المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوقفة الأولى: من خلال مقارنة معتقداتهم في الله تعالى: - أثر الملل والنحل القديمة في بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام

[عبد القادر عطا صوفي]

الفصل: ‌الوقفة الأولى: من خلال مقارنة معتقداتهم في الله تعالى:

‌الوقفة الأولى: من خلال مقارنة معتقداتهم في الله تعالى:

الله جلّ وعلا واحدٌ أحدٌ، موصوفٌ بصفات الكمال، منزَّهٌ عن صفات النقص، تَأْلَهُهُ قلوبُ عباده محبَّةً، وخوفاً، ورجاءً.

وهو سبحانه فوق السماوات السبع، مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه.

وهو المعبود بحقّ وحده، لا إله غيره، ولا شريك له في ملكه؛ كما أخبر عن نفسه:{فَإِيَّايَ فاعْبُدُون} [العنكبوت: 56]، {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم ُ} [البقرة: 163] ، {لم يَلِدْ ولم يُوْلدْ. ولم يكن لهُ كُفُوَاً أَحَد} [خاتمة سورة الإخلاص] .

وهذا هو معتقد أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وأتباعهم، ومن تبعهم بإحسان.

وقد طرأ انحرافٌ خطيرٌ على معتقدات اليهود والنَّصارى في الله عزوجل، ووُجِد مع دياناتٍ وضعيَّةٍ أُخرى -منذ نشأتها- انحرافٌ مشابهٌ، تأباه الفطرُ السليمةُ، والعقولُ المستقيمةُ. ومن ذلك:

1-

القولُ بالحلول:

فكرة (الحلول) من الأفكار القديمة، وهي تعني: حلول اللهِ في الأشخاص.

والنصارى ـ بعدما حرَّف لهم بُولسُ1 ديانَتَهم ـ قالوا بالحلول، وزعموا أنَّ المسيحَ عليه السلام صورةُ الله؛ أي أنَّ فيه طبيعةً لاهوتيَّةً، فهو الله متجسِّداً. واستندوا

1 بُولُس يهوديٌّ دخل في النصرانيَّة بقصد إفسادها من الداخل، وقد كان قبل دخوله فيها يضطهد النَّصارى، ويقتل الكثير منهم. ثمَّ زعم أنَّه دخل في النصرانيَّة امتثالاً لأمر المسيح عليه السلام الذي أمره بالتبشير بها. (انظر: العهد الجديد: أعمال الرسل 7: 60،، 8: 3، 9: 1-2، 3-20،، 23: 6) .

ص: 48

في ذلك إلى نصوص وردت في إنجيلهم المحرَّف –العهد الجديد-، منها:

أ- (ولكن إن كان إنجيلُنا مكتوماً فإنّما هو مكتومٌ في الهالكين. الذين فيهم إلهُ هذا الدهرِ قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورةُ الله)1.

ب- (فليكن فيكم هذا الفكرُ الذي في المسيح يسوع أيضاً. الذي إذ كان في صورة الله)2.

ج- (شاكرين الآب الذي أهَّلَنا لشركة ميراث القدّيسين في النور. الذي أنقذنا من سُلطان الظلمة ونَقَلَنا إلى ملكوت ابنِ محبّته. الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا. الذي هو صورة الله غير المنظور، بِكرُ كل خليقة)3.

وهذه النصوص تُصرِّح بعقيدة الحلول التي عليها نصارى اليوم؛ فهم يقولون: “إنَّ اللاهوت حلَّ في النَّاسوت، وتدرَّع به كحلول الماء في الإناء”؛ فالله ـ تعالى ـ حلَّ بالمسيح عليه السلام، والمسيحُ صورةُ الله ـ على حدّ زعمهم ـ. وقد حكى الله عنهم قولهم:{إنَّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17، 72] ، وكفَّرهم لأجله.

