الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نص الكتاب
…
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد.
فإن قد وقفت على أوراق كتبها بعض الملحدين يرد فيها بزعمه ما دل عليه الدليل من وجوب إخلاص الدعاء لله وترك مسألة ما سواه من الأنداد والأموات، وكذلك جحد فيها ما قام عليه البرهان ونطق به القرآن من اختصاصه تعالى من علم الغيب، وزعم أن للأولياء والصالحين بعد الممات تصرفا وأنهم يجيبون من قصدهم بالاستغاثة والدعاء (وإعطاء ما اختص به الباري لغيره ورد الشيخ على ذلك) .
(قال الناقد الشيخ عبد اللطيف رحمه الله : وهذه الأقوال التي أوردها والشبه التي صدرها يعلم بطلانها وفسادها بالاضطرار من دين الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن غربة الدين وقلة من يعرفه من المنتسبين قد يروج بسببها الباطل والشرك على الأكثرين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) .
فإذا كان عدم معرفة الجاهلية سببا لنقض العرى الإسلامية فما ظنك بمن لا يعرف الإسلام ولا الجاهلية كما هو الغالب في هذه الأوقات.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخذ (1) حصاة بيضاء فوضعها في كفه ثم قال: هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه ثم أخذ كفا من التراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال: والذي نفسي بيده ليجيئ أقوام يدفنون هذا الدين كما دفنت هذه الحصاة ولتسلكن طريق الذين كان من قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل. يشير رضي الله عنه إلى جنس هؤلاء الذين يلقون على عوام الناس وضعفاء البصائر من الشبهات ما يستميلونهم به إلى دعاء غير الله والالتجاء بسواه والاعتماد والتوكل على الأولياء والصالحين، حتى ينسلخ من استجاب لهم من حقائق الملة والدين، ويصير في زمرة الجاهلية والمشركين.
وفي حديث ثوبان: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)(2)
(1) وهذا الأثر الذي ذكره حذيفة رضي الله عنه لم أطلع على لفظه في الكتب الصحاح -وإن لم أستوعبها- إلى قوله رضي الله عنه (ولتسلكن طريق الذين كانوا من قبلكم) - وأما هذه الفقرة الأخيرة فجاءت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما وأيضا معنى هذا الأثر السابق جاء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من رواية حذيفة نفسه في صحيح البخاري حيث أسنده هذا الإمام محمد بن إسماعيل رحمه الله فقال: حدثنا محمد بن المثنى: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا بن جابر: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي: أنه سمع أبا إدريس الخولاني: أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر) قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال:(هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) .
أنظر صحيح البخاري حديث رقم 3411ج 3 ص1319 وأخرجه مسلم في الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن رقم الحديث 1847.
(2)
رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي والبرقاني في صحيحه.
(رمى أهل التوحيد بالاعتزال جهلا منه) : قال: وقد زعم أن من آمن بإخلاص الدعاء لله وآمن بأنه علام الغيوب وأنكر أن يكون لأحد من الأموات تصرف في ملك الله يصير معتزليا (وقال) : وكأن الرجل لا يعرف الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي.
فإن أصل الاعتزال هو القول بالمنزلة بين المنزلتين ثم انضاف إلى هذا القول ما كانت عليه المعتزلة من تعطيل الصفات وجحدها والقول في القدر والجبر ونحو ذلك مما هو معروف عنهم (1)
(1) كالأصول الخمسة التي أصلوها مناقضين بها أصول الدين الخمسة التي اتفق عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وبنوا مذهبهم على الأصول الخمسة التي سموها العدل والتوحيد وإنفاذ الوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبسوا فيها الحق بالباطل، إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل وهم مشبهة الأفعال، لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه وما يقبح من العباد يقبح منه، وقالوا يجب عليه أن يفعل كذا ولا يجوز له أن يفعل كذا بمقتضى ذلك القياس الفاسد فإن السيد من آدم لو رأى عبيده تزني بإمائه ولا يمنعهم ذلك لعد إما مستحسنا للقبيح، وإما عاجزا، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟.
والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه.
أما العدل، فستروا تحته نفي القدر، وقالوا إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جورا والله تعالى عادل لا يجور ويلزم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده فيريد الشيء ولا يكون ملازمه وصفه بالعجز تعالى الله عن ذلك.
وأما التوحيد فستروا تحته القول بخلق القرآن، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء، ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض وأما الوعيد فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيدا فلا يجوز ألا يعذبهم ويخلف وعيده لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفوا عمن يشاء ولا يغفر لمن يريد، عندهم.
وأما المنزلة بين المنزلتين فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر.=
وأصل التسمية أن عمرو بن عبيد وأصحابه اعتزلوا مجلس الحسن البصري رحمه الله وأظهروا مخالفته.
