الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الخامسة:
يقولون: إن نسبة السنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليست يقينية؛ لأنها:
أولاً: تأخر تدوينها ولا يوثق بناقليها.
وثانياً: رويت بالمعنى، مع عدم كفالة الله بحفظها كالقرآن، وكثرة ما غزاها من الأحاديث الموضوعة.
أما الشق الأول: فيقول عبد الله جكرالوي: "لم تدون السنة أيام حياته عليه الصلاة والسلام، وتناقلت (1) سماعاً إلى القرن الثالث الهجري، وإذا كان سامعونا لا يستطيعون ذكر ما تحدثنا عنه في خطبة الجمعة الماضية فكيف بسماع مائة سنة وصحة بيانه"(2) .
وأكد حشمت علي هذا المعنى فقال: "إن الصحاح (3) الستة التي يُفْتَخَرُ بها والتي يقال بحاجة القرآن إليها، كل تلك الكتب جُمعت ودونت في القرن الثالث حسب إقرار المحدثين"(4) .
ويضيف عبد الله جكرالوي قائلاً: "بالإضافة إلى هذا التأخر في تدوين السنة كان المجتمع المدني يضم كثيراً من المنافقين في صفوفه، وقد استحالت معرفتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبه ربه بقوله:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (التوبة: 101) ، فهذه الآية
(1) كذا والصواب: وتنوقلت.
(2)
مجلة إشاعة السنة ج 19 / 152 عام 1902م.
(3)
كذا والاستعمال الصحيح هو ((الكتب)) لأن ملتزم الصحة بعضها لا كلها.
(4)
تبليغ القرآن 41.
وشبيهاتها تنفي معرفة الرسول بهم، وأي شخص أكثر معرفة منه عليه الصلاة والسلام بهؤلاء " (1) .
ووسع من هذا المفهوم في موضع آخر فقال: "ليس في وسع المرء أن يطلع على حقيقة رواة الحديث صدقاً وكذباً؛ لأنهما من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها إلا العليم بذات الصدور" 2) .
ويقول الحافظ أسلم: "قد كان للعواطف البشرية يد في تصحيح السنة وتضعيفها، وإنا لنرى توثيق الرواة لم ينحصر في الصدق فحسب، بل تجاوزه إلى التلمذة والتشيخ والمشاركة الفكرية والعواطف والميول الوجدانية"(3) .
الرد على الفرية الأولى: وهي تأخر تدوين الحديث:
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يُعْنَوْنَ بتدوين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته بإذن منه صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري بسنده عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من حديث عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"(4) .
وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة
…
فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن – فقال: اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه"(5) .
(1) إشاعة السنة ج 19 / 152 عام 1902.
(2)
إشاعة السنة ج 19 / 200 عام 1902.
(3)
مقام حديث 125.
(4)
صحيح البخاري (113) .
(5)
صحيح البخاري (2434) .
وأخرج البخاري بسنده عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر)) (1) .
وروى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك من حديث أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينا نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً:قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تفتح أولاً يعني قسطنطينية"(2) .
ففي هذه الأحاديث وغيرها كثير دليل صريح على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتبون الأحاديث النبوية، وقد كانت لبعضهم صحائف مثل صحيفة عبد الله بن عمرو وصحيفة جابر بن عبد الله.
هذا وقد أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي الصحابة الذين كانوا يكتبون أو كانت لهم صحف فبلغ عددهم اثنين وخمسين صحابيا (3) .
هذا جيل الصحابة فإذا جئنا إلى جيل التابعين نجد أن الكتابة انتشرت
(1) صحيح البخاري (111) ، وأخرجه مسلم (1370) بسنده عن إبراهيم بن التيمي عن أبيه يزيد بن شريك عن علي محلّ الشاهد والديات وأشياء أخرى زائدة عل ما في رواية أبي جحيفة.
(2)
المسند (11 / 244) ، والمستدرك (4 / 555)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4)، وقال: فيه دليل على أن الحديث كتب في عهده صلى الله عليه وسلم خلافا لما يظنه بعض الخراصين.
(3)
دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه 92 – 142.
أكثر من جيل الصحابة فقد أوصل محمد مصطفى الأعظمي التابعين الذين كانت لهم صحائف ورسائل إلى أكثر من اثنين وخمسين ومائة تابعي (1) .
