المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بلاغة الشرط في قوله تعالى: - شذرات الذهب دراسة في البلاغة القرآنية

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: ‌بلاغة الشرط في قوله تعالى:

ووصل معنوي بواو الاستئناف، وهو أخفى الثلاثة إدراكًا وأمد حبل اعتلاقٍ.

{} {} {} {} {}

‌بلاغة الشرط في قوله تعالى:

(إلا تنصروه فقد نصره الله.....)

جملة شرط بنيت على (إن) التى هي أم أدوات الشرط، وإذاما كان علماء البيان يقولون: إنَّ "إنْ" الأصل فيها أن تكون فيما لايجزم بوقوعه أو عدم وقوعه من فعل الشرط، وذلك في لسان العربية، فإنك إذا ما جئت للنظر في موقعها في بيان الله تعالى جدُّه، فما يكون لك أن تقول إن الله تعالى جدُّه لايجزم بوقوعه أو عدمه وقوعه كما تقول في بيان الناس، ولكنا نقول إن الله تعالى جدَُّه إذ يأتى في بيانه هو غير محكى عن أحد من خلقه يفهم من ذلك الإتيان بـ"إنْ" حثُّه من يخاطبه على أن يفعل ما يغريه به، أو يحثه على أن يكف عما لايليق به، ويحمل هذا الحَثُّ معه معنى التحذير والتهديد بما تنخلع له أفئدة العارفين لطائف البيان الإلهي الحكيم، فهو دالٌ على أنَّ نصره ليس بالمتوقف على مناصرتهم له، فإنه المستغنى عن ذلك فشواهد الحال قائمة بين أعينهم وفي آذانهم لم تمسها يد العفاء فتنسى فهو كما يقول " الطبري " في تفسيره:

"هذا إعلام من الله تعالى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة والعدوّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدوّ في قلَّة؟ "(16)

فهذه الأداة (إنْ) دخلت على فعل منفي، فأدغمت " النون" في "لام"(لا) النافية، ومجيء النفى بـ" لا" من دون " لن" أو " لم" يظهر لي فيه أمران:

ــ

(16)

جامع البيان للطبري:6/419 [م. س]

ص: 63

الأول:استحضار الشرط في كل زمان يقع فيه النفي أي أن هذا الحكم المترتب على تحقق عدم نصركم له ليس خاصًا بهذه الواقعة: غزوة العسرة بل هو ممتد، فـ" الألف" في "لا" تشعر بهذا الامتداد، وفي هذا إيناس عظيم لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

الآخر: الإيحاء بعدم الجزم بأنَّ عدم النصر واقع منهم، فلا يفهم أحد أن ذلك الترك مقطوع بوقوعه منهم فيتعلل بالقدر

فاجتمع الإغراء بالإقدام على المناصرة من رافدين " (إن) من دون (إذا) و (لا) من دون (لن) أو (لم)

وجاء البيان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالضمير من غير أن يتقدم تصريح باسم الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أو نعته إلا في آية سبقت هذه بست آيات (ي:33) فهو يرجع إلى ما يرجع إليه الضمير في (لاتضروه شيئا) عند من يقول إن المراد به رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فهو مستحضرفي قلب التالى أوالمخاطب، أوينبغي أن يكون مستحضرًا

لايفتقر إلى أن يصرح له بذكره، وفي هذا حمل المتلقى إلى أن يقيم في نفسه سياق الكلام حتى تتبين له المعانى، فلا يضلّ، فيغبن نفسه حقها، فالمعنى:" إلَاّ تنصروا من أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون فسينصره الله تعالى جدُّه.

وكأنَّ قوله تعالى:" هو الذي أرسل رسوله بالهدى...." رأس معنى ممتد يبنى عليه ما يأتى من البيان في شأن غزوة العسرة وما تعلق بها.

وجواب الشرط محذوف تقديره إلا تنصروه فسينصره الله تعالى جدُّه وأقيم مقام الجواب المحذوف دليله (فقد نصره الله) ، وهذامن بديع الإيجاز

ص: 64

ولو قيل في غير القرآن الكريم:إلا تنصروه فسينصره الله فقد نصره إذ أخرجه لما فهم منه أن " السين " التى في " سينصره" حاملة ما تحمله: قد" في " قد نصره" من التحقيق لكنه لما أقام (قد نصره الله" مقام "سينصره" دلَّ ذلك على كمال تحقق نصر الله تعالى له، فكان فيه جمع من الدلائل على تحقق نصر الله تعالى له:" قد" والفعل الماضى وإسناد الفعل إلى اسم الجلالة " الله" فإسناد الفعل إليه تعالى جدُّه يحمل إلى قلب المسلم فيضًا من اليقين بتحقق ما أسند إلى اسمه جل جلاله.

ويفهم من إقامة (فقد نصره الله) مقام (سينصره) أن نصره حينئذٍ أي حين ترغبون عن نصره سيكون من بابة نصره إذ أخرجه الذين كفروا، وهم يعلمون كيفية نصره حينذاك فقد كان من قبيل المعجزة المدهشة التى تقف أمامها العقول في غاية من الإبلاس.

وفي هذا عظيم إيناس لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وعصمة قلبه من أن ينشغل بتصرفات أحد من الخلق، فلا يتطلع إلى إقبال أحد أو انصرافه إلا بمقدار إشفاقه عليه لاخوفه على دين الله عز وجل، فهو الذي قد رسخ في قبله في بدء الدعوة قول الله تعالى له في سورة " الضحى":" وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى" وهذا من مزيد حب الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم،إذ يريد أن يكون قلبه منصرفًا إليه وحده غير مشغول بشأن أحد من خلقه.

وفي قوله:" إذ أخرجه الذين كفروا " بيانٌ بالإخراج عمَّا قابلوه وأصحابه به من التعذيب والتكذيب، فذلك إنما يقوم مقام إخراجه بالفعل، فأسند الفعل:"الإخراج" إلى من كان منه السبب الحامل عليه، وهذا ليس مبالغة، بل هو من حاقِّ العدل الإلهي: من تسبب في الاضطرار إلى فعل كان هو في الحقيقة الفاعل له، وفي هذا إعلام بأن من يكون منه ما يحمل على وقوع شيء هو في الحقيقة فاعل ذلك الشيء

ص: 65

وهذا يفهم منه أن من يقع منه ما يكون سببًا لما لايحب الله تعالى جدُّه ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يكون فاعلا لذلك الفعل وإن لم يباشر ذلك الفعل بنفسه

وهذا يحمل تهديدًا لمن تثاقل ورغب عن النفارفي سبيل الله تعالى وقد بينت السنة هذا بيانا جليًّا:"من دلَّ على خيرٍفله مثل أجرفاعله"{مسلم: إمارة، ح ر:133/1893}

ويؤخذ من هذا أن من دلَّ على شر فله جزاء مثل فاعله، فلو عقل الناس هذا لما أقاموا أنفسهم مقامًا يغرى غيرهم بالوقوع فيما لايرضي الله عز وجل، لإنَّ الله عز وجل قد هدى إلى أن من أضلَّ غيره فإنه يحمل وزره ووزر من أضلَّه، يقول جل جلاله:

" وإذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أسَاطِيرُ الأوَّلينَ * لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِعِلْمٍ أَلا سَاء مَا يَزِرُونَ "{النحل:24-25}

وفي البيان عن فاعل الإخراج باسم الموصول إعلام بأنَّ الوصف المنادى عليهم به " كفروا" هو الحامل لهم على ما اقترفوا في حقِّ من هم على يقين بأنه صلى الله عليه وآله وسلم خير من رأت أعينهم وأعين آبائهم وأجدادهم، ولكنهم كفروا بذلك كله وكفروا بما جاءهم به من الذكر والشرف " وإنَّه لذكر لك ولقومك "

حملهم كفرانهم على أن يقترفوا في حقه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ما اقتضاه أن يخرج من أحبِّ بلاد الله تعالى جَدُّه إليه، فودعها قائلا: لولا أنَّ قومك أخرجونى منك ماخرجت.

ص: 66

وكأنِّي أستشعر من البيان بقوله " الذين كفروا " تهديدًا وتحذيرًا لمن تقاعس وتثاقل فلم يرغب في النِّفار إلى الجنة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأنَّ في موقفه هذا شائبة كفر أي تغطية لما يعلم من شأن الداعي له إلى جنة عرضها السموات والأرض وتغطية لما يوقن به أنه العَلِىُّ الأعظم مما يرغب فيه من متاع الحياة الدنيا، فكأنَّه بهذا قد شاكه وضارع بعضًا مما فعل أهل مكة برسول الله صلى الله علي وآله وصحبه وسلَّم، وتلك التى ينخلع منها قلب كل مسلم مُعافَى.

ولم يذكر البيان القرآني الكريم ما أخرج منه، فلم يقل: أخرجه الذين كفروا من أم القرى مثلا، لأنَّ ذلك كالمتعين الذي لايغيب عن عقل، وكأنَّ في هذا أيضًا إلاحَةً إلى أن ما أُخْرِجَ منه:"أم القرى" هو عنده الأرض كلها فهم بهذا كأنهم أخرجوه من الأرض كلها وفي هذا تفظيع لما اقترفوا،وبيان لما لحق به صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من الأذى بذلك الإخراج.

وفي هذا عبرة لنا أنَّ أخراج أبناء صهيون والصليبيين والملحدين الآن إخواننا المسلمين من أوطانهم فيه من الأذى ما فيه وإن أخرجوا على متن المتاع والتكريم، فكيف وقد أخرجوا من ديارهم ممزقة أعراضهم مسفوحة دماؤهم منهوبة أموالهم مسحوقة كرامتهم.

