الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقفة الرابعة: من خلال مقارنة موقفهم من الزهد:
عرَّف الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ) الزهد بأنَّه: “عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه. وشرط المرغوب عنه: أن يكون مرغوباً فيه بوجهٍ من الوجوه؛ فمن رغب عن شيء ليس مرغوباً فيه، ولا مطلوباً في نفسه لم يُسمّ زاهداً؛ كمن ترك التراب لا يُسمَّى زاهداً
…
ليس الزهد ترك المال، وبذله على سبيل السخاء والقوَّة واستمالة القلوب، وإنَّما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة”1.
وليس المراد بترك الدنيا: تخليتها من اليد، ولا إنفاق جميع المال، وسؤال النَّاس بعد ذلك، وإنَّما المراد إخراجها من القلب بالكليَّة؛ بحيث لا يلتفت إليها، ولا يدعها تُساكن قلبه وإن كانت في يده.
فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنَّما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك؛ كحال الخلفاء الراشدين (، وغيرهم2.
وقد انحرف الصوفيَّة في مفهوم الزهد انحرافاً خطيراً؛ فصرَّحوا أنَّ الزهد هو الابتعاد عن الدنيا بالكليَّة، وعدم الاهتمام بها.
ولم يكتفوا بذلك، بل دعوا النَّاس إلى تعذيب أنفسهم بالجوع، والعري، وبكلّ الشدائد. ومدحوا الفقر، ودعوا إليه، وقدَّموا سؤال النَّاس على العمل، والاشتغال بالرزق الحلال.
بل زادوا على ذلك انحرافاً آخر، حين زعموا أنَّ درجة الولاية لله لا يُمكن أن تُنال، أو يصل العبد إليها، إلَاّ إذا قام بهذه الطقوس المبتدعة، التي تدعو إلى
1 نقل عنه هذا التعريف: المقدسي في مختصر منهاج القاصدين ص 324.
2 انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزيَّة ص 252.
تعطيل الإنسان عن وظائفه التي خلقه الله لها1.
ونقلوا عن أئمتهم العبارات التالية:
1-
ما أخذنا التصوّف عن القيل والقال، لكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات2.
2-
لا يكن معك شيء تُعطي منه أحداً3.
3-
الفقر أساس التصوُّف، وبه قوامه4.
4-
أكره للفقراء دخول الحمَّام. وأُحبّ لجميع أصحابي: الجوع، والعري، والفقر، والذلّ، والمسكنة. وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك5.
إلى آخر كلامهم الطويل الذي يدلّ على أنّ القوم يعتقدون أنّ الزهد الحقيقي هو ترك الاكتساب، وعدم الادّخار، وتعذيب النفس بشتّى أنواع العذاب؛ من جوعٍ، وعري، وغيرها، حتى تصل إلى ولاية الله حسب زعمهم.
وقد يتساءل المرء: من أين استقى الصوفيَّة هذا الانحراف العقديّ؟
فأُجيب: لقد أخذوه عن الديانات الهنديَّة القديمة؛ سيّما البوذيَّة، التي كانت تدعو إلى تعذيب الإنسان لنفسه، وإماتة شهواته ورغباته، وترك فضول حاجاته،
1 انظر مظاهر الانحرافات العقديَّة عند الصوفيَّة وأثرها السيئ على الأمة الإسلاميَّة لإدريس محمود إدريس 2/791.
2 هذا القول منسوب إلى الجنيد. (نسبه إليه القشيري في الرسالة القشيريَّة ص 132) .
3 هذا القول منسوب إلى السري السقطي. (نسبه إليه السهروردي في عوارف المعارف ص 92) .
4 إيقاظ الهمم في شرح فصوص الحكم لابن عجيبة الحسني ص 213.
5 هذا القول منسوب إلى أحمد الرفاعي. (نسبه إليه عبد الوهاب الشعراني في الأنوار القدسيَّة في بيان آداب العبوديَّة ص 132) .
والسعي في قطع العلائق الدنيوية، واختيار العزلة التامَّة، وترك التزوّج.
فالبوذيُّون قيَّدوا أنفسهم بأنواع معيَّنةٍ من الأطعمة، وحرَّموا كلَّ شيءٍ غيرها، ولم يلبسوا إلا خشن الثياب، ولم يرضوا إلا مرّ العيش. وقد تركوا كلّ ملذّات الحياة وراءهم ظهريًّا، وسَعَوا في قطع العلاقات الدنيويَّة، واختاروا العزلة التامَّة1.
وغاية البوذيّ من هذا كلِّه “رياضة الإرادة على الحرمان، وتعويدها السيطرة على الرغبة في الملاذّ، لكيلا تشقى بطلبها، ويحزّ فيها الحرمان”2.
ويُقارب معتقد الهندوس في الزهد ما نهجه البوذيَّة في هذا الباب:
فمن التعاليم التي أوجبها (مَنو) على أتباعه: السيطرة على جميع شهواتهم، وعدم أكل اللحم، أو استخدام الطيب3.
وعلى الرجل منهم إذا بلغ خمسين عاماً أن يترك الحياة الدنيويَّة، ويتجه إلى الغابة بصحبة زوجته ـ إن رغبت في ذلك، على ألاّ يقربها ـ، حيث يعيش على الثمار والزهور والخضروات التي تُنبتها الأرض، ويتجنَّب أكل اللحم، ويحرم عليه أكل الغلَاّت التي زُرعت في الحقول. وعليه أن يلبس جلود الغزال، ويُربِّي شعر رأسه، ولا يُقلِّم أظفاره، وينام على الأرض، ويتخذ من أصول الشجر بيتاً. وعليه أن يتحمَّل شدَّة الحرّ؛ فيجلس تحت الشمس المحرقة، ويعيش أيام المطر
1 انظر: فصول في أديان الهند للأعظمي ص135. وأديان الهند الكبرى لأحمد شلبي ص145.
2 مقارنات الأديان ـ الديانات القديمة ـ لمحمد أبو زهرة ص 64. وانظر الإنسان في ظلّ الأديان لعمارة نجيب ص 208-211.
3 انظر شريعة (منو)، الباب الثاني: 175-177، نقلاً عن فصول في أديان الهند للأعظمي ص 76.
تحت السماء، ويرتدي اللباس المبلَّل بالماء في الشتاء. وهكذا يقهر جسده ويُعذّبه1.
وهكذا يتّضح أنَّ أديان الهند الوضعيَّة كانت ذات أثر خاصّ في الصوفيَّة، في مفهوم الزهد، وتقديس الأشخاص، والغلوّ في العبادات.
1 انظر شريعة "منو"، الباب السادس: 6، 8، 13، 16، 19، 22، نقلاً عن المرجع السابق ص 80-81.