المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تنبيه اعلم أن المشركين الأولين لا يقولون بجواز الاستمداد في كل - البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌تنبيه اعلم أن المشركين الأولين لا يقولون بجواز الاستمداد في كل

‌تنبيه

اعلم أن المشركين الأولين لا يقولون بجواز الاستمداد في كل شيء، وكل مطلوب كما تقتضيه عبارة هذا المعترض لأن الله تعالى حكى عنهم في كتابه أنهم يخلصون الدعاء والطلب في الشدة والضراء كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (1) وقال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (2) .

وبهذا نعلم أن قول هذا المعترض شر من قول المشركين الأولين والله تعالى المستعان وسيأتي مزيدا لهذا عند الكلام على مسألة التصرف إن شاء الله تعالى، وقوله إن المنكرين للاستمداد مطلقا معتزلة ومن قصره على الأنبياء ليس معتزليا، وأظنه سمع إنكار المعتزلة للكرامات وإثبات بعضهم المعجزات فقط فظن أن هذه هي مسألة الاستمداد، وهذا جهل عظيم وخلط وخيم، بل مسألة الاستمداد من الأموات نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفر ولم يجزه أحد ممن ينتسب إلى الإسلام لا المعتزلة ولا غيرهم بل كلهم مجمعون على تكفير من فعله كما تقدمت حكاية الإجماع عن شيخ الإسلام

(1) سورة الإسراء: رقم الآية 67.

(2)

سورة العنكبوت: رقم الآية 65.

ص: 63

وليس هذا من المسائل التي تختلف فيها الأمة سنيهم وبدعيهم بل هذه من أكبر دعائم الملة وأعظم أركان الإسلام لا يخالف فيها من عرف الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن الرجل غلبت عليه العجمة فلم يفرق بين الاعتزال وبين الشرك الذي هو الاستمداد من غير الله، قال الحسن رحمه الله: دهمتهم العجمة (1)، وقال أبو عمر وابن العلاء لعمر وابن عبيد: لما قال له: إن الله لا يخلف وعده قال له: من العجمة أتيت إن هذا وعيد لا وعد وأنشده:

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

قال المعترض: الشبهة الأولى أن الموتى لا سماع لهم) ، لقوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2) وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِع ُ

(1) أي أصابتهم مصيبة العجمة التي هي عدم فهم الحق عن الله ورسوله وليس المراد أن كون الشخص أعجميا يعيبه ويذم له وذلك أن العبرة العلم النافع والعمل الصالح والسيرة الحسنة، غذ الفضل الحقيقي: هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعلم ظاهرا وباطنا فكل من كان في ذلك أمكن كان أفضل، والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان لا بمجرد كوزن الإنسان عربيا أو أعجميا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويا أو بدويا ويشهد لذلك خير الشاهدين حيث يقول:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)، ويشهد أيضا لذلك قول رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء: مؤمن تقي وفاجر شقي وأنتم بنوا آدم وآدم من تراب"، وفي الصحيحين عن عمر بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين"، فأخبر صلى الله عليه وسلم عن بطن قريب النسب أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياء، إنما وليه الله وصالح المؤمنين من جميع الأصناف اهـ أنظر كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 144.

ومن هنا نعرف تماما أن قول الشيخ رحمه الله تعالى أنه غلبت عليه العجمة حيث لم يفرق بين الاعتزال والشرك مراده بذلك أنه ابتعد عن الجادة وأخظأ الصواب عنادا لغلبة نفسه الأمارة بالسوء ودفعها إياه إلى نصر الباطل والشرك ضد الحق والتوحيد والله أعلم.

(2)

سورة فاطر: من الآية 22.

ص: 64

الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (1) .

وإذ لا سماع لهم فلا استمداد، وهكذا نقل المعترض ثم قال: وأجيب على أن الآيتين لا تدلان على نفي السماع من الأموات لأن مبناهما على التشبيه والتمثيل والمراد هنا الكفار حقيقة، ووجه الشبه عدم الانتفاع بالسماع، وعدم الإجابة، فكما أن الأموات لا ينتفعون بسماع ولا يجيبون كذلك الكفار لا ينتفعون بسماع الموعظة، ولا يجيبون للحق فيتبعونه فكأنهم أموات، قال صاحب معالم التنزيل (2) في تفسيره قوله تعالى:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي الكفار، وقال القاضي في تفسيره في سورة النمل: إنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم لما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}

فإن إسماعهم في هذا الحال أبعد.

ثم ساق حديث قتادة في سماع أهل القليب، وحديثا في سماع الميت كقرع النعال وحديث بريدة، وحديث ابن عباس في التسليم على الموتى.

وأطال الكلام بما لا طائل تحته، وكلامه يدل على عدم علم قائله وعدم شعوره بأدلة خصمه، فإن نفي الاستمداد من الموتى ودعائهم عليه من الأدلة ما لا يمكن حصره ولا استقصائه.

وعبارته التي ساقها في نفي انتفاع الموتى بالسماع، وبما يتلى عليهم

(1) سورة النمل: رقم الآية 80.

(2)

وصاحب معالم التنزيل هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر الملقب بمحيي السنة وركن الدين تفقه البغوي على القاضي حسين، وسمع الحديث منه وكان تقيا ورعا زاهدا قانعا إذا ألقى الدرس لا يبقيه إلا على طهارة توفي رحمه الله سنة عشر وخمسمائة من الهجرة النبوية وقد جاوز الثمانين ودفن عند شيخه القاضي حسين، كان البغوي إمام في التفسير والحديث والفقه وعده التاج السبكي من علماء الشافعية الأعلام فمن تصانيفه معالم التنزيل في التفسير وشرح السنة في الحديث والمصابيح في الحديث أيضا والجمع بين الصحيحين، والتهذيب وغير ذلك وبورك له في تصانيفه ورزق فيها القبول لحن نيته، أنظر طبقات المفسرين للسيوطي ص13 ووفيات الأعيان ج 1 ص 145-146 والطبقات الكبرى لابن السبكي ج 4 ص 214-215.

ص: 65

كافية في إبطال الاستمداد من الموتى، وطلبهم، والاستعانة بهم وهذا والله أعلم هو مراد من نفي السماع عنهم ممن حكى قولهم الفارسي وتصدى للرد عليهم، ولا نعلم قائلا ينفي سماع الموتى إلا بهذا المعنى.

وما حكي عن أم المؤمنين في إنكار السماع ثبت رجوعها عنه لما بلغتها الأحاديث المثبتة فإذا عرفت أن نفي السماع يطلق على من لم ينتفع ولا يجيب وعرفت أن هذا هو الوجه في تشبيه من لم ينتفع بسماع آيات الله من الكفار والفساق بالموتى عرفت حينئذ وتبين لك أن عدم انتفاع الأموات بالسماع من أوضح الحجج والبيانات على أن الميت لا يدعى ولا يستمد منه لأنه إذا ثبت أنه لا ينتفع وأنه هو المشبه به بطل استمداده، واستحالة إجابته.

وفي الحديث الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(1) فإذا انقطع عمله وكسبه لنفسه وعجز عن ذلك، وحيل بينه وبينه فكيف يمد غيره؟ ويتصرف في شيء من ملك الله:{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (2) .

واعلم أن مسألة السماع فيها كلام للمحققين لا يحيط به علما إلا من فقه عن الله قلبه ودق في باب العلم نظره، وفهمه، وأما غليظ الطبع، قليل العلم باللسان فهو بعيد عن إدراك هذا الشأن، فتأمل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3)

(1) رواه مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سورة يونس: الآية 68-70.

(3)

سورة فاطر: الآية 13-14.

ص: 66

فإن هذا فيه دعوى نفي الإجابة فقط مع بقاء أصل السماع لئلا يتحد فعل الشرط وجوابه، والأظهر أن سماع الميت مقيد بحال دون حال لا في جميع حالاته كما يشير إليه قول قتادة من أهل القليب، وحال الأموات يختلف اختلافا كبيرا (1) .

وللأرواح بعد مفارقة هذا الجسم شأن لا يحيط بتفصيله إلا الله تعالى، وأيضا فالفرق بين القرب والبعد ثابت عند الأئمة (2) القائلين بسماع الموتى، ومن زعم أم الاستمداد منهم جائز لا يفرق بين القريب والبعيد كما هو مشاهد ممن يدعوا الأنبياء والصالحين ويستمد منهم، وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم قد ثبت أنه يبلغ صلاة أمته مع البعد عن قبره ولا يسمعه فكيف بغيره؟ والاستمداد من الأموات هو أصل شرك العالم وضلالهم (3) كما ذكر غير واحد في تفسير قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (4) .

فإن هذه الأسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح فماتوا فعكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم بقصد التشويق إلى العبادة ومحبة الصالحين فلما مات أولئك ونسي العلم قال من بعدهم إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.

وهو كما ترى صريحا (5) في أنهم عبدوا لأجل الاستمداد واستسقاء

(1) في الأصل عظيما ولعل الأفصح منه ما سجلناه.

(2)

في الأصل عند الأمة ورأينا أن الأنسب ما أثبتناه.

(3)

إعادة الضمير إلى العالم بالجمع باعتبار المعنى وأما باعتبار اللفظ فيجب عود الضمير عليه بالإفراد حيث أنه مفرد.

(4)

سورة نوح: رقم الآية 23.

(5)

والصواب رفع صريحا حيث أنه خبر مبتدأ الذي هو لفظ (وهو) وعائد ما محذوف من قوله كما ترى والجملة من الفعل والفاعل صلة الموصول لا محل لها من الإعراب والجار والمجرور متعلق بصريح والله أعلم بالصواب.

ص: 67

المطر، وذكر أبو الجوزاء عن ابن عباس (1) في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (2) قال كان اللات رجل يلت السويق للحجاج فعكفوا على قبره انتهى، ولم يقصد هؤلاء سوى الاستمداد بالموتى والصالحين، وطلب جاههم وشفاعتهم، ولولا ذلك لم تعبد وهذا مطلوب كل مشرك كما قال الفرابي وابن سينا وغيرهما من أكابر المشركين: إن الميت المقرب يفيض على روحه إفاضات فإذا علق الزائر قلبه وهمته به فاض على روح الزائرين من روح المزورين تلك الإفاضات كما ينعكس النور والشعاع من الجسم الصافي في المقابل، وهذا محض الشرك والكفر فإن تعليق القلب والهمة بغير الله والإقبال على سواه تعالى هو عين الشرك الأكبر الذي أنكره القرآن وكفر أهله وأباح دمائهم وأموالهم لأهل التوحيد والإيمان قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (3) وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (4) وقال عن شعيب:

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (5) والفرابي (6) وابن سينا من عباد الكواكب ومن الدعاة إلى دين الصابئة المشركين الذين بعث فيهم إبراهيم الخليل كما يعرف ذلك من وقف على كلامه.

(1) في الأصل: وذكر أبو الجوزي والصحيح ما أثبتناه وذلك أن البخاري ذكر هذا الأثر بسنده إلى ابن عباس في تفسير هذه الآية من سورة النجم ومن هنا يتبين أن ما في الأصل خطأ من الناسخ وإليك السند بتمامه، حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (واللات والعزى) كان اللات رجلا يلت سويق الحاج مج 4 ص 1841.

(2)

سور النجم: رقم الآية 19.

(3)

سورة البقرة: رقم الآية 165.

(4)

سورة الزمر: رقم الآية 54.

(5)

سورة هود: رقم الآية 88. .

(6)

الفرابي نسبة إلى فارب من بلاد الترك وكنيته أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان=

ص: 68

تتمة

ما تقدم لك من حكاية قول المشركين واستمدادهم بالموتى والصالحين أخف ضررا وأقل كفرا ممن قال: يستمد من الأولياء والصالحين كما زعمه الفارسي فإن هذا شرك في الربوبية والتدبير وذاك شرك في الألوهية والعبادة فلا تغفل عن غليظ شركهم وعظيم إفكهم.

فصل

قال الفارسي: الشبهة الثانية أن الموتى لا علم لهم بأحوالنا لأن العلم بالغيب مختص به تعالى ليس لغيره لقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) وقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (2) وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (3)، وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ

=بن أوزلغ التركي الحكيم المشهور الملقب بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين صاحب التصانيف في الحكمة والمنطق والموسيقى، أخذ المنطق عن ابن بشرمتي بن يونس الحكيم ببغداد ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني فأخذ عنه طرفا من المنطق أيضا توفي بدمشق سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة 339 هـ أنظر كتاب الرد وابن سينا هو على ابن عبد الله بن الحسين بن على بن سينا البخاري شيخ الفلاسفة صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات توفي سنة 438هـ صنف نحو مائة كتاب منها الشفاء في الحكمة أربع مجلدات وقد طبع منه الفن الأول من الطبيعيات والفن الثالث عشر من الإلهيات بطهران سنة ثلث وثلاثمائة وألف الهجرية انظر كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية.

(1)

سورة الأنعام: رقم الآية 59.

(2)

سورة الأنعام: رقم الآية 50.

(3)

سورة النمل: رقم الآية 65.

ص: 69

لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) ، إلى غير ذلك من الآيات مما يدل على نفي الغيب عما سواه تعالى. وإذا كان كذلك فكيف يستمد مما لا علم له بأحوالنا خصوصا بعد الموت؟ " قال الشيخ المحقق عبد اللطيف ".

قال المعترض: وأجيب بأنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذاته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل عن نفيه من عباده مطلقا بل يجوز أن يحصل لهم مستفادا من الله بأن يخلقه تعالى فيهم بلا سبب أو بالأسباب الخفية كالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة والمشاهدة الحقة كما يدل عليه الاستثناء في قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) .

وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (3) قال القاضي في تفسيره (4) الأول إلا بما شاء أن يعلم وقال في تفسيره الثاني من رسول بيان لمن، قال: واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء بإطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة الأنبياء عليهم السلام انتهى.

ثم ساق الفارسي ما جاء في مناقب عمر رضي الله عنه أنه رأى سارية من مسافة بعيدة لا يرى ولا يسمع من مثلها في العادة فناداها يا سارية الجبل، ثم قال: إذا علمت أن العلم (5) قد يحصل لعباد الله الصالحين

(1) سورة الأعراف: رقم الآية 188.

(2)

سورة البقرة: رقم الآية 255.

(3)

سورة الجن: رقم الآية 26-27.

(4)

المراد بقوله في تفسيره الأول أي الاستثناء الأول وهو (إلا بما شاء) ، وبقوله في تفسيره الثاني أي الاستثناء الثاني وهو (إلا من ارتضى من رسول) .