هذا أصل الاعتزال في اصطلاح الفقهاء والمتكلمين، والنظار، وهذا هو الذي يطلق عليه عندهم الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي.
وأما اعتزال من دعا غير الله والتجأ واعتمد على ذلك الغير لحصول مطلوبه أو دفع مرهوبه فإن اعتزال من فعل هذا والبراءة منه هو دين الإسلام الذي جاء به الرسل الكرام قال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} (1) .
ولله در الإمام الشافعي رحمه الله، حيث يقول:
يا راكبا قف بالمحصب من مني
…
واهتف بجانب خيفها والناهضي
إن كان رفضا حب آل محمد
…
فليشهد الثقلان أني رافضي (2)
وكانت الجاهلية تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابيء وتقول صبأ محمد لما فارق دينهم وما هم عليه من عبادة الملائكة والصالحين والأوثان وكان أبو
=وأما الأمر بالمعروف فهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أمرنا به، وأن نلزمه بما يلزمنا وذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضمنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا.
(1)
سورة مريم، آية رقم 48.
(2)
إعراب هذين البيتين اللذين قالهما الإمام الشافعي رحمه الله: يا حرف نداء مبني على السكون لا محل له من الإعراب راكبا منادى نكرة غير مقصودة منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره، قف فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والجملة من الفعل والفاعل معترضة بين الجار والمجرور ومتعلقهما بالمحصب الجار والمجرور متعلق بقف من حرف جر مبني على السكون مني مجرور بمن وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لضرورة الشعر منع من ظهورها التعذر الجار والمجرور متعلق براكبا واهتف الواو عاطفة مبني على الفتح اهتف فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والجملة من الفعل والفاعل معطوفة على جملة قف بجانب الباء حرف جر مبني على الكسر جانب مجرور بالباء وعلامة كسره ظاهرة.
جهل يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم وهو يدعو الناس إلى أن يمنعوه (1) لئلا
(1)(في الأصل ليبيغ لعل الصواب لئلا يبلغ كلام ربه) في آخره الجار والمجرور متعلق باهتف والناهض الواو حرف عطف مبني على الفتح الناهض معطوف على راكبا منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة المجلوبة على الأخير لأجل الياء التي أتي بها للقافية ويجوز أن يكون معطوفا على جانب المجرور بالباء على تقدير معنى واهتف بالمرتحلين من مسجد الخيف إن كان رفضا إن حرف شرط وجزم مبني على السكون كان فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم إن الشرطية رفضا خبرها مقدم منصوب وعلامة نصبه الفتحة ظاهرة في آخره حب اسمها مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره وجملة كان واسمها وخبرها فعل شرط فليشهد الفاء رابطة بأني اللام لام الأمر مبني على السكون يشهد فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه السكون الثقلان فاعل مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى الخ.
ووجه استشهاد المؤلف بهذين البيتين الذين ذكرهما الشافعي رحمه الله أن حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واحترامهم دين وإيمان وإحسان وليس رفضا وتشيعا شريطة ألا يجر ذلك إلى مس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى شيء من السب والطعن وحطهم عن المنازل التي أنزلهم الله فيها كما أن معنى الاعتزال الذي قرره القرآن هو الابتعاد عن الشرك وأهله والبراءة من كل ما يخل التوجه إلى الله وإخلاص العبادة له وليس معنى الاعتزال في القرآن ما اصطلح عليه الفقهاء والمتكلمون والنظار من إطلاقه على مفارقة جماعة من تلاميذ الحسن البصري مجلسه مخافتا ورفضا لما ذهب إليه مما يعتقده السلف الصالح من أصول الدين من أن مرتكب
الكبيرة مؤمن لا يخلد في النار إذا مات قبل أن يتوب عنها حيث ذهب هؤلاء المعتزلون عن مجلس الحسن إلى أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر وهو بين منزلتين (الإيمان والكفر) ويخلد في النار، والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم
موافقون على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، قالت الخوارج: نسميه كافرا وقالت المعتزلة: نسميه فاسقا فالخلاف بينهم لفظي فقط، وأهل السنة أيضا متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب كما وردت به النصوص لا كما يقوله المرجئية من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئية ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة: تبين لك فساد القولين ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى. اهـ شرح الطحاوية ص 218.
والذين وافقوه فيما ذكر الجهمية المحضة كالقرامطة والإسماعيلية حيث وصفوه بالنفي فقط فقالوا ليس بحي ولا سميع ولا بصير فإذا قيل لهؤلاء: هذا مستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم قالوا: إنما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك وهذا الاعتذار يزيد قولهم
فسادا وكذلك من ضاهى هؤلاء وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه إذا قيل=
يبلغ كلام ربه ويقول: لا تطيعون هذا الصابئ، ومعنى الصابئ قريب من معنى المعتزلي.
(قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله :
قال المعترض: فصل ونحمدك يا واجب الوجود، (وقال الراد رحمه الله : هذا القول الذي صدر به رسالته وهذه العبارة لا تعرف في كلام الله الذي لا يضل من اتبعه ولا يشقى ولا في كلام رسوله الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ولا في كلام أحد من أئمة الإسلام والهدى وإنما أخذها بعض المصنفين عن أهل الكلام. والمناطقة الذين أعرضوا في باب معرفة الله وإثبات وجوده وربوبيته عن الكتاب والسنة وما درج عليه أهل العلم والإيمان من سلف الأمة واعتمدوا في هذا الباب على مجرد الأقيسة الكلامية والمقدمات المنطقية، وأول من عرفت عنه هذه العبارة هو ابن سينا الطبيب المتكلم وخالف سلفه (1) في التعبير بهذا فإنه قسم الوجود إلى واجب
=لهم: هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلا لذلك والقبول إنما
يكون من المتحيز انتفى قبول هذين المتناقضين فيقال لهم: علم الغيب بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود والتحيز المذكور إذا أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به فهذا هو الداخل في العالم وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات إلى مباين لها متميز عنها فهذا هو الخروج ومن هنا تعين بطلان مذهبهم. اهـ الرسالة التدمرية ص 43-44.
(1)
والمراد بسلفه الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله هو أرسطو حيث أنه أول حامل هذه الراية الإلحادية كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم وقرر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه (الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين) الذي أوضح فيه جرائم الفلاسفة التي أدت بهم إلى الكفر بالله ورسله وملائكته وانسلاخهم عن الدين السماوي حيث قرر أنهم شر من اليهود والنصارى ومشركي العرب: قال في بيان ذلك: أما بعد فإن الله تعالى بعث رسله مبشرين ومنذرين وجعلهم الهداة والأئمة إلى كل علم صحيح نافع ودين صحيح وإلى كل صلاح وخير، وخص محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعله خاتمهم وإمامهم وأنزل عليه الكتاب والحكمة فيهما الهدى والنور، وفيهما العلوم النافعة والحقائق الصادقة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والآداب العالية إليهما ينتهي كل علم وحق وكمال.=
وممكن وجعل الممكن مستلزما للواجب لكنه قال: الواجب لا يكون إلا
=وقد أوضح الله ورسوله المسائل والدلائل والحقائق اليقينية والبراهين القطعية فمن تمسك بهما واهتدى بهما سعد في الدنيا والآخرة ومن أعرض عنهما ضل عن الهدى وشقي ونال الصفقة الخاسرة.
وأعظم الناس انحرافا عنهما ملاحدة الفلاسفة وزنادقة الدهريين وهم أكبر أعداء الرسل في كل زمان ومكان وهم شرار الخلق الدعاة إلى الضلال والشقاء، فإنهم تصدوا لمحاربة الأديان كلها وزين لهم الشيطان علومهم التي فرحوا بها واحتقروا لأجلها ما جاءت به الرسل {َلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (غافر:83) وقد أصلوا لباطلهم أصولا يقلد فيها بعضهم بعضا وهي في غاية الفساد، يكفي اللبيب مجرد قصورها عن إقامة البراهين على نقضها لكونها مناقضة للعقل والنقل ولاكن زخرفوها وروجوها فانخدع بها أكثر الخلق، أعظمها عندهم أصل خبيث منقول عن معلمهم الأول أرسطو اليوناني المعروف بالإلحاد والجحد لرب العالمين والكفر به وبكتبه ورسله.
وهذا الأصل الذي تفرع عنه ضلالهم أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية فاليمسح من قلبه جميع العلوم والاعتقادات وليسع في إزالتها من قلبه بحسب مقدوره وليشك في الأشياء ثم ليكتفي بعقله وخياله ورأيه، وكملوا هذا الأصل الخبيث بحصرهم للمعلومات بالمحسوسات وما سوى ما أدركوه بحواسهم نفوه.
