المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[1] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام - روائع البيان تفسير آيات الأحكام - جـ ١

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الفاتحة

- ‌ سورة البقرة

- ‌[1] موقف الشريعة من السحر

- ‌[2] النسخ في القرآن

- ‌[3] التوجه إلى الكعبة في الصلاة

- ‌[4] السعي بين الصفا والمروة

- ‌[5] كتمان العلم الشرعي

- ‌[6] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث

- ‌[7] في القصاص حياة النفوس

- ‌[8] فريضة الصيام على المسلمين

- ‌[9] مشروعية القتال في الإسلام

- ‌[10] إتمام الحج والعمرة

- ‌[11] القتال في الأشهر الحرام

- ‌[12] تحريم الخمر والميسر

- ‌[13] نكاح المشركات

- ‌[14] اعتزال النساء في الحيض

- ‌[15] النهي عن كثرة الحلف

- ‌[16] مشروعية الطلاق في الإسلام

- ‌[17] أحكام الرضاع

- ‌[19] خطبة المرأة واستحقاق المهر

- ‌[20] الربا جريمة اجتماعية خطيرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌[1] النهي عن موالاة الكافرين

- ‌سورة النساء

- ‌[1] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام

- ‌[3] المحرمات من النساء

- ‌[4] وسائل معالجة الشقاق بين الزوجين

- ‌[5] حرمة الصلاة على السكران والجنب

- ‌[6] جريمة القتل وجزاؤها في الإسلام

- ‌[7] صلاة الخوف

- ‌سورة المائدة

- ‌[2] أحكام الوضوء والتيمم

- ‌[3] حد السرقة وقطع الطريق

- ‌[4] كفارة اليمين وتحريم الخمر والميسر

- ‌ سورة الأنفال

- ‌[1] حكم الأنفال في الإسلام

- ‌[2] الفرار من الزحف

- ‌[3] كيفية قسمة الغنائم

- ‌سورة التوبة

- ‌[1] عمارة المساجد

- ‌[2] منع المشركين دخول المسجد الحرام

- ‌ سورة الحج

- ‌[1] التقرب إلى الله بالهدي الأضاحي

الفصل: ‌[1] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام

‌سورة النساء

[1] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام

ص: 416

التحليل اللفظي

{وَبَثَّ مِنْهُمَا} : معناه نشر وفرّق على سبيل التناسل والتوالد، ومنه {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16] أي مبسوطة، أو مفرقة في المجالس، وأصل البث: التفريق وإثارة الشيء.

{تَسَآءَلُونَ بِهِ} : معناه يسأل بعضكم بعضاً به مثل: أسألك بالله، وأنشدك الله، والمفاعلة على ظاهرها أو بمعنى تسألون كثيراً.

قال الزجاج: الأصل تتساءلون حذفت الثانية تخفيفاً.

{والأرحام} : جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه، ثم أطلق على القرابة مطلقاً.

{رَقِيباً} : الرقيب: الحفيظ المطلّع على الأعمال والمَرْقب: المكان العالي الذي يشرف عليه الرقيب، والمراد في الآية أنه تعالى مشرف على أعمالنا، مطلع على أفعالنا، لا تخفى عليه خافية، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب جل وعلا.

{اليتامى} : جمع يتيم وهو الذي فقد أباه مشتق من اليتم وهو الانفراد ومنه (الدرة اليتيمة) .

قال في «اللسان» : اليتيم: الذي يموت أبوه، والعجيّ: الذي تموت أمه، واللطيم: الذي يموت أبواه، وهو يتيم حتى يبلغ، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم.

ص: 417

{حُوباً} : الحُوب: الإثم قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حُوب بالضم، وتميم يقولونه بالفتح (حَوْب) قال الراغب: الحُوب الإثم، والحَوْبُ المصدر منه، وروي (طلاق أم أيوب حُوْب) وتسميته بذلك لكونه مزجوراً عنه.

قال القرطبي: وأصله الزجر للإبل، فسمي الإثم به لأنه يزجر عنه وفي الحديث «اللهم اغفر حوبتي» أي إثمي.

{تُقْسِطُواْ} : يُقال: أقسط الرجل إذا عدل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم َ:«المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة» ويقال: قسط الرجل إذا جار ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] .

فالرباعي بمعنى العدل، والثلاثي بمعنى الظلم.

{تَعُولُواْ} : معناه تميلوا وتجوروا يقال: عُلْتَ عليّ أي جُرت عليّ، ومنه العول في الفريضة، والعول في الأصل: الميل المحسوس، يقال: عال الميزان إذا مال ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور.

وفسّر الإمام الشافعي رحمه الله {أَلَاّ تَعُولُواْ} بمعنى ألا تكثر عيالكم.

{صدقاتهن} : يعني مهورهن جمع صَدُقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق بمعنى المهر، قال ابن قتيبة: وفيها لغةٌ أخرى: صَدْقة.

