الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك فإن هذه القاعدة- أقصد قاعدة:" من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فهو كافر"- يمكن أن تؤدي عند -أصحاب البضاعة الضحلة في العلم- إلى الوقوع في تسلسل تكفيري خطير، بأن يكفروا من لم يكفر من كفروه، ثم يكفروا من لم يكفر من لم يكفر من كفروه، وهكذا إلى ما لا نهاية!!
وهذا التسلسل شبيه بما نقله أبو الحسين الملطي عن المعتزلة، قال:" فأما الذي يكفر فيه معتزلةُ بغداد معتزلةَ البصرة فالقول في الشاك، والشاك في الشاك، ومعنى ذلك أن معتزلة بغداد والبصرة وجميع أهل القبلة لااختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر (1) ، لأن الشاك في الكفر لا إيمان له، لأنه لايعرف كفرا من إيمان، فليس بين الأمة كلها - المعتزلة ومن دونهم - خلاف أن الشاك في الكافر كافر، ثم زاد معتزلة بغداد على معتزلة البصرة أن الشاك في الشاك، والشاك في الشاك إلى الأبد إلى مالا نهاية له كلهم كفار وسبيلهم سبيل الشاك الأول "(2) .
وهذا آخر ما أذكره في قواعد التكفير وضوابطه، ثم أنتقل إلى الكلام على بعض أشهر نواقض الإيمان، ومن الله التوفيق.
الباب الرابع: نواقض الإيمان
قلت في النظم
نواقض الإيمان ليست تحصر
فلتحفظن منها الذي سأذكر
إذ علمنا بهذه النواقض
على الجميع أعظم الفرائض
الشرح:
(نواقض الإيمان) وهي الأمور المكفرة المخرجة لصاحبها من ملة الاسلام (ليست تحصر) بِعَد ولا إحصاء، ولا بجمع ولا استقصاء، ولما كان الأمر كذلك (فلتحفظن منها) يا أخا السنة (الذي سأذكر) هـ، لشدة أهميته وعموم الابتلاء به، (إذ علمنا) نحن معاشر المسلمين (بهذه النواقض) على سبيل الإجمال لجميعها، والتفصيل لبعضها، هو (على الجميع أعظم) خبر المبتدأ (الفرائض) والواجبات العينية، وذلك لأن العلم بهذه النواقض يعصم المسلم من الوقوع في خطرين شرعيين عظيمين:
(1) - تأمل نقله الإجماع على صحة القاعدة التي نحن بصددها.
(2)
- التنبيه والرد: 40-41.
أولهما: ارتكاب هذه النواقض أو شيء منها، ومعنى ذلك انتقاض عقد الإيمان، والوقوع في الردة الصريحة، نسأل الله السلامة والعافية. ولا شك أن معرفة التوحيد وضبط ما ينافيه ويناقضه، هو أعظم الواجبات العينية، وينبغي الاعتناء به قبل غيره من تفاصيل الشرائع ودقائق الفقه، خلافا لحال أكثر الناس في هذا العصر، إذ تجدهم يدققون في معرفة تفاصيل الطهارة والصلاة والصيام وما أشبه ذلك – هذا إن كانوا ملتزمين إجمالا بشرع الإسلام غير معرضين عنه ولا صادين – وهم لا يعرفون من مسائل التوحيد شيئا يذكر. وهذا انتكاس خطير في فقه الأولويات، وفهم مبتدع لدين الإسلام.
وثانيهما: عدم التفريق بين مرتكب بعض هذه النواقض وبين غيره ممن يحافظون على توحيدهم ولا يأتون شيئا من هذه الأمور المكفرة، وبعبارة أخرى الخلط بين المسلم والكافر، واللبس في أحكام التعامل مع كل منهما. وهذا أمر قد عم بين صفوف المنتسبين إلى "الحركة الاسلامية" نفسها، فضلا عن غيرهم!!
وغير خاف على من له أدنى إلمام بدين الاسلام، أن الشرع الحنيف قد فصل فصلا حقيقيا واضحا بين المسلم والكافر سواء في أحكام الدنيا أو أحكام الآخرة، وما زال الفقهاء يلهجون في مصنفاتهم بذكر هذه الأحكام الدنيوية المتباينة في النصرة والموالاة والمحبة والتناصح والتناكح والتوارث والدفن والصلاة والوَلاية وغير ذلك.
وكل هذه الأحكام وغيرها، لا تجد سبيلها إلى التطبيق، عند غياب العلم بنواقض الإيمان، وبقواعد التكفير وضوابطه التي سبق تفصيلها في الفصل الثالث.
وسوف أقوم في هذا الفصل بالكلام على أخطر نواقض الإيمان التي عمت بها البلوى في هذه الأعصار، وأرتبها حسب الترتيب التالي (1) :
(1) - استفدت هذا الترتيب من كتاب " نواقض الإيمان القولية والعملية " لعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، وهو كتاب جامع في هذه المسائل، وقد نهلت منه – غيرَ الترتيب – أمورا أخرى كثيرة سأشير إليها في مواضعها.
نواقض الإيمان في الربوبية
نواقض الإيمان في الاسماء والصفات
نواقض الإيمان في الالوهية
نواقض الإيمان في النبوات والمغيبات والأمور أخرى.
وينبغي أن يتنبه القارئ إلى أن ما سأذكره في هذا الفصل هو كله من باب التكفير على العموم، أما تكفير الشخص المعين الواقع في أحد هذه النواقض فيخضع للقاعدة المذكورة في الفصل السابق. وهذا أوان الشروع في المقصود.
الفصل الأول: نواقض الإيمان في الربوبية:
قلت في النظم:
فجعل بعض أوجه التدبير
لمن سوى المهيمن الخبير
شرك، كإنكار وجود الصانع
أو ادعاء خالق مضارع
الشرح:
(فجعل بعض أوجه التدبير) والتصرف في الكون (لمن) هو (سوى المهيمن) على المخلوقات كلها (الخبير) بما يصلح الخلق، وهو الله جل جلاله، (شرك) خبر المبتدأ (كإنكار) التشبيه لإفادة الحكم (وجود الصانع) سبحانه وتعالى، (أو ادعاء) وجود (خالق) غير الله عز وجل (مضارع) أي مساو من كل وجه واعتبار للباري جل ثناؤه، وليس احترازا كما قد يتبادر، إذ كل من أثبت شيئا من الخلق على سبيل الإيجاد من العلم - ولو قليلا - لغير الله عز وجل، كان مشركا.
وأقسم الكلام على هذين البيتين إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية
تنوعت عبارات العلماء في تعريف لفظ " الرب " وتعريف توحيد الربوبية. أما أهل اللغة فجعلوا لفظة "الرب" تدور على معان ثلاثة (1) : المالك ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فذرها حتى يلقاها ربها"(2)، والسيد المطاع ومنه ما جاء في الحديث:" أن تلد الأمة ربها "(3) أي سيدها، والمصلح للشيء المدبر له، قال الراغب الاصبهاني:"الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام"(4) .
وانطلاقا من هذه المعاني اللغوية، قال ابن جرير الطبري:" فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر"(5) . وهذا أجمع ما وقفت عليه في تعريف الرب، مع مراعاته الأصول اللغوية للكلمة. وقد يأتي بعض أهل العلم بتعريفات أخرى تركز على أحد المعاني الثلاثة المتقدمة دون غيرها، كما في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" الرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها"(6) ، وفيه إشارة إلى الترابط بين الربوبية والألوهية كما سيأتي.
(1) - أنظر لسان العرب وتاج العروس.
(2)
- رواه البخاري في العلم-باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره برقم: 91 (ص43) ومسلم في اللقطة برقم: 1722 (ص716) .
(3)
- رواه البخاري في الإيمان برقم: 50 (ص33)، ومسلم في الإيمان برقم: 1 (ص36) .
(4)
- المفردات: 190.
(5)
- جامع البيان: 1/92.
(6)
- مجموع الفتاوي:1/22.
أما توحيد الربوبية فيعرفه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "هو الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت، النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء (1) ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر"(2) .
وهذا التعريف على طوله، ليس جامعا لكل مسائل توحيد الربوبية. وأفضل منه أن يقال:" هو إفراد الله تعالى بالخلق والحكم الكوني والشرعي "، فيكون هذا التوحيد مشتملا على أركان ثلاثة:
إفراد الله بالخلق كما في قوله تعالى: {قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وغير ذلك من الآيات. وهذا الركن الأول يتضمن مراتب ثلاثة:
إثبات وجود الصانع، وهذا أمر لا يخالف فيه إلا عتاة الملاحدة المتعمقون في الكفر.
إثبات كون الله تعالى متصفا بالخلق الأول أي خلق السماوات والأرض ومن فيها، والخلق الثاني وهو البعث كما في قوله تعالى:{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا المعنى كونه جل ذكره هو المبدئ المعيد والمحيي المميت.
نفي وجود خالق غير الله سبحانه وتعالى.
إفراد الله بالحكم الكوني ويشمل جميع أنواع القضاء والتدبير والملك والتصرف، فالله عز وجل يحكم في خلقه بما يشاء، ويدبرهم بمقتضى حكمته، ويتصرف فيهم وفق مشيئته، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. وهذا باب واسع جدا، ومن ضمن ما يشتمل عليه الإيمان بقضاء الله وقدره، وخلقه لأفعال عباده.
(1) - لو قال رحمه الله: " القادر على كل شيء" لكان أصوب، وإن أمكن توجيه قوله بنوع تكلف.
(2)
- تيسير العزيز الحميد: 33.
إفراد الله بالحكم الشرعي ومعناه أنه لا يملك حق التشريع أي التحليل والتحريم إلا الله عز وجل، كما قال تعالى:{إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ، وكما دل عليه قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، فجعل المشرعين من المخلوقين في منزلة الشركاء الذين ينازعون الله في ربوبيته.
وإذا تبين معنى توحيد الربوبية والأركان الداخلة في ماهيته، فإن انتفاء أي ركن من هذه الأركان يعد ناقضا من نواقض الإيمان في الربوبية. وهذا ما سوف أقوم بشرحه في المباحث التالية، على أنني سأؤجل الكلام على إنكار البعث إلى باب الغيبيات، والكلام على شرك التشريع إلى باب شرك التحاكم لوجود المناسبة بين هذه المسائل.
المبحث الثاني: شرك التعطيل:
وهذا هو المشار إليه في النظم بقولي: كإنكار وجود الصانع". واعلم أن هذا الشرك، قل من قد وقع فيه قديما وحديثا، لأن الإقرار بوجود رب صانع لهذا الكون، أمر مركوز في الفطر، لا يقدر أحد – كائنا من كان – أن يدفعه عن نفسه. لذلك لم ينسب أهل العقائد، والمصنفون في الملل والنحل، هذا الشرك إلى طائفة معينة من الناس.
وأما وقوع فرعون في هذا الشرك، كما في قوله – فيما حكاه الله عنه في كتابه -:{أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى} وقوله {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، فقد كان منه مكابرة، وغلوا في اللجاج والخصام كما دل على ذلك قوله تعالى عنه وعن قومه:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، وما حكاه الله جل ذكره عن موسى إذ يقول لفرعون:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} .
وبالجملة، فإثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، أمر أرشدت إليه الفطرة السليمة، ودلت عليه آيات الكون وأسرار الخلق؛ فلا يحتاج في البرهنة عليه إلى الأدلة العقلية المحضة، والأقيسة المنطقية التي لا يهتدي إلى غوامض دقائقها إلا دهاقنة علم الكلام، وجهابذة فنون العقليات. هذا مع كون هذه الأدلة منقوضة على أصحابها بأدلة عقلية مثلها أو أقوى منها!!
فهل من خسران أعظم، وخذلان أشد من أن يفني العالم عمره كله في إيراد الأدلة العقلية المثبتة لوجود الصانع عز وجل، ثم لا يخرج من ذلك كله بغير الشك والحيرة والضلال؟! نسأل الله الثبات على دين الإسلام.
المبحث الثالث: الشرك في الربوبية على سبيل التشريك
ومعناه إثبات وجود خالقين غير الله عز وجل، وهو المشار إليه بقولي في النظم:"أو ادعاء خالق مضارع". وهذا النوع الثاني أكثر من الأول، وأشهر أصحابه المجوس الثنوية، الذين يثبتون إلهين اثنين: إله النور وإله الظلمة، ويجعلون إله النور هو خالق الخير، وإله الظلمة هو خالق الشر. ومع إثباتهم لخالقين اثنين، فإنهما عندهم غير متساويين مطلقا، بل النور أفضل من الظلمة من اعتبارات متعددة.