وهذا أصل أفسد عليهم علومهم وعقولهم وأديانهم، وقد بين الناس على اختلاف نحلهم بطلان أصولهم وأن أهلها خالفوا جميع الرسل وجميع العقلاء.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: إن العلوم المدركة بالحس إذا نسبت إلى علوم الرسل –كالعلوم المتعلقة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأحوال الآخرة والجزاء على الخير والشر وأمور الغيب بما كان وما يكون وما يسعد النفوس وما يشقيها- كانت كقطرة في بحر لجي، فأمور الغيب التي تتوقف على أخبار الرسل ووحي الله وهدايته العامة والخاصة أبطلها هؤلاء الملاحدة إذ ضيقوا دائرة المعلومات جدا في مدركات حواسهم، فلهذا حاروا واضطربوا ولم يستقر لهم قرار على أقوال تتفق عليها آرائهم لأنهم أنكروا العلم الحقيقي النافع الذي يربي النفوس ويسعدها ويرقيها في مدارج الكمال، ومن المنكر والزور تخصيصهم علومهم القاصرة بسم العلم فحيث أطلقوا العلم أرادوا به علوم الفلسفة وما نتج عنها ونفوا العلم عما سواها وهذا من باب المكابرات وقلب الحقائق وإلا فالعلم الحقيقي الذي أثنى الله عليه في كتابه علوم الرسل وهداية الوحي المنزل من عند العليم الخبير، وما سواها فإما علوم ضارة وإما قليلة النفع وإما نافعة في أمور الدنيا دون أمور الدين. أنظر كتاب المذكور ص 3-4-17-18.
واحدا فلا يكون له صفة ثبوته فسلبه صفات الكمال ونعوت الجلال ونعته هو ومن وافقه بالسلوب التي تقتضي أنه واجب العدم وهؤلاء أصابهم في لفظ واجب الوجود ما أصاب القدرية في القديم (1) والحادث والفلاسفة الذين يسندون الحوادث إلى الفلك يقولون بواجب الوجود، لكنه عندهم علم كل حال واحد في الأزل إلى الأبد يمتنع أن يصدر عنه حادث.
(1) والذي أصاب القدرية في القديم والحادث أن القدرية أنكرة علمه القديم وأثبتة علمه الحادث وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وقالو أيضا: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولا عظيمة.
أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة كليها وجزئيها قبل كونها فيثبت علمه القديم.
الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها فإن الله تعالى قد جعل لكل شيء قدرا قال تعالى:
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ الفرقان َقْدِيراً} سورة الفرقان: من الآية 2. فالخلق يتضمن التقدير تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدرا وتقديره قبل وجوده فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة خلافا للقدرية الذين يقولون: إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات ويعلم الحادث دون القديم، فالقدر يتضمن العلم القديم والحادث وعلم الجزئيات والكليات قال تعالى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ومَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر49-50.وقال أيضا: {ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:22) وقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج:70) وهذه الآيات الكريمة من أدل الدليل على بطلان مذهب القدرية نفاة العلم القديم السابق قبحهم الله وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحج: من الآية70) أي أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عز وجل لأنه يعلم ما كان وما يكون، وقوله تعالى:{لِكَيْلا تَأْسَوْا} (الحديد: من الآية23) الآية أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطأكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ولا تحزنوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم أي لا تفخروا بما أنعم الله به عليكم على الناس فإن ذلك ليس بسعيكم ولا بكدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا ولا بطرا تفخرون بها على العباد ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} (النساء: من الآية36) قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروا كفروا، فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه فإنما يعذبه لأنه لم يفعل مع القدرة وقد علم الله ذلك منه ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه. اهـ شرح الطحاوية ص 216ببعض التصرف.
والواجب في هذا الباب وغيره اتباع ما جاء في كتاب الله والتعبير بالعبارة الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة وترك المتشابه من الكلام، ونحن لا ننكر أن العقل يوجب وجود رب قادر قاهر حكيم خلاق رزاق وهذا تقتضيه العقول السليمة وتوجبه الفطر المستقيمة كما دل عليه كتاب الله في غير موضع.
وهؤلاء لا يعنون هذا بل يوافقون ابن سينا وشيعته على سلب الصفات، ومن صح قصده فعليه أن يعبر بالعبارة الشرعية ويختار الوصف الذي اختاره الرب لنفسه والتعبير بالاسم الكريم المتناهي في التنزيه والتقديس (1) المستلزم لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال.
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) وقال جلا وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (3) وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) ونحو ذلك كثير مما يدل على تعليق الحمد بهذا الاسم الأقدس الموصوف بجميل الصفات والنعوت وقد يعلق الحمد بغيره سواء كان جملة إسمية أو فعلية وما جاء في كتاب الله أكمل وأتم.
(قال الناقد رحمه الله تعالى) :
(فصل رمي أهل التوحيد الذين أنكروا الاستغاثة بغير الله بالاعتزال) .
(قال الناقد رحمه الله تعالى) :
قال المعترض: اعلم أن المنكرين للاستمداد من أهل القبور أهل
(1) في الأصل (والقدس – ولعل الأنسب ما أثبتناه) .
(2)
سورة الفاتحة: رقم الآية 2.
(3)
سورة الأنعام: رقم الآية 1.
(4)
سورة فاطر: رقم الآية 1.