وإذا ما كان سيدنا " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه يستحث الناس على أن يعلموا رجالهم سورة "التوبة" ونساءهم سورة "النور"، فإننا في زماننا هذا أحوج ما نكون إلى ان نعلم أبناءنا سورة "التوبة" وسورة "محمد" وسورة "الممتحنة " رجالا ونساء، فإننا لمفتقرون افتقارًا جَدَّ عظيم إلى أنْ نَعِىَ بعضًا مما تهدي إليه هذه السور الثلاث: سور الانتصار لعزة الإسلام والمسلمين، ولعلَّ الله عز وجل يعين على حسن فقه تلك السور يومًا.

ص: 67

وفي قوله:" ثانى اثنين" بيان للحال، وإشارة إلى أن ذلك النصر المؤزرلم يكن بسبب من كثرة عدد أو عدَّة معهودة في النَّاس بل ذلك من الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه ولو كره الكافرون، فهذه الحال (ثاني اثنين) ناظرة إلى الآية الثالثة والثلاثين.

وفي قوله (ثاني اثنين) عظيم تكريم لأبي بكر الصديق ليس لأحد من الأمة مثله، فكفاه فخرًا أن جعل الله تعالى جدُّه نبيه ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ثانيه

فالعدول عن " أول اثنين " أو أحد اثنين" إلى " ثانى اثنين" فيه من بعد تكريم " الصديق " رضي الله عنه إغراء للصحابة أن يكونوا معه فذلك شرفهم، وتحريضٌ لمن أَخْلَدَ إلى الأرضِ، وأَعْرَضَ عن النِّفارإلى الجنة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فمن فقه معنى التكريم للصديق رضي الله عنه بقوله تعالى " ثانى اثنين " لايعدل بصحبة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أو بسنته شيئا أبدًا

وقد جاء في السنَّة أنه رضي الله عنه سيكون صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على الحوض يوم القيامة، وكأنه جزاءٌ له على ما كان من صحبته له في الغار، فإنَّ الرواية لتجمع بينهما:

روى الترمزي في كتاب المناقب من جامعه بسنده عن " ابن عمر":" انَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال لأبي بكر:" أَنْتَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ وصاحبِي في الغار" {ح. ر:367.}

وجاء قوله " إذ هما في الغار " غير معطوف على ما قبله لأنه بدل عند جمهور أهل العلم. يقول " ابن جنى ":

"فإن قلت: فإنَّ وقتَ إخراجِ الّذينَ كفرُوا له قبلَ حصولِه صلى الله عليه وآله وسلم في الغار، فكيف يُبْدلُ منه، وليس هو هو، ولا هو أيضًا بعضَه، ولا هو ايضًا من بدل الاشتمال، ومعاذ الله أن يكون من بدل الغلط.

قيل: إذا تقاربَ الزَّمانان وضع أحدهما موضع صاحبه.

ص: 68

ألا تراك تقول: شكرتُك إذ أحسنتَ إلَيَّ، وإنَّما كان الشكرُ سببًا عن الإحسانِ، فزمانُ الإحسانِ قبلَ زمانِ الشكرِ، فأعْمَلْتَ:" شكرت " في زمانٍ لم يقع الشكر فيه.

ومن شرط الظرف العامل فيه الفعل أن يكون ذلك الفعل واقعًا في ذلك الزمان: كزرتك يوم الجمعة، وجلست عندك يوم السبت، لكنه لمَّا تجاور الزمانان، وتقاربا جاز عمل الفعل في زمان لم يقع فيه لكنه قريب منه

" (17)

ماذهب إليه " ابن جنى" وإن اسْتُسِيغَ صناعة نحوية، فإن الذي هو أعلى عندى أن قوله:" إذْ هُمَا فِي الغَار" ليس بدلا، بل الكلام على سبيل التعديد المثسْتَغْنِى عن الربط بحرف نسق، فكأنه قيل: " فقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إذْ أَخرجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وإذْ هُما فِي الْغَارِ، وإِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه

"

ــ

(17)

المحتسب لابن جنى.ج1ص291 [م. س]

فهذه ظروف ثلاثة لنصر الله تعالى له صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم نصرًا معجزًا، لم يكن بسبب من عدد أو عدَّةٍ، والتأمل في حقيقة النصر الإلهي في هذه المواطن الثلاثة دال على أنه نصرمتجدد معجز.

وليس يخفى أنَّ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لصاحبه الصديق رضي الله عنه ما قال هو من مَعْدِنِ النصر الذي كان من الله تعالى له، فالتثبيت في الشدائد دعامة عظمى من دعائم النصر، ومَنْ حُرمه فقد حرم النصر المقيم.

هذه أنواع متعددة من النصر لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ولصاحبه الصديق رضي الله عنه،.

ص: 69

وفي " التعديد" المستغْنِي عن الربط بحرف نسق دلالة على أنَّ ما عُدِّدَ ليس متغايرًا في حقيقة النصر الذي كان في كلٍّ، بل هو من معدن واحد، وإن اختلفت صورُه، وزمان كُلٍّ، وهذا ما يتناسب ويتآخى مع السياق والقصد المنصوب له الكلام، وهو الإبانة عن أن تثاقل المتثاقلين لن يضر دين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فهو غير مفتقر إلى مناصرتهم، بل هو المستغنى عنهم بنصر ربه تعالى له، وأنَّ المتثاقلين إنما بأنفسهم وحدها يلحقون الضُّرَّ المُقِيت.

وقوله:" لاتحزن " جملة طلبية يُثَبِّتُ بها النبيُّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قلبَ صاحبه الصديق رضي الله عنه الذي ما كان حزنه لنفسه بل على أمرٍ متعلِّق برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

لِنَنْظُرْ: أمقتضى الظاهر أن يقول له:لاتخف أم لاتحزن؟

بين الخوف والحزن فرق:

الخوف هَمٌّ يأخذ القلب من أمر متوقع لم يأت ولايعلم شأنه

والحزن هَمٌّ يأخذ القلب من أمر قد مضى أمره

فالمرء يحزن على مافاته، ويخاف مما يستقبله، فظاهر الحال أن يقول له: لاتخف، فإنه كان يخاف على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من أن يأخذه الطلب

جاء في البخاري من كتاب " المناقب" ومسلم من كتاب الزهد في باب حديث الهجرة:

"..... ثُمَّ قال:" ألمْ يأْنِ الرحيلُ؟ قلتُ: بلى. قال: فارتحلنا بعد ما زالتِ الشمسُ،واتَّبَعنَا سراقةُ بنُ مالكٍ. قال ونحن في جَلَدٍ من الأرضِ. فقلتُ: يارسول الله! أُتِينَا. فقال:" لاتحزن إنَّ الله معنا " فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فارتطمت فرسُه إلى بطنها...."

وفي رواية للبخاري:"

فقلت هذا الطلب قد لحقنا يارسول الله. فقال:" لاتحزن إنَّ الله معنا "(ح. ر: 3652)

وفي رواية لأحمد:"

قال: فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جشعم على فرس له

ص: 70

فقلتُ: يارسولَ الله هذا الطلب قد لحقنا

فقال:" لاتحزن إنَّ الله معنا حتى إذا دَنَا مِنَّا، فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قال: قلت: يارسول الله هذا الطلب قدلحقنا وبكيتُ.

قال: لم تبكى؟ قال: قلتُ: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك...." {مسند أحمد ج1ص2}

لعل البيان بكلمة " لاتحزن" ناظر إلى ما قام في صدر الصديق من أنه حَسِبَ أنَّه قصَّر في الاحتياط لسلامة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فيسلك به ما لايكون لأحد أن يتوهم أنهما سالكاه من الطرق، فلا يلقاهما ما لقيهما، فحزنه على حسبانه التقصير في ما فاته من الاحتياط، فهو هَمٌّ لما انقضى من الأمر، فَدَلَّه الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى أنَّ الأمر ليس بالمْوكُولِ إلى اجتهاده في الحيطة حتى يلوم نفسه ويحزن بل الأمر كله لله رب العالمين وهو معهما، فلايحزن على ما حسبه تقصيرًا منه في الوفاء بحق كمال الحيطة. ذلك وجه وأخر:

أنَّه نظرإلى مَآلِ الحال وليس إلى مبدئه: مبدأُ الحال خوف مما قد يلحق نبي الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من الأذى إذا ما لحقهما الطلب، وهذا يورث حزنا على ماينزل به، ومن ثَمَّ كان البكاء كما في رواية " الإمام أحمد ".

وأنت ترى أنَّ قول نبي الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:" لاتحزن إنَّ الله معنا " لم يكن وهو في الغار كما جاء في كتب السير والتفاسير بل كان من بعد ذلك،

وهذا مايدل عليه البيان القرآني الكريم إذ يقول:

" إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين"

" إذ هما في الغار "

" إذ يقول لصاحبه لاتحزن إنَّ الله معنا "

فهذه أوقات ثلاثة كان في كلِّ واحدة منها نصر معجز لنبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

ومن ثَمَّ، فإنِّي لاآخُذُ بما قال به بعض المفسرين وأصحاب السِّيَرِ من أن هذا القول (لاتحزن

) كان في الغار.

ص: 71

والأحاديث دالة على أن هذا القول كان في طريقهما إلى المدينة النبوية، إلا إن قيل إنَّ ذلك القول بِعَيْنِهِ قد تكرَّر في الموضعين، ولا دليل على ذلك التكرير.

الذي كان في الغار قوله:" ما ظَنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما " وليس (لاتحزن إن الله معنا) ، وفرق غير خفِيِّ بين القولين

جاء في صحيح البخاري من باب فضائل المهاجرين " عن أنسٍ عن أبي بكر رضي الله عنه قال:

قلت للنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وأنا في الغار: لو أنَّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا.

فقال: ما ظنك ياأبابكر باثنين الله ثالثهما "

وكأنى بما اشتهر في كتب السير إنما هو من تداخل الروايات عندهم والأعلى تحرير مقال كل موطن.

