المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول: حقيقة الإيمان - شرح منظومة الإيمان

[عصام البشير المراكشي]

الفصل: ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان

(وأسأل الرحمان واسع الكرم) جل جلاله أن يمن علي وعلى والديَّ وعلى أهل بيتي ومشايخي وإخواني من أهل السنة والجماعة وعلى كافة المؤمنين الموحدين، بشيء (من الثواب) الجزيل (والهبات) الوافرة (والنعم) المستديمة، إنه سبحانه وتعالى أكرم مسؤول، وأرجى مأمول، لا تغيض بحارَ خزائنِه نفقتُه، ولا تضيقُ بالسائل المضطرِّ مغفرتُه.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

‌الباب الأول: حقيقة الإيمان

الفصل الأول: تعريفُ الإيمان لغةً

قلت في النظم:

في اللغةِ الإيمانُ كالإقرارِ

وكونُه التصديقَ بالأخبارِ

عندَ المُحققينَ لا يُسَلمُ

لأوجهٍ من الفُروقِ تُعلمُ

(في اللغة) متعلقٌ بالإيمان (الإيمانُ) مبتدأ خبره (كالإقرار) الكاف للتشبيه، وهذا يفيد التغايُرَ بينَ مُسمَّيَيِ الإيمانِ والإقرارِ، إذ الأصل أن المشبَّهَ ليس في قوةِ المشبهِ به: وقد يُعكس في التشبيهِ المقلوبِ، وفي الحالتين معا فهما مختلفان إجمالا، وإن اتفقا في بعض الأمورِ، فأنت لا تشبِّهُ الشيءَ بما هو مرادف له. وسيأتي كلام شيخ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمه الله في هذه المسألة، بحول الله تعالى.

ص: 21

(وكونُه) مبتدأ، والضمير عائد على الإيمان اسم الكون و (التصديق) خبره منصوب، وهو مصدر صدَّق يصدِّق إذا نسبه إلى الصدق و (بالأخبار) متعلق بالتصديق، وهو جمع خبر، والخبرُ – وهو قَسيم الإنشاء – هو ما احتمل الصدقَ والكذبَ لذاته، أي لغير قرينة خارجية، فبعض كلام الله تعالى خبر مع أنه لا يحتملُ غيرَ الصدق، ولكن ذلك لقرينة خارجية وهي الجزمُ بصدقِ المتكلِّم به (عند المحققين) أي العلماء المدققين في الفهم والتمحيص، الغائصين وراء دُرَرِ المعاني (لا يسلم) به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ:"كونه"(لأوجه) متعلق بلا يسلم (من الفروق) اللفظية والمعنوية بين الإيمان والتصديق (تعلم) لمن تأمل هذه القضية بعيدا عن التعصب لما دَرَج عليه المتأخرون من اللغويين والمتكلمين من الترادف بين اللفظتين، حتى كاد أن يكون إجماعا لديهم.

وحاصل هذا المبحث أن الإيمانَ في اللغة مصدرُ آمن يُؤمِنُ إيمانا فهو مؤمن، قال الجوهري: أصل آمن أأمن بهمزتين لُيِّنت الثانية. واشتقاقه من الأمن، كما في القاموس (1) وغيره، وأصل الأمن كما ذكر الراغب: طمأنينة النفس وزوال الخوف (2) . قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول:» فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة. وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديقُ والانقياد « (3) . قال الزمخشري في الكشاف:» الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة « (4) .

(1) - القاموس المحيط: 1060.

(2)

- مفردات ألفاظ القرآن: 90.

(3)

- الصارم المسلول: 519.

(4)

- الكشاف: 1/47.

ص: 22

هذا عن الاشتقاق اللغوي للفظة الإيمان، أما معناه في اللغة، فاختلفوا فيه على أقوال، منها ما ذكره الفيروزأبادي:» هو الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة « (1) ، ولعله لاحظ المعنى الاصطلاحي أيضا. ومنها الطمأنينة والإقرار. لكن أشهرها هو التصديق، قال الألوسي:» والإيمان في اللغة التصديق أي الإذعان لِحُكمِ المُخبِر وقَبولُه وجعله صادقا « (2) . ولعل الأصح أن يقول» ونسبته إلى الصدق «بدل» وجعله صادقا «إذ المخبر إما صادق وإما كاذب في نفس الأمر، لا بجعل جاعل، والله أعلم. وتأمل في هذا التعريف الذي ذكره الألوسي، كيف أنه جعل التصديق شاملا للإذعان والقبول!

بل نقل الزَّبيدي الاتفاقَ على أنه التصديق فقال:» الإيمان هو التصديق وهو الذي جزم به الزمخشري في الأساس واتفق عليه أهلُ العلم من اللغويين وغيرهم، وقال السعد رحمه الله تعالى: إنه حقيقة « (3) ، أي ليس مجازا.

ورغم شهرة تعريف الإيمان لغة بالتصديق، فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية نظرا في هذه المسألة، ذكره في كتاب الإيمان. وحاصله أن هناك فرقا بين الإيمان والتصديق لأوجه (4) :

الوجه الأول: أن بينَهما فرقا من جهة التعدي، وهو فرق في اللفظ. وذلك أنه يقال للمخبر: صدَّقَه، ولا يُقال آمَنَه بل آمن به أو آمَن له. كما قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} وقال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} وقال فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إلى غيرها من الآيات. فالصدق يتعدى بنفسه بخلاف الإيمان، فلا يقال آمنته، إلا من الأمان الذي هو ضدُّ الإخافة.

(1) - القاموس: 1060.

(2)

- روح المعاني: 1/110.

(3)

-تاج العروس:.

(4)

-مجموع الفتاوى: 7/290 و 7/530 (بتصرف واختصار) .

ص: 23

فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا. فالجواب أن اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعُف عملُه، إمَّا بتأخيره أو بكونه اسمَ فاعلٍ أو مَصدرا، أو باجتماعهما، فيقال فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه، ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل، هو عابد لربه، متق لربه، خائف لربه، كما أنه إذا ذكرتَ الفعل وأخرتَه، تُقوِّيه باللام كقوله:{وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وقوله {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} مع أنك تقول: يرْهَب ربه ويعبر رُؤياه.

الوجه الثاني: أن لفظَ الإيمانِ ليس مُرادفا للفظ التصديق في المعنى، فإن كلَّ مُخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، وأما لفظ الإيمان فلا يُستعملُ إلا في الخبر عن غائبٍ، وذلك أنه مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبرٍ يُؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع.

الوجه الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابَلْ بالتكذيب كلفظ التصديق، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادقٌ لكن لا أتبعك، بل أعاديكَ وأُبْغِضُك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفرُه أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، عُلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط.

الوجه الرابع: أن الإيمانَ في اللغة مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف، فهو متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدل عليه الاستعمالُ والاشتقاق، أما التصديق فلا يتضمن شيئا من ذلك.

ص: 24

فهذه الأوجُهُ الأربعة تبطل دعوى الترادفِ بين لفظي الإيمان والتصديق. وعلى فرض أنه مرادف للتصديق فإنه تصديقٌ وأمنٌ أو تصديق وطمأنينة، وهو متضمن للالتزام بالمؤمن به سواء كان خبرا أو إنشاء، بخلاف لفظ التصديق المجرَّد، الذي هو عبارة عن حكمٍ ذهني بإيقاعِ النسبةِ أو انتزاعها، كما يزعُمه المتكلمون (1) .

(1) -الإدراك إن كان مع حكم يسمى تصديقا عند المناطقة والمتكلمين، وهذا الإدراك متضمن لتصور الطرفين وتصور النسبة، ثم الحكم بإيقاع النسبة أو انتزاعها. انظر البناني على المحلي على جمع الجوامع: 1/148.

ص: 25

وعلى تعريفِ المتكلمين للتصديق فإنه لا يمكن أن يكونَ إلا بالقلب أو اللسان، وهذا معترض بما ثبت في السنةِ وأقوالِ السلفِ من تسمية الأفعال تصديقا، كما جاء في الحديث:» إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينِ النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كلَّه أو يكذبه « (1) . وقال الحسن البصري:» ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وَقَر في القلب وصدَّقَتْه الأعمال « (2) . وروى محمد بن نصر المروزي أن عبدَ الملكِ بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل، فأجابه:» سألتَ عن الإيمان، فالإيمانُ هو التصديق، أن يصدق العبد بالله وملائكته وما أنزل الله من كتاب وما أرسل من رسول، وباليوم الآخر. وسألتَ عن التصديق، والتصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرَّط فيه عرف أنه أذنب واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه، فذلك هو التصديق

« (3) . قال شيخ الإسلام رحمه الله:» وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف، أنهم يجعلون العمل مصدقا للقول « (4) .

(1) - أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان-باب زنا الجوارح دون الفرج، برقم: 6243 (ص1202) ، ومسلم في كتاب القدر، برقم 2657 (ص1066) .

(2)

- انظر مجموع الفتاوى: 7/294.

(3)

- نفس المرجع: 7/294.

(4)

- نفس المرجع: 7/296.