(5)

في الأصل على المغيبات ورأينا أن الأنسب بالمقام الباء فأثبتناه والله أعلم.

ص: 70

بإعطائه إياه، والعلم صفة للنفس ينعم الله تعالى عليهم بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل لأنها بعد المفارقة تتخلص عن الكدورات البدنية وتنقشع عنهما الظلمات الجسمية، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) .

فكيف بقوم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى اشتعلت في قلوبهم من كثرة الذكر نار الشوق والمحبة واشتد حبهم يوما فيوما فزادوا حبا على حبهم وشوقا على شوقهم فيصيروا فانين في الله باقين به فبالله يسمعون وبه يبصرون وبه يبطشون ذلك فض الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وإذا كان حالهم في الحياة كما ذكرنا فأي سبب حدث وأزال عنهم كراماتهم؟، قال الله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) أي الذين يتولونه بالطاعة، ويتولاهم بالكرامة لا يلحقهم مكروه ولا يفوتهم مأمول، هكذا فسره القاضي في تفسيره ثم ساق الفارسي آثارا تروى منها حديث أنس في عرض أعمال الأحياء على أقاربهم وعشائرهم من الموتى، وحديث أبي أيوب، وحديث جابر، وحديث النعمان.

والمعنى متقارب، ثم ذكر عن المشكاة: إذا قال العبد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض، ثم قال الملا قاري (3) في المرقاة في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تجعلوا قبري عيدا فإن

(1) سورة الأنفال: رقم الآية 53 وهي من قبيل الاقتباس.

(2)

سورة يونس: رقم الآية 62.

(3)

الملا علي قاري: هو علي بن محمد بن سلطان وقيل علي بن سلطان الهروي المعروف بالقاري نور الدين فقيه حنفي من صدور العلم في عصره ولد في هراة وسكن مكة المكرمة وتوفي بها وله كتب كثيرة في القراءات السبع، وشرح المقدمة الجزرية في التجويد، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح في الحديث الشريف الذي جاء ذكره في هذه الرسالة وشرح=

ص: 71

صلاتكم تبلغني حيث كنتم" إنه قال القاضي: وذلك أن النفوس الزاكية القدسية إذا تجردت عن العلائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ةلم يبقى لها حجاب فترى الكل كالمشاهدة بنفسها أو إخبار الملك من السر له وأيضا قال في المرقاة في شرح حديث: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي فيه من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي": يعني على وجه القول فيه وإلى فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة إلا عند روضته فيسمعها بحضرته ثم قال في شرح آخر الحديث: وأما على ما قدمه الطيب فإنما يفيد حصر العرض والسماع بعد الموت بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وليس المر كذلك فإن سائر الأموات أيضا يسمعون السلام والكلام وتعرض عليهم أعمال أقاربهم في بعض الأيام انتهى المقصود من كلامه (قال المدرك رحمه الله :

والجواب وبالله التوفيق أن يقال: هذه المسألة بينها الله تعالى في كتابه بيانا شافيا بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل ولا تقبل التحريف والتبديل، وتأويل هذا الفارسي لتلك النصوص من جنس تأويل الجهمية لآيات الصفات وأحاديثها، ومن جنس تحريف القرامطة والباطنية لآيات الأمر والنهي والوعد والوعيد ومتى سلط التأويل على أديان الرسل وما جاؤوا به من عند الله لم يبق شيء منها فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلال بعد الهدى ومن الغي بعد الرشاد قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (1) الآية، وقال جل وعلا:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (2) الآية، وقال سبحانه:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (3) الآية

=الشفاء للقاضي عياض وكلها مطبوعة توفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وألف من الهجرة النبوية 1014هـ أنظر الأعلام للزركلي ج 5 ص 166.

(1)

سورة الأنعام: من الآية 59.

(2)

سورة الأنعام: من الآية 50.

(3)

سورة النمل: من الآية 65.

ص: 72

وقال لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1)، وقال:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2)، وقال جل وعلا:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (3)، وقال:{سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (4)، وقال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) .

فمدح الله تعال نفسه وأثنى عليها بانفراده واختصاصه بعلم الغيب دون خلقه فإن كمال العلم وإحاطته بجميع المعلومات كلياتها وجزئياتها وصف كمال استحق به تعالى أن يطاع ويتقى ويرجى ويعبد.

وعلم الخلائق أجمعين بالنسبة إلى علمه تعالى كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحار كما في قصة موسى والخضر أنهما لما ركبا في السفينة جاء عصفور فنقر في البحر فقال الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من البحر فمن تقرر هذا لديه وآمن بما دل عليه لم يلتفت إلى تحريف معطل ولا إلى رأي مجادل مبطل.

فقول هذا الفارسي وأمثاله إنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل على نفيه من عباده

(1) سورة الأعراف: رقم الآية 188.

(2)

سورة النحل: رقم الآية 77.

(3)

سورة هود: رقم الآية 123.

(4)

سورة المائدة: رقم الآية 116.

(5)

سورة الحج: رقم الآية 70.

ص: 73

مطلقا قول باطل وتحريف عاطل فإن بعض هذه الآيات صريحة في النفي عن غيره تعالى وإثبات ذلك له تعالى فدلت على أمرين نفي وإثبات وحق وعدل كما دلت عليه كلمة الإخلاص ومن قال: إن المعنى أنه يعلم بنفسه وليس في ذلك نفي عمن سواه تعالى فهو كمن يقول: إن لا إله إلا الله دلت على إثبات إلهيته وليس فيها نفي لإلهية غيره تعالى الله عن قول هؤلاء علوا كبيرا، وهذا التحريف من وحي الشيطان الذي قصد به رد ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله، ومن دان به فقد انسلخ من الإسلام والعياذ بالله ولا يمر على سمع الموحد أسذج من هذا التحريف وأشنع منه.

ومن الذي ادعى أن علمه تعالى حاصل له من غيره؟ حتى يقصد رد قوله بهذه الآيات؟ هذا لا يقوله أحد ممن أثبت للعالم صانعا مدبرا وأين قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (1)، من هذا المعنى الذي أورده الفارسي؟ فإن صريح الآية نفي علم مفاتح الغيب عن غيره وكذلك قوله تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) ، فيه نفي علمه عن كل من في السماوات والأرض الغيب إلا الله تعالى، وهي صريحة في النفي عن غيره كالتي قبلها فكلاهما دل على معنيين: ثبوت علمه بذاته ونفي ذلك عمن سواه، وأبطل شيء قول الفارسي بأنها لا تدل على نفيه عن عباده وكذلك قوله لنبيه:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (3) الآية صريحة في نفي علم الغيب عن سيد ولد آدم فضلا عن غيره وكذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) ، تقدم الجار والمجرور يفيد الحصر والاختصاص فعلم الغيب له لا لسواه.

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) هذا يفيد اختصاصه تعالى وانفراده بعلم الغيب لأن السياق لبيان الكمال والمدح والثناء على نفسه تعالى ولو ثبت ذلك

(1) سورة الأنعام: من الآية 59.

(2)

سورة النمل: من الآية 65.

(3)

سورة الأنعام: من الآية 50.

(4)

سورة هود: من الآية 123.

ص: 74

لغيره لفات المقصود من السياق وكذلك قول المسيح يشير إلى هذا كما يدل عليه إقحام (1) الضمير بين خبر إن واسمها وكما يفيد التأكيد بإن.

وفي الخبر عن جويرية رضي الله عنها: تغنت بقولها- والصحيح أنها لم تغن ولكن جاريتين تغنتا عندها كما في صحيح البخاري-: " وفينا رسول الله يعلم ما في غد فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: دعي هذا وقولي غيره " وفي حديث عمر في سؤال جبريل (2) عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في خمس لا يعلمهن إلا الله وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (3)

(1) سورة الحج: 70.

(2)

وقد اجتمع في هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ....} الآية هامش رقم 5 ص 75 ما يؤكد المعنى الذي أراد الشيخ عبد اللطيف أن يقرر بما لا يدع مجالا للشك لأي عاقل وهي إن المؤكدة وإقحام ضمير الرفع وكون خبر أن أمثلة مبالغة وهو علام ولا يشك مؤمن في صدق هذا الناقد حيث وضع أمامه هذه الأدلة القاطعة ولكن مطموس القلب متى يتسنى له ذلك ونعوذ بالله من عمي القلب والبصيرة (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) .

وتوضيح هذه العبارة أنه توسط ضمير الرفع المنفصل أنت بين اسم إن (الكاف) من أنك وبين الخبر الذي هو علام وهذه الأساليب كلها أساليب التوكيد كما قال ابن مالك في الفتية: ومضمر الرفع الذي قد انفصل.... أكد به كل ضمير اتصل.

(3)

سورة لقمان: رقم الآية 34.

(4)

وحديث جبريل رواه البخاري في باب الإيمان ورواه مسلم أيضا في بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم 9 و 10 و 8 ولفظ البخاري بسنده: حدثنا مسدد قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا أبو حيان التميمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان: قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث قال: ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربتها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس الخ انظر البخاري ج 1 ص 27 حديث 50.

(4)

وظاهر

ص: 75

وقالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمد رأى ربه فقد كذب ومن زعم أن أحد يعلم الغيب فقد كذب)(1) وما دلت عليه الآيات من الاستثناء في بعضها كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء} (2) وقوله جلت قدرته: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (3) الآية، فهذا يدل على أمرين: تأكد النفي وتحققه، وإخراج بعض الأفراد التي يعلمها من شاء الله كما يعلم بالوحي ونحوه (4) .

والواجب على الناس اتباع ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب

(1) وهذا الحديث جاء في صحيح البخاري رحمه الله بلفظ: عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: "لا تدركه الأبصار" ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب وهو يقول: " لا يعلم الغيب إلا الله " وبلفظ: (من زعم أن محمد رأى ربه فقد أعظم ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادا بين الأفق) .

وأخرجه مسلم أيضا في الإيمان باب: معنى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} رقم الحديث 177.

(2)

سورة البقرة: رقم الآية 255.

(3)

سورة الجن: رقم الآية 27.

(4)

ولو ترك هذا اللفظ (ونحوه) من هذه العبارة لكان التعبير أعمق وأدق حيث يوهم أن ذلك إلهام وما يراه النائم في نومه ويتحقق عين ما رآه في اليقظة عملا بحديث: "لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب في آخر الزمان" ومن هنا يتشبث به القبوريون أمثال المردود عليه الذين يعتقدون أن الأولياء الذين يعبدونهم من دون الله يعلمون الغيب بطريق الكشف وقطعا لهذه الأوهام الخيالية فإن ترك هذا اللفظ في نظري أسلم فإن قيل بأن الوحي يتناول وحي الرسالة ووحي الإلهام وما يراه النائم في النوم فإنما تتوهمونه يرد عليه كما يرد على هذا اللفظ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى:51)، وقوله:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:7)، وقوله:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل:68) .

قلنا إن الإلهام وما يراه النائم فيتحقق في اليقظة ليس من قبيل علم الغيب لا من قريب ولا من بعيد وذلك أن الإلهام هو أن يلهم الله المرء التوجه إلى عمل ما ينفعه في الدين والدنيا وإلى الكف عما يضره ويرشده إلى ذلك ويقوي عزمه عليه ويملأ قلبه ثباتا ويقينا ويشرح صدره لذلك العمل المعزوم عليه وينفذه عمليا لما وقر في قلبه كل ذلك يتم من غير علم من المرء نتيجة ذلك العمل المبرم ولكن توجهه هذا موفق لأنه إلهام من عالم الغيب الذي لا يضل ولا ينسى سبحانه وتعالى وهذا التوفيق لا علاقة للمرء بعلم الغيب وكذلك ما يراه النائم.

ص: 76

والحكمة وترك من انتحله المبطلون من رد النصوص بأنواع التحريفات والتأويلات المصادمة لمدلول النصوص، وتأمل قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} (1) ، كيف تجد تحته من إثبات الحمد والثناء المطلق على نفسه المقدسة بما دلت عليه هاتان الآيتان الكريمتان (2)، ولو قيل بمشاركة غيره في ذلك لفات الحمد المقصود ولما تأتى هذا الثناء بما يشاركه فيه مخلوق ضعيف قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى:(أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم أو كما قال: وقد ذم الله اليهود بتحريف الكلم عن مواضعه فقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} (3) .

وفي الحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم خذوا القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: (فمن) ؟ "(4)

(1) سورة سبأ: الآية 1-2.

(2)

في الأصل (هذه) والصواب ما أثبتناه (هاتان الآيتان) .

(3)

سورة النساء: رقم الآية 46.ولكن الناسخ ظن أن هذه هي التي في سورة المائدة ولذلك سجل: ونسوا حظا مما ذكروا به وتلك بداية الآية: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} (المائدة:13) وهذه الآية التي في سورة النساء أولها: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} (النساء: من الآية46) وبناء على ذلك: والصواب ما استثناه في صلب الرسالة.

(4)

وقد عزا الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الحديث إلى الشيخين البخاري ومسلم ولكن اللفظ في الصحيحين يخالف هذا اللفظ حيث جاء في صحيح البخاري مرتين مرة بلفظ، حدثنا سعيد بن مريم: حدثنا أبو غسان قال: حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال (فمن) ؟ " رقم هذا الحديث 3269: ومرة بلفظ حدثنا محمد بن عبد العزيز: حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي=

ص: 77

فهذا التحريف إنما عرف عن اليهود، وأن ما جاء من الاستثناء في بعض الآيات كقوله: في آية الكرسي:

{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1)، وقوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (2) ، وكذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن أشياء وقعت فيما مضى، إخباره عن أشياء تقع في أمته فهذا ونحوه أمر جزئي بالنسبة إلى ما اختص الله بعلمه كما مر في حديث موسى وقول الخضر له: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر، وهذا بالنسبة إلى علم الله وإن كثر واتسع بالنسبة إلى علوم الخلق فإن ما يحصل لرسول الله من العلوم والمعارف لا نسبة بينه وبين علم الله الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، وهذا الجزئي لا يفيد أن من علمه فقد علم الغيب أو أنه ناسخ للنصوص العامة المطلقة: غاية ما هناك إثبات ما دل عليه استثناء في الآيات كبعض الأفراد الجزئية وهو لا يمنع العموم بل العام باق على عمومه (3) كما لا يخفى على من له أدنى فهم، وبهذا تعلم

=سعيد الخدري، عن نبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال:(فمن) ؟

وأخرجه مسلم في العلم باب: اتباع سنن اليهود والنصارى رقم الحديث في مسلم 2669.