وفي قوله (إنَّ الله معنا) توكيد اقتضاه جلال المقام، ولم يقتضِه مثقال ذرة من الشك أو ما دونه في حال " الصديق " رضي الله عنه فهو أجلُّ من أن يفتقر في أحرج المواطن إلى أن يؤكد له الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ما يخبره به

أليس هو القائل في شأن الإسراء وقد أخبر به: "إن كان صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قد قال فقد صدق ".

كلمة لاينطقها إلا لسان الصديق في مثل هذا المقام.

التأكيد هنا كمثل التأكيد في خطاب الله تعالى جدُّه لرسوله صلى الله عليه وآله صحبه وسلم في بعض مواطن البيان القرآني الكريم يقتضيه حال المعنى والغرض وجلال المقام

كم من معنى لايكون المخاطب به إلا خالى الذهن كما يقول البلاغيون، ولكن لجلاله وجلال مقامه وعلو منزلته وأهميته يأتى تأكيده بكثير من المؤكدات، فمسالك التأكيد ومقتضِياته في القرآن الكريم ميدان تدبر وسيع فسيح لايكاد يُحاط به، وما هو بَيْنَ أيدينا منه في أسفار البلاغيين والمفسرين إن هو إلا نزير من كثير.

ص: 72

والمَعِيَّة في هذه الآية إنما هي مَعِيَّة مناصرة ومؤازرة ورعاية، وليست مَعِيَّة اختلاط وحلول تعالى الله عما يقول المشبهون والضالون علوًا كبيرًا

الحق الذي نؤمن به ونعقد عليه قلوبنا هو ما عليه سلفنا الصالح من أهل السنة والجماعة من أن الله عز وجل مع عباده مَعِيَّة إحاطة وعلم وقدرة وسمع وبصر وتربية.... وغير ذلك مما تفيض به ربوبيته مع علوه جل جلاله على عرشه فوق جميع العالمين، فليس في الآية أدنى تاويل؛لأنَّ من فقه بيان العربية علم أنَّ المعيَّة فيه ليست تعنى المخالطة بل تعنى المصاحبة وهي تتسع مجالاتها ولاتنحصر في المصاحبة الحسية، فيفسرونها بحسب مقاماتها،واختلاف صنوف الدلالة الواحدة باختلاف السياق والمقام لايكون من قبيل التأويل أو صرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه

يقول الطبري في قول الله تعالى (والله مع الصابرين){البقرة:153} "عن الربيع

تأويله: فإن الله ناصره وظهيره وراض بفعله، كقول القائل: افعل يا فلان كذا وأنا معك، يعني إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه.

ويقول في قول الله تعالى (وقال الله إنى معكم

) المائدة:12

يقول: إنى ناصركم على عدوّكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم......."

ويقول في قول الله تعالى (وإن الله لمع المحسنين){العنكبوت:69}

يقول: وإن الله لمع من أحسن من خلقه، فجاهد فيه أهل الشرك، مُصَدّقا رسوله فيما جاء به من عند الله بالعون له، والنصرة على من جاهد من أعدائه.

ويقول في قول الله تعالى: (والله معكم){محمد 35}

يقول: والله معكم بالنصر لكم عليهم. "

ويقول في (وهومعكم أينما كنتم){الحديد: 4}

ص: 73

يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع...." (18)

ففي المواطن كلها يقرر" الطبري" أن المعية معية عون ونصر، وليس معيه حلول، و"الطبري " من أهل السنة والجماعة.

ويقول الحافظ البيهقي (458هـ)

"

ثنا معدان العابد: سألت سفيان الثوري عن قول الله عز وجل (وهومعكم) قال علمه "....

".... عن عن الضحاك قال:" ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هورابعهم ولاخمسة إلا هو سادسهم"

قال: هو الله عز وجل على العرش، وعلمه معهم"..........

"وهو معكم أينما كنتم " يعنى قدرته وسلطانه وعلمه معكم أينما كنتم" (19)

ــ

(18)

جامع البيان للطبري: ج2/54-55، ج4/544، ج1./177،ج11 /351،727

(19)

الأسماء والصفات للبيهقي: ص 43.

ويقول " ابن تيمية": " ليس معنى قوله:" وهومعكم" أنه مختلط بالخلق، فإنَّ هذا لاتوجبه اللغة، وهوخلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق.......

وهوسبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم إلى غيرذلك من معانى ربوبيته.

وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لايحتاج إلى تحريف، ولكن يُصانُ عن الظنونِ الكاذِبةِ.... (2.)

ويقول في الفتوى الحموية الكبرى:" إنَّ كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت، فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب

مماسة أو محاذاة يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعانى دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا. ويقال: هذا المتاع معى لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهوفوق عرشه حقيقة.

ص: 74

ثمَّ هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال:(يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) إلى قوله (وهومعكم أينما كنتم) دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم،

وهذامعنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته

وكذلك في قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) إلى قوله (هو معهم أينما كانوا) الآية.

ولما قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لصاحبه في الغار (لاتحزن إن الله معنا) كان هذا أيضًاعلى ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد.

وكذلك قوله تعالى (إن َّ اللهَ معَ الذينَ اتقوا والذينَ همْ محسِنونَ)

ــ

(2.) مجموع فتاوى ابن تيمية: ج3/142ـ ج. ت: ابن قاسم النجدي

وكذلك قولُه لموسى وهارون (إنّنِي معكُما أَسْمَعُ وَأَرى) هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتاييد.............

فلفظ " المعية" قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورًا لايقتضيها في موضع الاخر، فأما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها وإن امتاز كلّ موضع بخاصية، فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها " اهـ (21)

وقال في رسالة: الجمع بين العلو والقرب:

" والمعية معيتان: عامة وخاصة. فالأولى كقوله: (وهومعكم أينما كنتم) والثانية كقوله: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) إلى غير ذلك من الآيات.....

فكل من قال: إن الله بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة.....

ص: 75

سلف الأمة وائمتها: أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة

أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله من غير تحريف للكلم.

أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه بائن من خلقه وهم منه بائنون، وهو أيضًا مع العباد عموما بعلمه ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضًا قريب مجيب، ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم.....

وقال في شرح حديث النزول:لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة....ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه

ــ

(21)

السابق: ج5/1.3-1.4

وقد ذكر " ابن عبد البر" وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد ممن يعتد بقوله

وهومأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم.....قال " ابن عباس " في قوله تعالى:" وهومعكم أينما كنتم " قال هو على العرش وعلمه معهم.

وروي عن سفيان الثوري أنه قال:" علمه معهم............

وقد بسط الإمام أحمد الكلام على معنى المعية في الرد على الجهمية ولفظ " المعية " جاء في كتاب الله عاما كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصًا كما في قوله:(إن الله مع الذين اتقوا والذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وقوله (إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وقوله (لاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ معنا) فلو كان المراد أنه بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص، لأنه قد علم أنَّ قوله (لاتحزن إنَ الله معنا) أراد به تخصيصه وأبابكر دون من عداهم من الكفار.

(22)

وفي قوله: (فأنزل الله سكينته عليه) دلَّ الإنزال على بركة ماأُنْزِلَ

فإنَّ ما كان من أعلى من النعم الشأنُ فيه أنَّه الطَّيِّبُ الأكرمُ، وكذلك أنت واجده في الثمر ما علا كان أطيب

ص: 76

وإسناد الفعل إلى اسم الجلالة الجامع لمعانى أسمائه الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم إشارة إلى كمال الإنزال وكمال ما أُنْزِلَ وكمالِ مَنْ أُنْزِلَ عليه

والضمير في (عليه) يحتمل عوده إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فيكون متوائمًا مع ما يرجع إليه الضمير من بعد في قوله (وأيده بجنود لم تروها) وللضمير في (إذ يقول)

ويحتمل أن يعود إلى ما يعود إليه الضمير في (لاتحزن) وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعبر عنه في الآية بصاحبه، وهذا ما قال به بعض أهل العلم منهم سيدنا " ابن عباس"

ــ

(22)

السابق: ج 5 / 227

لِننظرْ أولاً في مواطن النصر المعجز المذكورة في الآية وهي ثلاثة:

موطن الإخراج من مكة، وموطن الاختباء في الغار،ثم موطن لحوق الطلب في الطريق وقوله لصاحبه: لاتحزن إن الله معنا.

ولننظر فيما رتب على هذه الثلاثة نجدها أيضًا ثلاثة أشياء:

إنزال السكينة

والتأييد بجند

وجعل كلمة الذين كفروا السفلى

أيمكن القول إن كل واحد من هذه الثلاثة الممثلة لصور النصر المعجز عائد إلى واحد من مواطن النصر أيضًا على سبيل الترتيب فيكون الأول للأول....إلخ أو العكس أو التهويش إن صح القول به في القرآن الكريم؟

ص: 77

الذي أستشعره أن القول بأن الثلاثة كائنة في كل موطن من مواطن الابتلاء هو العلِيُّ، فقدكان له صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من السكينة ومن التأييد ومن جعل كلمة الذين كفروا السفلى في كل واحد من هذه المواطن الثلاثة: الإخراج من مكة، والإختفاء في الغار، وملاحقة الطلب لهما في الطريق إلى "طيبة " الطيبة وإن بدا لك أن بعض صور النصر المعجز أظهر من بعض في موطن منها في موطن آخر من الثلاثة المواطن، وانها إن تحققت جميعها في كل موطن، فليست سواء في الظهور في كل موطن منها فهو تفاوت ظهور لاتفوات تحقق، وهذا ما لايكاد يغيم عنك إن تبصرت كل موطن من مواطن الابتلاء الثلاثة وما كان فيها من النصر المعجز.