الاعتزال مطلقا وبعض الفقهاء من أهل السنة فيما عدا الأنبياء عليهم السلام وقد ظهرت طائفة أفرطوا في الإنكار فأردت أن أورد في هذه الأوراق شبهاتهم الدائرة على ألسنتهم مع الأجوبة وأورد أدلة لإثبات ما ينفونه (قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله والجواب عن هذا أن يقال: هذا الكلام يشهد بجهالة قائله وضلاله وإفلاسه من العلم والهدى فإن هذه العبارة لا تصدر عمن عرف الإسلام والتوحيد ولا من عرف الاعتزال والسنة، وما يراد بهما عند أهل العلم، فإن الاستمداد من الأموات ودعائهم هو طلب المدد بما شأنه أن يستمد ويطلب فيدخل تحت هذه العبارة كل مطلوب ومرغوب من أمر الدنيا والآخرة وهذا هو دين المشركين من الكتابيين والأميين، قال تعالى فيمن دعا الأنبياء والملائكة والصالحين واستمد منهم: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (1) .
قالت (2) طائفة (3) من السلف: نزلت هذه الآية فيمن يدعوا الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا وصالح الجن فأخبرهم تعالى أن هؤلاء المدعوين عبيده كما أن الداعين لهم كذلك يرجون رحمته ويخافون عذابه، ومن كانت هذه حاله وهذا نعته فلا يدعي مع الله ولا يرجى من دونه لأن الدعاء هو العبادة
(1) سورة الإسراء: الآية 56-57.
(2)
في الأصل قال طائفة وأثبتناه (قالت طائفة) ولعل هذه الكلمة هي الفصحى حيث جاء نص القرآن بها.
(3)
وهذه الطائفة التي أشار إليها الشيخ رحمه الله بن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وهذا ما ذكره ابن كثير في تفسيره، وأما الإمام البخاري رحمه الله تعالى فلم يذكر إلا صالح الجن حيث ساق الحديث بسنده إلى ابن مسعود حدثني عمرو بن علي: حدثنا يحيى: حدثنا سفيان: حدثني سليمان عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله: إلى ربهم الوسيلة قال: كان ناسا من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم، زاد الأشجعي عن سفيان عن الأعمش:(قل ادعوا الذين زعمتم) انظر صحيح البخاري م 4 ص 1747 رقم الحديث 4437.
وهي حق الله لا يليق صرفها لغيره لكمال غناه، وعلمه وقدسيته ورحمته وقيوميته وانفراده بالتأثير والتدبير وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) .
(قال الشيخ رحمه الله تعالى) : قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق الشرك فإنه تعالى نفى عمن دعاه المشركون أن يكون له من الملك شيء ولو مثقال ذرة ونفى مشاركته ولو قلت ونفى أن يكون له ظهير يعاونه ويؤازره لكمال غناه وعلمه ورحمته وعموم قيوميته ثم نفى الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففي هذا من صرف الوجوه إليه وترك التعلق على غيره (2) كائنا من كان ما لا يخفى على من عقل عن الله، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (3) .
فذكر عجزهم عن خلق الذباب الذي هو من أضعف المخلوقات وأخبر أنه لو سلبهم شيئا لم استطاعوا استنقاذه منه وهذا غاية في الحجة والبيان وتقرير ضعف من دعا مع الله ممن يستمد منه عباد القبور ومن يدعوا الأموات لأن العجز عن خلق الذباب وصف مشترك بين جميع المخلوقات، فدلت هذه الآية الكريمة مع اختصار لفظها على إبطال دعوة كل مخلوق وقررت دليله بذكر العجز عن خلق الذباب واستنقاذ ما سلب فأي شيء يستمد ويطلب ممن هذا حاله؟، فالحمد لله الذي جعل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة
(1) سورة سبأ: الآية 22-23.
(2)
الأفصح تعدية هذا المصدر (التعلق) بالباء ولكنه يجوز أن ينوب حرف الجر بعضه عن بعض.
(3)
سورة الحج: رقم الآية 73.
وبشرى للمسلمين، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (1) .
وطلب الاستمداد دعاء بإجماع أهل اللغة والمفسرين قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) فأمر بدعائه وندب عباده إليه، كما قال في الآية الأخرى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (3) .
ومن دعا الناس إلى الاستمداد من الأموات ودعاءهم فقد شاق الله ورسوله وسعى في صرف الوجوه عن مسألة باريها وفاطرها إلى مسألة مخلوق ضعيف لا يملك ولا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا وكيف يجيز لاستمداد من الأموات؟ (4) والرغبة إليهم من يؤمن بما أنزل الله من الكتاب والحكمة؟ قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (5) قيل معناها: سلوني أعطكم، وقيل معناها: اعبدوني أثبكم، والقولان متلازمان لأن كل سائل عابد وكل عابد سائل، وقال تعالى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (6) فنفى عنهم الملك لشيء وإن قل كالقطمير الذي هو قشر النواة، وذكر أنهم لا يسمعون دعاءهم (7) وأنهم لو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ما استجابوا لداعيهم، فأي استمداد يبقى بعد هذا لو كانوا
(1) سورة الجن: رقم الآية 18.