والنصرانيَّة أخذت ـ بعد انحرافها ـ معتقد الحلول هذا عن الهندوس؛ لأنَّ هذه العقيدة كانت سائدة في الهند منذ عهدٍ بعيدٍ. ويُعتبر أرقى النَّاس في الهند، وأعمقهم فكراً ـ عند الهندوس ـ: مَنْ عَرَف حقيقةَ (AIRMEWADWITEA) يعني: هو فقط لا ثاني له. وهذه هي غاية الفكر الهندي، كما يوضح (الفيدا

1 العهد الجديد: رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 4: 3-4.

2 العهد الجديد: رسالة بولس إلى أهل فيليبي 2: 5-6.

3 العهد الجديد: رسالة بولس إلى أهل كولوسي 1: 12-15.

ص: 49

نت) 1: أنَّ الخطوة الأولى: أن تعرف الخالق بمعرفة مخلوقاته. والخطوة الثانية: أن تميّز بين الخالق وطبيعة الكون. والخطوة الثالثة: أن ترى الوحدة بين الخالق وطبيعة الذرّة التي خُلق منها هذا الكون. والخطوة الرابعة، وهي الغاية العظمى عند الهنادك: أن ترى أنَّ ذرة التخليق تتلاشى في ذات الخالق؛ لأنَّها هي هيولى الكائنات، ومصيرها الاتحاد بعلة العلل. ولهذا لا يستنكر (الفيدانت) على من يدعو مع الله إلهاً آخر2.

ومن المؤكَّد ـ أيضاً ـ أنَّ النصرانيَّة المحرَّفة قد تأثَّرت في هذا المعتقد بالمصريِّين القدماء؛ فعلماء الدين من المصريِّين الأقدمين كانوا يعتقدون حلول الآلهة في الأجسام، “بل إنَّهم ما كانوا يتصوَّرون عالماً روحانيًّا ومجرّداً من الجثمانيَّة؛ فالروح لا بُدّ لها من جثمان تحلّ فيه، حتى إنَّها عند الموت لا تُفارق الجسم إلا على عودةٍ سريعةٍ إليه. وإذا كان ذلك شأن الأرواح، فهو أيضاً شأن الآلهة، لا بُدّ من مأوى تأوي إليه في الحياة، وجسمٍ تحلّ فيه. وقد أعملوا

1 الفيدا: معناه العلم. وقديماً كان يُطلق لفظ (فيدا) على جميع الكتب الهندوسيَّة، ثمَّ خُصَّ بأربعة كتب، هي:(ريج فيدا) ، و (ياجور فيدا) ، و (سآم فيدا) ، و (آتُورَ فيدا) . ويُعتبر (الفيدا) ـ حاليًّا ـ من أهمّ الكتب المقدَّسة لدى الهندوس، وقد نال شهرة كبيرة من الجماهير. وهو ليس اسم كتاب مؤلّف على الأبواب والفصول، وإنَّما هو مجموعة من الأجزاء المنتشرة من تعليمات الزهَّاد والنّسَّاك في القرون المظلمة قبل الميلاد. والفيدانت معناه: زبدة الفيدا. ويعتبر (الفيدانت) من الكتب الفلسفيَّة والأخلاقيَّة لدى الهندوس، وهو أصغر حجماً، وأكبر تأثيراً على الفكر الهندي الفلسفي والصوفي من أي كتاب آخر من الكتب الهندوسيَّة. [انظر فصول في أديان الهند:(الهندوسيَّة، والبوذيَّة، والجينيَّة، والسيخيَّة) ، وعلاقة التصوّف بها لمحمد ضياء الرحمن الأعظمي ص 20-21، 45] .

2 انظر فصول في أديان الهند للأعظمي ص 174.

ص: 50

فكرهم في الأحياء التي عساها تكون موضعَ حلول الآلهة، فزعموها في الأحياء التي تتصل بالخصب والإنتاج، والبَذر والإثمار، وأحلُّوها في غيرها لميزةٍ لاحظوها، أو توهّموها؛ فأحلُّوا آلهتهم أحياناً في ثورٍ، وأحياناً في قطّ، وأحياناً في غيرهما. وصاروا يعبدون هذه الحيوانات على أنَّها أوعية قد حلَّت فيها الآلهة..”1.

وفكرة الحلول قد ظهرت في الإسلام، وقُصِدَ بها حلول الله في شخصٍ، أو أشخاص، وكان الغرض منها ضربُ الإسلام في أهمِّ ركنٍ من أركانه، ألا وهو التوحيد.