ولعل مرد ذلك إلى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فقد روى أبو نعيم أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: "انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه "(2) .
وأصدر أمره إلى أبي بكر بن حزم أن "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء "(3) .
وأما جيل تابعي التابعين فقد أخذت كتابة الأحاديث النبوية منحى آخر إذ أضيف إليها آثار الصحابة والتابعين وصُنفت على حسب الكتب والأبواب الفقهية.
وما من حاضرة من حواضر العالم الإسلامي إلا وقام علماؤها بتدوين هذه الكتب وتصنيفها، وكانت هذه الكتب مادة أساسية للكتب الستة.
قال الحافظ ابن حجر: "ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين
(1) المصدر السابق 143 - 220.
(2)
ذكر أخبار أصبهان (1 / 312) .
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب العلم - باب كيف يقبض العلم.
ومن بعدهم، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنف أسد بن موسى الأموي مسنداً، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معاً، كأبي بكر بن أبي شيبة" (1) .
فسقط بذلك قول جكرالوي وبطلت دعواه أن تدوين الحديث تأخر إلى القرن الثالث.
أما قول حشمت علي: إن الصحاح الستة تأخر تدوينها إلى القرن الثالث فنقول: نعم، دونت في القرن الثالث فكان ماذا؟ .
لقد تبين آنفاً أن أصولها كانت مدونة مكتوبة (2) ، ويظهر من مجموع كلام الرجلين أنهما ضلا في مفهوم السنة وأنهما يظنان أن السنة هي الكتب
(1) هدي الساري 6.
(2)
درس الأخ محمد باجعمان كتاب الوضوء من صحيح البخاري فخرج بأنه يتضمن (113) حديثاً اشتملت على (238) راوياً، ذكرت المصادر لـ (107) منهم مادة مكتوبة. انظر " المصادر المكتوبة للبخاري في صحيحه ((كتاب الوضوء)) "15.
الستة.
أما تشبث جكرالوي بقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (التوبة: 101) .
فالجواب عنه في ثلاثة مقامات:
المقام الأول: عدم معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأعيان بعض المنافقين لا يقتضي الشك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المنافقين كانوا معروفين بصفاتهم فكان الصحابة يأخذون حذرهم منهم، ففي الصحيحين من حديث عتبان بن مالك لما صلى له النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فاجتمع إليه نفر من أهل الحي فقال قائل منهم: أين مالك الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل له ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟ قال: قالوا: الله ورسوله أعلم، أما نحن فو الله لا نرى ودّه وحديثه إلا إلى المنافقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "(1) .
فظهر من هذا الحديث أن الصحابة كانوا في غاية الصرامة في شأن المنافقين بحيث اتهموا من جالسهم وخالطهم وإن لم يبلغ به الأمر إلى الكفر الباطني كما شهد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لمالك بن الدخشن (2) ، أفتراهم يأخذون الأحاديث من المنافقين بعد ذلك؟ أو ترى المنافقين يجرؤون على اختلاق الأحاديث وبثها في الناس مع أنهم معزولون عن المجتمع المؤمن ومنبوذون فيهم؟
(1) صحيح البخاري (1186) واللفظ له، وصحيح مسلم (263) .
(2)
كان بدريا، ولا يخفى فضلهم الباهر في الأمة. انظر معرفة الصحابة لأبي نعيم (5 / 2464) .
وليس عند جكرالوي شبهة دليل على أن المنافقين كانوا يتصدون لبث الأحاديث المختلقة وروايتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مماته.
المقام الثاني: أن في الآية التي استدل بها ما يرد دعواه إذ أوعدهم الله عذابين في الدنيا قبل العذاب الشديد في الآخرة.
قال بعض المفسرين: أحد العذابين هو فضيحتهم بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في قول الله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ث} (التوبة:101) . قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج من المسجد ناسا منهم ففضحهم " (1) .
المقام الثالث: الاعتماد على الثقة في نقل الأخبار ضرورة دينية ودنيوية وأن وجود بعض الكذبة في المجتمع لا يسد عليهم باب نقل الأخبار وتلقيها من الثقات.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات:6) .، ففي هذه الآية لم يأمر الله برد خبر الفاسق وتكذيبه جملة وإنما أمر بالتبين فدل ذلك على أنه يقبل خبر العدل ولا يُتبين فيه.