{نِحْلَةً} : النحلة: الهبة والعطيّة عن طيب نفس أي لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة، وفسّر بعضهم النّخْلة بمعنى الفريضة والمعنى: وأعطوا النساء مهورهن فريضة من الله محتومة.

{هَنِيئاً مَّرِيئاً} : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا انساغ وانحدر إلى المعدة بدون ضرر.

ص: 418

المعنى الإجمالي

افتتح الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، منبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة وهي (آدم) ، وخلق منها زوجها وهي (حواء) ، ونشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها خلائق كثيرين، فالناس جميعاً من أبٍ واحد، وهم إخوة في الإنسانية والنسب، فعلى القوي أن يعطف على الضعيف، وعلى الغني أن يساعد الفقير، حتى يتم بنيان المجتمع الإنساني.

وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في موطنين: في أول الآية وفي آخرها ليشير إلى عظم حق الله على عباده، كما قرن تعالى بين التقوى وصلة الرحم {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} ليدل على أهمية هذه الرابطة العظيمة (رابطة الرحم) فعلى الإنسان أن يرعي هاتين الرابطتين: رابطة الإيمان بالله، ورابطة القرابة والرحم، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمان، ولما كان هناك حروب طاحنة مدمرة، تلتهب الأخضر واليابس، وتقضي على الكهل والوليد!

وقد عقّب تعالى في الآية الثانية على (حق اليتامى) فأمر بالمحافظة على أموالهم، وعدم الاعتداء عليها لأنهم بحاجة إلى رعاية وحماية، وإلى مساعدة ومواساة، فإن الطفل اليتيم ضعيف، وظلم الضعيف ذنب عظيم عند الله.

ثم أمر تعالى الرجال إذا كان في حجْر أحدهم يتيمة، ورغب في الزواج بها، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، أو يعدل إلى ما سواها من النساء، فلم يضيّق الله عليه، وأباح له أن يتزوج اثنتين، وثلاثاً، إلى أربع، فإذا خشي عدم العدل فعليه أن يقتصر على واحدة.

وختم تعالى هذه الآيات بأمر الرجال بإعطاء النساء مهورهن عن طيب نفس، عطّية وهبة بسخاء، لا منّة فيها ولا استعلاء، فإذا طابت نفوسهن

ص: 419

عن شيء منه فليأكله الزوج حلالاً طيباً.

سبب النزول

أولاً: روي أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم، فلما بلغ طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فنزلت الآية {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ

} قاله سعيد بن جبير.

ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها: «أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى

} .

ثالثاً: وروى البخاري عن (عروة بن الزبير) أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك إلاّ أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. . وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بعد هذه الآية فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء

} [النساء: 127] الآية.

ص: 420

وجوه القراءات

1 -

قرأ الجمهور {تَسَآءَلُونَ بِهِ} بالتخفيف، وقرأ ابن كثير ونافع (تَسّاءلون به) بالتشديد.

قال الزجاج: فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين لقرب مكانهما، ومن قرأ بالتخفيف حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين.

2 -

قرأ الجمهور {والأرحام} بالنصب على معنى واتقوا الأرحام، وقرأ الحسن وحمزة (والأرحامِ) .

قال الزجاج: الخفض في (الأرحام) خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:«لا تحلفوا بآبائكم» وإليه ذهب الفراء.

لطائف التفسير

اللطيفة الأولى: إنما سميت هذه السورة (سورة النساء) لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر ممّا نزل في غيرها من السور، وفي الافتتاح بتذكير الناس أنهم خلقوا من نفسٍ واحدة، تمهيد جميل وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام الأنكحة، والمواريث، والحقوق الزوجية، وأحكام تتعلق بالنسب والمصاهرة وغيرها من الأحكام الشرعية.

اللطيفة الثانية: الناس جميعاً يجمعهم نسب واحد، ويرجعون إلى أصل واحد هو (آدم) عليه السلام، ونظرية (النشوء والتطور) التي اخترعها اليهودي

ص: 421

(داروين) تعارض صريح القرآن، القائل {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} فقد زعم (داروين) أن الإنسان بدأت حياته بجرثومة ظهرت على سطح الماء، ثم تحولت إلى حيوان صغير، ثم تدرّج هذا الحيوان فأصبح ضفدعاً، فسمكة، فقرداً، ثم ترقى هذا القرد فصار إنساناً. . إلخ فهذه النظرية مجرد افتراضات وهمية، ردّها العلماء بالأدلة القاطعة.

اللطيفة الثالثة: سميت حواء لأنها خلقت من حي كما قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهذا رأي الجمهور، وأنكر (أبو مسلم) خلقها من ضلع آدم وقال: أي فائدة في خلقها من الضلع والله قادر على أن يخلقها من التراب؟ وزعم أن قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها، وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ (محمد عبده) في «تفسير المنار» ، وهو باطل إذ لو كان تأويل الآية كذلك لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفسٍ واحدة، وهو خلاف النص، وخلاف ما نطقت به الأحاديث الصحيحة «إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج» .

