الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاتِمَة
اعْلَم أَن فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} دقه وخفاء فان ظَاهر تَفْسِيره وَاضح جلي وَحَقِيقَة مَعْنَاهُ غامض خَفِي فانه إِثْبَات للرمي وَنفي لَهُ وهما متضادان فِي الظَّاهِر مَا لم يفهم انه رمى من وَجه وَلم يرم من وَجه وَمن الْوَجْه الَّذِي لم يرم رمى الله تَعَالَى وَبَعْضهمْ يَقُول وَمَا رميت حَقِيقَة إِذْ رميت مجَازًا وَلَكِن الله رمى حَقِيقَة وَقد احْتج بعض المثبتة للقدر بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الله تَعَالَى خَالق أَفعَال الْعباد وَبَعْضهمْ توهم انه تَعَالَى هُوَ الْمَوْصُوف بذلك حَقِيقَة لظَاهِر هَذِه الْآيَة ظنا مِنْهُ انه تَعَالَى لما خلق الرَّامِي وَالرَّمْي كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّامِي فِي الْحَقِيقَة وَهَذَا غلط بِلَا ريب فَإِنَّهُم متفقون على أَن العَاصِي هُوَ المتصف بالمعصية والمذموم عَلَيْهَا فَإِن الْأَفْعَال يُوصف بهَا من قَامَت بِهِ لَا من خلقهَا فَإِن الله تَعَالَى لَا تقوم بِهِ أَفعَال الْعباد وَلَا يَتَّصِف بهَا وَلَا يعود إِلَيْهِ أَحْكَامهَا الَّتِي تعود إِلَى موصوفاتها
وَإِذا كَانَ مَا يتَعَلَّق بالإرادة وَالِاخْتِيَار كالطعوم والألوان تُوصَف بهَا محالها لَا خَالِقهَا فِي محالها فَكيف الْأَفْعَال الاختيارية وَلِهَذَا قَالَ بعض الْمُحَقِّقين إِن أَفعَال الْعباد مخلوقة لله وَهِي فعل العَبْد وَإِذا قيل هِيَ فعل الله فَالْمُرَاد أَنَّهَا مَفْعُوله لَا أَنَّهَا هِيَ الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُسَمّى الْمصدر
فَإِن الجمور يَقُولُونَ إِن الله خَالق أَفعَال الْعباد كلهَا والخلق عِنْدهم لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوق فيفرقون بَين كَون أَفعَال الْعباد مخلوقة مَفْعُوله للرب وَبَين فعله الَّذِي هُوَ الْمصدر فَإِنَّهَا فعل العَبْد بِمَعْنى الْمصدر وَلَيْسَت فعلا للرب بِهَذَا
الِاعْتِبَار بل هِيَ مَفْعُوله لَهُ والرب لَا يَتَّصِف بمفعولاته وَهنا يلتبس الْحَال على من لَا يفرق بَين فعل الرب ومفعوله كَمَا يَقُول ذَلِك الجهم وموافقوه وَقد تقرر الْفرق بَين مَا خلقه صفه لغيره وَبَين مَا اتّصف هُوَ بِهِ فِي نَفسه وَالْفرق بَين إِضَافَة الْمَخْلُوق إِلَى خالقه وَإِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف بهَا قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا الْفرق مَعْلُوم بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء فَإِنَّهُ تَعَالَى إِذا خلق لغيره حَرَكَة لم يكن هُوَ المتحرك بهَا وَإِذا خلق للرعد وَنَحْوه صَوتا لم يكن هُوَ المتصف بذلك الصَّوْت وَإِذا خلق الألوان فِي النَّبَات وَالْحَيَوَان والجماد لم يكن سُبْحَانَهُ هُوَ المتصف بِتِلْكَ الألوان وَإِذا خلق فِي غَيره علما وَقدره وحياة أَو كذبا أَو كفرا لم يكن هُوَ المتصف بذلك كَمَا إِذا خلق فِيهِ طَوافا وسعيا وَرمي جمار وصياما وركوعا وسجودا لم يكن هُوَ الطَّائِف والساعي والراكع والساجد والرامي بِتِلْكَ الْجمار
