الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالجهمية يسوون بين الإيمان والتصديق، والتصديق عندهم يتساوى فيه العباد، ولا يقبل الزيادة والنقصان، فإيمان الملائكة والأنبياء والصديقين مساوٍ لإيمان الفُسَّاق وأهل الفجور!
ومن القائلين بهذا القول الخوارج والمعتزلة، إذ الإيمان عندهم كلٌّ واحدٌ لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب كله. يقول ابن تيمية رحمه الله:» وإنما أوقع هؤلاء كلَّهم - أي المرجئة - ما أوقع الخوارجَ والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض، بل إذا ذهب بعضه ذهب كله، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه « (1) .
ومنهم عدد من أئمة الأشاعرة والماتريدية. قال مُرتضى الزَّبيدي:» وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد الإيمان ولا ينقص، واختاره أبو منصور الماتريدي ومن الأشاعرة إمامُ الحرمين وجمعٌ كثير « (2) .
الباب الثالث: الكفر وضوابط التكفير
الفصل الأول: تعريف الكفر لغة واصطلاحا.
قلت في النظم:
في اللغة الكفر لستر راجع
فالليل كافر كذاك الزارع
وفي اصطلاح ناقض الإيمان
في القلب والأعضاء واللسان
الشرح:
(في اللغة) جار ومجرور متعلق بـ''الكفر''، و (الكفر) مبتدأ خبره ''راجع'' و (لستر) جار ومجرور متعلق بـ''راجع'' (راجع) أي أن أصل الكفر في اللغة هو الستر والتغطية ومن أمثلته في اللغة ما ذكرته في الشطر الثاني، (فالليل) لغة (كافر) لأنه يستر الناس ويغطي كل شيء (كذاك الزارع) وهو الفلاح، وفي جواز تسميته زارعا خلاف، والصحيح الجواز كما ذكره السهيلي في الروض الأنف (3) . (و) أما (في اصطلاح) فهو (ناقض الإيمان) ، ويكون هذا النقض (في القلب) بانتفاء التصديق أو العمل القلبي (والأعضاء) بالأعمال أو التروك المكفرة (واللسان) بالأقوال المكفرة أو بترك الأقوال التي هي ركن في الإيمان.
(1) - شرح العقيدة الأصبهانية: 143.
(2)
- إتحاف السادة المتقين: 2/256.
(3)
- الروض الأنف: 1/85.
وحاصل ما ذكرت في هذين البيتين أن أصل الكفر في اللغة هو الستر والتغطية، ومنه تسمية الليل كافرا كما قال لبيد بن ربيعة في معلقته:
حتى ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها (1) .
ومن محاسن التورية (2) قول البهاء زهير المتوفى سنة 656هـ من قصيدة غزلية أكثر فيها من استعمال المحسنات البديعية:
يا ليل طل، يا شوق دم
…
... إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد
…
... إن صح أن الليل كافر (3) .
ومنه تسمية الفلاح كافرا لستره الحب وتغطيته إياه بالتراب، كما في قوله تعالى:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، قال ابن كثير:» أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها « (4) . وتحتمل الآية أن يقصد بالكفار المعنى الاصطلاحي، كما ذكره العلامة الألوسي في تفسيره (5) .
وأما في الاصطلاح فالكفر هو نقيض الإيمان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» الكفر عدم الإيمان، باتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم « (6) .
(1) - انظر شرح المعلقات السبع للزوزني: 96.
(2)
- التورية هي أن يطلق لفظ له معنيان: أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، ويدل عليه بقرينة يغلب أن تكون خفية لا يدركها إلا الفطن. انظر جواهر البلاغة:310.
(3)
- المنتخب من أدب العرب: 2/102.
(4)
- تفسير ابن كثير: 4/274.
(5)
- روح المعاني: 28/185.
(6)
- مجموع الفتاوى: 20/86.
وإذا كان الكفر هو نقيض الإيمان، فإن تعريفه يؤخذ من تعريف الإيمان، لأن الشيء تتبين حقيقته بمعرفة ما يضاده وينافيه. وأجمع ما عرف به الكفر قول ابن حزم:» وهو - أي الكفر - في الدين، صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معا، أو عمل عملا جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان « (1) .
فبين - رحمه الله تعالى - أن الكفر الذي هو نقيض الإيمان، لا يخرج عن أحد أمور أربعة مستخلصة من الأركان الأربعة التي تتشكل منها حقيقة الإيمان الشرعي، كما سبق بيانه، وهذه الأمور هي:
1-
التكذيب (أو الشك) الذي يناقض تصديق القلب.
2-
عمل قلبي كفري يناقض عملا من أعمال القلوب الإيمانية، مثل البغض الذي يناقض المحبة.
3-
قول لساني كفري يناقض شهادة أن لا إله إلا الله، أو الامتناع عن النطق بالشهادتين لغير عذر شرعي.
4-
عمل ظاهر من أعمال الجوارح مثل التولي عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو التشريع من دون الله تعالى، أو ترك الصلاة على الصحيح، وغير ذلك من الأعمال المناقضة لإيمان الجوارح القائم على الانقياد والخضوع.
وقد استقصى علماء الإسلام في كتب الفقه جملة الأقوال والأعمال المناقضة للإيمان بما لا مزيد عليه، كما تجده مسطرا في أبواب الردة من أسفار الفقه الإسلامي (2) .
قلت في النظم:
أنواعه التكذيب والجحود
والشك الاستكبار والتقليد
كذاك جهل، وهو في حكم الدنى
قول وفعل، لا الذي القلب جنى
الشرح:
(1) - الإحكام: 1/49.
(2)
- ولكن ينبغي التنبيه على أن ما يذكره الفقهاء من الأعمال والأقوال قد يكون من قبيل المختلف في التكفير به، كما أن تنزيل حكم الكفر على الأعيان لا بد أن يخضع لضوابط التكفير التي سيأتي ذكرها فيما يلي.
(أنواعه) باعتبار البواعث الباطنة على الإتيان بأسباب الكفر القولية والعملية كثيرة منها (التكذيب والجحود والشك الاستكبار) بحذف أداة العطف في الأخير (والتقليد كذاك جهل) ، فهذه أهم أقسام الكفر وأنواعه.
(وهو) بتسكين الهاء، أي الكفر (في حكم الدنى) جمع دنيا، أي أنه في الأحكام الدنيوية القضائية (قول) مكفر (وفعل) مكفر (لا الذي القلب جنى) أي لا ما جناه القلب من الاعتقادات الكفرية، فإنها ليست كفرا في أحكام الدنيا، إن كانت مجردة عن القول المكفر والفعل المكفر.
-
ينقسم الكفر إلى أقسام كثيرة باعتبارات متعددة (1) ، لكن إنما يهمنا منها هنا أقسامه باعتبار الباعث القلبي الذي يحمل الكافر على الإتيان بالقول أو الفعل المكفر، وقد ذكرت منها في النظم ستة أنواع هي:
1-
التكذيب الذي ينافي التصديق القلبي ويضاده، والتكذيب معناه النسبة إلى الكذب. قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وقال: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، وقال:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ} .
2-
الجحد أو الجحود، ومعناه إنكار الشخص للشيء مع علمه به (2)، كما في قوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، فقوم فرعون مستيقنون بأن الذي جاءهم به موسى حق، ولكنهم أنكروا بألسنتهم وأظهروا التكذيب. فالجحد يجامع التكذيب في الظاهر ويخالفه في حكم الباطن (3) . وقد يستعمل أحد الاصطلاحين- الجحود والتكذيب- بنفس المعنى الذي يستعمل فيه الآخر، لذلك قال ابن القيم عن كفر الجحود:» إن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح، إذ هو تكذيب باللسان» (4) .
(1) - انظرها مجملة في كتاب الجامع في طلب العلم الشريف: 2/512.
(2)
- نقله صاحب لسان العرب عن الجوهري.
(3)
- الجامع: 2/446.
(4)
- مدارج السالكين: 1/337.
3-
الشك أو الريب المنافي لليقين (1)، كما في قوله تعالى حكاية عن الكفار:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ، وقوله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} .
4-
الاستكبار والإباء ككفر إبليس الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} ، وككفر اليهود، كما في قوله تعالى:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} ، وككفر مشركي قريش، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} .
5-
التقليد ومعناه أخذ قول الغير دون معرفة دليله (2)، والمقصود به هنا اتباع الرؤساء والكبراء والآباء والأجداد في الكفر ومجانبة الحق على غير بصيرة وبدون دليل. قال تعالى:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} . وهذا هو الباعث الغالب في كفر اليهود والنصارى، لذلك حذرهم رب العزة جل جلاله بقوله:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة.
(1) - وقد سبق الكلام عليه عند مبحث التصديق من أركان الإيمان.
(2)
- انظر المحلي على جمع الجوامع: 2/393.
6-
الجهل المنافي لمعرفة القلب بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به على وجه الإجمال، وقد سبق الكلام على المعرفة عند الكلام على التصديق فلينظر. قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} .
وبالاعتبار المذكور آنفا - أي باعتبار البواعث القلبية على الكفر- فإن للكفر أقساما أخرى لم أشر إليها في النظم مثل كفر الإعراض كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} ، وكفر التولي عن الطاعة كما في قوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ، وكفر الحسد كما في قوله تعالى عن أهل الكتاب:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، وكفر البغض والكراهية كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وكفر الاستهزاء كما في قوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، وغير ذلك من الأنواع.
هذا، ولما كانت هذه البواعث أمورا باطنة لا سبيل إلى الاطلاع عليها إلا بما يظهره صاحبها من قول أو عمل، لم ينط الشارع الأحكام الدنيوية المتعلقة بالكفر، بهذه البواعث الخفية، وإنما أناطها بما هو ظاهر ومنضبط وهو الأقوال والأعمال. وقد تقرر في علم الأصول أن الحكم يناط بالعلة لا بالحكمة، وذلك لأن العلة وصف مناسب ظاهر منضبط بخلاف الحكمة، فعلة قصر الصلاة هي السفر لا المشقة لعدم انضباطها، وعلة العدة هي الطلاق لا العلوق لخفائه (1) .
(1) - انظر حاشية البناني على المحلي على جمع الجوامع: 2/235.
إذا علم هذا، فالكفر على الحقيقة يكون- كما سبق بيانه- باعتقاد كفري أو بقول أو عمل مكفر، لكنه في الأحكام الدنيوية والقضائية لا يكون إلا بقول مكفر أو عمل مكفر. والمقصود بالأحكام الدنيوية ما يفرق به.- في الدنيا - بين المسلم والكافر كأحكام الموالاة والتناكح والتوارث والدفن والصلاة والسلام وغير ذلك. فمن كفر بقلبه-بشيء من البواعث التي سبق تفصيلها- ولم يظهره في قول أو عمل، فهو مسلم في أحكام الدنيا، ولكنه في الحقيقة عند الله كافر خارج من الملة، وهو المنافق نفاقا أكبر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس» (1)، وقال لأسامة عندما قتل من قال ''لا إله إلا الله'' في المعركة:«أفلا شققت عن قلبه « (2) . لذلك جمع الطحاوي رحمه الله هذا المعنى في قوله: «ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى» . قال ابن أبي العز في شرحه: «لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم» (3) .
ومن أمثلة تفريق أهل السنة بين سبب الكفر الظاهر- وهو القول أو العمل- وبين نوع الكفر – وهو الباعث الباطن على الإتيان بسبب الكفر- إجماعهم على الحكم بكفر من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم بغض النظر عن كونه وقع منه هذا القول المكفر تكذيبا أو بغضا أو حسدا أو غير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل» (4) .
(1) -.أخرجه البخاري في المغازي برقم: 4351 (ص822) ومسلم في الزكاة، برقم: 1064 (ص410) ..
(2)
- أخرجه مسلم في الإيمان برقم: 96 (ص65) .
(3)
- شرح الطحاوية: 379.
(4)
- الصارم المسلول: 512.
ويوضح شيخ الإسلام هذه القاعدة بقوله: «إن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه، أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به» (1) .
وواضح أن كلام شيخ الإسلام هو في الرد على المرجئة الذين يشترطون للحكم بالكفر في الدنيا، تحقق وجود التكذيب القلبي. وهذا مفرع عن مذهبهم في الإيمان من أنه يرادف التصديق، فلأجل ذلك لا يكون الكفر عندهم إلا بالتكذيب. ومثلهم الجهمية في اشتراطهم الجهل لأن الإيمان عندهم هو المعرفة.
وإنما أوردت هذه المسألة في النظم، وشرحتها بشيء من التفصيل هنا، لرد هذه الشبهة الإرجائية- أعني عدم التفريق بين نوع الكفر وسببه- فإنها من الشبه القديمة التي أحياها مرجئة العصر. فتنبه لذلك، وشد على هذه القاعدة بالنواجذ لتسلم من خلط الملبسين وزيغ المضللين.
قلت في النظم:
فليس محصورا في الاعتقاد
وهل ترى خبيئة الفؤاد؟
الشرح:
لما ذكرت في البيت السابق أن الكفر يكون بقول مكفر أو عمل مكفر، ذكرت في هذا البيت الرد على شبهة المرجئة المعروفة بجعلهم الكفر الذي به تحصل المؤاخذة في الدنيا اعتقاديا فقط، فقلت (فليس) الكفر الأكبر المخرج من الملة (محصورا في الاعتقاد) القلبي كما يزعمه المرجئة، ثم أوردت عليهم إنكارا في صيغة سؤال فقلت:(وهل ترى خبيئة) ...................................