ص: 26

ونتيجة هذا المبحث، أن الإيمان في اللغة - عند المحققين من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ليس مرادفا للتصديق، وأنه على فرض الترادف بينهما فليس المقصودُ بالتصديق مجردَ الحكمِ الذهني بنسبةِ المحمولِ للموضوع، كما هو الأمر في اصطلاح أهل المنطق والكلام (1) ، ولكنه التصديقُ في عُرف السلف، الشاملُ للالتزام العملي الذي يقتضيه تمامُ الإذعان.

وعليه، فإن أصلحَ تعريف للإيمان من جهة اللغة هو الإقرارُ لا التصديق، والإقرار يتضمن أمرين اثنين هما: قول القلب وهو التصديق وعمل القلب وهو الانقياد، أي تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر (2) . قال شيخ الإسلام عليه رحمة الله:»

فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقربَ من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقا « (3)

الفصل الثاني: تعريف الإيمان شرعا عند أهل السنة والجماعة:

قلت في النظم:

في الاصطلاح عند من قد سلفا

بالقول والفعل لديهم عُرفا

والبعضُ بالسنة زاد اعتصما

وزاد الاعتقادَ بعضُ العلما

وبعضُهم بنية قد عَبروا

وأول المُعرفات أظهر

الشرح:

(في الاصطلاح) أي في الشرع، متعلقٌ بعُرف (عند مَن قد سلفا) أي عند السلف الصالح، رضوان الله عليهم، والألفُ لإطلاق القافية (بالقول) أي: قولِ القلب وقول اللسان (والفعل) أي: عمل القلب وعمل الجوارح (لديهم) أي لدى السلفِ (عرِّفا) بتشديد الراء والبناء للمجهول، والألفُ للإطلاق. والمعنى أن السلف عَرَّفوا الإيمان في الشرع بأنه قول وعمل، وستأتي النقول بذلك عنهم.

(1) - أي أغلبهم، وقد جعل بعضهم التصديق شاملا للإذعان والقبول، مثل السعد في شرح العقائد النسفية: 423 كما في الجامع في طلب العلم الشريف:2/536، والبيجوري في شرح الجوهرة:67.

(2)

-.مجموع الفتاوى: 7/638.

(3)

- مجموع الفتاوى: 7/291.

ص: 27

(وزاد) في تعريف الإيمان (الاعتقادَ) القلبيَّ (بعضُ العلما) ء من أهل السنة، وهو مقصور للوزن، (والبعض) من أهل الحق (بالسنة زاد اعتصما) الألفُ مُبدلةٌ من نونِ التوكيد المُخَففة، والمعنى أن بعض السلفِ زاد في تعريف الإيمان ركنَ الاعتصامِ بالسنة. (وبعضهم بنية قد عبروا) أي أن بعضَ السلفِ زاد النية في تعريف الإيمان، وهذه الأقوالُ حقٌّ كلُّها، ولا تعارضَ بينها عند التمحيص، وسيأتي توجيهُها من كلام شيخ الإسلام (و) لكن (أول المعرفات) المذكورة وهو أن الإيمان قول وعمل (أظهرُ) من غيره من حيثُ موافقةُ الدليل، وأشهرُ عند سلف الأمة رضوان الله عليهم.

وبيان ذلك أن أئمةَ السلف قد نقلوا فيما جمعوه وألَّفوه إجماعات الصحابة والتابعينَ ومَن بعدهم على أن الإيمان قول وعمل. وهذه الإجماعاتُ خير دليل على أنَّ هذا المعنى الشرعي للفظ الإيمان قد تواتر واشتهر في خطاب الشرع عند سلف هذه الأمة الذين هم نَقَلةُ الكتاب والسنة إلى مَن بعدهم، وأعرفُ الناس بمراد الشرع.

يقول الإمام البخاريُّ كما نقله عنه اللالكائي في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة":» كتبتُ عن ألفِ نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل « (1) .

وعزا اللالكائي هذا القول أيضا إلى سبعة من الصحابة، وثمانية من التابعين، وعدد كبير من الفقهاء يبلغ الثلاثين (2) . ثم أورد جملة صالحة من ذلك بأسانيده، كما هو دَيْدَنُه في كتابه الحافل هذا.

(1) - اللالكائي: 5/959.

(2)

- اللالكائي: 4/913.

ص: 28

لذلك قال الحافظ في الفتح:» وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين وكلِّ من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين. وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة « (1) . وقال أيضا:» وما نقل عن السلف – أي من أن الإيمان قول وعمل – صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعيُّ وابنُ جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم « (2) .

ويقول الإمام المزني في عقيدته التي ذَكر في آخرها أن ما فيها "اجتمع عليه الماضون الأولون من أئمة الهدى":» والإيمان قول وعمل، وهما شيئان ونِظامان وقرينان لا يُفرَّق بينهما « (3) . ويقول إماما أهل الحديث أبو زرعةَ وأبوحاتمٍ رحمهما الله تعالى:» أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص « (4) . كما نقل ابنُ عبد البر في التمهيد الإجماعَ على أن الإيمان قول وعمل (5) .

والحق أن تتبُّعَ مثلَ هذه النقولِ عن السلف أمر طويل ليس المقصودُ استقصاءَه، وإنما المرادُ الإشارة إلى شهرة هذا التعريف، بل تواترِه، كما هو واضح.

هذا وقد نقل عن السلف أقوالٌ أخرى في تعريف الإيمان أشرتُ إليها في النظم، من ذلك قولُ البعض إنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (6) . ومنهم من قال إنه قول وعمل ونية كما نقله اللالكائي عن الإمام الشافعي، قال:» وكان الإجماع من الصحابة والتابعين مِن بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر « (7) .

(1) - الفتح: 1/65.

(2)

- الفتح: 1/64.

(3)

- اجتماع الجيوش الإسلامية: 83.

(4)

- اجتماع الجيوش الإسلامية: 121.

(5)

-التمهيد: 9/248.

(6)

-مجموع الفتاوى: 7/170.

(7)

-اللالكائي: 5/957.

ص: 29

ومنهم من زاد في تعريف الإيمان الاعتصامَ بالسنة. قال الأوزاعي:» لا يستقيم الإيمان إلا بالقول ولا القول إلا بالعمل ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة « (1) . وأصرحُ منه قولُ سهل التستري لما سئل عن الإيمان ما هو، فقال:» قول وعمل ونية وسنة « (2) .

والحقُّ أن هذه الأقوالَ كلَّها صحيحة ولا تعارض بينها عند التحقيق (3) . فمن قال منهم إنه قول وعمل - وهذا هو المشهور عندهم كما سلف بيانُه - أراد أنه قول باللسان وبالقلب وعمل بالقلب وبالجوارح، وذلك لأن قول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، قال تعالى:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ، وكذلك فإن عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يقبلُها الله. ومَن زاد الاعتقاد في التعريف خاف أن لا يُفهم من لفظ القول إلا القولُ الظاهر، فزاد الاعتقاد بالقلب. ومن زاد النية قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله إلا باتباع السنة، والأولون حين لم يذكروا اتباع السنة فلأنهم أرادوا من الأقوال والأعمال ما كان مشروعا أي موافقا للسنة.

ثم هاهنا مسألة يمكن إثارتها في هذا الموضع وهي: كيف يكون المعنى الاصطلاحي للفظةِ الإيمان مخالفا لمعناه اللغويِّ؟ فلْيُعلمْ بأنه اختُلف في إطلاق الألفاظ الشرعية كالصلاة والإيمان وغيرها على معانيها، على أقوال ثلاثة مشهورة:

أن الشارع نَقَلَها عن مسماها في اللغة إلى مسمى آخر.

أن الشارع تصرَّف فيها تصرُّف أهلِ العرف، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة.

(1) -اللالكائي: 5/956.

(2)

-مجموع الفتاوى: 7/170.

(3)

-انظر مجموع الفتاوى: 7/170-171.

ص: 30

أن الشارع لم ينقلها ولم يغيِّرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة (1) . وهذا القول الثالث هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدل عليه بأدلة متعددة وطويلة (2) .

والمسألة تبحث في علم أصول الفقه، فلتنظر تفاصيلها هناك (3) .

وإذا علم هذا، فإن الألفاظ الموجودة في الكتاب أو السنة يُنظر في بيان المراد بها إلى مقصود الشارع لا إلى اللغة أو العُرف الحادث. ألا ترى أننا إذا قرأنا في الكتاب أو السنة أمرا بإقامة الصلاة فإن أذهاننا تنصرف إلى وجوب إقامة تلك العبادة المخصوصة التي تبدأ بالتكبير وتختم بالتسليم؟ ونفس الشيء يقال بالنسبة لألفاظ أخرى كالزكاة والصوم والحج وغيرها.

ولفظ الإيمان - ومثله ألفاظ الإسلام والنفاق والكفر والفسق وغيرها - من هذا النوع، فلا ينبغي أن يؤخذ تعريفُها إلا من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:» فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّنَ المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يُحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك، فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنه شافٍ كاف « (4) .

وسأذكر- بحول الله عز وجل أدلةَ كون الإيمان قولا وعملا من الكتاب والسنة وأقوال السلف، عند تفصيل الكلام على أركان الإيمان فيما سيأتي والله أعلم.

الكلام على قول القلب:

قلت في النظم:

فالقول قول القلب أي تصديقُه

بما عن الرسول جا توثيقه

والجزم فيه أعظم المطلوب

فنقضُه بالشك والتكذيب

الشرح:

(1) - حاشية ابن الحاج على شرح ميارة: 289.