وإذا رُد خبر الفاسق والعدل جملة على السواء لوجود بعض الكذبة ومن لا يوثق بخبره في المجتمع بطلت الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة، وتعطلت
(1) جامع البيان 14 / 441، والطبراني في المعجم الأوسط، قال الهيثمي: فيه الحسين بن عمرو بن محمد وهو ضعيف.
حقوق الناس واختلت حياتهم واضطربت معيشتهم، وهذا فاسد ضرورة، وما أدى إليه – أعني فهمهم لآية سورة التوبة – فهو مثله.
أما ما ذهب إليه جكرالوي من أنه: "ليس في وسع المرء أن يطلع على حقيقة رواة الحديث صدقا أو كذبا؛ لأنهما من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها إلا العليم بذات الصدور " وحاصله أنه أغلق باب معرفة عدالة النقلة وصدقهم من كذبهم.
فأقول: إن الله تعالى رد عليه فريته وأفسد عليه مزاعمه إذ قال:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (الطلاق:2)،وقال:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (البقرة:282) .
وقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (المائدة: 95) .
ففي هذه الآيات أناط الله الشهادة والحكم بالشاهدين العدلين فدل ذلك على أن مناط العدالة (1) يمكن الوقوف عليه والحكم بمقتضاه، فلو لم يمكن معرفة مناط العدالة لكان الله أمرنا بالمحالات والممتنعات، وهذا فاسد وما أدى إليه فهو فاسد مثله.
وأما قول الحافظ أسلم إنه كان للعواطف البشريّة يد فى تصحيح السنّة وتضعيفها، ولم ينحصر التوثيق في الصدق بل تجاوزه إلى التلمذة والتشيّخ والمشاركة الفكرية.
فالجواب أن يقال: إنّ العدالة التى تشترط لراواي الحديث تشترط أيضا
(1) وهي تجنب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، وفسّرها شيخ الإسلام ابن تيميّة بأنّها الصّلاح في الدّين والمروءة. انظر مجموع الفتاوى (15/356) .
للمتصدّي للجرح والتعديل، فإذا كان يوثّق ويضعّف حسب الأهواء والميول فإنّه يسقط فى ميزان المحدّثين ولا يحابون بهذا أحداً، فقد وُجد منهم الطعن فى آبائهم وأبنائهم لأجل الاحتياط للرّواية، أفتراهم بعد ذلك يعدّلون من انتمى إلى مذهبهم وشاركهم فكريّاً إن كان لا يستحقُّ ذلك؟ . سُئل علي بن المديني عن أبيه فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق ثمّ رفع رأسه وقال:"هذا هو الدّين أبي ضعيف"(1) ورُوي عن أبي داود صاحب السنن أنه كذّب ابنه عبد الله (2) وإ ن كان لهذه الكلمة تأويلٌ مقبول، إلاّ أنّ المقصود هنا إثبات أنّهم كانوا لا يحابون أباً ولا ابناً إذا تعلّق الأمر بالدّين.
الشق الثاني من شبهتهم: وهو كون السنة ليست يقينية بسبب روايتها بالمعنى مع عدم كفالة الله بحفظها، وكثرة ما غزاها من الأحاديث الموضوعة.
يقول الحافظ أسلم:"كل الروايات التي نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاءت بالمعنى ولم تأت بألفاظه عليه الصلاة والسلام والمعروف أن تغيير اللفظ موجب لتغيير المعنى ولو يسيرا"(3) .
ويقول برويز: "اعلم أن الله عز وجل لم يتكفل بحفظ شيء سوى القرآن، فلذا لم يجمع الله الأحاديث كما أنه لم يأمر بجمعها ولا تكفل بحفظها"(4) .
ويقول عبد الله جكرالوي: " بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمئآت السنين نحت
(1) المجروحون (2 / 15) .
(2)
تذكرة الحفاظ (2 / 772) .
(3)
مقام حديث 131، 156.
(4)
مقام حديث 7.
بعض النّاس هذه الهزليات من عند أنفسهم ثم نسبوها إلى محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وهو منها براء " (1) .
الرد:
إن النبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على أن ينقلوا عنه سنته ويُعْنَوْا بها ويبلِّغوها كما سمعوها منه فقال:" نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع"(2) .