(1) - مجموع الفتاوى: 3/315.
(الفؤاد؟!) . وحاصل الإنكار أن من حصر الكفر في الاعتقاد القلبي- كما هو مذهب طوائف المرجئة- يلزمه أن لا يكفر أحدا إلا بعد اطلاعه على باطن قلبه وتحققه من وجود الاعتقاد الكفري فيه! ولما كان هذا أمرا محالا لزمهم تضييق دائرة التكفير إلى أبعد الحدود. فغلاتهم التزموا عدم التكفير بالذنوب المكفرة لذاتها، ففارقوا الإجماع، ومعتدلوهم – وهم مرجئة الفقهاء- تمحلوا وتأولوا ليتأتى لهم أن ينفصلوا عن هذا الالتزام، وبيان هذا عنده شرح البيت المقبل.
وأما أدلة صحة هذه القاعدة، أقصد قاعدة اعتبار الظاهر في الحكم بالكفر، وعدم حصره في الاعتقاد الباطن، كثيرة جدا، أذكر بعضها:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (1) . وهو ظاهر في أن حرمة الإسلام لا تثبت إلا بأمور ظاهرة غير خفية.
- قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة لما قتل من قال '' لا إله إلا الله '' في القتال: «أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا» (2) . قال النووي في الشرح: «فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر» (3) .
- قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله» (4) . وهو واضح في المقصود.
- قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم» (5) وذلك لما قال له خالد: «وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه» .
(1) - سبق تخريجه.
(2)
- سبق تخريجه.
(3)
- شرح مسلم: 1/89.
(4)
- رواه البخاري في الصلاة-باب فضل استقبال القبلة، برقم: 391 (ص98) .
(5)
- سبق تخريجه.
- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة» (1) .
- وعن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلا في غُنَيمة له، فقال: «السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمة، فنزل قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) . فإنكار الله عز وجل على هؤلاء، لأنهم لم يكتفوا بما أظهره الرجل لهم من تحيتهم بتحية الإسلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل من المنافقين ظواهرهم، ولا يؤاخذهم في الأحكام الدنيوية بما استقر في قلوبهم من تكذيب وريب، وفي ذلك تشريع ظاهر للأمة من بعده.
فهذه بعض الأدلة التي تيسر جمعها (3) ، وكلها واضحة في أن الكفر ليس محصورا في الاعتقاد الباطن، وإنما المعتبر - في أحكام الدنيا - هو العمل والقول الظاهر، والله أعلم.
قلت في النظم:
وما يكفر من الأعمال
لا يشرط النظر في استحلال
أما الكبائر فليس يكفر
فاعلها بلا اعتقاد يضمر
الشرح:
(1) - رواه البخاري في الشهادات-باب الشهداء العدول برقم: 2641 (ص500) .
(2)
- رواه البخاري في تفسير القرآن، برقم: 4591 (872) .
(3)
- انظرها مفصلة في كتاب: قواعد في التكفير لأبي بصير: 113 وما بعدها.
لما ذكرت في البيت السابق أن الكفر ليس محصورا في الاعتقاد، بل قد يكون بقول أو عمل، بل لا يكون في أحكام الدنيا إلا كذلك، استطردت هنا بالكلام على الأعمال المكفرة، فقلت:(وما) موصول مبتدأ (يكفر) صاحبه أي يجعله كافرا ويخرجه من ملة الإسلام (من الأفعال) والأقوال، (لا يشرط) للتكفير به (النظر) ممن يريد إلحاق حكم التكفير (في استحلال) الفاعل لذلك الذنب المكفر، وفي هذا رد على المرجئة الذين يشترطون ذلك.
(أما الكبائر) التي هي دون الشرك، وذلك مثل الزنا وشرب الخمر (فليس يكفر فاعلها) خلافا للخوارج الذين يكفرون بمثل هذه الذنوب (بلا اعتقاد) كفري (يضمر) في القلب، والمقصود بهذا الاعتقاد، استحلال هذه الذنوب، بل لو استحلها لكفر بمجرد الاستحلال ولو لم يفعل شيئا منها، فليتنبه!
سبق أن بينت أن الكفر- عند أهل السنة والجماعة- كما يكون بالاعتقاد فإنه يكون بالعمل، كما سبق أن ذكرت أن ترك جنس العمل كفر، فلا أعيد هنا ما شرحته آنفا.
والذي أود تفصيله في هذا المبحث هو أن الأعمال المحرمة في الشرع على قسمين اثنين (1) :
القسم الأول: ذنوب مكفرة لذاتها، مخرجة لمرتكبها عن ملة الإسلام، بقطع النظر عما يقوم بقلبه، فهو بفعلها كافر ولو ادعى أنه لم يستحلها بقلبه.
قال ابن حزم في الفصل: " فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفرا مبطلا لإيمان صاحبه جملة، ومنها ما لا يكون كفرا، لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد"(2) .
وأدلة وجود هذا القسم من الذنوب، كثيرة جدا في الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فمنها:
1-
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} ، فحكم الله تعالى بكفرهم بمجرد القول الذي تلفظوا به.
(1) - كنت قد تكلمت في مبحث: ترك آحاد الأعمال وأفراده على شيء قريب مما سأذكره هنا، فليراجع.
(2)
- الفصل في الملل والأهواء والنحل:
2-
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . قال ابن حزم رحمه الله:" فنص تعالى على أن الإستهزاء بالله تعالى وآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبهم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الإستهزاء، ومن ادعى غير ذلك فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى"(1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب"(2) .
3-
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} فأكفرهم الله عز وجل بمجرد القول.
4-
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} فأكفره الله تعالى بمجرد تركه السجود لآدم عليه السلام.
(1) - الفصل: 2/224.
(2)
- مجموع الفتاوى:7/220.
5-
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} . قال ابن حزم رحمه الله: " فجعلهم مرتدين كفارا بعد علمهم بالحق، وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط، وأخبرنا تعالى أنه يعلم إسرارهم، ولم يقل تعالى إنهم جحدوا، بل قد صح أن في سرهم التصديق، لأن الهدى قد تبين لهم، ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلا"(1) .
6-
الإجماع على التكفير بمجرد سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم. قال إسحاق بن راهويه رحمة الله عليه: "قد أجمع العلماء على أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا أنزله الله، أو قتل نبيا من أنبياء الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله"(2) . وقال أيضا: " ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ثم قتل نبيا، أو أعان على قتله، ويقول قتل الأنبياء محرم، فهو كافر"(3) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل"(4) .
(1) - الفصل: 2/240.
(2)
- الصارم المسلول: 512.
(3)
- تعظيم قدر الصلاة للمروزي: 2/930.
(4)
- الصارم المسلول: 512.
7-
النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة ولو كان مقرا بوجوبها (1) ، وهي كثيرة من الكتاب والسنة، بل نقل الإجماع على هذه المسألة. وسيأتي في آخر الكتاب مزيد بيان لهذه القضية.
وبالجملة، فالأدلة كثيرة جدا في هذا الباب. ومن هنا يعلم خطأ إطلاق بعضهم:" لا نكفر أحدا بذنب"، قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله:" ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج"(2) . وسئل الإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله، إجماع المسلمين على الإيمان بالقدر خيره وشره؟ قال أبو عبد الله: نعم، قال: ولا نكفر أحدا بذنب؟ فقال أبو عبد الله: "اسكت، من ترك الصلاة فقد كفر، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر"(3) .
وقد أشكلت هذه الأدلة على المرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق، إذ الكفر عندهم لا يكون بمجرد العمل دون اعتقاد قلبي، فانقسموا بحسب جوابهم عن هذا الإشكال إلى ثلاث طوائف (4) :
الطائفة الأولى: مرجئة الفقهاء والأشاعرة. قالوا إن هذه الأفعال التي حكم الشارع بكفر أصحابها، ليست كفرا لذاتها ولكن هي دليل وعلامة على انتفاء التصديق من القلب. وإنما جرهم لهذا حصرهم الإيمان في التصديق القلبي كما سبق بيانه، مع رغبتهم في عدم مصادمة الإجماع ونصوص الكتاب والسنة المتظافرة، فكان التجاؤهم إلى هذا التلفيق المبتدع.
(1) - وذلك لأن النصوص مطلقة وليس شيء منها مقيدا بالجحد أو الاستحلال، فتأمل.
(2)
- شرح الطحاوية: 317.
(3)
- المسند: 10/79 كما نقله صاحب الجامع: عبد القادر بن عبد العزيز: 2/515.
(4)
- نبه على هذاالتقسيم صاحب الجامع: 2/450-453 و 2/519-520، استنباطا من كلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (المجلد السابع) .
يقول ابن حزم رحمه الله: " وأما الأشعرية فقالوا: إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء من ذلك كفرا. ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفرا، فقلنا لهم: وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل، فقالوا: لا"(1) .
ويقول أيضا في موضع آخر: "وأما سب الله تعالى فما على وجه الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما (2) ، يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفرا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى"(3) .
وينقل الشهر ستاني عن المرجئة أنهم يقولون:" من قتل نبيا أو لطمه كفر لا من أجل القتل واللطم ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض، وإلى هذا المذهب ميل ابن الراوندي وبشر المريسي، قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعا، والكفر هو الجحود والإنكار، والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه ولكنه علامة على الكفر"(4) .
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله:" وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب"(5) .
(1) - الفصل: 3/143.
(2)
- كان هذا قبل أن تصبح الأشعرية هي المذهب الرسمي لكافة بلاد الإسلام لمدة قرون طويلة، وأصبح أهل السنة غرباء، يحتاجون عند بحث أمور العقيدة إلى اعتبار خلاف الأشاعرة، وتسويد الصفحات الطوال بالرد عليهم، وقد ينجرون إلى استعمال اصطلاحاتهم الكلامية، والله المستعان.
(3)
- المحلى: 12/435.
(4)
- الملل والنحل: 1/141.
(5)
- مجموع الفتاوى:7/644.
فتبين من النقول السابقة أن الأحناف والأشاعرة غير مخالفين لأهل السنة في الأحكام، إذ الفريقان متفقان على أن من أتى بقول أو فعل مكفر، فإنه كافر ظاهرا وباطنا، وإنما الخلاف في هذا الكفر هل هو لذات القول أو العمل، أم هو بسبب انتفاء تصديق القلب؟ وهذا ما جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول:" فإن كثيرا من النزاع فيها نزاع في الإسم واللفظ دون الحكم"(1) . وتبعه على ذلك جمع من أهل العلم. وهذا صحيح في الجملة ولكن ينبغي التنبيه على الأمور التالية.
هذا المذهب – أعني مذهب الأحناف والأشاعرة- مذهب مبتدع مخالف لإجماع أهل السنة الذي سبق توضيحه. وكل بدعة ضلالة، ولو لم يكن لها تأثير في العمل، بل إن غالب البدع العقدية التي أنكرها السلف، واشتد دفعهم لها، إنما هي من قبيل البدع الإعتقادية التي قد لا يترتب عليها عمل، فتأمل!
هذا القول المبتدع مخالف أشد المخالفة للنصوص الكثيرة الدالة على التكفير بمجرد العمل بغض النظر عن تصديق القلب أو تكذيبه، وقد سبق ذكر بعضها. قال ابن تيمية رحمه الله:"ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب، حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقا، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، وكما قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} ومع هذا لم يكن مؤمنا"(2) .
هذا القول لا يعدو أن يكون تلفيقا جرهم إليه تحري التوفيق بين مذهبهم في حقيقة الإيمان، وبين نصوص الكتاب والسنة الدالة على تكفير من أتى ببعض الأعمال المجردة. وعلاوة على كون هذا القول متناقضا، فإنه ليس لهم فيه أي مستند من الكتاب أو السنة، وإنما هو محض الرأي والهوى.
(1) - مجموع الفتاوى: 13/38.
(2)
- مجموع الفتاوى: 7/151.
الفيصل الحقيقي بين مذهب مرجئة الفقهاء والأشاعرة وبين مذهب أهل السنة هو مسألة ترك جنس العمل التي سبق تفصيلها، فلتراجع. والله تعالى أعلم.
الطائفة الثانية: الجهمية، قالوا إن من نص الشارع على كفره فهو كافر في الظاهر، ويجوز أن يكون مؤمنا في الباطن. قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وقالوا (أي الجهم ومن وافقه) : لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة، قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع"(1) .
وتأمل كيف نقل شيخ الإسلام عن الجهمية قولا مخالفا لقول الطائفة الأولى، ثم بين أنهم يرجعون إلى نفس قول الطائفة الأولى بعد أن يورد عليهم أهل السنة مخالفتهم للنصوص (2) . ومن هنا تعلم مستند من اكتفى بتقسيم المرجئة إلى قسمين اثنين لا إلى ثلاثة. والله أعلم.
(1) - مجموع الفتاوى: 7/401-402.
(2)
- وقد جعل صاحب الجامع ذلك قولا آخر للجهمية يوافق قول مرجئة الفقهاء والأشاعرة. انظر الجامع: 2/452.
الطائفة الثالثة: غلاة المرجئة، وقد التزموا عدم تكفير من نص الشارع على كفره بقول أو فعل مكفر، إلا أن يصرح بالجحد أو الاستحلال القلبي. وهذا مذهب في غاية الفساد والبطلان، بل نقل إجماع علماء السلف على تكفير من يقول بذلك من المرجئة: قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله"(1) .