(2)

- مجموع الفتاوى: 7/298.

(3)

- إرشاد الفحول: 49 وشرح المحلي على جمع الجوامع: 1/302.

(4)

- مجموع الفتاوى: 7/287.

ص: 31

(فالقول) الذي هو ركن في الإيمان الشرعي - كما سبق بيانه – نوعان، الأول منهما هو (قول القلب أي تصديقه) وإيقانه الجازم (بـ) كل (ما عن الرسول) محمد صلى الله عليه وسلم (جا) ءَ، مقصور للوزن (توثيقه) بنصوص الكتاب الجلية، والأحاديث النبوية السَّنِيَّة.

(والجزم) أي: القطعُ والتيقن بأي طريق حصل (فيه أعظم المطلوب) أي أول ما يطلب. لذلك (فنقضه) يكون (بالشك) وهو التردد بين أمرين دون ترجيح أحدهما (والتكذيب) وهو نقيض التصديق.

واعلم بأن هذا الركن العظيم – أعني تصديقَ القلب – قد تظافرت أدلة الكتاب والسنة على اعتباره وبيان خطورته، كما أجمع الناس – باستثناء الكرامية – على كونه ركنا في الإيمان.

قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} . قال مجاهد: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أصحابُ القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون هذا ما أعطيتمونا فعمِلنا فيه بما أمرتمونا. قال ابنُ كثير في تفسيره:» وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به والرسولُ صلى الله عليه وسلم أَوْلى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله « (1) .

(1) - تفسير ابن كثير: 4/50.

ص: 32

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} ، أي: لم يشُكُّوا، مِن رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة. قال العلامة الألوسي::» وجعل عدمَ الارتيابِ متراخيا عن الإيمان (أي: باستعمال حرف "ثم") مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفيِ الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل: آمنوا ثم لم يَعْترِهم ما يعتري الضعفاءَ بعد حين، وهذا لا يدل على أنَّهم كانوا مرتابين أوَّلًا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أوَّلًا لم يحدُث لهم ارتياب ثانيا « (1) .

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} قال الألوسي:» أي: من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى « (2) .

وجاء في حديث الدرجات العلى قوله عليه الصلاة والسلام:» بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين « (3) . والشاهد منه واضح.

ومن حديث أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:»

أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاك فيهما إلا دخل الجنة «وفي رواية:»

لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة «. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنَعليه فقال:»

من لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة «الحديث (4) .

(1) - روح المعاني: 26/168 وما بين القوسين من زيادتي.

(2)

- روح المعاني: 7/198.

(3)

- أخرجه مسلم في الإيمان- باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، برقم: 27 (ص45) .

(4)

- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، برقم:31 (ص46) .

ص: 33

ويجدر التنبيه إلى أن الشك المذكور في هذه الأحاديث، والذي هو ناقض لركن التصديق القلبي إنما هو التردد المستقر في القلب، وهذا من سيما المنافقين، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} . أما بعض الوساوس التي يلقيها الشيطان لابن آدم ليزعزعه عن إيقانه، ويشككه في مسلمات دينه، فليست – إن شاء الله تعالى – مما يضر بالإيمان إذا تصدى لها المرء بالعلاج النبوي الناجع، وهو ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته «وفي رواية:» فليقل: آمنت بالله « (1) .

قال أبو زميل: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: ما شيءٌ أجدُه في نفسي – يعني شيئا من شك – فقال لي:» إذا وجدت في نفسك شيئا فقل: هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم « (2) .

ثم إن المقصود بالشك في هذا المقام هو معناه اللغوي وهو خلاف اليقين (3) ، لا معناه الاصطلاحي وهو قسيم الوهم والظن، كما يذكره الأصوليون، وقد عقده صاحب مراقي السعود بقوله:

والوهم والظن وشك ما احتملْ

... لراجحٍ أو ضدِّه أو ما اعتدل (4) .

(1) - أخرجه البخاري في بدء الخلق، برقم: 3276 (627)، ومسلم في الإيمان برقم: 134 (ص78) ، والرواية الأخرى عند أبي داود في السنة-باب في الجهمية، برقم: 4721 (2/417) .

(2)

- رواه أبو داود في كتاب الأدب- باب في رد الوسوسة برقم:5110 (2/500)، وذكره الألباني في صحيح الكلم الطيب:57.

(3)

- القاموس المحيط: 850.

(4)

- نشر البنود: 1/62 والمحلي على جمع الجوامع: 1/154.

ص: 34

واعلم أن أرباب المقالات نقلوا ما يفيد التفريق بين التصديق والمعرفة. فنقل ابن أبي العز الحنفي عن الجهم بن صفوان: أن الإيمان عنده هو المعرفة، وعن أبي منصور الماتريدي أنه عنده هو التصديق (1) . وكذلك الإيجي قال بعد أن ذكر أن الإيمان عنده هو التصديق:» وقيل هو المعرفة. فقوم: بالله، وقوم: بالله وبما جاءت به الرسل « (2) . وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة في كتاب الإيمان، فلتنظر هناك (3) . وحاصله عُسْرُ التفريق بين معرفة القلب وبين التصديق القلبي المجرد عن الانقياد، كما يزعمه ابن كُلاب والأشعري وغيرهما. والله أعلم.

ب- الكلام على قول اللسان:

قلت في النظم:

قول اللسان نطق غير الأبكم

بكِلْمة الشهادتين فافهم

وهل يقوم غيرها مقامها؟

أم لا يساوي غيرها أحكامها؟

الشرح:

(قول اللسان) الذي هو الركن الثاني من أركان الإيمان كما سبق بيانه، هو (نطق غيرِ) العاجز عن الكلام مثل (الأبكم) وهو الأخرس (بكِلْمة) بتسكين اللام، لغة في الكَلِمة بكسرها (الشهادتين) والمقصود كلمة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله (فافهم) تكملة للبيت.

(وهل) وفائدةُ الاستفهام الإشارة إلى الخلاف الوارد في هذه المسألة (يقوم غيرها) من الأقوال والأعمال (مقامها) في ثبوت حكم الإسلام وعصمة الدم والمال، وغير ذلك، (أم لا يساوي غيرها أحكامها) التي جعلها لها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم؟

(1) - شرح العقيدة الطحاوية: 333.

(2)

- المواقف: 384. والمعنى: قال قوم: هو المعرفة بالله، وقال قوم آخرون: هو المعرفة بالله وبما جاءت به الرسل.

(3)

- مجموع الفتاوى: 7/395-400 وانظر التسعينية من الوجه 18 إلى الوجه 22.

ص: 35

والحق أن الكلام على هذه الكلمة العظيمة – أعني كلمةَ لا إله إلا الله – أطولُ وأعظم من أن أحيط به في هذه الأسطر، وإلا خرجتُ عن لب الموضوع، وجوهر المقصود. فإن كلمة لا إله إلا الله هي أساس دين الإسلام، وركيزة دعوة المرسلين، وبها كُلِّف الخلائق أولا، كما قال تعالى:{وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي} ، أي لآمرهم بإفرادي بالعبادة، وهذا هو مدلول كلمة لا إله إلا الله.

وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فتأملْ كيفَ اجتمعتْ شهادة رب الأرباب جل ذكره، وشهادة الملائكة وهم العباد المكرمون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وشهادة أولي العلم وهم ورثة الأنبياء والموقعون عن رب العالمين، على أجَلِّ مشهودٍ عليه وأعظمِه وهو: لا إله إلا الله.

وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} ، فانظر كيف أكد الله جل ذكره الكلمةَ الأولى التي تثبت وحدانية الإله، بالكلمة الثانية – أي كلمة الإخلاص – المتضمنة من المعاني ما ليس في الأولى (1) .

وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابُهم على الله تعالى « (2) .

وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان « (3) .

(1) - انظر شرح الطحاوية: 109.

(2)

- سبق تخريجه.

(3)

- البخاري في الإيمان، برقم:8 (ص25)، ومسلم في الإيمان برقم: 16 (ص40) .

ص: 36

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم::» لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبُّ إلي مما طلعت عليه الشمس « (1) .

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مِرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيلَ « (2) . فانظر كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم كلمةَ الإخلاص أول الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، والأمرَ الذي يعصِمُ دم ومالَ صاحبِه، وأحب أنواع الذكر وأعظمها (3) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.

بقي أن أتكلم على كلمة "لا إله إلا الله" من أوجُه لغوية ثلاثة ضرورية، لفهم هذه الكلمة ومقتضياتها فهْمًا شاملا، فأقول على وجه الاختصار:

الوجه الأول: معنى كلمة "إله":

قال الجوهري في الصحاح:» ألِهَ – بالفتح – إلاهة، أي عبد عبادة، ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما:{وَيَذَرَكَ وَإلَهَتَكَ} بكسر الهمزة، قال وعبادتك، وكان يقول: إن فرعون كان يعبد في الأرض، ومنه قولُنا "الله" وأصله:"إله" على فعال بمعنى مفعول أي معبود، كقولنا: إمام، فعال: لأنه مفعول أي مؤتم به « (4) .

الوجه الثاني: تقدير الخبر:

اعلم بأن أداة "لا" نافية للجنس تعمل عمل إن، وتدخُل على النكرات. قال ابنُ مالك في فصل "لا التي لنفي الجنس" من الألفية:

عملَ إنَّ اجْعلْ لِلا في نكرة

(1) - أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، برقم: 2695 (1081) .

