الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شبهة وجوابها
قال الله سبحانه وتعالى: هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم يقولون ءامنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب (1).
وقال البخاري رحمه الله (ج8 ص209): حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية: هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب قالت: قال رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فإذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم)).
هذه الشبهة أن بعض المعاصرين ممن جمع بين بدعة الخوارج وبدعة
(1) سورة آل عمران، الآية:7.
المعتزلة، سمعته يستدل على دفع حديث السحر بقول الله عز وجل: إذ يقول الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا (1).
وقوله تعالى: وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا (2).
قال: فلو قلنا بصحة الحديث لوافقنا المشركين في هذه الدعوى.
قال أبوعبد الرحمن: وليست هذه بأول انْهزامية للمعاصرين أمام أهل الباطل، وما أكثر المعجزات التي أنكروها، لأن عقول أعداء الإسلام لا تتقبّلها، وما أكثر الأحكام التي حرّفوها أو ردوها، لأنّها لا تتمشى مع ما عليه المجتمع، وما أوتي هذا القائل المسكين إلا من قبل نفسه، إذ قد نبذ المسكين كلام الصحابة، وكلام أهل التفسير، وكلام الفقهاء، وكلام المحدثين، وزعم أنه يعتمد على نفسه وهو جاهل باللغة العربية وبغيرها من الوسائل، ولسنا ندعوه إلى تقليد هؤلاء الأئمة رحمهم الله، ولكن إلى الاستفادة من فهمهم، وإلا فالتقليد في الدين محرم، وقد ذكرت جملة من الأدلة في كتابي المخرج من الفتنة وأنا ذاكر لك كلام بعض المفسرين حول هذه الآية:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (ج3 ص310) في الكلام على قول الله عز وجل: وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا قال الله تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا أي: جاءوا بما يقذفونك به، ويكذبون به عليك من قولهم: ساحر، مسحور، مجنون، كذّاب، شاعر،
(1) سورة الإسراء، الآية:47.
(2)
سورة الفرقان، الآية:8.
وكلها أقوال باطلة كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك. اهـ المراد منه.
والحافظ ابن كثير هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق محتجًا به رحمه الله.
وقال الشوكاني رحمه الله (ج4 ص63): أي ما تتبعون إلا رجلاً مغلوبًا على عقله بالسحر، وقيل: ذا سحر، وهي الرئة، أي بشر له رئة لا ملك. اهـ
والشوكاني هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق، لعلم هذين المفسريْن رحمهما الله بأنه لا تعارض بين الحديث وبين الآيتين، لأن الحديث يحمل على ما وجّهه الإمام القاضي عياض والحافظ ابن حجر وغيرهما من علماء الإسلام، والحديث قد تلقّاه علماء الإسلام بالقبول، فقد اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وما اتفقا عليه فهو أعلى مرتبة في الصحة كما في كتب المصطلح، ثم لم ينتقده الدارقطني ولا أبومسعود الدمشقي، ولا أبوعلي الجياني، ولا أبومحمد بن حزم، ممن تصدى لنقد بعض الأحاديث المعلة التي في الصحيحين، ولسنا نتوقع من علماء الكلام وغيرهم من ذوي الزيغ أن يعظموا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل دأبهم التنفير عنها وتلقيب حملتها بالألقاب المنفّرة، وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" الشيء الكثير من سخريّتهم بأهل السنة، ولكن أبى الله إلاّ أن ينصر أهل السنة، ويذلّ أهل البدعة والحمد لله.
وهذا الحديث الصحيح يهدم على المبتدعة عقيدتهم أن السحر ليس بحقيقة ولكنه تخيّل، فلذلك هم يحاولون التشكيك فيه وفي غيره من السنن التي تخالف أهواءهم فباءوا بالخزي، وتمت كلمة ربك هي العليا، وصدق
الله إذ يقول: إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون (1).
واحتج بعضهم بقوله: والله يعصمك من النّاس (2).
وهذا شأن من لا يرجع إلى كتب التفسير، ولا يدري المتقدم من المتأخر فهذه الآية من آخر ما أنزل، كما ذكره الحافظ ابن كثير فقد سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكسرت رباعيته وشج رأسه قبل نزولها، ثم إن المراد: يعصمك من القتل والأسر والتلف، وإلا فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأبي وأمي بشر يجري عليه ما يجري على البشر، قال الله سبحانه وتعالى: قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد (3).
قال البخاري رحمه الله (ج12 ص339): حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن هشام عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعةً من النّار)).
وقال البخاري رحمه الله (ج1 ص503): حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: قال عبد الله: صلّى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم -قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصّلاة شيء؟ قال: ((وما ذاك)) قالوا: صلّيت كذا وكذا، فثنى رجليه
(1) سورة الحجر، الآية:9.
(2)
سورة المائدة، الآية:67.
(3)
سورة الكهف، الآية:110.
واستقبل القبلة وسجد سجدتين، ثمّ سلّم فلمّا أقبل علينا بوجهه قال:((إنّه لو حدث في الصّلاة شيء لنبّأتكم به، ولكن إنّما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني، وإذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب فليتمّ عليه، ثمّ ليسلّم ثمّ يسجد سجدتين)).
فنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشر، يجري عليه ما يجري على البشر، كسرت رباعيته وشج رأسه.
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج7 ص372): حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اشتدّ غضب الله على قوم فعلوا بنبيّه -يشير إلى رباعيته- اشتدّ غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله)).
حدثني مخلد بن مالك حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((اشتدّ غضب الله على من قتله النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سبيل الله، اشتدّ غضب الله على قوم دمّوا وجه نبيّ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)).
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أما والله إنّي لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تغسله، وعليّ يسكب الماء بالمجنّ، فلمّا رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدّم إلا كثرةً أخذت قطعةً من حصير فأحرقتها وألصقتها، فاستمسك الدّم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه.
حدثني عمرو بن علي حدثنا أبوعاصم حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم"(ج12 ص148): وفى هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ماأصابهم ويتأسوا بهم، قال القاضي: وليعلم أنّهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقّنوا أنّهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات وتلبيس الشيطان من أمرهم، ما لبّسه على النصارى. اهـ.
وردّهم السنة التي لا يدل عليها القرآن في فهمهم السقيم، علم من أعلام النبوة، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:((ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه)).
رواه أبوداود من حديث المقدام بن معدي كرب، وفيه عبد الرحمن بن أبي عوف، وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات، وقد تابعه الحسن بن جابر، كما عند الترمذي، وهو مستور الحال، فالحديث حسن لغيره، وله شاهد من حديث أبي رافع عند أبي داود، وقد ذكرتهما بسنديهما في "الصحيح المسند من دلائل النبوة".