المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: أهمية السماحة في الإسلام - سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين

[عبد الله بن إبراهيم اللحيدان]

الفصل: ‌ثانيا: أهمية السماحة في الإسلام

‌ثانيا: أهمية السماحة في الإسلام

كان بناء دين الإسلام منذ ظهوره على اليسر قال صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» (1) . وفي هذا الدين من السماحة والسهولة ومن اليسر والرحمة ما يتوافق مع عالميته وخلوده وهو ما يجعله صالحا لكل زمان ومكان لسائر الأمم والشعوب، فالسماحة تتواءم مع عالمية الإسلام، وخطاب الدعوة في القرآن والسنة يؤكد ذلك حيث جاءت النصوص تدعو الناس أن ينضموا تحت لواء واحد وأن يتنافسوا على معيار الإسلام الخالد وهو التقوى قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) . لقد جاء الإسلام في فترة جاهلية أهدرت كرامة الإنسان وحريته فأعاد الإسلام بناء الإنسان من جديد ونظم علاقته بربه وعلاقته بالآخرين.

(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، رقم الحديث:39.

(2)

سورة الحجرات، الآية:13.

ص: 8

ولقد وضع الإسلام الضوابط الكاملة لجميع ميادين الحياة في علاقة المرء بربه وفي علاقته ببني جنسه وفي علاقته بسائر المخلوقات، وجاءت جميع هذه الضوابط متوافقة مع فطرة الإنسان وعقله، فيها من التيسير والسماحة والمرونة، وهذه من خصائص الإسلام العظيمة التي ترتبط بأصل هذا الدين ولا يعيق تطبيقها عائق ففي أوج قوة المسلمين كانت السماحة شعارا لهذا الدين وصور ذلك لا تحصر وسيأتي بيانها.

ص: 9

وجاءت نصوص القرآن الكريم تقرر أن الخلاف باق بقاء الإنسان على هذه الأرض، وأن التعدد والتنوع في أخلاق وسمات البشر مما مضى به القدر الإلهي فسنة الله تعالى في خلقه أن تنوعت أجناسهم وألسنتهم وألوانهم كما تنوعت دياناتهم، ولذلك فإن عيش المسلم ينبغي أن يكون في ضوء هذه الحقيقة التي تزخر بها آيات عديدة كقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (1)، وقوله:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) .

(1) سورة يونس، الآية 99.

(2)

سورة هود: الآيتان 118، 119.

ص: 10

سماحة في العقيدة: إن دين الإسلام دين سماحة ويسر في عقيدته وعباداته ومعاملاته وآدابه وسائر تشريعاته فعقيدته لا تقوم على فلسفة معقدة أو تسليم مطلق أو مخالفة للفطرة والعقل، فأطلق القرآن الكريم الحرية للمرء للتدبر والتفكر في نفسه، وفي ملكوت السماوات والأرض، ودعا الناس إلى الإيمان بالله وحده وفي القرآن الكريم ما لا يحصى من الآيات الداعية إلى الإيمان يستوي في فهمها العامة والخاصة حيث دعت كل أحد إلى التجرد من الهوى والتقليد وخاطبت عقولهم وفطرهم، وهي مع ذلك لا تكرههم على الإيمان، {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها} (1) . وفي القرآن العظيم من الآيات الدالة على أن أصحاب العقول السليمة والألباب المستقيمة إذا حكموا عقولهم واستجابوا لفطرتهم وتخلصوا من ربقة التقليد فإنهم ينقادون إلى هذا الدين عن طواعية ورغبة.

إن من يقرأ القرآن الكريم يعلم حقيقة السماحة في الإسلام في أعظم قضية جاء بها الإسلام وهي قضية التوحيد فيعرض لها القرآن بأسلوب سمح سهل يدركه كل عاقل ويستدل على حقائق الإيمان بما يحسه الناس ويدركونه بأيسر طريق.

(1) سورة الكهف، الآية:29.