الضمير ـ إذن ـ فيما أذهب إليه راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، والقول بأن الضمير في (أنزل السكينة عليه) راجع إلى الصديق من أن السكينة لم تفارق رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأنه لم يزل ساكن النفس ثقة بالله تعالى جده، إنما هو ناظر إلى " السكينة " التى هي بمعنى سكون النفس وثباتها أمام البلاء وهذا قد يكون لغير النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وذلك ماتراه في مثل قوله تعالىجده في سورة الفتح:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا "

وقوله:" فأنْزلَ السَّكينَةَ عَليْهِم وأَثابَهُم فَتْحًا قَرِيبًا "

على أنَّه قد جاء في الذكر قول الله تعالى:

" وكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَك "{هود:12.}

" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا"{الفرقان: 32}

ص: 78

فإذا قلنا إن في السكينة تثبيتًا للفؤاد، فقد نسب إليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ذلك، وقد جاء في الذكر الحكيم ما يدل على نسبة السكينة إليه:

" لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي موَاطِنَ كَثِيرةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ {} ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ "{التوبة: 25-26}

" إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبهُم الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ فَأَنْزَلَ الله سَّكِينَتهَ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلى الْمُؤمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا "{الفتح: 26}

والبقاعي وهو ممن جعل الضمير في (فأنزل الله سكينته عليه) راجعًا إلى الصديق أبي بكر؛ لأنَّ السكينة لم تفارق النبي صلى الله عليه وآله صحبه وسلم يقول في آية التوبة قبلها (رقم:26) :

" سكينته " أي رحمته، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر بما يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابه الأقدس والغناء عن غيره......."على رسوله" أي زيادة على ما كان من السكينة التى لم يحزْ مثلها أحد....ولعل العطف بـ" ثم " إشارة إلى علو رتبة ذلك الثبات،واستبعاد أن يقع مثله في مجاري العادات " وعلى المؤمنين" أي أمَّا مَنْ كان منهم ثابتًا فزيادة على ما كان له من ذلك، وأمَّا غيره فأعطي ما لم يكن في ذلك الوقت له...." (23)

ــ

(23)

نظم الدرر للبقاعي: ج3 / 294، وانظر: التبيان في إعراب القرآن للعكبري ج2/ 15

ص: 79

فإذا ما كان ذلك فما الذي يمنع أن تكون السكينة التى نزلت على نبي الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم زيادة على ما كان عنده منها،

ولا سيما أنه كان في منتصف طريق الدعوة وهو فرد، والتى في " حنين" كانت في آواخر الدعوة وهو في جمع، فأي الحالين أولى

بالزيادة، ثمَّ إن الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مفتقر إلى مزيد من التثبيت والسكينة والقرب الذي لاتتناهى درجاته ومنازلها، فليست السكينة ذات حد ينتهى إليه لنقول إن نبي الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قد انتهى إليه، ولايفتقر إلى مزيد، وإن من صور السكينة العلم، وقد أمره الله عز وجل بأن يدعو ربه تعالى بالمزيد منه (وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) {طه:114} ولا تكون سكينة إلا من علم محقق، فهو معدن السكينة.

والذي يُعْلِى إرجاع الضمائر إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن السياق للكلام في نصرته هو، وليس السياق للكلام في شأن الصديق، وما جاء الحديث عن الصديق هنا إلا استصحابًا، فالكلام غير مسوق إليه بالقصد الأول الرئيس، فيكون مآل المعنى على هذا:

إلا تنصروه بالنفار إلى الجهاد في سبيل الله فسينصره الله فيما حرضكم على النفارإليه فإنه قد نصره الله تعالى جدُّه من قبل،وهو في غير ما عدد ولاعدَّةٍ في ثلاثة مواطن: إخراجه من مكة، واختفاؤه في الغار ثاني اثنين، وقوله لصاحبه عند لحوق الطلب لهما في الطريق: لاتحزن إن الله معنا

ثُمَّ بَيَّنَ الله تعالىالنصر الذي كان منه له في تلك المواطن بقوله أنزل السكينة عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأيَّده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى.

ص: 80

ويذهب بعضُ أهلِ العلم منهم " أبو حيان الأندلسي" إلى أنه يصح أن يكون الضمير في (عليه) راجعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وإلى صاحبه الصديق رضي الله عنه معًا، وأفرد لتلازمهما، فيكون لكل منهما ما يخصُّه من السَّكينة التى تتلاءم مع منزله من القرب

ويؤيده أنَّ في مصحف " حَفْصَة " رضي الله عنها: " فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما "(24)

تبين لك من هذا وجه نظم التراكيب في هذه الجمل القرآنية الكريمة، واحتمالات التأويل التى يمكن أن يذهب إليها من خلال مناهج النظم البيانى للمعنى القرآني في هذه الجمل القرآنية الكريمة وهذا مِنْ حَاقِّ النَّظرِ البلاغيِّ في البيان القرآنيِّ الكريمِ

.......

وعَطَفَ قولَه (أيده بجنود لم تروها) على قوله (أنزل الله سكينته

ص: 81

عليه) بيانًا لأنَّه من جملة ما نصره الله تعالى جدُّه به وليس من عَدَدٍ ولا عُدَّةٍ من الأصحاب والأتباع، فالنِّفار إلى الجهاد في سبيل الله إنما هو لصالح النَّافرين، وما نصرُ الإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالمتوقف على نفارهم، فإنَّ لله جندًا لاترى، (وما يعلم جنود ربك إلا هو) وفي اصطفاء كلمة (أيَّد) دلالة على معنى الحفظ والتقوية والمناصرة، وإسناد الفعل للضميرالراجع إلى اسم الجلالة مستحضرجلال هذا التأييد، فإن فاعله هو الله عزَّ وعَلا، وما الجنود إلا ألآت لتحقيق هذا التأييد، فإذا لم يتعال المعرضون عن النِّفار إلى الجهاد في سبيل بجعل أنفسهم آلات يحقق الله تعالى بها نصر نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فإن لله تعالى من الجند ما يحصى وما لايرى، فإدخال " الباء" على" جنود" تبيان لمنزلة هذه الجنود من تحقيق التأييد، وأنها ليست بالفاعله المحققة له وإنما هي لاتعدو أن تكون كالأدوات والوسائل، والفاعل الله عز وجل، فاعتبروا يا أولى الأبصار (وَلَوْ يِشَاءُ الله لانتصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) {محمد:4}

(وَلَنَبْلُونَّكُم حتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدينَ مِنْكُمْ والصَّابِرينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ){محمد: 31}

ــ

(24)

البحر المحيط: لأبي حيان: ج 5 / 43

ص: 82

وفي نعت الجند بأنهم (لم يروها) دلالة على أنها من اللطف بمكان عظيم، وأنَّ أسباب نصر الله لعباده المؤمنين ومن قبلهم نبيه الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ليست بمحصورة فيما تدركه حواسُّ العباد أو تستشعره قلوبهم، ومن ثمَّ سَلَّطَ النَّفيَ على فعل الرؤية (لم تروها) وليس على فعل النظر أو البصر، فإن في الرؤية إدراكًا لما كان غير محسوس، فدلَّ على أنَّ من جند الله عزَّ وعلا ما يفتقر المرء لإدراكه إلى اقتدار على الرؤية المتجاوزة منزلة النظر بل منزلة البصر. فكم مِنْ ناظرٍ غير مبصِرٍ، وكَمْ من مبصِرٍ غير راءٍ.

وثلَّثَ صورَ النصرِ المُعْجِزِ بقوله (جعل كلمة الذين كفروا السفلى)

وأهل العلم يُفَسِّرُ بعضهم " كلمة الذين كفروا " بأنها كلمة الشرك، أو ما قرروه من الكيد به ليقتلوه،أو قولهم في الحرب: يالبني فلان، ويالفلان أو اعلُ هبل (25)

والأعلى أنَّه كَنَّى بالكلمة عن كل أمر من أمورهم الحسية والمعنوية فكل أمر الذين كفروا جعله الله تعالى الأسفل الذي ليس أسفل منه، وفي اصطفاء فعل (الجعل) جمعٌ لعديد من الدَِّلالات التى يأتى لها ذلك الفعل، فهو متسع الدَِّلالة

وقد أنبأنا " الراغب الأصفهاني" في " المفردات " أنَّه لفظ عام في الأفعال كلها، فهو أعَمُّ من فعل وعمل وصنع وسائر ما يجري مَجراها، وذهب إلى أن دلالته على خمسة وجوه، قد أشرت إليها في مبحث:"المعجم: الصورة الدلالة "

فهذا الجعل من الله تعالى جدُّه لكلمة الذين كفروا السفلى متحقق فيه كافة الدلالات للجعل، وهومن الإبلاغ في تصور حال السفول لكلمة الذين كفروا، وهو أيضًا من البشرى لكل مسلم مقبل على النِّفار إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، وتسفيه لكل معرض عن النِّفار إلى الجنة، فليس إسفال كلمة الذين كفروا بحاجة إلى نِفارهم إلى الجهاد في سبيل الله تعالى.

ــ

ص: 83

(25)

جامع البيان للطبري:6/421، والبحر المحيط لأبي حيان:ج 5 / 44

ذلك نَزِيرٌ من معانى الهدى في بيان الله تعالى ما نصر به نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم نصرًا معجزًا.

.....

ولمَّا كَمُلَ هذا البيانُ على أعظم وجه قرَّر الله تعالى جَدُّهُ الحقيقة

الثابتة الجامعة لكل الحقائق: (وكلمة الله هي العليا)

وأهل العلم يُفَسِّرون " كلمة الله" بأنها كلمة التوحيد، أو قوله: لأغلبن أنا ورسلى، أو أنه ناصره.

والأعلى على قراءة رفع" كلمة" أنها أمر الله وقدره ووعده.

فكان هذا تانيسًا لكلِّ نافرٍ إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، فإن من نفر وهو موقن أن كلمة الله هي العليا جاهد وهو المطمئنُّ قلبه بعلُوِّ كلمة الله تعالى، وشأن دينه، وأنه الباقي المهيمن ما بقي ليل أو نهار، وأنه الدَّاخل كلَّ مكان دخله ليل أو نهار.