يقول الحسن بن موسى النوبختي (ت 310?) عن الحلوليَّة: “ وكلّهم متفقون على نفي الربوبيَّة عن الجليل الخالق، وإثباتها في بدن مخلوق، على أنَّ البدن مسكنٌ لله، وأنَّ الله تعالى نورٌ وروح ينتقل في هذه الأبدان “2

وأوَّل من أظهر فكرة الحلول في الإسلام: غلاةُ الروافض الذين قَصَدوا إضفاء صفة الألوهيَّة على عليٍّ رضي الله عنه، والأئمَّة من بعده3.

يقول الإمام عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ) : “ الحلوليَّةُ في الجملة عشرُ فرقٍ، كلّها كانت في دولة الإسلام، وغرض جميعها القصدُ إلى إفساد القول بتوحيد الصانع. وتفصيلُ فرقها في الأكثر يرجع إلى غلاة الروافض “4.

وليس القول بالحلول قاصراً على غلاة الروافض فحسب، بل إنّ كثيراً من الصوفيَّة قالوا به أيضاً.

1 مقارنات الأديان ـ الديانات القديمة ـ لمحمد أبو زهرة ص 14.

2 فرق الشيعة للنوبختي ص 44.

3 انظر مع الشيعة الإماميَّة لمحمد جواد مغنية ص 39-40.

4 الفرق بين الفرق للبغدادي ص 254.

ص: 51

يقول الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 330?) : “ وفي النسَّاك من الصوفيَّة من يقول بالحلول، وأنَّ البارئ سبحانه وتعالى يحلّ في إنسان، وسَبُعٍ، وغير ذلك من الأشخاص “1.

وأكثر العلماء على أنَّ الصوفيَّ المشهور أبا مغيث؛ الحسين بن منصور، المعروف بالحلَاّج (ت 301?)، كان يقول بالحلول. وممَّا نقلوا عنه قوله:

“أنا من أهوى ومن أهوى أنا

ليس في المرآة شيء غيرَنا

قد سها المنشد إذ أنشده

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتَه أبصرتَني

وإذا أبصرتَني أبصرتَنا

أثبت الشركة شركًا واضحًا

كلّ من فرَّق فرقًا بيننا

لا أُناديه، ولا أذكره

إنَّ ذكري وندائي يا أنا”2

ونُقل ـ أيضًا ـ عنه قولُه:

“أنا أنتَ بلا شكِّ

فسُبحانَك سُبحاني

فتوحيدك توحيدي

وعصيانُك عِصياني”3

وقوله:

“فأنا الحقُّ، حُقَّ للحقِّ حقُّ

لابسٌ ذاتُه، فما ثَمَّ فَرْقُ

قد تجلَّت طوالعٌ زَاهِراتٌ

يَتَشَعْشَعْنَ والطوالعُ بَرْقُ”4

1 مقالات الإسلاميِّين لأبي الحسن الأشعري 1/81.

2 ديوان الحلَاّج –جمع وترتيب الشيبي- ص 78. وانظر الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة للقاسم ص 111.

3 ديوان الحلاج ص 81-82.

4 المرجع نفسه ص 67.

ص: 52

وكذا قوله:

“سُبحان من أظهر ناسوتَه

سرَّ سنَا لاهوتِه الثاقبِ

حتى بدا في خلقِه ظاهرًا

في صورةِ الآكل والشاربِ”1

وقد علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت 728هـ) على هذين البيتين ـ الأخيرين ـ، بقوله: “ فهذه قد تعيَّن بها الحلول الخاصّ، كما تقوله النصارى في المسيح “2.

فالحلَاّج ـ كحال من وافقه من غلاة الصوفيَّة ـ تأثَّر بالحلول الذي نادت به النصرانيَّة المحرَّفة، فأخذه عنها، واعتنقه، وصرَّح به، ودعا إليه.

