قال في شأنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/ 3 - 4] صلوات اللَّه عليه وسلامه، إثباتها له حق لا شك فيه؛ لأنَّ ما أخبر اللَّه أو رسوله صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم أنه ثابت فثبوته حق لا سبيل إلى
الشك فيه، وقد أطبق جميع العقلاء على أن لازم الحق حق، فالحق لا يلزمه الباطل أبدًا بإجماع العقلاء.
فادعاء النافين بعض صفاته جل وعلا، كالاستواء واليد وغيرهما مما جاء في الكتاب والسنة، مدعين أن إثباته له جل وعلا يلزمه مشابهة الحوادث واضح البطلان؛ لإقرارهم أن الاستواء واليد مثلًا أخبر اللَّه بهما، وهو صادق الخبر قطعًا، وكل العقلاء يقر بأن الصدق لا يلزمه الكذب أبدًا بحال.
وإيضاح ذلك المقام على مصطلحهم الكلامي: أن النافين لبعض الصفات يستدلون على نفيها بلزوم عقلي، إذا أفرغ في قالب اصطلاحهم يتبين أنهم استدلوا بقياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية استثنوا فيه نقيض التالي، فأنتجوا نقيض المقدم. وقد تقرر عندهم في المركب من متصلة لزومية أن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، واستثناء عين المقدم ينتج عين التالي؛ بلا عكس فيهما، فاستثناء عين التالي أو نقيض المقدم لا ينتجان لزومًا؛ لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم، ولا يخفى أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، بخلاف العكس، أي فنفي الأعم يستلزم نفي الأخص، ووجود الأخص يستلزم وجود الأعم.
وقد تقرر عند جميع النظار من كلاميين ومناطقة وجدليين أن استنتاج عدم المقدم -الذي هو الملزوم- من عدم التالي -الذي هو اللازم- لا يصح إلا إذا كانت لازمية التالي للمقدم صحيحة، كما في
استنتاج عدم تعدد الآلهة من عدم فساد السموات والأرض في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء/ 22] أي: لكنهما لم تفسدا فيلزم منه أنه لم يكن فيهما آلهة غير اللَّه.
أما إذا كانت لازمية التالي للمقدم يعتقدها المستدل، وهي في نفس الأمر منفية، والربط منفك بين ما يظنه لازمًا وما يظنه ملزومًا، فاستنتاجه عدم شيء من عدم شيءآخر يظنه لازمًا له استنتاج باطلٌ، إذا كان ما ظنه لازمًا ليس بلازمٍ في نفس الأمر، كما لو ظن أن الإنسانية تلزم الحيوانية فقال: لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانًا، لكنه غير إنسان. فأنتج به أنه غير حيوان، فهو استنتاج باطل؛ لجواز أن يكون حيوانًا غير إنسان، لأن ما ظنه من كون الإنسان لازمًا للحيوان باطل، فاستنتاجه عدم الحيوان من عدم الأنسان باطل؛ لجواز أن يكون حيوانًا غير إنسان، كالفرس مثلًا.
فإذا حققت هذا فاعلم أن قياسهم الذي استدلوا به على نفي بعض الصفات الذي قدمنا أنه قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية استثنوا فيه نقيض التالي فيما يظهر لهم، فأنتجوا نقيض المقدم فيما يظهر لهم. ولا يخفى عليك أن استنتاج نقيض المقدم من نقيض التالي هو عين الاستدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم.
صورته عندهم أن يقولوا مثلًا: لو كان تعالى مستويًا على عرشه لمكان مشابهًا للحوادث؛ لكنه لم يكن مشابهًا للحوادث، ينتج: فهو غير مستوٍ على العرش. وهكذا. . .، كقولهم: لو كان له يد لكان مشابهًا للحوادث، لكنه لم يكن مشابهًا للحوادث، ينتج: فهو لم تكن
له يد.
فنقول: هذه الملازمة التي ظنوا بين اتصافه بما ذكر من الاستواء على العرش واليد وغيرهما من صفات الكمال، وبين مشابهة الخلق ملازمةٌ باطلة، والربط بين الأمرين منفك، بل هو تعالى مستو على عرشه، كما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة/ 64]، فهو كما قال من غير تكييفٍ ولا مشابهةٍ للحوادث، فجعلهم مشابهة الحوادث لازمة للاستواء واليد مثلًا جَعْلٌ باطل، بل لا ملازمة بين الأمرين البتة، كما أقروا بنظيره في السمع والبصر وغيرهما من الصفات المارِّ ذكرها، فإذا كان جل وعلا متصفًا بالسمع والبصر مثلًا، والحادث متصف بهما ولم يلزم من ذلك مشابهته للحادث، فكذلك لا يلزم من استوائه على عرشه وكون يديه مبسوطتين ينفق كيف يشاء مشابهةُ الحوادث، كما هو ظاهر مما كتبنا.
