المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بلاغة الاستفهام في قوله تعالى: - شذرات الذهب دراسة في البلاغة القرآنية

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: ‌بلاغة الاستفهام في قوله تعالى:

الأول خاص مرتبط بسبب النزول

والثانى عام صالح لكل من تساقط عن العلِيِّ من المنازل الماجدة إلى الدركات السافلة من متع الحياة الدنيا في كل شأن من شئون الحياة.

وفي الوجهين تثريب عظيم لايطيقه عربي فضلا عن عربي مسلم صحابي، فشأن العربي أنَّه أهل تجارة وجهاد، وليس أهل زراعة

وقد هدى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى أنَّه قد جعلت الجنة تحت ظلِّ السيف.

روى الشيخان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه قال:

" اعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف"(الرواية لمسلم ـ الجهاد: ح. ر:2./ 1742)

فمن مال إلى ظلِّ شجرة وأعرض عن ظل السيف فقد غبن نفسه، وشأن العربي القُحّ أنَّه لايرضى الدنية في شيء من حياته، فكيف بعربي مسلم صحابي؟!!

ومن ثَمَّ جاء الاستفهام الإنكاري التوبيخي التسفيهي الدَّال على ضلال الاختيار في الجملة التى من بعدها:

‌بلاغة الاستفهام في قوله تعالى:

(أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)

الاستفهام في " أرضيتم" إنكاريٌّ توبيخي تسفيهي، بمعنى ما كان ينبغي لكم أن يكون منكم ذلك، وفي تسليط الاستفهام الإنكار التوبيخي على فعل (رضي) دلالة على أن الذي كان منهم ليس مجرد ميل أو تطلُّعٍ إلى شيء من الحياة الدنيا، إنهم قد تجاوزوا ذلك إلى ما هو أوْغَلُ في البُعدِ عما يُرضي ربهم سبحانه، إنهم السَّاقطون في درْكِ الرضوان بهذه الدنيا

والرضا قائم من انشراح النفس بما ترضى به، فهو استغراق في مُخادَنَةِ الشيء مخادنة فتَّحت المغاليق فانشرحت النفس وأنست، وهذا ما تنفر النفس السَّوِيَّةُ من مجرد أن يُنْسبَ إليها، فكيف الرِّضا بالوقوع منها؟ بل كيف الرضا بالوقوع فيه؟

وفي قوله (أرضيتم) من بعد (إلى الأرض) توقيع نغميٌّ يلفت القلب إلى ما بين الأمرين، وهما عظيمان في تآخيهما، وتناغيهما: هنالك تساقط وتثاقل إلى التى لايأنس بها إلا ساقط الهِمَّة، وهنا إنكار لانشراح النفس بما هو دَنِيءٌ وَضِيعٌ، فهما وإن تناغيا إيقاعًا إِلَاّ أَنَّهُما أيضًا متقاربان غاية، فهذا من التجنيس الحامل في نغمه فيضًا من لطائف المعانى، والذي تركُه عقُوقٌ بالمعنى

ص: 48

يقول " الإمام: عبد القاهر:"

لاتجد تجنيسًا مقبولا، ولاسجعًا حسنا حتى يكون المعنى هوالذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لاتبتغى به بدلا، ولا تجدعنه حولا" (9)

وعُدِّيَ الفعلُ " رَضِيَ " بـ"الباء" وقد جاء ت تعديته بنفسه في القرآن الكريم كثيرًا:" فلنولينك قبلة ترضاه"{البقرة} ،

"ومساكن ترضونها"{التوبة} "

"وأن أعمل صالحا ترضاها "{الأحقاف}

(9) أسرار البلاغة، لعبد القاهر: ص 11ـ ت: محمود شاكر

ص: 49

وفي التعدية"بـ" الباء" دلالة على كمال تلبس الفعل بماوقع عليه، فـ"الباء" حرف " إلصاق" فإذا ما استحضر، والفعل مستغنٍ في نفسِه عنه في تعديته، فإنَّ في استحضاره إشارةً إلى كمال تحقق معناه في علاقة الفعل بماوقع عليه وأن فاعله قائم به قيامًا بليغا،

وهذاغيرقليل في القرآن الكريم، فإنَّ مواقع" الباء" في البيان القرآني يفتقرالمرء إلى تقصِّيها وتدبُّر كل موقع في سياقه ومقاصد ذلك السياق.

المهم أن في هذا دلالةًً على أنَّه قد كان منهم الرِّضا الكاملُ،وكأنَّهم في رضوانهم بالحياة الدنيا لايتطلعون إلى شيء من الحياة الآخرة، وهذا من المَعابات التى ينفر منها كلُّ عاقلٍ إذا ما انْتَبَه أو نُبِّه إليها

وفي نعت الله عز وعلا " الحياة" بأنها "الدنيا" تنفير بليغ من الإخلاد إليها، والركون إلى متاعها الناقص الزائل، وإغراء عظيم بالفرار من قبضتها إلى رحابة الحياة الآخرة

ومن اللطيف أنَّ الله جل جلاله لم يتركنا نَخْبُر متاعَ الحياة التى نحن فيها لنعلم خبرها: أعَلِيٌّ هوأم دنِيٌّ، بل نادى عليها في مواطن كثيرة من كتابه المجيد بأنَّها الحياة الدنيا، ولم يقل الحياة الدانية أو الدَّنِيَّة بل بلغ بها الغاية "الدنيا"، وكأنه ليس من دون ذلك حياة.