ومما لا يقضى منه العجب، أن شرذمة من المنتسبين إلى السنة والسلف في هذه الأعصار، أصبحوا يقولون – جهلا أو تجاهلا أو هما معا - بنفس هذه المقالة الخطيرة. فافهم ذلك وتدبر، ولا تغتر بكثرة الدعاوى العريضة.
فكل يدعى وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا!!
وقد قال صاحب الهمزية:
والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء.
هذا ما تيسر جمعه عن القسم الأول وهو في الذنوب المكفرة لذاتها، وننتقل إلى القسم الثاني.
القسم الثاني: ذنوب مفسقة غير مكفرة، وهي الذنوب التي تنقص من الإيمان ولكنها ليست تذهب بأصله، وهي الكبائر التي لم يأت النص بكفر فاعلها، أو ورد النص بذلك ولكن وجب حمله على الكفر الأصغر لوجود قرينة دالة على ذلك.
(1) - مجموع الفتاوى: 7/209.
فهذه الذنوب صاحبها فاسق (1)، وهو إن مات بلا توبة كان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. ولكنه إن أضاف إلى هذه الذنوب الجحود أو الاستحلال كان بذلك كافرا كفرا أكبر مخرجا له من الملة. يقول حافظ حكمي رحمه الله:" (إلا مع استحلاله لما جنى) هذه هي المسألة الخامسة وهي أن عامل الكبيرة يكفر باستحلاله إياها، بل يكفر بمجرد اعتقاده بتحليل ما حرم الله ورسوله ولو لم يعمل به، لأنه حينئد يكون مكذبا بالكتاب ومكذبا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كفر بالكتاب والسنة والإجماع"(2) .
وعلى مثل هذه الذنوب يتنزل إطلاق بعض أهل العلم عدم التكفير بالذنب، كما في قول الطحاوي رحمه الله:" ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"(3) . قال شيخ الإسلام رحمه الله:" ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنى والشرب"(4) .
وإذا كان المرجئة قد جانبوا الصواب في فهمهم للقسم الأول من الذنوب، فإن الخوارج قد أخطأوا في القسم الثاني، فكفروا بالكبائر ولو بغير استحلال، وقد نقل عنهم أهل المقالات في هذا الباب أقوالا في غاية الشناعة. قال الملطي:" والشراة كلهم يكفرون أصحاب المعاصي ومن خالفهم في مذهبهم مع اختلاف أقاويلهم ومذاهبهم"(5) . وينقل عن أبي بيهس الذي تنسب إليه طائفة البيهسية- فرقة من الخوارج-:"إن حكم الإمام بالكوفة حكما يستحق به الكفر، ففي تلك الساعة يكفر من كان في حكم ذلك الإمام بخراسان والأندلس"(6) . ومن أقوال البيهسية أيضا:" لو أن رجلا قطر قطرة خمر في جب فلا يشرب من ذلك أحدا إلا كفر وإن لم يشعر لأن الله عز وجل يوفق المؤمنين"(7) .
(1) - أي فسقا أصغر، وسيأتي بيانه فيما يلي.
(2)
- معارج القبول: 3/1040.
(3)
- شرح الطحاوية: 316.
(4)
- مجموع الفتاوى: 7/302.
(5)
- التنبيه والرد: 47.
(6)
- التنبيه والرد: 180.
(7)
- نفسه: 180.
فتأمل هذه الجهالات والضلالات، التي تغني حكايتها عن تكلف ردها. والله المستعان.
قلت في النظم:
والكفر منه أكبر وأصغر
والظلم والفسق كذاك يحصر
الشرح:
هذا تقسيم آخر للكفر باعتبار كونه مخرجا من الملة أو لا. قلت: (والكفر) قسمان اثنان فـ (منه) كفر (أكبر) مصروف لضرورة النظم، وكفر (أصغر) ، وسيأتي تعريفهما.
(والظلم والفسق كذاك يحصر) في هذين القسمين، أي: أن الظلم منه ظلم أكبر وظلم أصغر، والفسق كذلك فسق أكبر وفسق أصغر.
الكفر:
ينقسم الكفر إلى قسمين اثنين:
الكفر الأكبر وهو الكفر على الحقيقة المخرج من ملة الإسلام، والذي تهدر معه حصانة الإسلام وحرمته، سواء كان كفرا أصليا أو طارئا وهو الردة، وسواء كان اعتقاديا قلبيا أو كان عمليا ظاهرا، وسواء كان شركا في الربوبية أو في الألوهية أو في الأسماء والصفات أو في النبوات والغيبيات، وسواء كان الباعث عليه جحودا أو تكذيبا أو استكبارا أو شكا وريبا أو جهلا أو غير ذلك.
فمن وقع في هذا الكفر (1) - كيفما كان نوعه- وجب إجراء أحكام الكفر الدنيوية عليه، وهو في الآخرة مخلد في نار جهنم، لا تنفعه شفاعة الشافعين.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} ، وقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وغير ذلك من الآيات.
(1) - مع اعتبار قاعدة تكفير المعين التي سيأتي شرحها.
الكفر الأصغر: وهو المعروف في عبارة السلف بكفر النعمة أو كفر دون كفر، وقد يطلق عليه بعض العلماء الكفر العملي، والأولى تجنب هذا الإطلاق لأنه يوهم أن الكفر الأكبر المخرج من الملة لا يكون إلا اعتقاديا، ولا يكون بالعمل، مع أن العلماء الذين يستعملون هذا الاصطلاح لا يقصدون هذا المعنى البتة، بل الكفر الأكبر- كما سبق بيانه مرارا- يكون بالاعتقاد، وبالقول أو الفعل المكفر، وهذه مسألة إجماع عند أهل السنة.
وأما الكفر الأصغر فليس إلا معصية بولغ في وصفها، فهو كفر مجازا لا حقيقة، فلا تنتفي به أحكام الإسلام عن صاحبه، وهو في الآخرة في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وإن عذب لم يخلد في العذاب كما يخلد صاحب الكفر الأكبر، بل هو ممن يدخل الجنة إما ابتداء وإما مآلا.
ومن أمثلته حديث ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط" (1) . والحديث بوب عليه البخاري رحمه الله:" باب: كفران العشير، وكفر دون كفر".
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(2) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" (3) . وغيرها من الأحاديث.
فتبين إذن بأن الكفر نوعان: أكبر مخرج من الملة، وآخر أصغر دونه. والله أعلم.
الظلم:
(1) - رواه البخاري في الإيمان برقم: 29 (ص29)، ومسلم مطولا في كتاب الكسوف برقم: 907 (ص353) .
(2)
- رواه مسلم في الإيمان برقم: 64 (57) .
(3)
- رواه مسلم في الإيمان برقم: 67 (58) .
الظلم في اللغة مجاوزة الحد وهو في الاصطلاح وضع الشيء في غير موضعه (1) . وهو مثل الكفر نوعان: أكبر وأصغر:
الظلم الأكبر: وهو مرادف للكفر الأكبر، وذلك لأن أظلم الظلم وأكلحه وأخطره هو الشرك بالله عز وجل، الذي هو وضع للعبادة في غير موضعها الصحيح.
ولما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، شق ذلك على الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . قال الحافظ ابن حجر:" ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله:" بظلم " عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك، (
…
) فدل أن للظلم مراتب متفاوتة" (2) .
وقد وردت آيات قرآنية كثيرة أطلق فيها الظلم، وأريد الكفر الأكبر، وأمثلتها لا تخفى على المتتبع.
2-
الظلم الأصغر: وهو الذي لا ينفي الإيمان عن صاحبه، وهو محصور في ظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وفي ظلمهم بعضهم بعضا. كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدبر لبعضهم من بعض"(3) .
(1) - وعرفه الأشاعرةبأنه التصرف في ملك الغير، والتزموا لذلك أنه لو عذب المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما!! انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة: 3/1323.
(2)
- فتح الباري: 1/118.
(3)
-رواه – بهذا اللفظ – البزار من حديث أنس، وله شواهد عند أحمد والطبراني.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، ومنه قوله عز وجل:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} وقوله: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} . فهذا الظلم المذكور في هذه الآيات هو من الظلم الأصغر الذي لا يخرج من ملة الإسلام.
الفسق:
أصل الفسق والفسوق في اللغة الخروج عن القشر، فيقال فسقت الرطبة عن قشرتها، والفأرة عن جحرها، ولذلك سميت الفأرة فويسقة. وفلان فسق أي عصى وجاوز حدود الشرع. ويقال: فسق عن أمر ربه، أي خرج عن طاعته (1) . وهو بدوره نوعان: أكبر وأصغر.
1-
الفسق الأكبر: وهو مرادف للكفر الأكبر المخرج من الملة، كما في قوله تعالى:{إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} ، وفي قوله:{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} ، وغير ذلك من الآيات.
الفسق الأصغر: وهو مطلق المعاصي التي لا تنقض الإيمان، وصاحبها يطلق عليه اسم " الفاسق الملي" إشارة إلى كونه غير خارج عن ملة الإسلام، وتمييزا له عن صاحب الفسق الأكبر. ومن أمثلته قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ، وقوله:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، وقوله:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وغير ذلك من الآيات.
(1) - لسان العرب: 10/308.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:" قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكذلك قال أهل السنة كأحمد وغيره"(1) . وقال أيضا:" قال محمد بن نصر: قالوا: صدق عطاء: قد يسمى الكافر ظالما، ويسمى العاصي من المسلمين ظالما، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل. (..) قال: وكذلك الفسق فسقان، فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقا، والفاسق من المسلمين فاسقا، ذكر الله إبليس فقال {ففسقَ عَن أَمرِ رَبِّه} وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ} . يريد الكفار دل على ذلك قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} . وسمى الفاسق من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} وقال تعالى: {فمن فَرَضَ فيهِنَّ الحَجَّ فلا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحَجِّ} فقالت العلماء في تفسير الفسوق هنا: هي المعاصي"(2) .
قلت في النظم:
والأول الأصل لدى الإطلاق
كما تقرر لدى الحذاق
الشرح:
(والأول) أي الكفر الأكبر هو (الأصل) في الكتاب والسنة، بل وحتى في كلام السلف والأئمة (لدى الإطلاق) أي إذا لم يقيد بما يوضح كونه منقولا إلى معناه المجازي وهو الكفر الأصغر، أو لم توجد قرينة شرعية تمنع إرادة المعنى الحقيقي، وهذا (كما تقرر) بالأدلة اللغوية والشرعية البينة (لدى الحذاق) وأهل التحقيق والبراعة من العلماء.
(1) - مجموع الفتاوى: 7/67.
(2)
- مجموع الفتاوى: 7/327-328.
فأما الدليل اللغوي على هذه المسألة فهو أن الاستقراء دلنا على أن لفظ الكفر حقيقة شرعية في الكفر الأكبر المخرج من الملة. وعلامة الحقيقة هي التبادر كما تقرر عند أهل البلاغة والأصول. فإذا أطلق هذا اللفظ، تبادر إلى الذهن معنى الكفر الأكبر، الذي هو المعنى الراجح لكونه المعنى الحقيقي للفظ. ولا ينبغي أن يصرف اللفظ إلى المعنى المرجوح، وهو هنا المعنى المجازي، أي معنى الكفر الأصغر، إلا بقرينة واضحة تحيل إرادة المعنى الأصلي.
وأما الدليل الشرعي فما جاء في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال:" يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط"(1) .
ووجه الشاهد منه أن الصحابة فهموا من إطلاق لفظ الكفر معنى الكفر الأكبر المخرج من الملة، وهو الكفر بالله، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد هو كفر النعمة، وكفر الإحسان، ولم ينكر عليهم فهمهم، فكان إقرارا منه عليه الصلاة والسلام.
وفي تقرير هذه القاعدة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:" عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك"(2) .
(1) - سبق تخريجه.
(2)
- فتح الباري: 1/90.
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمان آل الشيخ رحمه الله:" ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين والثاني لا يحمل عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} "(1) .
ويقول ابن القيم رحمه الله:" اللفظ الذي اطرد استعماله في معنى هو ظاهر فيه، ولم يعهد استعماله في المعنى المؤول أو عهد استعماله فيه نادرا، فحمله على خلاف المعهود من استعماله باطل، فإنه يكون تلبيسا يناقض البيان والهداية"(2) .
أقول: هذا الكلام ينطبق تماما على لفظ الكفر الذي نحن بصدده، إذ هذا اللفظ ظاهر في المعنى الحقيقي الراجح وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة، مع احتماله للمعنى المجازي المرجوح وهو الكفر الأصغر (3) ، ثم إن الغالب في استعمال الشارع هو المعنى الأول، فلا يصح إذن حمل اللفظ على المعنى المرجوح إلا بقرينة.
ثم هنا قاعدة أخرى أذكرها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الكفر إذا ورد – في نصوص الكتاب والسنة- معرفا بدخول "ال" عليه، فإنه لا يراد به إلا الكفر الأكبر المخلد في النار، وأما إن ورد منكرا فإنه محتمل لمعنيي الكفر الأكبر والأصغر، مع كون الأول الأصل عند الإطلاق كما سبق بيانه.
(1) - الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف: 21-22، كما نقله صاحب الجامع: 2/831.
(2)
- مختصر الصواعق المرسلة: 1/47.
(3)
- الظاهر هو اللفظ الذي يفيد معنى راجحا مع احتماله لآخر مرجوح، كالأسد. انظر المحلي على جمع الجوامع: 1/237.