وأما الفائدة فهي بيان قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يخلق حياً من حي لا على سبيل التوالد، كما أنه قادر على أن يخلق حياً من جماد كذلك، فآدم خلق من تراب، وعيسى خلق من أنثى بدون رجل، وحواء خلقت من رجل بدون أنثى، والله على كل شيء قدير.

اللطيفة الرابعة: التعبير عن الحلال والحرام بالخبيث والطيب {أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} للتنفير من أكل أموال اليتامى والترغيب فيما رزقهم الله من

ص: 422

الكسب الحلال بالاكتفاء به وعدم التشوف إلى مال اليتيم فإنه ظلم وسحت.

اللطيفة الخامسة: قال أبو السعود: «أوثر التعبير عن الكبار باليتامى {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} لقرب العهد بالصغر وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم، حتى كأنّ اسم اليتيم باق غير زائل عنهم» .

أقول: وهذا الإطلاق يسمى عند علماء البيان (المجاز المرسل) وعلاقته اعتبار ما كان، أي الذين كانوا يتامى.

اللطيفة السادسة: أكل مال اليتيم حرام، وإن لم يضمّ إلى مال الوصي، والتقييد في الآية الكريمة {وَلَا تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} لزيادة التشنيع عليهم لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح وأشنع فلذلك خُصّ النهيُ به.

اللطيفة السابعة: وجه المناسبة بين ذكر اليتامى ونكاح النساء في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} هو أن النساء في الضعف كاليتامى، ومن ناحية أخرى فقد كانت اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون أن يعدل معها في الصداق فنهوا عن ذلك، وقد تقدم حديث عائشة.

قال أبو السعود: «وفي إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه» .

ص: 423

الأحكام الشرعية

الحكم الأول: ما هو حكم التساؤل بالأرحام؟

دلّ قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} على أن التساؤل بالرحم جائز ولا سميا على قراءة (حمزة) الذي قرأها بالجر (والأرحامِ) وبهذا قال بعض العلماء، لأنه ليس بقسم وإنما هو استعطاف فقول الرجل للآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا لا يراد منه الحلف الممنوع، وإنما هو سؤال بحرمة الأرحام التي أمر الله بصلتها، واستدلوا بحديث «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا

» الحديث.

وكره بعضهم ذلك وقال: إن الحديث الصحيح يردّه: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» فاعتبره نوعاً من أنواع القسم، وهو قول ابن عطية.

قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في اللغة العربية، خطأ عظيم في أصول الدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:«لا تحلفوا بآبائكم» فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم؟ .

ونقل القرطبي عن (المبرّد) أنه قال: «لو صليت خلف إمام يقرأ {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} لأخذت نعلي ومضيتُ» .

قال القشيري: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم َ تواتراً يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم َ فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي واستقبح ما قرأ به،

ص: 424

وهذا مقام محذور ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم َ ولا يشك أحد في فصاحته. ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه «.

الحكم الثاني: هل يعطى اليتيم ماله قبل البلوغ؟

دلّ قوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} على وجوب دفع المال لليتيم، وقد اتفق العلماء على أن اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ لقوله تعالى في الآيات التالية

{وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فقد شرطت البلوغ، وإيناس الرشد، والحكمة أن الصغير لا يحسن التصرف في ماله وربما صرفه في غير وجوه النفع، وللعلماء في تفسير هذه الآية وجهان:

الوجه الأول: أن يكون المراد باليتامى البالغين الذين بلغوا سن الرشد، وسمّوا يتامى (مجازاً) باعتبار ما كان أي الذين كانوا أيتاماً.

الوجه الثاني: أن المراد باليتامى الصغار، الذين هم دون سن البلوغ، والمراد بالإيتاء الإنفاق عليهم بالطعام والكسوة، أو المراد بالإيتاء ترك الأموال وحفظها لهم وعدم التعرض لها بسوء. وهذا الوجه قوي وذلك أن بعض الأوصياء كانوا يتعجلون في إنفاق مال اليتيم وتبذيره، فأمروا بالحفاظ عليه واستثماره فيما يعود بالنفع على اليتيم، حتى إذا بلغ سن الرشد سلّموه له تاماً موفوراً، ولعلّ الوجه الأول أقوى وأرجح والله أعلم.

الحكم الثالث: هل الأمر في قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} للوجوب أم للإباحة؟

ذهب الجمهور إلى أن الأمر في قوله تعالى: {فانكحوا} للإباحة مثل الأمر في قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] وفي قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] .

ص: 425

وقال أهل الظاهر: النكاح واجب وتمسكوا بظاهر هذه الآية، لأن الأمر للوجوب، وهم محجوبون بقوله تعالى:{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} إلى قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النساء: 25] .

قال الإمام الفخر: «فحكَمَ تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خيرٌ من فعله، فدل ذلك على أنه ليس بمندوب فضلاً عن أنه واجب» .