وغاية الأمر أن هذا الحديث موجود في الصحيحين بهذه الألفاظ التي ذكرناها وأما اللفظ الذي ساقه المصنف لا يوجد فيهما ولعله في الكتب الأخرى ولا يضر اختلاف اللفظ ما دام الأصل موجودا فيهما والله أعلم.

(1)

سورة البقرة: من الآية 255.

(2)

سورة الجن: رقم الآية 27.

(3)

الأولى (بل العام باق على عمومه) لأن ذلك أصل قرره تعريف الأصوليين تقسيمهم العام حيث قسموه إلى ثلاثة أقسام عام مخصوص وعام أريد به الخصوص وعام باق على عمومه وقد عرفت سر ذلك من كلام المؤلف رحمه الله فإن الاستثناء الذي جاء في نص الكتاب والسنة لا يخصص علم الغيب بغيره سبحانه حيث أن الجزئي الدقيق الذي يعلمه الله أنبياءه من علمه تعالى وهذا لا يخرج العام من عمومه كما قرر ذلك أهل التحقيق والثبت والله أعلم.

ص: 78

بطلان دعوى هذا الفارسي وأمثاله أن الأموات يعلمون الغيب فإن هذه الدعوة مصادمة ومصادرة لما مر من النصوص ولأن الغيب اسم يقع على كل ما غاب عن الخلق من العلوم والمعارف، وما كان وما يكون وما لم لكن كيف يكون كما قال العلامة ابن القيم في معنى اسمه العليم شعرا:

وهو العليم أحاط علما بالذي

في الكون من سر ومن إعلان

وبكل شيء علمه سبحانه

فهو المحيط وليس ذا نسيان

وكذاك يعلم ما يكون غدا وما

قد كان والموجود في ذا الآن

وكذاك أمر لم يكن لو كان

كيف يكون ذا إمكان

فمن عرف هذا عرف أنه لا يجوز إطلاق القول بجواز حصول علم الغيب لأحد من الخلق، ومن المستحيل عقلا وشرعا وجود من يعلم كعلم الله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، ومن جهل هؤلاء القبوريين إطلاق هذه العبارة الموهومة والترويج على العوام بأن الاستثناء يدل على أن الأولياء يعلمون الغيب، وهذا كما ترى من أعظم الجهل وأقبحه، قال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ} (2)، في هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله الكثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام (لا يؤلف تحت الأرض) كذب لا أصل له ولم نره في شيء من الكتب وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها فلما تبدا له جبريل عليه السلام في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل: وقال في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (3) هذه كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (4) ، وهكذا قال ههنا إنه يعلم الغيب والشهادة حتى أنه لا يطلع

(1) سورة الشورى: من الآية 11.

(2)

سورة الجن: الآية 25-26.

(3)

سورة الجن: الآية 26-27.

(4)

سورة البقرة: من الآية 255.

ص: 79

أحد من خلقه على شيء من علمه إلا بما أطلعه تعالى عليه ولهذا قال: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (1) ، وهذا الرسول ملكي وبشري (2)، ثم قال تعالى:{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، أي يختصه بمزيد معقبات من الملائكة ليحفظوه من أمر الله ويساوموه على ما معه من وحي الله ولهذا قال:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} ، ثم ذكر الأقوال في مرجع الضمير في قوله:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} ، قلت: فتأمل سياق الآية فإنه بدأ (3) الكلام بقول: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} ، فنفى من علمه بقرب ما يوعدون وهو الساعة وذكر بعد هذا علمه تعالى، وأنه لا يظهر عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضى من رسول ملكي أو بشري، وذكر الحرس والرصد الذين يكونون بين يديه ومن خلفه وهم المعقبات الذين يحفظونه من أمر الله، ثم قال:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} ، فعقد السياق فيه دلالة وبيان للمعنى المراد من الاستثناء وأن ذلك هو وحيه الذي يوحيه إلى رسله من كلامه ورسالته وهي بالنسبة إلى علم الله كنقطة من بحار الدنيا في جنب تلك البحار.

وأعظم من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4) .

(1) ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:179)

(2)

في الأصل الملكي والبشري معرفين ولعل الصواب ما أثبتناه لألا يتوهم أنهما تابعان ولكنهما خبران عن اسم إشارة.

(3)

في الأصل (أبدأ) ولكنني بدا لي أن الأفصح بدأ حيث أنه هو اللفظ الذي ورد في القرآن كثيرا وأما أبدأ فجاء مضارعه في القرآن مثل قوله: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ:49) ، ولم أر فيما علمته ماضيه فيه ولذا فضلت بوارد وأما من ناحية اللغة فلا شك في فصاحته لأنه جاء مضارعه في كتاب الله.

(4)

سورة لقمان: رقم الآية 27.

ص: 80

فإذا كان هذا الحال بكلامه فما ظنك بعلمه تبارك وتعالى، فمن زعم أن أحدا يعلم جميع الغيب فقد أساء الأدب على الله تعالى وتقدس وما قدروا الله حق قدره.

وكذلك كرامات الأولياء دون ما ثبت للأنبياء بكثير بل لا نسبة بينها وبينه لا في الكمية ولا في الكيفية.

وقول الفارسي نقلا عن البيضاوي (1) واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه يختص الرسول بالملك، والإظهار إنما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء باطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة (2) الأنبياء عليهم الصلاة والسلام انتهى.

وهذا الكلام فيه نظر ظاهر فإن الرسول أعم من الملكي والبشري وعبارة السلف دالة على ذلك، والإظهار أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها وأكثر الرسل إنما يظهرهم على ذلك بالوسائط كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (3) .

واطلاع الأولياء على شيء من الغيب هو من الإلهام الذي تضمنه الوحي لا يتقيد بالتلقي عن الملك كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوه ُ

(1) مؤلف هذا التفسير هو قاضي القضاة ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي وهو من بلاد فارس ابن قاضي: شهبة في طبقاته صاحب المصنفات، وعالم أذربيجان، ولي قضاء شيراز قال السبكي والأسنوي توفي بمدينة تبريز سنة إحدى وتسعين وستمائة 691 من الهجرة النبوية وقال ابن كثير وغيره: توفي سنة خمس وثمانين وستمائة 685هـ واسم تفسيره الذي جاء فيه هذا الكلام: أنوار التنزيل وأسرار التأويل اهـ أنظر (التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي) ج1 ص296-297.

(2)

في الأصل توسط الأنبياء.

(3)

سورة الشورى: رقم الآية 51.

ص: 81

إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) ، وهو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فكلام البيضاوي مردود، والمعروف في حد الكرامة أنها خرق الله العادة لوليه من غير ادعاء التحدي كما في قصة عمر وقصة آصف وقصة مريم وكما يذكر عن أبي إدريس الخولاني وعن أبي العلاء الحضرمي وأمثالهم (2)

(1) سورة القصص: رقم الآية 7.

(2)

سبق أن ذكرنا الكرامة التي أكرم الله بها مريم أما قصة آصف فذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النمل حيث أن الباري سبحانه وتعالى أخبر عن قول نبي الله سليمان بقوله: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل:39) وروي أن سليمان قال أريد أسرع من ذلك لأن المقام كما ذكره المفسرون من زمن جلوسه للحكم والقضاء من الصباح إلى أن يقوم من مجلس الحكم ويقدر ذلك بخمس ساعات ولما طلب سليمان أعجل من ذلك قال الذي عنده علم من الكتاب وهو آصف أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، يريد إذا أغمض عينيه قبل أن يفتحهما فسأل الله بأسائه الحسنى وصفاته العلى أن يحقق طلبه فحقق الله له ذلك كما دل على ذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا ٌ رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40) وهذه هي كرامته التي أكرمه الله بها.

وأما قصة أبي مسلم الخولاني فهي ما أجرى الله عليه من خارق العادة حيث أن الله نجاه من النار لما ألقاه الأسود العنسي فيها وجعل عليه النار بردا وسلاما وكمشيه على البحر وغير ذلك مما أكرمه الله به، وأما قصة العلاء بن الحضرمي فإنه لما ذهب إلى البحرين سلكوا مفازة وعطشوا عطشا شديدا حتى خافوا الهلاك فنزل فصلى ركعتين ثم قال: يا حليم يا عليم يا عظيم أسقنا فجاءت سحابة فأمطرت حتى ملأوا الأواني وسقوا الركاب ثم انطلق إلى خليج من البحر ما خيض قبل ذلك اليوم فلم يجدوا سفنا فصلى ركعتين ثم قال: يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم أجزنا ثم أخذ بعنان فرسه فقال: (جوزوا باسم الله)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمشينا على الماء فوالله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر، وكان الجيش أربعة آلاف.

وأما قصة عمر رضي الله عنه فإنه بينما هو ذات يوم يخطب المسلمين على المنبر كشف الله له جيش سارية وقد كاد العدو ينال منه ويلحق به الهزيمة غرة من وراء الجبل فنادى عمر رضي الله عنه وقد قطع الخطبة يا سارية الجبل تحذيرا له من العدو ومكرهم من وراء الجبل فسمع سارية صوته مع بعد المسافة لأن عمر بالمدينة والجيش بنهاوند، ولا شك أن هذه كرامة أكرم الله بها عمر وسارية وجيشه حيث أراه الله ما لم تجر العادة برؤيته في مثل تلك المسافة البعيدة وأنطقه الله بما فيه النجدة لهذا الجيش الإسلامي من كيد أعدائهم الذين كادوا=

ص: 82

وذلك ونحوه داخل في عموم قوله تعالى: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، وقد دخل فيه ما يحصل للأنبياء بواسطة وبغير واسطة، وكذلك لا يقال: إن أحدا ثبت له هذا بجميع أنواع الغيب كلية وجزئية لأن ذلك لا يكون إلا لله كما قال عن الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (1)، وقال عن المسيح:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (2) ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) .

=أن يظفروا به من وراء الجبل بندائه سارية باللجوء إلى الجبل بمن معه من الجيش ليتحصنوا به من العدو وقد حقق الله له ذلك بعلمه وكرمه وحكمته ولكن لا تدل هذه القصة على علمه رضي الله عنه الغيب مما يختص الله به أو يخص به أنبياءه وإنما تدل على ما كشف الله له في تلك الحالة الطارئة التي أراد الله فيها أن ينجد أولياءه الذين بذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الله بما عرض عليه من تلك الحادثة الغريبة نصرا لأوليائه وكبتا لأعدائه، بل إنما هذا الحادث الجلل من الإلهام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"لقد كان فيما قبلكم من الأمم أناس محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" رواه الشيخان وروى البخاري من رواية أبي هريرة ومسلم ومن رواية عائشة رضي الله عنهما قال ابن وهب (محدثون) أي: ملهمون.

ولو لم نذهب إلى هذا الرأي لجاز لنا أن نجعل المستثنين من قوله تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن:27) وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آل عمران:179) الأنبياء وغيرهم من أفراد الناس وهذه دعوى بلا دليل.

وأما ما يكرم الله به عباده الصالحين المستقيمين من الخوارق للعادة كالأمثلة السابقة فأمر ثابت بالكتاب والسنة.

وهذا يتناول عدة جوانب من استجابة الدعاء لهم بإعطائهم عين ما يطلبونه، وتقوية قلوبهم وشد عزائمهم على اقتحام المخاطر ثقة بنصر الله، والذود عنهم كما حمى الله عاصم بن ثابت من قطع العدو رأسه بإرسال الدبر عليهم ولم يستطيعوا أن يعملوا به شيأ لحماية الله إياه مع كون ذلك غاية أمانيهم حيث أن عاصما قتل من عظمائهم، وسوق الأرزاق العجيبة إليهم كما رزق خبيبا قطيفا من العنب في غير أوانه فصار عجبا للذين رأوا ذلك. (1) سورة البقرة: رقم الآية 32.

(2)

سورة المائدة: من الآية 116.

(3)

سورة الأعراف: رقم الآية 188.

ص: 83

ولا عبرة هنا بالمكابرة والدعوى المجردة عن الدليل والبرهان كقول بعض الضالين إن ذلك يتأتى للأولياء على سبيل الكرامة فإن هذا لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة بل ولا قاله من يعتد به من هذه الأمة، وإنما يعرف عمن غلظ عن معرفة الله ومعرفة حقه حجابهم وكثر في دينه وخبره ريبهم واضطرابهم وعجزت عن معرفة قدره وعظمته وعموم علمه ألبابهم.

(قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله : وأما قول الفارسي: العلم صفة للنفس أنعم الله بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل إلى آخر عباراته.

فيقال: هذا من عجائب جهلهم فإن الذي خلق الروح وصورها وعلمها وقبضها وخلصها من الكدورات البدنية وقشع عنها الظلمة الجسمانية هو الذي أخبرنا أن {َعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية (1) ، وأنه لا يعلم من في السموات وأرض إلا الله، وهو القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ،وهو المخبر عن الملائكة الذين خلصوا من الكدورات وخلقوا من النور، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (2) وهو المخبر عن عبده ورسوله المسيح بن مريم عليه السلام أنه يقول يوم العرض الأكبر:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (3)، وهو جل ذكره القائل:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية (4) ، فسبحان الله ما أجهل من زعم علم الغيب لغيره تعالى من حي أو ميت

(1) سورة الأنعام: رقم الآية 50

(2)

سورة البقرة: رقم الآية 32.

(3)

سورة المائدة: رقم الآية 117.

(4)

،وتمام الآية الكريمة:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

ص: 84

وما أضله عن سواء السبيل، كيف يعارضون النصوص بهذا الكلام المموه المزخرف ويعتمدون عليه؟ وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم؟ ويقال لهذا: قد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل على أن الحي لا يعلم جميع الغيب وأن علمه وإن عظم قدره بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحر وإذا كانت هذه حاله في الحياة فكيف بحاله بعد الممات وإطلاعه على بعض الجزئيات لا يدل على علمه بجميع المغيبات، وأيضا فالذي ذكره الفارسي لا ينتج الدعوى لأنها وإن تخلصت من الظلمات الجسمانية والكدورات البدنية فلم تخلص من التبعات الكسبية وما اجترحته في الحيلة الدنيوية، وإن تخلصت على وجه الكمال فهي مشغولة بما هي فيه من العالم الأخروي واللذة الحاصلة بالنعيم والجنة والكرامة، وعالم الأرواح عالم عظيم وحالها فيه حال لا يدرك بمجرد العقل والقياس وإنما يعرف بالنصوص الواردة في ذلك والدالة عليه.