وقد تفطَّن إلى هذه الحقيقة الدكتور نيكلسون [Nicklson] ، فقال معلِّقاً على أبيات الحلَاّج “أنا من أهوى ومن أهوى أنا”، مؤكِّداً تأثُّره بالنصرانيَّة: “وهذا المذهب في التألُّه الشخصي، على الشكل الخاصّ الذي طَبَعَهُ به الحلَاّج، بينه وبين المذهب المسيحي الأساسيّ نسبٌ واضحٌ، ولذا كان هذا المذهب عند المسلمين كفراً من شرِّ أنواع الكفر. وقد قيَّض الله له أن يعيشَ دون تغيير فيه بين أتباعه الأقربين والحلوليّين، وهم الذين يقولون بالتجسيد.. “3.

فالتشابه واضحٌ بين المذهبين، كما نبَّه على ذلك (د. نيكلسون) .

وممَّن قال بالحلول من الصوفيَّة ـ أيضاً ـ: أبو يزيد البسطامي ومن العبارات التي نُسِبَت إليه، قوله: “رفعني الله مرةً فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد! إنَّ خلقي يُحبُّونَ أن يروكَ. فقلتُ: زيِّنِّي بوحدانيّتِك، وألبِسْني أنانيَّتك، وارفعني

1 المرجع نفسه ص 31.

2 مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 1/94.

3 الصوفية في الإسلام لنيكلسون ص 141.

ص: 53

إلى أحديّتك، حتى إذا رآني خلقُك قالوا: رأيناكَ، فتكون أنت ذاكَ، ولا أكون أنا هنا”1.

وقول البسطامي ـ هذا ـ، وإن كان مشابهًا لقول سلفه ـ الحلَاّج ـ، إلَاّ أنَّه أوغل منه في الحلول، بل يُشمّ منه رائحة الاتحاد الذي انتهى إليه ابن عربي، وأشباهه. وهذا ما جَزَمَ به الدكتور عبد القادر محمود [د. ت] ، إذ قال ـ بعد أن نقل عبارة البسطامي المتقدّمة، وعبارات أخرى ـ: “ونصل من هذا، إلى أنَّ هذا النوع من التوحيد عبر الاتحاد الذي لا إشارة فيه، ولا مُشار، ولا مُشير. هذا النوع من التوحيد يتلقَّاه الصوفيُّ حال السَّكَر؛ وهو فناء الذات الخاصَّة في ذات الألوهيَّة، وأنَّه ما ثَمَّ إلا الله، فوجود العبدِ وجود الربِّ، والعكس. ومن هنا يُنسب للعبد ما نُسب للربّ”2.

ولم يُنكر الصوفيَّة هذا المعتقد الإلحادي، بل رفعوا من شأن معتنقيه، وزعموا أنَّه منزلة من منازل العارفين، يصل إليها الخواصّ، فتفنى ذاتهم وصفاتهم البشريَّة، وتتحوَّل إلى صفات إلهيَّة؛ أي يحلّ الله فيهم، فيُصبحون آلهة ـ تعالى الله عن قولهم.

ولنستمع إلى أحد أئمَّتهم3، معبِّرًا عن هذا المعتقد بقوله: “إنَّ العارف من فَنِيَتْ ذاته وصفاته في ذاته تعالى وصفاته، فلم يبقَ له اسمٌ ولا رسمٌ”4.

وبهذه النقول اليسيرة ـ التي أوردتُها على سبيل المثال، لا الحصر ـ يتضّح أنّ عقيدة الحلول ليست من الإسلام في شيء، بل هي عقيدةٌ إلحاديَّةٌ، دخيلةٌ عليه، جاء الإسلام لمحاربتها وأشباهها من المعتقدات، وقد تسرَبت إليه من

1 نقلها عنه أبو السراج الطوسي في كتابه (اللمع) ص 461.

2 الفلسفة الصوفيَّة في الإسلام لعبد القادر محمود ص 319.

3 هو عبيد الله بن أحرار النقشبندي.

4 نقله عبد الوهَّاب الشعراني في كتابه (الأنوار القدسيَّة في بيان آداب العبوديَّة) ص 163.

ص: 54

النصرانيَّة المحرَّفة، أو الديانات الهنديَّة أو المصريَّة القديمة، وحملها مَنْ وافقهم من غلاة الصوفيَّة، وغيرهم.