وأما مجوس هذه الأمة – كما ورد بذلك الحديث (1) - فهم القدرية نفاة القدر، فإنهم يزعمون أن الله جل ثناؤه لم يخلق كفر الكافر ولا معصية العاصي، وإنما الكافر نفسه خلق كفره، والعاصي خلق معصيته. فأشبهوا المجوس في تشريكهم غير الله تعالى معه في الخلق، وزادوا عليهم في الضلال، إذ لم يكتفوا مثلهم بإثبات شريك واحد في الخلق، بل جعلوا كل المخلوقين خالقين!!.
(1) رواه أبو داود في السنة-باب في القدر برقم: 4692 (2/410)، وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم:22359.
أما أهل السنة فيجعلون أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، كما دل عليه قوله عز وجل:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله خالق كل صانع وصنعته "(1) . وعلى هذا مضى إجماعهم، واستقر عقدهم. وليس هذا محل تفصيل هذه المسألة.
المبحث الرابع: الشرك في التدبير والتصرف
وهذا أساس الشرك في الربوبية، وأكثر أنواعه وقوعا في المنتسبين إلى هذه الأمة، خصوصا في الأعصار المتأخرة التي فشا فيها الجهل والابتداع. وإذا كان توحيد الربوبية يتضمن إفراد الله عز وجل بالتدبير والملك والتصرف كما سبق بيانه، فإن اعتقاد امتلاك أحد المخلوقين لنوع من أنواع التدبير يعد ناقضا من نواقض الايمان الجلية.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال أيضا: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} والآيات في هذا المعنى أكثر من أن تحصر.
وقد استشرى هذا النوع من الشرك في طائفتين من هذه الأمة: الصوفية والروافض.
(1) رواه من حديث حذيفة البخاري في خلق أفعال العباد-برقم: 92 (ص33) وابن أبي عاصم في السنة برقم: 357 (ص158) ، والحاكم وصححه على شرط مسلم، والبزار كما في المجمع (7/200)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم: 1637 (4/181) .
أما الصوفية فقد جعلوا للأولياء مراتب، وابتدعوا لكل منها لقبا خاصا، فمنهم الأقطاب والأئمة والأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء وغيرهم، ثم أسندوا لهؤلاء الأولياء أنواعا من التصرف في الكون مما لا ينبغي لغير الله عز وجل.
يقول أحدهم: " ومنهم الشيخ عبد الله أحد أصحاب سيدي عمر النبيتي كتب لي أنه رآني بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألبس عبد الوهاب الشعراني طاقيتي هذه وقل له يتصرف في الكون فمادونه مانع"(1) .
ويقول أيضا: " عبيد أحد أصحاب الشيخ حسين كان له خوارق مدهشة ومنها أنه كان يأمر السحاب أن يمطر فيمطر لوقته وكل من تعرض له بسوء قتله في الحال، دخل مرة الجعفرية فتبعه نحو خمسين طفلا يضحكون عليه، فقال: يا عزرائيل إن لم تقبض أرواحهم لأعزلنك من ديوان الملائكة، فأصبحوا موتى أجمعين، وقال له بعض القضاة: اسكت فقال له: اسكت أنت فخرس وعمي وصم
…
" (2) . والأحاجي والروايات من هذا النوع كثيرة جدا (3) .
وأما الروافض فيسندون التصرف والتدبير لأئمتهم المعصومين، ويرفعونهم فوق مرتبة البشرية، وأكتفي للاستشهاد على هذا المعتقد الخبيث عندهم، بأن أنقل كلاما لواحد من أئمتهم – قد اغتر به كثير من الناس -:" إن للإمام مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون ".
ويقول أيضا: " وإن من ضرورات مذهبنا أن لائمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل "(4) .
(1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني كما في "مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية" لمحمد ادريس: 2/631.
(2)
نفس المرجع: 2/634.
(3)
أنظر بعضها في كتاب " مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية " ادريس محمد ادريس (2/629 وبعدها) .
(4)
نقله عبد الله القرني في ضوابط التكفير: 104 عن الحكومة الإسلامية للخميني: 47-48.
وإلى جانب هذه الأنواع من شرك الربوبية التي ذكرت هنا، هنالك أمثلة أخرى سوف أتطرق لها في الصفحات التالية.
قلت في النظم:
أو اعتقاد وحدة الوجود
وذي مقالة أولي الجحود
كذاك قول معشر الإلحاد
من شيعة الحلول واتحاد
الشرح:
(أو اعتقاد) عطف على " إنكار" المذكور في البيت السابق (وحدة الوجود) وسيأتي معناها، (وذي مقالة أولي) أي ذوي (الجحود) إذ لا فرق - عند التحقيق - بين منكر وجود الخالق عز وجل، وبين من يزعم أن الخالق هو عين المخلوق! (كذاك) يعد ناقضا للإيمان (قول معشر) أي جماعة (الإلحاد من شيعة الحلول) والـ (اتحاد) وسيأتي تعريفها.
إعلم أن مذهب الحلول والاتحاد من أفسد المذاهب التي حدثت في هذه الأمة، والتبس أمر بعض القائلين به على بعض علماء المسلمين، قبل أن يتبينوا حقيقة هذا المذهب وشدة إغراقه في الكفر والزندقة. وأساس هذا المذهب - على كثرة تفريعاته - جعل الرب هو العبد حقيقة. ثم هم إما يقولون بحلوله فيه، أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق، أو عاما في كل الخلق، فالأقسام إذن أربعة:(1)
القسم الأول: الحلول الخاص، ومعناه حلول الرب - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - في مخلوق معين خاص، وهذا قول النسطورية من النصارى القائلين بحلول اللاهوت في الناسوت كحلول الماء في الإناء، وقد وافقهم في هذه الأمة غلاة الروافض الذين يقولون إنه حل في علي بن أبي طالب وأئمة آل البيت، وغلاة المتصوفة الذي يقولون بالحلول في الأولياء أو بعضهم كالحلاج وغيره.
القسم الثاني: الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى القائلين بأن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافقهم من الغلاة في هذه الأمة.
(1) انظر هذا التقسيم في مجموع الفتاوي (2/171 ومابعدها) ، وفي مواضع أخرى، ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى مع الحلوليين والاتحاديين، صولات وجولات مشهورة في عامة كتبه.
القسم الثالث: الحلول العام وهو قول الجهمية المتقدمين – ومن وافقهم من المتأخرين – الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان!! وهذا المذهب باطل من وجوه متعددة لا سبيل إلى بيانها في هذا الموضع، لئلا أخرج عن المقصود. ويمكن الرجوع في هذه المسألة بالذات – أعني مسألة إثبات علو الله عز وجل والرد على الجهمية في بدعتهم الحلولية – إلى كتاب العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي (1) ، وكتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" للعلامة ابن القيم، وغيرها.
القسم الرابع: الاتحاد العام، وهو قول أهل وحدة الوجود، وهو مذهب خبيث يزعم أصحابه أن الخالق عين المخلوق، وهم - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – أكفر من اليهود والنصارى من وجهين (2) :
إن الرب عند النصارى يتحد بعبده المخصوص المقرب والمصطفى بعد أن لم يكونا متحدين وأما أهل وحدة الوجود فيقولون إن الرب مازال متحدا بالعبد!!
ثم النصارى خصوا ذلك بالمسيح، وأما هؤلاء فجعلوه في الكون كله، حتى الأنتان والكلاب والخنازير والقاذورات وغير ذلك.
ويقول العلامة علي القاري رحمه الله: " ثم اعلم أن القول بالحلول والاتحاد الموجب لحصول الفساد والإلحاد شر من المجوس والثنوية والمانوية القائلين بالأصلين النور والظلمة"(3)، وبعد أن بين وجه ذلك قال:"وكذا شر من النصارى القائلين بالتثليت فإنهم متفقون على أن صانع العالم واحد ويقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد فقولهم في التثليت مناقض في نفسه وقولهم في الحلول أفسد منه بحسب أصله"(4) .
وحقيقة مذهبهم زعمهم بأنه ليس هناك موجود إلا الله فليس غيره في الكون، وما هذه الأشياء التي نراها في الكون إلا مظاهر لحقيقة واحد هي الحقيقة الإلهية.
(1) اختصره الشيخ الألباني رحمه الله اختصارا نافعا.
(2)
انظر مجموع الفتاوي (2/172)
(3)
من رسالة له في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ص: 38) ، وهي على الجملة رسالة نافعة في بابها.
(4)
- نفس المرجع: 38-39.
يقول ابن سبعين - أحد رؤوس هذا المذهب -: " الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض فإن قلت نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه يقال لك: من سمى نفسه "الله" قال لك: إن كل شيء وجميع من تنادي أنا"(1) .
وابن سبعين هذا، هو عبد الحق بن ابراهيم الاشبيلي المرسي الذي يقول عنه ابن دقيق العيد:" جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاما ما تعقل مفرداته ولا تعقل مركباته"(2) .
وأشهر أرباب وحدة الوجود محيي الدين ابن عربي الحاتمي (3) صاحب فصوص الحكم والفتوحات المكية، وكلامه في الإلحاد والزندقة أشهر من أن ينكر، وأظهر من أن يؤول. فمن ذلك قوله في فتوحاته:"سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها"، قال القاري معلقا:" وهذا كما ترى مخالف لجميع أرباب النحل والملل الإسلامية وموافق لما عليه الطبيعية والدهرية "(4) .
ويقول ابن عربي أيضا في فصوصه: "
…
فقل في الكون ما شئت، إن شئت قلت: هو الخلق وإن شئت قلت: هو الحق، وإن شئت قلت: هو الحق الخلق، وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه وإن شئت قلت بالحيرة" (5) .
فتأمل هذا الكفر والاضطراب الذي ينطق به من يسمى عند عامة المتصوفة بالإمام الأكبر والكبريت الأحمر!!
ويقول هذا الرجل في شعر له مسوغا عقيدة وحدة الأديان:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالدين ديني وإيماني (6)
(1) رسائل ابن سبعين: 184 بواسطة" مظاهر الانحرافات العقدية": 1/248.
(2)
- لسان الميزان: 4/223.
(3)
انظر في ترجمته وكلام العلماء فيه جزءا خاصا للشيخ محمد بن أحمد تقي الدين الفاسي، بتحقيق علي عبد الحميد.
(4)
الرد على القائلين بوحدة الوجود: 21.
(5)
- فصوص الحكم:113 بواسطة الانحرافات العقدية: 1/241.
(6)
- فصوص الحكم: 345 بواسطة الانحرافات العقدية: 1/278.
وبالجملة، فأقوال ابن عربي التي تصب في مسيل الإلحاد والزندقة كثيرة جدا. لذلك تواطات كلمة العلماء الذين خبروا مذهبه واطلعوا على حقيقة مقالاته، على التحذير من كتبه، والتنبيه على ضلالاته. فمن ذلك ما نقله الشيخ تقي الدين الفاسي عن الحافظ بن حجر رحمه الله أنه قال: إنه ذكر لشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني شيئا من كلام ابن عربي المشكل، وسأله عن ابن عربي، فقال له البلقيني: هو كافر. (1) ولما سئل عنه الشيخ محمد بن عرفة الورغمي المالكي رحمه الله قال ما معناه: من نسب إليه هذا الكلام، لا يشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته (2) . وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: سألت ابن عبد السلام عن ابن عربي، فقال:"شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا"(3) . وقال تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي رحمه الله: "
…
ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين، كابن العربي وأتباعه، فهم ضلال جهال، خارجون عن طريقة الإسلام، فضلا عن العلماء" (4) .
أما كلام شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله عن ابن عربي وأمثاله، فكثير جدا، وشديد العمق والوضوح.
وإنما أطلت بعض الشيء في الكلام على ابن عربي - مع أن له في مذهبه أضرابا كثيرين من أمثال بن الفارض والجيلي وغيرهم - لأننا صرنا نسمع في الآونة الأخيرة بعض الدعوات الإلحادية يقودها علمانيون متسترون بدثار الصوفية، غايتها إعادة إحياء عقيدة ابن عربي وكتبه بعد أن كادت تندثر. وصرنا نرى المنتديات واللقاءات تعقد في ذكرى "شهداء الفكر الإسلامي الحر" و"حملة لواء التنوير في التاريخ الإسلامي" ويقصدون بذلك ابن عربي والحلاج وأضرابهما!!