(قال الشيخ عبد اللطيف) : وأما قوله (1) : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) إلى آخر ما قال من ذكرهم الله واشتعال نار الشوق والمحبة في قلوبهم وأنهم يصيرون فانين في الله باقين به، به يسمعون وبه يبصرون ونحو ذلك، فمن احتج بهذا على أنهم يعلمون الغيب فهو كمن يحتج بهذا على أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون ويدعون لذلك، ويقال لهذا المشبه: متى ثبت أن الله أعطى أحدا من خلقه علم الغيب كليه وجزئيه في حياته أو بعد مماته ومن الذي أثبت هذا؟ حتى يقال: إن ذلك باق لهم لا يغير مع أن بعض التغير وجنسه يحصل بالموت كالتغير من الحياة إلى الممات ومن الوجود إلى الفناء، قال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} (3)، وطرد كلام الفارسي أن يقال: إنهم باقون لأن الله لا يغير

(1) أي استدلال الفارسي بهذه الآية على نصر باطله.

(2)

سورة الأنفال: رقم الآية 53.

(3)

سورة الرحمن: رقم الآية 26-27.

ص: 85

نعمته عليهم، هذا لو فرض ثبوت ذلك في حال الحياة فكيف ذلك (1)، قد ردته النصوص والبراهين وكونهم يذكرون الله قياما وقعودا ويفنون به عما سواه ويسمعون به ويبصرون ويبطشون فهذا يفيد تحقيق التوحيد ون أعمالهم وحركاتهم خالصة لله وقعت بالله ولله فهم قد حققوا معنى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) ، وهذا هو محض الإسلام وجزيل الفضل والإنعام.

وأصحاب هذه الأحوال وهذه المقامات تبقى كرامتهم في الدار الآخرة بمعنى إثابتهم وعلو درجتهم ولذتهم بما حصلوه من حقائق المعارف ولطائف الكرامة (3) وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) يدل على هذا كما ذكره البيضاوي ونقله عنه الفارسي لكنه وضعه في غير موضعه واستدل به على غير ما سيق له فإن المعنى الذي دل عليه كلام السلف أنهم لا خوف عليهم مما أمامهم يقدمون عليه ولا يحزنون على شيء مما خلفوه وهذا لا دليل فيه على أن أحدا يعلم الغيب، ثم ساق الفارسي آثارا تروى في عرض بعض أعمال الأحياء (5) على أقاربهم وعشائرهم، من الموتى كحديث أبي أيوب وحديث جابر وحديث النعمان والمعنى متقارب، وهذا لا يدل على الدعوى بوجه من الوجوه لأنه من جنس اطلاع الحي على بعض الجزئيات، والكلام والبحث إنما هو في الكل والجميع لا في بعض الجزئيات وليس هذا الجزئي ثابتا لكل أحد من الأموات فإن الأحاديث لا عموم فيها ولا تدل عليه بل هي خاصة باطلاع البعض على بعض الأعمال لا كلها.

(1) لو قال المؤلف رحمه الله فكيف بعد الموت وقد ردنه النصوص والبراهين لكانت العبارة مستقيمة اهـ.

(2)

سورة الفاتحة: رقم الآية 5.

(3)

الأولى أن يكون بصيغة الجمع ليكون الكلام على وتيرة واحدة اهـ.

(4)

سورة يونس: رقم الآية 62.

(5)

ومثل هذه الأحاديث التي أشار إليها حديث عبادة بن الصامت حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمه ماتت فجأة وأنها لولا ذلك لتصدقت فلو تصدقت عنها أيصلها ثواب ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم، وكذلك أن أبا أيوب الأنصاري لما أصيب بقرب قسطنطينية سأل أصحابه أن يقربوه إلى سورها ليسمع صوت خيول الفاتحين لها وهكذا.

ص: 86

وأما فقر العبد وحاجته، ومصلحته، ومفسدته، وغير ذلك، وظاهر أمره وباطنه وشاهده وغائبه فلا يعلمه إلا الله الذي يعلم السر وأخفى، ومن العجب استدلال هؤلاء بما هو حجة عليهم لا لهم فإن هذه الأحاديث فيها أنه يعرض على الميت عمل قريبه وولده وإذا كان يعرض عليه فعلمه قاصر على نفس المعروض لا يتعداه إلى غيره وإذا اختص بالقريب ففيه التنبيه على أنه لا يعلم عمل غير قريبه وإذا اختص بالعمل دل أنه لا يعلم غيره من عموم الأحوال، فالأحاديث والقرآن حجة عليهم لا لهم والحمد لله.

وأما كلام الملا قاري في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيدا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، قال نقلا عن القاضي: وذلك أن النفوس الزكية القدسية إذا تجردت عن العوائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ولم يبق لها حجاب فترى الكل كالمشاهد بنفسها أو بإخبار الملك من السر له فلعل هذا مبني على كلام ابن سينا ومن وافقه من الفلاسفة القائلين بأن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل (1) الفعال على النفس المستعدة الفاضلة

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الرد على المنطقيين) : إن الفلاسفة يقولون: إن الحوادث التي في الأرض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة بـ (اللوح المحفوظ) كما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه، وهذا فاسد فإن اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفلكية تحت العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها. ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء إما عن معرفة بأن هذا قولهم وإما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخه الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد ذلك في كلام ابن عربي وابن سبعين والشاذلي وغيرهم يقولون: إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريدية من اللوح المحفوظ أو أنه يعلم كل ولي كان ويكون لله من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها أنهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ، وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل، والمقصود هنا أنهم يقولون إن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن إما بالنوم وإما بالرياضة وإما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الأرضية ثم ذلك العلم العقلي قد تخبر به النفس مجردا وقد=

ص: 87

الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي هذا الوهم حتى يراها أشكالات نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمعارفات من العقول والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل عندهم بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء.

(وأقوال (1) هؤلاء دخلت على كثير من الناس) إما باطني ملحد أو جاهل

=تصوره القوة المخيلة في صورة مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا أحس أشياء بالظاهر ثم تخيلها فإنها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك ترتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهر وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن، وما يراه النائم في منامه والمرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي صلى الله عليه وسلم لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم.

قيل: هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كأرسطو وأصحابه ولا جمهورهم وإنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا الكلام باطل ولم يتبع فيه سلفه، وثانيا أنه مبني على أصول فاسدة كثيرة الأصل، الأول: أنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من أبطل الأصول، الثاني: إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل ثم استفهم شيخ الإسلام ابن تيمية هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال؟ الثالث: إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فإنه لو سلم لهم ما يذكرونه من أصول فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل م تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الأنبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شيء من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه أمر كلي لكنه بزعمهم دائم الفيض فإذا استدعت النفس لأن يفيض عليها منه شيء فاض، وذلك الفيض لا يكون علما بجزئي فإنه لا جزئي فيه فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية؟ وكلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فإن العقل إن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما يدعون فيضه عن العقل اهـ كتاب الرد على المنطقيين ص 474-478.

(1)

والأولى: أن يكون تركيب هذه الجملة كالآتي: والذين دخلت عليهم أقوال هؤلاء إما باطني.

ص: 88

لا يدري أصول الأقوال ومذاهب الناس كشارح المشارق، وإذا كان هذا قولهم في النبوة وأنها مكتسبة على هذا الوجه فلا يبعد أن يقولوا بأن الأرواح إذا تجردت أدركت علم الغيب وصار الكل لها كالمشاهدة، فنعوذ بالله من زيغ الزائغين وضلال الضالين وتحريف الملحدين وانتحال المبطلين، والذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الروح إذا تجردت عن الجسم حال موته يعرج بها فإن كانت روحا طيبة فتحت لها أبواب السماء وعرج بها إلى الله تعالى ثم تكون طائرا يعلق في شجر الجنة وأرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة، هذا الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله يعرف ذلك من عرفه من أهل العلم والإيمان.

وأما هذه الأقوال المبتدعة التي لم تصدر عن معصوم بل ربما صدرت عمن لا يحكم بإسلامه كابن سينا وأمثاله من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام وهم من أبعد الخلق عنه وقد يقولها من يحسن الظن بهؤلاء ممن يخفى عليه حالهم ولا دراية له بأقوال الخلق ومذاهبهم، والعصمة والسلامة في الاعتصام بحبل الله الذي هو كتابه ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك أو خالفه فلسنا منه في شيء.

قال الفارسي: الشبهة الثالثة أن الأنبياء لا تصرف لهم يعني لا قدرة لهم على إيصال الخيرات ودفع المضرات في الحياة لقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (1) ، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) .

وإذا (3) كان حالهم هذا في الحياة فما ظنك بهم أو بغيرهم في الممات.

(1) سورة الأعراف: من الآية 188.

(2)

سورة يونس: رقم الآية 107.

(3)

في أصل المخطوط (وإن كان) ولعل الصواب ما أثبتناه في صلب الرسالة من (وإذا كان الخ) =

ص: 89

قال الفارسي: أجيب بأن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء، وقال صاحب معالم التنزيل: إلا ما شاء الله أن أملك فالآيتان ونحوهما تدل على أن ثبوت القدرة الكاملة لله تعالى بذاته لا من غيره ولا تدل على النفي مطلقا بل يجوز أن تكون حاصلة لعباده مفاضا منه ويجوز أن يكون للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى بأن يجعلهم متصرفين مدبرين بإذنه ويستجاب لهم دعائهم وتقبل شفاعتهم وينفذ لهم تصرفاتهم، والمدبر المتصرف حقيقة هو الله، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى وأكمل وأجلى.

(قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله :

والجواب عن هذا الكلام أن يقال: إن التصرف لفظ عام وعبارة مطلقة يدخل فيها التدبير والتغيير وسائر أنواع الإيجاد والإحداث والإبداع والتأثير والتسخير وغير ذلك من أفعال الربوبية التي تختص به تعالى وكذلك الأسباب العادية التي تقع في عموم الخلق.

والأول هو الذي قصده بقوله: ودعوى حصول هذا لمخلوق مصادمة ومصادرة لنصوص الكتاب العزيز المصدق وفتح لباب الإلحاد والشرك المحقق فإن هذا الأصل أعني اختصاصه سبحانه بالخلق والإبداع والتدبير والتصريف هو أكثر أصول الإسلام وجلها وقاعدته العظمى التي تدور عليها جميع الأحكام وجميع القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا الأصل ويقرره وقد احتج به تعالى على وجوب عبادته وطاعته وأنه الإله الحق دون ما سواه.

=الخ) حيث أن إذا لليقين وإن للشك والله أعلم بالصواب.

ص: 90

وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) فأثنى على نفسه بعموم ربوبيته المتضمنة لخلقه وتدبيره وإلهيته، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .

وتأمل هاتين الآيتين كيف استدل فيهما بفعله وتدبيره وخلقه وتصريفه على وجوب عبادته وتحريم اتخاذ الأنداد له وخص ما ذكر في الآية (الأخيرة) لأنه أصل يندرج تحته ما سواه من الجزئيات ولأنه مشاهد محسوس يدركه كل أحد حتى البليد الذي لا يدرك سوى الحسيات ولما في ذلك من بديع الصنع والإتقان وظهور القدرة والشأن فجعل الأرض فراشا والسماء بناءا مع عظمهما وسعتهما وما أودع فيهما من الآيات عجائب المخلوقات وأنواع التدبيرات الكليات والجزئيات ما يدل على انفراده تعالى واختصاصه بهذا الأصل العظيم.

وفي (3) ذلك من إنزال المطر من السماء على التصريف المخصوص والتدبير المتقن المحكم وجعله أصلا لمادة أرزاق المخلوقات على اختلاف أجناسها وأنواعها وتباين أصنافها وأشكالها ما يدل على أن الله هو المنفرد بالتصريف والتدبير وحده لا شريك له فبطل بنص هذه الآية وعمومها ما زعمه هذا الملحد.

أما السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات والأرزاق فبطريق التخصيص والعموم وما عداهما فبطريق الفحوى والأولى وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ

(1) سورة الفاتحة: رقم الآية 2.

(2)

سورة البقرة: الآية 21-22.

(3)

الجار والمجرور خبر مقدم وما يدل مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها سيقت لتقرير وحدانية الله.

ص: 91

تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) فإن فيها من الرد على من قال بأن أرواح المشايخ تتصرف ما لا تتسع لبسطه هذه الفتاوى، ولكن نشير إلى ذلك إشارة فإن إعطاء الملك ونزعه والعز والذل يدخل تحتها من أفراد الكائنات والجزئيات في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا الله وفي قوله، (بيدك الخير) ما يدل على أن جميع الخير كليه وجزئيه بيده سبحانه لا بيد غيره كما يفيده الجار والمجرور فأي فرد يخرج عن هذا؟ ويبقى للمشايخ وغيرهم وفي قوله:{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} (2) ما يدل على أنه المختص بتصريف الأعصار والدهور ليس لأحد معه شركة، وفي قوله تعالى:{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (3) ما يدل على أنه المختص بإخراج الأشياء وإيجادها فيخرج الضد من الضد والجنس من الجنس والمشاكل من (2) المشاكل، وقوله:{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (5) فيه اختصاصه بالتصرف في أرزاق عباده الباطنة والظاهرة وأن مصدر ذلك مشيئته النافذة فأي شيء يبقى بعد هذا للأنبياء والمشايخ؟ لو كانوا يعلمون؟ وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) وهذه الآية الشريفة عامة لكل تدبير وتصريف في الدنيا والآخرة من جميع الخيرات وسائر الرحمات فهو الذي يمن بذلك ويفتحه لمن يشاء من عباده وما يمسك فلا وجود لمرسل له من بعده، وقوله تعالى وهو العزيز الحكيم فيه تنبيه على مورد التدبير والتصريف ومصدرهما وأنه اختص بذلك لأنه المتفرد بالعزة والحكمة كما يعلم من تعريف الجزئيين، وإذا اختص به ولم يتصف به غيره فبأي شيء يتصرف ذلك الغير ويدبر؟ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (4) فأمر عباده

(1) سورة آل عمران: رقم الآية 26.

(2)

بضم الميم.

(3)

سورة فاطر: رقم الآية 2.

(4)

سورة فاطر: رقم الآية 3.

ص: 92

جل ذكره أن يذكروا هذه النعمة العظيمة وهي اختصاصه وتفرده بخلقهم ورزقهم من السماء والأرض.