الحكم الرابع: ما معنى قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} ؟

اتفق علماء اللغة على أن هذه الكلمات من ألفاظ العدد، وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها، فمثنى تدل على اثنين اثنين، وثُلاث تدل على ثلاثة ثلاثة، ورُباع تدل على أربعة أربعة، والمعنى: انكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء، ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً حسبما تريدون.

قال الزمخشري: ولما كان الخطاب للجميع وجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى. أي لو قلت للجَمع اقتسموا المال الكثير درهمين لم يضح الكلام، فإذا قلت: درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم.

وفي هذه الآية دلالة على حرمة الزيادة على أربع، وقد أجمع العلماء والفقهاء على ذلك ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز التزوج بتسع نسوة بناء على أن الواو للجمع وأن المراد أن يجمع الإنسان اثنتين وثلاثاً وأربعاً.

قال العلامة القرطبي: «إعلم أن هذا العدد (مثنى وثلاث ورباع) لا يدل

ص: 426

على إباحة تسع كما قاله مَنْ بَعُد للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعَضَد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم َ نكح تسعاً وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة، والرافضةُ وبعض أهل الظاهر، وذهب بعضهم إلى أقبح من ذلك، فقالوا بإباحة الجمع بين (ثمان عشرة) وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، وقد أسلم (غيلان) وتحته عشر نسوة فأمره عليه السلام أن يختار أربعاً منهن ويفارق سائرهن.

وقد خاطب تعالى العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول (تسعة وتقول: اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلاناً أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول (ثمانية عشر) » .

أقول: إن الإجماع قد حصل على حرمة الزيادة على أربع، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء الشذّاذ المخالفين، فلا عبرة بقولهم فإنما هو محض جهل وغباء وكما يقول الشاعر:

ومن أخذ العلوم بغير شيخ

يضل عن الصراط المستقيم

وكم من عائب قولاً صحيحاً

وآفته من «الفهم السقيم»

أعاذنا الله من حماقة السفهاء وتطاول الجهلاء؟!

ما ترشد إليه الآيات الكريمة

1 -

البشر جميعاً يرجعون إلى أصل واحدٍ، وينتسبون إلى أبٍ واحد، هو آدم عليه السلام.

ص: 427

2 -

جواز التساؤل بالله تعالى كقولهم: أسألك بالله، وأنشدك بالله.

3 -

حق الرحم عظيم ولهذا أمر الله تعالى بصلة الأرحام وعدم قطيعتها.

4 -

وجوب رعاية اليتيم والحفاظ على ماله ودفعه إليه عند البلوغ.

5 -

إباحة نكاح النساء في حدود أربع من الحرائر وبشرط العدل بينهن في القسمة.

6 -

وجوب الاقتصار على واحدة إذا خشي الإنسان عدم العدل بين نسائه.

خاتمة البحث:

حكمة التشريع

مسألة «تعدد الزوجات» ضرورة اقتضتها ظروف الحياة، وهي ليست تشريعاً جديداً انفرد به الإسلام، وإنما جاء الإسلام فوجده بلا قيود ولا حدود، وبصورة غير إنسانية، فنظّمه وشذّبه وجعله دواءً وعلاجاً لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع. جاء الإسلام والرجال يتزوجون عشرة نسوة أو أكثر أو أقل - كما مرّ في حديث غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة - بدون حدّ ولا قيد، فجاء ليقول للرجال: إن هناك حداً لا يحل تجاوزه هو (أربع) وإن هناك قيداً وشرطاً لإباحة هذه الضرورة في (العدل بين الزوجات) فإذا لم يتحقق ذلك وجب الاقتصار على واحدة {فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} .

فهو إذاً نظام قائم وموجود منذ العصور القديمة، ولكنه كان فوضى فنظّمه الإسلام، وكان تابعاً للهوى والاستمتاع باللذائذ، فجعله الإسلام

ص: 428

سبيلاً للحياة الفاضلة الكريمة.

والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان أن «إباحة تعدد الزوجات» مفخرة من مفاخر الإسلام، لأنه استطاع أن يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل، تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا تجد لها حلاً إلا بالرجوع إلى حكم الإسلام، وبالأخذ بنظام الإسلام.

إن هناك أسباباً قاهرة تجعل التعدد ضرورة كعقم الزوجة، ومرضها مرضاً يمنع زوجها من التحصن، وغير ذلك من الأسباب التي لا نتعرض لذكرها الآن، ولكن نشير إلى نقطة هامة يدركها المرء ببساطة.