ودليل هذه القاعدة أن التعريف عند البلاغيين يؤتى به لإفادة اللفظ تمام المعنى، قال الخطيب القزويني في كتابه الإيضاح:" وأما تعريفه - يعني المسند إليه- فلتكون الفائدة أتم"(1) . وقال شارح الجوهر المكنون- الشيخ أحمد الدمنهوري-:" والإتيان بالمسند إليه معرفة لإفادة المخاطب أتم فائدة"، قال محشيه:" فإن كلا من فائدة ولازمها كلما ازداد متعلقه معرفة زاد غرابة وأتمية، فإذا قلنا: ثوب لبيس اشترى في السوق لم يكن كقولنا: ثوب من حرير فيه طراز ذراع طوله ألف شبر اشتراه فلان من فلان بألف دينار في مكان كذا وكذا، والأصل في التعيين الموجب لا زدياد الفائدة المعارف لأنها تفيد التعيين بالوضع"(2) .
إذا تقرر هذا، فلفظ الكفر المعرف بـ:"ال"، يفيد حصول كمال الكفر وغايته وتمامه، وهذا هو الكفر الأكبر المخرج من الملة، فتأمل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم:" ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" وبين كفر منكر في الإثبات"(3) .
فاشدد على هذه القواعد، بالأيدي والنواجذ، والله الموفق.
الفصل الثاني:
…
قاعدة تكفير المعين وموانع التكفير
قلت في النظم:
وينبغي الإمعان في التحذير
من عدم التفريق في التكفير
ما بين تكفير بلا تقييد
وحكم من عين بالتحديد
لابد فيه من ثبوت قاطع
للشرط، وانتفاء كل مانع
الشرح:
(1) - الإيضاح (ضمن شروح التلخيص) : 1/287.
(2)
- حلية اللب المصون (مع حاشية المنياوي) : 55.
(3)
- اقتضاء الصراط المستقيم: 70.
(وينبغي الإمعان) أي المبالغة والتشديد (في التحذير) الموجه إلى من يتكلم في مواضيع التكفير، (من عدم التفريق) جهلا أو تجاهلا (في) باب (التكفير ما بين تكفير) مطلق (بلا تقيد) ولا تعيين (و) بين (حكم من عين بالتحديد) والمعنى أنه يجب التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، إذ (لابد فيه) أي: تكفير المعين (من ثبوت) شرعي (قاطع) لكل احتمال أو شبهة (للشرط) متعلق بـ"ثبوت"، (و) كذلك لابد من (انتفاء كل مانع) من موانع التكفير التي ستأتي بيان أهمها فيما يلي.
-
اعلم يا أخا السنة أن المسائل التي سأذكرها في هذا الباب قد بلغت في الخطورة مبلغا عظيما، وفي الدقة شأوا بعيدا، مع كونها كثيرة النفع لمن ضبط شرائدها، وقيد بأدلة الكتاب والسنة أوابدها، وصان عن التشرذم فوائدها. وأما من غفل عنها أو تغافل، فسكوته في مسائل الإيمان والتكفير أولى من كلامه، وإحجامه عن الخوض فيها أجدر به من إقدامه، بل كلامه فيها ضرب من الغواية والإغواء، ونوع من الضلال واتباع الأهواء، وقانا الله وإياك مزلات الأقدام ومضلات الأفهام.
وحاصل ما ذكرت في النظم أنه ينبغي التفريق بين أمرين اثنين:
أحدهما التكفير المطلق (وقد يسمى كفر النوع) وهو الحكم بالكفر على نفس الفعل أو القول، بقطع النظر عن تنزيل حكم الكفر على الشخص المعين الذي ارتكب ذلك الفعل أو نطق بذلك القول. فيقال مثلا: من (1) قال كذا أو فعل كذا فقد كفر أو فهو كافر. فهذا تكفير على العموم أو تكفير مطلق.
- وثانيهما: التكفير بالتعيين (وقد يسمى كفر العين) وهو الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي فعل سبب الكفر من قول أو فعل مكفر. وهذا الحكم لا يكون إلا بعد التأكد من توفر الشروط ومن انتفاء الموانع.
(1) - لاحظ أن "من" اسم موصول، فهو من ألفاظ العموم كما تقرر في علم الأصول.
وبعبارة أخرى، فإن التكفير المطلق لا يستلزم دائما تكفير المعين، أو قل إن من وقع في الكفر لم يستلزم ذلك أن يكون الكفر قد وقع به.
وقد أدى الجهل بهذه القاعدة بكثير من الناس إلى الوقوع في أنواع من التخبيط والتخليط. فتجد أكثرهم إذا سمع من يقول عن فعل من الأفعال يرتكبه بعض الأشخاص: إنه كفر، فهم من ذلك تكفير القائل لهؤلاء الأشخاص بأعيانهم! وترتب على ذلك ما لا تحمد عقباه. والله المستعان.
وأما أدلة هذه القاعدة فكثيرة، وسيأتي ذكر عدد منها مفرقة عند الكلام على موانع التكفير. وإنما أكتفي هنا بنقل كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب.
يقول رحمه الله:"
…
والأصل الثاني أن التكفير العام – كالوعيد العام – يجب القول بإطلاقه وعمومه. وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه" (1) .
ويقول أيضا:" وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، من فعل كذا فله كذا، وهي منزلة قول من قال من السلف من قال كذا فهو كذا، ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة"(2) .
(1) - مجموع الفتاوى: 12/498.
(2)
- مجموع الفتاوى: 3/230، وتنبه إلى أن الموانع المذكورة في كلام شيخ الإسلام – غير التوبة – خاصة بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر، أما موانع التكفير المعتبرة فسيأتي ذكر أهمها في محلها.
إذا علم هذا، فلا يتأتى الحكم بالكفر على المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع. فالشرط هو ما يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، وأما المانع فهو ما يلزم من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم. وهذا التعريف الميسر أوضح وأوفى بالمقصود مما يتكلفه بعض الأصوليين من الحدود المنطقية (1) .
وشروط الحكم بالتكفير على المعين هي أن يكون هذا الشخص مكلفا (أي بالغا عاقلا خاليا من موانع التكليف كالصغر والجنون وغيرها) ، وأن يكون القول أو الفعل الذي وقع به التكفير صريحا غير محتمل، وأن يثبت صدوره من الشخص بطريق شرعي صحيح.
فأما الشرط الأول فمحل بحثه كتب أصول الفقه، في أبواب موانع التكليف وعوارض الأهلية. وأما الشرط الثاني فسيأتي الكلام عليه عند ذكر بعض قواعد التكفير، وأما الثالث فمحله كتب القضاء والبينات من أسفار الفقه.
وليعلم أن ما ذكرته من تعريف للشرط والمانع يقتضي أن ما كان وجوده شرطا فعدمه مانع والعكس بالعكس، وهذا أمر يوافق عليه جماهير الفقهاء كما يعلم من الوقوف على كتاباتهم، وإن خالف فيه بعض الأصوليين فاشترطوا في المانع أن يكون وصفا وجوديا لا عدميا (2) . والظاهر أن الخلاف لفظي، فليحرر.
وعلى المذهب الأول، فإنه يكفي ذكر الشروط وحدها أو ذكر الموانع وحدها، وهذا الذي يسير عليه كثير من أهل العلم فلا يذكرون في هذا الباب سوى موانع تكفير المعين. والخطب في هذا كله يسير، بإذن الله تعالى.
(1) - يقول التاج السبكي مثلا في تعريف المانع: " هو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المعرف نقيض الحكم كالأبوة في القصاص". انظر جمع الجوامع (بشرح المحلي) : 1/99.
(2)
- انظر تقريرات الشربيني على حاشية البناني: 1/99 ومثله في حاشية العطار:1/137، لكن العلامة ابن القيم رحمه الله ينقل في بدائع الفوائد: 4/11-12 اتفاق الناس على المذهب الأول. والله أعلم.
هذا عن الشروط، أما الموانع فقد ذكرت في النظم أربعة منها -وهي أهمها- وهذا أوان الشروع في الكلام عليها.
قلت في النظم:
مثل ثبوت خطأ اللسان
أو التأول مع البرهان
وهو الذي قواعد الكلام
تسيغه وشرعه الإسلام
كما أتى الأثر عن قدامه
في ظنه الشرب بلا ملامه
ليس كتأويلات أهل الزندقة
كقول إبليس ومن قد وافقه
الشرح:
(مثل) أي: أن من أمثلة الموانع المعتبرة في باب التكفير ما سيأتي ذكره.
فالمانع الأول هو تأكد (ثبوت خطأ اللسان) أي الخطأ المؤدي إلى سبق اللسان، بالنطق بالكفر من غير تعمد. والمانع الثاني ما ذكرته بقولي (أو التأول) وسيأتي تعريفه (مع البرهان) وهو الدليل الشرعي الواضح. (وهو) أي التأول المقبول مانعا من موانع التكفير، (الذي قواعد الكلام) العربي (تسيغه) أي تجيزه (و) كذلك تسيغه (شرعة) أي شريعة (الإسلام) أي أدلة الكتاب والسنة، بفهم سلف هذه الأمة.
(كَ) أي مثال التأول المانع من التكفير (ما أتى) به (الأثر) الصحيح (عن قدامه) بن مظعون (في ظنه الشربً) أي جواز شرب الخمر (بلا ملامه) أي بلا مؤاخذة ولا حساب متأولا في ذلك، كما سيأتي.
(ليس كتأويلات أهل الزندقة) من الملاحدة والباطنية وغلاة الشيعة والصوفية، (كقول إبليس) ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة على الصحيح، والمقصود قوله "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"(و) مثله في الحكم (من قد وافقه) في مثل هذا التأويل الباطل.
-
المانع الأول: الخطأ وعدم القصد إلى الفعل (1) ، كأن يسبق لسانه إلى كلمة كفر لم يقصد النطق بها، ولا كان متعمدا لذلك. وهذا مانع معتبر شرعا لقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، ولما جاء في الحديث:" إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"(2) ، ولحديث الرجل الذي أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه، فلما وجدها بعد أن أيس من الحياة، قال:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أخطأ من شدة الفرح"(3) .
وأمثلة الخطأ في القول والفعل التي يمكن ذكرها في هذا المقام كثيرة جدا. والله أعلم.
المانع الثاني: التأول.
التأول هو الخطأ في فهم دلالة النص الشرعي، بإنزال بعض النصوص في غير محلها، أو إخراجها عن مدلولاتها الصحيحة التي تشهد لها النصوص الأخرى وقواعد اللغة والشرع. فمن استحل حراما أو حرم حلالا، أو وقع في كفر وهو يحكم عليه بأنه ليس كفرا، وكان في هذا كله متأولا تأولا مستساغا في الجملة، امتنع تكفيره حتى تقام عليه الحجة الشرعية، فإن أصر على ما هو فيه من الباطل. وقع عليه حكم التكفير. وما يقتضيه من الأحكام الشرعية الدنيوية.
(1) - سيأتي التفريق بين القصد إلى الفعل المكفر والقصد إلى الكفر في محله من هذا الكتاب.
(2)
- أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحاكم، وله طرق وروايات، وحسنه النووي، وصححه السيوطي في الأشباه والنظائر: 239 بشواهده.
(3)
- رواه البخاري في الدعوات-باب التوبة، برقم: 6308 (ص1213)، ومسلم في التوبة برقم: 2744 (ص1098) ..
والدليل على هذا الأصل العظيم حادثة قدامة بن مظعون المشار إليها في النظم، وحاصلها أن قدامة وطائفة معه شربوا الخمر وتأولوا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فلما بلغ الخبر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة في ذلك، ثم وقع إجماعهم على رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وأرسل عمر لقدامة يقول له:" اخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر"(1) .
ووجه الدلالة من هذه القصة أن الصحابة أجمعوا- والإجماع حجة شرعية كما هو معلوم - على عدم إقامة حد الردة- وهو القتل- على قدامة ومن معه، رغم كونهم وقعوا في الكفر، الذي هو استحلال شرب الخمر. والمانع من إلحاق حكم الكفر بهم هو تأولهم الآية القرآنية المذكورة على غير وجهها، وهو تأول سائغ في الجملة، وإن كان باطلا كما لا يخفى من تأمل سبب نزول الآية وما ذكره فيها أئمة التفسير.
ثم إن الصحابة أجمعوا أيضا على أن هؤلاء المستحلين، لو أصروا على الاستحلال بعد إقامة الحجة عليهم، لوجب إقامة الحد عليهم. وهذا الإجماع المذكور ليس خاصا بالصحابة، فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك"(2) .
ولعل مستند هذا الإجماع النصوص الدالة على رفع المؤاخذة عند الخطأ، مثل قوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وغيرها، والله أعلم.
(2) - مجموع الفتاوى: 11/405.
وفي تقرير هذه القاعدة ودليلها يقول ابن تيمية رحمه الله: "
…
أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئد، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل" (1) .
ويقول في موضع آخر، يجمع فيه جل موانع التكفير:" والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بلإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا"(2) .
ولكن هذا التأويل لا يكون مانعا من التكفير إلا إن كان سائغا ومقبولا في الجملة، وذلك بأن تجيزه قواعد اللسان العربي، وبأن يكون له وجه معتبر في قواعد الشرع. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:" قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم"(3) .
فإن عدم أحد هذين الشرطين، لم يمنع التأويل تنزيل حكم الكفر. لذلك أجمع أهل العلم على تكفير الباطنية ومن نحا نحوهم من الروافض وغلاة الصوفية والقرامطة، وأهل الإلحاد والزندقة وأصحاب المقالات الإبليسية، مع أنه لا تخلو طائفة من هذه الطوائف من تأويلات للنصوص الشرعية، ولكنها تأويلات باطلة غير مقبولة.