(2)

- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات-باب فضل التهليل، برقم: 6404 (ص1229) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، برقم: 2693 (ص1081) .

(3)

- ورد ذلك صريحا في حديث جابر عند الترمذي.

(4)

- الصحاح للجوهري: 6/2223 مادة: أله.

ص: 37

فنحتاج إذن إلى تقديرِ خبرِها لأنه غيرُ مذكور في هذه الكلمة. وقد قدره البعض: "موجود" أو "كائن" وهو خطأ محض، لأن الكتاب والسنة ومشاهدة الواقع تمنع أن ينصَبَّ النفيُ على وجود المعبودات غير الله سبحانه وتعالى. فهذه المعبودات موجودة، كما قال تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} ، وغيرها من الآيات. وإنما النفي في كلمة الإخلاص مُنصبٌّ على استحقاق المعبودات غير الله تعالى أن تقصد بالعبادة. فوجب تقدير الخبر:"حق". ويكون معنى كلمة "لا إله إلا الله" هو "لا معبودَ حقٌّ إلا الله"، أي: أن الله هو المعبود الحق وأن ما سواه من المعبودات باطل.

الوجه الثالث: دلالة النفي والإثبات:

اتفق البلاغيون على أن "النفي والاستثناء" في مثلِ "لا عالمَ إلا زيد" أو "ما قام إلا عمرو" يفيد معنى الحصر (1)، أي: حصر العلم في زيد في المثال الأول، وحصر القيام في عمرو في المثال الثاني. وهذه الصيغة تدل – عند جماهير الأصوليين – بالمنطوق على نفي العلم عن غير زيد والقيام عن غير عمرو، وبالمفهوم على إثبات العلم لزيد والقيام لعمرو. وفي هذا نقاش عند الأصوليين (2) . فيكون معنى كلمة "لا إله إلا الله" هو حصر استحقاق العبادة في الله عز وجل. فلا يكون المرء مُوحِّدا إلا عندما يفرد الله جل ثناؤه بالعبادة حبا وتذللا وتعظيما.

والكلام في هذا الموضوع طويل الذيل وعظيم النفع، فلينظر في مظانه من كتب التوحيد (3) . والله أعلم.

(1) - انظر مثلا شرح عقود الجمان للسيوطي: 44 وشروح التلخيص: 2/191.

(2)

- انظر حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع: 1/253.

(3)

- انظر شروح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومجلد "توحيد الألوهية" من مجموع الفتاوى، ورسالة في العبادة للشيخ أبابطين ضمن مجموعة التوحيد، وغير ذلك.

ص: 38

أما مسألة ما يمكن أن ينوب عن الشهادتين في إثبات الإسلام الحكمي، فهي قضية خلافية. يقول ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية:"وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلما أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام"(1) . وعليه فيكفي لإثبات حكم الإسلام مثلا قول "إني مسلم" أو الصلاة أو الأذان، أو شهادة رجل مسلم له، أو التبعية للوالدين المسلمين أو أحدهما. ولكل واحد من هذه الأمور دليله، لكنني أتركه اختصارا.

ج- الكلام على عمل القلب:

قلت في النظم:

والقلب فعله في الانقياد

للمنتمى لسيد العباد

فجوهر الإسلام في التسليم

للمصطفى وشرعة الحكيم

وتدخل التوبة والإنابة

والحب والرجاء والمهابة

حب الرسول فعله مطلوبه

ليس المحب عاصيا محبوبه

ومثل ذي الأعمال ما أكثرها!

وفي حساب الدين ما أخطرها!

الشرح:

(1) - شرح الطحاوية: 75.

ص: 39

(والقلب فعله) أو عمله يَكْمُن (في الانقياد) أي: الإذعان والخضوع (للمنتمى) اسم مفعول من انتمى يَنْتمِي أي انتسب (لسيد العباد) وأشرف المخلوقين محمدٍ صلى الله عليه وسلم. والمقصودُ هو الانقياد لما جاء به هذا النبي الكريم من العقائد الواضحة الجَلية، والشرائع المُنيفة السنية. (فجوهر) ولبُّ (الإسلام في التسليم) ظاهرا وباطنا مع تحقق الرضا وانتفاء الحرج (لـ) سنة (المصطفى) محمد صلى الله عليه وسلم، ولـ (شرعة) أي شريعة (الحكيم) الخبير سبحانه وتعالى. (وتدخل) في أعمال القلوب (التوبة) بشرائطها المعروفة عند العلماء، وهي الإقلاع والعزم والندم، (والإنابة) وهي الرجوع إلى الحق سبحانه وتعالى والفرار إليه لا منه (والحب) أي حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب الإسلام وأهله (والرجاء) في الله عز وجل وفي عظيم ثوابه وواسع رحمته، مع تحقق العمل الصالح وإلا كان أمنيات كاذبة (والمهابة) وهي الخوف من الله عز وجل ومن شديد عقابه وأليم عذابه.

ولما كانت المحبةُ من أعظم أعمال القلوب وأهمها، مع ما دخل معناها وحقيقتها من المفاهيم الباطلة، خصصتُ لها بيتا بينت فيه لازمها ومقتضاها، فقلت:(حب الرسول) صلى الله عليه وسلم من طرف العبد المؤمن هو (فعله مطلوبه) أي ما طلبه منه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم من أوامرَ ونواهٍ، إذ (ليس المحب عاصيا محبوبه) أي لا يمكن أن يجتمعَ حب الشخص الآخر مع عصيانه أوامرَه، وذلك على حد قول القائل:

تعصى الإلهَ وأنت تزعم حبه

... هذا لعمري في القياس شنيع

لو كان حبُّك صادقا لأطعته

... إن المحب لمن يحب مطيع

ص: 40

وفي هذه الإشارة اللطيفة تورُّكٌ على الصوفية الذين يدعون محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم من أشد الناس بعدا عن سنته، وإعراضا عن شريعته. (ومثل ذي الأعمال) الإشارة إلى التوبة والإنابة والخوف والرجاء والمحبة (ما أكثرها) وما أقلَّ من يعمل بها ويتفطن لأهميتها. ومن أراد تفصيلها فليرجع إلى كتاب "مدارج السالكين"(1) للعلامة ابن القيم رحمه الله، وكتاب "التحفة العراقية"(2) لشيخه ابن تيمية رحمه الله. (وفي حساب الدين ما أخطرَها) وما أعظم أهميتها، فهي الفيصل الحقيقي بين المؤمن والكافر، وهي اللازم الطبيعي للتصديق القلبي، والباعثُ الأكبر نحو أعمال الجوارح. كما أن مَن أدخلها في مسمى الإيمان لزِمه أن يُدخل أعمال الجوارح أيضا، كما سيأتي بيانه فيما يلي.

وقد دلت نصوص كثيرة من القرآن والسنة على أهمية أعمال القلوب، فمن ذلك قوله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

قال ابن القيم رحمه الله: " أقسَم سُبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبلَه على عدم إيمان الخلق حتى يُحَكموا رسولَه في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يُثبت لهم الإيمانَ بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفيَ عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يُثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض"(3) .

(1) - وهو شرح لكتاب "منازل السائرين" لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري المتوفى سنة 481.

(2)

- وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى، المجلد 10.

(3)

- التبيان في أقسام القرآن: 1/274.

ص: 41

وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .

هذا في التسليم والانقياد، وأما المحبة فقال جل ذكره:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وهذه تسمى عند أهل العلم آيةَ المحنة، لأنها امتحان شديد نصبه الله عز وجل لكل من يدعي محبته سبحانه، فمن اتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، نجح في الامتحان وكان من المحبين لله تعالى حقا لا ادعاء، بل جوزي بتحقق محبة الله تعالى له على قاعدة "الجزاء من جنس للعمل" وهي قاعدة مطردة في القرآن (1) ، بل وفي الشرع كله (2) ، وزاده الله من فضله مغفرة الذنوب، وأعظِمْ به فضلا وجزاء. فتدبر أيها الأخ السني عظيم ثواب الاتباع، ولا تكن من الغافلين!

على أنني أود أن أنبه إلى أن أصل المحبة في القلب، وأن الاتباعَ إنما هو ثمرة لها، فلا ينبغي التسوية بينهما كما قد يفهمه البعض. فاشدد يدك على هذه الفائدة، واسْعَ إلى ترسيخ جذور المحبة في قلبك، كما تسعى إلى ظهور ثمار الاتباع على جوارحك.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما"الحديث (3) . وقال عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"(4) .

(1) - كما في قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم) وقوله: (إن تنصروا الله ينصركم) ، فتأمل.

(2)

- راجع كتاب "الجزاء من جنس العمل" للسيد عفاني، فهو في غاية النفاسة.

(3)

- أخرجه البخاري في الإيمان-باب حلاوة الإيمان، برقم: 16 (ص26)، ومسلم في الإيمان برقم: 43 (ص50) .

(4)

- سبق تخريجه.

ص: 42

وأما الخوف فقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا} وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}

وأما الرجاء فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}

وأما النية والإخلاص فقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"الحديث (1) .

والحق أن النصوص المبينة لأعمال القلوب، ولاندراجها في مسمى الإيمان الشرعي لا تكاد تُحصى كثرةً.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عَسُر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب"(2) .