إن المجتمع في نظر الإسلام كالميزان يجب أن تتعادل كفتاه، ومن أجل المحافظة على التوازن يجب أن يكون عدد الرجال بقدر عدد النساء، فإذا زاد عدد الرجال على عدد النساء، أو بالعكس فكيف نحل هذه المشكلة؟

ماذا نصنع حين يختل التوازن ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرجال؟

أنحرم المرأة من (نعمة الزوجية) و (نعمة الأمومة) ونتركها تسلك طريق الفاحشة والرذيلة كما حصل في أوربا من جراء تزايد عدد النساء بعد الحرب العالمية الأخيرة؟ أم نحل هذه المشكلة بطرقٍ شريفة فاضلة نصون فيها كرامة المرأة، وطهارة الأسرة، وسلامة المجتمع؟ أيهما أكرم وأفضل لدى العاقل أن ترتبط المرأة برباط مقدس تنضم فيه مع امرأة أخرى تحت حماية رجل بطريق شرعي شريف، أم نجعلها خدينةً وعشيقة لذلك الرجل وتكون العلاقة بينهما علاقة إثم وإجرام؟!

لقد اختارت ألمانيا (المسيحية) التي يحرم دينها التعدد، فلم تجد خيرة لها إلاّ ما اختاره الإسلام فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الألمانية من احتراف البغاء، وما يتولد عنه من أضرار فادحة وفي مقدمتها كثرة اللقطاء.

تقول أستاذة ألمانية في الجامعة: (إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو

ص: 429

في إباحة تعدد الزوجات

إنني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه. . إن هذا ليس رأي وحدي بل هو رأي نساء كل ألمانيا) .

وفي عام 1948 ميلادية أوصى مؤتمر الشباب العالمي في (ميونخ) بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة تكاثر النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية.

ولقد حلّ الإسلام المشكلة بأشرف وأكرم الطرق، بينما وقفت المسيحية مكتوفة الأيدي لا تبدي ولا تعيد، أفلا يكون للإسلام الفضل الأكبر لحل مثل هذه الظاهرة التي تعاني منها أمم لا تدين بدين الإسلام؟!

ويجدر بي أن أنقل هنا بعض فقرات لشهيد الإسلام (سيد قطب) من كتابه «السلام العالمي في الإسلام» حيث قال تغمده الله بالرحمة:

«إن ثرثرةً طويلةً عريضة تتناثر حول حكاية» تعدد الزوجات «في الإسلام، فهل هي حقيقة تلك الآفة الخطرة في حياة المجتمع؟

إنني أنظر فأرى كل مشكلة اجتماعية قد تحتاج إلى تدخل من التشريع إلاّ مسألة تعدد الزوجات فإنها تحل نفسها بنفسها.

. إنها مسألة تتحكم فيها الأرقام، ولا تتحكم فيها النظريات ولا التشريعات.

في كل أمة رجال ونساء، ومتى توازن عدد الرجال مع عدد النساء فإنه يتعذر عملياً أن يحصل رجل واحد على أكثر من امرأة واحدة.

فأما حين يختل توازن الأمة، فيقل عدد الرجال عن النساء كما في الحروب، والأوبئة التي يتعرض لها الرجال أكثر، فهنا فقط يوجد مجال لأن يستطيع رجل تعديد زوجاته.

ص: 430

فلننظر إذاً في هذه الحالة وأقر الأمثلة لها الآن (ألمانيا) حيث توجد ثلاث فتيات مقبال كل شاب، وهي حالة اختلال اجتماعي، فكيف يواجهها المشرع؟ {

إن هناك حلاً من حلول ثلاثة:

الحل الأول: أن يتزوج كل رجل امرأة، وتبقى اثنتان لا تعرفان في حياتهما رجلاً، ولا بيتاً، ولا طفلاً، ولا أسرة.

والحل الثاني: أن يتزوج كل رجل امرأة فيعاشرها زوجته، وأن يختلف إلى الأخريين أو واحدة منهما لتعرف الرجل دون أن تعرف البيت أو الطفل، فإذا عرفت الطفل عرفته عن طريق الجريمة، وحملته ذلك العار والضياع.

والحل الثالث: أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة، فيرفعها إلى شرف الزوجية، وأمان البيت، وضمانة الأسرة، ويرفع ضميره عن لوثة الجريمة، وقلق الإثم، وعذاب الضمير، ويرفع المجتمع عن لوثة الفوضى واختلاط الأنساب.

أي الحلول أليق بالإنسانية، وأحق بالرجولة، وأكرم للمرأة ذاتها وأنفع؟} «.

ص: 431

رعاية الإسلام لأموال اليتيم

ص: 432

التحليل اللفظي

{السفهآء} : أصل السفه في اللغة الخفة والحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر إذا أمالته، ورجل سفيه إذا كان ناقص التفكير خفيف الحلم، والمراد به هنا الذي لا يحسن التصرف في ماله، أو يبذره في غير الطرق المشروعة.

قال في «الكشاف» : «السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها» .

{قياما} : أي به معاشكم وقوام حياتكم.

قال ابن قتيبة: قياماً وقواماً بمنزلة واحدة تقول: هذا قوام أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك.

{وابتلوا} : الابتلاء: الاختبار أي اختبروا عقولهم وتصرفهم في أموالهم.