والرزق والخلق يدخل تحتهما كل تدبير وتصريف من الأمور الباطنة والظاهرة ولذلك قال بعده هذا: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فاستدل بربوبيته وعمومها وعلى إلهيته ووجوب عبادته وطاعته ثم قال: (فأنى تؤفكون) إنكارا عليهم فيما صنعوه من الإعراض عن عبادته والاعتراف بإلهيته مع قيام برهانها الأكبر ودليلها الأعظم وهو ما ذكر في صدر الآية وهو سبحانه كثيرا ما يستدل بربوبيته وخالقيته ورازقيته على ألهيته وعبادته كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (1) وقال جلت قدرته: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (2)، وقال تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (3)، فلو قيل: بأن غيره يتصرف لكان هدما لهذا الأصل وإبطالا لهذا البرهان، وقال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِين الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (4) .

أنظر إلى ما تضمنته هذه الآيات (5) الكريمة من تقرير بعض أفراد ربوبيته تعالى لخليله إبراهيم أفضل الرسل بعد نبينا عليهما الصلاة والسلام من خلقه وهدايته واختصاصه تعالى بإطعامه وإسقائه وما معنى إقحام (6) ضمير الفصل في هذه

(1) سورة النحل: رقم الآية 17.

(2)

سورة النحل: رقم الآية 20.

(3)

سورة الأعراف: 191-192.

(4)

سورة الشعراء: رقم الآية 75-82.

(5)

في الأصل (هذه الآيات) والصواب ما أثبتناه حيث أنها آيات عديدة وليست آية واحدة كما لا يخفى ذلك على الناظر في الآيات التي سجلها المؤلف رحمه الله تعالى.

(6)

ولو لم يستعمل المصنف هذه العبارة (إقحام ضمير الفصل) لكان أحسن لأن هذه العبارة يستعملها النحاة ويريدون بها زيادة ذلك اللفظ ولكنهم لجأوا أليها تأدبا كما يزعمون وكما=

ص: 93

الجملة دون غيرها من الجمل وكذلك شفاؤه إذا مرض واختصاصه بإماتته وإحيائه بعد الموت وتعليق الطمع به تعالى وحده في مغفرة خطيئته يوم الدين، هذا الكلام صدر عن خليله أعلم العالمين به مستدلا به على إلهيته تعالى وحده والبراءة مما عبد من دونه من الأنداد والآلهة على اختلافها وتنوعها وحكاه الله تعالى عنه مثنيا عليه به مقررا له راضيا به عنه فهذا حال أنبياء الله وأوليائه عليهم الصلاة والسلام، فليت شعري ماذا يقول الملحدون في مثل هذه الآيات الكريمة؟ وسيأتيك إبطال تأويله الفاسد الذي مر في حكاية كلامه آنفا وقال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (1) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون} (2) إلى قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإن في هذه الآيات من تقرير الاختصاص بالتدبير والتصريف في الكليات والجزئيات مع اختلاف أنواعها والاستدلال بذلك عل إلهيته وحده لا شريك له ما لا يتسع لتقريره هذا الموضع واللبيب يدرك ذلك بمجرد تلاوة هذه الآيات وكذلك الحال في قوله في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} (3)، وكذلك قوله:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (4) ففي هذه الآية أعظم دليل وأقوى حجة على إبطال من زعم أن أرواح الأنبياء والمشايخ تصرفا وتدبيرا وذلك من وجوه ظاهرة متعددة في الآية، وكذلك قوله تعالى:

=تجري على ألسنتهم أيضا هذه الكلمة (الصلة) ويريدون أنها زائدة ونحن نعتقد أن كل حرف من حروف كتاب الله أنزله الله لهداية الخلق وليس فيه حرف زائد ولائلا يتوهم ذلك تعديل تلك العبارة أولى في نظري والله أعلم بالصواب.

(1)

سورة النحل: رقم الآية 53.

(2)

سورة النحل: رقم الآية 10.

(4)

سورة الواقعة: رقم الآية 58.73.

(5)

سورة الزمر: من الآية 38.

ص: 94

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1)

فقف عند هذه الآية وتدبر فيها من العلوم والمعارف فإنها أصل عظيم وبرهان ظاهر مستقيم يكفي من أراد الله هدايته، قال بعض السلف وهو ابن سميط: دلنا ربنا على نفسه بهذه الآية يشير إلى أن أفعاله شاهدة بربوبيته وألهيته دالة على ذلك ولو لم يكن في هذه الآية إلا قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} لكان كفيفا في رد قول هؤلاء الملاحدة وقال تعالى لنبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقال جل شأنه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وألا (2) للاستغراق المفيد لعدم خروج فرد من الأفراد لسواه وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) وقال تعال لنبيه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (4)، وقال تعالى:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (5) وقال جلت قدرته: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (6) فهذه الآيات تقطع أصول شجرة الشرك والإلحاد وترد مذهب أهله القائلين بأن لأرواح المشايخ تصرفا وتدبيرا في الكون، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو

(1) سورة الأعراف: رقم الآية 54.

(2)

والصواب والله أعلم (وال للاستغراق المفيد الخ) .

(3)

سورة يونس: رقم الآية 107.

(4)

سورة الجن: رقم الآية 21.

(5)

سورة يونس: رقم الآية 49.

(6)

سورة الأنعام: رقم الآية 50.

ص: 95

ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" الحديث (1)

وفي حديث التنزل الإلهي إذا بقي ثلث الليل أن الله تعالى يقول: "لا أسأل عن عبادي غيري" ويروى: أن الله أوحى إلى داود أنه لا يعتصم بي عبد من عبادي دون غيري أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له فرجا ومخرجا ولا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك (2) قال الشيخ رحمه الله: وقول المعترض في الجواب عن الآيتين إن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره

(1) وقد ترك الناسخ أو حصف من صدر الحديث فقرات واستشهد بما بعدها ورمز بما جرت به عادة المحدثين بالإشارة إليه في تمام الحديث بقوله: الحديث وهذا يوهم أن أول ما استشهد به هو بداية الحديث ودفعا لهذا الوهم المتوقع نذكر تلك الفقرات التي في بداية الحديث ثم نذكر تمام الحديث، أول الحديث: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم

" وتما الحديث: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فاليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد من رواية وهب بن منبه بلفظ آخر قال الله عز وجل في بعض كتبه:"بعزتي أنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفى بي لعبد مالا إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب قبل أن يدعني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه".

ص: 96

تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء إلى آخره:

فالجواب أن هذه الشبهة إنما نشأت من الجهل بمعاني كلام الله وباللغة العربية التي نزل بها القرآن العظيم فإن قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} (1) عام لكل فرد من الأفراد وجزئي من الجزئيات لا يخرج عنه شيء وإن قل لا على سبيل الاستقلال ولا غيره وكذلك فيه نفي القدرة العامة المطلقة ولم يقل أحد من الخلق بإثبات الملك المستقل والقدرة الذاتية لغير الله تعالى إلى من عطل الصانع ولم يثبت للعالم ربا مدبرا، والآية سيقت لخطاب من يعترف بالربوبية ويثبت الصانع ولا يقول بالملك الاستقلالي ككفار العرب المقرين بالربوبية المشركين في العبادة والإلهية.

وعبارات المفسرين تدل على هذا أنه في نفي جميع أنواع الملك وإن لم يكن استقلالا والعربي يدرك ذلك بذوقه وعربيته ولا يحتاج فيه إلى برهان وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (2) الآية، فإنها دلت نصا على انتفاء وجود كاشف لما يمسه الله به مكن الضر وعلى انتفاء راد ومانع لما أراده الله تعالى به من خير وفضل، وهذا أعم من أن يكون بطريق القدرة الذاتية أو بغير ذلك كما هو صريح الآية، وقد تقدم لهذه الآيات نظائر تدل على اختصاصه تعالى بالأمر والتدبير والنفع والضر وإنما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس.

وقوله: يجوز للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى إن أراد أن ذلك يحصل بغير الأسباب العادية كما يدعيه هو وأمثاله لأرواح المشايخ والصالحين فهذا كذب وتجويز للشرك والباطل والضلال، وقد تقدم رده وإن أراد الأسباب العادية في الحياة الدنيوية كالذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والإنس والجن فهذا النوع لا يطلق عليه إن جعلهم متصرفين مدبرين

(1) سورة الأعراف: من الآية 188.

(2)

سورة يونس: من الآية 107.

ص: 97

وهذا جهل عظيم ومع هذا فلا يجوز أن يطلب منهم كل شيء ويقصدوا بما لا يقدر عليه إلا الله، وأما قوله: والأنبياء والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة، فهذه العبارة تمويه وترويج للباطل، وحقيقتها أن العباد يتصرفون في العالم ويدبرون أمره وتصدر الأمور عنهم لأنهم مظاهر، والقائلون بأن الخلق مظاهر لذاته هم أهل الحلول المعطلة لوجود الصانع وربوبيته ومباينته لمخلوقاته وهم من أكفر خلق الله وأضلهم سبيلا فإنهم يعبدون كل ما استحسنوه ومالت نفوسهم إليه لظنهم أنه من مظاهر الحق.

والقائلون بأن لأرواح الأولياء في صدور التصرفات عنهم مظاهر لتصرفاته تعالى فيهم مشابهة قوية للحلولية ولعل هذه العبارة إنما أخذت عنهم يبين ذلك أنهم إن أراد الأسباب العادية الحسية فهذا لا يختص بالأنبياء والأولياء وإن أراد ما هو أعم من ذلك من الأمور الباطنية والتدبير بالقوة المؤثرة فهو شبيه بالقول الأول مشتق منه {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .

وقوله: ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى: فجوابه أن حالهم قبل المفارقة حال عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موت ولا حياة ولا نشورا كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (2) وقال له أيضا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (3) وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (4) .

(1) سورة البقرة: من الآية 118.

(2)

سورة الجن: رقم الآية 21.

(3)

سورة آل عمران: رقم الآية 128.

(4)

سورة القصص: رقم الآية 56.

ص: 98

فإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم فما ظنك بغيره من سائر الخلق وإذا اتحدت الحالة بعد المفارقة وقبلها فليس فيه حجة للمعترض لأنه لا يملك ولا يتصرف لا في حياته ولا في مماته هذا إن سلم أن الحال مستوية في الحياة وبعد الممات والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة أن الحال بعد مفارقة الأرواح للأبدان ليست كحال الحياة من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها، ويكفي للمؤمن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"(1) فهذا الحديث يدخل تحته جميع أعماله الباطنة والظاهرة وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وأن الأسباب العادية الحسية تزول بالموت فكيف بغيرها؟ وإذا كان لا يملك لنفسه شيئا وعمله قد اقطع فكيف يتصرف ويدبر ويستمد منه وتطلب منه الحوائج؟ إن هذا لهو الضلال المبين والجهل الواضح المستبين وقد تقدم في الحديث أن نسمة المؤمن طائر يعلق بشجر الجنة فإذا كانت في الجنة تعلف بأشجارها فأي دليل دل على أنها تدبر وتتصرف وتتجاوز هذه الحالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى التدبير والتصريف؟ ولقد كنا غنيين عن رد هذا القول لظهور بطلانه وضلال قائله ولكن غلبة الجهل على الجمهور دعت إلى الجواب.

وأما ما نقله عن البيضاوي، واعتمده من أن أرواح الأولياء تتصرف فهو دليل على جهله وعدم معرفته بأخذ العلم من محله وذلك أن البيضاوي قال في قوله تعالى:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} إنها صفات ملائكة الموت فإنها تنزع أرواح الكفار من أبدانهم (بشدة) وتنشط أرواح المؤمنين أي تخرجها برفق ويسبحون في الإخراج ويستبقون بالأرواح إلى مقرها وما أعد لها وتدبر ذلك الأمر المعد هذا هو الذي قدم وأيد وهو الموافق لعبارات السلف، والمحققون من المفسرين جزموا بأنها صفات الملائكة واقتصروا عليه ولم يذكروا سواه وما وقفت على قول أحد حكى هذا الذي ذكر عن البيضاوي سوى البيضاوي

(1) رواه مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 99

مع أنه قدم سواه وأخره بل قدم عليه القول بأن هذه صفات للنجوم وذكر وجهه فإن كان قول البيضاوي حجة فقد قدم على هذا أنها صفات للنجوم.

وعلى قول هذا المعترض واحتجاجه بعبارة البيضاوي يطلب من النجوم ويستمد منها ويقال بأنها تتصرف لأن البيضاوي ذكر أنها من المدبرات أمرا بل يرجع حينئذ إلى عبادة النجوم وما كانت عليه الصابئة في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام وكذلك قال في تفسيره أو صفات أنفس الغزاة أو صفات خيلهم وعلى هذا يطلب منهم ومن خيلهم ويستمد لأنها من المدبرات أمرا سبحان الله ما أجهل هذا الرجل وأقل علمه بدين الإسلام الذي اتفقت عليه دعوة الرسل بل ما أجهله بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون من سائر الأمم الذين آمنوا بربوبية الله وأشركوا في عبادته.

وأما ما نقله عن الشافعي أنه قال: الدعاء عند قبر الكاظم (1) ترياق

(1) والكاظم هو الإمام السابع من الأئمة الإثني عشرة الذين تعتقد الشيعة عصمتهم من الكبائر والصغائر وهذا الإمام الذي زعم المردود عليه أن الشافعي يقوله: الدعاء عند قبره الخ هو موسى الكاظم ابن جعفر الصادق وأن سلسة إمامتهم على زعم الشيعة الإمام الأول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ثم ابنه الحسن بوصية له من أبيه ثم أخوه الحسين من بعده ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه علي الرضا ثم ابنه محمد الجواد ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر وهو الإمام الثاني عشر، ويزعمون أنه دخل سردابا في دار أبيه بسر من رأى ولم يعد بعد وأنه سيخرج في آخر الزمان ليملأ الدنيا عدلا وأمنا كما ملئت ظلما وخوفا وهؤلاء قد جاوزوا الحد في تقديسهم للأئمة فزعوا أن الإمام له صله روحية بالله كصلة الأنبياء وقالوا إن الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله وأن من مات غير معتقد بالإمام فهو مات على الكفر وغير ذلك من اعتقاداتهم الباطلة في الأئمة وكفى به إثما مبينا.