وهذا أيضًا دامِغٌ من يتساقط إلى التى هي أخزى فلا ينفر إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

قوله (وكلمة الله هي العليا) مستأنف غير معطوف على معمول الفعل (جعل) على قراءة الجمهور بالرفع فهو حقيقة ثابتة مستمرة لاتنقطع تتجلى لناحينا وتغيم شواهدها عن بعض الأنظار حينا، ولكن بصائرالعلم بالله تعالى جدُّه لاتغيب عنهم أو يغفلون هم عن رؤيتها.

بنيت هذه الحقيقة القرآنية الإيمانية على أسلوب التخصيص الحصرى جاعلا طريقه تعريف الطرفين، مؤكدًا ذلك الطريق بضمير الفصل (هي) الحامل مع هذا التأكيد الحصري معنى أن الخبر متحقق في كُنْهِ المسند إليه وأن ذلك ليس أمرًا عارضًا قد يعتريه زوال أو نقص، فأنت إذا ماقلت:" محمد هو الكريم " فقد دلَّ هذا على أنَّ اختصاصه بالكرم أمرٌ قائمٌ في حقيقته وطبعه لايغيبُ عنه أبدًا، وهذا من دَِلالة البيان بالضمير وإن كان ضمير فصْلٍ

ص: 84

وبين جملة (جعل كلمة الذين كفروا السفلى) وجملة (وكلمة الله هي العليا) مقابلة جليلة بين باطل زائل وحق راسخ، كفي الأولى سفولا إضافتها إلى (الذين كفروا) وكفي الأخرى علوًا إضافتها إلىاسم الجلالة، فإن المضاف ليكتسب من المضاف إليه صفاتٍ عديدةً

ولو أنَّ كُلَّ مُسلمٍ أقام في قلبه هذه المقابلة البيانية الإيمانية في كل موطن يتراءى له سراب عُلوٍ لكلمة الذين كفروا لأيقن أن هذا العُلُوَّ إنما هو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وأن ذلك إنما ابتلينا به لنؤوب إلى ديننا وأنَّ حقًا علينا أن نعيد موقفنا من كتاب ربنا تعالى جَدُّه ومن سنة نبينا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تَعَلُّمًا وتعليما وتأدُّبًا وتخلقًا على نحْوٍ يُرْضِي عنا ربنَّا عزَّ وعلا ويُرْغِمَ أنُوفَ أعدائه ويرهبهم وآخرين من دونهم في ديارنا من بنى جلدتنا.

إنَّ علينا أن نبالغ في التمسك بالكتاب والسنة والإبلاغ في إظهار ما يقلق أعداءنا من مظاهر السنة النبوية حتى تمتلئ قلوبهم كَمَدًا وهَمَّا، وذلك ضرب من ضروب المجاهدة في سبيل الله تعالى،وضرب من ضروب القراءة السلوكية لقوله تعالى:"وكلِمَةُ اللهِ هِيَ العلْيَا "

إن علينا أن نعلم أبناءنا وبناتنا في بيوتنا ومعاهد علومنا ثقافة المجاهدة في سبيل الله عز وجل،وأن نعلمهم أن الجنة التى خلقنا لطلبها والعودة إليها إنما هي تحت ظلال سيوقنا، وليس تحت ظلال قصورنا ومنتجعاتنا السياحية

وأن نعلمهم أننا وَلَدْنَاهم ليموتوا شهداء في سبيل الله إذا لم يكن من سبيل إلى إعمار الأرض التى استخلفنا فيها إلا ذلك السبيل: سبيل الشهادة في سبيل الله تعالى، فإننا نستعمر الأرض (26) بالشهادة في سبيل الله تعالى، وليس بتشييد المواخير والملاهي وحانات الخمر والمراقص والمسارح ومتاحف الأصنام وحمامات العراة وغير ذلك مما أنشئت له الوزارات، وفُتِّحت له خزائن بيت مال المسلمين.

ص: 85

وأن نعلِّمهم أنَّ من أعلى منازل البِرِّ بالآباء إنما هو أن يستشهد الأبناء في سبيل الله تعالى ليكونوا لآبائهم ذخرًا يوم القيامة، مثلما كانوا لدينهم وأوطانهم عزًا ومنعة في الدنيا

ــ

(26)

الاستعمار في القرآن الكريم هو الإبلاغ في التعمير:" هو أ، شأكم من الأرض واستعمركم فيها"(هود61) ولكن أعداءالإسلام يطلقون الاستعمار على التخريب والإفساد في الأرض.

وأن نعلمهم ثقافة إرهاب وإرعاب أعداء الله تعالى الذين لايتوانون عن إذلالنا في ديارنا، وأن نعلمهم ثقافة مسالمة من يسالمنا ظاهرًا وباطنا، ومن يَفِى بمواثيق معاهدتنا،وأن من وفَّى فله من الحق ما لايجوز أن يُغْبَنَ فيه، كما أن لنا عنده من الحق الذي لايجوز لنا أن نقبل منه أن يغبننا في أثارة منه أبدًا، وإلا كان نفارنا إلى الجنة هو سبيلنا.

كلُّ هذا يترادف إلى قلبك وأنت تنظر في أسلوب المقابلة بين هاتين الجملتين (جعل كلمة الذين كفروا السفلى) و (كلمة الله هي العليا) فهي وإن عدَّها البلاغيون مما عرف عندهم بالبديع، فإنها حقًا من بديع المعانى المتجددة المترادفة على قلبك لاتتناهى ما كان قلبك قابلا للتلقى.

وجاءت قراءة "يعقوب " بنصب " كلمة" من قوله تعالى " وكلمة الله" فتكون " الواو عاطفة " ما بعدها على معمول " جعل" ولم يُعْلِ بعض أهل العلم هذه القراءة، ومَن لمْ يُعْلِهَا، فَليْسَ بعالٍ.

يقول " أبو البركات ابن الأنباري"(27)

:" وقد قُرئ: كلمة الله بالنصب عطفًا على كلمة الذين كفروا، وفيه بعد؛لأنَ كلمة الله لم تزل عالية، فيبعد نصبها بجعل؛ لما فيه من إيهام أنها صارت عالية بعد أن لم تكن، والذي عليه جماهير القراء هو الرفع "

أمَّا "الزمخشري" فقد قال:" الرفع أوجه" وهي كلمة جيدة من الزمخشري، وقال أبو حيان:" وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار" وهي أيضًا كلمة فقيه واع.

ص: 86

وقد صرح"العكبري"بضعف قراءة"النصب"(28) وما ذكره من توجيه ــ

(27)

ابو البركات: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن الأنباري: (513-577) من آثاره: الإنصاف في مسائل الخلاف، وأسرار العربية،الإغراب في جدل الإعراب، واللمعة في صنعة الشعر، والبيان في غريب إعراب القرآن.

(28)

البيان لابن الأنباري: ج 1 / 4..، والكشاف،ج:2 /191، والبحر المحيط: ج: 44، والتبيان للعكبري: ج2 /15

الضعف لاأراه مما يستقيم الأخذُ به هنا؛ ذلك أنَّ قراءة النصب متواترة ولايصحُّ المفاضلة بين القراءات المتواترة في الصحة وضدها، أوالقوة والضعف، وإن قلتُ بالتفاوت بينها في ظهور المعنى وخفائه وفي وجه دَِلالتهما، ولهذا قلت:إن قولة " الزمخشري":

" الرفع أوجه " كلمة جيدة، وقلت:إن كلمة أبي حيان: الرفع أثبت في الإخبار" كلمة فقيه، فهذا دال على أن التفاوت عندهما بين القراءتين تفاوت في غير الصحة وضدها.

وقدأشرت إلى شيء من هذا في مبحث القراءات في الآيات فانظره.

القول بالنصب في {كلمة الله} لايلزمه أن يكون معمولا للفعل (جعل) بمعناه الذي تسلط به على معموله " كلمة الذين كفروا" فإذا كان معنى " جعل" في " جعل كلمة الذين كفروا السفلى": صيرها، فإن الفعل " جعل" لاينحصر في معنى التصيير، بل هو أعم الأفعال ومن معانيه:"حكم، وقرر"وهذا المعنى متوائم مع"كلمة الله هي العليا" أي حكم وقرركلمة الله.

هذا وجه، ووجه آخر: أن يبقى الفعل " جعل" على بابه في الجملة الأولى، ويكون معنى " كلمة الله" في قراءة "الرفع" شريعته وأحكامه التى فرضها، فيؤول المعنى إلى جعل شريعته وأحكامه أمرًا ونهيًا هي العليا، بإعزاز الرسول صلى الله عليه وآله صحبه وسلم بالهجرة إلى المدينة النبوية.

ص: 87

ولا يقال إن في هذا استعمالا للكلمة في أكثر من معنى من غير إعادة لها؛ لأنَّ كلمة " جعل " أو " كلمة " ستكون من الكلمات المتواطئة التى يصح أن يراد منها أكثر من معنى بقرينة السياق

والعلماء يتجاذبون وجوه القول في عُلُوِّ استعمال المشترك أو المتواطئ في معانيه، ويتجاذبون القول في استعمال الكلمة في حقيقتها ومجازها في سياق وقصد واحد، وهذه قضية متسعة قد

عرضت لها في دراسة مستقلة منشورة في طلاب العلم. (29)

ويذيل الحق عز وجل هذه الحقائق الإيمانية بقوله (والله عزيز

حكيم) مقررًا بهذا ما أقامه في قوله (وكلمة الله هي العليا) فإنَّ مضمون هذ الفاصلة يتلاقى مع مضمون (وكلمة الله هي العليا) وكان ظاهر الأمر ألَاّ تعطف عليها لما يسميه البلاغيون بكمال الاتصال، ولكن البيان القرآنى الكريم قد عدل عمَّا هو معهود من سنن بيان لسان العربية إلى أمرآخرأقام فيه جملة (الله عزيز حكيم) مقام جملة جديدة قد فاضت بفيض من المعانى المتجددة التى لم تكن في التى قبلها، وكأنَّه يَلْفُتُنَا بهذا العطف إلى أن نقف على ما تضمنته هذه الجملة التذييلية من معانى طريفة، فذلك شأن الجمل القرآنية لاتتكرر معانيها بل هي إلى التصريف البياني، وهذه السنة البيانية: سنة التصريف قد هدى إليها القرآن الكريم بقوله:

" وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآن لِيَذَّكَّرُوا "{الإسراء: 41}

"وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَاّ كُفُورًا "{الإسراء: 89}

"وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً "{الكهف: 54}

.......