{آنَسْتُمْ} : أي علمتم وقيل: رأيتم، وأصل الإيناس: الإبصار ومنه قوله تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً؟ أي تبصّر.

{رُشْداً} : الرشد الاهتداء إلى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال.

{إِسْرَافاً} : الإسراف مجاوزة الحد والإفراط في الشيء، والسرف والتبذير.

{وَبِدَاراً} : معناه مبادرة أي مسارعة، والمراد أن يسارع في أكل مال اليتيم خشية أن يكبر فيطالبه به.

ص: 433

{فَلْيَسْتَعْفِفْ} : استعفّ عن الشيء كفّ عنه وتركه، وهو أبلغ من (عفّ) كأنه طلب زيادة العفة.

{حَسِيباً} : أي محاسباً لأعمالكم ومجازياً لكم عليها.

قال الأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، ومن الثاني قولهم: حسبك الله أي كافيك الله. قال تعالى: {ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] .

{القسمة} : المراد بالقسمة في الآية قسمة التركة بين المستحقين من الأقرباء.

{أُوْلُواْ القربى} : المراد بهم الأقرباء الذين لا يرثون لكونهم محجوبين، أو لكونهم من ذوي الأرحام.

{قَوْلاً مَّعْرُوفاً} : أي قولاً طيباً لطيفاً فيه نوع من الاعتذار، وتطييب الخاطر، قال سعيد بن جبير: يقول الولي للقريب: خذ بارك الله فيك، إني لست أملك هذا المال إنما هو للصغار.

{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} : أي سيدخلون ويذوقون ناراً حامية مستعرة يصطلي الإنسان بحرّها ولهبها.

المعنى الإجمالي

نهى الله سبحانه وتعالى الأولياء عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال، التي جعلها الله للناس قياماً، تقوم بها حياتهم ومعايشهم، وأمر بالإنفاق عليهم بشتى أنواع الإنفاق من الكسوة والإطعام وسائر الحاجات، كما أمر تعالى باختبار اليتامى حتى إذا رأوا منهم صلاحاً في الدين، وحفظاً للأموال، فعلى الأوصياء أن يدفعوا إليهم أموالهم من غير تأخير، وعليهم ألاّ يبذّروها

ص: 434

ويفرطوا في انفاقها، ويقولوا: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا، فمن كان غنياً فليكفّ عن مال اليتيم، ومن كان فقيراً فليأكل بقدر الحاجة، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم لئلا يجحدوا تسلمها وكفى بالله محاسباً ورقيباً. ثم بيّن تعالى أن للرجال نصيباً من تركة أقربائهم، كما للنساء، فرضها الله لهم بشرعه العادل وكتابه المبين، وأمر بإعطاء أولي القربى واليتامى والمساكين من غير الوارثين شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم وإحساناً إليهم.

ثم حذَّر تعالى الأوصياء من الظلم للأيتام الذين جعلهم الله تحت رعايتهم ووصايتهم، وأمرهم بالإحسان إليهم، فكما يخشى الإنسان على أولاده الصغار الضعاف بعد موته، عليه أن يتقي الله في هؤلاء الأيتام فكأنه تعالى يقول: افعلوا باليتامى، كما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم.

ثم ختم تعالى الآيات ببيان جزاء الظالمين الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وعدواناً، وبيّن أنهم إنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة، وسيدخلون السعير وهي نار جهنم المستعرة أعاذنا الله منها.

سبب النزول

أولاً: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الولدان الصغار شيئاً، ويجعلون الميراث للرجال الكبار فأنزل الله {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون

} الآية.

ص: 435

ثانياً: وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له:(أوس بن ثابت) وترك ابنتين وابناً صغيراً فجاء ابنا عمه فأخذوا ميراثه كله. فقالت امرأته لهما تزوجا بهما - وكان بهما دمامة - فأبيا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأخبرته فنزلت الآية: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم َ إليهما فقال لهما: لا تحركا من الميراث شيئاً فقد أخبرت أن للذكر والأنثى نصيباً، ثم نزل قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11] .

وجوه القراءات

1 -

قرأ الجمهور {التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} ، وقرأ نافع وأهل المدينة (قِيَماً) بدون ألف.

2 -

قرأ الجمهور {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} بضم الراء، وقرأ السلمي (رَشَداً) بفتح الراء والشين.

3 -

قرأ الجمهور {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وقرأ ابن عامر وعاصم (وسَيُصْلُون) بالبناء للمجهول.

وجوه الإعراب

أولاً: قوله تعالى: {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} مفعول لأجله ويجوز أن تعرب حالاً أي لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم، وقوله (أن يكبروا) في محل نصب ب (بداراً) .

ثانياً: قوله تعالى: {وكفى بالله حَسِيباً} الباء زائدة ولفظ الجلالة فاعل و (حسبباً) تمييز.

ص: 436

ثالثاً: قوله تعالى: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} نصيباً منصوب على المصدر و (مفروضاً) صفة له.