ص: 11

وعبر تاريخ دولة الإسلام كان يعيش في داخلها غير المسلمين في مراحل قوتها وضعفها، فلم يجبروا على ترك معتقداتهم أو يكرهوا على الدخول في الإسلام، والقاعدة العظمى في الإسلام أن لا إكراه في الدين، ولذا فقد عاش الذميون وغيرهم في كنف دولة الإسلام دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم (1) .

إن الإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم وتاريخ الإسلام في هذا المجال أنصع تاريخ على وجه الأرض (2) .

ومن المقرر عند الفقهاء أنه لو أكره أحد على الإسلام فإنه لا يصح إسلامه. قال في المغني: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا"(3) . ولذلك فإنه إذا عاد إلى دينه بعد زوال الإكراه لم يحكم بردته، ولا يجوز قتله ولا إكراهه على الإسلام، ونقل ابن قدامة إجماع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن، لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه (4) .

(1) انظر: تلبيس مردود في قضايا حية، صالح بن حميد، مكتبة المنارة، مكة، ط1، 1412هـ ص 30.

(2)

التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، دار التوزيع، القاهرة، ط 1، 1409هـ، ص 6.

(3)

المغني، ابن قدامة، دار هجر، القاهرة، تحقيق: د عبد الله التركي، د عبد الفتاح الحلو ط 2، 1412هـ ج 12 ص 291.

(4)

انظر: المرجع السابق، ج 12 ص291، 292.

ص: 12

سماحة في العبادة: وإذا ما انتقل المرء إلى العبادات فإنه سيرى فيه صورا من سماحة الإسلام ويسره في سائر العبادات ففي الطهارة جاء التيسير والسماحة في المسح على الخفين وفي التيمم قال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (1)، ودعا الله تعالى عباده إلى شكر هذه النعمة قال تعالى في ختام آية الوضوء ومشروعية التيمم عند فقد الماء أو تعذر استعماله:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2)، قال ابن كثير رحمه الله:" أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة "(3) .

وفي الصلاة يصليها المرء بحسب قدرته قائما أو قاعدا وفي أي مكان وشرع فيها الجمع والقصر عند السفر والجمع عند الحاجة، وفي الصوم كالتيسير على المريض والمسافر وكذا بقية أركان الإسلام فالزكاة على من ملك نصابا وحال عليه الحول، والحج مرة في العمر لمن استطاع.

(1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا رقم الحديث:438.

(2)

سورة المائدة، الآية:6.

(3)

تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مكتبة طيبة، المدينة المنورة، ط1، 1410هـ ج2 ص 33.

ص: 13

وشريعة التعبد في الإسلام لا تقتصر على عمل دون آخر بل كل عمل يقوم به العبد عبادة فهو يميط الأذى عن الطريق عبادة واللقمة يضعها في فم زوجته عبادة ويمسك لسانه عن قول الغيبة والكذب عبادة ويكرم ضيفه عبادة ويعود المريض عبادة ويقوم بكل فعل جميل مما هو مشروع لنفسه أو لغيره ويكون له عبادة وكل عمل أريد به وجه الله فهو عبادة (1) .

سماحة في المعاملة: أما في مجال المعاملات والآداب فتتجلى صور عظيمة من السماحة، فلقد بنى الإسلام شريعة التسامح في علاقاته على أساس متين فلم يضق ذرعا بالأديان السابقة، وشرع للمسلم أن يكون حسن المعاملة رقيق الجانب لين القول مع المسلمين وغير المسلمين فيحسن جوارهم ويقبل ضيافتهم ويصاهرهم حتى تختلط الأسرة وتمتزج الدماء (2) .

وشرع الإسلام مواساة غير المسلمين بالمال عند الحاجة فشرع للمسلم أن يعطيهم من الصدقة ويهدى إليهم ويقبل هديتهم ويواسيهم عند المصيبة ويعود مريضهم ويهنئهم بما تشرع فيه التهنئة كالتهنئة بالمولود والزواج ويناديهم بأسمائهم المحببة إليهم تأليفا لهم (3) .

(1) انظر: الموسوعة في سماحة الإسلام، محمد الصادق عرجون، الدار السعودية، جدة، ط 2، 1404هـ ج 2 ص 682. .