(1) - البخاري-الحديث الأول (ص21) ومسلم في كتاب الإمارة برقم: 1907 (ص792) .

(2)

- مجموع الفتاوى: 7/400.

ص: 43

وليُعْلم بأن إخراج أعمال القلوب من مسمى الإيمان قول شنيع (1) ، لما يلزم عنه من اللوازم الفاسدة المخالفة لما علم من الدين بالضرورة. فإنه يلزم عنه مثلا أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين كاملي الإيمان، لأنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما السلام، ولم يتبعوهما ولا انقادوا للشرع الذي جاءا به، ولهذا قال موسى لفرعون:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} ، وقال تعالى عن فرعون وقومه:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . وكذلك فإن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك كافرون به معادون له. وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

ولقد علمتُ بأن دين محمد

... من خير أديان البرية دينا

لولا الملامةُ أو حِذارُ مسبة

... لوجدتني سمحا بذاك مبينا

ويلزم عن هذا القول أيضا أن إبليس مؤمن كامل الإيمان، فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، كما جاء في القرآن الكريم:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} ، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .

فهذه اللوازم المستبشعة تبين لكل مُنصف أن قَصْر الجزءِ القلبي من الإيمان على التصديق المجرد عن الانقياد مصادِمٌ أشدَّ المصادمة لنصوص الشرع ومقاصد الرسالة.

وإذا علم بأن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، فإن هذا يستلزم أن تكون أعمال الجوارح كذلك. وبيان هذا الاستلزام من وجهين:

(1) - لذلك أنكره قوم من المتكلمين، كما سبق ذكره عن التفتازاني والبيجوري.

ص: 44

الأول: أن انقيادَ القلب يستلزم انقياد الجوارح ولا بد، إذ يمتنع أن يكون القلب عامرا بالطاعة والمحبة والإذعان والرضا ولا يظهر لذلك أثر على الجوارح. يقول ابن أبي العز الحنفي:" ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد، لأطاعت الجوارح وانقادت، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا، بخلاف العكس"(1) .

الثاني: أن من يقر بأن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، يكون قد أقر بالحقيقة المركبة للإيمان، وأنه ليس شيئا واحدا لا يتركب ولا يتعدد، كما يزعمه المرجئة والخوارج. فيلزمه حينئذ أن يُدخل أعمال الجوارح أيضا. يقول ابن تيمية رحمه الله: "

لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا" (2) .

د- أعمال الجوارح الظاهرة:

قلت في النظم:

ثم الذي تظهره الجوارح

مثل الذي تضمره الجوانح

يدخل في حقيقة الإيمان

في المذهب الجلي ذي الرجحان

كالذكر والصلاة والقتال

وترك ما يشين بامتثال

الشرح:

(ثم الذي تُظهره الجوارح) وهي الأعضاءُ كما سبق ذكره، والمقصود أعمال الجوارح الظاهرة وهي الركن الرابع من أركان الإيمان (مثل الذي تضمره) وتخفيه (الجوانح) جمع جانحة، وهي الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر، قاله في القاموس (3) ، والمقصودُ أعمال القلوب الباطنة التي سبق شرحها (يدخل في حقيقة الإيمان) الشرعي وذلك (في المذهب الجَليِّ) الواضح (ذي الرجحان) على غيره من المذاهب والأقوال، بل هو المذهب الذي لا ينبغي القول بغيره، ولا العدول عنه لأنه الحق الذي لا محيص عنه، وكيف لا يكون كذلك وهو مذهب أهل السنة، وقول سلف الأمة، وأدلَّتُه أظهرُ من أشعة الجَوْناء في كبد السماء!!

(1) - شرح الطحاوية: 341.

(2)

- مجموع الفتاوى: 7/194.

(3)

- القاموس المحيط: 196.

ص: 45

ثم ذكرتُ أمثلة لأعمال الجوارح الظاهرة فقلت: (كالذكر) وهو من أعمال اللسان، ويشمل تلاوةَ القرآن، والتحدث بالعلم النافع، والثناء على الله وحمده والتسبيح والتهليل وغير ذلك، (والصلاة) وهي عمود الإسلام، وأعظم أركانه العملية على الإطلاق (والقتال) في سبيل الله، وهو ذروة سنام الإسلام، والفيصل بين العز والهوان. وهذه الثلاثةُ أفعالٌ، ولما كان التركُ فعلًا على الصحيح (1) ذكرتُه بقولي (وترك ما يشين) أي المحرمات العملية (بامتثال) أي مع الإخلاص لله عز وجل، لأن الثواب في التُّروكِ مَنُوطٌ بالامتثال، خلافا للأفعال المحضة.

وقد أجمعَ السلفُ رضوان الله عليهم على دخول أعمال الجوارح الظاهرة في مسمى الإيمان، وبَدَّعوا من خالف في ذلك، وشددوا عليه النكير. وكيف لا، والكتاب والسنة ناطقان بذلك أفصحَ النطق وأبينه؟!

فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . قال الإمام البخاري في كتاب الإيمان من الجامع الصحيح:" باب الصلاة من الإيمان، وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم عند البيت"(2) . ثم نقل بسنده حديث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام بمكة، ثم قال:" قال زهير (3) : حدثنا أبو إسحق عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "(4) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " في هذا الحديث من الفوائد الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا"(5) .

(1) - انظر شرح المحلي على جمع الجوامع عند قوله (لا تكليف إلا بفعل) : 1/215.

(2)

- البخاري (مع الفتح) : 1/128.

(3)

- قال الحافظ: " يعني بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم من قال إنه معلق".

(4)

- البخاري (مع الفتح) : 1/129.

(5)

- فتح الباري: 1/132، وانظر السنة لللالكائي: 4/798 و 4/897.

ص: 46

ومنه حديث شعب الإيمان (1)، وهو – في لفظ مسلم – قوله عليه الصلاة والسلام:" الإيمانُ بضع وسبعون – أو بضع وستون شعبة – فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". قال البغوي: " واتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة (يعني حديث الشعب) "(2) .

ومنه حديث وفد عبد القيس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم" (3) . ووجه الدلالة منه ظاهر بحمد الله تعالى.

ومن أراد المزيد من النصوص، فليرجع إلى أبواب الإيمان من كتب السنة خصوصا منها صحيح البخاري وكتاب السنة لللالكائي.

(1) - البخاري في الإيمان-باب أمور الإيمان برقم:9 (ص25)، ومسلم في الإيمان-باب: بيان عدد شعب الإيمان برقم:35 (ص48) .

(2)

- شرح السنة:.

(3)

- البخاري في الإيمان-باب أداء الخمس من الإيمان برقم:53 (ص34)، ومسلم في الإيمان برقم: 17 (ص40)

ص: 47

كما أن السلف أنكروا إنكارا شديدا على من أخرج الأعمال من الإيمان (1) . وممن أنكر ذلك من السلف وعدَّهُ قولا مُحدَثا: سعيد بن جبير وميمون بن مهران وقتادة وأيوب السختياني وإبراهيم النخعي والزهري ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره. وقال الأوزاعي: كان مَن مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل.

قلت في النظم:

وترك جنس عمل مكفر

وعند ترك بعضه فينظر

فقد يكون مخرجا من ملة

أو يجعل الفاعل في المشيئة

الشرح:

(وتركُ جنس عمل) أي: ترك العمل مطلقا (مكفر) لصاحبه كفرا أكبر مخرجا من الملة، (وعند ترك بعضه) أي بعض الأعمال أو فعلِه (فينظر) في العمل المتروك أو المفعول ما هو؟ وهنا حالتان، (فقد يكون) هذا الفعل أو الترك مكفِّرا كفرا أكبر (مخرجا من ملة) الإسلام، كما في الاستهانة بالمصحف إجماعا، أو ترك الصلاة على الصحيح. هذه الحالة الأولى. (أو يُجعل الفاعل) أو التارك (في المشيئة) الإلهية، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وهو في الجنة حتما إما ابتداء وإما مآلا، كما في عقوق الوالدين أو شرب الخمر أو غير ذلك من الكبائر مما هو دون الشرك.

ومفهوم جعل صاحب الحالة الثانية في المشيئة أن صاحب الحالة الأولى ليس كذلك، وهو مفهوم صحيح، لأن الله عز وجل قضى أنَّ مَن مات على الشرك فهو خالد في النار، وحرام عليه الجنة. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

فتبين أن في هذين البيتين الكلام على مسألتين:

مسألة جنس العمل.

مسألة آحاد العمل وأفراده.

مسألة جنس العمل:

(1) - جامع العلوم والحكم: 104.

ص: 48

سبق أن ذكرنا أن تعريفَ الإيمان الذي أطبق عليه السلف هو أنه قول وعمل. فالقول والعمل ركنان في مسمى الإيمان، أي أنهما جزءان من ماهِيته، مع كونهما يلزم من عدمِ أي واحد منهما عدمُ الإيمان الذي هما ركنان فيه. لذلك كان التعبير بركنية العمل في الإيمان أولى من التعبير بشرطيته (1) .

ثم إن العمل لفظ كلي، وهو كلُّ لفظ أفْهَمَ الاشتراك بين أفرادِه بمُجرد تعقله. قال الأخضري في السلم:

... فمفهم اشتراك الكلي

... كأسد وعكسه الجزئي (2)

فتصورُ مفهومِ العمل لا يمنع من صِدقه على كثيرين، فالصلاة عمل وشرب الخمر عمل، وهكذا.