وأشهر تعاليم الإمامية الإثني عشرية أمور أربعة: العصمة، والمهدية، والرجعة والتقية، أما العصمة فيقصدون بها أن الأئمة معصومون من الصغائر والكبائر في كل حياتهم ولا يجوز عليهم شيء من الخطأ والنسيان وأما المهدية فيقصدون بها أن الإمام المنتظر هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان وأول من قال بهذا هو كيسان مولى علي بن أبي طالب في محمد ابن الحنفية ثم تسربت إلى طوائف الإمامية فكان لكل منها مهدي منتظر.=

ص: 100

مجرب فهذا حال أهل الجهل والضلال يعتمدون الأكاذيب ويحرفون النقل الصحيح ومن عرف الشافعي وعرف علمه ومذهبه عرف أن هذا من أوضح الكذب وأظهره ولا يشك في ذلك إلا جاهل فإن الشافعي منع من استقبال القبر الشريف قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدعاء وأمر باستقبال القبلة عند ذلك، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية بل حكى الإجماع عليه وهو من أعلم الناس بأقوال العلماء ومذاهبهم وحكاه غير واحد من أهل العلم كابن القيم الجوزية، والشافعي رحمه الله من أشد الناس متابعة للسنة ونهيا عن البدع فكيف يجيز ما دلت الأحاديث على المنع منه كحديث علي بن الحسين عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث كنتم"، والعيد اسم لما يعتاد مجيئه والتردد إليه لدعاء أو سلام، ووجه الدلالة من هذا أنه صلى الله عليه وسلم منع من تحري الدعاء واعتياده عند أشرف القبور وأفضلها منبها على ما دونه بطريق الأولى وذكر العلقمي عن الشافعي أنه قال: أكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده وبهذا تعلم فقه الرجل ودينه، وهذه العبارة، وهي قولهم: الدعاء عند قبر فلان

=وردت بعض الأحاديث في شأن المهدي رواها الترمذي وأبو داوود وابن ماجة وغيرهم كقولهم عليه الصلاة والسلام: " لو لم يبقى في الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي " ومثل قوله: " لو لم يبق إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا " ولكن لم نر من المسلمين من ذهب مذهب الإمامية في تعيين المهدي ودعواهم أنه الإمام الثاني عشر الذي اختفي حيا وسيعود في آخر الزمان

وأما الرجعة فهي عقيدة لازمة لفكرة المهدية، ومعناها: أنه بعد ظهور المهدي المنتظر يرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ويرجع علي والحسن والحسين، بل وكل الأئمة، كما يرجع خصومهم كأبي بكر وعمر فيقتص لهؤلاء الأئمة من خصومهم ثم يموتون جميعا ثم يحيون إلى يوم القيامة.

وأما التقية فمعناها المداراة والمصانعة وهي مبدأ أساسي عندهم وجزء من الدين يكتمونه عن الناس فهي نظام سري يسيرون على تعاليمه فيدعون في الخفاء لإمامهم المختفي ويظهرون الطاعة لمن بيده الأمر فإذا قوية شوكتهم أعلنوها ثورة مسلحة في وجه الدولة القائمة الظالمة في زعمهم اهـ التفسير والمفسرون ج2 ص7-9.

ص: 101

ترياق مجرب قد تنازعها عباد القبور والمتبركون بها فمنهم من يدعي ذلك لقبر أبي حنيفة ومنهم من يدعيه لقبر معروف الكرخي، وعباد عبد القادر وأحمد البدوي والحسين عندهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وبعضهم يفضل الدعاء عندها على الدعاء في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وبهذا وأمثاله عمرت المشاهد وعطلت المساجد وبنيت القبور وأرخيت الستور على التوابيت مضاهاة لبيت الله والله نسأل وإليه نرغب أن ينصر دينه ويظهره على سائر الأديان ويقيم له أنصارا وأعوانا يدعون إليه ويجاهدون فيه.

وأما قوله: قال حجة الإسلام محمد الغزالي (1) : كل من يستمد به في

(1) هو الإمام أبو حامد زين الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الفقيه الشافعي فيلسوف متصوف تلميذ لإمام الحرمين أبي المعالي وتولى التدريس بمدرسة النظامية ببغداد ثم حج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين وصنف فيها كتابا ثم صار إلى القدس والإسكندرية ثم عاد إلى بلده بطوسى مقبلا على التصنيف والعبادة والنظر في الأحاديث خصوصا البخاري وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المتأخرين غلطوا بسبب تعظيم الغزالي المنطق وذكر أن الغزالي أول من أدخل المنطق في أصول الفقه وكتب مقدمة من المنطق في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق وصنف الغزالي في المنطق معيار العلم (القسطاس المستقيم) و (محك النظر) وصنف كتابا في مقاصد الفلاسفة في المنطق والحكمة الإلهية والحكمة الطبيعية عرف فيه مذاهبهم وحكى مقاصدهم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الرد على المنطقيين) وصنف الغزالي في آخر عمره كتاب (تهافت الفلاسفة) وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار الميعاد وبين في آخر كتبه أن طريقتهم فاسدة لا توصل إلى يقين وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين لكن بعد أن أودع كتبه المظنون بها على غير أهلها وغيرها من معاني كلامهم الباطل المخالف لدين المسلمين ما غير عبارته وعبر عنه بعبارة المسلمين التي لم يريدوا بها ما أراده وقال أبو حامد يفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق فيجعل الأجسام عالم الخلق والنفوس والعقول عالم الأمر وهذا ليس من دين المسلمين بل كل ما سوى الله مخلوق عند المسلمين والله تعالى خالق كل شيء.

والمقصود هنا أن كتب أبي حامد وإن كان فيها كثير من كلامهم الباطل إما بعبارتهم أو بعبارة=

ص: 102

الحياة يستمد به بعد الوفاة، فالجواب: أن هذا من جنس ما قبله نقل غير صحيح عن قائل غير معصوم لا يحتج به بإجماع المسلمين، وقول الناقل قال حجة الإسلام مجرد تمويه وتخييل، وحجة حجة الإسلام في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما عدا ذلك فيؤخذ منه ويترك كما قال مالك وبقوله يقول علماء الإسلام: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حامد قد دخل في الفلسفة واعتنى بكتب الفلاسفة ودخل عليه من الشر بسبب ذلك مالا يحصيه إلا الله ومن تأمل كتبه وكلامه في الإحياء وفي غيره عرف ذلك إن كان ممن له ممارسة في العلوم الشرعية قال الفقيه ابن العربي المالكي: دخل شيخنا أبو حامد في جوف الفلسفة ثم أراد أن يخرج فلم يحسن الخروج، هذا كلام تلميذه (1) وهو من أعرف الناس به، هذا إن صح النقل وما أظن هذا ثبت عنه.

وأما قوله: قال بعض من المشايخ العظام: رأيت أربعة أشخاص من الأولياء يتصرفون في قبورهم كما تصرفوا في حياتهم أو أزيد الشيخ عبد القادر وعن اثنين آخرين إلى آخره

فالجواب أن مشايخ الضلال وجهلة الصوفية الذين لا دراية لهم بدين الله وشرعه قد يصدر منهم هذا ونحوه بل قد حكي عن بعضهم القول باتحاد

=أخرى فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم وبين أن طريقتهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين، ومات الغزالي سنة505هـ خمس وخمسمائة هجرية وهو مشتغل بالبخاري ومسلم اهـ كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص194-198.

(1)

هو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن العربي المعافري الأندلسي من حفاظ الحديث رحل إلى المشرق وصحب ببغداد أبا حامد الغزالي صنف كتبا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ من كتبه (أحكام القرآن) وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك وكتاب القبس على شرح موطأ بن أنس وعارضة الأحوذي على كتاب الترمذي وغير ذلك من الكتب النافعة، وأبوه من فقهاء أشبيلة ورؤسائها وولد سنة 468هـ وتوفي رحمه الله سنة 543هـ أنظر هامش كتاب الرد على المنطقيين ص482 التفسير والمفسرين ج2 ص448-449.

ص: 103

الخالق والمخلوق والقول بحلول الخالق في خلقه والقول بتعطيل الصفات الثبوتية وكل هذه الأقوال حكيت واشتهرت وخلدت في الدفاتر عن أشياخ يعتقد كثير من الناس أنهم أهل معرفة وتحقيق وأنهم من المشايخ العظام.

ومن بنى دينه على هذا رجع إلى ما عليه النصارى من تقديم أقوال أحبارهم ورهبانهم على ما بأيديهم من كتب الله وعندهم من هذا النوع شيء كثير وحكايات معروفة، وقد عاب الله ذلك عليهم وفرهم به، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) .

وقد فسر صلى الله عليه وسلم هذه العبادة بطاعتهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله كما في حديث عدي بن حاتم وهو حديث صحيح مشهور اعتمده المفسرون وأهل الحديث، وقد رأينا بمصر من يقول: بأن البدوي وزينب والدسوقي يتصرفون وبعضهم يزيد إلى سبعة وبعضهم إلى سبعين، وكل هذه من أقوال عباد القبور، وقد أبطلها القرآن وسائر الكتب السماوية وما جاءت به النبوات بل بطلانه معلوم بالضرورة من دين الإسلام.

وأما قول ابن زروق: إن إمداد الميت أقوى من إمداد الحي لأنه في بساط أقرب الحق وحضوره، فهذا القول كما سبق قول عمن لا يرتضي ولا يؤخذ بقوله ولا يهتدي ونحن لا نمنع أن أقوال الضالين في هذا المعنى كثيرة (2) ولكن ليست بشيء، ومعنا أصل عظيم لا يضل من اتبعه ولا يشقى وهو كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقرب العبد من الحق وحضوره لا يفيد هذا فإن جميع الخلق قريب بالنسبة إلى علم الحق وخواصه لهم قرب خاص

(1) سورة التوبة: رقم الآية 31.

(2)

وفي الأصل (كثير) بدون تاء التأنيث والصواب بالتأنيث لوجوب المطابقة بين المبتدأ والخبر، ووزن فعيل وإن كان مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كقتيل وجريح إلا أن المطابقة والمشاكلة أمر مهم عند العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والله أعلم بالصواب.

وأيضا الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث ما كان مؤنثه على وزن فعلى كقتيل قتلى وجريح جرحى.

ص: 104

بالنسبة إلى الحفظ والإعانة والنصرة والتأييد والتسديد، والملائكة لهم قرب أخص والأرواح الطيبة كذلك، ومع هذا فقد قيل لأفضلهم وسيدهم (ليس لك من الأمر شيء)(إن عليك إلا البلاغ) وتقدم ما فيه كفاية لأهل الحق.

وأما علم الأرواح بالزائرين وأحوالهم فلا دليل فيه لأن كونه يعلم الزائر ويرد عليه سلامه لا يدل على أنه يعلم حاله مطلقا ويتصرف ويدبر الأمر هذا لا مناسبة بينه وبين ما قبله بوجه من الوجوه وأي تلازم بينهما؟ وقد يعرف الكافر من يزوره وهو فيما هو فيه من العذاب.

وأما قوله: هكذا في شرح المشكاة فقد تقدم أن الحجة ليست في قول مثل هذا.

وأما قوله: وليت شعري ما أراد المنكرون للاستمداد إن أرادوا أن الأولياء لا تصرف لهم أصلا (لا) في الحياة ولا في الممات فهو بعينه مذهب أهل الاعتزال، والجواب أن يقال: قد تقدم أن الرجل لا يعرف معنى الاعتزال، ويسمي المؤمنين الذين يعتزلون الشرك وأهله ويجتنبون الأقوال المكفرة الشركية معتزلة لجهله بالاعتزال. والقول بأن الأولياء لا تصرف لهم أصلا لا في الحياة ولا في الممات بغير الأسباب العادية الحسية هو مذهب أهل الإسلام قاطبة الذين اعتزلوا الشرك وأهله.

وقوله: وإن أرادوا أن لا تصرف لهم حقيقة في الحالتين بل المتصرف والمؤثر حقيقة هو الله تعالى، وينسب إليهم مجازا فهو بعينه اعتقادنا، والجواب أن يقال: لا تصرف لأحد من الخلق بدون الأسباب العادية لا حقيقة ولا مجازا، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من الآيات والأحاديث.

وأما الأسباب العادية الحسية فهي تضاف إلى العبد حقيقة بمعنى أنها صدرت منه وقامت به وحصلت بمشيئته وكسبه ولا يمنع من إطلاق هذه الأفعال حقيقة عليه وإن كان الله هو الخالق له ولعمله كما قال تعالى: {وَاللَّه ُ

ص: 105

خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) .

ومن قال: لا تضاف إليه هذه الأفعال إلا مجازا فهو من جنس قول المجبرة (2) ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن كسب العبد وأفعاله الحسية تضاف إليه حقيقة، وأما أفعال الله التي ليست من جنس أسباب العباد ولا في قدرتهم فهذه لا تضاف إلى العبد أصلا لا حقيقة ولا مجازا. ولكن المعترض خلط هنا ولم يميز وقوله: إن أرادوا أنه لا تصرف ولا كرامة لهم بعد الوفاة أصلا بناء على أنه لا حياة لهم فهذا مع ما فيه من إنكار عذاب القبر باطل لما ذكرناه من السماع والعلم لهم ولا شك أنهما يتفرعان على الحياة، فالجواب: يعلم مما تقدم وهذا كله حشو وتكرير ليس تجديا للدليل هو مجرد تكرير الدعوى ولا يخفى أن الملحدين وعباد القبور القائلين بالتصرف يموهون على الناس بأن تصرف الأولياء كرامة وأن من نفاه فقد نفى الكرامة، وهذا المعترض زاد في التمويه بقوله: بناء على أنه لا حياة لهم وأن هذا يلزم منه إنكار عذاب القبر، وكل هذا تشبيه وترويج للباطل وتمويه على الجهال. وأهل الحق لا ينكرون الكرامة التي جاء بها القرآن الكريم كما في قوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (4) وقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (5) وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"(6)

(1) سورة الصافات: رقم الآية 96.

(2)

والمجبرة هم الجبرية وهي الطائفة التي تعتقد أن العبد مجبورا لا اختيار له وهذا الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم فاسد من عدة وجوه، أن ما يقدم عليه من خير وشر لا اختيار له وعمله هذا كحركة المرتعش وحركة الشجرة التي يحركها الريح وهذا جزم عظيم من حيثيات العبد.

(3)

سورة يونس: رقم الآية 62.

(4)

سورة فصلت: رقم الآية 30.

(5)

سورة آل عمران: رقم الآية 169.