(2)

انظر: من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي بيروت ط1 1420، ص133.

(3)

انظر تفصيل ذلك في: دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، عبد الله اللحيدان، مطابع الحميضي، الرياض ط 1، 1420 هـ ص 148 - 178.

ص: 14

ومن سماحة الإسلام في المعاملة أن شرع العدل مع المخالف وجعل ذلك دليلا على التقوى التي رتب عليها أعظم الجزاء قال تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1) .

ولذا فإن من يتأمل أحكام الإسلام وتاريخ المسلمين يجد أنه لا يمكن أن يقوم مجتمع تحترم فيه الحقوق والواجبات كما في دولة الإسلام، وفي أوج عزة دولة الإسلام وقوتها كان يوجد من غير المسلمين العلماء والأدباء والأطباء والنابغون في مختلف الفنون والأعمال، وهل يمكن أن يكون لهؤلاء ظهور ونبوغ في أعمالهم لولا سماحة الإسلام ونبذه للتعصب الديني.

(1) سورة المائدة، الآية:8.

ص: 15

إن المعاهد في بلد الإسلام لا يعيش على هامش المجتمع بل يشارك ويخالط أفراد المجتمع، وقد يسند إليه بعض الأعمال التي هي من صميم عمل أهل الإسلام، فقد جوز الخرقي أن يكون الكافر من العاملين على الزكاة، وذكر في المغني أنها إحدى الروايتين عن الإمام أحمد؛ لأن الله تعالى قال:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (1) وهذا لفظ عام يدخل فيه أي عامل على أي صفة كانت ولأن ما يأخذ على العمالة أجرة لعمله فلم يمنع من أخذه كسائر الإجارات (2) . بل صرح الإمام الماوردي بجواز أن يتولى الذمي وزارة التنفيذ دون وزارة التفويض (3) .

لقد أطلق الإسلام على غير المسلمين الذين لهم ذمة أهل الذمة وعاملهم بها وهي تعني: العهد والأمان والضمان، والحرمة والحق (4) وهو عهد منسوب إلى الله عز وجل وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن الأثير:"وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم"(5) .

(1) سورة التوبة، الآية:60.

(2)

انظر: المغني، ابن قدامة، ج 4 ص 107.

(3)

انظر: الأحكام السلطانية، الماوردي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1410هـ ص 68 وانظر تفصيل أقوال العلماء في مسالة تولي الذمي وزارة التنفيذ في كتاب: أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي، نمر النمر، المكتبة الإسلامية، عمان، ط1، 1409هـ ص 197-214 وانتهى المؤلف إلى القول بعدم جواز ذلك. .

(4)

انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ج2 ص 168.

(5)

المرجع السابق ج 2 ص 168.

ص: 16

إن قوة هذا الدين وسلامة قواعده وتنوع أساليبه أوجدت مجالا خصبا للحوار والحرية والإبداع في المجتمع المسلم. (1) وإن من يأخذون ببعض النصوص من الكتاب أو السنة ويريدون تطبيقها في معاملة غير المسلمين يخطئون في فهم منهج الإسلام وطبيعته، فالواجب أن تؤخذ نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة كاملة وتقرر معاملة المسلم مع غيره في ضوئها وعلى هديها وفي القرآن العظيم آيات لا تحصر في الأمر بالبر والصلة والإحسان والعدل والقسط والوفاء بالعهد، والنصوص في ذلك مطلقة تستوعب كل أحد، بل إن نصوص الإحسان تشمل حتى الحيوان وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (2)، وقال تعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (3)، وقال:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (4) ، وفي ظل هذا المفهوم العام للإحسان كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة غير المسلمين وهو ما سأشير إليه في المبحث التالي.

(1) انظر: أهل الكتاب في المجتمع الإسلامي، حسن الزين، بيروت، ط1 1402 هـ ص 53.

(2)

رواه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، رقم الحديث:1955.

(3)

سورة البقرة، الآية:195.

(4)

سورة البقرة الآية: 83.

ص: 17