(1) جزء في عقيدة ابن عربي وحياته: 39.
(2)
تفس المرجع: 40.
(3)
نقله تقي الدين الفاسي في جزئه المذكور آنفا: 45.
(4)
نفس المرجع: 55 وفيه أقوال أخرى لعلماء آخرين في هذا الموضوع.
وأما أهل العلم ففي غفلة لاهون، قد انشغلوا ببعضهم البعض عن أعداء الملة وخصوم الدين، حتى استأسد الضبع واستنسر البغاث، ونطق الرويبضة.
خلا لك الجو فبيضي واصفري
…
...
…
ونقري ما شئت أن تنقري
والله المستعان.
قلت في النظم:
كذا ادعاء قدم الأكوان
أو سب رب العالم الديان
الشرح
(كذا) أي أن من نواقض الإيمان المتعلقة بالربوبية (ادعاء قدم الأكوان) جمع كون وهو العالَم، (أو سب) معطوف على "ادعاء"(رب العالم الديان) نعت لرب، وهو من أسماء الله الحسنى ومعناه
القول بقدم العالم:
هذه البدعة المنكرة التي أحدثها الفلاسفة المتأرجحون بين شريعة الرحمان وزندقة اليونان، تناقِض توحيد الربوبية بشكل واضح، إذ حقيقتها إنكار وجود الصانع، الخالق للكون، المتقدم عليه، كما جاء في الحديث:"كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء"(1) .
ومعناه عندهم أن العالم ما زال موجودا مع الله تعالى، ومعلولا له، ومساوقا له مساوقة المعلول للعلة، غير متأخر عنه في الزمان. ويتضمن هذا القول أن الله تعالى علة تامة مستلزمة للعالم، والعالم متولد عنه تولدا لازما بحيث لا يمكن أن ينفك عنه. (2)
وهذا القول باطل عقلا وشرعا، لذلك أجمعت طوائف الملل كلها على بطلانه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"القول بقدم العالم قول اتفق جماهيرالعقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين: - مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء"(3) .
(1) رواه البخاري في بدء الخلق برقم: 3191 (ص613) .
(2)
نواقض الإيمان القولية والعملية: 98.
(3)
مجموع الفتاوى: 5/565.
والقول بقدم العالم نوع من أنواع التعطيل للرب الخالق سبحانه وتعالى. قال شيخ الإسلام رحمه اله: " وأما جعل المفعول المعيَّن مقارنا للخالق أزلا وأبدا فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارنا لمفعوله أزلا وأبدا مخالف لصريح المعقول"(1) . لذلك كان الجمع بين هذا القول وبين الانتساب إلى دين الإسلام أمرا في غاية التناقض.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "
…
فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم إلا عمن ينكر الصانع، فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة، صار هذا قولا آخر للقائلين بقدم العالم، أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم، وصاروا يطلقون الفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي، لا يريدون بذلك أن الله أحدث شيئا بعد أن لم يكن، وإذا قالوا إن الله خالق كل شيء فهذا معناه عندهم" (2) .
وكذلك، فإن القول بصدور هذا العالم عن الخالق سبحانه وتعالى صدورَ المعلول عن العلة، والمعلول عندهم متولد عن علته، هو من التنقص القبيح لله جل ذكره، بل هو أشنع من قول مشركي العرب: إن الملائكة بنات الله.
(1) مجموع الفتاوى: 18/228.
(2)
مجموع الفتاوى: 5/539.
وليعلم بأن هذا القول قد كثر أصحابه في هذا الزمان الذي انحسرت فيه المفاهيم الدينية أمام معاول الحضارة الغربية المادية. فكثر لغط الدهريين والطبيعيين الذين يزعمون أن الكون مازال موجودا وأنه لا خالق له ولا صانع!! والله المستعان (1) .
سب الله عز وجل أو الاستهزاء به سبحانه وتعالى:
هذه المسألة في مجتمعاتنا هي الطامة العظمى والداهية الشؤمى، التي عمت وانتشرت في بلادنا التي تدعي الانتساب إلى الإسلام مع أن أساس هذا الدين هو تعظيم الله عز وجل وتوقيره وإجلاله، وهذا لا يمكن أن يجتمع بحال مع سبه أو الاستهزاء به.
يقول ابن تيمية رحمه الله عن السب: "فهو إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم، أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة، امتنع أن يكون فيه انقياد واستسلام"(2) .
وتأمل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . قال ابن تيمية رحمه الله: " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى"(3) .
(1) وقد تلقى هؤلاء ضربة قاصمة بعد ثبوت بعض الحقائق العلمية الأخيرة المؤكدة لنظرية "الانفجار الكبير" المبنية على أن الكون قد وجد بعد عدم وأنه مازال في ازدياد وتوسع. والحق أن في آيات القرآن وأحاديث السنة، غنية وكفاية لكل منصف، ولكن البعض لا يقنع بغير براهين العلم الحديث، وهذا في حد ذاته من أعظم الهزائم النفسية التي تعاني منها الأمة.
(2)
- الصارم المسلول: 519.
(3)
- الصارم المسلول: 28.
وقد أخبر الله عز وجل في الآية بأنهم كفروا بعد إيمانهم، مع زعمهم أنهم إنما كانوا يخوضون ويلعبون، فبيَّن ذلك أنهم كفروا بسبب قولهم واستهزائهم وخوضهم، لذلك فإن نفس سب الله تعالى كفر لذاته، بغض النظر عن الاعتقاد والاستحلال.
ولخص شيخ الإسلام رحمه الله هذا المعنى بقوله: " إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل (1) .
أقول: فمن خالف في هذا الأصل واشترط الاستحلال أو الاعتقاد القلبي للتكفير بسب الله أو سب رسوله أو الاستهزاء بالدين، فقد خرج من مذهب أهل السنة إلى مذهب المرجئة، وليس ينفعه انتسابه إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم، إذ لا يعدو هذا الانتساب أن يكون دعوى ليس له عليها بينة:
والدعاوى ما لم تقيموا عليها
…
...
…
بينات أبناؤها أدعياء.
ويقول الإمام اسحاق بن راهويه رحمه الله: " قد اجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام
…
أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بما أنزل الله" (2) .
بل إن سب الله عز وجل أعظم من مجرد الشرك به. يقول ابن تيمية معلقا على قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} : "ألا ترى أن قريشا كانت تقاره عليه الصلاة والسلام على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده، ولا يقارونه على عيب آلهتهم، والطعن في دينهم، وذم آبائهم، وقد نهى الله المسلمين أن يسبوا الأوثان، لئلا يسب المشركون الله، مع كونهم لم يزالوا على الشرك، فعلم أن محذور سب الله أغلظ من محذور الكفر به "(3)
(1) الصارم المسلول: 451.
(2)
الصارم المسلول: 4.
(3)
الصارم المسلول: 557.
وقد أجمع أهل العلم على أن سب الله عز وجل أو الاستهزاء به كفر جلي، وأن صاحبه مرتد شقي، خارج عن ملة الإسلام. وقد سبق أن نقلت قول ابن راهويه وابن تيمية في نقل هذا الإجماع، وأضيف هنا ما يلي من أقوال العلماء.
قال القاضي عياض رحمه الله: " لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم"(1) . وقال ابن حزم رحمه الله: " وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف انه كفر مجرد "(2) . وسئل ابن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصغير عن رجل لعن رجلا ولعن الله، فقال: إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني. فأجاب: يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره، وأما فيما بينه وبين الله فمعذور" (3) . وهذا الجواب - كما ترى - شديد، ولعل وجهَه الرغبةُ في سد هذه الذريعة التي يمكن أن يتذرع بها كل من وقع في هذا الكفر البواح. وفي هذا الجواب أيضا ما لا يخفى من تعظيم الله والتشديد في حقوقه على عباده، وتغليظ عقوبة من هونت عليه نفسه التجرأ على مقام الله الأعظم.
وأقول: كم في مجتمعاتنا من الذين حق عليهم القتل بمقتضى هذه الفتوى المالكية؟!
وبالجملة فأقوال أهل العلم وإجماعاتهم في هذا الباب كثيرة، وواضحة في المقصود (4) .
الفصل الثاني: نواقض الإيمان في الأسماء والصفات
قلت في النظم:
هذا ومن أعاظم الأهواء
شركُ ذوي الإلحاد في الأسماء
ومثله الإنكار للصفات
مما أتى في واضح الآيات
تشبيهُ رب العرش بالخلائق
والعدل بالوصف عن الحقائق
الشرح:
(1) - الشفا: 2/582.
(2)
- المحلى: 12/435.
(3)
- الشفا: 2/583.
(4)
انظر طرف صالحا منها في "نواقض الايمان القولية والعملية "(112 وما بعدها) .
(هذا ومن أعاظم) جمع أعظم (الأهواء) جمع هوى وهو ما تهواه النفس وتميل إليه، وهو أحد الطواغيت التي تعبد من دون الله، كما قال تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (شركُ ذوي الإلحاد في الأسماء) وسيأتي معناه (ومثله الإنكار للصفات) أي صفات الله عز وجل (مما أتى في واضح الآيات) القرآنية أو في الأحاديث النبوية. ومن أنواع الكفر في هذا الباب أيضا (تشبيه رب العرش) سبحانه وتعالى (بالخلائق و) كذلك (العدلُ) وهو الميل والجنوح (بالوصف) أي صفة الله عز وجل (عن الحقائق) إلى أنواع المجازات، وهذا العدل هو المسمى اصطلاحا بالتأويل، وليس كل تأويل كفرا، بل ينبغي التفصيل كما سيأتي.
يعتبر باب الأسماء والصفات من أعظم ما وقع فيه التنازع بين طوائف المنتسبين إلى القبلة طول تاريخ هذه الأمة من الوقت الذي نشأت فيه بذرة الخلاف في هذا الموضوع زمن اتباع التابعين إلى عصرنا الحاضر.
وإذا كانت المذاهب البدعية الأولى – مثل الجهمية والمعتزلة – قد كادت تنقرض ويندثر تأثيرها على الأمة، فإن مذهب الأشاعرة – ومثلهم الماتريدية – قد استطاع أن ينشر طيلسانه على الأمة الإسلامية كلها – حكاما ومحكومين، عامة وعلماء – منذ القرن الرابع الهجري إلى بدايات القرن الرابع عشر، قبل أن تبدأ الدعوات السنية في النشأة والنمو، نسأل الله لها التوفيق والسداد.
وقد أدى انتشار المذهب الأشعري – كما ذكرت – إلى جانب كونه ينتسب إلى السلف الصالح ولو بالجملة، وكونه يضم في صفوفه كثيرا من أهل العلم والفضل، إلى التباس كثير من المفاهيم العقدية إجمالا، وفي باب الأسماء والصفات على الخصوص، في عقول كثير من الناس، فأصبحوا يخلطون بين مذهب الأشاعرة ومذهب أهل السنة والجماعة، مع أن بينهما فرقا قد يدق في بعض المسائل حتى يتوحد المذهبان، وقد يتسع ويعظم في مسائل أخرى كثيرة.
لذلك كان أول ما ينبغي أن يعتني به المؤلفون في أبواب العقائد وعلى الخصوص منها الأسماء والصفات، إبراز حقيقة الخلاف بين أهل السنة والأشاعرة، قبل غيرهم من الفرق الأخرى التي لم تعد أباطيلها تنطلي إلا على مرضى القلوب وأهل العداء الدفين للإسلام.
أما أنا في هذا المبحث، فسوف أكتفي – نظرا لضيق المقام – بالإشارة على وجه الإجمال إلى أهم نواقض الإيمان في باب الأسماء والصفات، دون الخوض في التفاصيل التي محلها كتب العقائد الجامعة، وعلى الخصوص منها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى (1) .
وقبل ذلك، فإني أشير إلى أن مذهب أهل السنة الجماعة في هذا الباب، انهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وما اثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. فأهل السنة إذن وسط بين المعطلة والمشبهة، وكلامهم في الصفات مفرع عن كلامهم في الذات، لذلك فكما أن إثباتهم للذات هو إثبات وجود لا إثبات تكييف، فإن كلامهم عن الصفات إنما هو في الإثبات لا التكييف. فهم لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله.