(6)

رواه البخاري ومسلم وتمام الحديث اقرأوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ

ص: 106

وكذلك يثبتون خرق العادة للأولياء في بعض الأحيان كما في قصة آصف صاحب سليمان عليه السلام وكما في قصة أصحاب الكهف وكما تقدم في قصة عمر رضي الله عنه، ولكن ليس في هذا دليل على أنهم يتصرفون ولا تلازم بين التصرف والكرامة لأن الكرامة خرق الله العادة لوليه من غير فعل من ذاك الولي (1) .

وقول هذا الجاهل: إن ذلك بناء على أنه لا حياة لهم فهذا جهل عظيم وخلط ذميم، فالمسلمون متفقون على إثبات عذاب القبر ونعيمه وإن أريد بالحياة تنعم الأرواح والأجساد وعذابها وإحساسها ونحو ذلك كما ورد فهذا ثابت لا شك فيه لكنه لا يسمى حياة (2) وإنما يطلق اسم الحياة على غير

أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17) .

(1)

بل ولا علم منه ولا يعرف مما يجري له من خارق العادة.

(2)

وذكر شارح الطحاوية موضوع علاقة الروح بالبدن وفصل ذلك حيث قال: فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام: أحدها تعلقها به في بطن الأم جنينا، الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، الثالث: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه، الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة، الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجسام وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا فالنوم أخو الموت فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.

وقال الشارح رحمه الله تعالى: فالحاصل أن الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا. ومن هنا يتضح جليا أن الحياة البرزخية تختلف عن الحياتين الأخريين وما تعلق المردود عليه به هباء منثور ولا وجود له البتة أنظر شرح الطحاوية ص348.

ص: 107

الأموات، والحياة البرزخية الثابتة للشهداء ونحوهم مقيدة لا مطلقة.

وعلى كل فهذا الفارسي لم يفرق بين الحياة وبين الإحساس بالألم والعذاب ولذلك استشكل وأثبت حياة البرزخ للكفار والفساق كما ثبت للشهداء وأمثالهم وزعم أن نفي التصرف في والتدبير عن الميت نفي للحياة يلزم منه نفي الإحساس. وإن أريد أن لهم حياة مساوية للحياة الدنيوية الحسية، وإن حال البرزخ كحال الدنيا، فهذا كذب بحت ومكابرة للعقل والحس بل ولكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (2) وقال جلت قدرته: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (4) والآيات في هذا كثيرة.

وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" وقد تقدم الحديث.5

فأي فائدة لخلط هذا المعترض وتشبيهه مع وجود هذه النصوص؟ وما أظن أنه فعل هذا إلا لقصد الخديعة والتمويه على الجهال أو هو من أصحاب الجهل المركب الذين وصف الله أعمالهم بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (6)

(1) سورة الزمر: رقم الآية 30.

(2)

سورة الرحمن: رقم الآية 26.

(3)

سورة الزمر: رقم الآية 42.

(4)

سورة الأنبياء: رقم الآية 35.

5 رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعن جميع

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

سورة النور: رقم الآية 39.وفي الأصل خطأ في الآية الكريمة حيث كتب الناسخ أو كسراب والصواب ما أثبتناه والله أعلم.

ص: 108

وما نقله عن القاضي في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} يؤيد ما قلناه ويرد على من قال: إن الروح عرض يفنى بفناء البدن.

وأما قوله: وإن أرادوا وقالوا بكرامتهم تصرفاتهم في النشأة الأولى وأما بعد مفارقة الأرواح لا تصرف لهم ولا كرامة وعليهم البيان، فنقول: قد تقدم البيان، والفرق بين التصرف المثبت وهو ما جرت به العادة من أعمال العباد وكسبهم (1) وتقدم الكلام على الكرامة وأنها ليست كما يظنه الجاهلون أنهم ينفعون ويضرون ويتصرفون وتقدم من الأدلة ما فيه الكفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله فلا هادي له.

ومن عجائب جهله أنه يقول: ليس لهم دليل على هذا لا في الكتاب ولا في السنة وأقوال السلف انتهى.

والجاهل يخفى عليه الحق ولو كان واضحا في نفسه.

ثم قال المعترض: من الشبهات التي تدور على ألسنة المنكرين أن العبد لابد له أن لا يستعين بغيره تعالى ففي الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن معناها نخصك بالعبادة والاستعانة فكما يجب على العباد تخصيصه تعالى بالعبادة كذلك يجب عليهم تخصيصه بالاستعانة فلا يعبدوا إلا إياه ولا يستعينوا إلا به (2) تعالى، هكذا زعم هذا المعترض أن هذه شبهة وكذب في ذلك فإن هذا هو الحق الذي نطق به القرآن في مواضع وجاءت به السنة وعلم وجوبه بالضرورة من دين الإسلام وبالفطر المستقيمة، لكن هؤلاء اجتاحتهم

(1) ولعل هنا حذفا -وغيره- أي غير المثبت.

(2)

في الأصل إلا منه ولعل الصواب ما أثبتناه حيث أن الأفصح (تعدية) الاستعانة وما اشتق منه بالباء والله أعلم بالصواب.

ص: 109

الشياطين وصرفتهم عن أصل الفطرة فصاروا في شك وريب نسأل الله الثبات على دينه.

قال المعترض: ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه ذكر منها أن الفاتحة مقروءة على ألسنة العباد تعلما للسلوك والوصول أي ينبغي أن يحمدوا الله ويذكروه بالصفات الجليلة مع الحضور والإخلاص ونفي الخواطر والوساوس مجتهدين في دفعها حتى تندفع بالكلية ولا يبقى في ملاحظتهم إلا الله فحينئذ يستحقون أن يخاطبوا الله ويقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) .

وقصد هذا أن تخصيصه بالاستعانة في حال السلوك والخطاب وعدم وجود السوي وارتفاع الوسائط، ومراده أن في غير تلك الأحوال تباح الاستعانة بغير الله وتجوز فنعوذ بالله من الجهل المعمي.

ويقال لهذا: إن الله تعالى ذم المشركين وكفرهم مع إخلاص الدعاء والاستعانة به في حال ارتقاع الوسائط والسوي لإشراكهم في حال وجود ذلك كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (2) وقال: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (3) ، ويقال هذه الآية دلت على أصلين عظيمين ألا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا به، كما قال تعالى عن شعيب:{ِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (4) وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (5) ، ونحو هذه الآيات التي فيها

(1) سورة الفاتحة: رقم الآية 5.

(2)

سورة الإسراء: رقم الآية 67.

(3)

سورة الزمر: رقم الآية 8.

(4)

سورة هود: رقم الآية 88.

(5)

سورة الرعد: رقم الآية 30.

ص: 110

الجمع بين التوكل والاعتماد والعبادة والإنابة. وإذا كان التوكل والاعتماد في العبادات وغيرها شرطا (1) في حصول الإيمان كما في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (2) .

فالاستعانة به في نيل المطلوب ودفع المرهوب أصل وشرط في حصول الإيمان المطلق لما بينها وبين التوكل من التلازم فتسلم أن الفاتحة فيها التعليم للسلوك والوصول وهذا هو دين الإسلام ومعرفة سلوك الصراط والوصول إلى الله هو أصل الدين الذي يجب التزامه، ومتى جاز للعبد أن يخرج عن هذا السلوك وطلب هذا الوصول في حال من الأحوال؟ حتى يقال: إن هذا مخصوص فإن العبد كلف بطريق السلوك وطلب الوصول إلى الممات كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) ومتى بقي في قلب العبد ملاحظة واستعانة بالوسائط فهو على درجتين إما أن يلاحظ ما جرت به الأسباب العادية مما هو في طاقة الخلق وقدرتهم فالاعتماد على هذا والتعلق به ينقص الإيمان الكامل وتنحط به درجة العبد لكن لا يخرج به عن الإسلام إذا كان أصل اعتماده وتوكله على الله لا على غيره.

وأما ملاحظة السوي والوسائط في غير الأسباب العادية كالذين يلاحظون أرواح الأنبياء والأولياء ويرجونهم ويستمدون منهم هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يجامع أصل الإيمان ولا يطابق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والبراءة من هذا ونفيه هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله وإلى جنته ومرضاته.

وعبارة البيضاوي التي نقل هذا عنه تدل على هذا وتقرره لأنه ذكر أن الله تعالى خوطب بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد ذكر الحقيق بالحمد ووصفه بما تقدم من الصفات التي اختص بها، فلهذا خوطب بذلك أيا من

(1) في الأصل شرط بالرفع والصواب ما أثبتناه حيث أنه خبر كان بالنصب.

(2)

سورة يونس: رقم الآية 84.

(3)

سورة الحجر: رقم الآية 99.

ص: 111

هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ليكون أدل على الاختصاص والترجي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكان المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغائب حاضرا إلى آخر عبارته. وأراد بهذا توجيه الالتفات إلى الخطاب من الغيبة وهو صريح في أن العبد يطلب منه هذا ويجب عليه لأن تخلف المدلول إخلال بهذا الواجب ونقض لهذا العهد.

وقول الجاهل: إن هذا تعليم بطريق السلوك والسلوك مبدأ ومنتهى ففي المبدأ ذكر الله عبادته وطاعته وفي الانتهاء فناء عما سواه وعن فنائه فلم يبقى إلا الله وجميع الأشياء الكونية يردها العارف الواصل إن أراد بهذا الكلام ونحوه. إن هذا خاص بأناس أهل السلوك وأرباب الطرائق، وإن غيرهم من الخلق وسائر المسلمين لا يجب عليهم تخصيصه بالعبادة والاستعانة فهذا جهل يضحك منه العقلاء ولم يقل هذا أحد ممن يعرف ما يخرج من بين شفتيه إلا أن يكون مكذبا متلاعبا. وكلام المفسرين وأهل العلم يرد ما قال هذا المعترض، ويدل على ما قاله المسلمون من وجوب عبادته تعالى وحده ووجوب الاستعانة به وحده في هذه الآية وعلى زعم هذا يقال في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، إن العبادة تخصه تعالى في حال دون حال لأن هذا مقام تعليم لطريق السلوك وفيه فناء عن السوي، وهذا انسلاخ من الدين وتكذيب لنص الكتاب المبين. وأما قوله: فلأن حق العابد أن لا يلاحظ وقت العبادة غير معبوده فالاستعانة لغيره تعالى فيها ممنوعة ولكن لا تدل على أن

(1) وذلك أن مدلول رد الشبهة على زعم المردود عليه (الفارسي) لا يحصل العبد العبادة والاستعانة على الله إلا في حال قراءة الفاتحة لأن هذا مقام السلوك والوصل والترقي الذي يطرح العابد الالتفات إلى غير الله وفي غير هذا المقام لا تكون العبادة والاستعانة خالصتين لله بل يجوز أن يشرك الإنسان مع الله من شاء من الأولياء والأوثان وغير ذلك، ولا شك أن هذا شرك ما بعده شرك ولم يسبق إلى هذا الاعتماد أحد قبله حتى المشركين وعباد القبور، ولقد عمل الشيخ في تفنيد هذه الشبهة عملا جليلا حيث حارب هذه الترهات وقطع دابرها قبل أن يكون لها رواج ولله المنة في تقييض من يذود عن ساحة توحيده بسيفه وقلمه ورحم الله الشيخ وأثابه بالروح والريحان.

ص: 112

الاستعانة ممنوعة مطلقا كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) فيقال: هذا كلام قريب مما قبله إلا أنه خص الاستعانة به تعالى في حال العبادة وعلى كلامه أن في غير العبادة يجوز أن يستعين بغيره ويستمد منه سواه تعالى.

وهذا القول فيه حل لربقة العبودية وخروج عن الأحكام الشرعية ومنع لكتاب الله أن يعمل به إلا في حال دون حال وما رأيت من عباد القبور من بلغ جهله إلى هذه الغاية وتصرف في كلام الله بمقتضى رأيه ومذهبه، وأين هذا عن معنى الحصر والاختصاص المستفاد من تقديم المعمول على العامل وأين هو عن العموم اللفظي الذي اعتبر أهل العلم والتأويل بل تعرفه العامة من المسلمين وتقر به.

وأما قوله:- كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا- فهذا من غباوته فإن التعاون بين المؤمنين لا يدل على أنهم يتعاونون فيما هو من خصائص الربوبية بالقدرة والتأثيرات الباطنية وإنما ذلك خاص بالأسباب العادية والفعال المشاهدة الحسية ومن لم يفرق بين هذا وما قبله فهو ممن طبع الله على قلبه.

وما ذكره من الحصن الحصين من طلب الإعانة إذا انفلتت الدابة ليس هو من جنس الاستعانة الشركية فيما لا يقدر عليه إلا الله بل هو من جنس الأسباب العادية لأنهم حاضروه فخاطبهم من جنس خطاب الحي الحاضر وأين هذا؟ من الاستعانة من أصحاب القبور من الأولياء والمشايخ.

وقال المعترض: وقد يجاب عن هذه الشبهة بأن الاستعانة طلب المعونة وهي بالأسباب التي يسهل بها الفعل وتقرب الفاعل وبالأسباب التي

(1) سورة المائدة: رقم الآية 2.

ص: 113

يتوقف عليها الفعل المسمى بالاستطاعة، فمرجع الاستعانة هنا طلب التوفيق والهداية ولا شك أنهما فعلان لله مختصان به انتهى كلامه.

والجواب: أن هذا الرجل لا يدري ما يقول، فإن عبارته متناقضة، فأولها فيه جعل الاستعانة بالأسباب التي يتوقف عليها الفعل والأسباب التي يسهل الفعل وهذا عام، وفي آخرها قال: ومرجع الاستعانة هنا إلى طلب التوفيق والهداية وهي أخص من الأسباب التي يتوقف عليها الفعل والتي تسهله فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب وليس بين السبب والمسبب تلازم أصلا ومراده بهذا الكلام المختلف أن: التوفيق والهداية مختصان بالله وما عداهما فمستعان به غيره ويستمد ممن سواه تعالى الله عن هذا القول وأي دليل؟ دل على أن المقصود بالآية نوع من الاستعانة خاص دون سائر الأنواع ثم من جهله ساق بعد هذا الكلام عبارة البيضاوي فيها تقسيم المعونة إلى ضرورية وغير ضرورية وهي حجة عليه فإن البيضاوي أدخل جميع الأقسام في الآية وبين أن هداية الصراط المستقيم هي الإعانة المطلوبة وهذا عام في كل ما يستعان به تعالى عليه من أمر الدنيا والآخرة فإن الصراط المستقيم لا يخرج عنه إلا أفعال المغضوب عليهم والضالين فهو لفظ عام يدخل تحته من المقصود والإرادات والأعمال الباطنة والظاهرة والغايات والوسائل كل (1) ما أريد به وجهه تعالى وكان صوابا على المنهاج المحمدي وعبارة البيضاوي ترد قول هذا المعترض وتشهد لما قلناه ولكنه نظر إلى ما فيه من التقسيم فظن أن ذلك حجة له وهو عليه.

