المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْجَواب الأول   فَنَقُول لَا ريب أَن الْمَقَادِير سَابِقَة وَقد جرى الْقَلَم - رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر

[مرعي الكرمي]

الفصل: ‌ ‌الْجَواب الأول   فَنَقُول لَا ريب أَن الْمَقَادِير سَابِقَة وَقد جرى الْقَلَم

‌الْجَواب الأول

فَنَقُول لَا ريب أَن الْمَقَادِير سَابِقَة وَقد جرى الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن إِلَى الْأَبَد قَالَ إِمَام النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم إِن الله تَعَالَى قدر مقادير الْخلق وَمَا يكون من الْأَشْيَاء قبل أَن يكون فِي الْأَزَل وَعلم سُبْحَانَهُ أَنَّهَا ستقع فِي أَوْقَات مَعْلُومَة عِنْده وعَلى صِفَات مَخْصُوصَة فَهِيَ تقع على حسب مَا قدرهَا

وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية إِن علم الله تَعَالَى السَّابِق مُحِيط بالأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَلَا محو فِيهِ وَلَا تَغْيِير وَلَا زِيَادَة وَلَا نقص فَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون وَأما مَا جرى بِهِ الْقَلَم فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَهَل يكون فِيهِ محو وَإِثْبَات على قَوْلَيْنِ الْعلمَاء

قَالَ وَأما الصُّحُف الَّتِي بيد الْمَلَائِكَة فَيحصل فِيهَا المحو وَالْإِثْبَات انْتهى وَقد بسطت الْكَلَام على هَذَا فِي كتابي إتحاف ذَوي الْأَلْبَاب فِي قَوْله تَعَالَى يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول كتب الله مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ الف سنة وعرشه على المَاء

ص: 21

وَفِي حَدِيث الإِمَام أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ قدر الْمَقَادِير قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة

وَحَدِيث أَحْمد وَمُسلم عَن ابْن عمر وكل شَيْء بِقدر حَتَّى الْعَجز والكيس وَفِي الْقُرْآن الْعَزِيز {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها} وَفِيه أَيْضا {قل لن يصيبنا إِلَّا مَا كتب الله لنا} والآيات وَالْأَحَادِيث فِي مثل هَذَا كَثِيرَة وَالْمَقْصُود هُنَا أَن من شهد هَذَا المشهد فشهوده حق لَكِن وَرَاء هَذَا المشهد مشْهد آخر وَهُوَ أَن يشْهد الْمَقَادِير مقدرَة بأسبابها لِأَنَّهُ يشهدها مُجَرّدَة عَن الْأَسْبَاب فَإِنَّهُ إِن شهد ذَلِك كَانَ شُهُوده نَاقِصا أعمى وينشأ لَهُ الْغَلَط من أَن الْأَعْمَال لَا تَنْفَع وَأَن الْأَسْبَاب لَا تفِيد وَهُوَ قَول مَبْنِيّ على أصل فَاسد وَلَا ريب أَن هَذَا الأَصْل الْفَاسِد الَّذِي وَقع فِيهِ بعض المتصوفة وَمن التحقق بهم هُوَ مُخَالف للْكتاب وَالسّنة وأئمة الدّين ومخالف صَرِيح الْمَعْقُول ومخالف للحس والمشاهدة فَأن الله تَعَالَى أجْرى عَادَته الإلهية فِي هَذَا الْعَالم على أَسبَاب ومسببات تناط بِتِلْكَ الْأَسْبَاب وينسب أَيْضا وُقُوعهَا إِلَيْهَا نظرا للصورة الوجودية وَإِن كَانَ الْكل فِي الْحَقِيقَة بِقَضَائِهِ وَقدره بأعتبار الْحَقِيقَة الإيجادبة

وَقد سُئِلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن إِسْقَاط الْأَسْبَاب نظرا إِلَى الْقَضَاء وَالْقدر

ص: 22

السَّابِق فَرد عليه السلام على ذَلِك كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد علم مَقْعَده من الْجنَّة ومقعده من النَّار قَالُوا يَا رَسُول الله أَفلا نَدع الْعَمَل ونتكل على الْكتاب فَقَالَ لَا اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ

وَفِي صَحِيح مُسلم فِي حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَفِيه قَالَ مَا من نفس منفوسة إِلَّا وَقد كتب الله مَكَانهَا فِي الْجنَّة وَالنَّار إِلَّا وَقد كتب شقية أَو سعيدة قَالَ فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله أَفلا نمكث على كتَابنَا وَنَدع الْعَمَل فَقَالَ من كَانَ من أهل السَّعَادَة فسيصير إِلَى عمل أهل السَّعَادَة وَمن كَانَ من أهل الشقاوة فسيصير إِلَى عمل أهل الشقاوة اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ

وروى الإِمَام أَبُو حنيفَة عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن مُصعب بن سعد بن أبي وَقاص قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا من نفس إِلَّا وَقد كتب الله مخرجها ومدخلها وَمَا هِيَ لاقية فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار فَفِيمَ الْعَمَل يَا رَسُول الله فَقَالَ اعْمَلُوا كل ميسر لما خلق لَهُ أما أهل الشَّقَاء فييسرون لعمل أهل الشَّقَاء وَأما أهل السَّعَادَة فييسرون لعمل أهل السَّعَادَة فَقَالَ الْأنْصَارِيّ الْآن حق الْعَمَل

وَفِي السّنَن أَنه صلى الله عليه وسلم قيل لَهُ أَرَأَيْت أدوية نتداوى بهَا ورقى نسترقي بهَا وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا فَقَالَ عليه السلام هِيَ من قدر الله تَعَالَى

ص: 23

وَلما رَجَعَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه عَن دُخُول دمشق من أجل الطَّاعُون قَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ إِذْ ذَاك أَمِير الشَّام أفرارا من قدر الله فَقَالَ عمر لَو غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة نعم نفر من قدر الله إِلَى قدر الله

فَهَذَا كَلَام رَسُول الله وَكَلَام صَاحبه صَرِيح أَن السَّبَب والمسبب بِقدر الله تَعَالَى وَقَالَ الله تَعَالَى {وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} والآيات فِي هَذَا كَثِيرَة وَقَالَ الإِمَام بن حزم رحمه الله فِي الْملَل والنحل صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَصْحِيح الطِّبّ وَالْأَمر بالعلاج وَأَنه عليه السلام قَالَ تداووا فَإِن الله تَعَالَى لم يخلق دَاء إِلَّا خلق لَهُ دَوَاء إِلَّا السأم والسأم الْمَوْت قَالَ فأعترض قوم فَقَالُوا قد سبق علم الله عز وجل بنهاية أجل الْمَرْء وَمُدَّة صِحَّته وَمُدَّة سقمه فَأَي معنى للعلاج قَالَ فَقُلْنَا لَهُم نسألكم هَذَا السُّؤَال نَفسه فِي جَمِيع مَا يتَصَرَّف فِيهِ النَّاس من الْأكل وَالشرب واللباس لطرد الْبرد وَالْحر وَالسَّعْي فِي المعاش بالحرث وَالْغَرْس وَالْقِيَام على الْمَاشِيَة والتحرف بِالتِّجَارَة والصناعة ونقول لَهُم قد سبق علم الله تَعَالَى بنهاية أجل الْمَرْء وَمُدَّة صِحَّته وَمُدَّة سقمه فَأَي معنى لكل مَا ذكرنَا فَلَا جَوَاب لَهُم إِلَّا أَن يَقُولُوا إِن علم الله تَعَالَى قد سبق أَيْضا بِمَا يكون من كل ذَلِك وبأنها أَسبَاب إِلَى بُلُوغ نِهَايَة الْعُمر الْمقدرَة فَنَقُول لَهُم وَهَكَذَا الطِّبّ قد سبق فِي علم الله تَعَالَى أَن هَذَا العليل يتداوى وَأَن تداويه سَبَب إِلَى بُلُوغ نِهَايَة أَجله فالعلل مقدرَة والزمانة مقدرَة وَالْمَوْت مُقَدّر والعلاج مُقَدّر وَلَا مرد لحكم الله ونافذ علمه فِي كل شَيْء من ذَلِك