لطائف التفسير

اللطيفة الأولى: أضاف أموال اليتامى إلى الأوصياء مع أنها أموال اليتامى للتنبيه إلى التكافل بين أفراد الأمة، والحث على حفظ الأموال وعدم تضييعها، فإن تبذير السفيه للمال فيه مضرة للمجتمع، وهو كقوله تعالى:{وَلَا تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] عبّر عن قتل الغير بقتل النفس لهذه الرابطة بين أفراد المجتمع. قال الفخر الرازي:» المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه، فلأجل هذه (الوحدة النوعية) حسنت إضافة أموال السفهاء إلى الأولياء «.

اللطيفة الثانية: لمّا كان المال سبباً لبقاء الإنسان وقيام شؤون حياته ومعاشه، سمّاه تعالى بالقيام إطلاقاً لاسم (المسبَّب) على (السبب) على سبيل المبالغة. ولهذا كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خيرٌ من أن أحتاج إلى الناس.

اللطيفة الثالثة: قال صاحب «الكشاف» : «الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرفٍ من الرشد، وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد» .

ص: 437

اللطيفة الرابعة: لفظ (استعفّ) أبلغ من (عفّ) كأنه يطلب زيادة العفة قاله أبو السعود. وفي لفظ الاستعفاف، والأكل بالمعروف، ما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه بتدبير مال اليتيم، وقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال له:«إنّ في حجْري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف، غير متأثل مالاً، ولا واقٍ مالك بماله، قال: أفأضربه؟ قال: ممّا كنت ضارباً منه ولدك» .

اللطيفة الخامسة: في اختيار هذا الأسلوب التفصيلي، مع أنه كان يكفي أن يقول: للرجال والنساء نصيبُ مما ترك الوالدان والأقربون

إلخ للاعتناء بأمر النساء، والإيذان بآصالتهن في استحقاق الإرث، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: كيف نعطي المال من لا يركب فرساً، ولا يحمل سلاحاً، ولا يقاتل عدواً؟ فلهذا فصّل الله تعالى الحكم بطريق (الإطناب) فتدبر أسرار الكتاب المجيد.

اللطيفة السادسة: ذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتأكيد والمبالغة، فهو كقول القائل: أبصرتُ بعيني، وسمعتُ بأذني وكقوله تعالى:{ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وقوله: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وقوله: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة، وفي الآية أيضاً تشنيع على آكل مال اليتيم حيث صرف المال في أخس الأشياء.

اللطيفة السابعة: قال القرطبي: «سمي المأكول ناراً باعتبار ما يؤول إليه كقوله تعالى: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] أي عنباً يؤول إلى الخمر، وقيل: المراد بالنار الحرام لأن الحرام يوجب النار فسمّاه الله تعالى باسمه» .

اللطيفة الثامنة: قال الفخر الرازي: «وما أشد دلالة هذا الوعيد {إِنَّمَا

ص: 438

يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى، وذلك كله من رحمة الله تعالى باليتامى» .

الأحكام الشرعية

الحكم الأول: ما المراد بالسفهاء في الآية الكريمة؟

اختلف المفسرون في المراد بالسفهاء في الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به الصبيان والأولاد الصغار الذين لم يكتمل رشدهم وهو منقول عن الزهري وابن زيد.

وقال بعضهم: المراد به النساء المسرفات سواءً كنّ أزواجاً أو أمهات أو بنات وهو منقول عن مجاهد والضحاك. وقيل: المراد به النساء والصبيان وهو قول الحسن وقتادة وابن عباس.

وقال آخرون: المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهذا القول أصح وهو اختيار الطبري لأن اللفظ عام والتخصيص بغير دليل لا يجوز.

قال الطبري: «إن الله جل ثناؤه عمّم، فلم يخص سفيهاً دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهاً ماله، صبياً صغيراً كان، أو رجلاً كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله، وفساده وإفساده، وسوء تدبيره» .

ص: 439

الحكم الثاني: هل يحجر على السفيه؟

استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على وجوب (الحجر على السفيه) لأنّ الله تعالى نهانا عن تسليم السفهاء أموالهم حتى نأنس منهم الرشد، ويبلغوا سنّ الاحتلام.

والحجر على أنواع: فتارة يكون (الحجر للصغر) فإن الصغر قاصر النظر مسلوب العبارة.

وتارة يكون (الحجر للجنون) فإن المجنون فاقد الأهلية في العقود لعدم العقل.

وتارة يكون (الحجر للسفه) كالذي يبذّر المال، أو يسيء التصرف في ماله لنقض عقله ودينه.

وتارة يكون (الحجر للإفلاس) كالذي تحيط الديون به ويضيق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه، فكل هؤلاء يحجر عليهم للأسباب التي ذكرناها.