2-

القول بالتثليث:

وهو صورةٌ أخرى من صور الانحراف عن العقيدة الصحيحة.

وقد وُجد لدى بعض الأمم القديمة ـ سيّما الهنديَّة ـ تعاليم دينيَّة تقول باللاهوت الثلاثي.

فقد ظهر التثليث ـ أولاً ـ في الديانة البرهميَّة ـ إحدى الديانات الوضعية في بلاد الهند ـ، والتي كان أتباعها يعبدون القوى المؤثِّرة في الكون وتقلّباته ـ في زعمهم ـ، “ثمَّ لم يلبثوا أن جسَّدوا تلك القوى؛ بأن اعتقدوا حلولها في بعض الأجسام؛ فعبدوا الأصنام لحلولها فيها، وتعدَّدت آلهتهم حتى وصلت إلى ثلاثةٍ وثلاثين إلهاً. ثمّ عرا عقائدهم التغيير والتبديل، حتى انحصر الآلهة في ثلاثة أقانيم، وذلك أنَّهم توهَّموا أنَّ للعالم ثلاثة آلهة، وهي:

1-

براهما، وهو الإله الخالق، مانح الحياة، القوي الذي صدرت عنه جميع الأشياء، والذي يرجو لطفه وكرمه جميع الأحياء، وينسبون إليه الشمس التي يكون بها الدفء وانتعاش الأجسام، وتُجري الحياةَ في الحيوان والنبات بزعمهم.

2-

سيفا، أو سيوا، وهو الإله المخرِّب المُفني، الذي تصفرُّ به الأوراق الخضراء، ويأتي الهرم بعد الشباب، وتفنى مياه الأنهار في لجج البحار. وينسبون إليه النَّار؛ لأنَّها عنصرٌ مدمِّرٌ مُخرِّبٌ، إن تأجَّجَ لا يُبقي ولا يَذر.

3-

ويشنو، أو بشن

ويعتقدون أن ويشنو هذا حلّ في المخلوقات ليقيَ العالم من الفناء التامّ

وهذه الآلهة الثلاثة أقانيم لإلهٍ واحدٍ

ص: 55

في زعمهم..”1.

فأتباع الديانة الهندوسيَّة (البرهميَّة) يعتقدون أنّ الله ـ تعالى وتقدَّس ـ له ثلاثة أقانيم؛ براهما (موجد العالم) ، وويشنو (افظ العالم) ، وسيفا (مهلك العالم)2.

ومن يقرأ في كتب الهندوس، يُلاحظ ـ أيضاً ـ أنّهم يعتقدون بوجود آلهة كثيرة أُخرى أقلّ قدراً من الإله المتقدِّم ذي الأقانيم الثلاثة؛ فالسماء ـ عندهم ـ لها إلهٌ، والأرض لها إلهٌ، والمطر كذلك، والرعد، والنَّار، والصبح

إلخ3.

يقول الشيخ محمَّد أبو زهرة [1974م] : “ودون هذه الآلهة الثلاثة آلهة أخرى، دون هذه الآلهة سلطاناً، وقوَّةً، وعبادة. وهم من هؤلاء في الدرجة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة4.. “5.

لكنّ هذه الآلهة جميعاً، بل وجميع الكائنات صدرت عن الإله الواحد، وسرت منه روحٌ في الجماد، والنبات، والحيوان؛ فالموجود بحقّ ـ بزعمهم ـ هو الإله وحده، وليست الكائنات جميعها إلاّ مظاهر منه6.

وهذا المذكور أخيراًً من معتقدات البراهمة (الهندوس) ، يُعبَّر عنه بنظرية (وحدة الوجود) التي انتقلت منهم إلى غلاة المتصوِّفة، فحملوها، واعتنقوها،

1 مقارنات الأديان ـ الديانات القديمة ـ لمحمد أبو زهرة ص 24.

2 انظر أديان الهند الكبرى لأحمد شلبي ص 214.

3 انظر آلهة في الأسواق لرؤوف شلبي ص 99-100.

4 وهم رموز وإشارات للإله الكبير؛ فعبادتها هي ـ في الحقيقة- عبادة له.