ص: 24

وَقَالَ الْعَلامَة ابْن الْقيم بعد تَقْرِيره نفع الدُّعَاء وَالْأَمر بِهِ وَدفعه للبلاء وَقد أعترض قوم بِأَن الْمَدْعُو بِهِ إِن كَانَ قد قدر لم يكن بُد من وُقُوعه دَعَا بِهِ العَبْد أَو لم يدع لِأَن كل مُقَدّر كَائِن كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَات الصَّرِيحَة وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَإِن لم يكن قدر لم يَقع سَأَلَهُ العَبْد أَو لم يسْأَله فظنت طَائِفَة صِحَة هَذَا الْكَلَام فَتركت الدُّعَاء وَقَالُوا لَا فَائِدَة فِيهِ قَالَ وَهَؤُلَاء مَعَ فرط جهلهم وضلالتهم متناقضون فَإِن مَذْهَبهم يُوجب تَعْطِيل جَمِيع الْأَسْبَاب فَيُقَال لأَحَدهم إِن كَانَ الشِّبَع والري قد قدرا لَك فلابد من وقوعهما أكلت أَو لم تَأْكُل شربت أَو لم تشرب فَلَا حَاجَة للْأَكْل وَالشرب وَإِن كَانَ الْوَلَد قد قدر لَك فَلَا بُد مِنْهُ وطِئت الزَّوْجَة وَالْأمة أَو لم تطَأ وَأَن لم يقدر لم يكن فَلَا حَاجَة للتزويج والتسري فَهَل يَقُول هَذَا عَاقل أَو آدَمِيّ بل الْحَيَوَان إِلَيْهِم مفطور على مُبَاشرَة الْأَسْبَاب الَّتِي بهَا قوامه ونفعه وأجتناب الَّتِي بهَا ضَرَره فالحيوان أَعقل وَأفهم من هَؤُلَاءِ الَّذين هم كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا قَالَ وعَلى هَذَا فالدعاء من أقوى الْأَسْبَاب فَإِذا قدر وُقُوع الْمَدْعُو بِهِ الدُّعَاء لم يَصح أَن يُقَال لَا فَائِدَة فِي الدُّعَاء كَمَا لَا يُقَال لَا فَائِدَة فِي الْأكل وَالشرب وَجَمِيع الحركات والأعمال

قَالَ ابْن تَيْمِية وَالنَّاس قد اخْتلفُوا فِي الدُّعَاء المستعقب بِقَضَاء الْحَاجَات فَزعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة أَنه لَا فَائِدَة فِيهِ أصلا فَإِن الْمَشِيئَة الإلهية والأسباب العلوية إِمَّا أَن تكون قد أقتضت وجود الْمَطْلُوب وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَة إِلَى الدُّعَاء أَو لَا تكون اقتضته حِينَئِذٍ فَلَا ينفع الدُّعَاء وَقَالَ قوم مِمَّن يتَكَلَّم فِي الْعلم بل الدُّعَاء عَلامَة وَدلَالَة على حُصُول الْمَطْلُوب وَجعلُوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدَّلِيل بالمدلول لَا ارتباط السَّبَب بالمسبب قَالَ وَالصَّوَاب مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور فِي أَن الدُّعَاء سَبَب لحُصُول الْخَيْر الْمَطْلُوب كَسَائِر الْأَسْبَاب الْمقدرَة والمشروعة وَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خير ألهمه دعاءه والاستعانة بِهِ وَجعل استعانته ودعاءه سَببا للخير الَّذِي قَضَاهُ لَهُ كَمَا أَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ أَن يشْبع عبد أَو يرويهِ ألهمه أَن يَأْكُل

ص: 25

وَيشْرب وَإِذا أَرَادَ أَن يَتُوب على عبد ألهمه أَن يَتُوب هـ فيتوب عَلَيْهِ وَإِذا أَرَادَ أَن يرحمه أَو يدْخلهُ الْجنَّة يسره لعمل أهل الْجنَّة والمشيئة الإلهية اقْتَضَت وجود هَذِه الْخيرَات بأسبابها الْمقدرَة لَهَا

كَمَا اقْتَضَت دُخُول الْجنَّة بِالْإِيمَان وَدخُول النَّار بالْكفْر وَحُصُول الْوَلَد بِالْوَطْءِ وَالْعلم بالتعلم لَكِن لَيْسَ كل مَا يَظُنّهُ الْإِنْسَان سَببا يكون سَببا كَمَا قد بسطت الْكَلَام على هَذَا فِي كتابي شِفَاء الصُّدُور فِي زِيَارَة الْمشَاهد والقبور وَالْمَقْصُود هُنَا إِنَّمَا هُوَ بَيَان أَن الطَّاعَات سَبَب للثَّواب والمعاصي سَبَب للعقاب خلافًا للمتصوفة الإباحية كَمَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل إرْسَال الرُّسُل سَببا لهداية الْمُؤمنِينَ وَإِقَامَة حجَّة الله على الْكَافرين وَلَوْلَا إرْسَال الرُّسُل مَا حصلت هِدَايَة الْمُؤمن وَلَا قَامَت حجَّة الله على كَافِر

وَالْحَاصِل أَن الْأَسْبَاب وتأثيرها بِمَشِيئَة الله مِمَّا لَا يُنكر وَإِن كَانَ الله تَعَالَى هُوَ خَالق السَّبَب والمسبب لَا سِيمَا وَقد دلّ الْعقل وَالنَّقْل وَالْفطر وتجارب الْأُمَم على إختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أَن التَّقَرُّب إِلَى رب الأرباب وَطلب مرضاته وَالْإِحْسَان إِلَى خلقه من أعظم الْأَسْبَاب الجالبة لكل خير وأضدادها من أكبر الْأَسْبَاب الجالبة لكل شَرّ فَمَا أستجلبت نعم الله واستدفعت نقمة بِمثل طَاعَته والتقرب إِلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَى خلقه وَقد رتب الله سُبْحَانَهُ حُصُول الْخَيْر وَالشَّر قي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِي كِتَابه الْعَزِيز على الْأَعْمَال تَرْتِيب الْجَزَاء على الشَّرْط وَالْعلَّة على الْمَعْلُول والمسبب على السَّبَب فَقَالَ تَعَالَى {إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم} وَقَالَ {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم} وَقَالَ {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} الْآيَة وَقَالَ (من يعْمل