وقد اتفق الفقهاء على أن الصغير لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ سنّ الاحتلام، ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى:{وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فقد شرطت الآية شرطين: الأول: البلوغ، والثاني: الرشد وهو حسن التصرف في المال، وقال الشافعي: لا بدّ أن ينضم الصلاح في الدين، مع حسن الصلاح في المال، فالفاسق يحجر عليه عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة.

وسبب الخلاف يرجع إلى معنى (الرشد) وقد نقل ابن جرير أقوال السلف في تفسير الرشد كقول مجاهد هو (العقل) وقول قتادة هو الصلاح في (العقل والدين) وقول ابن عباس هو (الصلاح في الأموال) ثم قال:

«وأولى هذه الأقوال عندي في معنى الرشد (العقل وإصلاح المال) لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجراً في دينه» .

ص: 440

أقول: ليس كل فاسق يحجر عليه لأن في الحجر إهداراً للكرامة الإنسانية، وإنما يقال: إذا كان فسقه ممّا يتناول الأموال المالية، كإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر عليه، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلاً فلا يجب الحجر، وهذا هو نفس ما رجحه شيخ المفسرين الطبري وأرشدت إليه الآية الكريمة بطريق الإشارة، حيث جاء لفظ الرشد منكّراً، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} أي نوعاً من الرشد وهو حسن التصرف في أمور المال، ولم يأت معرفاً والمقصود الأكبر في هذا الباب إنما هو الرشد الذي ينافي الإسراف في المال، فما اختاره ابن جرير قوي من هذه الوجهة والله أعلم.

الحكم الثالث: هل يحجر على الكبير؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيهاً.

وذهب أبو حنيفة إلى أن من بلغ خمساً وعشرين سنة سلّم له ماله سواءً كان رشيداً أو غير رشيد.

قال العلامة القرطبي: «واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهور الفقهاء يحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلاّ أن يكون مفسداً لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسداً أو غير مفسد لأنه يصير جَدّاً، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جداً» .

أقول: الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وهو مذهب الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) أيضاً، ولا عبرة بكبر السن فرب رجل يبلغ الخمسين من

ص: 441

العمر وهو سفيه الحلم يسرف ماله ويبذره فيجب الحجر عليه، وذلك أن الصبي إنما منع من ماله لفقد العقل الهادي إلى حفظ المال، وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى قائماً بالشيخ والشاب، كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لظاهر الآية الكريمة.

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن الرجل لتنبت لحيته ويشيب وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء فيها» .

الحكم الرابع: هل يباح للوصي أن يأكل من مال اليتيم؟

دلّ قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} على أن للوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان فقيراً بمقدار الحاجة من غير إسراف، وإذا كان غنياً وجب عليه أن يتعفف عن مال اليتيم، ويقنع بما رزقه الله من الغنى، وقد اتفق العلماء على جواز أخذ قدر الكفاية بالمعروف عند الحاجة واختلفوا هل عليه الضمان إذا أيسر؟

فذهب بعضهم إلى أنه لا ضمان عليه لأن الله تعالى أباح له الأكل بالمعروف فكان هذا مثل الأجرة، وهذا مروي عن الإمام أحمد رحمه الله.

وذهب آخرون إلى وجوب الضمان واستدلوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت» .

وقال الحنفية فيما رواه الجصاص عنهم أنه لا يأخذ على سبيل القرض، ولا على سبيل الابتداء سواءً كان غنياً أو فقيراً، واحتجوا بعموم الآيات {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] ، {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى} ، {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] {وَلَا تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188] .

ص: 442

قال الجصاص فهذه محكم حاصرة لمال اليتيم على وصيّه، وقوله:{وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} متشابه محتمل فوجب رده إلى تلك المحكمات.

وروي عن ابن عباس أنه قال: {وَمَن كَانَ فَقِيراً} الآية نسختها {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} إلخ.

الترجيح: وقد جرح الطبري القول الأول وهو جواز الأخذ على وجه الاستقراض حيث قال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} المراد أكل مال التيم عند الضرورة والحاجة إليه، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه فغير جائز له أكله» .

أقول: ولعلَّ هذا القول أرجح، لأنه جمع بين النصوص والله أعلم.

ما ترشد إليه الآيات الكريمة

1 -

وجوب الحجر على السفهاء حتى يتبيّن رشدهم وإصلاحهم للأموال.

2 -

الانفاق على المحجور عليه بالطعام والكسوة وسائر وجوه الإنفاق.

3 -

اختبار حال الأيتام عند البلوغ قبل تسليمهم المال لمعرفة دلائل الرشد.

4 -

ضرورة الإشهاد عند تسليم اليتامى أموالهم خشية الجحود والإنكار.

5 -

تقرير الإسلام لمبدأ الميراث وجعله حقاً للذكور والإناث في مال الأقرباء.

6 -

وجوب الإحسان إلى اليتامى والخشية عليهم كما يخشى الإنسان على أولاده من بعده.

7 -

الإعتداء على أموال اليتامى من الكبائر التي توجب عذاب النار.

ص: 443