قَالَ وَقَوله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} مَعْنَاهُ مَا أصبت إِذْ حذفت وَلَكِن الله هُوَ الَّذِي أصَاب فالمضاف إِلَيْهِ الْحَذف بِالْيَدِ والمضاف الى الله الإيصال إِلَى الْعَدو وإصابتهم بِهِ قَالَ وَلَيْسَ المُرَاد بذلك مَا يَظُنّهُ بعض النَّاس انه لما خلق الرَّامِي وَالرَّمْي كَانَ هُوَ الرَّامِي فِي الْحَقِيقَة فَإِن ذَلِك لَو كَانَ صَحِيحا لكَونه خَالِقًا لرميه لاطرد ذَلِك فِي سَائِر الْأَفْعَال
وَيُقَال وَمَا مشيت وَلَكِن الله مَشى وَمَا لطمت وَلَكِن الله لطم وَمَا ضربت بِالسَّيْفِ وَلَكِن الله ضرب وَمَا ركبت الْفرس وَلَكِن الله ركب وَمَا صمت وَمَا صليت وَمَا حججْت وَلَكِن الله صَامَ وَصلى وَحج
قَالَ وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ بطلَان هَذَا كُله قَالَ وَهَذَا من غلو المثبتين للقدر وَلِهَذَا يرْوى عَن عُثْمَان بن عَفَّان انهم كَانُوا يرمونه بِالْحِجَارَةِ لما حصر فَقَالَ لَهُم لماذا ترمونني فَقَالُوا مَا رميناك وَلَكِن الله رماك فَقَالَ لَو أَن الله رماني لأصابني وَلَكِن انتم ترمونني وتخطئوني
قَالَ وَهَذَا مِمَّا احْتج بِهِ الْقَدَرِيَّة النفاة على أَن الصَّحَابَة لم يَكُونُوا يَقُولُونَ ان الله خَالق أَفعَال الْعباد كَمَا احْتج بعض المثبتة بقوله تَعَالَى {وَلَكِن الله رمى} وَكِلَاهُمَا خطأ
انْتهى كَلَام ابْن تَيْمِية رحمه الله
قلت وَالظَّاهِر أَن الضَّابِط فِيمَا يُضَاف إِلَيْهِ تَعَالَى وينسب لَهُ هُوَ مَا انْفَرد سُبْحَانَهُ بأيجاده من غير فعل للْعَبد فِيهِ وَلَو صُورَة وَهُوَ الْمُسَبّب دون السَّبَب المتصف بِهِ العَبْد
فَيُقَال مثلا وَمَا قتلت وَلَكِن الله قتل لِأَن الْقَتْل هُوَ زهوق الرّوح وَهُوَ مسبب عَن الْقَتْل نَاشِئ عَنهُ حَاصِل بِفعل الله خَاصَّة وَكَذَا مَا داواك الطَّبِيب اَوْ مَا شفاك وَلَكِن الله شفاك وَمَا شربت وَلَكِن الله أرواك وَمَا أكلت وَلَكِن الله أشبعك وَمَا ضربت وَلَكِن الله آلم على معنى مَا ضربت ضربا مؤلما وَلَكِن الله آلم وَمَا سودت لون الثَّوْب وَلَكِن الله سوده لِأَن كل وَاحِد من هَذِه الْأُمُور سَبَب وَالله خَالق للسبب بِدُونِ مُشَاركَة صورية كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن الله رمى} فان الْإِصَابَة مسببة عَن الرَّمْي الَّذِي هُوَ السَّبَب وَلَا يُنَازع أحد فِي أَن الْأَمر بالأسباب الْمُوجبَة كَالْقَتْلِ والتداوي لَيْسَ أمرا بمسبباتها الَّذِي هُوَ الزهوق والشفاء وَأما من حَيْثُ الْخلق فيضاف إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ كل مَخْلُوق لِأَن الْمَعْلُوم ان كل مَخْلُوق يُقَال هُوَ من الله بمضىء انه خلقه بَائِنا عَنهُ لَا بمضىء انه قَامَ بِهِ واتصف بِهِ
هَذَا وَقد توهم كثير من زنادقة المتصوفة من نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} وَقَوله تَعَالَى {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} إِن العَبْد هُوَ عين الرب تَعَالَى الله عَن ذَلِك