وكلُّ نفسٍ سامية شريفة تنفرُ من كلِّ ماهو دانٍ ودَنِيءٍ، وإن كان فيه متعتها أوْ بقاؤها، فهي تُفَضِّلُ الموت على أن تقترف ما هو الدنيُّ الدَّنِيء، كذلك دَيْدَنُ الشُّرفاء:أشْراف النفوس لا أشْراف الأنساب المزعومة، وأدعِياؤه اليوم كُثْرٌ.

وفي قوله " من الآخرة" إيماء إلى أنَّهم كأنَّهم أقاموا موازنة في نفوسهم بين حياتين: حياة عاجلة دانِيَةٍ دَنِيَّة،وحياة آجلة سَنِيَّة، فوثقت نفوسهم المتثاقلة فيما هو حاضر زائل ورغبت عما هو خالد آجل فرضيت بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة،فقوله " من الآخرة" متعلق بمحذوف تقديره " بدلا" من الآخرة

وفي نعت الحياة الثانية بقوله " الآخرة " وكان مقتضي الظاهر أن يقابل " الدنيا" بـ"العليا" أو يقابل الآخرة بالأولى، ولكنه صرف البيان عن الحياة المقابلة للحياة الدنيا إلى نعت "الاخرة " إشارة إلى أنه وإن لم يكن لها من فضل ومزية سوى أنها الاخرة التى ليس من بعدها حياة، وإن كانت في مستوى الحياة المقابلة لها " الحياة الدنيا" فإنَّ العاقلَ لَيُقْبِلُ على ما هو خالد لاينقطع وإنْ كان قليلا، فكيف إذا ماكان هذا الآخر هو العَلِىَّ الذي ليس يُقاربه غيره؟

وكأنَّ في هذه المقابلة بين الحياتين تعليما وتربية لنا: إنَّه إذا ما قابَلْنا بين أمْرين متساويين في القدر إلا أنَّ أحدَهما منقطعٌ والآخرُ دائمٌ لاينقطع فإنَّ مَنْطِقَ الحكمة اختيارُ ما هو دائم لاينقطعُ وإنْ كان من دون الزائل المنقطع، فكيف إذا ما كان أعلى منه وأخلد؟

إِنَّ هذا لَيُصَوِّرُ لك عظيم ما أَوْقَعَ فيه الرَّاضون بالحياة الدنيا أنفسهم فيه من بلية الغبن العظيم

(يَاقَوْمِ إنماهذه الحياة الُّدنْيَا متاع وإنََّ الآخِرَةَ هِيَ دَار القَرار){غافر39}

وفي قوله " من الآخرة" حذف للموصوف وإقامة للصفة مقامه، والتقدير: من الحياة الآخرة، في مقابل:" الحياة الدنيا "

ص: 50

ولا أعلم أنَّ في القرآن الكريم آية قد صرح فيها بالموصوف فيقال " الحياة الآخرة" أمَّا " الدنيا" فقد جاءت آيات بذكر الموصوف، وأخرى بحذفه.

ويبدو لى أن في قوله " أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة" وجهًا تركيبيا آخر قائما على الحذف فيكون التقدير: أرضيتم بالحياة الأولى الدنيا من الحياة الآخرة العليا، فاختار من كلٍّ ما هو أدلُّ على المراد، وحذف الآخر:

اختار من نعت الأولى النعت بالدُّنُوِّ وحذف النعت بالأَوَّلِيَّة لدلالة المذكور من بعد " الاخرة "عليه، والوصف بالدنو في المنزلة هو المُهِمُّ هنا،فكان الأجدر بالذكر

واختار من الحياة الثانية وصف " الاخرة " وحذف الوصف بأنَّها "العليا" لدلالة مقابله عليه " الدنيا" ولأن المذكور هنا "الاخرة" هو الأدل على أصْلِ الأفضلية وإِنْ تساويا في القدر، فكيف إذا ماكانت هي الآخرة وهي العليا؟.

وهذا الضرب من الحذف التقابلى هو ما يعرف عند البلاغيين بـ"الاحتباك"، وهو: أن يتقابل كلامان يحذف من كل واحد منهما ما يدل عليه المذكور في الآخر لوجه بلاغي.

وهو غير قليل في القرآن الكريم، وقد عنى به البقاعي (1.) في تفسيره نظم الدرر، وأفرده بتأليف لم أعثر عليه أسماه:" الإدراك لفن الاحتباك"

وهذا ضرب من ضروب الإيجاز جدير بأن يقوم للوفاء ببعض حقه بحث مستقل يستقصى مواضعه في القرآن الكريم، فإن مجاله فسيح، وصوره عديدة، وأسراره لطيفة، وقد اكثر البقاعي منه في تفسيره، غير أنه لم يكن متوقفًا عند الأسرار البلاغية لكل صورة من صوره.

(1.) إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط الشافعي المعروف بالبقاعي نسبة إلى البقاع بالشام (8.9- 885) من آثاره تفسيره الفريد: نظم الدررفي تناسب الآيات والسور، ومصاعد النظرللإشراف على مقاصد السور، والفتح القدسي في آية الكرسي الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان، وسر الروح، وعنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران وقد اعددت منذ سنوات عديدة (1393هـ) بحثًا للعالمية في نظرية التناسب القرآني في تفسيره يوم أن كان مخطوطًا،وجعلت فيه فصلا عن " الاحتباك " ولعلى أوفق إلى نشر ذلك البحث قريبًا.

ص: 51