وعليه فإن من نواقض الإيمان ما يلي:
الإلحاد في أسماء الله الحسنى:
(1) وأخص من هذه الكتب "العقيدة الواسطية" و" الرسالة التدمرية " و" الفتوى الحموية الكبرى" وهي لابن تيمية رحمه الله، و"الصواعق المرسلة"(أو مختصرها) والقصيدة النونية لابن القيم رحمه الله. ولجل هذه الكتب شروح نافعة لعدد من أهل العلم والسنة، عليهم رحمة الله.
قاعدة أهل السنة إثبات أسماء الله (1) على الوجه الأحسن، كما قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وأسماء الله الحسنى أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وهي بهذا الاعتبار مترادفة، وهي أوصاف باعتبار دلالتها على المعاني المتضمنة لها، فتكون بهذا الاعتبار متباينة لدلالة كل اسم على معنى خاص.
وقد حرم الله تعالى الإلحاد في أسماء الله الحسنى فقال جل ذكره: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وأصل الإلحاد هو الميل والعدول، وأما في الأسماء الحسنى فقد ذكر منه بن القيم رحمه الله أنواعا منها:
الأول: إنكار الأسماء الحسنى أو بعضها أو ما دلت عليه من الصفات والمعاني. وهذا نوع من أنواع التعطيل الذي لا يثبت معه إيمان. وهنا مرتبتان: الأولى تعطيل الأسماء مطلقا وهو قول غلاة الجهمية، والثانية إثبات الأسماء على أنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معانيَ، فيقولون سميع وبصير وحي ولكن بلا سمع ولا بصر ولا حياة، وهذا قول جماعة من أهل الاعتزال. قال ابن القيم عن هذه المرتبة:" وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة"(2) .
الثاني: تشبيه الصفات التي تتضمنها أسماء الله بصفات الخلق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا الإلحاد – كما يقول ابن القيم – في مقابلة إلحاد المعطلة، والحق وسط بين البدعتين.
الثالث: تسمية الله بما لا يليق به من الأسماء، كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع، وغير ذلك من الأسماء الباطلة.
(1) لابن القيم في بدائع الفوائد مبحث نفيس في أسماء الله الحسنى: (1/159) .
(2)
بدائع الفوائد (1/169) .
الرابعة: تسمية الأصنام والآلهة الباطلة بشيء من أسماء الله الحسنى، أو بعض ما اشتق منها، مثل اشتقاقهم العزى من العزيز، واللات من الله وغير ذلك. قال ابن القيم:" وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتم الباطلة"(1) .
أقول:من تأمل النوعين الأخيرين، وجدهما ينطبقان على عبارات كثير من العصريين المتأثرين بحضارة الغرب شكلا ومضمونا. (2) والله المستعان.
تشبيه صفات الله تعالى بصفات خلقه:
قبل الكلام على التشبيه المكفر، لا بد من تقرير أمر في غاية الأهمية، يفترق به أهل السنة والجماعة عن الطوائف المخالفة في باب الأسماء والصفات، وهو أنه ليس في شيء من الصفات الثابتة في الكتاب أو السنة تشبيه، وما دخل الداخل على المعطلة والمؤولة إلا عندما توهموا أن ظواهر النصوص تستلزم التشبيه، ففزعوا إلى تحريفها وتأويلها.
يقول اسحاق بن راهويه: "إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} "(3) .
وفي نفس المعنى يقول نعيم بن حماد الخزاعي: "من شبه الله بشيء من خلقه كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه"(4) .
(1) المرجع السابق (1/169) .
(2)
من ذلك تسميتهم الله عز وجل بـ" القوة المدبرة الخفية" وإطلاقهم بعض ما يختص بالله تعالى من الأسماء والصفات على بعض البشر، خصوصا في مقام المدح والتملق.
(3)
- رواه الترمذي في كتاب الزكاة-باب ما جاء في فضل الصدقة، تعليقا على الحديث رقم: 662 (ص170) .
(4)
سير أعلام النبلاء: 10/610.
فتبين إذن بأن من تمسك بالثابت من الصفات في الكتاب والسنة، ولم يعدها إلى غيرها، ولا مَثَّلها بصفات المخلوقين، لا يمكن أن يكون مشبها، خلافا لما يزعمه الأشعرية ومن نحا نحوهم من المتكلمين حين ينبزون أهل السنة بأنهم حشوية ومجسمة ومشبهة، لا لشيء سوى لإثباتهم صفات العلو والاستواء والرضا والغضب والضحك والنزول وغير ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة.
وهذه القاعدة مما ينبغي أن يعض عليه بالنواجذ، ويُتأمل فيه بالبصائر النوافذ.
إذا علم هذا فالتشبيه نوعان:
أولهما: تشبيه الخالق بالمخلوق في الذات أو الصفات أو هما معا. وهذا ينقله أرباب المقالات عن بعض المتقدمين مثل هشام بن الحكم الرافضي وداود الجواليقي وغيرهما. وهم ينقلون عن هؤلاء أقوالا شنيعة تقشعر منها الأبدان، وتكاد تزول لهولها الجبال!.
وثانيهما: رفع المخلوق إلى مقام الخالق، وهذا أكثر وأشنع، لذلك يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله:"التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني، الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق. كعُباد المشايخ، وعزير، والشمس، والقمر، والأصنام، والملائكة، والنار والماء والعجل والقبور والجن وغير ذلك"(1) .
أقول: ومنهم الذين يتبعون المشرعين من دون الله عز وجل، ويرضون باطلهم ويستسيغون إفكهم، وهذا كثير في هذه الأزمنة.
إنكار الصفات بالتعطيل أو التأويل:
من قواعد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، تنزيه الباري جل جلاله عن كل صفات النقص والعيب، اتباعا للكتاب والسنة. فالتنزيه عند أهل السنة أصل أصيل، ومعناه عندهم: نفي ما لا يليق بالله تعالى من صفات النقص وإثبات كمال ضدها. أما النفي المحض الذي لا يتضمن إثبات كمال، فهو منهج المتكلمين وديدن المعطلة.
(1) المنحة الإلهية في تهذيب شرح الطحاوية: 82.
وقد ثبت بالاستقراء ان طريقة القرآن الإثبات المفصل والنفي المجمل، وأن طريقة المتكلمين بالعكس. أما المعطلة فقد فروا من التشبيه – بزعمهم – فوقعوا فيما هو أدهى وأمر، وهو تعطيل الصفات الثابتة، ثم هؤلاء المعطلة على دركات مختلفة:(1)
فأشدهم غلوا وهم الجهمية المحضة مثل القرامطة وأشباههم، يسلبون عن الله عز وجل النقيضين معا فرارا من تشبيهه – بزعمهم – بالموجودات في الاثبات، أو المعدومات في النفي. فقالوا: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. وهذا - إلى جانب كونه من أعظم الكفر والضلال – مناقض لبدائه العقول. بل إنهم فروا من تشبيهه بالموجودات والمعدومات، فوقعوا فيما هو شر وهو تشبيهه بالممتنعات، لأن سلب النقيضين ممتنع.
ويتلوهم الفلاسفة وباطنية الشيعة - مثل ابن سينا – وباطنية الصوفية – كابن عربي، فيصفون الله بأنواع السلوب كقولهم:"ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز، الخ"، والإضافات كقولهم:"هو علة الموجودات"، ويقولون إنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق، مع أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج.
وبعدهم المعتزلة ومن معهم، الذين يثبتون الأسماء مع نفي الصفات التي تتضمنها، كما سبق بيانه.
ثم الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم، وهم يثبتون بعض الصفات، ويسلطون سيف التأويل الباطل على الباقي. فهم معطلة مثبتة، على تناقض شديد في مناهجهم وأدلتهم، وخلاف كبير بين أئمتهم.
وهذه الطوائف كلها – حاشا الأخيرة منها – هي طوائف كفر وإلحاد. أما الطائفة الرابعة، فأكثر أهلها يتبعون تأويلات مستساغة في الجملة ومقبولة في لسان العرب، هذا مع عظيم غَنائهم في الإسلام وما لأكثرهم من مشاركة طيبة في الدفاع عن الشرع وعلومه. ومع هذا، فمذهبهم محدث مبتدع، وهو ذريعة قوية إلى المذاهب التعطيلية الأخرى. والله أعلم.
(1) انظر هذه المراتب في التدمرية وشرحها للشيخ فالح بن مهدي:48 وما بعدها.
الفصل الثالث: نواقض الايمان في الألوهية
قلت في النظم:
وأعظم الإشراك والكفران
لا سيما في هذه الأزمان
صرف العبادة لغير الخالق
باري البريات القدير الرزاق
كالشرك في السؤال والدعاء
لغير قادر على العطاء
والذبح والنذر كذا الطواف
ومثله السجود واعتكاف
والحب والخشية والرجاء
توكل تذلل حياء
وكل ما يدخل في التعبد
صارفه للخلق غير مهتدي
الشرح:
(وأعظم الإشراك والكفران لا سيما في هذه الأزمان) الأخيرة التي عمت فيها حنادس ظلمات الجهل، ودرست فيها آثار العلم (صرفُ العبادة لغير الخالق) سبحانه وتعالى (باري) أي خالق (البريات) كلها (القدير الرازق) وفي تخصيص هذه الأسماء المتضمِّنة لصفات الخلق والرزق والقدرة بالذكر، إشارة إلى أن الألوهية الحقة لا تنبغي إلا لمن له الكمال المطلق في ربوبيته وصفاته. ثم ذكرتُ أمثلة على الشرك في الألوهية في شقها النُّسكي، فقلت:
(كالشرك في السؤال والدعاء) الموجه (لِـ) واحد من المخلوقين (غيرِ قادر على العطاء) الحقيقي، إذ المخلوق لا يعدو أن يكون سببا في المنح والعطاء، والله عز وجل هو المعطي حقا.
(و) كذلك من امثلة العبادات التي لا يحل صرفها لغير الله على وجه الإطلاق (الذبح والنذر - إلى قولي - حياء) . (و) بالجملة فَـ (كل ما يدخل في) صريح (التعبد، صارفه للخلق) من دون الله (غيرُ مهتدي) بل هو مشرك ضال.
تعريف توحيد الألوهية:
الألوهية مصدر ألِه يألَه، أي عبَد يعبُد، وقد سبق بيان ذلك في الفصل الأول. فالألوهية صفة لله تعالى معناها استحقاقه عز وجل للعبادة بمالَه من كمال الربوبية والأسماء والصفات. وهذا التوحيد يسمى كذلك - باعتبار عمل العبد وكسبه - توحيدَ العبادة. وعليه فنحتاج هنا إلى تعريف العبادة لنستطيع أن نتصور حقيقة هذا التوحيد والأقسامَ الداخلة فيه.
فالعبادة يمكن تعريفها باعتبارين اثنين (1) :
(1) شرح كتاب التوحيد لابن عتيمين (1/10) ، والتعريف الأول له.
- باعتبارها مصدرا يعني التعبد هي: "التذلل لله محبة وتعظيما بفعل أوامره واجتناب نواهيه وفق شريعته".
- وباعتبارها اسما يعني المتعبد به، هي كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"(1) .
فتبين من هذا التعريف أن العبادة لا تقوم إلا على أركان التذلل والمحبة والتعظيم، وأنها تجمع أقوالا وأعمالا كثيرة يمكن تقسيمها على المراتب الأربع التي سبق تفصيلها في حقيقة الإيمان، وأقصد بها قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح.
فهذه الأقوال والأعمال كلها لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، لأنها حق خالص له سبحانه وتعالى: يقول ابن القيم رحمه الله: " فالسجود والعبادة والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتحسب والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار، وحلق الرأس خضوعا وتعبدا، والطواف بالبيت، والدعاء، كل ذلك محض حق الله، لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب، ولا نبي مرسل"(2) . ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "توحيد الألوهية هو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء والرجاء والخوف والخشية والاستعانة والاستعاذة والمحبة والإنابة والنذر والذبح والرغبة والرهبة والخشوع والتذلل والتعظيم"(3) .
واعلم أن توحيد الألوهية هو أصل هذا الدين، وركنه الركين، وهو أساس دعوة المرسلين، ولب الكتب المنزلة على النبيئين.
(1) قاعدة جليلة في العبادة (ضمن مجموعة التوحيد) : 267.
(2)
الجواب الكافي: 1/93.
(3)
الدرر السنية: 2/35.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " أما التوحيد الذي ذكره الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة، فهو كما قال الائمة شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} فأخبر أن الإله إله واحد، ولا يجوز أن يتخذ إله غيره، فلا يعبد إلا إياه"(1) .