قَالَ الْعَلامَة المفنن ذُو الوزارتين أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْخَطِيب وَزِير سُلْطَان الأندلس فِي كَلَامه على رَأْي أهل الْوحدَة الْمُطلقَة وأرتكبت هَذِه الطَّائِفَة مرتكبا غَرِيبا من القَوْل بالوحدة الْمُطلقَة وهاموا بِهِ ورمزوا وأحتقروا النَّاس من أَجله قَالَ وَتَقْرِير مَذْهَبهم على سَبِيل الْإِحَاطَة لَا فَائِدَة فِيهِ وَحَاصِله أَن الْبَارِي سُبْحَانَهُ هُوَ مَجْمُوع مَا ظهر وَمَا بطن وَأَنه لاشيء خلاف ذَلِك وَأطَال الْكَلَام هُوَ وَغَيره من الْعلمَاء على ذَلِك كَمَا بسطت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي غير هَذَا الْموضع وَسمعت بأذني هَذَا من بعض مشايخهم
وَالْحَاصِل أَن هَذَا القَوْل لم يقلهُ أحد من الْمُتَقَدِّمين وَإِنَّمَا حدث بَين المتصوفة الْمُتَأَخِّرين وَهُوَ شَرّ من مقَالَة الفلاسفة فَإِنَّهُم أثبتوا وجود وَاجِب الْوُجُود وَلم يُنَازع فِيهِ لَا معطل وَلَا مُشْرك إِلَّا أَن بعض النَّاس قَالُوا إِن هَذَا الْعَالم حدث بِنَفسِهِ وَلَيْسَ هَذَا بقول مَعْرُوف لطائفة يَذبُّونَ عَنهُ فَإِن حُدُوث الْحَوَادِث بِلَا مُحدث بُطْلَانه من أبين الْعُلُوم الضرورية غَايَته أَن الفلاسفة تَقول إِن الْفلك متحرك حَرَكَة إختيارية بِسَبَبِهَا تحدث الْحَوَادِث من غير أَن يكون قد حدث من جِهَة الله مَا يُوجب حركته فَإِن حَرَكَة الْفلك عِنْدهم بِالِاخْتِيَارِ كحركة الْإِنْسَان فَلم يثبتوا لحركة الْفلك مُحدثا أحدثها غير الْفلك كَمَا لم يثبت الْقَدَرِيَّة لأفعال الْحَيَوَان مُحدث أحدثها غير الْحَيَوَان وَلِهَذَا كَانَ الْفلك عِنْدهم حَيَوَانا كَبِير يَتَحَرَّك للتشبيه بِالْعِلَّةِ الأولى كحركة المعشوق للعاشق فَذَلِك المعشوق المحبوب هُوَ المحرك لكَون المتحرك أحبه لَا لكَونه أبدع الْحَرَكَة وَلَا فعلهَا
وَلِهَذَا قَالُوا إِن الفلسفة هِيَ التَّشْبِيه بالإله على حسب الطَّاقَة وَفِي الْحَقِيقَة لَيْسَ عِنْدهم الْبَارِي إِلَهًا للْعَالم وَلَا رَبًّا للْعَالمين بل غَايَة مَا يثبتونه أَن يكون شرطا فِي وجود الْعَالم وَأَن كَمَال الْمَخْلُوق أَن يكون مشتبها بِهِ
هَذَا ومقالة من يَقُول إِن الرب عين العَبْد هِيَ شَرّ من مقَالَة هَؤُلَاءِ الفلاسفة وَقد دخل كثير من أهل الاسلام فِي طرق مبتدعة يطول ذكرهَا
وأخرجوا من التَّوْحِيد مَا هُوَ منَّة كتوحيد الإلهية وَإِثْبَات حقائق أَسمَاء الله وَصِفَاته وَلم يعرف كثير مِنْهُم من التَّوْحِيد إِلَّا تَوْحِيد الربوبية وَهُوَ أَن الله رب كل شَيْء وخالقه وَهَذَا التَّوْحِيد كَانَ يقر بِهِ الْمُشْركُونَ الَّذين قَالَ الله عَنْهُم وَلَئِن سَأَلتهمْ عَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون}
قَالَت طَائِفَة من السّلف يَقُول لَهُم من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَيَقُولُونَ الله وهم مَعَ هَذَا يعْبدُونَ غَيره وَإِنَّمَا التَّوْحِيد الَّذِي أَمر الله بِهِ الْعباد هُوَ تَوْحِيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية بِأَن يعْتَقد إِثْبَات الله وَصِفَاته ويعبده وَلَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَالْعِبَادَة تجمع غَايَة الْحبّ وَغَايَة الذل لَهُ سُبْحَانَهُ
رزقنا الله تَعَالَى ذَلِك وثبتنا عَلَيْهِ آمين