(1) - مجموع الفتاوى: 7/610.
(2)
- مجموع الفتاوى: 3/231.
(3)
- فتح الباري: 12/376.
ومن أمثلة هذه التأويلات ما ينقله أبو حامد الغزالي في " فيصل التفرقة"، إذ يقول: " ولابد من التنبيه على قاعدة وهو أن المخالف قد يخالف نصا متواترا، ويزعم أنه مؤول، مثاله: ما في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وأما أن يكون واحدا في نفسه، وموجودا وعالما على معنى اتصافه فلا، وهذا كفر صراح، لأن حمل الوحدة على اعطاء الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلا
…
فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات" (1) .
وبالجملة، فإن تأويلات الباطنية وأضرابهم، مما يطول تتبعه، وفيما ذكرت آنفا غنية وكفاية. والله أعلم.
???
قلت في النظم:
أو عن بلاد شرعنا قد بعدا
وإن أتى الدواهي العظاما
إذ كل قادر ملوم، فافهم
ومن يكن حديث عهد بالهدى
يعذرْ بجهله فلا ملاما
وشرطه عجز عن التعلم
الشرح:
(ومن) اسم شرط جازم، يجزم فعلين (يكن) فعل الشرط مجزوم (حديث عهد بالهدى) أي بالإسلام أي لم يسلم إلا من مدة قريبة (أو) يكن (عن بلاد شرعنا) معاشر المسلمين (قد بعدا) أي: كان يعيش في منطقة بعيدة عن البلاد التي تستفيض فيها المعرفة بشعائر الإسلام (يعذر) جواب الشرط مجزوم (بجهله فلا ملاما) ولا حساب ولا مؤاخذة، وألف "ملاما" لإطلاق القافية. (وإن أتى) أي: قال أو فعل (الدواهي) جمع داهية، وهي الطامة والمصيبة (العظاما) نعت للدواهي. (وشرطه) أي: شرط العذر بالجهل هو (عجز عن التعلم) أي: عدم القدرة على دفع الجهل عن نفسه، ثم ذكرت العلة بقولي:(إذ كل قادر ملوم) ومحاسب، لأن القدرة مناط التكليف، (فافهم) تكملة للبيت.
المانع الثالث: الجهل.
(1) - فيصل التفرقة: 147 كما في " نواقض الإيمان القولية والعملية": 79.
اعلم أن العذر بالجهل من المسائل الخطيرة، التي كثر حولها القيل والقال، وتنازع فيها الناس في الآونة الأخيرة ما بين مفْرِط ومفَرِّط، وبين غال ومقصر. وهذا الخلاف ليس نظريا فحسب، بل هو مما يترتب عليه آثار وخيمة، وتفرق عملي في تشخيص أمراض المجتمعات والدول وفي اقتراح الحلول الناجعة، وأمثل الطرق للتغيير والعلاج.
والحق، أن قسطا وافرا من الخلاف راجع إلى غياب أو قصور في عملية التأصيل الشرعي (1) ، وهذا عيب عند كثير من المنتسبين إلى العمل الإسلامي، كما لا يخفى على المتأمل.
وسوف أكتفي في هذه الورقات بالكلام على هذا الموضوع، من أهم جوانبه وأخطرها، دون التطرق إلى التفاصيل، ولا الإكثار من النقول والاستدلالات، لئلا أخرج عن المقصود.
دليل اعتبار العذر بالجهل:
دلت على كون الجهل مانعا من موانع التكفير- بل من لحوق الوعيد بالمعين عموما- أدلة كثيرة من النصوص وقواعد الشرع، وسوف أجتزئ هنا بذكر أشهرها وأظهرها:
حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هوقائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له"(2) .
(1) - يستثنى من ذلك بعض الكتابات العلمية الرصينة التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وأحسنها – فيما أعلم – ما جاء في الجزء الأول من كتاب " الجامع في طلب العلم الشريف " للشيخ عبد القادر بن عبد العزيز، فليراجع.
(2)
- رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم: 3481 (ص670)، ومسلم في التوبة برقم: 2756 (ص1102) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "
…
وكنت دائما أذكر هذا الحديث. فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك" (1) .
حديث ذات أنواط، وهو عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، لتركبن سنن من كان قبلكم"(2) .
والحديث واضح في المراد، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكفر هؤلاء الصحابة الذي نطقوا بهذا القول الكفري، وذلك لحداثة عهدهم بالكفر وجهلهم بأصول دين الإسلام.
(1) - مجموع الفتاوى: 3/231.
(2)
- الترمذي في الفتن-باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم برقم: 2180 (ص501) ، وقال حسن صحيح، وأحمد في مسند الأنصار برقم:20892.
ج- حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لاإله إلا الله، فنحن نقولها" فقال صلة بن زفر لحذيفة: فما تغني عنهم لاإله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال:" يا صلة! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار"(1) .
قال ابن تيمية رحمه الله: " وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف" ثم ذكر حديث حذيفة السابق (2) . وهنالك أدلة أخرى كثيرة، لا داعي لبسطها هنا.
بعض الحالات التي يعذر فيها بالجهل:
ذكر أهل العلم حالات خاصة محدودة يعذر فيها بالجهل، والضابط فيها جميعها هو عدم التمكن من التعلم، ويمكن إضافة حالات أخرى متى توفر الضابط المذكور.
(1) - ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2)
- مجموع الفتاوى: 35/165.
- فمن هذه الحالات حداثة العهد بالكفر، كما جاء في حديث ذات أنواط الذي سبق ذكره. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:" لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، ولهذا لو أسلم رجل، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر حرام، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا، وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية"(1) .
ويقول ابن حزم رحمه الله: " ولا خلاف في أن امرءا لو أسلم- ولم يعلم شرائع الإسلام- فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافرا بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر"(2) .
-ومنها أن ينشأ في منطقة نائية، أو بادية بعيدة، لا تشتهر فيها شرائع الإسلام ولا تظهر فيها أصوله، ثم هو مع ذلك لا يستطيع- لمانع شرعي معتبر- أن يرحل إلى البلاد التى يمكنه فيها أن يتعلم دين الإسلام.
- ومنها أن يكون مصابا بعاهة بدنية تعوقه عن تعلم أصول الدين وشرائعه. ويستأنس في هذا الباب بحديث الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة وهم كما في الحديث:" رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة " الحديث (3) .
- ومنها اندراس العلم وذهابه، فيعذر العبد بما لم يبلغه من الدين، كما في حديث حذيفة الذي سبق ذكره، وفيه مجادلة صلة بن زفر له. فهذه بعض الحالات التي تكلم عليها العلماء، "وليقس ما لم يقل".
3-
شرط اعتبار الجهل مانعا من التكفير:
(1) - مجموع الفتاوى: 11/406.
(2)
- نقله في نواقض الإيمان:61 عن المحلى لابن حزم.
(3)
- رواه أحمد والبزار والطبراني وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
اعلم أن التكليف عموما منوط بالقدرة كما هو مقرر في علم أصول الفقه. وعليه فإن العاجز عن دفع الجهل عن نفسه عن طريق التعلم، معذور بجهله، بخلاف المتمكن من التعلم، فإن جهله لا يمنع من تكفيره، إذ هو علامة على صده عن دين الله تعالى، وإعراضه عن الحق والهدى.
يقول العلامة القرافي المالكي رحمه الله: " القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل، وبقي جاهلا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين"(1) .
ويقول ابن حزم رحمه الله مبينا وجوب السعي في طلب الواجب العيني من العلم الشرعي: " وأما من بلغه ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ثم لم يجد في بلاده من يخبره عنه ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرىء فيها الحقائق ولولا إخباره عليه السلام أنه لا نبي بعده، للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة"(2) .
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله مقيدا العذر بالجهل بالشرط الذي ذكرت آنفا:"
…
إن هذا العذر لا يكون عذرا إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصر فيها لم يكن معذورا" (3) .
ويقول العلامة الأصولي المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:"
…
وأما القادر على التعلم المفرِّطُ فيه، والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور" (4) .
وبالجملة، فإن هذا القيد مما لا ينبغي أن يقع حوله أدنى خلاف، لكثرة القواعد والأدلة التي تشهد له.
قلت في النظم:
وحجة الله على العباد
رسالة التوحيد والرشاد
أتى بها الرسْل دعاة الحق
أهل الكمال والتقى والصدق
فلا تقوم حجة الخلَّاق
بفطرة أو عقلِ اَو ميثاق
والجهل في مسائل التوحيد
معتبر في المذهب الرشيد
(1) - الفروق: 4/264.
(2)
- الإحكام: 5/110.
(3)
- مجموع الفتاوى: 20/280.
(4)
- أضواء البيان: 7/357.
الشرح:
لما تكلمت على العذر بالجهل فيما سبق، وكان هذا الجهل لا يرفع إلا بعد بلوغ الحجة الرسالية، تكلمت هنا على هذه الحجة، وما يلحق بذلك من مسائل هامة، فقلت:
(وحجة الله) تعالى (على العباد) أجمعين هي (رسالة التوحيد والرشاد) التي (أتى بها) من عند الله عز وجل (الرسْل) الكرام (دعاة الحق) وحملة لوائه و (أهل الكمال) في الجنس البشري، (والتُّقى) مصدر اتقى يتقي (والصدق) وغير ذلك من أنواع الكمالات الإنسانية، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(فلا تقوم حجة الخلاق) سبحانه وتعالى على عباده (بفطرة أو عقل اَو) بتخفيف الهمزة للوزن (ميثاق) وسيأتي تعريفها، وبيان عدم صلاحيتها لأن تكون حججا مستقلة.
(والجهل في مسائل التوحيد) بقيود مسطرة في مواضعها، (معتبر في المذهب الرشيد) الصحيح، خلافا لمن أطلق القول بعدم العذر بالجهل في أصل التوحيد.
والكلام على هذا المبحث يكون من خلال المسائل التالية:
المسالة الأولى: الحجة الرسالية:
الحجة في اللغة البرهان، والمقصود به هنا الدليل الذي متى قام على المكلف الواقع في الكفر ارتفع عنه الجهل المانع من تكفيره.
وقد اختلف الناس في هذه الحجة بم تقوم؟ واتفق أهل السنة على أنها لا تقوم إلا ببلوغ الخطاب الشرعي السمعي عن طريق المرسلين. وأدلة ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا. فمنها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله: {لئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} وقوله جل ذكره: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وإنما أكثرت من نقل الآيات القرآنية الدالة على هذا الأصل السُّنِّي، خلافا للمعهود في هذا الكتاب، دفعا لما يمكن أن يتوهم من أن هذا الأصل لا تشهد له سوى آية سورة الإسراء، فتردَّ دلالتها بنوع من التأول. والحق - كما رأيت - أن الآيات في هذا الباب كثيرة جدا، وواضحة الدلالة على المقصود.
ومن الأدلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار "(1) .
قال العراقي في "طرح التثريب": " ومفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور على ما تقرر في الأصول أن لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح"(2) .
وعلى العموم فهذا أصل مقرر عند أهل السنة والجماعة، كما ينقله اللالكائي. وغيره من أئمة أهل السنة.
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله:" وهذا أصل لابد من إثباته، وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لايعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه.- ثم ذكر رحمه الله مجموعة من الآيات القرآنية التي ذكرتها آنفا، ثم قال: وإذا كان كذلك فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه"(3) .
ويقول ابن القيم رحمه الله:" وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل"(4) .
المسألة الثانية: صفة إقامة الحجة الرسالية:
(1) - رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم: 153 (ص85) .
(2)
- طرح التثريب: 7/160.
(3)
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 1/309-310.
(4)
- طريق الهجرتين: 611.
لما كانت الفائدة من إقامة الحجة هي رفع الجهل عن المعين، وإبلاغه الخطاب الشرعي الذي يكفر مخالفه، وجب أن يتوفر فيها من الشروط ما تكون به قاطعة لكل شبهة، ودافعة لكل احتمال وهذا أمر يختلف بحسب الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة وغير ذلك، لذلك يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:" إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لايفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له"(1) .
والضابط في هذا الباب هو بلوغ الحجة للمكلف على وجه يمكنه به فهمها (2) . وذلك بأن تكون بلغته، اقتضى ذلك ترجمة معاني القرآن والحديث، كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله:" ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن لفظه ومعناه، وكما أمر بذلك الرسول ولا يكون تبليغ رسالة إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان. والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة"(3) .
(1) - طريق الهجرتين: 611-612.
(2)
- انظر "الجامع في طلب العلم الشريف": 1/386.
(3)
- مجموع الفتاوى: 4/116-117.
وكذلك ينبغي أن تكون الحجة بينة واضحة قاطعة للشبهة، وهذه صفة ما جاء به المرسلون، كما في قوله تعالى:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وقوله جل ذكره:{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وغير ذلك من الآيات. يقول ابن تيمية عليه رحمة الله:" وقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ، قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما تقوم به عليه الحجة، ولو كان عربيا وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته، وجب أن نبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه، فعلينا ذلك. وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن، فإنه كان يجيبهم عنه"(1) .