ــ

(29)

ينظر كتابي: اشكالية الدجمع بين الحقيقة والمجاز في ضوء البيان القرآني - نشر مكتبة وهبة ـ القاهرة.

ص: 88

بلاغة الأمر في قوله تعالى:

(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً....)

ــ

ما سبق من البيان القرآني الكريم فاضت منه معانى الترهيب والوعيد والتهديد على الرغبة عن النِّفار إلى الجنة: النِّفار إلى منازل العزة منازل الجهاد في سبيل الله،والإخلاد إلى متاع الحياة الدنيا.

وقد بلغ ذلك مبلغًا عظيمًا، فتهيأت القلوب التى فيها أثارة من إيمان لأن تقبل على الإغراء الإلهي لها بالمسارعة إلى جنة عرضها السموات والأرض أُعدَّت للمتقين فقال:

(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدوُا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

هذه الآية خطاب للذين آمنوا السابقِ الإنكار عليهم تَرْكَهم النِّفارَ في سبيل الله تعالى في قوله:

(يَأَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلِ لَكُمْ انفروا في سبيلِ الله

)

وهو غير محصورٍ فيهم انحصارهم في عصرهم ومصرهم، فما نزل القرآن الكريم لطائفة من الأمة في زمان ومكان معين لايتعداهم بل هو لكل من كان مثلهم وفي سياقٍ كسياقهم زمانا ومكانًا، فنحن في زماننا هذا رجالا ونساءً، وشبيبة وشيبًا أحق من يقع عليه ذلك الخطاب، فلا يزعمنَّ زاعمٌ أنَّ هذا الأمر كان خاصًا بالصحابة في غزوة تبوك لايتعداهم، كما يذهب إليه بعض المرجفين بالفتنة فينا الداعين إلى تفسير القرآن الكريم تفسيرًا تاريخيا بحصر الأحكام التشريعية في زمان نزولها ومكانه، وتلك ضلالة مدبر لها بليل بهيم

الأمر هنا للوجوب المقتضي للتكرار عند جمهرة من أهل العلم، ولا يسقط بالنِّفار مرة واحدة في العمر، بل هو واجب كلما استنفر المسلم ولم يك ذا عذر يحجزه عن تلبية النداء ومن ثمَ جاء قوله:(خفافًا وثقالا) وقد جاء في السنة المطهرة في البخاري من كتاب "الجهاد، والصيد ":

ص: 89

" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال يوم الفتح لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا "

فهذا دالٌ دلالة بينة على أن من استنفر بدعوة إمامه، أو دعوة حال أمته ـ وإن كان إمامه متقاعسًا متثاقلا مثبطا قومه ـ أن ينفر حيث استنفره حال أمته، فلسان حالها أبلغ من ألف لسان، فهذا أوان النِّفار فريضةً لازمة على كل مسلم ومسلمة، وهذا أوان خروج المرأة المسلمة إلى الجهاد في سبيل الله بغير إذن زوجها،

وقد أطلق الحق الأمر فلم يقيده بحال كمال الاستطاعة، بل أعلن أنه فرض على كل من كان خفيفا أو ثقيلا، (خفافا وثقالا)

وهي كلمة مستعة الدلالة غير مقيدة الخفة والثقل بمجال من مجال المسلم.

يقول الطبري: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالا

وقد يدخل في الخفاف كلّ من كان سهلاً عليه النفر لقوّة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا تيسر بمال وفراغ من الاشتغال وقادرا على الظهر والركاب.

ويدخل في الثقال كلّ من كان بخلاف ذلك من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن معسر من المال ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهر له ولا ركاب، والشيخ وذو السنّ والعيال.

فإذ كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نصب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم على كلّ حال من أحوال الخفة والثقل. (3.)

ص: 90

قول "الطبري": أمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

" لايعنى به أنَّ الأمر مقصور عليهم، بل يعنى أن الأمر أوَّل من خوطب به هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأن من كان حاله كحالهم إيمانًا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان مخاطبًا بذلك الأمر كمثلهم لاينقص منه شيء، فاختلاف الأعصار والأمصار لايلزمه اختلاف التكليف بالأمر والنهي، فهم وإن صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ذاتًا وإيمانا وسنة فإننا والحمد لله رب العالمين نصحبه إيمانا وسنة، فسنته قائمة فينا قيام ذاته، تراه قلوبنا في أسفار السنة ومعالم التمسك بها من الثُلَّة المباركة التى لن تخلو منها الأرض، وإن تداعت عليها الأمم وتظاهرت على سحقها الولاة.

روى الشيخان بسنديهما عن معاوية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:

" لاتَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمةً بِأَمرِ اللهِ، لايَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ "

{البخاري: العلم ـ من يردالله به خيرًا، ومسلم: الإمارة ـ لاتزال طائفة ـ النصُّ له ـ ح. ر: 174}

ويبين" ابوحيان"في تفسيره "أنَّ الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة وأما من لايمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا " اهـ (31)

ويُفَصِّلُ "الطاهر بن عاشور" هذا بقوله إنهما كلمتان مستعارتان لما يشبههما من أحوال الجيش وعلائقهم، فالخفة تستعارللإسراع

ــ

(3.) جامع البيان للطبري: ج 6/424

(31)

البحر المحيط لأبي حيان:ج 5 / 44

إلى الحرب، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدة

قال قريط بن أنيف العنبري:

قومٌ إذا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ {} طاروا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا

ص: 91

فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما قال " أبو الطيب ":

ثقالٌ إذا لاقَوا خِفَافٌ إذَا دُعُوا

وتستعار الخفة لقلة العدو، والثقل لكثرة عدد الجيش

وتستعار الخفة لقلة الأزواد أو قلة السلاح، والثقل لضد ذلك

وتستعار الخفة لقلة العيال،والثقل لضد ذلك

وتستعار الخفة للركوب؛ لأن الراكب أخف سيرًا، والثقل للمشي على الأرجل، وذلك في وقت القتال

قال النابغة:

علَى عَرَفاتٍ لِلطِعانِ عوابِسٌ بِهِنَّ كُلُومٌ بيْنَ دامٍ وجالِبِ

إذا اسْتُنْزِلُوا عَنْهُنَّ للضَّرْبِ ارْقَلُوا إلى المَوْتِ إِرْقَالَ الجِمَالِ المَصاعِبِ

وكل هذه المعانى صالحة للإرادة من الآية. (32)

وعطف (ثقالا) على (خفافًا) ليس للتنويع أي ليست " الواو" بمعنى " أو" فليس المعنى انفروا خفافا أو ثقالا، بل انفروا في الحالين، فكل مسلم له نصيب من الحالين فهو إن كان خفيفا من المرض فقد يكون ثقيلا من الأهل والولد، وهكذا

ولم يصرح بتقييد الأمر بالنِّفار،كما كان في قوله تعالى (إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) لأن هذا القيد أضحى بيِّنًا مستحضرًا في النفس وأنَّ الله تعالى لن يكون منه أمر بالنِّفار إلى شيء إلا إلى سبيله، ولاسيَّما بعد ما كان من بسط في التهديد والوعيد والترهيب من ترك النِّفار إلى الجهاد في سبيله،

ــ

(32)

التحرير والتنوير 1./2.7}

وجاء قوله (جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) معطوفًا على (انفروا) على الرغم من أن قوله (انفروا) معناه الدعوة إلى النّفارِ في سبيل الله، أفيكون هذا من قبيل عطف المؤكِّد على المؤكَّد؟

النِّفار فيه معنى الانزعاج وسرعة الحركة إلى الشيء، وهذا يكون عند مقاربة الخطر للأمة المسلمة، بحيث يجب الانزعاج والإسراع إلى ساحات الوغى.

ص: 92

وفي الدعوة إلى الجهاد اتساع في الميدان الذي تكون فيه المجاهدة، واتساع في المنهاج والآلات، فإن الجهاد في سبيل الله فرض عين على كل مسلم ومسلمة، إذ هو شامل حركة المسلم بغير استثناء، فما من مسلم إلا وهو قادر على صورة من صور الجهاد في سبيل الله ماكان يتردد في صدره زفير أو شهيق، فإن صور الجهاد لاتكاد

تُعَدُّ ولا تحصر، فإن الاجتهاد في الدعاء الصالح بمنازل الاستجابة من الجهاد، وهل يعجز عن تلك الصورة أحدٌ في صدره شهيقٌ أوْ زفيرٌ؟

فعطف (جاهدوا) على (انفروا) من عطف عام على خاص، وهو في بيان العربية، ثم في بيان الوحي العَلِيِّ جذُ كثير

وهذا العطف مسلك من مسالك التوكيد في العربية، وهي كثيرة متنوعة

وقد جاءت السنة محرضة الأمة على الجهاد في سبيل الله تبليغًا لما جاء به الأمر الإلهى لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

(يَأيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِين عَلَى الْقِتَال " فجاء في بيان النبوة:

روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: " قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم،فقال: " دُلَّنُي عَلَى عملٍ يَعْدِلُ الجهادَ. قال:لا أجدُه. قال: هَلْ تستطيعُ إذا خرجَ المجاهدُ أن تدخلَ مسجدَك،فتقومَ، ولا تَفْتُرَ،وتصومَ،ولا تَفْطُرَ؟

قال ومن يستطيع ذلك " {كتاب: الجهاد: ح. ر:2623}

وفي الباب نفسه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:" لَقابُ قَوسٍ في الجَّنة خيرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ

وقال لَغَدْوَةٌ أوْ رَوْحَةٌ فِي سبيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ " {ح. ر:2631}

وبسنده عن عبد الرحمن بن جبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال ما اغْبرَّت قَدَما عبدٍ في سبيل الله فتَمَسَّه النارُ." {ح. ر:2656}

ص: 93

وبسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:" مَا أحدٌ يَدخلُ الجنَّة يُحبُّ أن يرجعَ إلى الدُّنيا وله ما على الأرضِ من شيءٍ إلا الشهيدُ يَتَمَنَّى أن يرجعَ إلى الدنيا فيُقتلَ عشرَ مراتٍ لِما يَرَى مِنَ الكَرامَة "{ح. ر:2662}

وروى "مسلمٌ" في صحيحه من كتاب " الإمارة": بسنده عن أبي هريرة " رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال:" مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ " {ح. ر: 158/ 191.}

وروى في الكتاب نفسه: كتاب الإمارة بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: " تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبيلِهِ، لايُخرجُه إلَاّ جهادًا في سبيلِي، وإيمانًا بِي وتَصْديقًا برُسُلي، فهوَ عليَّ ضَامِنٌ أنْ أدخلَهُ الجنَّة، أوْ أَرْجِعَهُ إلى مسْكَنِهِ الذِي خرجَ منْهُ، نائلاً ما نَالَ منْ أجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ

والَّذِي نَفْسُ محمَّدٍ بيدِهِ، مَامِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سبيلِ اللهِ إلَاّ جاءَ يَوْمَ القِيامةِ كَهَيْئَتِه يَوْم كُلِمَ لوْنُهُ لَوْنُ دمٍ وَريحُهُ مِسْكٌ.

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى المُسْلِمِينَ مَا قَعدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبيلِ اللهِ أبدًا، وَلَكِنْ لاأَجِدُ سَعَةً، فَأَحْمِلَهُمْ،ولايَجِدُونَ سَعَةً، ويَشُقُّ عَلَيْهِمْ أن يتَخَلَّفُوا عَنَِّي.

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أغْزُو فِي سبيل اللهِ، فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو،فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُ،فَاُقْتَلُ " {ح. ر:1.3/ 1876}

روى " الترمزي " في صحيحه من كتاب الإيمان – ح. ر: 2616" بسنده عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال".....

ص: 94

ألا أُخْبِرُكُمْ بِرَاْسِ الأَمْرِ كُلِّه وَعَمُودِه وذِرْوَةِ سَنَامِه؟

قُلْتُ: بلَى يارسول الله

قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد

"

وروى في كتاب " الجهاد: ح. ر:1621 بسنده عن فضالةبن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:

" كلُّ ميِّتٍ يختَمُ عَلى عملِهِ إلا الذي مات مُرابطًا في سبيلِ اللهِ، فإنَّه يُنْمى له إلى يومِ القيامَة، ويَأمَنُ فتنة القبرِ"

فهذا هو الاستثمار الأعظم وتلك هي التنمية التي يجدر بنا أن يكون لنا منها النصيب الأوفر.، فقد جاء في السنة أيضًا برواية الترمزى "ح. ر: 1625" عن خُرَيْم بن فاتك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:

" من أَنْفَقَ فِي سبيلِ اللهِ كُتِبتْ له سبعمائة ضعفٍ "

وفي حديث آخر:"ح. ر: 1628" " عن زيد بن خالد الجُهَنِيِّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:

" مَنْ جَهَّزَ غازيًا فَقَدْ غَزا، ومَنْ خَلَفَ غَازيًا في أهله فقد غَزَا"

وإن الأحاديث النبوية في التحريض على الجهاد في سبيل الله كثيرة لايتسع المقام للإشارة إلي كثير منها،وهي في دواوين السنة المرفوعة المسندة محفوظة.

ولا يعجبنى القول بأنَّ الجهاد:" حقيقة في المدافعة بالسلاح، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاق على الجيش واشتراء الكراع والسلاح مجاز بعلاقة السببية " كما يقول " الطاهر بن عاشور " فإن الجهاد دال على جميع صوره دلالة حقيقية فهو من الالفاظ المتواطئة التى يشمل معناها صورًا عديدة تنطوى تحت معنى عام لها، وقد جاء في السنة ما يؤكد أن للجهاد صورًا عدَّة:

ص: 95

جاء في مسند أحمد (3/456) بسنده عن:" عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر ما أنزل أتى النبي فقال إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت وكيف ترى فيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:" إنَّ المُؤمنَ يُجاهدُ بسيفه ولسانه " اهـ

وفيه أيضًا:" كان بشير بن عبد الرحمن بن كعب يحدث أن كعب بن ملك كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل فيما تقولون لهم من الشعر "اهـ

وفي " مسلم"من كتاب "الجهاد: {ح. ر: 123/18.2} عن سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع رسول الله إلى خيبر فَتَسَيَّرْنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تُسْمِعُنَا من هُنَيَّاتِك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يَحْدُو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهْتَدَيْنا ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنَا

فاغْفِرْ فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنَا وَثَبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقْينَا

وألْقِيَنْ سَكِينَةً علينا إنَّا إذا صِيحَ بنا أتينا

وبالصِّياح عَوَّلُوا علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: من هذا السائق؟

قالوا: "عامر" قال: يرحمه الله.

فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به

قال:فأتينا خيبر فحاصرناهم.............

فلما تصَّاف القومُ كان سيف "عامر" فيه قِصَرٌ فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب ركبة " عامر" فمات منه

قال: فلما قَفَلُوا قال سلمة وهو آخذ بيدي قال: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ساكتا قال: مالك؟ قلت له:

فداك أبي وأمي زعموا أن " عامرا " حبط عمله

قال: من قاله؟ قلت: فلان وفلان وأسيد بن حضير الأنصاري

ص: 96

فقال: كذب من قاله. إن له لأجران، وجمع بين إصبعيه.إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ. قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بها مثله...."

قول الصحابي:" وجبت يارسول الله لولا أمتعتنا به" أي وجبت له الشهادة لقول الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: يرحمه الله" فقد فهم الصحابي (وفي رواية" مسلم "أنه "عمربن الخطاب" – ح. ر: 18.7) أن هذا إنباء من النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأن سيستشهد، فقال الصحابي لولا أخرت هذه الدعوة ليبقى معنا نتمتع بصحبته.

فهذا دالٌ دلالة بينة على أن صور الجهاد في سبيل الله عز وجل لاتعد ولا تحصى، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "

روى " البخاري " في " الجهاد " بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قوله

"

من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهوفي سبيل الله "

فلسان المرء كسيفه إذا ما كان المرمى أن تكون كلمة الله هي العليا. إنِّ إخلاص النية، واتباع ما جاء به الكتاب والسنة يجعل كل عمل صالحًا، وكل عمل صالح يجعل كلمة الله أي شريعته هى العليا، فإذا ما جاء مرفوعًا عن " ابن مسعود ":" من كثَّر سَوَادَ قَوْمٍ، فهو منهم، ومن رضي عمل قومٍ كان شريك من عمل به" أخرجه أبو يعلى (32) فإن في هذا دلالة لاتغيم على أنَّ كل عمل فيه القصد إلى أن تكون كلمة الله هي العليا هو من الجهاد في سبيل الله.

.....

وجاء في هذه الآية تقديم الأموال والأنفس على قوله (في سبيل الله) وجاء في غيرها بتقديم في سبيل الله:

{} لايَسْتَوَي الْقَاعِدونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ والْمُجاهِدونَ فِي سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ

" (النساء: 95)

{} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وَجاهَدوا بِأمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِم في سبيلِ الله" (الأنفال:72)

ــ

(32)

فتح الباري 13/31= ك: الفتن)

ص: 97

{} الَّذِينَ آمَنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللهِ بأمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمِ أَعْظَمُ دَرَجَةًعِنْدَ اللهِ " (التوبة:2.)

{} انْفِرُوا خِفافًا وثِقالاً وَجاهِدُوا بأمْوالِكُم وأنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ" (التوبة:41)

{} فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجاهِدُوا بِأمْوالِهِمْ وِأنْفُسِهِمْ فِي سَبيلِ اللهِ

" (التوبة:81)

{} إنَّماالْمُؤْمِنونَ الَّذِينَ آمَنوا بِاللهِ وَرَسُولِه ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوابِأمْوالِهِم وَأنْفُسِهِم فِي سَبيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (الحجرات: 15)

{} يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِه، وَتُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بأمْوالِكِمْ وأنْفُسِكُمْ ذلِكم خَيْرٌ لكُم إنْ كُنتُم تَعْلَمُون " (الصف:1.-11)

فهذه سبعة مواطن في أربعة منها قدم "الأموال والأنفس " على قوله (في سبيل الله) : (الأنفال:72- التوبة:41، 81- الحجرات: 15)

وفي ثلاثة أخر عن قوله (في سبيل الله)(النساء: 95- التوبة:2.- الصف: 11)

ولم يأت في أي موطن من هذه المواطن ولا في غيرها تقديم " الأنفس" على الأموال" إلا في آية واحدة في غير هذه المواطن هي قوله تعالى:

"إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوالَهُم بِأنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.."(التوبة:111)

وهذا من تصريف البيان القرآني الكريم، ولكل صورة من هذه الصور ما يقتضيها في سياقها.

في سورة التوبة جاءت ثلاث آيات: الأولى كان فيها تقديم (في سبيل الله) وما بقي أخر فيه (في سبيل الله)

فأيُّ الصور هي الأصل في اللغة: تقديم الظرف أم الآلة؟

ص: 98

من البين أنَّ المتعلِّقات ليس فيما بينها ترتيب محفوظ يلزم إذا لم يكن ما يقتضي العدول عنه،إلا أن يكون المفعول به، فمن قال: أعنت محمدًا ليلة سفره بألف دينار محبة له، أو قال: أعنت محمدًا محبة له بألف دينار ليلة سفره " لايكون أحدهما هو الأصل والآخر عدولاً عنه، بل يكون في كل صورة إلاحَة إلى ما هو المهم عندك أو عنده.