وهذا اللفظ الكلي إذن جنس (3) بالنسبة لأفراده، وهي آحادُ الأعمال. فإذا انتفى جنسُ العمل انتفى أحد ركني الإيمان، فذهب الإيمان كله، لأن الشيء ينتفي بانتفاء ركنه. أمَّا لو انتفت بعض أفراد العمل فقد ينتفي الإيمان وقد لا ينتفي بحسب التفصيل الذي سيأتي في المسألة الثانية (4) .

(1) - لأن الشرط خارج عن الماهية بخلاف الركن. انظر: "حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان" لمحمد أبورحيم: 27.

(2)

- شرح القويسني على متن السلم في المنطق: 14.

(3)

- الجنس هو الكلي المقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو كالحيوان، انظر القويسني على السلم:15.

(4)

- انظر "حقيقة الخلاف" لأبورحيم: 29-30.

ص: 49

روى الخلال عن الحميدي (1) قال: أُخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموتَ، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة. فقلت (أي الحميدي) : ذلك الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين. قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به" (2) .

وقال محمد بن نصر المروزي رحمه الله: " فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقا ينقل من الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد"(3) . وقال الإمام الشافعي رحمه الله: " كان الإجماع من الصحابة والتابعين مِن بعدهم ومَن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"(4) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ففي القرآن والسنة مِن نَفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضعُ كثيرة كما نفى فيها الإيمان عن المنافق"(5) . وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " لا خلافَ أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلَّ شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما"(6) .

(1) - هو عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري وأحد أعلام السلف.

(2)

- مجموع الفتاوى: 7/ 209.

(3)

- مجموع الفتاوى: 7/333.

(4)

- مجموع الفتاوى: 7/209.

(5)

- مجموع الفتاوى: 7/142.

(6)

- كشف الشبهات (مع شرحه للشيخ العثيمين) : 131.

ص: 50

فانظر يا أخا السنة إلى هذه النقول الواضحة الجلية، والبراهين الدامغة القوية، والإجماعات القاطعة السَّنِيَّة، ثم اعجب من كثرة الجاهلين والمتجاهلين، واسلُك سبيلَ الحق الأبلجِ ولا يضرَّنك قلةُ السالكين.

واعلم أن هذه المسألة فيصل بين أهل السنة وبين طوائف المرجئة القائلين بأن تارك جنس العمل ناقص الإيمان لا كافر. وقولهم هذا "من أشد ثمرات ابتداعهم خطورة بين المجتمع المسلم، بل هو مِعولُ هدم للأحكام الشرعية، والمبادئ الخلقية التي بني عليها الجيل الأول"(1) .

فإن قال قائل من المنافحين عن عقيدة الإرجاء – وما أكثرهم في هذه الأعصار -: سلَّمْنا أن تارك جنس العمل كافر، ولكن العمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح كما هو معلوم، فلنا أن نفترض شخصا قد أتى بعمل القلب كاملا، ولم يأت من أعمال الجوارح بشيء، فليس كافرا لأنه ليس تاركا لجنس العمل، مع كونه تاركا للأعمال الظاهرة مطلقا؟

والجواب أن هذا الفرض ممتنع، بل هو من أمحل المحال.

قال ابن تيمية رحمه الله: " وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات.."(2) . وقال أيضا: " وإنما قال الأئمة بكُفر هذا لأن هذا فرضُ ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مما أمر به من الصلاة والزكاة والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء إلى غير القبلة ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه"(3) . وقال ابن القيم رحمه الله: " من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية"(4) .

(1) - حقيقة الخلاف: 45.

(2)

- مجموع الفتاوى: 7/621.

(3)

- مجموع الفتاوى: 7/218.

(4)

- رسالة الصلاة: 1/61.

ص: 51

فعاد التكفير بجنس العمل راجعا إلى التكفير بترك أعمال الجوارح الظاهرة، المستلزمِ لانتفاء أعمال القلوب الباطنة. فتأمل هذا فإنه مهم جدا.

2-

مسألة آحاد العمل وأفراده:

من الأعمال الظاهرة ما يكون تركُه كفرا أكبر مخرجا من الملة، ومنها ما ينقص الإيمان بسببه ولكن لا يُذهب أصلَه. وسنرجئ الكلام عن القسم الأول إلى محله من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. أما القسم الثاني فأدلته من الكتاب والسنة كثيرة جدا.

فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فميز الله سبحانه بين الشرك وغيره، وأخبر أن الشرك غير مغفور، وأما ما كان دونه فهو معلق بالمشيئة.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . فانظر كيف لم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وأثبت أخوته لولي القصاص، والمراد أخوة الدين قطعا. ومثله قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . ثم إن نصوص الكتاب والسنة دلت على أن الزاني والسارق ونحوهما لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد، إذ المرتدُّ يقتل إجماعا.

ص: 52

وفي حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله عليه فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه"(1) . وفي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ولم يدخل النار. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق"(2) . وفي حديث ابن مسعود مرفوعا: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"(3) .

والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وبالجملة، فإن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكبَ الكبيرة (4) لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية، بل هو في الجنة إما ابتداء وإما مآلا. أي: أن الله قد يعفو عنه فيدخلُه الجنة بغير عقاب، أو يدخله النار بما سبق له من العمل السيء ولكن لا يخلد فيها، بل يخرج بإذن الله ويكون مآله الجنة، جعلنا الله من أهلها، وجنبنا عذابَه بمنِّه ولُطفه آمين.

(1) - أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم: 18 (ص27)، ومسلم في كتاب الحدود برقم: 1709 (709) .

(2)

- أخرجه البخاري في بدء الخلق-باب ذكر الملائكة، برقم: 3222 (ص619)، ومسلم في الإيمان برقم: 94 (ص64) .

(3)

- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم: 91 (ص63) .

(4)

- الكبيرة تشمل الشرك أيضا، إذ هو أكبر الكبائر بنص الحديث، ولكن المقصود بها عند الإطلاق هو ما دون الشرك، وضابطها ما ورد فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة. انظر شرح الطحاوية:371، ورسالة في الموضوع للشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله بعنوان: تنوير البصيرة ببيان علامات الكبيرة.

ص: 53

وقد خالف في هذا الأصل العظيم طائفتان من المبتدعة هم الخوارج والمعتزلة. وسأذكرهما في البيتين التاليين، بحول الله عز وجل.

الفصل الثالث: أقوال أهل البدع في حقيقة الإيمان:

قلت في النظم:

ليس كما زعمت الخوارج

فقولهم عن الصواب خارج

وما لمذنب من المآل

وافقهم فيه ذوو اعتزال

الشرح:

(ليس) ما سبق ذكره في البيتين السابقين من كون مرتكب الكبيرة دون الشرك في مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، وهو قول أهل السنة والجماعة (كما) أي كالذي (زعمت الخوارج) وهم فرقة بدعية معروفة. (فقولهم) هذا (عن الصواب) أي الحقِّ المؤيد بالأدلة النقلية والعقلية (خارج) أي بعيد ومجانب. وفيه جناس غير تام. (وما) أي الذي (لمذنب) أي مرتكبِ كبيرةٍ ليست بشرك (من المآل) أي المصير في الآخرة (وافقهم) أي الخوارجَ (فيه) أي في مآل مرتكب الكبيرة (ذوو اعتزال) وهم الفرقة البدعية المشهورة باسم المعتزلة. وقد ذكرتُ في هذين البيتين مذهب كل من الخوارج والمعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة. وحاصله ما يلي:

مذهب الخوارج:

ص: 54

تعتبر بدعة الخوارج (1) من أقدم البدع العقدية في الأمة، إن لم تكن أقدمَها مطلقا، فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدِلْ يا رسول الله. فقال: ويلك ومَن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: دعه، فإن له أصحابا يحقرُ أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية

آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم" (2) . ومن حديث علي مرفوعا:" سيخرُج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة"(3) . وعن ابن أبي أوفى مرفوعا: " الخوارج كلاب النار"(4) . وقد صحت الأحاديث النبوية في الخوارج من أوجه متعددة وطرق كثيرة جدا (5) .

(1) - انظر للتفصيل: التنبيه والرد للملطي: 47 وما بعدها و178 وما بعدها، والملل والنحل للشهرستاني: 1/106.

(2)

- أخرجه البخاري في الأدب-باب ما جاء في قول الرجل ويلك برقم: 6163 (ص1188)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم: 1064 (ص409) .

(3)

- أخرجه البخاري في المناقب برقم: 3611 (ص690) ومسلم في الزكاة برقم: 1066 (ص411) .

(4)

- أخرجه ابن ماجه في المقدمة برقم: 169، وأحمد في مسند الكوفيين

(5)

- انظر مثلا جمع الفوائد: 4/168.