(2)
سورة الأعراف: رقم الآية 55.
(3)
سورة لبقرة: رقم الآية 186.
(4)
وهذا المسلك الذي سلكه هذا الجاحد يعارض هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الأحقاف الآية 5.
(5)
سورة غافر: رقم الآية 60.
(6)
سورة فاطر: الآية 13-14.
(7)
في الأصل دعاءه ولعل الصواب ما أثبتناه.
يعلمون فكل من سمع هذا وله قلب يعقل به لابد أن يعرف ويستيقن أن هذا غاية في البيان والكشف عن حال من استمد منه المشركون أو زعموا أن له تصرفا أو شفاعة ترجى منه وتطلب، وقال تعالى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) فأمر عباده بإخلاص الدين له والدعاء، وطلب الاستمداد من أكبر أصول الدين، فمن صرفه لغيره تعالى فهو غير مخلص له الدين لأن الدعاء من أجل العبادات وأفضل الطاعات كما في حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"(2) وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة"(3) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين"(4) ، وبهذا نعلم أن من أجاز صرفه للأموات فهو ممن يجيز دين المشركين وأن يعدل (5) لله رب العالمين.
وذكر البخاري رحمه الله وغيره أن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس في خلافته ولم يستمد السقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم أقره ورضيه ومضت السنة على ذلك سلفا وخلفا ولم ينقل عن أحد ممن يعتد به عند المسلمين حرف واحد يدل على جواز الاستمداد من الأموات بل لما وقع بعد القرون المفضلة من العامة استمداد الأموات كفرهم أهل العلم والإيمان وأنكروه أشد
(1) سورة غافر: رقم الآية 14.
(2)
رواه الأربعة وصححه الترمذي أنظر سبل السلام ج 4 ص 218.
(3)
رواه الترمذي.
(4)
رواه الحاكم وصححه وتمامه "ونور السماوات والأرضين"
(5)
ويشهد لما ذكره الشيخ رحمه الله في إبطال هذه الدعوة الفاسدة من الأدلة قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام:1) أي يسوون معبوداتهم الباطلة بخالق السماوات والأرض وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الشعراء 98-102، فهذه أعظم شهادة ينالها أهل الحق في هدم أصول الشرك قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام:19) .
الإنكار وذكروا أنه فعل عابد الأصنام قال الإمام ابن عقيل (1) في (فنونه) : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وتخليقها وطلب الحوائج من الموتى، ودس الرقاع في القبور، فيها يا مولاي افعل بي كذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا فحكى الإجماع على كفر من فعله.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي: قوله أي قول السبكي: المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، يريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي الحوائج للسائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل من يشاء الجنة، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك (2)
(1) هو أبو الوفاء ابن عقيل علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الفقيه الأصولي عالم العراق وشيخ الحنابلة في وقته من تلاميذه القاضي أبو يعلى صنف كتابا كبيرا في مائتي مجلد سماه (كتاب الفنون) وكتاب في الفقه سماه (الفصول) في عشر مجلدات وغير ذلك توفي سنة 513 ثلاث عشرة وخمسمائة من الهجرة النبوية. اهـ حاشية كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 142.
(2)
وهو كذلك لأن الله تعالى لم يأمر عباده أن يستعيذوا ويستغيثوا بغيره ويلتجئوا إليه كائنا من كان وذم الذين استعاذوا بالجن قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6)، بل أمرهم بالاستعاذة به والاستغاثة والالتجاء إليه قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (المؤمنون:97-98)، وقال:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأعراف:200)، وقال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (الفلق:1-2) ، إلى غير ذلك من الآيات التي فيها قصر الاستعاذة والاستغاثة على الله وحده دون غيره لأن صرف ذلك لغيره شرك أكبر، والنبي صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد حتى لا يلعب الشيطان بضعفاء الإيمان ويوقعهم في الشرك من حيث لا يشعرون وبين لأصحابه أنه لا=
_________
=يغيث أحدا وإنما المغيث لكل مستغيث به هو الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62) .
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم لبعض: قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله".
قال أهل العلم: فمراد الصحابة الاستغاثة به صل الله عليه وسلم فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم بنحو ضربه أو زجره لا للاستغاثة به صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه.
والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم إلى التأديب مع الله في الألفاظ لأن استغاثتهم به صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها يزجره أو ينهره ونحو ذلك، فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ، والحماية منه لجناب التوحيد، وتعظيم الله تبارك وتعالى.
فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه فكيف بالاستغاثة به أو بغيره من الأمور المهمة التي لا يقدر عليها إلا الله؟ كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم؟
ومن هنا يتضح لنا جليا أن الاستغاثة بغير الله شرك بالله، بل هو أكبر أنواع الشرك لأن الدعاء مخ العبادة ولأن من خصائص الألوهية إفراد الله بسؤال ذلك. اهـ من شرح كتاب التوحيد تيسير العزيز الحميد ص 206.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن أكثر الناس الذين ابتلاهم الله بدعوة غيره من الموتى وغيرهم لا ترتاح ضمائرهم ولا تطمئن قلوبهم بالتوجه إلى الله في طلب قضاء حوائجهم وكشف مصائبهم ولا تنطق ألسنتهم بنداء اسم من أسماء الله وخاصة القبوريين المعاصرين بخلاف المشركين الأقدمين، فإنهم يلجأون في حال الكرب إلى إخلاص الدعاء لله وحده لا شريك له، وقد حكى الله عنهم ذلك في غير ما آية قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (الإسراء:67)، وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى.
وهذا من أعظم المعجزات التي أودعها الباري سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حيث تحدث فيه عما أحدثه مشركوا العصور المتأخرة من إخلاص التوجه بدعائهم إلى غير الله في وقت البلاء والشدة رغم أن المشركين الذين عاشروا نزوله يخلصون الدعاء لله في طلب كشف ما ألم بهم من الكرب وإذا أنقذهم من تلك الكروب رجعوا إلى ما كانوا عليه من دعاء غيره معه، ومع ذلك فقد أوضح ما وقع فيه أهل العصر بعد قرون مديدة حيث أنهم إذا داهمهم =
وانسلاخ من جملة الدين، وهذا اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن
الرسول، والأمر أعظم وأطم من ذلك.
وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية قال علماؤنا من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك وإن أراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم.
وفي شروح الدر المختار الذي هو عمدة الحنفية في هذه الأعصار: التشنيع والتشديد في ما أحدثه العامة عند قبر أحمد البدوي (1) من التعظيم وطلب الحوائج وإرخاء الستور وقال صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء حوائجهم (2) مستدلين على أن ذلك منهم كرامة، وقالوا:
=بلاء وكرب ومصيبة لهجوا بنداء غير الله: يا سيدي فلان مدد ويا سيدي فلان أدركنا وينسون خالق سيدهم ورازقه ومدبر الأمور كاشف الضير وجالب الخير وعالم الغيب والشهادة، ولا شك أنه حجبهم وحالهم عن التلذذ بذكر اسم الباري سوء أعمالهم وخبث نواياهم، قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر:45)، وقال جل وعلا:{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (غافر:12) .
ومن أغرب ما شهدناه من الحقائق التي ذكرها القرآن حيال هذا المعنى الذي نحن بصدده، أننا ركبنا الباخرة مع جمع غفير أكثرهم من هذا النوع، ولما أبحرنا وسرنا شوطا بعيدا عصفت ريح شديدة وتلاطمت الأمواج وأحدثت رجة عنيفة في الباخرة فإذا أهل كل بلد يصرخ بشيخه الذي يعبده فيه من دون الله وقلنا هذا غرابة الدين، وحاولنا أن نذكرهم بخالق السماوات والأرض وقابلونا بالشتم
والسب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1)
هو أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني البدوي أبو البيان شهاب الدين أبو العباس صوفي ولد بفاس وطاف البلاد وأقام بمكة والمدينة ودخل مصر والشام والعراق وعظم شأنه في بلاد مصر وابتلي به الجهلة حتى عبدوه من دون الله وأشركوه بالله وأيقن أهل الإيمان أنه عبد من عباد الله ولد سنة ستة وتسعين وخمسمائة هجرية وتوفي سنة خمسة وسبعين وستمائة ودفن في طنطا. اهـ من معجم المألفين لعمر كحالة المجلد الأول ص 314.
(2)
في الأصل الحاجات أو كلاهما فصح.
منهم الأبدال ونقباء وأوتاد، ونجباء وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور وقال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائج الشرك المحقق ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة.
وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (1) إلى أن قال: (الفصل الأول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم، إلى أن قال: فأما قولهم: (إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات) فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (2) وقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) ولله ملك السماوات والأرض ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا وتمدح الرب بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (4){وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (5)، وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فقوله تعالى في الآيات كلها: {مِنْ دُونِهِ} أي من غيره فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي، وشيطان تستمد، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: فكيف يتصرف لغيره من لا يمكن أن يتصرف لنفسه؟ إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال: وأما القول: بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في
(1) سورة النساء: رقم الآية 115.
(2)
سورة النمل: من الآية 62.
(3)
سورة الأعراف: من الآية 54.
(4)
سورة فاطر: من الآية 3.
(5)
سورة فاطر: من الآية 13.
الحياة، قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) وقال جل وعلا: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) .