ويقول الشيخ عبد الرحمان السعدي رحمه الله: "أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها، وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح وبفقده يكون الشر والفساد"(2) .
وأفضل ما أختم به هذا المبحث هذه الكلمات النورانية لابن القيم رحمه الله في بيان أهمية توحيد الألوهية وعظيم الحاجة إليه: "اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها"(3) .
الشرك في الألوهية وخطورته:
(1) - الفتاوى الكبرى: 6/564.
(2)
- القواعد الحسان: 192.
(3)
طريق الهجرتين: 99.
إن أقبح المنهيات وأخطرها على الإطلاق هو الشرك بالله، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك (1) . والشرك غاية الضلال كما قال تعالى عن المشركين إذ يخاصمون طواغيتهم يوم القيامة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وهو كذلك أعظم الظلم وأشنعه، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وذلك لما فيه من تسوية المخلوق الفقير الناقص، بالرب الخالق الغني الكامل.
ونظرا لكون الشرك قبيحا وظلما عظيما، ومناقضا لأصول الإيمان من كل وجه، فقد جعله الله جل ذكره محبطا للأعمال، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} ، وقضى الله عز وجل بأن من مات على الشرك فإنه لا يغفر له، وهو مخلد في نار جهنم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وكما قال أيضا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} .
وحقيقة الشرك – كما يؤخذ من تعريف توحيد الألوهية السابق – صرف شيء من العبادة لغير الله عز وجل، قولا أو عملا، وسوف أذكر في المباحث المقبلة بعض الأمثلة الواضحة.
وأصل هذا الشرك أمران (2) :
(1) البخاري في التفسير-باب في قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) برقم: 4477 (ص846)، ومسلم في الإيمان-باب كون الشرك أقبح الذنوب برقم: 86 (ص62) .
(2)
منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الاشاعرة في توحيد الله تعالى (1/98)
أولهما: الغلو في المخلوق، وذلك بتنزيله فوق منزلته البشرية، وصرف شيء من حقوق الله الخالصة له. وهذا هو الذي وقع فيه قوم نوح، كما قال ابن عباس في قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} : "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت"(1) .
وثانيهما: سوء الظن بالله، وذلك باعتقاد الحاجة إلى الوسائط والشفعاء بين العبد وخالقه. وهذا كما أن البدعة هي سوء ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الشرك بهذه الخطورة، فقد تكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد جميع الذرائع المفضية إليه، وحماية جناب التوحيد. فنهى عن الغلو في مدحه وإطرائه، وعن البناء على القبور وعن اتخاذها مساجد وأعيادا، ونهى عن الألفاظ المجملة التي توهم تسوية بين الخالق والمخلوق، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تجدها في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من كتب العقائد.
من أمثلة الشرك في الألوهية: الشرك في الدعاء:
(1) - البخاري في التفسير برقم: 4920 (ص971) .
لما كان الدعاء هو أساس العبادة ولبها كما جاء في الحديث الصحيح (1)، فإن صرفه لغير الله عز وجل يعد شركا أكبر. قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وقال تعالى:{ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
لذلك فإن الاستغاثة بغير الله عز وجل في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، شرك واضح. وقد جاء في الحديث الصحيح:"من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار"(2) .
قال ابن القيم رحمه الله: " ومن أنواعه – أي الشرك الأكبر – طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده"(3) .
(1) - وهو ما أخرجه الترمذي في التفسير برقم: 3247 (ص738) وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الصلاة-باب الدعاء برقم: 1479 (1/332) .
(2)
البخاري في التفسير برقم: 4497 (ص851)، ومسلم بلفظ آخر في الإيمان برقم: 92 (ص64) .
(3)
مدارج السالكين: 1/346.
ويكفي أن نستحضر في هذا الباب أن مشركي العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم، لم يكونوا يعتقدون في معبوداتهم التي كانوا يدعونها من دون الله خلقا ولا رزقا ولا تدبيرا وإنما كانوا يدعونها لتقربهم إلى الله زلفى، كما حكاه عنهم رب العزة جل جلاله. فكيف بمن يزيد على الاستغاثة المجردة - من أهل الجهل والفجور في مجتمعاتنا المعاصرة - شركا صريحا في الربوبية؟! وقد قال ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا المعنى:" كان من أتباع هؤلاء أي: المشركين - من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى ويصوم لها، وينسك لها ـ ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك"(1) .
ومما يدخل في هذا الباب العياذ واللياذ بغير الله عز وجل، والاستعاذة في اللغة هي الالتجاء والاعتصام. فالعائذ بالله هو الذي يهرب مما يؤذيه، إلى ربه سبحانه، فيعتصم به ويستجير به. وذكر بعض أهل اللغة أن العياذ لدفع الشر واللياذ لطلب الخير، وأنشدوا قول المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله
ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
ولا يهيضون عظما أنت جابره (2)
(1) درء تعارض العقل والنقل: 1/227.
والاستعاذة بالله من العبادات المأمور بها، قال تعالى:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . لذلك كان صرفها لغير الله شركا في العبادة، كما في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} ، عن ابن عباس أنه قال:"كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما".
وهنالك أمثلة أخرى متعددة على الشرك في العبادة، نبه عليها العلماء الأعلام، وشددوا النكير على مرتكبيها من الجهال، ومسوِّغيها من المنتسبين إلى العلم. ولشيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأقطاب دعوته، صولات وجولات في هذا الميدان، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، فمن شاء التفصيل فليرجع إلى مؤلفاتهم الجامعة الماتعة، فإنه من اطلع عليها وكان بعيدا عن الجدال والمِرا، لم يسعه إلا أن يقول: كل الصيد في جوف الفرا.
والحمد لله على نعمه.
قلت في النظم:
والحكم في الأموال والفروج
وفي الدما بشرعة العلوج
تحليل ما حرمه المهيمن
والعكس، طغيان وكفر بين
فاعله مبدل مشرع
فالوقف فيه عندنا مستشنع
كذا اتباع شرعة الكفار
أو الرضا بها بلا إنكار
الشرح:
(و) كذلك يعد من الكفر الأكبر الناقض لتوحيد الألوهية (الحكم في الأموال) من بيوع وشركات وغير ذلك (والفروج) من أنكحة وما يتعلق بها (وفي الدما) ء، من حدود وقصاص وغيرها، - والدماءُ مقصور للوزن - (بشرعة العلوج) أي بقوانينهم ومواضعاتهم، والعلوجُ جمع عِلج وهو الرجل من كفار العجم، كما في القاموس.
وكذلك (تحليل ما حرمه المهيمن) سبحانه وتعالى، (والعكس) وهو تحريم ما أحله الله عز وجل، هو (طغيان) أي مجاوزة للحد (وكفر بين) واضح، إذ (فاعله) أي: مرتكب التحليل والتحريم من دون الله عز وجل (مبدل) لدين الله (مشرع) من دونه سبحانه، لذلك فـ (الوقف فيه) أي: في حكم هذا المبدل (عندنا) معاشرَ أهل السنة أمر (مستشنع) جدا، لأنه إما جهل فظيع، أو تجاهل مقيت، أو ورع كاذب.
(كذا) من الكفر الأكبر المخرج من الملة (اتباع شرعة الكفار) والمقصود بذلك التحاكم – من غير ضرورة شرعية – إلى القوانين الشرعية الطاغوتية ولو لم يفصح عن رضاه بتلك القوانين (أو الرضا بها) أي: قبوله لتلك القوانين (بلا إنكار) منه، ولو لم يتحاكم إليها، فتأمل.
والحق أن هذه المسألة التي قد يصطلح البعض على تسميتها بتوحيد الحاكمية، هي من المسائل العظيمة التي عمت بها البلوى في هذا الزمان، فتصدى لبيانها وتحقيق الحق فيها، جهابذة العلماء العاملين، فأقاموا الحجة الناصعة على الناس أجمعين، وبلغوا أمانة العلم كما أخذ الله عليهم بذلك العهد والميثاق.
والمسألة طويلة الذيول متشعبة المباحث، والتفصيل فيها يحتاج إلى بسط كثير لا يحتمله هذا الموضع، لذلك سوف أكتفي هنا ببعض الإشارات التي تغني عن التطويل، فأقول: الكلام على هذه المسألة في مقامات ثلاثة:
أولها: التشريع من دون الله
ثانيها: الحكم بغير ما أنزل الله
ثالثها: التحاكم إلى غير شرع الله
- أولا: التشريع من دون الله:
سبق أن ذكرت في الباب الأول من هذا الفصل أن حق التشريع هو من أخص خصائص الربوبية وأنه نوع من أنواع التدبير الذي يدبر به الله عز وجل هذا الكون، كما قال تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . لذلك فإن من نازع الله في شيء منه كان مشركا لأدلة كثيرة منها:
- قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
قال ابن كثير رحمه الله: "
…
أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأموال الفاسدة " (1) .
- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} . فبين الله عز وجل أن شركاء العرب في الجاهلية من شياطين الانس والجن قد شرعوا لهم شرائع كثيرة لم يأذن بها الله تعالى، ومنها قتل الأولاد خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار وغير ذلك. والشاهد من الآية تسمية الله تعالى من شرع للناس ما لم يأذن به الله شريكا لله، وهذا إكفار صريح له.
ومعنى الآية على ما ذكره المفسرون – أن أهل الجاهلية كانوا إذا أرادوا القتال في شهر من الأشهر الحرم – وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم – جعلوه حلالا وحرموا مكانه شهرا آخر من أشهر الحل ليوافقوا عدد الأشهر التي حرم الله تعالى. فجعل الله تعالى هذا التشريع الذي لم يأذن به الله تعالى زيادة في الكفر. قال ابن كثير رحمه الله: "هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله
…
" (2) .
(1) تفسير ابن كثير: 4/100.
(2)
- تفسير ابن كثير: 2/308.
أقول: فكيف بمن غير شرع الله جملة وتفصيلا، واستبدل به قوانين الفرنجة وشرائع الوثنيين؟!
جاء في تفسير هذه الآية أن عدي بن حاتم رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية. قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم" (1) .
فتأمل كيف أن الذي يحل الحرام ويحرم الحلال ويشرع ما لم يأذن به الله تعالى، يكون قد نصب نفسه ربا من دون الله، وأن الذي يتبعه ويرضى بما شرع له يكون عابدا له من دون الله.
وتدبر معي أخا السنة هذه الكلمات النورانية الجلية لبعض أئمة الإسلام في هذا الباب (2) :
يقول ابن حزم رحمه الله: " فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام، أو يحل شيئا كان حراما إلى حين موته عليه السلام، أو يوجب حدا لم يكن واجبا إلى حين موته عليه السلام، أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق"(3) .
(1) - أخرجه الترمذي في التفسير-باب: ومن سورة التوبة برقم: 3095 (ص697) وقال: حسن غريب.
(2)
انظرها تفصيلا في كتاب الجامع: 2/882 وما بعدها.
(3)
الإحكام: 1/71.
ويقول ابن تيمية رحمه الله: "
…
الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله، فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر" (1) . ويقول أيضا:" ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى"(2) . ويقول: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتفاق الفقهاء"(3) .
ويقول ابن كثير رحمه الله: " فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا (4) وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين"(5) .
ويقول محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "
…
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم" (6) .
نسأل الله عز وجل أن ينور بصائرنا بأنوار الوحي، وأن يفتح قلوبنا لضياء الهدى، آمين.
- ثانيا الحكم بغير ما أنزل الله:
كثير من الأدلة المذكورة في المقام الأول، صالحة أيضا للبرهنة على كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، ولكنني أضيف إليها الدليلين التاليين:
(1) مجموع الفتاوي: 11/262.
(2)
نفسه: 8/106.
(3)
نفسه: 3/267.
(4)
الياسا: كتاب وضعه جنكيز خان ملك التتار وصار في بنيه شرعا متبعا، وهو مقتبس من شرائع شتى.
(5)
البداية والنهاية: 7/139 وانظر تفسيره عند قوله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون) .
(6)
أضواء البيان: 3/259.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} . الآيات. فانظر كيف نفى الله عز وجل الإيمان عن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، مع أنهم عالمون أنهم مكلفون بالكفر به، إذ التوحيد لا يصح إلا بركنين اثنين: ركن الإيمان بالله وركن الكفر بالطاغوت.