فظهر من هذا الكلام النفيس، أن فهم الحجة شرط في صحة قيامها على المكلف. والمقصود بفهمها معرفة المعنى المراد منها، وتمام الإدراك لها ولما يراد منها، أما الفهم بمعنى القبول والانقياد والإذعان، فلا يشترط في إقامة الحجة. وعلى هذا المعنى الثاني لفهم الحجة ينبغي أن يتنزل تفريق كثير من علماء الدعوة النجدية بين بلوغ الحجة وفهمها، وقولهم أن من بلغته الحجة قامت عليه وإن لم يفهمها.
أما المعنى الأول للفهم، فلا ينبغي أن ينازع أحد من أهل العلم في كونه شرطا في قيام الحجة.
المسألة الثالثة: هل تقوم الحجة بمجرد العقل؟
(1) - الجواب الصحيح: 1/68.
هذه المسألة هي المشهورة في كتب الأصول والعقائد بمسألة التحسين والتقبيح العقليين، وهي من المباحث العظيمة التي اشتد حولها الخلاف أولا بين المعتزلة والأشاعرة، ثم ظهرت إضافات علمية لفرق أخرى. ومجمل الخلاف فيها يدور حول نقطتين اثنتين:
الأولى: هل العقل يصلح أن يكون سبيلا لإدراك الحكم؟
الثانية: هل إدراك العقل للحكم-على فرض إمكانه- مناط للتكليف؟
أما النقطة الأولى فحاصل الخلاف فيها بين مختلف الطوائف يرجع إلى أقوال ثلاثة:
المعتزلة ومن نحا نحوهم قالوا إن الفعل إن كانت مصلحته غالبة أو كان مصلحة محضة كان حسنا، وإن غلبت مفسدته أو كان مفسدة محضة كان قبيحا. ويترتب على إدراك الحسن والقبح في الفعل عن طريق العقل، إدراك حكم الله تعالى فيه (1) .
الأشاعرة ومن معهم- وهم الذين يسميهم شيخ الإسلام نظار المجبرة- قالوا: ليس في الفعل قبح ذاتي ولا حسن ذاتي، وإنما يأخذ صفة الحسن والقبح بعد حكم الشارع الذي هو السبيل الوحيد لإدراك الحكم. فلو أن الشارع أمر بالزنا أو شرب الخمر لكان ذلك حسنا.
الماتريدية قالوا: يوجد في الفعل حسن أوقبح ذاتيان، وقد يدرك العقل هذا الحسن والقبح استقلالا عن الشارع. وهذا المذهب الثالث- الذي هو قول أهل السنة كما نقله عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم في مواضع متفرقة من كتبهما- غير مشهور في كتب أصول الفقه، ويهمله كثير من المؤلفين فيه، وقد عاتبهم على هذا الإهمال الشيخ بخيت مطيعي في "سلم الوصول".
أما النقطة الثانية ففيها قولان اثنان:
الأول هو قول المعتزلة وعندهم أن الإدراك العقلي مناط التكليف، أي: أن الناس محاسبون بمقتضى عقولهم. والثاني قول أهل السنة ومن معهم وهو أن الحساب والعقاب لايكون إلا بعد بلوغ الحجة الرسالية، للأدلة التي سقتها فيما سبق.
(1) - انظر طريقتهم في إدراك الأحكام الخمسة عن طريق العقل في ما كتب على جمع الجوامع، عند قوله:" وحكمت المعتزلة العقل ".
فالحاصل أن المذهب الحق الذي "يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين"(1) ، هو أن العقل يمكنه أن يستقل بإدراك الحسن والقبح الذاتيين في الأفعال، ولكن لاعقاب ولاحساب قبل ورود الشرع.
ويترتب على الخلاف السابق، الخلاف في أهل الفترات ومن في حكمهم، أو في حال غياب المجتهدين (2) ، فعند المعتزلة يكلف الناس في هذه الحالات بمقتضى العقل، ويتفرع على ذلك آثار كثيرة جدا.
المسألة الرابعة: هل تقوم الحجة بالفطرة أوالميثاق؟
المقصود بالفطرة ما يولد عليه الإنسان، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:" ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة- راوي الحديث- اقرؤوا: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} "(3) .
(1) - هكذا وصفه الشيخ بخيت مطيعي في سلم الوصول:
(2)
- على القول بجواز خلو الزمان عن مجتهد، والمسألة محل خلاف عند الأصوليين.
(3)
- رواه البخاري في الجنائز-باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، برقم: 1358 (263)، ومسلم في كتاب القدر برقم: 2658 (ص1066) .
والذي عليه عامة السلف - كما ينقله ابن القيم رحمه الله – أن الفطرة التي يولد عليها الإنسان هي دين الإسلام. والدليل على ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث السابق:" ما من مولود إلا وهو على الملة"(1)، قال ابن القيم:" فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام، كما فسره ابن شهاب راوى الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك "(2) . ويدل أيضا على أن الفطرة هي الإسلام حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى:" إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"(3) . فهذا صريح في أن العباد كلهم مخلوقون على الحنيفية، وهذا يدل على أن الفطرة هي دين الإسلام.
(1) - رواه مسلم برقم 2658 (ص1067)
(2)
- أحكام أهل الذمة: 2/535.
(3)
- رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم: 2865 (ص1148) .
وأما الميثاق فهو ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} ، وجاء في الصحيحين من حديث أنس مرفوعا:" يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لوكان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به، قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لاتشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي"(1) . وقد جاء في السنة تفسير الاية السابقة، وبيان كيفية أخذ الميثاق على بنى آدم، وذلك في الحديث الصحيح: " أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنَعمان يعني عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: ألست بربكم.. (2)
ونظم ذلك الشيخ حافظ حكمي رحمه الله بقوله:
أخرج فيما قد مضى من ظهر
…
...
…
آدم ذريته كالذر
وأخذ العهد عليهم أنه
…
...
…
لارب معبود بحق غيره.
وقد سوى كثير من أهل العلم بين الميثاق والفطرة وعدوهما أمرا واحدا، وقال البعض بالفرق بينهما، وهذا هو الأظهر من سياق الأحاديث المفسرة للميثاق، والله أعلم.
إذا علم هذا، فإن الفطرة والميثاق لا يصلح أي منهما لأن يكون حجة مستقلة على العباد، والدليل على ذلك (3) :
(1) - رواه البخاري في أحاديث الأنبياء برقم: 3334 (ص636)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار برقم: 2805 (ص1128) .
(2)
- رواه أحمد والحاكم وصححه. وانظر السلسلة الصحيحة: 1623.
(3)
- اختصرت الأدلة من كتاب " الجامع في طلب العلم الشريف": 1/371.
1-
قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} قال الإمام محمد بن نصر المروزي منكرا على من زعم أن الميثاق حجة:" زعم أن الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل مولود يولد عليها هي خلقه في كل مولود معرفة بربه وزعم أنه على معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الآية، قال محمد بن نصر: " قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} فزعم هذا أنهم يعرفون أعظم الأشياء وهو الله تعالى، فمن أعظم جرما وأشد مخالفة للكتاب ممن سمع الله عز وجل يقول:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} فزعم أنهم يعلمون أعظم الأشياء؟ وهذا هو المعاند لرب العالمين والجاهل بالكتاب" (1) .
2-
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، ووجه الدلالة منها ظاهر.
3-
الآيات التي سبق نقلها في المسألة الأولى، للاستدلال على الحجة الرسالية. قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:" والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولا، ولم يقل حتى نخلق عقولا، وننصب أدلة، ونركز فطرة"(2) .
(1) - نقله ابن القيم في أحكام أهل الذمة: 2/525-526.
(2)
- أضواء البيان: وكلامه – رحمه الله – كما هو ظاهر، ليس خاصا بالرد على أهل الحسن والقبح العقليين، كما ادعاه بعض المعاصرين، فليتأمل.
فتبين إذن أن الفطرة والميثاق ليست حجة مستقلة، وأنه لابد من الحجة الرسالية التي جاء بها الرسل مذكرين بتلك الفطرة وذلك الميثاق، كما في قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} . قال حافظ حكمي رحمه الله:
وبعد هذا رسله قد أرسلا
…
...
…
لهم وبالحق الكتاب أنزلا
لكي بذا العهد يذكروهم
…
...
…
وينذروهم ويبشروهم
قال ابن تيمية رحمه الله:" ولهذا كانت الرسل إنما تأتي بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته وإمداده ونفي المغيِّر للفطرة، فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لابتغيير الفطرة وتحويلها"(1) .
فتقرير الفطرة هو التذكير بها، وتكميلها هو تفصيل الشرائع وحقوق الله على عباده.
المسألة الخامسة: هل يعتبر العذر بالجهل في أصل التوحيد؟
قدمت في الفقرات السابقة أدلة عديدة على اعتبار الجهل مانعا من موانع التكفير. وهي أدلة واضحة في العذر بالجهل ولو في أصل التوحيد، وذلك مثل حديث ذات أنواط، فقد طلب فيه هؤلاء الصحابة حدثاء العهد بالكفر، أمرا هو ناقض لأصل التوحيد وداخل في باب الشرك الأكبر، ولم يكفرهم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل جهلهم. ومثله حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الرياح، شكا في قدرة الله جل ذكره على بعثه وإحيائه، وهذا كفر بين وناقض لأصل التوحيد وفيه إنكار للبعث بعد الموت ولعموم قدرة الله عز وجل التي هي إحدى أبرز وأجلى صفات الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإن الله تعالى عذره بجهله ودل حديث حذيفة على أن الذين يتركون الصلاة والصيام والصدق في زمان اندراس العلم وذهاب أهله، يعذرون بجهلهم، وينجون من النار بمجرد كلمة لاإله إلا الله، مع أن ترك الصلاة والصيام والصدقة كفر مخرج من الملة كما سبق في مسألة ترك جنس العمل في الفصل الأول من هذا الكتاب.
(1) - مجموع الفتاوى: 16/348.
كما ذكرت في المسائل الأربعة الأولى من هذا المبحث، أن حجة الله البالغة على عباده لا تقوم إلا بالرسالات وأن العقل لا يصلح حجة سواء في أصل التوحيد أو في فروعه، وأن الميثاق والفطرة حجتان ناقصتان محتاجتان إلى التذكير بهما عن طريق الحجة الرسالية.
فنخلص من هذا كله إلى أن إطلاق القول بعدم العذر بالجهل في أصل التوحيد، وإن كان يقول به بعض أهل العلم المتأخرين (1) ويتبعهم على ذلك بعض المعاصرين، مذهب غير صحيح وليس عليه من البراهين والحجج ما يقوى على مناطحة الأدلة والنصوص المتظافرة التي قدمت بعضها فيما سبق.
نعم، يمكن حمل كلام هؤلاء العلماء على أنهم لايعذرون بالجهل في مسائل التوحيد المعلومة من الدين بالضرورة أو التي استفاضت تفاصيلها واشتهرت، وبالنسبة للذين من شأنهم أن يكونوا عالمين بهذه المسائل، بأن يتوفر فيهم ضابط التمكن من العلم الذي ذكرته آنفا.
فمثلا، من كان يعيش في بلاد الإسلام، ولم يكن حديث عهد بالكفر، وكان كامل الحواس متمكنا من سماع العلم وفهمه، فإنه لايعذر بالجهل إذا وقع في عبادة الكواكب والأصنام، أو سب الله غز وجل، أو استهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك مما لايتصور فيه حدوث الجهل به. وهذا في حقيقة الأمر، يؤول إلى الضوابط التي ذكرتها آنفا لصحة العذر بالجهل، وعلى الخصوص ضابط التمكن من العلم.
(1) - هذا مشهور في كتابات أئمة الدعوة النجدية، من لدن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وقد كُتب الكثير في محاولة فهم وتحليل موقف هؤلاء الأئمة من قضية العذر بالجهل، وليس فيما كتب ما يروي الغليل ولا ما يشفي العليل، بل القضية ما تزال محتاجة إلى جهد تحليلي أكبر.
فإن حُمل كلام هؤلاء الأئمة على هذا المعنى كان صحيحا ولاغبار عليه، وأما إن بقي على إطلاقه فهو زلة خطيرة تفتح الباب على مصراعيه أمام فكر الخوارج ومناهج غلاة التكفيريين، وحسبك بهذه النتيجة خطورة وتهديدا لكيان الأمة. وبالمقابل، فإن فتح باب العذر بالجهل، بقطع النظر عن الضوابط المسطرة فيما سبق، يؤدي إلى تمييع شنيع لباب التكفير.
والحق دائما وسط بين أهل الغلو وأهل التقصير. والله أعلم.
قلت في النظم:
هذا ومن موانع التكفير
أن يُكره العبد على المحذور
الشرح:
المانع الرابع: الإكراه.
الإكراه هو إلزام الغير بما يريده (1) . وقد نقل الأصوليون الخلاف في تكليف المكره على مذهبين كبيرين:
-مذهب المعتزلة وهو عدم التكليف مطلقا،
-ومذهب الأشاعرة وهو تكليفه. والحق أن الأصل في المكره التكليف، ولكن مع تفصيلات:
فإذا خالف داعيةُ الإكراه داعيةَ الشرع مثل الإكراه على القتل، فلا خلاف في جواز التكليف به. قال أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله:" انعقد الإجماع على أن المكرَه على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه وأنه يأثم إن قتل من أكره على قتله"(2) .