5 مقارنات الأديان ـ الديانات القديمة- لمحمد أبو زهرة ص 24.

6 انظر الإنسان في ظلّ الأديان ـ المعتقدات والأديان القديمة ـ لعمارة نجيب ص179، 188، 191-192.

ص: 56

ودعوا النَّاس إليها.

وليست الهندوسيَّة هي الديانة ـ الهنديَّة ـ الوحيدة التي قالت بالتثليث، بل شاركتها البوذيَّة أيضاً1.

وكذا كانت العقيدة المصريَّة القديمة ـ أولاً ـ قائمة على تقديس ثالوثٍ مكوَّنٍ من (أوزيريس) ـ إله الإنبات والخصوبة، أو إله النيل ـ، وزوجته (إيزيس) ـ إلهة الحكمة والتشريع والسحر ـ، وابنه (هوروس) ـ إله الإنتاج والعمارة ـ، والجميع يرجع إلى إلهٍ واحدٍ2.

ومن المؤكَّد أنّ النصرانيَّة المحرَّفة استمدت فكرة الأقانيم الثلاثة من الهندوسيَّة، أو من العقيدة المصريَّة القديمة، فخرجت على النَّاس بمعتقد التثليث: الأب، والابن، وروح القدس.

يقول بطرس البستاني [1882م] : (كلمة الثالوث تُطلق عند النَّصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت، تُعرف بالآب، والابن، والروح القُدُس)3. وهذه الأقانيم كلمة سريانيَّة الأصل، مفردها "أقنوم"، وهو الشخص الكائن المستقلّ بذاته.

وهذا هو التثليث، الذي أخذته النصرانية ـ بعد انحرافها ـ عن الوثنيِّين.

ولندع الكلام لشاهدٍ من أهلها؛ وهو (ول ديورانت)[Will Diorant] ، يتحدَّث عن هذا التأثُّر، فيقول: “لمَّا فتحت المسيحيَّة روما، انتقل إلى الدين الجديد دماء الدين الوثني القديم: لقب الحبر الأعظم، وعبادة الأم العظمى،

1 انظر العقائد الوثنيَّة في الديانة النصرانيَّة لمحمد طاهر التنّير ص 16-17.

2 انظر مقارنات الأديان –الديانات القديمة- لمحمد أبو زهرة ص 11-12.

3 دائرة المعارف لبطرس البستاني 6/305.

ص: 57

وعدد لا يُحصى من الأرباب التي تبثّ الراحة والطمأنينة في النفوس، وتمتاز بوجود كائنات في كلّ مكانٍ لا تُدركها الحواسّ، كلّ هذا انتقل إلى المسيحيَّة كما ينتقل دم الأم إلى ولدها

إنَّ المسيحيَّة لم تقض على الوثنيَّة، بل ثبّتتها؛ ذلك أنَّ العقل اليوناني عاد إلى الحياة في صورةٍ جديدة؛ في لاهوت الكنيسة وطقوسها، ونُقلت الطقوس اليونانيَّة الخفيَّة إلى طقوس القُدَّاس الرهيبة، وجاءت من مصر آراء الثالوث المقدَّس، ويوم الحساب، وأبديَّة الثواب والعقاب، وخلود الإنسان في هذا، أو ذاك..”1.

ولقد تأثَّرت بعض الفرق ـ المنتسبة إلى الإسلام ـ بعقيدة التثليث هذه؛ فنظرة فاحصة في عقائد النصيريَّة2 تجعل الناظر يجزم بهذا التأثُّر، بسبب ما يلمحه من تشابهٍ كبيرٍ بين الديانتين؛ فالإله عند النصيريَّة مكوَّن من ثلاثة أقانيم؛ هم عليّ، ومحمَّد، وسلمان. لذلك يستعيضون عن التسمية بقولهم: بسر ع م س. فالعين (ع) هوعليّ بن أبي طالب، وهو المعنى؛ أي الذات الإلهيَّة، والميم (م) هو محمَّد، وهو الاسم، والحجاب، والنبيّ الناطق. أمَّا السين (س) فهو سلمان الفارسيّ؛ وهو الباب الذي خلقه محمَّد –على حدّ زعمهم3.