ص: 55

وقد ابتدأ أمر الخوارج فِعليًّا يوم صفين، حين أنكروا على علي رضي الله عنه قبوله بالتحكيم، ثم خرجوا عليه بالسيف، فقاتلهم بالحجة والسنان، حتى رجع منهم الكثير، وقتل منهم الكثير دون أن يستطيع استئصالهم. وبلغ الأمر بأحدهم وهو الشقيُّ عبدُ الرحمن بن ملجم أن اغتال عليا رضي الله عنه وأرضاه، وهو آنذاك أفضلُ مَن على وجه الأرض. ثم استمرت المغامرة السياسية للخوارج في ظل حكم بني أمية وبني العباس وغيرهم من دول الإسلام (1) . وبموازاة مع خروجهم المتواصل على الحكام المسلمين، كانت أفكارهم وعقائدهم تتطور وتزداد رسوخا، حتى أصبحت لهم عقائد معروفة يتميزون بها عن غيرهم من الفرق، خصوصا في مسائل الإيمان والكفر.

والذي يهمنا منها هنا أنهم جعلوا الإيمان شاملا للإقرار اللساني والتصديق القلبي وجميع أنواع الطاعات صغيرة أو كبيرة. فالإيمان هو مجموع هذه الأشياء وترك أي خصلة من هذه الخصال كفر (2) . فمرتكب الكبيرة عندهم خارج من الدين بالكلية. وهذا من أشنع أقوالهم، وليس لهم فيه مستند إلا التمسك ببعض الشبهات التي هي أوهى من نسْج العنكبوت.

مذهب المعتزلة:

أشهرُ ما جاء في سبب تسمية هذه الفرقة بالمعتزلة (3) ، أنَّ واصلَ بنَ عطاءٍ – وهو مؤسس هذه الفرقة – اعتزل حلقة الحسن البصري لما ورد عليه سؤال عن مرتكب الكبيرة، وشرع يُقَرر مذهبه في حلقة خاصة به. ثم كبرت الفرقة واشتهرت، وبدأت أصولها ترسخ وتتقرر. وعلى كثرة اختلافهم فيما بينهم، فإنهم متفقون على أصولٍ خمسةٍ يجادلون عنها، ويتبرءون ممن خالفهم فيها، وهي:

العدل ويتوصلون به إلى نفي القدر.

التوحيد ومعناه عندهم نفي الصفات.

الوعد والوعيد وثمَرتُه عندهم إنكار الشفاعة وإنكار كون عصاة الموحدين في المشيئة.

المنزلة بين المنزلتين وهي حكم مرتكب الكبيرة عندهم.

(1) - انظر كتب التاريخ خصوصا البداية والنهاية لابن كثير.

(2)

- تفسير الرازي الكبير: 2/23.

(3)

- التنبيه والرد: 35 والملل والنحل: 1/38.

ص: 56

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتوصلون به إلى الخروج على الحكام المسلمين بالقتال إذا جاروا.

فتأمل يا أخا السنة في هذه البدعِ المتراكمة، والضلالات المتزاحمة. حتى قال أبو الحسين الملطي:"واعلم أن للمعتزلة من الكلام ما لا أَسْتجيزُ ذِكرَه لأنهم قد خرجوا عن أصول الإسلام إلى فروع الكفر"(1) . والذي يهمنا من عقائدهم قولُهم إن العاصيَ ليس مؤمنا ولا كافرا، ولكن نسميه فاسقا. فالخوارج قالوا: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، وهم قالوا: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين! ولكنهم قضوا بتخليد في النار أبدا كالخوارج:" فوافَقوهُم مآلا، وخالفوهم مَقالا، وكان الكلُّ مخطئين ضُلَّالا"(2) .

قلت في النظم:

هذا وقال البعض في الإيمان

بأنه التصديق بالجنان

والبعض زاد النطق باللسان

كما اكتفى به أولو الخذلان

وهذه الأقوال في التدقيق

بعيدة عن منهج التحقيق

قد فرقوا شرائع الإيمان

فخالفوا طريقة الرحمن

تجمعهم عقيدة الإرجاء

ومنهج الفتون والأهواء

الشرح:

بعد أن ذكرتُ تعريفَ أهل السنة والجماعة للإيمان، وشرحتُ أركانَه بشيءٍ من التفصيل، ثم ميَّزتُ مذهبَ أهل السنة عن مذهبِ مَن وافقهم في التعريف وخالفهم في فَهْمِه وتطبيقه، انتقلتُ في هذه الأبيات إلى الكلام على من خالف أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان وهُم طوائف المرجئة، فقلت:

(1) - التنبيه والرد: 41.

(2)

- معارج القبول: 3/1020، وانظر شرح الطحاوية: 317 وغيرها من كتب العقائد.

ص: 57

(هذا وقال البعض) مِن أهل القبلة (في الإيمان) أي في تعريفه (بأنه التصديق بالجنان) فجعلوا مُسَمَّى الإيمانِ هو التصديق القلبي المجرد، وهذا القول الأول. (والبعض زاد) في تعريف الإيمان (النطق باللسان) ، فالإيمان عندهم هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا القول الثاني. (كما) أنه قد (اكتفى) في تعريف الإيمان (به) الضمير راجع للنطق باللسان (أُولُو) فاعلُ اكتفى مرفوع، وعلامة رفعه الواوُ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (الخذلان) أعاذنا الله منه. وهؤلاء هم الكَرَّاميَّة الذين جمعوا صنوفا من البدع والضلالات ومن بينها جعلهم الإيمان هو الإقرار باللسان فقط!! وهذا هو القول الثالث. (وهذه الأقوال) الثلاثة (في) أي عند (التدقيق) والتمحيص، كلُّها (بعيدة عن منهج التحقيق) وهو كمال الفهم والغوص وراء المعاني. (قد فرقوا شرائع الإيمان) لما أدخلوا البعض في مسمى الإيمان وأخرجوا البعض الآخر، تحكما وتعسفا، ومستندهم في ذلك شَقشقاتٌ لفظية، وخيالات عقلية، وأنواع من السَّفسطةِ والمكابرة، (فخالفوا طريقة) أي نهج وسبيل (الرحمن) سبحانه وتعالى، الذي أرشدنا إلى أَقوَم السُّبل وأهداها، ولكن مَنْ يضلل الله فلا هادي له. (تجمعهم عقيدة الإرجاء) سيأتي التعريف بها، (ومنهج الفتون) جمع فتنة (والأهواء) أعاذنا الله منها بمنه ولطفه آمين.

أصول بدعة الإرجاء:

سُئل ابن عيينة عن الإرجاء، فقال:" الإرجاء على وجهين: قوم أَرْجَوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل. فلا تجالِسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم"(1) . فهذا الإمام الجليل يفرق بين الإرجاء الأول المرتبط بالفتنة التي وقعت زمن الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما، والإرجاء – في الاصطلاح المشهور – عند استقرار المذاهب وتبين عقائدها.

(1) - تهذيب الآثار: 2/181 كما في ظاهرة الإرجاء: 1/320.

ص: 58

وعلى هذا المعنى الأول ينبغي أن يفهم ما ينقله أهل المقالات من أن أوَّلَ مَن تكلم في الإرجاء هو الحسن ابن محمد بن علي بن أبي طالب. فقد قال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة إنهما دخلا على الحسن بن محمد، فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عَمرو، لَوَدِدتُ أني كنت مت ولم أكتبه" (1) . يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "

قلت المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان". ثم نقل شيئا من كلام محمد بن الحسن في كتابه المذكور آنفا، ثم قال: " فمعنى الذي تكلم فيه الحسن، أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئا أو مصيبا، وكان يُرجئ الأمر فيهما. وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه، فلا يلحقه بذلك عابٌ، والله أعلم" (2) .

أما الإرجاء الثاني فهو إرجاءٌ عَقَدي يرتكز على كون الإيمان هو الإقرار والتصديق، ولا يضر معهما شيء من المعاصي العملية. فحقيقة الإيمان عند أهل الإرجاء منفصلةٌ عن العمل الظاهر. بل وُجد منهم من غلا وأفرط وتجاوز الحد في الاستهانة بالعمل، حتى زعم أن من عرف الله بقلبه أنه لا شيء كمثله، فهو مؤمن وإن صلى نحو المشرق أو المغرب وربط في وسطه زنارا (3) !! ولا يخفى على المتأمل أن هذا الغلو في الإرجاء لا يعدو أن يكون نتيجة حتمية لفكرة إخراج العمل من مسمى الإيمان، وهي الفكرةُ التي تتساوى فيها جميع طوائف المرجئة. لذلك كان إنكارُ السلف على أهل الإرجاء – بجميع صوره وأشكاله – شديدا، سدًّا للذريعة وحَسْمًا لهذه المادة. وكمْ من الأمور لا تظهر شناعتها وخطورتها إلا عند التأمل في لوازمها ومقتضياتها.

(1) - نقله الحافظ في ترجمة الحسن بن محمد من تهذيب التهذيب: 2/290.

(2)

- تهذيب التهذيب: 2/291.

(3)

- التنبيه والرد للملطي: 149، وانظر كلاما آخر لهم في الصفحات التالية.

ص: 59

واعلمْ أنَّ طوائفَ المرجئة كثيرة جدا، ولكن أصولها ترجع إلى أقوال ثلاثة (1) في تعريف الإيمان، وهي المذكورة في النظم:

القول الأول: الإيمان يكون بالقلب واللسان معا دون غيرهما من الجوارح. وأشهرُ من ينتسب إلى هذا القول أبو حنيفة وأصحابه وهم المُلقَّبون عند أئمة السلف بمرجئة الفقهاء. وعامة كلام السلف في الإنكار على المرجئة وتبديعِ أهل الإرجاء إنما يُقصد به هؤلاء المنتسبون إلى مدرسة الكوفة الإرجائية. وهذا القول مذكور في كتب المقالات عن الشمرية أتباع أبي شمر، والنجارية أتباع الحسين بن محمد النجار (2) .