وأما قوله: فأن قيل ما معنى الاستمداد والاستعانة من الأنبياء والأولياء قلنا معناه الذي نريد به التوسل بهم إلى الله في المهمات فقط بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه وأتوسل بهذا العبد المقرب المكرم عندك أن تعطيني كذا وكذا بلطفك وكرمك.

(1) وفاعل يدخل (كل ما أريد الخ) .

ص: 114

فيقال لهذا: هذا الكلام ينافي ما قبله وما بعده لأنك صرحت أولا بأنه يستمد منهم ويستعان بهم ويقصدون في الحوائج ويعلمون الغيب ويتصرفون ويدبرون، ولا يصلح تفسير هذا بأن المراد أن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه بهذا العبد ونحو هذا الكلام، فإن الأول صريح في سؤال العباد وليس فيه تعرض لسؤال الله بهم والقولان متنافيان.

فإما أن يكون الرجل مصابا في عقله أو قصد التمويه والمغالطة والشقشقة ترويجا على العوام وهي مما يزري عند ذوي الأفهام، ويقال أيضا: قولك بعد هذه العبارة: أو يقول: يا عبد الله يا ولي الله اشفع لي صريح في منافاة هذا ويطابق الأول من بعض الوجوه ولكنه يخالفه من حيث أنك هنا ذكرت الشفاعة وفي الأول جزمت بالتصريف والتدبير، والشافع لا يكون متصرفا مدبرا وإنما ينال بجاهه عند المتصرف المدبر إذا تبين هذا- وأن الرجل مخلط- فاعلم أن مسألة الله بجاه الخلق نوع ومسألة الخلق مالا يقدر عليه إلا الله نوع آخر. فمسألة الله بجاه عباده منعها أهل العلم ولم يجزها أحد ممن يعتمد به ويقتدى به كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أهل العلم والحديث إلا أن ابن عبد السلام (1) أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقيده بثبوت

(1) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي عز الدين الملقب بسلطان العلماء فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد ولد ونشأ في دمشق وزار بغداد سنة تسع وتسعين وخمسمائة 599هـ فأقام شهرا ثم عاد إلى دمشق فتولى الخطابة والتدريس بزاوية الغزالي ثم الخطابة في الجامع الأموي ولما سلم الصالح إسماعيل بن العادل قلعة (صفد) للإفرنج اختيارا أثر عليه ابن عبد السلام ولم يدع له في الخطبة فغضب عليه وحبسه ثم أطلقه فخرج إلى مصر فولاه صاحب الصالح نجم الدين أيوب القضاء والخطابة ومكنه من الأمر بالمعروف ثم اعتزل ولزم بيته ولما مرض أرسل إليه الملك الظاهر يقول: إن كان في أولادك من يصلح لوظائفك وظفناه فقال: لا، وولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة 577هـ وتوفي بالقاهرة سنة ستين وستمائة هجرية ومن كتبه (التفسير الكبير) و (الإلمام في أدلة الأحكام) و (قواعد الشريعة) و (الفوائد) و (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) و (ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام) و (وبداية السول في تفضيل الرسول) و (الفتاوى) و (الغاية في اختصار النهاية) و (فقه وإرشاد إلى الإجاز في بعض أنواع المجاز) و (في مجاز القرآن) و (مسائل الطريقة) تصوف و (الفرق بين الإسلام والإيمان) و (رسالة مقاصد الرعاية) هـ، الأعلام للزركالي ص.

ص: 115

صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع الله يا محمد أن يرد علي بصري فأمره أن يتوضأ ويصلي ويدعو الله وفي دعائه أسألك بنبيك محمد، قال ابن عبد السلام: إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة.

وجمهور الناس من أهل العلم يقولون: معنى الحديث إن صح: التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وفي غيره، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فليس من هديهم وطريقتهم أن يسألوا الله به، بل لما قحطوا زمن عمر استسقى وتوسل بدعاء العباس كما تقدم، وبالجملة فهذه المسألة نوع ولا يخرج الإنسان عن مسألة الله وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله. كما هو صريح كلام هذا المعترض.

وسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي. ولو قال: يا ولي الله اشفع لي فإن نفس السؤال محرم. وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى: يا والدة الله اشفعي لنا إلى الابن والإله.

وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك. وإذا سألهم معتقدا تأثيرهم من دون الله فهو أكبر وأطم وهو صريح كلام هذا المعترض فيما تقدم لكنه مخاتل موسوس.

وقوله: وأما ما يريد به العوام فمع اعتقاد التأثير ممنوع بل شرك وكذلك السؤال من الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى، وبعض أفعالهم عند زيارة القبور فهو حرام قطعيا. وأما التوسل بالوجه الذي بينً فهو جائز بالأخبار والآثار فيقال: أي فرق بين ما ذكرته من أن أرواح الأولياء تتصرف وتدبر وتعلم الغيب ويستعان بها وبين ما ذكرته عن العوام؟ بأن قلت: إن العوام يعتقدون أنها تفعل وتؤثر بغير إذن الله وأنها مستقلة بالربوبية فهذا لا يقوله أحد ممن يعترف بأن الله رب كل شيء. وإن قصدت أنه يقولون إنها مفوضة وتأثر وتتصرف وتعلم فهذا عين قولك سواء بسواء ولا فرق بينك وبينهم.

ص: 116

وإنما ذكرك اعتقاد العوام هنا مجرد تلبيس، وكل من نظر في كلامك عرف أنه هو الذي نسبته إلى اعتقاد العوام وقوله: وكذلك السؤال عن الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى إن أراد به غير الأسباب العادية فهذا هو الذي فيه النزاع وهو عين كلامه أن أرواح الأولياء تتصرف ويطلب منها قضاء الحاجات ودفع المهمات وهذا مختص بالله وقد زعمه لغيره، وإن أراد به الأسباب العادية تطلب من غيره تعالى كسؤال المخلوق ما يقدر عليه من دفع العدو أو تعليم ما يعلمه من العلم وما في وسعه من الإطعام والصدقة والدعاء ونحو ذلك فهذا لا يمنع منه، والكلام إنما هو في النوع الأول الذي وقع النزاع فيه.

وأما حديث عثمان بن حنيف وحديث ابن الجوزي وحديث أنس فهذه الأحاديث حجة عليه لا له لأنه ليس فيها استمداد من المخلوق والاستغاثة به بل فيها الاستمداد من ولي المدد ومالكه سبحانه.

واستسقاء عمر ومعاوية بالعباس ويزيد حجة لأهل الحق القائلين أنه لا يستسقى بالأموات ولا يستعان بهم لأن بالمدينة وغيرها من الأنبياء والشهداء والسابقين الأولين من هو أفضل من العباس ومن يزيد بن الأسود ولا استسقى بهم أحد زمن الصحابة ولا في القرون المفضلة فدل على أن ذلك ليس من دين أهل الإسلام وأنه من أبطل الباطلين والسنة أولى بالاتباع وأحق، ثم إن هذا المعترض أتى في آخر كلامه بشبهة سامجة تخالف ما تقدم فقال: إذا تقرر أن أعمالنا تعرض عليهم بواسطة الملائكة أو بواسطتهم فيجوز أن يكون نداؤنا لهم والتوسل بهم يعرض عليهم فيدعوا لنا بالخير ويشفعوا فيشفعوا، والجواب أن يقال: أين الداعي والشافع؟ من المدبر المتصرف؟ وقد تقدم لك وتكرر أنك تقول: بأنهم يدبرون ويتصرفون ويمدون فما بالك رجعت القهقرة وجعلتهم داعين شافعين، والشفيع إنما يشفع بجاهه وكرامته عند من يفعل ولا فعل له هو بنفسه فلا أدري أي المذهبين تختار؟ وأي الطريقتين أرجح عندك؟.

ص: 117

أما الطريقة الأولى فطريقة من أشرك في الربوبية وزعم أن ثم مدبرين وفاعلين ومتصرفين.

والطريقة الثانية فطريقة مشركي العرب ومن ضاهاهم وشابههم من عباد القبور الذين يعتقدون أنهم إذا سألوهم وتعلقوا بهم (1) نالوا بجاههم وشفاعتهم، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) وبعض الجهال يظن أنه إذا قال: أنا أريد شفاعتهم وجاههم وأعتقد أن الله هو المؤثر أن ينجوا بهذا من الشرك ويكون مسلما وقد عرفت مما تقدم أن هذا هو الذي كانت عليه العرب في زمانه صلى الله عليه وسلم وأنهم لم يعتقدوا التدبير والتأثير لغر الله تعالى، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (4) والآيات في هذا كثيرة فيها أنهم يعترفون لله بالتدبير والتصريف ولكنهم قصدوا من آلهتهم مجرد الجاه والشفاعة وقول هذا قد علم مما ذكرنا أن قول القائل: يا شيخ عبد القادر شيئا لله استمداد منه جائر. فيقال له: تقدم لك أنك تقول: إن الذي نريد التوسل بهم إلى الله بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بعبدك وتقدم قولك: بأنهم يدعون لنا ويشفعون. وهذه العبارة الأخيرة صريحة في طلب عبد القادر بنفسه وهذا هو الذي تريدون وهو الذي انطوت عليه

(1) في أصل المخطوط (عليهم) والأفصح تعدية فعل تعلق بالباء لا بعلى وإن جاز نيابة حرف الجر بعضها عن بعض والأحسن استعمال الأفصح والله أعلم.

(2)

سورة يونس: رقم الآية 18.

(3)

سورة الزمر: رقم الآية 3.

(4)

سورة يونس: رقم الآية 31.

ص: 118

الضمائر ولكنكم تارة تصرحون وتارة تكتمون وتظهرون عيره وعلى كل فأنتم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك كما نعت الله بذلك إخوانكم الأولين.

وأما حكاية اليافعي في تكملة روض الرياحين (1) أن رجلا استغاث بعبد القادر فأغيث ورأى عند ذلك رجلا عليه ثياب شديدة البياض ونحو هذا الكلام فهذا ليس من أدلة أهل الإسلام ولا يثبت به بإجماعهم حكم من الأحكام ويحتمل أن هذا المستغيث رأى خيالا أو جانا فتوهمه عبد القادر وليس كذلك إلا هذا (2) إن صح النقل ولا يمكن تصحيح مثل هذه الحكايات، ولو لم يكن من الموانع إلا جهالة الراوي لدين الإسلام وعدم معرفته بصحيح الأحكام، والحكاية عن الشيخ عبد القادر أنه يقول: من استغاث بي في كربة ومن ناداني باسمي في شدة فرجت عنه ومن توسل بي إلى الله في حاجة قضية له ومن صلى ركعتين ثم يخطوا إلى جهة العراق إحدى عشر خطوة ويذكر اسمي ويذكر حاجته فإنها تقضى (3) .

وهذا الكلام البشع الخبيث نسبه إلى هذا الشيخ الموحد خطأ عظيم وزلل وخيم وقد ابتلي رحمه الله تعالى بمن يعتقد فيه نوعا من الإلهية ويجعله ندا لرب العالمين كما ابتلي بهذا علي بن أبي طالب وابنه الحسين وغيرهم من سادات المؤمنين، وكل من عرف عبد القادر ووقف على كلامه الذي نقله الثقات عنه يجزم ببراءته من هذا وسلامته من هذه الشركيات والخرافات التي ينزه عنها العاقل فضلا عن العالم الفاضل.

وعند النصارى وأشباههم من هذه الحكايات ما يملأ الدفاتر وكانت العرب في الجاهلية تعج على عبادة اللات والعزى ومناة ونحو ذلك بمثل هذه الحكايات الضالة والأقاويل الباطلة بل ربما سمع بعضهم الخطاب من نفس

(1) في أصل المخطوط (وأن رجلا) ولعل الصواب بدون الواو.

(2)

وفي أصل المخطوط (وليس كذلك هذا بدون الاستثناء) والصواب والله أعلم ما أثبتناه حيث أن تركيب الكلام ومعناه ركيل إلا بالاستثناء.

(3)

في الأصل (فإنه) والصحيح والله أعلم ما سجلناه.

ص: 119

معبوده: قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (1) وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (2) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (4) .

وقد خرج الطبراني بسنده أنه كان بالمدينة منافق يؤذي المسلمين فقالوا قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل"، فمنع من إطلاق هذا اللفظ حتى في الأسباب العادية سدا للذريعة الشركية وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ويروى عن أبي عبد الله القرشي أحد مشايخ الطريقة أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وعن ذي النون استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ولعبد القادر في كتابه (فتوح الغيب) ما هو قريب من هذا الكلام وهذه هي حال أولياء الله وعباده الصالحين يأمرون الخلق بما يوجب صرف قلوبهم ووجوههم إلى الله وحده لا شريك له والإنابة إليه والاعتماد عليه، كما قال عن إمامهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (5) وقال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (6) فكيف يقول غير الرسول صلى الله عليه وسلم استغيثوا بي ومن استغاث

(1) سورة الجاثية: رقم الآية 18.

(2)

سورة الأعراف: رقم الآية 3.

(3)

سورة الأنعام: رقم الآية 155.

(4)

سورة طه: الآية 123-124.

(5)

سورة الشعراء: الآية 75-81.

(6)

سورة الجن: رقم الآية 21.

ص: 120

بي فرجت عنه سبحان الله ما أجهل أعداء الله وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (1)، وتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص وأن العباد لا يرغبون إلا إليه وفي الحديث:"من لم يسأل الله يغضب عليه"(2) وفيه من حديث ابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"(3)، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (4) .

فلأي شيء يستغاث بغيره؟ ألكون غيره أعلم وأرحم وأحكم ولماذا؟ تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق وصلى الله على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا غفر الله لكاتبها ولمؤلفها ولوالديهما والمسلمين آمين.

الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات الطيبات وتزداد بشكره العطايا والبركات وتنال الرغبات والخيرات وتدفع بالالتجاء إليه البليات والمضرات لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا به لا إله إلا هو رب الأرض والسموات وما بينهما ورب البريات.

(1) سورة الشرح: الآية 7-8.

(2)

رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة مرفوعا. .

(3)

رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

(4)

سورة البقرة: رقم الآية 186.

ص: 121