وأما إن وافق داعيةُ الإكراه داعيةَ الشرع كمن أكره بالسيف على قتل حية همَّت بقتل مسلم، أو الإكراه على قتل الكافرالحربي، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف. فالمعتزلة قالوا بامتناع التكليف لأنه لايصح منه إلا فعلُ ما أكره عليه، فلا يبقى له خيرة. وقال الآخرون بجوازه لقدرته على الإمتثال بأن يأتي بالمكرَه عليه لأجل داعي الشرع، كمن أكره على أداء الزكاة فنواها عند أخذها منه. قال الغزالي:" وهذا ظاهر، ولكن فيه غور "(3) .
التفصيل بين أن يكون الفعل المكرَه عليه متعلقا:
ا- بحقوق العباد، فالأصل أنه مكلف لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا مثل الإكراه على القتل.
(1) - فتح الباري: 12/385.
(2)
- فتح الباري: 12/386.
(3)
- المستصفى: 1/170.
ب-بحقوق الله عز وجل، فالأصل أنه غير مكلف لأن حقوق الله مبنية على المسامحة. وهذا مثل الإكراه على النطق بكلمة الكفر. والدليل قوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وكذلك قوله عز وجل: {لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} . قال ابن عباس: التقاة: التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان (1) .
وجاء في الحديث: " إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"(2) . وقصة عمار بن ياسر، عندما أكره تحت طائلة العذاب على النطق بكلمة الكفر، مشهورة في السيرة.
وعليه فمن أظهر الكفر مكرها بلسانه أو جوارحه، وقلبُه مطمئن بالإيمان، فليس عليه من حرج، وهو معذور بسبب الإكراه.
هذا وقد ذكر العلماء شروطا للعذر بالإكراه. قال الحافظ في الفتح: " وشروط الإكراه أربعة:
- أن يكون فاعله قادرا على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزا عن الدفع ولو بالفرار.
- أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
- أن يكون ما هدده به فوريا، فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غدا لايعد مكرها، ويستثنى ما إذا ذكر زمنا قريبا جدا أو جرت العادة بأنه لا يخلف.
- أن لايظهر من المأمور ما يدل على اختياره كمن أكره على الزنا فأولج وأمكنه أن ينزع ويقول أنزلت، فيتمادى حتى ينزل " (3) .
كما أن حد الإكراه يختلف الحكم فيه باختلاف النظر في ثلاثة أمور هي (4) :
1-
حال المكرَه (بفتح الراء) .
(1) - تفسير الطبري: 3/228.
(2)
- سبق تخريجه.
(3)
- فتح الباري: 12/385.
(4)
- انظر " ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة ": 278.
2-
حال المكرِه (من وقع منه الإكراه) .
3-
الأمر الذي وقع عليه الإكراه.
فأما حال المكرَه فلأن الناس يختلفون في قدرات تحملهم، وفي مكانتهم في المجتمع، وما يترتب على إجابتهم من نتائج على الأمة. لذلك لما سئل الإمام أحمد عن العالم وهل له أن يأخذ بالتقية في فتواه أجاب:" إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟ ". فتأمل مقدار فهم هذا الإمام العظيم للأمانة الجسيمة الملقاة على عاتق العلماء، وقارن هذا الموقف الرباني بما يقع فيه كثير من العلماء المعاصرين من تهافت على موائد السلطان، وتكالب على فتات الدنيا، وتطويع للنصوص والقواعد الشرعية الراسخة للأهواء والأمزجة. وصدق عبد الله بن المبارك رحمه الله حين قال:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
…
... وأحبار سوء ورهبانها
وأما حال من وقع منه الإكراه فلأن هنالك فرقا بين من يستطيع تنفيذ الوعيد بأن كان ذا سلطان أو من في حكمه وبين من يُعلم عن طريق العادة أنه يكتفي بالتهديد دون تنفيذ.
وأما الأمر الذي وقع عليه الإكراه فلأن الردة تختلف عن المحرَّم المجمع على تحريمه مما هو دون الشرك، وهذا بدوره يختلف عن المحرم المختلف في حرمته، وهكذا. فوجب أن يختلف حد الإكراه في هذه الأمور كذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله:" تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكرَه عليه. فليس المعتبر في كلمات الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها. فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد. ولايكون الكلام إكراها، وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها أو مسكنها فلها أن ترجع على أنها لاتهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها. فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها. (
…
) ومثل هذا لايكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي الكفار أن لا يزوجوه أو أن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر" (1) .
هذا ومما ينبغي الإشارة إليه، أن الأخذ بالعزيمة والصبر على التعذيب أو القتل أولى من الترخص وإجابة داعية الإكراه، ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:" سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"(2) . ويدل عليه أيضا صبر كثير من الصحابة والدعاة والعلماء على مر تاريخ هذا الأمة، وعدم قبولهم بالرخصة، ومازال الناس يثنون عليهم وعلى صبرهم وجهادهم.
ولولا فضل الله عز وجل على هذه الأمة بأن قيض لها أمثال هؤلاء المجاهدين الصابرين المحتسبين، لما استطاع الحق أن يستمر لمدة قرون طويلة غضا طريا، يشق طريقه في عباب الباطل، وبين أمواج الضلال.
فهل آن للمسلمين أن يسترجعوا هذا الفهم السلفي الراقي لدين الإسلام، وأن يسستخلصوا ما تبقى لديهم من عز ونخوة من مستنقع التخاذل وحمأة الترخص؟
قلت في النظم:
(1) - الفتاوى الكبرى: 5/490.
(2)
- رواه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد.
من يقصدُ الكفر يُكفرُ به
حتى وإن لم يقصدِ الكفر به
الشرح:
(من) اسم موصول بمعنى الذي، في محل رفع على الابتداء (يقصد الكفر) أي يتعمد الوقوع فيه، والجملة الفعلية لامحل لها من الإعراب، صلة الموصول (يكفر به) الجملة في محل رفع خبر المبتدأ، (حتى وإن لم يقصد الكفر به) بأن قصد الفعل وعمد إليه وهو لايقصد الكفر.
ذكرت عند الكلام على بعض موانع التكفير، مسألة القصد إلى الفعل وتعمده. وآن الأوان لكي نفرق بين نوعين من القصد أحدهما شرط في الحكم بالتكفير والآخر ليس شرطا.
فأما الأول فهو أن يقصد الإنسان إلى الفعل ويتعمده ولايكون مخطئا فيه، فهذا القصد لاشك في اشتراطه لتكفير صاحبه. ومثال انتفاء هذا القصد ما جاء في حديث الرجل الذي أضل راحلته كما سبق بيانه.
وأما الثاني فهو أن يقصد الإنسان الكفرَ بفعله الذي تعمده، فهذا القصد ليس شرطا لتكفير صاحبه، ولايمنع انتفاؤه أو ادعاء انتفائه من المؤاخذة بالفعل المكفر. إذ لو اشترطنا وجود هذا القصد في إلحاق حكم الكفر، لم يعجز أحد من الواقعين في الأقوال والأفعال الشركية أن يعتذر بعدم قصده الكفر بفعله، ولكان ذلك سببا في إغلاق باب التكفير مطلقا. والحق أن كثير من الكفار يعتقدون أنهم على حق فيما يقولونه ويفعلونه، وأنهم لايقصدون الوقوع في الكفر أو الشرك، كما في قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} . قال ابن جرير الطبري رحمه الله:" وهذا من أدل الدلائل على خطإ قول من زعم أنه لايكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكرُه أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لايكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه مثابين مأجورين عليه، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة"(1) .
(1) - تفسير الطبري: 8/295.
ومن أدلة هذا التفريق قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . قال شيخ الإسلام رحمه الله:"
…
فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرَّم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفرا، وكان كفرا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه" (1) .
وقال أيضا في بيان التفريق بين هذين النوعين من القصد:"
…
وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفر كَفرَ بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرا، إذ لايقصد الكفرَ أحد إلا ما شاء الله" (2) .
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث المارقة (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) :" وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام"(3) .
الفصل الثالث: قواعد إجمالية في التكفير:
قلت في النظم:
تنزيل حكم الكفر في الأعيان
أمر عظيم الشأن في الميزان
فاحذر وبالغ في احتياط وحذر
فمن يكفر مسلما فقد كفر
الشرح:
(تنزيل حكم الكفر في) أي على (الأعيان أمر عظيم الشأن) والمنزلة (في الميزان) عند الله عز وجل، إلى جانب ما يترتب عليه من آثار ونتائج في الدنيا. (فاحذر) يا أخا السنة (وبالغ في احتياط وحذر) عند حكمك بالكفر على المعينين المنتسبين إلى القبلة (فـ) إنه (من يكفرْ مسلما) ثبت إسلامه بيقين ولم ينقضه بكفر صريح (فقد كفر) إلا أن يكون صاحب تأول أو اجتهاد سائغين في الجملة.
(1) - مجموع الفتاوى: 7/273.
(2)
- الصارم المسلول: 177-178.
(3)
- فتح الباري: 12/373.
اعلم أن الإنسان محاسب أشد ما يكون الحساب على ما ينطقه بلسانه، كما دلت على ذلك آيات وأحاديث كثيرة (1) . فمن ذلك حديث معاذ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم - أو قال مناخيرهم - في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم"(2) . ومنها ما جاء في الحديث الصحيح:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأسا فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا"(3) .
وأخطر ما ينطقه اللسان، ويُخشى على صاحبه من غضب الله عز وجل ومقته، التكلم في الأعراض، والطعن في المؤمنين، ووصفهم بما ليس فيهم. وقد قال سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال"(4) . وقال أيضا:" إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"(5) .
(1) - للشيخ بكر أبو زيد مبحث طيب في هذه المسألة في مقدمة كتابه النافع " معجم المناهي اللفظية"، فليراجع للفائدة.
(2)
- رواه الترمذي في الإيمان-باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم: 2616 (ص594)، وابن ماجة في الفتن برقم: 3963، وأحمد في مسند الأنصار:21008.
(3)
- رواه بألفاظ مختلفة البخاري في الرقاق برقم: 6478 (ص1243)، ومسلم في الزهد والرقائق برقم: 2988 (ص1197) .
(4)
- رواه أبو داود في الأقضية-باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها برقم: 3597 (2/164)، وأحمد في مسند المكثرين برقم:5129..
(5)
- رواه أبو داود في الأدب-باب في الغيبة برقم: 4876 (2/451)، وأحمد في مسند العشرة برقم:1564.
وإن أشنع ما يمكن أن يوصم به الإنسان المسلم، هو اتهامه بالكفر والزندقة، وإخراجه من ملة الإسلام، وقطع أواصر الموالاة بينه وبين بقية المسلمين، وما يترتب على ذلك من أحكام شرعية خطيرة في التوارث والتناكح والدفن والشهادات وعصمة الدم والمال وغير ذلك.
ولاشك أن مثل هذا الاتهام إن لم يكن ناشئا عن اجتهاد معتبر أو تأويل سائغ - زلة قدم عظيمة، لايستهين بها إلا من انعدم من قلبه خشية الله عز وجل، وافتقد أسباب التقوى والورع. وقد جاء في الحديث الصحيح:" أيُّما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما"(1) .
قال الغزالي في "فيصل التفرقة": " ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف ككافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد"(2) .
وهذا الذي قاله صحيح في الجملة، إلا في حالات خاصة يكون فيها عدم تكفير الكافر سببا في حدوث فتنة عظيمة تعم البلاد والعباد، كما هو مشاهد ومشهور في هذا العصر، فعند ذلك قد ينقلب التفضيل المذكور في كلام الغزالي، مع أن سفك دم المسلم هو- في جميع الحالات- أمر شديد الخطورة والشناعة.
(1) - رواه البخاري في الأدب-باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، برقم: 6104 (ص1178)، ومسلم في الإيمان برقم: 60 (ص56) .
(2)
- نقله في الفتح: 12/372.
وقد دلت أدلة كثيرة على هذا الأصل العظيم الذي ذكرته. فمنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . ومثل هذه الآية قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .
والآيتان ظاهرتان في وجوب التبين والتثبت، وعدم التسرع في إصدار الحكم على الناس. وبالجملة، فالأدلة على هذا المعنى كثيرة جدا.
أما القاعدة التي ذكرتها في النظم وهي أن" من كفر مسلما فقد كفر"، فهي قاعدة صحيحة إجمالا إذا روعي في تنزيلها على الأعيان مجموعة من القيود والتخصيصات.
وأصل هذه القاعدة، قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما"(1)، وقوله كذلك:" أيما امرىء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت"(2)، وقوله:" من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"(3) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيما رجل مسلم أكفر رجل مسلما فإن كان كافرا، وإلا كان هو الكافر"(4) .
(1) - رواه مسلم في الإيمان برقم: 60 (ص56) .
(2)
- رواه البخاري في الأدب-باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، برقم: 6104 (ص1178)، ولفظ:"إن كان كما قال وإلا رجعت" عند أحمد في مسند المكثرين برقم: 4792.
(3)
-رواه مسلم في الإيمان برقم: 61 (57) .
(4)
- رواه أبو داود في السنة-باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم: 4687 (2/409) .
وإلى جانب هذه الأحاديث الصريحة الصحيحة، فإن تكفير المسلم فيه تكذيب بخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ورد على الله تعالى أمره، وكفى بذلك كفرا مستبينا، وضلالا وبيلا.
على أن هذا الوعيد لايلحق من اجتهد عن علم وروية، فأخطأ في تكفير أحد المسلمين، ولم يكن مكذبا بحكم الله ورسوله، ولا هازلا خائضا لاعبا. إذ مثل هذا المجتهد المخطىء داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا حكم الحاكم فأخطأ فله أجر"(1) ، فالتكفير لايعدو أن يكون حكما من الأحكام الشرعية. وقد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقائع كثيرة تفيد أن المجتهد المخطىء في التكفير لايحور عليه الكفر بل ولا يحاسب على خطئه.