فقول النافي بعض الصفات مثلًا: "لو كان مستويًا على عرشه، لشابه الحوادث" قضيةٌ من النوع المعروف بالسفسطة، والأقيسة السوفسطائية كلها كاذبة في نفس الأمر، وأعظم الآفات التي منع العلماء بسببها النظر في علم الكلام والمنطق مثل هذا، أن يظن المستدل لزوم أمر لأمر فينتج بتلك الملازمة أمورًا منافية لما جاء به الرسول صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم، لكون اللزوم الذي ظهر له ليس واقعًا في نفس الأمر، فيضل سعيه، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا.
ولا شك أن الطريق المأمونة هي طريق الكتاب والسنة لا سيما في صفاته جل وعلا التي لا سبيل للعقول إلى إدراك حقائقها {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه/ 110].
وهذا الذي أوضحنا من إثبات الصفات للَّه حقيقةً من غير تكييفٍ ولا تشبيهٍ هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول"؛ فإن معنى قوله: "الاستواء غير مجهول" أن هذا الوصف معروفٌ عند العرب، وهو في لغتهم الارتفاع والاعتدال، لكن ما نسب إلى اللَّه من هذا الوصف لا يشابه ما نسب منه للحوادث. وذلك هو معنى قوله:"والكيف غير معقول". فقول الإمام مالك: "الاستواء غير مجهول" نفيٌ للتعطيل، وقوله:"والكيف غير معقول" نفي للتشبيه والتكييف، وبنفي الأمرين يكون الصواب، وما روي عن مالك رحمه الله روى مثله عن أم المؤمنين هند بنت أبي أمية أم سلمة رضي الله عنها.
ثم في مدة إقامتنا بـ "النعمة" قدم علينا أديب علوي، اسمه محمد المختار بن محمد فال بن بابه العلوي، وأكثر من سؤالنا عن أيام العرب وأشعارها، وملح الأدباء ونوادرهم.
ومما وقع السؤال عنه في أثناء المذاكرة ثناء أدباء الشعراء على قصار النساء، كقول الشاعر:
من كان حربًا للنساء
…
فإنني سلم لهنَّه
فإذا عثرن دعونني
…
وإذا عثرت دعوتهنَّه
وإذا برزن لمحفل
…
فقِصارهنَّ ملاحهنَّه
مع أن القصر جدًّا وصف مذموم، كما يدل عليه قول كعب بن
زهير:
* لا يشتكي قصر منها ولا طول *
ومعلوم أن كمال القامة واعتدال القدِّ وصف محمودٌ فيهن، ومما يدل على ذلك قول عمرو بن كلثوم التغلبي:
وسارِيتَيْ بَلَنْطٍ أو رخامٍ
…
يَرِنُّ خُشاشُ حَلْيِهما رنينا
فكان جوابنا عن المسألة أن قلنا لهم: إن القِصر الذي يستحسنه الشعراء من النساء ليس هو القِصَر الذي هو ضد الطول، بل هو القصْر في الخيام، فالقصار عندهم هن المقصورات في الخيام العاملات بقوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب/ 33]. وهو معنى معقول؛ لأن الصيانة تصون ماء الملاحة ومعناها، والابتذال يذهب ذلك كله. وقد بين كُثَيِّر في شعره حل هذا الإشكال حيث قال:
وأنتِ التي حَبَّبْتِ كل قصيرة
…
إليَّ وما تدري بذاك القصائر
عنيتُ قصيرات الحجال ولم أُرِدْ
…
قصار الخطا شر النساء البحاتر
والبحتر: القصير المجتمع الخَلْق.
فالخرَّاجة الولَّاجة لا ملاحة لها أبدًا، وهي مذمومةٌ عندهم، ولذلك لما سمع بعض الأدباء صاحبه يستحسن قول الأعشى ميمون بن قيس:
غراء فرعاء مصقول عوارضها
…
تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل
كأن مشيتها من بيت جارتها
…
مر السحابة لا ريث ولا عجل