كذلك في تقديم الأموال والأنفس على السبيل إنما يكون لأمر راجع إلى بيان أهمية ما يجاهد به، وتقديم السبيل إنما يكون لأمر راجع إلى بيان ما يجاهد فيه:

جاءت الآية العشرين من سورة التوبة:" الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَروا وجاهَدوا في سبيل الله بأمْوالِهم وأنْفُسِهم أعْظَمُ دَرجةً عِندَ اللهِ وأؤلئك هُمُ الفائِزُونَ) في معرض الإنكار على من جعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، فإن السقاية والإعمار بغير إيمان سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، فالسياق هنا لبيان أهمية أن تكون أفعالنا صادرة عن إيمان وأن تكون في سبيل الله الذي نؤمن به جل جلاله، فكان السياق مقتضيًا هنا تقديم ما يدل على أهمية أن يكون العمل مخلصًا لله رب العالمين، ومن ثم قال الله تعالى مبينًا:" لايَسْتَوُون عِنْدَ اللهِ"

وفي الآيتين (41، 81) من سورة التوبة كان التقديم للآلة (أموالكم وأنفسكم) ووجه هذا أن الآية الحادية والأربعين جاءت في سياق الإنكار والتوبيخ والتهديد والوعيد لمن تثاقل عن النِّفار في غزوة العسرة حيث الحَرُّ وبُعْدُ الشُّقَّةِ وطيب الظلال تحت الأشجار في الديار والبساتين، فرغبوا في هذه عن إنفاق أموالهم وإجهاد أنفسهم، فاقتضى السياق تقديم ما كان سببا في تثاقهم ورغبتهم عن الجهاد: الأموال ومتاع الأنفس

وفي الآية الحادية والثمانين سياق الآية وسباقها يكتنفها بما يصرح بأن النكير عليهم كراهة الجهاد بأموالهم وأنفسهم.

ص: 99

تجد هذا جليًا من أول قوله تعالى:" " ومِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ الله لَئِنْ آتانا مِنْ فضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ "

وتراه في صدر الآية:" فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يجَاهِدُوا بَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاتَنْفِرُوا فِي الحَرِّ "

هذا كله دالٌ دلالة بَيِّنَةً على أنَّ السِّياقَ هنا قاضٍ بأنَّ تقدُّمَ الآلة على السبيل هو العَلِيُّ بلاغة.

أمَّا تقديم الأموال على الأنفس في المواطن كلها خلا الآية الحادية عشرة بعد المئة (إن الله اشْتَرَى

) فإن محبة المرء لماله أكثر من محبته لنفسه وحرصه عليه أضعاف حرصه على سلامة نفسه، وإن تظاهر كثير من الناس بغير ذلك، ألا ترانا نلقى بأنفسنا في رهق الحياة الدنيا لنجمع ما فضل عن حاجاتنا إن كنا نجمعه من حلال؟ وألا ترى كثيرًا منا يلقى بنفسه في المذلة في دنياه وفي الحطمة في أخراه ـ وهو العليم بذلك ـ من أجل جمعه لأموال من حرام؟

كلنا أو جُلُّناالمال حبيب إليه أكثر من نفسه وولده

(وتُحِبُّونَ المَال حُبًّا جَمًّا){الفجر:2.}

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ){العاديات:8}

على أن المجاهدة بالمال مجالها متسع جدًا، ويتمكن منه كثير من الناس إذا ما أخلصوا، وحاجة الجهاد إلى الأموال أكثر من حاجته إلى الأنفس، ولاسيما أن أكثر الأمة نساء، وبعض الرجال غير صالح للجهاد بنفسه لعذر شرعيٍّ، فكان هذا وجهًا آخر لتقديم المال على النفس

وكأنَّ في تقديم المال بُشرَى للأمة أن المال فيها سيفيض ويكثر في أيدى كثير منهم مما ييسر لهم المشاركة في فريضة الجهاد في سبيل الله.

ص: 100

أمَّا تقديم النفس على المال في " إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم......." فوجهه أن هذه الآية جاءت لبيان وجه البسط في كشف أستار المنافقين والمتثاقلين عن الجهاد في سبيل الله تعالى وأنَّهم إِنَّما نُدِبُوا إلى القيام بالوفاء بالمبايعة التى بايعوا الله عز وجل عليها وأنها مبايعة كان المشترِي فيها مشتريًا ما كان هو المانحه لمن يشترى منه، فاعجب لمشْتَرٍ يشترى ما وهب مِمَّنْ وهب، لما كانت النفوس هي التى يتجلى فيها كمال الهبة وانتفاء أن يكون للمرء دخل في اكتسابها قدمت على المال الذي قد تظن بعض النفوس أن لها في اكتسابه دخلا عظيمًا، وذلك شأن السائرين على سنن قارون القائل:" إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي"{القصص: 78}

فاقتضَي المقام كما ترى تقديم ما كان أقوى في تصوير فضل الله على المؤمنين باشتراء ما وهبه وحده لهم بأنَّ لهم الجنة، وبرغم من هذا يبخل علىأنْفًسِهِم المتثاقلون أن يقدموا ما وُهِبُوا في سبيل الله عز وجل ليفوزوا بهبة هى أعلى وأعظم:

" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"(آل عمران: 18.)

" هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَن يَبْخَلُ ومَن يبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوا يسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لايَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ "{محمد: 38}

.....

ص: 101

وفي اسم الإشارة (ذلكم) من قوله تعالى: (ذلكُم خيرٌ لكُمْ) استحضار لما سبق الأمر به من النِّفار خفافًا وثقالا، والجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله ليخبر عنه بذلك الخبر العظيم (خير لكم) وهو خبر من الذي وسع علمه كل شيء، فلا يبقى في نفس عاقلٍ أن ثَمَّ شيئًا هو خير له مما يؤمر به في هذ الآية.

وجاء المسند (خير) منكرًا إشارة إلى تعظيمه وتنويعه وأنه لايحاط به، وأنه غير مقصور أو محصور في زمان أو حياة من دون حياة فإن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة لمن جاهد واستشهد أو أبلى وصدق، وفيه عزُّ الدنيا لم جاء من بَعدُ، فلولا الجهاد ما كان لمسلم عزة في الدنيا، فإنه ما ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله إلا ذلُّوا، وقد أنبأ النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بذلك

في مسندأحمد (ج:2/42) بسنده عن عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:

" لئن تركتم الجهادَ وأخذْتم بأذنابِ البقرِ وتَبايَعْتُم بالعِينَة ليُلْزِمَنَّكُم الله مَذَلَّةً في رِقابِكُم لاتَنْفَكُّ عَنْكُم حتَّى تتوبوا إلى الله وتَرجِعُوا عَمَّا كنتم عليه "

فانظر في حال قومك، أليس هذا ما هَدَّدَ به نبي الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولن يكون الفكاك منه إلا بما أخبر أنه السبيل إلى الفكاك: أن تتوبوا إلى الله وترجعوا عما كنتم عليه "

" يَأيُّهَا الذين آمنوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [] وَاتَّقُوا فِتْنةً لاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خََاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"{الأنفال: 24-25}

ص: 102

وكان البيان بهذا الخبر مجردًا من المؤكدات إبلاغًا في أنه قد بلغ بما سبق من البسط في تسفيه من أخلد إلى الأرض وأعرض عن النِّفار إلى الجهاد في سبيل الله مبلغًا عظيمًا في التقرر والرسوخ لايبقى عاقل في حاجة إلى مزيد تأكيد معه،وفي الوقت نفسه إلاحَة إلى أنه تعجز كل المؤكدات عن أن تضيف شيئًا إلى ماسبق من تقرير وترسيخ، فإذا ما كان في الناس من يقضِي ظاهر حاله أنه لمَّا يزل مفتقرًا إلى تأكيد بعديد من المؤكدات، فإن مثل هذا جدير بأن يُعْرَضَ عنه، فإنك لو ظلِلْت العمر كله تؤكد له تلك الحقيقة لبقى قلبه أغلف كصخرة صماء لايؤثر فيه شيء، فذلك الذي ختم الله على قلبه.

" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ"(الجاثية:23)

وقد جاء في السنة النبوية المطهرة ما يصرف هذه الحقيقة القرآنية: (ذلكم خير لكم) :

في البخاري من كتاب الجهاد:" قيل يارسول الله: أيُّ الناس افضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله

"

وفي (مسندأحمد) قال رسول الله والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل تبتغى فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله ولا ثقل ميزان عبد كدابة تنفق له في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله)

الكتاب والسنة هاديان إلى أن الجهاد في سبيل الله عز وجل خير للعبد من متاع الحياة الدنيا

ص: 103

وجاءت الفاصلة (إن كنتم تعلمون) لبيان أن هذا إنما ينتفع بهديه أولو العلم، فقوله (كنتم) دال على أن ما سبق بيانه يفتقر المرء إلى أن يكون ممن يعلم لينتفع به فيكون خيرًا له، وهذا دال على أن الهدي القرآني إنما ينتفع به من كان مؤهلا أن يكون من أهل العلم أمَّا من كان غيرذلك فلن يكون إلا وبالا عليهم:

" قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِين لايُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئكَ يُنَادَوْنَ من مَكَانٍ بَعيدٍ "(فصلت: 44) َ

فالقرآن الكريم إنما ينتفع به من كان مهيئًا لذلك، ومن لم يختم الله على قلبه

والله عز وجل يختم سورة " التوبة" بتقرير هذه الحقيقة:

" وَإذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {}

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ {}

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهثمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ {}

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَة نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُون {} َ

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتْمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {}

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَعَلَيْهِ تَوِكَّلْتُ وَهُوَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "

ص: 104