والطاغوت – كما قرره ابن القيم رحمه الله – هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع من دون الله عز وجل، ومن رؤوس الطواغيت الذين ذكرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الحاكم بغير ما أنزل الله.
وإذا كان التحاكم إلى الطاغوت – عن رضا واختيار – كفرا، فما حال نفس الحاكم بغير ما أنزل الله؟!
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} .، وهي آية صريحة في كفر الذي لا يحكم بما أنزل الله. ولولا بعض الشبهات الإرجائية المثارة حولها، لما احتيج إلى إطالة الكلام في تفسيرها، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقد أشبع الكلام عليها بما لا يحتاج إلى مزيد، الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز في المجلد الثاني من "الجامع في طلب العلم الشريف"(1) على أن له في ثنايا كلامه اختيارات لا يتابع عليها، وليس هذا محل بسط ذلك. (2)
- ثالثا: التحاكم إلى غير شرع الله:
مناط التكفير بالتحاكم إلى غير شرع الله أحد أمرين اثنين:
قبول الشرع الطاغوتي والرضا به، فهذا يكفر صاحبه إجماعا، لأن الرضا بالكفر كفر كما قد تقرر.
(1) ابتداء من الصفحة 849.
(2)
انظر كلام الشيخ المقدسي في: " النكت اللوامع " وما جمعه صاحب كتاب " نواقض الإيمان القولية والعملية " حول هذا الموضوع.
التحاكم إلى الطاغوت مجردا عن التصريح بالرضا، فهذا لا يكفر صاحبه إلا إذا ثبت أنه كان له مندوحة عن هذا التحاكم، وأنه لم يكن مضطرا ولا محتاجا إليه. والحق أن من يتحاكم إلى الطاغوت في غير ضرورة شرعية، لا يمكن إلا أن يكون راضيا عن هذا الشرع الطاغوتي. فرجع الأمر الثاني – عند التحقيق -إلى الأول، وتبين أن المناط الحقيقي هو الرضا والقبول.
ودليل كفر المتحاكم إلى الطاغوت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} الآيات، وهي صريحة في أن إرادة التحاكم إلى الطاغوت إيمان بهذا الطاغوت، وكفر بالله عز وجل.
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فبينت الآية أن متابعة الذين يشرعون من دون الله عز وجل شرك مناقض لمعنى كلمة: لا إله إلا الله.
وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} ، فإذا كان هذا حال من يقعد – من غير إنكار – في مجلس يكفر فيه بآيات الله فكيف بمن يتحاكم – طائعا مختارا- إلى القوانين التي هي من أعظم المحادة لله ورسوله؟!
قال رشيد رضا في تفسير هذه الآية: "
…
ويؤخذ من الآية أن إقرار الكفر بالاختيار كفر
…
" (1) .
قلت: وهذا أمر مجمع على صحته. وتطبيقه على ما نحن فيه شديد الوضوح. والله أعلم.
قلت في النظم:
والصد عن شريعة الإسلام
وما احتوت عليه من أحكام
ليس بشِرعة الحكيم عاملا
وليس عالما بها بل جاهلا
الشرح:
(و) من نواقض الإيمان (الصد) وهو الإعراض (عن شريعة الإسلام) الغراء (و) من ذلك الإعراض عن تعلم والعمل بـ (ما احتوت عليه) هذه الشريعة (من أحكام) علمية وعملية. فحال ذلك المعرض أنه (ليس بشرعة الحكيم) سبحانه وتعالى (عاملا وليس عالما بها بل جاهلا) أي ليس يتعلم دين الله ولا يعمل به.
يعتبر الإعراض عن دين الله من ضمن نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقال: " الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (2) .
وهو ناقض للإيمان باعتبار أن لب الدين إنما هو تمام الطاعة والانقياد والاستجابة، والإعراض التام عن دين الله تعالى هو امتناع عن الاتباع وتول عن الطاعة واستنكاف عن الاستجابة، ومثل هذا لا يمكن أن يثبت معه عقد الإيمان. وقد سبق في الفصل الأول أن بينت أن جنس العمل من أصل الإيمان وأن تركه كفر أكبر مخرج من الملة، بما يغني عن الإعادة هنا.
والحق أن القرآن الكريم مملوء بذكر الآيات الدالة على كفر المعرض عن دين الله، الصادِّ عن اتباع شريعته.
(1) نقله صاحب "نواقض الإيمان " ص 334.
(2)
مجموعة التوحيد: 272.
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} . وقال جل ذكره: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} . قال ابن القيم رحمه الله: " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه، والتسليم لما حكم به رضى واختيارا ومحبة، فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق"(1) .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} . يقول ابن كثير رحمه الله: " قوله (ومن أعرض عن ذكري) أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرضَ عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه،
…
" (2) .
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . قال ابن كثير رحمه الله: " فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين"(3) .
(1) مختصر الصواعق المرسلة: 2/705.
(2)
تفسير ابن كثير: 3/147.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/309.
ويقول ابن تيمية رحمه الله في كلامه على آية سورة النساء السابقة الذكر: " فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول، وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت، ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالنقص والسب ونحوه؟ "(1) .
وهذا الكلام في غاية النفاسة، فليعض عليه بالنواجذ!
ويقول ابن القيم رحمه الله عند ذكره لبعض أنواع الكفر: "وكفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول، ولا يحبه ولا يبغضه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل هو معرض عن متابعته ومعاداته"(2) .
قلت في النظم:
كذا موالاة أولي الكفران
بنصرة على ذوي الإيمان
أو حبهم في الدين والأخلاق
تشبه بهم على الإطلاق
أو طاعة لهم بلا نكران
أو دعوة لوحدة الأديان
الشرح:
(كذا) من نواقض الإيمان (موالاة أولي الكفران) وذلك بأحد أمور، إما (بنصرة) لهم (على ذوي الإيمان أو) بـ (حبهم) مقيدا بكونه في ما هو من خصوصيات دينهم مثل حبهم (في الدين والأخلاق) أو بـ (تشبه بهم على الإطلاق) أي: التشبه بهم فيما يوجب الكفر الأكبر المخرج من الملة، أو بـ (طاعة لهم بلا نكران) أي: طاعتهم في أمور التشريع والحكم وما شاكلها دونما إنكار عليهم، وقد سبق الكلام على هذه المسألة، فلتنظر هناك، أو بـ (دعوة لوحدة الأديان) وإزالة الفوارق بين الملل والديانات.
(1) الصارم المسلول: 38.
(2)
مفتاح دار السعادة:.......
يعتبر الولاء والبراء أساس عقيدة التوحيد وجوهرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله "(1) . قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعادة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقان بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان"(2) .
ويقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: " فأما معادة الكفار والمشركين فاعلم أنه الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده"(3)
وبالجملة فإن هذا الأصل الأصيل قد دل على اعتباره في أصل الإيمان الكتابُ والسنة وإجماع سلف الأمة (4) .
(1) - رواه أبو داود في السنة-باب: مجانبة أهل الأهواء وبغضهم برقم: 4599 (2/391) .
(2)
أوثق عرى الايمان (ضمن مجموعة التوحيد) : 90.
(3)
النجاة والفكاك (ضمن مجموعة التوحيد) : 183.
(4)
انظر تفصيل ذلك في كتاب "الولاء والبراء في الاسلام" لمحمد القحطاني و"الموالاة والمعاداة" لمحماس الجلعود " وسبيل النجاة والفكاك" لحمد بن عتيق، و"أوثف عرى الايمان " لسليمان بن عبد الله، وغيرها.
وأصل الولاء الحبُّ وهو عمل قلبي، ينشأ عنه عدد من أعمال القلوب والجوارح كالنصرة والنصح والإعانة وما إلى ذلك، وكذلك الشأن في نقيض الولاء وهو البراء. فمن أصل الإيمان موالاة المؤمنين والبراءة من الكفار، بل إن الولاء والبراء هو الذي يدل على حياة القلوب، وشدة تعلقها بالإسلام كما نقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتِهم أعداءَ الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون، هذا يقول حديث خرافة، والمعري يقول:
تلوا باطلا، وجلوا صارما
…
... وقالوا صدقنا، فقلنا نعم
يعني بالباطل: كتاب الله عز وجل، وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب." (1) وسوف أذكر – تبعا لما في النظم – بعض أنواع موالاة الكفار التي تعد من نواقض الايمان:
نصرة الكفار ضد المسلمين:
وهذا من أشنع ما يقع فيه بعض المنتسبين إلى الإسلام في أعصارنا هذه، وهو أمر ينم عن جهل فظيع بمعنى كلمة " لا إله إلا الله "، والله المستعان.
قال تعالى: {لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} . يقول الطبري في تفسيرها: " ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهورا وأنصارا. توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر"(2) .
(1) الآداب الشرعية: 1/255.
(2)
تفسير الطبري: 3/227.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . قال ابن حزم رحمه الله: " صح أن قوله تعالى:"ومن يتولهم منكم فإنه منهم" إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين"(1) . وقال الطبري رحمه الله: "
…
من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمُه حكمَه " (2) .
وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ، والآية صريحة في انتفاء الإيمان عن الذي يواد من يحاد الله ورسوله، ولو كان من أقاربه وعشيرته، فكيف بمن يواد كفرة الأوروبيين والأمريكان، وليس بينه وبينهم قرابة ولا نسب؟ .
وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . قال ابن تيمية رحمه الله: " فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف "لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: "ولو كانوا يؤمنون
…
أولياء"، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياءفي القلب،
…
" (3) .
(1) المحلى: 12/33.
(2)
تفسير الطبري: 4/617.
(3)
مجموع الفتاوى: 7/17.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه المسألة ضمن نواقض الإسلام العشرة فقال: " الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} "(1) .
محبة الكفار وموادتهم:
وذلك لأن أساس الولاء والبراء هو الحب والبغض، وذلك أوثق عرى الإيمان كما سبق في الحديث، فلا يجتمع إيمان بالله ورسوله مع موادة أعداء الله وحبهم والتقرب إليهم، خاصة إن كان ذلك فيما هو من خصوصيات دينهم، كما يقع فيه كثير من أهل القبلة في هذا الزمان، لمَّا تجدهم يحبون عادات الفرنجة وتقاليدَهم وأعرافهم، بل وبعض شعائر دينهم من أعياد وغيرها!! ويكفي في هذا الباب قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .
التشبه المطلق بالكفار:
لا يخفى على من تعلم دين الله عز وجل من مظانه الأصلية – بعيدا عن فتاوى وتلبيسات أهل التفرنج المعاصرين – أن التشبه بالكفار من أعظم المحرمات وأخطرها (2)، إذ المشاكلة الظاهرة لا بد أن تثمر موادة باطنة؛ كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من تشبه بقوم فهو منهم "؟! (3)
(1) مجموعة التوحيد: 24.
(2)
راجع كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية، وكتاب "الاستنفار لغزو والتشبه بالكفار "للحافظ أحمد بن الصديق الغماري، فهما كافيان شافيان.
(3)
- رواه أبو داود في اللباس-باب في لباس الشهرة برقم: 4031 (2/255)، وأحمد في مسند المكثرين برقم:4868.
قال ابن تيمية رحمه الله:"وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، (
…
) كما في قوله: " ومن يتولهم منكم " فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم، في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرا، أو معصية أو شعارا لهم، كان حكمه كذلك" (1) .
فتبين إذن أن من التشبه بالكفار ما لا يكون كفرا، ومثاله أن يلبس مثل لباسهم (2) ، وهو أمر عمت به البلوى في هذا العصر، ومنه ما هو كفر واضح مخرج من الملة كالسعي إلى الكنائس والبِيَع مع أهلها بزيهم، من شد الزنانير، وفحص الرؤوس، وكوضع قلنسوة المجوسي على رأسه لغير ضرورة دفع الحر أو البرد، وكتعليق الصليب في العنق، وغير ذلك. ومن ذلك أيضا مشاركة الكفار في أعيادهم، بإظهار الفرح والسرور، ورفع شعائر الكفر، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أنه قال:" من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة"(3)
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية
…
" (4)
الدعوة إلى وحدة الأديان:
وهذه من شناعات العصر ومحدثاته، وهي إحدى نتائج الهزيمة النفسية التي يعاني منها المفكرون المنتسبون إلى الإسلام.
وقد وجدت هذه الدعوة قديما عند بعض أهل الزندقة من غلاة الصوفية وغيرهم، كابن عربي الذي يقول:
******************************* (5)
(1) اقتضاء الصراط المستقيم: 83.