ولا شك أن أداء لفظ الحديث كما سمع هو الأولى والأجدر الذي يتحقق به دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لسامعه إلا أن المعنى هو المقصود الأول من الأحاديث واللفظ وسيلة، فإذا روى الراوي الحديث وأصاب المعنى قبل منه ذلك.
وقد وضع أهل العلم لرواية الحديث بالمعنى ضوابط تكفل صونه من تغيير المعنى.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: "قال جمهور الفقهاء: يجوز للعالم بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ رواية الحديث على المعنى، وليس بين أهل العلم خلاف في أن ذلك لا يجوز للجاهل بمعنى الكلام وموقع الخطاب، والمحتمل منه وغير المحتمل فأما الدليل على أنه ليس للجاهل بمواقع الخطاب، وبالمتفق معناه والمختلف من الألفاظ فهو أنه لا يؤمن عليه إبدال اللفظ بخلافه بل هو الغالب من أمره.
(1) ترك افتراء تعامل 12 ويقول بمثله الحافظ أسلم، انظر مقام حديث 110 و 168.
(2)
مضى تخريجه في مستهل الجواب على الشبهة الأولى
وأما الدليل على جواز ذلك للعالم بمعناه. [فهو](1) اتفاق الأمة على أن للعالم بمعنى خبر النبي صلى الله عليه وسلم وللسامع بقوله أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية، وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين.. وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه وامتثال موجبه، دون إيراد نفس لفظه وصورته.
وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول إلى دينه والعلم بأحكامه.
ويدل على ذلك أنه إنما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيير معنى اللفظ، فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك كان مخبرا بالمعنى المقصود من اللفظ، وصادقا على الرسول صلى الله عليه وسلم" (2) .
قال المعلمي: "ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك، فذهب وقال له: والدي – أو الوالد – يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعا صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه قد عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك، وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيرا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما
(1) زيادة لربط الكلام.
(2)
الكفاية في علم الرواية 300 - 304 وانظر في شروط رواية الحديث بالمعنى الإلماع للقاضي عياض 187 ومقدمة ابن الصلاح 394 – 397.
يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر، فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب.
واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول، بل يقول: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا، وأشباه هذا وهذا كثير أيضا.
وهذان الضربان ليسا محل نزاع، والكلام فيما يقول الصحابي فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، أو نحو ذلك.
ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذ حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير، أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك.
ومع هذا فقد عرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما أتاهم.
فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك؛ لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم" (1) .
أما قول برويز إن الله لم يتكفل بحفظ السنة فنقول: إن الله تكفل بحفظ
(1) الأنوار الكاشفة 78 – 79.
الذكر، وهو يشمل القرآن والسنة لأنها بيان له لا تنفك عنه، ومظاهر حفظ الله للسنة النبوية بادية أمامنا، إذ لم تخل العصور الإسلامية من حفاظ الحديث الذين شمّروا عن ساعد الجدّ لحفظه في صدورهم وتتبعه من أفواه الرجال وقطع المفاوز والفيافي للقاء من سبقهم من الحفاظ، واشتد حرص كثير منهم في كتابة ما سمعوه فاجتمع لهم الضبطان: ضبط الصدر وضبط الكتاب، ثم كانوا إذا أرادوا أن يرووا عن رجل سألوا عنه وفحصوا حاله حتى كان يقال لبعضهم: أتريدون أن تزوجّوه، كل ذلك احتياطاً للسنة، ونشأ عن ذلك علمٌ قائم بنفسه هو علم الرجال، بحيث لا يخفى على المعنيّ بأمر الحديث حال الرواة جرحاً وتعديلاً، وهو علمٌ لا يوجد عند الأمم غير الإسلامية، فمن عرف اجتهاد المحدثين ونصحهم للأمة علم مدى عناية الله سبحانه بحفظ السنة النبوية.
أما إلغاء حجية السنة بسبب وجود أحاديث موضوعة فسيأتي في الجواب عن الشبهة الثامنة الكلام عن وجود الغش في النفائس عموماً، وأن هذا لم يصدَّ الناس عن أخذ الصحيح وترك المغشوش، هذا في الأمور الدنيوية فكيف يتركهم الله عُمياً فاقدي البصائر فيما يتعلق بدينهم؟ هذا بعيد عن حكمة الله.