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (3) ، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (4)، وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5) .
فجميع ذلك هو ونحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، فإن أرواحهم ممسكة، وإن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (6) قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغلطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أوليائه لا قصد لهم فيه ولا تحري ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن خضير وأبي مسلم الخولاني (7)
(1) سورة الزمر: رقم الآية 30.
(2)
سورة الزمر: رقم الآية 42.
(3)
سورة آل عمران: رقم الآية 185.
(4)
سورة المدثر: رقم الآية 38.
(5)
الحديث رواه مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6)
سورة البقرة: من الآية 140.
(7)
وأما الكرامة الخارقة للعادة التي أجرى الله لمريم فهي ما قصت الآية الكريمة من أن الله ساق=
قال: وأما قولهم يستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادمة قوله جل ذكره:{َمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1) .
وقال جل وعلا: {قلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف
=إليها رزقا طعاما وفاكهة لم تكن موجودة عند كفيلها الذي كفل لها بالإنفاق عليها بالقرعة كما ذكرت الآية قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران:37) وقال تعالى: {ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)
وكفيلها الذي تكفل لها هو زكريا الذي تحته خالتها وأيضا الخوارق للعادة التي أكرم الله بها مريم ما قصة الآية الكريمة في سورة مريم في قوله تعالى: حيث كانت في حيرة من أمرها كما حكى الله عنها: قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} (مريم:23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا الآيات.
وأما الخوارق للعادة الكرامة التي أكرم الله بها أسيد بن خضير فهو ما جاء في الحديث الصحيح أن أسيد بن خضير وعباد بن بشر كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلما خرجا من عنده صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة كان مع كل واحد منهما مثل المصباح بين أيديهما فلما افترقا صار مع كل واحد منهما نور يضيئه في طريقه إلى بيته، ولا شك أن ما جرى لهما كرامة من كرامات الأولياء الذين ذكرهم الله في كتابه حيث قال:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس:62) الآيات من سورة يونس، وعن أنس رضي الله عنه أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصبحين بين أيديهما فلما افترقا صار مع كل واحد منهم واحد حتى أتى أهله رواه البخاري وفي رواية له: أن الرجلين أسيد بن خضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما.
وأما ما ذكره لأبي مسلم الخولاني من خارق للعادة فهو ما جرى له مع الأسود العنسي حيث ألقاه الأسود العنسي في لهيب النار فأنجاه الله منها وخرج منها ولم يمسه شيء وهؤلاء كلهم لم يعلموا ما أكرمهم الله به إلا بعد أن حقق الله لهم ذلك إكراما لهم على قوة إيمانهم.
(1)
سورة النمل: الآية 61-62.
(2)
سورة الأنعام: رقم الآية 63.
للضر لا غيره وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي، قال: الاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوهم كقولهم يا لزيد ويا لقوم للمسلمين (1) ، كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد من المرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات إلى أن قال: من اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وقضاء حاجة تأثيرا فقد وقع في واد جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير.
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشا لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كذلك أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
وقال أيضا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
(1) في الأصل: يا لزيد يا لقوم يا للمسلمين، وهذه العبارة غير فصيحة عند النحاة حيث أنه أدخل على المستغاث له ياء النداء والمشهور دخولها على المستغاث به أو المعطوف عليه لا المستغاث له وكذلك المعطوف على المستغاث به بواسطة حرف العطف وقد حذفها رحمه الله حيث قال: يا لزيد يا لقوم الخ ويجوز أن تكون فصيحة إن أراد بالكلمات الثلاث المستغاث به وحذف المستغاث له في الجميع والتقدير يا لزيد لبكر يا لقوم لخالد ويا للمسلمين للضعفاء ولكن ذكر المستغاث به مع حذف المستغاث له لم يكن مشهورا وأعتقد أن هذا من الناسخ.
(2)
سورة يونس: من الآية 18.
فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) .
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (2) ، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره، قال: وأما ما قالوه: من أن منهم أبدالا ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية انتهى باختصار.
ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء، والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك، وإن كان بعض المتأخرين ممن ينسب إلى العلم والدين ممن أصيب في عقله ودينه قد يرخص في بعض هذه الأمور وهو مخطئ في ذلك، ضال مخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فكل واحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يتطرق إليه الخطأ بحال، بل واجب على الخلق إتباعه في كل زمان، على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد بإجماعهم المخالف لكلام الله، وكلام رسوله في محل النزاع لأنه إجماع غير معصوم، بل هو من زلة العالم التي حذرنا من اتباعها.
وأما الإجماع المعصوم فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء"(3) لا ما كان عليه العوام والطغام، والخلف المتأخرون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
(1) سورة الزمر: من الآية 3.
(2)
سورة يس: رقم الآية 23.
(3)
رواه مسلم.