(2)
مما ليس شعارا للكفر كالزنار والصليب وما إلى ذلك.
(3)
البيهقي:
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم: 200.
ولكن كانت هذه الأفكار منبوذة لا ينطق بها إلا هؤلاء الذين يعيشون على هامش المجتمع وليس لهم فيه أدنى تأثير. أما الجديد في هذا العصر فهو أن أصحاب هذه الدعوة الكفرية يعقدون المؤتمرات، ويقيمون الندوات، وتفتح لهم وسائل الإعلام، وتنشر أفكارهم في كل مكان.
وهذه الدعوة - كما لا يخفى على كل مسلم - كفر بواح، إذ الإسلام جاء ناسخا للأديان السابقة كلها، وجاء القرآن مهيمنا على الكتب السماوية كلها، وأرسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، كما قال تعالى:(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) ، فلا يسع أحدا بعد بعثته عليه الصلاة والسلام إلا أن يتبعه ويطيعه.
قال ابن تيمية رحمه الله: " ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين أن من سَوَّغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب"(1) .
الفصل الأول: نواقض الإيمان في النبوات والمغيبات وأمور أخرى:
قلت في النظم:
سب النبي المصطفى محمد
ذي الفضل والتقى، الرسول الأمجد
أو غيره من السراة الأتقيا
أولي الهدى من رسل وأنبيا
كذا ادعا نبوة بالكذب
أو استهانة ببعض الكتب
واختلفوا في سب صحب المصطفى
والعلما والصالحين الشرفا
الشرح:
ومن نواقض الإيمان (سب النبي المصطفى محمد) صلى الله عليه وسلم (ذي الفضل والتقى الرسول الأمجد أو) سب غيره (من السراة) بفتح السين، جمع سري، أو هو اسم جمع كما في القاموس، وهم أهل المروءة والشرف (الأتقيا) مقصور للوزن (أولي الهدى من) بيانية (رسل وأنبيا) مقصور للوزن كذلك.
(كذا ادعا نبوة بالكذب أو استهانة ببعض الكتب) المنزلة من قرآن وإنجيل وتوراة وغيرها، ويدخل في ذلك إنكار كون هذه الكتب منزلة من عند الله، وادعاء كونها من صنع البشر!
(1) مجموع الفتاوى: 28/524.
(واختلفوا في) حكم (سب صحب المصطفى) رضوان الله عليهم، هل هو كفر أم لا؟ (و) كذلك في حكم سب (العلماء)(والصالحين الشرفا) ء.
فهذه إذن مباحث شريفة ومسائل منيفة متعلقة بأبواب النبوات، والكتب المنزلة، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم سب النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
لا يختلف اثنان من أهل القبلة في أن الواجب نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تمام التوقير والتعظيم والمحبة والاتباع والتسليم، والتحكيم في الصغير والكبير. وقد جاء في الحديث الصحيح:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"(1) ومن الثلاث التي من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما (2) .
وقد بلغ تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغا عظيما، حتى قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:"ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه"(3) .
وقد قال رب العزة جل جلاله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . فتمام الأدب معه صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، والإذعان لها، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق.
(1) - سبق تخريجه.
(2)
- سبق تخريجه.
(3)
مسلم في الإيمان-باب كون الإسلام يهدم ما قبله برقم: 121 (73) .
وقد نقل القاضي عياض في كتابه العجاب الموسوم بالشفا عن أبي إبراهيم التجيبي أنه قال: "واجب على كل مؤمن متى ذكره، أوذُكر عنده، أن يخضع ويخشع ويتوقر، ويسكن في حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به "وعلق القاضي عياض بقوله: " وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم "(1)
إذا علم هذا، فكيف يجتمع الإيمان مع سب النبي صلى الله عليه وسلم أو التنقص منه أو الاستهزاء به أو بسنته؟. قال ابن تيمية رحمه الله:" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل"(2) .
ولا أحتاج إلى أن أنبه مرة أخرى على أن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفر أكبر مخرج من الملة، سواء أستحل ذلك أم لم يستحله، فقد سبق أن أشرت إلى ذلك آنفا. (3) قال ابن راهويه:"قد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا أنزله الله، أو قتل نبيا من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر"(4) .وقال محمد بن سحنون رحمه الله: " أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر"(5) .
(1) الشفا: 2/91.
(2)
الصارم المسلول: 512.
(3)
أنظر في هذا الموضوع كتاب الشفا للقاضي عياض والصارم المسلول لابن تيمية، وللشادين في العلم الشرعي رسالة أبي بصير في الموضوع، فإنها نافعة.
(4)
- الصارم المسلول: 512.
(5)
الشفا: 2/476.
أقول: قد فشا هذا المنكر العظيم – أعني الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بسيرته وسنته – في وسائل إعلامنا، ومنتديات ثقافتنا، بل وفي مدارسنا وشوارعنا. فأين القلوب الحية والأيدي المتوضئة من هذا الضلال والباطل؟!
حكم سب سائر الأنبياء عليهم السلام:
وهذا الناقض مثل الذي قبله، إذا الواجب تجاه الأنبياء عليهم السلام جميعا هو تمام التعظيم والمحبة، وهذا لا يجتمع مع تنقصهم والاستهزاء بهم.
يقول القاضي عياض رحمه الله: " وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى
…
واستخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به، أوأنكرهم وجحدهم حكمُ نبينا صلى الله عليه وسلم" (1) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"من خصائص الأنبياء أن من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الائمة، وكان مرتدا، كما أن من كفر به وبما جاء به كان مرتدا، فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله"(2) . وهذا أمر من الوضوح بمكان.
ادعاء النبوة:
لما كانت النبوة اصطفاء من الله واجتباء، لا دخل فيه لكسب العبد أو رياضته ومجاهدته، فإنه لا يدعيها بغير حق إلا من كان من أسوء أهل الكذب والبهتان، كما قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:"إن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين! "(3) .
(1) الشفا: 2/641.
(2)
نقله صاحب " نواقض الإيمان القولية والعملية "180.
(3)
المنحة الإلاهية: 205.
ولا شك أن ادعاء النبوة بغير حق شرك عظيم، لأنه من أعظم الافتراء على الله عز وجل، ومن أشد الظلم والبهتان كما قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} ؛ ولأنه أيضا تكذيب للقرآن الكريم الذي نص على أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . وادعاء النبوة تكذيب بالسنة الصحيحة – بل المتواترة – التي دلت على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:"إلا أنه لا نبي بعدي"(1) وغير ذلك من الأحاديث.
وادعاء النبوة مخالفة للإجماع القطعي اليقيني الذي نقله غير واحد، وكفى بذلك كفرا مبينا.
إنكار الكتب المنزلة أو الاستهانة بها:
(1) رواه البخاري في المغازي-باب غزوة تبوك برقم: 4416 (ص834)، ومسلم في فضائل الصحابة برقم: 2404 (ص979)
يعد الإيمان بالكتب أحد الأركان الستة التي يقوم عليها الإيمان الشرعي، ومعناه التصديق بأنها جميعها منزلة من عند الله عز وجل، وأنها كلام الله، إجمالا فيما أجمل وتفصيلا فيما فُصِّل. لذلك فإن إنكارها أو التكذيب بها أو الطعن فيها أو الاستهزاء بها وانتقاصها كل ذلك كفر أكبر مخرج من الملة، لأن ذلك تكذيب للقرآن الكريم الذي أمر بالإيمان بالكتب المنزلة ونص على أنها من عند الله حقا، وما على وجه الأرض مسلم يشك في أن التكذيب بالقرآن كفر.
كما أن إنكار الكتب السماوية إنكار لصفة الكلام لله عز وجل، وهو كفر كما سبق بيانه. قال القاضي عياض رحمه الله:"اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما أو جحده، أو حرفا منه أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته، على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك، فهو كافر عند أهل العلم بإجماع"(1) وقال: " وكذلك إن جحد التوراة والإنجيل وكتب الله المنزلة، أو كفر بها، أو لعنها أو سبها، أو استخف بها فهو كافر
…
" (2) .
سب الصحابة رضوان الله عليهم:
هذا من المسائل التي لا بد فيها من التفصيل، فإن مِن سب الصحابة ما هو ناقض للإيمان على جهة القطع واليقين، وما ليس كذلك. فمن أمثلة الأول – أي ما هو كفر-:
- أن يكون مستحلا لسب الصحابة، وذلك لأن سبهم محرم بالإجماع، إذ هم عدول عند كافة أهل السنة والجماعة، وقد نبهت آنفا على أن استحلال المُحرَّم المجمع على تحريمه كفر.
(1) -الشفا: 2/646.
(2)
الشفا: 2/647.
- أن يسب جميع الصحابة أو جمهورهم بما يقدح في دينهم وعدالتهم، كأن ينسبهم إلى الكفر أو الفسق. قال ابن تيمية رحمه الله:"وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره، لأنه مكذب لما نصّه القرآن في غير موضع من الرضى والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين"(1) .
- أن يسب الصحابة لأجل صحبتهم. قال ابن حزم رحمه الله: "ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر"(2) . وقال السبكي: "إن سب الجميع بلا شك أنه كفر، وهكذا إذا سب واحدا من الصحابة حيث هو صحابي، لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم"(3) .
- أن يقذف عائشة رضي الله عنها، أو إحدى أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم، وهذا لشناعته لا يحتاج إلى دليل، ولا يفتقر إلى تفصيل. نسأل الله السلامة في الدين.
وهنالك أمثلة أخرى في بعضها خلاف (4) ، والله أعلم.
سب العلماء والصالحين أو الاستهزاء بهم:
لما كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وجب توقيرهم واحترامهم ومعرفة مكانتهم التي أحلهم الله فيها، لذلك فالاستهزاء بهم نوعان:
- الاستهزاء بأشخاصهم وصفاتهم الخلقية والخلقية، وهذا حرام.
- الاستهزاء بهم لكونهم علماء، ولما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر.
ومن هذا الباب أيضا الاستهزاء بأهل الصلاح والعبادة، أو بأهل البيت النبوي، والله أعلم.
قلت في النظم:
ومن أعاظم المكفرات
إنكار ثابت المغيبات
كالجن والملائك الكرام
والبعث بالأرواح والأجسام
جحد نصوص الوعد والوعيد
أو صرف معناها عن المقصود
إنكار معلوم بالاضطرار
من دين بارئ الدنى الجبار
الشرح:
(1) الصارم المسلول: 586.
(2)
الفصل: 3/276.
(3)
فتاوى السبكي: 2/575.
(4)
انظر" نواقض الإيمان القولية والعملية " " 415.
(ومن أعاظم المكفرات) المخرجة عن ملة الإسلام (إنكار ثابت المغيبات) من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي: إنكار المغيبات الثابتة بالأدلة الشرعية القطعية (كَـ) إنكار (الجن والملائك الكرام و) إنكار (البعث بالأرواح والأجسام) معا.
ومن نواقض الإيمان (جحد) أي إنكار (نصوص الوعد والوعيد) الثابتة (أو صرف معناها عن) المعنى (المقصود) بها في الكتاب والسنة، إلى معان أخرى باطلة؛ وكذلك (إنكار معلوم بالاضطرار) أي: دون حاجة إلى نظر واجتهاد (من دين بارئ الدنى) جمع دنيا (الجبار) سبحانه وتعالى.
فهاهنا مجموعة من نواقض الإيمان، أتكلم عليها على وجه الإيجاز، فأقول:
إنكار المغيبات:
عرف الراغب الأصبهاني الغيب بأنه: "ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بدائه العقول، وإنما يعرف بخبر الأنبياء عليهم السلام، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد"(1) .
ولا شك أن الإيمان بالغيب أصل من أصول الإيمان، بل هو الفيصل الحقيقي بين المؤمن الحق الثابت الراسخ، وبين الآخر الذي تزعزعه أعاصير الشبهات، وتعصف به رياح الشهوات.
ويشمل الإيمان بالغيب أمورا متعددة ثبتت بالقرآن والسنة مثل الإيمان بالملائكة والجن واليوم الآخر بما فيه من بعث ونشور، وصراط وميزان، وجنة ونار، وغير ذلك.
- الإيمان بالملائكة:
هذا أحد أركان الإيمان الستة المذكورة في حديث جبريل وغيره، ومعناه الإقرار الجازم بوجودهم إجمالا، والإيمان بمن ذكر منهم في الكتاب والسنة تفصيلا وهم جبريل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وخزنة الجنة والنار وغيرهم.