ومن الأمثلة قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك منافق تجادل عن المنافقين"، وذلك لما ورد في كلام سعد ما يفيد مجادلته عن عبد الله بن أبي بن سلول (2) .
ومنها نبز عمر بن الخطاب حاطبَ بن بلتعة بالنفاق واستئذانه رسول الله صلى الله عيه وسلم في ضرب عنقه في القصة المشهورة قبيل فتح مكة (3) ، وغير ذلك من الوقائع. والله أعلم.
قلت في النظم:
ويحرم التكفير بالمآل
كذا الذي بلازم الأقوال
كذاك تكفير بفعل محتمل
غيرِ صريح في المراد لا يحل
الشرح:
(1) - رواه البخاري في الاعتصام-باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ-برقم: 7352 (ص1400) ، ومسلم في كتاب الأقضية-باب النهي عن كثرة المسائل، برقم: 1716 (713) . ومعناه متواتر.
(2)
- في حديث الإفك الطويل الذي أخرجه البخاري في الشهادات-باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم: 2661 (ص504)، ومسلم في التوبة-باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف برقم: 2770 (ص1112) .
(3)
- رواه البخاري في الجهاد والسير-باب: الجاسوس برقم: 3007 (ص575)، ومسلم في فضائل الصحابة-باب من فضائل أهل بدر برقم: 2494 (ص1011) .
(ويحرم) على المسلمين (التكفير بالمآل) وسيأتي تعريفه، و (كذا) يحرم التكفير (الذي) هو (بلازم الأقوال) وسيأتي بيانه أيضا، و (كذاك
ذكرت في هذين البيتين ثلاث مسائل متعلقة بموضوع التكفير وهي: التكفير بالمآل، والتكفير بلازم القول، والتكفير بالفعل المحتمل.
المسألة الأولى: التكفير بالمآل.
المقصود بالتكفير بالمآل هو التكفير بما يؤول إليه اللفظ، وما يرجع إليه القول، ومعنى ذلك أن يقول قولا يؤدي - عن طريق مجموعة من الوسائط الاستدلالية - إلى ما هو كفر صريح. فهذا القائل لايجوز تكفيره، إذا كان لايقول بما يؤديه إليه قوله، وهذا حال كثير من أهل البدع والأهواء، كما لايخفى على المتتبع.
يقول ابن حزم رحمه الله:" وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ، لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غيرالتناقض فقط، والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر"(1) .
ويقول الشاطبي في الاعتصام:" والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول:" أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال"، كيف والكافر؟ ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به"(2) .
وعلى العموم، فعدم جواز التكفير بالمآل مما لاينبغي أن يقع حوله أدنى خلاف، وكل ظواهر الشرع صريحة في أن المؤاخذة لاتكون إلا بما يقع به التصريح قولا أو فعلا.
ويجدر التنبيه إلى أن هذه المسألة هي غير المسألة الأخرى التي يذكرها العلماء بقولهم:" من نوى الكفر في المآل كفر في الحال"، فإن هذه الأخيرة قاعدة صحيحة، أكْثرَ أهل العلم من استعمالها والإشارة إليها فيما دونوه حول الردة وأحكام المرتد، من كتب الفقه.
المسألة الثانية: التكفير بلازم القول.
(1) - الفصل: 2/269.
(2)
- الاعتصام: 2/197.
معنى اللازم هو ما يمتنع انفكاكه عن الشيء، واللازم البين هو الذي يكفي تصوره مع تصور ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما، وأما غير البين فهو الذي يفتقر جزم الذهن باللزوم بينهما إلى وسط.
والحق أن الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها دقيق جدا، ويعسر إيجاد الأمثلة المبينة لهذا الفرق. لذلك لم يفرق بينهما كثير من أهل العلم، فعبروا باللازم عن المآل وبالعكس. ولكن التأمل في التعريفين اللذين ذكرت آنفا، يجعلنا نجزم بالفرق مع إقرارنا بدقته وغموضه.
ولاشك أن التكفير بلازم القول نوع من الافتراء والبهتان الذي ينبغي التنزه عنه لمصادمته لبدهيات العقول، ولرواسخ القواعد الشرعية، وإن كان بعض الأصوليين يرجح أن لازم المذهب مذهب، على عادتهم في التأصيل النظري المستند على الأدلة العقلية المجردة بعيدا عن تطبيقها الفقهي الواقعي. والحق خلاف هذا القول، كما يقول الشاطبي رحمه الله:" ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر عليه، أنكره غاية الإنكار"(1) .
ويقول الشيخ عبد الرحمان بن ناصر السعدي رحمه الله:" والتحقيق الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهبا، لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نلزم القائل بما لم يلتزمه، ونقوله ما لم يقله، ولكننا نستدل بفساد اللازم على فساد الملزوم، فإن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها وضعفها وعلى فسادها، فإن الحق لازمه حق، والباطل يكون له لوازم تناسبه "(2) .
(1) - الاعتصام: 2/549.
(2)
- توضيح الكافية الشافية: 113.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيل طيب في هذه المسألة، وحاصله أنه ينبغي التفصيل بين الحالات التالية (1) :
الحالة الأولى: أن يكون اللازم حقا، فهذا يجب عليه التزامه، ولا مانع من إضافته إليه إذا علم من حاله أنه لايمتنع من التزامه.
الحالة الثانية: أن يكون اللازم باطلا ويلتزمه فهو يعد قولا له.
الحالة الثالثة: أن يكون باطلا، فإذا ذكر له منع التلازم بينه وبين قوله، فهذا لاتجوز إضافته إليه لأن ذلك يكون كذبا عليه.
الحالة الرابعة: أن يكون اللازم الباطل مسكوتا عنه، فحكمه أن لاينسب إلى القائل، لتطرق الاحتمال إلى إمكانية التزامه هذا القول. والله أعلم.
المسألة الثالثة: التكفير بالفعل المحتمل
الأفعال المحتملة هي الأفعال التي ليست صريحة في دلالتها على الكفر، ودخول الاحتمال فيها يسقطط الاستدلال بها على كفر صاحبها. ومن هذه الأفعال ما ذكره البخاري في صحيحه، وترجم له بقوله:" باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله"(2) . فمن صلى إلى القبلة وأمامه شيء مما يعبد ويشرك به كالنار والصنم والقبر، لايكفر يمجرد ذلك، حتى ينظر في قصده، هل يقصد الصلاة لله جل ذكره، أم لذلك المخلوق؟
ولما كانت هذه الأفعال المحتملة غير ظاهرة في الكفر أو عدمه، احتيج إلى ترجيح أحد الطرفين بمرجح معتبر في الشرع، كأن يُسأل الفاعل عن قصده ونيته، وهذا أظهر المرجحات وأحوطها في هذه المسائل الخطيرة التي يترتب عليها آثار وخيمة في الواقع.
(1) - انظر "نواقض الإيمان القولية والعملية": 84، مع تصرف يسير، وكلام شيخ الإسلام موجود في مجموع الفتاوى: 20/217-219 وفي 5/206-207.
(2)
- فتح الباري: 1/694.
لهذا لما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن سب شريفا من أهل البيت، فقال:" لعنه الله، ولعن من شرفه"،أجاب رحمه الله:" وليس هذا الكلام بمجرده من باب السب الذي يقتل صاحبه، بل يستفسر عن قوله: من شرفه، فإن ثبت بتفسيره أو بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد لعن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله، وإن لم يثبت ذلك
…
لم يكن ذلك موجبا للقتل باتفاق العلماء" (1) .
وقد تبين من هذا النقل عن شيخ الإسلام رحمه الله، أن من المرجحات التي تعين المراد من العمل المحتمل - إلى جانب تبين القصد - النظر في القرائن الحالية أو اللفظية. فإن دلت القرائن مثلا على أن مرتكب الفعل مغموص عليه في النفاق، أو متهم بالابتداع والإلحاد، أو مشار إليه بالزندقة، كان هذا مرجحا قويا لكونه أراد بفعله الكفر، وبالمقابل من كان من أهل الصلاح والتقوى، وكان مشهورا عنه مجالسة الأخيار، والمحافظة على الشرائع، وتعظيم الرب والدين، ترجح عدم إرادته الكفر بفعله المحتمل.
وهذا باب طويل الذيل، عظيم النفع، مَن ضبط فروعه وتطبيقاته لم يخش على نفسه من الخطل والزلل. والله الموفق.
???
قلت في النظم:
ورغم ما قلت من التحذير
لاينبغي الوقوف في التكفير
إذا بدا الكفر جليا وظهر
من لم يكفر كافرا فقد كفر
الشرح:
(ورغم ما) أي الذي (قلت) آنفا (من التحذير) الشديد من التسرع في تكفير المعين، قبل التأكد من توفر الشروط وانتفاء الموانع، فإنه (لا ينبغي) أي لايجوز (الوقوف في التكفير) في حالة ما (إذا بدا الكفر جليا وظهر) معطوف على 'بدا'، وتعليل ذلك أنه (من لم يكفر كافرا فقد كفر) وهي إحدى قواعد التكفير المشهورة التي لا ينبغي استخدامها على إطلاقها، بل مع اعتبار مجموعة من القيود والتخصيصات.
وقبل ذكر هذه القيود، أشير أولا إلى أن هذه القاعدة قد وردت كثيرا في كلام أهل العلم، واستعملوها في ظروف مختلفة، بل نقلوا الإجماع على صحتها.
(1) - مجموع الفتاوى: 35/197-198.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:" ووسم تعالى أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الآيات فلابد من تكفيرهم أيضا، هذا هو مقتضى "لاإله إلا الله"، كلمة الإخلاص، فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته، كما في الحديث الصحيح:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" (1) . فقوله وكفر بما يعبد من دون الله تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلوشك أو تردد لم يعصم دمه وماله
…
" (2) .
ويقول حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله صاحب كتاب "تيسير العزيز الحميد" رحمه الله: " إن كان شاكا في كفرهم أو جاهلا بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر
…
" (3) .
وقد وردت هذه القاعدة في كلام أهل العلم القدماء، بألفاظ متقاربة، عند بيانهم خطورة بعض الأقوال والأعمال المكفرة، فتجدهم يقولون مثلا: من قال كذا أو فعل كذا فهو كافر، ومن شك في كفره أو لم يكفره فهو كافر.
فمن ذلك مثلا قول محمد بن سحنون المالكي رحمه الله:" أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر"(4) .
ومنه أيضا قول ابن تيمية رحمه الله:" أما من اقترن بسبه- أي للصحابة- دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبريل عليه السلام في الرسالة، فهذا لاشك في كفره، بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره"(5) .
(1) - رواه مسلم في الإيمان برقم:23 (ص43) .
(2)
- نقله في " قواعد في التكفير": 207 عن مجموعة التوحيد.
(3)
- مجموعة التوحيد: 96.
(4)
- ذكره القاضي عياض في الشفا: 2/476.
(5)
- الصارم المسلول: 586.
ومستند هذه القاعدة، أن من لم يكفر كافرا وهو يعلم أن الله تعالى كفره أو أن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم كفره بما لايحتمل تأويلا ولا إجمالا، فإنه يكون رادا لخبر الله ورسوله، وجاحدا لحكم الله وحكم رسوله، وهذا كفر بواح لاخلاف فيه بين أهل العلم كما يدل على ذلك قوله تعالى:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} .
ولكن هذه القاعدة لا تنطبق في حالات معينة، من بينها:
أن يكون الشخص جاهلا بحال الكافر، بأن لايعرف شيئا من حاله مطلقا، أو بأن يعرفه ولكن لا يعرف عنه وقوعه في أحد نواقض الإيمان. وهذا الفرض يتصور في الكافر المنعزل عن الناس، وغير المعلن بكفره، أما الكافر الذي يتعدى ضرر كفره إلى غيره، وتعم فتنته البلاد والعباد، فلا يتصور خفاء حاله على أحد.
أن يتوقف المجتهد عن تكفير شخص معين لاعتقاده انتفاء شرط في حقه أو قيام مانع من الموانع المعتبرة. فهذا يكون توقفه داخلا في حكم الخطأ في الإجتهاد، ويكون صاحبَ أجر واحد لأجل اجتهاده. ولايخفى أن هذا لايكون إلا لمن يستفرغ جهده في طلب الحق، ولايكون متبعا لهوى أو متعصبا لمذهب. ويدخل في هذا الباب العامي الذي ليست له أهلية الإجتهاد، إذا كان مقلدا لغيره من المجتهدين المخطئين.
أن يكون الفعل أو القول مختلفا فيه بين علماء الأمة. ومثاله الخلاف في حكم تارك الصلاة. فمن كان يرى كفره - وهو الصحيح كما سيأتي إن شاء الله- لايجوز له أن يكفر المخالف (1) بزعم أنه لم يكفر الكافر أو توقف في تكفيره. وبالعكس، فمن كان يرى عدم كفر تارك الصلاة- لأدلة شرعية معتبرة- لم يجز له تكفير المخالف بزعم أنه قد كفر مسلما.
فهاتان القاعدتان لم يصح تطبيقهما هنا، لعدم تحقق مناطهما وهو تكذيب الله ورسوله، وجحد حكمهما.
(1) - الذي يقر بوجوب الصلاة ويلتزم بأدائها، وإلا لم يمتنع تكفيره، فتنبه.