ثم إن العلماء وضعوا لمعرفة الحديث الموضوع ضوابط تعين على إدراكه ليُعرف فيحذرَ، منها:
1-
اشتمال الحديث على مجازفات لا يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث
"من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أعطي ثواب سبعين نبياً" قال ابن قيم الجوزية:" وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلى عمر
نوح عليه السلام لم يعط ثواب نبي واحد" (1) .
2-
تكذيب الحس له.
3-
سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه كحديث "لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً، ما أكله جائع إلا أشبعه"
4-
مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة المتواترة مناقضة بينة، فكل حديث يشتمل على فساد أو ظلم أو عبث أو مدح باطل أو ذم حق، أو نحو ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء.
5-
أن يُدّعى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه كما يزعم الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب بمحضر من الصحابة كلهم، وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع ثم قال:"هذا وصيّي وأخي والخليفة من بعدي"(2) .
6-
أن يكون الحديث باطلاً في نفسه كحديث "المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش"(3) .
7-
أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء، فضلاً عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي يوحى كحديث "النظر إلى الوجه الجميل عبادة "(4) .
8-
ومنها أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله: "إذا كان سنة
(1) المنار المنيف في الصحيح والضعيف 46.
(2)
المصدر السابق 54.
(3)
المصدر السابق 56.
(4)
المصدر السابق 59.
كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت".
9-
أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق.
10-
أن يكون الحديث مما تقوم به الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج بن عنق الطويل ففي حديثه أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثاً، مع أنه صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طول آدم ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن" (1)(2) .
11-
مخالفة الحديث صريح القرآن كحديث مقدار الدنيا وأنها سبعة آلاف سنة، قال ابن قيم الجوزية: "وهذا من أبين الكذب، لأنه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسون سنة. قال تعالى:{يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} (الأعراف:187)(3) .
12-
أن تكون ألفاظ الحديث أو معانيه ركيكة يمجها السمع ويدفعها الطبع ويسمج معناها للفطن كحديث "إن لله ملكاً من حجارة يقال له: عمارة ينزل على حمار من حجارة كل يوم فيسعر الأسعار ثم يعرج"(4) .
13-
ما يقترن بالحديث من القرائن التي يُعلم بها أنه باطل مثل حديث
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3326) .
(2)
المنار المنيف 74 – 75.
(3)
المنار المنيف 78.
(4)
المصدر السابق 91 – 92.
وضع الجزية عن أهل خيبر، قال ابن قيم الجوزية، "وهذا كذب من عدة وجوه: أحدها أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد قد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق. ثانيها: أن فيه ((وكتب معاوية بن أبي سفيان)) هكذا، ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح، وكان من الطلقاء " إلى آخر الوجوه التي أوصلها إلى عشرة (1) .
ولم يكتفوا ببيان تلك الضوابط، بل أفردوا الموضوعات بكتب نُشر أكثرها، من أعظمها " الموضوعات " لابن الجوزي واشتمل على نحو خمسين كتاباً على ترتيب الكتب المصنفة في الفقه.
كما أن كتب العلل تذكر كثيراً من الحديث الموضوع، فهي السباقة لتنبيه الناس إلى الأحاديث الموضوعة، ولم يقتصروا على ذلك بل ألّفوا كتباً لبيان الضعفاء والمتروكين والوضاعين وأحاديثهم كالضعفاء للعقيلي والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي وكتاباهما جامعان لما سبقهما من الكتب المؤلفة في الضعفاء كالضعفاء لعلي بن المديني والضعفاء للبخاري والشجرة في أحوال الرجال للجوزجاني والضعفاء والمتروكين للنسائي.
فكيف يحاول رجال بعد ذلك نزع الثقة بالسنة لوجود الأحاديث الموضوعة التي ميّزها أهل العلم وأُمن اختلاطها بالصحيح؟ فما مَثَلُهم في محاولتهم تلك إلا كمثل متطبب جاهل عُرِض عليه مريض مصاب بخراج في إحدى أصابع يده ويكفيه إزالة هذه الأصبع وحدها فقال ذلك الجاهل: لا علاج له إلا بتر اليد من أصلها.
(1) المصدر السابق 94 – 95.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام"(1) .
(1) الوصية الكبرى ضمن مجموعة الرسائل الكبرى (1 / 283) .