واختلفوا في الذي يقوم بالقلب هل هو المعرفة أم التصديق، على قولين اثنين.

وهل يكفي في المعرفة القلبية الاعتقاد الجازم أم لا بد من العلم الصادر عن الاستدلال؟ قولان أشهرهما الأولُ الذي يَحكُم أصحابه بإيمان المقلد (3) . واختلفوا أيضا في متعلَّق هذهِ المعرفة، ومحقِّقوهُم على أن المعتبرَ فيها هو العلمُ بكل ما عُلم بالضرورة كونُه من دين محمد صلى الله عليه وسلم.

(1) - انظر تفسير الرازي: 2/23 وشرح الطحاوية: 332 وحقيقة الخلاف: 15-16.

(2)

- مجموع الفتاوى: 7/546.

(3)

- الاعتقاد هو الإدراك الجازم القابل للتغيير بتشكيك أو غيره بخلاف العلم فهو الإدراك غير القابل للتغيير لكونه صادرا عن استدلال. المحلي على جمع الجوامع: 1/151. والخلاف في مسألة صحة إيمان المقلد مشهور في كتب المتكلمين. انظر شرح جوهرة التوحيد: 55.

ص: 60

القول الثاني: الإيمانُ محصورٌ في القلب. وأصحاب هذا القول نوعان: أحدهما يقول إن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب، حتى أن من عَرفَ الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ به فهو مؤمن كامل الإيمان. وهذا قول الجهم بن صفوان وأبي الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية. وثانيهما يقول بأن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب. وهذا مذهبُ أبي منصور الماتريدي، وروي عن أبي حنيفة، ونقله الفخر الرازي في التفسير عن الحسين بن الفضل البجلي، واختارَه. وهذا الذي استقر عليه عامةُ متكلمي الأشاعرة المتأخرين، كما في المواقف وشروحه.

القول الثالث: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، ومنهم من جعل حصولَ المعرفة في القلب شرطا في كون الإقرار اللساني إيمانا، وهذا قول غيلان الدمشقي والفضل الرقاشي، ومنهم من لم يشترطه وهم الكَرَّامية. فالمنافقون عندَهم مؤمنون كامِلو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وهذا قول ظاهرُ الفساد كما يقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية.

وقد استدل الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان ويحصرون هذا الأخير في التصديق ببعض الأدلة (1)، سأذكرها وأجيب عنها بحول الله تعالى على وجه الاختصار:

(1) - إنما أفردت هذا القول بذكر أدلته والجواب عنها لشدة خطورته، وانتشاره في الأمة كما لا يخفى. وانظر هذه الأدلة في تفسير الرازي الكبير: 2/24 والمواقف: 385. وهي عندي مع الأجوبة عليها بتفصيل في رسالة خاصة اسمها: " حقيقة الإيمان من خلال تفسير الإمام الرازي – عرض وتحليل ".

ص: 61

الدليل الأول: أن الإيمان في أصل اللغة للتصديق، فوجب أن يكون كذلك في عرف الشرع، لئلا ينافيَ وصفَ القرآن بكونه عربيا. وقد سبق الجواب عنه عند الكلام على معنى الإيمان في اللغة. وأزيد هنا قول شيخ الإسلام رحمه الله:" وأهلُ البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق (1) ، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها، إما في دلالة الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة، ولا يتأملون بيان الله ورسوله، وكلُّ مقدماتٍ تخالف بيان الله ورسوله، فإنها تكون ضلالا"(2) .

الدليل الثاني: أن الإيمان أكثرُ الألفاظ دَوَرانا على ألسنة المسلمين، فلو صار منقولا إلى غير مسماه الأصلي، لاشتهر وبلغ حد التواتر. والجواب عن هذا القياس الاستثنائي من الشرطية المتصلة (3) ، أننا نلتزم المقدمةَ الكُبرى، ولكننا نمنع الصغرى التي هي في حالتنا هذه رفعٌ للتَّالي من الكبرى. وبعبارة أخرى أكثرَ وضوحا لسنا نقر عدم تواتر المعنى الشرعي للفظ الإيمان، عَلِمَ ذلك مَنْ عَلِمه وجهله مَن جهله. فقد سبق أن نقلتُ من النقول عن السلف الصالح رضوان الله عليهم ما يكفي – إن شاء الله تعالى – في إثبات كون هذا المعنى الشرعي متواترا لديهم، ومُجمعا عليه عندهم. لذلك قال ابن تيمية رحمه الله في معرِضِ ردِّه على القاضي أبي بكر الباقلاني: " قوله: لو فُعِل لتَواتَر، قيل: نعم، وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفة، وأراد بالإيمان ما بيَّنهُ بكتابه وسنة رسوله من أن العبد لا يكون مؤمنا إلا به

فقد تواتر عنه من معاني اسم الإيمان وأحكامه ما لم يتواتر عنه في غيره، فأيُّ تواتُرٍ أبلغُ من هذا؟ " (4) .

(1) - أي طريق البيان النبوي الشافي.

(2)

- مجموع الفتاوى: 7/288.

(3)

- انظر "ضوابط المعرفة" لحبنكة الميداني: 269، وغيره من كتب المنطق.

(4)

- مجموع الفتاوى: 7/129.

ص: 62

أما إنكار المتكلمين وقوع هذا التواتر، فلقلة بضاعتهم من صناعة الأحاديث والآثار، بخلاف أهل الحديث فإنهم فرسان هذا الميدان وجهابذته، وأهل التقدم فيه على غيرهم.

الدليل الثالث: أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ} وقوله {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، وغيرها من الآيات. والتحقيق في هذه المسألة أن هذه النصوص لا تنفي كون الأعمال جزءا من مسمى الإيمان، بل " غايةُ ما فيها بيانُ أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح"(1) ، وهذا المعنى صحيح، وتوجد نصوص كثيرة تشهد له، ولا تَعارُضَ بين هذا المعنى وبينَ قولِ أهل السنة إن الإيمانَ قول وعمل. فالقلبُ هو الباعث والمُحرِّكُ الذي مِنه ينطلق التوجيه إلى الجوارح بالعمل خيرا أو شرا، والإرادةُ القلبية هي الحاكمة على أعمال الجوارح طاعةً وإيمانًا إن كانت الإرادةُ إيمانيةً، ومعصية وكفرا إن كانت الإرادة كفرية، كما في الحديث المعروف:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"(2) . فالنصوصُ المذكورة في تقرير هذا الدليل الثالث، إنما تدل على أهمية الجزء الباطن من الإيمان، دونما نفيٍ للجزء الظاهر منه الذي دلت عليه نصوص أخرى كثيرة وصريحة.

على أننا نضيف أن الذي يقوم بالقلب من الإيمان ليس هو مجرد التصديق، بل هو أمرٌ زائد وهو عمل القلب الذي سبق توضيحه وبيان ركنيته في الإيمان. وكنت قد أسلفت الكلام على استلزام دخولِ أعمال القلوب في مسمى الإيمان، دخولَ أعمال الجوارح فيه أيضا، فليُتأمَّل.

(1) - ظاهرة الإرجاء للحوالي: 2/544، وفيه فوائد جمة في هذا الموضوع، فلتنظر هناك.

(2)

- رواه البخاري في الإيمان-باب فضل من استبرأ لدينه برقم: 52 (ص34)، ومسلم في المساقاة برقم: 1599 (ص651) .

ص: 63

الدليل الرابع: جاء الإيمان مقرونا بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب نحو: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فدل على التغايُر بين مفهومَيْهما. والجوابُ منعُ استلزامِ التغاير، فإن مِن أنواع العطف – كما ذكر ابن هشام الأنصاري في المغني (1) : عطف العام على الخاص وبالعكس نحو {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ونحو {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} وغيرها. بل إن منها عطف الشيء على مرادفه نحو {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} و {عِوَجًا وَلا أَمْتًا} وغيرها (2) .

وذلك إنما يكون لنُكتٍ بلاغيةٍ معروفة عند أهل الفن، كما يقول العلامة بهاء الدين السبكي في شرحه لمتن التلخيص: " من أسباب الإطنابِ إيرادُ الخاصِّ بعدَ العام ويؤتى به للتنبيه على فضل الخاص حتى كأنَّه ليسَ مِن جِنْس العامِّ تنزيلا للتغاير في الوصف - فيما حصل به للخاص التمييزُ عن غيره - بمنزلةِ التغاير في الذاتِ على الأسلوبِ الذي سَلَكهُ المُتنبي في قوله:

فإن تَفُقِ الأنامَ وأنت منهم

...

فإن المسك بعض دم الغزال" (3) .

فعطفُ العمل الصالح على الإيمان هو – إذن – من عطف الخاص على العام، ويمكن أن يقال بأن علةَ ذلك هي شدةُ الاعتناءِ بالأعمال، وتنبيه المخاطب إلى خطورتها، وتحذيره من إغفالها.

(1) - مغني اللبيب: 2/411.

(2)

- انظر تفصيلا نافعا لشيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: 7/172.

(3)

- عروس الأفراح شرح تلخيص المفتاح – ضمن شروح التلخيص -: 3/216، ومثله في عقود الجمان للسيوطي:72.

ص: 64