ص: 26

سوءا يجز بِهِ) وَقَالَ {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} وَبِالْجُمْلَةِ فالقرآن من أَوله إِلَى آخِره صَرِيح قي تَرْتِيب الْجَزَاء بِالْخَيرِ وَالشَّر وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مترتبة على الْأَسْبَاب والأعمال وَمن فقه قي هَذِه الْمَسْأَلَة وتأملها حق التَّأَمُّل انْتفع بهَا غَايَة النَّفْع وَلم يتكل على الْقدر جهلا مِنْهُ وعجزا أَو تفريطا وإضاعة فَيكون توكله عَجزا وعجزه توكلا بل الْفَقِيه الْعَارِف هُوَ الَّذِي يرد الْقدر بِالْقدرِ ويجلب الْقدر بِالْقدرِ ويعارض الْقدر بِالْقدرِ بل لَا يُمكن الْإِنْسَان أَن يعِيش إِلَّا بذلك فَإِن الْجُوع والعطش وَالْبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هِيَ من الْقدر والخلق كلهم ساعون فِي دفع هَذَا الْقدر بِالْقدرِ وَهَكَذَا من وَفقه الله تَعَالَى والهمه رشده فَإِنَّهُ يدْفع قدر الْعقُوبَة الأخروية بِقدر التَّوْبَة وَالْإِيمَان والأعمال الصَّالِحَة فَإِن وزان الْقدر الْمخوف فِي الْآخِرَة وزان الْقدر الْمخوف فِي الدُّنْيَا فري الدَّاريْنِ وَاحِد وحكمته وَاحِدَة لَا يُنَاقض بَعْضهَا بَعْضًا وَلَا يبطل بَعْضهَا بَعْضًا وَهَذِه الْمَسْأَلَة من أشرق الْمسَائِل لمن عرف قدرهَا ورعاها حق رعايتها فَثَبت بِمَا تقرر أَن الله تَعَالَى جعل للسعادة والشقاوة أَسبَاب وَأَنه سُبْحَانَهُ هُوَ مسبب الْأَسْبَاب وخالق كل شئ كَمَا أقتضت ذَلِك حكمته ومشيئته وَأَن الْأَسْبَاب لَا بُد مِنْهَا فِي وجود المسببات بِمَعْنى أَن الله تَعَالَى لَا يحدث المسببات ويشاؤها إِلَّا بِوُجُود الْأَسْبَاب لَكِن الْأَسْبَاب كَمَا قَالَ فِيهِ الإِمَام الْغَزالِيّ والحافظ ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا الِالْتِفَات إِلَى الْأَسْبَاب شرك فِي التَّوْحِيد والإعراض عَن الْأَسْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ قدح فِي الشَّرْع والتوكل معنى يلتئم بِهِ معنى التَّوْحِيد وَالْعقل وَالشَّرْع فالمؤمن المتَوَكل يُبَاشر الْأَسْبَاب

ص: 27

كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا خُذُوا حذركُمْ} وَقَالَ {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا بِمَعْنى أَن لَا يطمئن إِلَيْهَا وَلَا يَثِق بهَا وَلَا يرجوها وَلَا يخافها فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُود سَبَب يسْتَقلّ بِحكم بل كل سَبَب فَهُوَ مفتقر إِلَى أُمُور أخر تضم إِلَيْهِ كالإخلاص وَالْقَبُول مثلا وَله مَوضِع وعوائق تمنع مُوجبَة وَمَا ثمَّ سَبَب مُسْتَقل بِنَفسِهِ إِلَّا مَشِيئَة الله وَحده فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَمَا سبق بِهِ علمه وَحكمه فَهُوَ حق وَاقع وَقد علم وَحكم أَن الشَّيْء الْفُلَانِيّ يَقع بِالسَّبَبِ الْفُلَانِيّ فَمن شهد وُقُوع الْوَلَد وحصوله الْمُقدر بِسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ الْوَطْء فشهوده كَامِل وَمن شهد حُصُول ولد لَهُ بِلَا وَطْء فشهوده نَاقص أعمى نور الله تَعَالَى بصيرتنا ورزقنا الْإِيمَان بِمَا قَالَه هُوَ وَرَسُوله آمين

ص: 28