الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول فيمن أظهرها
فأول من أظهرها جبريل عليه الصلاة والسلام سقيا لإِسماعيل عليه الصلاة والسلام عندما ظمئ وهو صغير، ثم حفر الخليل عليه الصلاة والسلام، ثم أظهرها عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن الله عز وجل أمر إبراهيم الخليل بالمسير من الشام إلى بلد الله الحرام، فركب البُراق، وحمل إسماعيل أمامه وكان رضيعًا، وقيل: كان ابن سنتين، وهَاجَر خلفه، ومعه جبريل يدلُّه على موضع البيت، فوضعهما إبراهيم عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس فيها ماء ولا عمارة ولا زراعة، وأمرها أن تتخذ فيها عريشًا.
فلما أراد إبراهيم أن ينصرف راجعًا إلى الشام ورأت هاجر أن ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر، تركت ابنها إسماعيل في مكانه وتبعت إبراهيم، فقالت: يا إبراهيم إلى مَنْ تدعنا؟ فسكت عنها حتى إذا دنا من كَدَاء (1) قال: إلى الله أدعكم. قالت: فالله
(1) بفتح الكاف ممدود موضع بأعلى مكة، وهو الموضع الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه. "فتح الباري" 6/ 401. =
أمركَ بهذا؟ قال: نعم. قالت: فحسبي، تركْتَنا إلى كافٍ.
وخرج إبراهيم حتى وقف على كداء ولا بناء ولا ظل ولا شيء يحول دون ابنه إسماعيل، فنظر إليه فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده، فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} الآية، وانصرفت هاجر إلى ابنها وعمدت فجعلت عريشًا في موضع الحِجْر -بكسر الحاء المهملة- من سَمُر (1) -بفتح السين المهملة وضم الميم- وألقت عليه ثُمامًا (2) -بضم المثلثة وتخفيف الميم-.
وفي رواية: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وضع عندهما جِرَابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء، فلما نَفِدَ الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه وانقطع لبنها، فأخذ إسماعيل كهيئة الموت فظنَّت أنه ميت فجَزِعَت، وخرجت جزعًا أن تراه على تلك الحالة، وقالت: يموت وأنا غائبة عنه أهون عليَّ. ثم ظهر لها جبريل فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم فضرب بعَقِبِه مكان البئر فظهر الماء فوق الأرض (3).
وفي "الحدائق": فبحث جبريل بعقبه، أو قال: بجناحه -على شك الراوي- وجعلت هاجر تَزمُّ الماء، أي: تحصره خِيفَة
= وهو ما يُعرف اليوم "ريع الحَجُون" يدخل طريقه بين مقبرتي المَعْلاة، ويفضي من الجهة الأخرى إلى حي العتيبة وجرول. "المعالم الأثيرة" ص 231.
(1)
السَّمُر جمع سَمُرَة: نوع من شجر الطَّلح.
(2)
الثمام: نبات طويل كانت تُسَدُّ به فجوات البيوت قديمًا.
(3)
أصل هذه القصة في البخاري من حديث ابن عباس، ح (3364).
أن يفوتها قبل أن تأتي بشَنِّها (1)، فاستقت وبادرت إلى ابنها فسقته.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أمَّ إسماعيل لو تركت زمزم"، أو قال:"لو لم تَغرِف من الماء لكانت عينًا مَعينًا"(2).
ثم إن الجُرْهُمي عمرو بن الحارث (3) لما أحدث قومه بحرم الله تعالى الحوادث قيَّض الله لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو المذكور إلى نفائس من أموال الكعبة -وكان من جملتها غزالان من ذهب وأسياف سبعة كان ساسان ملك الفرس قد أهداها إلى الكعبة- ووضعها في زمزم وطمَّها وبالغ في طمها
(1) الشَّن: القِربة الصغيرة.
(2)
جزء من حديث ابن عباس عند البخاري، ح (3364).
ومعنى "عينًا معينًا": أي ظاهرًا جاريًا على وجه الأرض.
(3)
أورد الأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 92 أن الذي طمَّ بئر زمزم هو: مُضَاض بن عمرو بن الحارث، ثم ذكر في 2/ 41 أن الذي طمَّها هو: عمرو بن الحارث بن مُضاض، وكذا ذكر عمرو بن الحارث بن هشام في "السيرة النبوية" 1/ 114 عن ابن إسحاق، وقد تابعهما من جاء بعدهما من المؤرخين كأمثال ابن كثير في "البداية والنهاية" والصالحي في "سُبل الهدى والرشاد" وغيرهما، فأخذوا بأحد القولين ولم يبينوا وجه الاختلاف في ذلك، سوى ما وقفتُ عليه من كلام المتقي الفاسي في كتابه "شفاء الغرام" حيث قال 1/ 376: واختُلف فيمن دفن الحجر الأسود وغزالَيْ الكعبة في زمزم هل هو مُضاض بن عمرو بن الحارث بن مُضاض بن عمرو الجرهمي كما هو مقتضى الخبر الذي رواه الأزرقي عن الكلبي عن أبي صالح؟ أو هو عمرو بن الحارث بن مُضاض الأصغر؟ كما هو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق والزبير بن بكَّار عن أبي عبيدة وذكر الأزرقي ما يوافقه، اهـ.
ودفنها (1)، وفر إلى اليمن بقومه (2).
فلم تزل زمزم مدفونة مغيبة أكثر من خمسمائة سنة لا يُعرف مكانها إلى أن أظهرها عبد المطلب جَدُّ النبي صلى الله عليه وسلم بعلامات عَرَف بها موضعها في رؤيا رآها متكررة ثلاثة مرات، فحفرها وأظهرها (3)، ولم تزل ظاهرة بحمد الله تعالى إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى.
* * *
(1) وكان ذلك بعد أن نَضَب ماء زمزم عقوبة لجرهم لما أحدثوا في الحرم من المعاصي.
(2)
في "أخبار مكة" للأزرقي 2/ 41: فسلَّط الله عليهم -أي على جرهم- خزاعة فأخرجتهم من الحرم، ووَلِيَت عليهم الكعبة والحكم بمكة ما شاء الله أن تليه.
(3)
وهي قصة طويلة أوردها الأزرقي في "أخبار مكة" 2/ 44 - 46، وابن هشام في "السيرة النبوية" 1/ 142، والفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 16، كلهم من طريق محمَّد بن إسحاق بإسناده عن علي بن أبي طالب قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحِجر -حِجْر إسماعيل- إذ أتاني آتٍ فقال: احفِر طيبة، قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر بَرَّة، قال: قلت: وما برّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة، قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم، قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تَنزِف أبدًا ولا تُذَمّ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نُقْرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
قال ابن إسحاق: فلما بُيِّن له شأنها ودُلّ على موضعها، وعَرَف أنه صُدِق، غدا بمعوله ومعه ابن الحارث
…
وللقصة تتمة تُنظر في المصادر المذكورة آنفًا.