يقول سليمان أفندي الأضني4 [1410?] كاشفاً عن ديانة أبناء طائفته ـ

1 قصة الحضارة لول ديورانت 11/418.

2 من فرق الباطنيَّة. تنتسب إلى محمَّد بن نُصَيْر، وتعتقد أُلوهيَّة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ويجمعها مع الفرق الباطنيَّة القول بأنَّ للنصوص الشرعيَّة ظاهراً وباطناً، وأنَّ الباطن غير مراد، والقول بالتناسخ. (انظر طائفة النصيرية للدكتور سليمان الحلبي ص 36-39) .

3 انظر الحركات الباطنيَّة في العالم الإسلامي للدكتور محمد أحمد الخطيب ص 360.

4 من الطائفة النصيريَّة، ولد في أنطاكية ـ من إقليم أضنةـ سنة 1250?، وتلقى تعاليم الطائفة، ثمّ لم يلبث أن تنصَّر على يد أحد المبشرين، وهرب إلى بيروت؛ حيث أصدر كتابه (الباكورة السليمانيَّ) ، يكشف فيه أسرار هذه الطائفة. وبعدما علم به أبناء طائفته، استرجعوه، وحين عاد وثبوا عليه وخنقوه، وأحرقوا جثته.

ص: 58

النصيريَّة ـ: “.. وهؤلاء الثلاثة ـ علي، محمَّد، سلمان ـ هم الثالوث الأقدس؛ فعليٌّ عندهم هو الأب، ومحمَّدٌ الابن، وسلمان الفارسيّ هو الروح القُدُس”1.

والنصيريَّة ـ كشأن البرهميَّة ـ عندهم آلهة أقلّ منزلة من الثلاثة المتقدِّمين، وهم خمسة، يُطلقون عليهم اسم: الأيتام الخمسة، ويزعمون أنَّ الذي خلقهم هو سلمان الفارسيّ، وينسبون إلى كلّ واحدٍ منهم ألوهيَّة خاصَّة به، ونوعاً من الخلق مقصوراً عليه.

يقول الأضني [1410?] عن أبناء طائفته: “ويعترفون بأنَّ السيّد سلمان خلق الخمسةَ الأيتام، والخمسةُ الأيتامُ خلقوا كلَّ هذا العالم الموجود، وأنَّ كلَّ ترتيب السموات والأرض بيد هؤلاء الخمسة الأيتام؛ فالمقداد موكَّلٌ بالرعود والصواعق والزلازل، وأبو الذرّ موكَّلٌ بدوران الكواكب والنجوم، وعبد الله ابن رواحة موكَّل بالرياح وبقبض أرواح البشر، ويعتقدون بأنَّه عزرائيل الذي يأخذ الأرواح. وأمَّا عثمان فهو الموكَّل بالمعدة، وحرارة الجسد، وأمراض الإنسان. وأمَّا قنبر فهو يُدخل الأرواح في الأجسام”2.

ونستطيع ممَّا تقدَّم أن نقول: إنَّ التثليث عند النصيريَّة مشابهٌ له عند البرهميَّة، ومن نحا نحوهم من الوثنيِّين. وكذا يُشابه ما عند النصرانيَّة المحرَّفة.

وممَّا يجدر ذكره أنَّ النصيريِّين يُحاولون في كثيرٍ من كتبهم أن يُبرهنوا على أنَّ الثالوث النصراني (الأب، والابن، والروح القدس) لا يختلف عن

1 الباكورة السليمانيَّة لسليمان الأضني ص 30.

2 المرجع نفسه.

ص: 59

ثالوثهم (ع. م. س) ، بل يتفق معه1.

وبهذا يتبيَّن من خلال مقارنة معتقدات الديانات القديمة، مع معتقدات بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام ـ في الله عزوجل ـ، مدى التشابه الكبير بينهما، ممَّا يجعل القارئ يجزم بتسرُّب الأفكار والمعتقدات من الأسبقين إلى التالين.

1 انظر الحركات الباطنيَّة في العالم الإسلامي للخطيب ص 352.

ص: 60