فمن أنكر وجود الملائكة كفر بلا تردد، لقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} ، ولأن إنكارها تكذيب بخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة للإجماع القطعي اليقيني الذي يكفر مخالفه.
(1) المفردات:
قال ابن حزم في "مراتب الإجماع": " واتفقوا أن الملائكة حق، وأن جبريل وميكائيل ملكان رسولان لله عز وجل مقربان عظيمان عند الله تعالى، وأن الملائكة كلهم مؤمنون فضلا"(1) .
ثم لا بد من إجلال الملائكة وإكرامهم، وتنزيههم عما لا يليق بهم من الصفات، لذلك فإن من يسبهم أو يستهزأ بهم فهو كافر. قال ابن حزم رحمه الله:"وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى - بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر"(2) .
وينقل القاضي عياض رحمه الله في الشفا أقوال بعض أئمة المالكية في هذا الشأن فيقول: "وقال القاضي بقرطبة سعيد بن سليمان في بعض أجوبته: من سب الله وملائكته قتل. وقال سحنون:من شتم ملكا من الملائكة فعليه القتل"(3) . وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر: " كأنه وجه مالك الغضبان: " لو عرف أنه قصد ذم الملَك قتل"! (4) .
وكلام أهل العلم في هذا الباب طويل ومشهور. فليتَّقِ الله أولئك الذين لا يتورعون عن تمثيل بعض الملائكة أو الأنبياء أو الصحابة في مسرحياتهم المتعفنة وأشرطتهم المنتنة، عاملهم الله تعالى بعدله!!
- الإيمان بالجن:
جاء إثبات وجود الجن ومعرفة كثير من أحوالهم وصفاتهم في الكتاب والسنة. قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} .
(1) مراتب الإجماع:
(2)
الفصل: 2/275.
(3)
- الشفا: 2/642.
(4)
الشفا: 2/643.
قال القرطبي رحمه الله: " وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم"(1) . وقال ابن حزم رحمه الله: "فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال"(2) .
وإنكار الجن من نواقض الإيمان العصرية التي ابتلي بها أهل "الحداثة والتغريب" والله حافظ دينه ولو كره المشركون.
– الإيمان بالبعث:
يدخل في ركن الإيمان باليوم الآخر – الذي هو أحد أركان الإيمان الستة – أشياء كثيرة مثل عذاب القبر ونعيمه، والبعث والنشور والعرض والحساب والصراط والميزان والجنة والنار وغير ذلك.
فنفي شيء من ذلك هو إنكار للقرآن ومتواتر السنة وإجماع الأمة، فهو إذن كفر بواح. وقد ذكرتُ في النظم مثالا واحدا يكفي للإشارة إلى ما سواه، وهو إنكار البعث بالأرواح والأجسام معا، وذلك متضمن لمكفرين اثنين هما: إنكار البعث مطلقا، وإنكار معاد الأجساد مع الإقرار بمعاد الأرواح. يقول ابن تيمية رحمه الله: "وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط. وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون: لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد.
…
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية
…
ومثل المتفلسفة الصابئة
…
وطائفة ممن ضاهوهم من كاتب أو متطبب أو متكلم أو متصوف كأصحاب رسائل إخوان الصفا وغيرهم، أو منافق، هؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان
…
" (3)
جحد نصوص الوعد والوعيد:
(1) تفسير القرطبي: 19/6.
(2)
الفصل: 3/179.
(3)
مجموع الفتاوى: 4/314.
يشتمل القرآن الكريم على عدد كبير من نصوص الوعد والوعيد، فالوعد بالجنة والمغفرة والثواب، والوعيد بالنار والغضب والعقاب. ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل لا يخلف وعده تكرما منه عز وجل وتفضلا، فأهل التوحيد مآلهم إلى الجنة قطعا. قال تعالى:{لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . أما الوعيد ففيه تفصيل، فالمشرك الذي يختم له بالشرك في النار، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، وأما المؤمن العاصي ففي مشيئة الله، فقد يقع الوعيد في حقه وقد يتخلف. (1)
وقد مضى سلف الأمة وعلماؤها وصالحوها على الإيمان بنصوص الوعد والوعيد وأنها حق، بما في ذلك الإيمان بالجنة والنار، إلى أن ظهر الفلاسفة فزعموا بأن الوعد والوعيد تخييل للحقائق موجه إلى عوام الناس، وظهر غلاة الصوفية فزعموا أن الجنة عبارة عن تنعم الأرواح، والنار عبارة عن تألمها. ووجد في هذا العصر من ينكر الوعد والوعيد مطلقا، أو يسخر بذلك ويظهر الاستهزاء به، أو من يسلك مسلك الباطنية في تأويل تلك النصوص وصرفها عن معانيها الظاهرة. وكل هذا كفر مناقض للإيمان بما جاء به الرسل، ونزلت به الكتب.
يقول القاضي عياض رحمه الله: "
…
وكذلك من أنكر الجنة أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواترا، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب معنى غير ظاهره وإنها لذات روحانية، ومعان باطنة" (2) .
إنكار معلوم من الدين بالضرورة:
(1) في مسألة إخلاف الوعيد، انظر اضواء البيان: 7/425.
(2)
الشفا: 2/615.
المقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة ما كان متواترا شائعا مستفيضا بين المسلمين، يعلمه الخاص والعام، ويجمع عليه علماء الأمة إجماعا قطعيا، بحيث لا يتصور وقوع الجهل به في دار الإسلام. وهذا شامل لأمور كثيرة سبق ذكرها في هذا الكتاب، مثل بعض أصول التوحيد، ولأمور أخرى لم تذكر آنفا مثل حرمة الخمر والزنا وغير ذلك.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق"(1)
يقول القاضي عياض رحمه الله: " وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا مما حرم الله، بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة الصوفية. وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من فعل الرسول، ووقع الإجماع المتصل عليه،
…
" (2) .
يقول صاحب الجوهرة:
مِن ديننا يُقتل كفرا ليس حَد
ومن لمعلوم ضرورة جحَد
أوِ استباح كالزنا فلتسمع
ومثلُ هذا من نفى لمُجمَع
قال الشارح: " ومن جحد أمرا معلوما من أدلة ديننا يشبه الضرورة بحيث يعرفه خواص المسلمين وعوامهم، وهو ما ثبت بالقرآن الكريم، وكان قطعي الدلالة، أو بالسنة المشهورة المتواترة كذلك، وليس فيه شبهة، أو بإجماع جميع الصحابة المتواتر إجماعا قطعيا، قوليا غير سكوتي كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا، وشرب الخمر، يقتل لأجل كفره لأن جحده مستلزم لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس قتله حدا وكفارة لذنبه
…
" (3)
???
قلت في النظم:
بذا أتى النص بلا نكران
وفي المباني غيرها خلف جرى
وعن كفوره الكتاب يفصح
ترك الصلاة ناقض الإيمان
فهي عماد الدين من غير امترا
كذلك الساحر ليس يفلح
الشرح:
(1) مجموع الفتاوى: 12/496.
(2)
الشفا2/611.
(3)
شرح جوهرة التوحيد للبيجوري: 454.
ذكرت في هذه الأبيات بعض الأمور التي اختلف أهل العلم في التكفير بها، فقلت:(ترك الصلاة ناقض الإيمان) على الصحيح، (بذا) أي: بهذا التكفير (أتى النص) في الكتاب والسنة (بلا نكران) ولا جحود. (فهْي) بتسكين الهاء (عماد الدين من غير امترا) أي دون شك أو ريب، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"(1) ، (وفي المباني غيرِها) أي مباني الإسلام الأخرى غير الشهادتين والصلاة، وهي الزكاة والحج والصيام، (خُلف جرى) أي وقع خلاف عند السلف في التكفير بتركها. (كذلك الساحر ليس يفلح) لقوله تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ، (وعن كفوره الكتاب) أي القرآن (يفصح) في مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} .
فهذه مباحث ثلاثة، اختم بها هذا الفصل:
ترك الصلاة: (2)
لا شك أن الصلاة هي أعظم فرائض الإسلام العملية فقد مدحها الله عز وجل، وأثنى على مقيميها في غير ما آية، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، فبدأ بها قبل غيرها من صفات المؤمنين المفلحين، ثم ختم بها فقال:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} والأدلة على فضل الصلاة من الكتاب والسنة كثيرة جدا.
(1) - الترمذي في الإيمان-باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم: 2612 (ص595) وقال: حسن صحيح، وأحمد في مسند الأنصار برقم:21054.
(2)
انظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي ورسالة الصلاة لابن القيم، وغيرهما.
وقد جاءت النصوص المتظافرة الدالة على كفر تارك الصلاة، فمن ذلك:
قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}
قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .
قوله صلى الله عليه وسلم: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"(1) .
قوله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"(2)
قوله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"(3) .
قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء: " لا تشرك بالله شيئا، وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا، فمن تركها عمدا فقد برئت منه الذمة"(4) .
(1) - مسلم في الإيمان-باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم: 82 (ص61) .
(2)
- الترمذي في الإيمان-باب: ما جاء في ترك الصلاة برقم: 2621 (ص595)، وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي في الصلاة-باب: الحكم في تارك الصلاة برقم: 465 (ص75)، وابن ماجة في إقامة الصلاة والسنة فيها برقم: 1069، وأحمد في باقي مسند الأنصار:21859.
(3)
رواه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم: 6288.
(4)
رواه ابن ماجة في الفتن برقم: 4024، وأحمد في مسند الأنصار برقم:21060.
وهنالك أدلة أخرى كثيرة، تركتُها اختصارا، لذلك فالصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه، أن من ترك الصلاة مطلقا، كسلا وتهاونا (1) ، فهو كافر أكبر مخرجا من الملة. وهذا قول أحمد وإسحاق وجماعة عظيمة من السلف وأهل الحديث. بل نقل إجماع الصحابة على ذلك، فقال التابعي الجليل عبد الله بن شقيق العقيلي:" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"(2) .
قال الشوكاني معلقا على هذا الأثر: " والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة "(3) .
ترك الزكاة أو الصوم أو الحج:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " وذهب طائفة منهم (أي: من أهل الحديث) إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك، وروي ذلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكم، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية "(4) .
أقول: ذكروا لهذا المذهب – أعني تكفير تارك الزكاة أو الحج أو الصيام – أدلة من نصوص الكتاب والسنة، لكنها تدور بين الصحيح غير الصريح، والصريح غير الصحيح، وقولِ من ليس قوله حجة. لذلك فالصحيح – وهو مذهب الجمهور – أن ترك واحد من هذه المباني الثلاثة – من غير جحود ولا استحلال – ليس كفرا، وإن كان ذلك من أعظم الكبائر، والله أعلم.
السحر:
اختلف أهل العلم في تعريف السحر، نظرا لخفائه ودقه معناه، قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:"اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعا لها مانعا لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا"(5) .
(1) أما من تركها جدودا أو استكبارا فهوكافر إجماعا.
(2)
- رواه الترمذي في الإيمان-باب ما جاء في ترك الصلاة برقم: 2622 (ص596) .
(3)
نيل الأوطار: 1/363.
(4)
- جامع العلوم والحكم: 147.
(5)
أضواء البيان: 4/41.
أقول: ونظرا لهذا الاختلاف في التعريف، فقد وقع الاختلاف في كونه كفرا أولا، مع اتفاقهم على تحريمه، فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى كفر من يتعلم السحر ويستعمله، فيما فصَّل الشافعي فقال:"إذا تعلم السحر قلنا له صِفْ سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر بمثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر"(1) .
قال الشنقيطي رحمه الله: "التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل ـ فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله، كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة فإنه كفر بلا نزاع، كما دل عليه قوله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ، (
…
) وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر" (2) .
أقول: بهذا التفصيل تلتئم الأدلة، وتجتمع الأقوال، والله أعلم.
الخاتمة:
إلى هنا قد انتهى المقصود
والله ربنا هو المحمود
نشكره على جليل نعمه
ونستزيد من عظيم كرمه
ثم الصلاة والسلام سرمدا
على النبي والآل أنجم الهدى
وهذه المنظومة اللطيفة
قد شملت مباحثا منيفة
سميتها قلائد العقيان
لنظمها مسائل الإيمان
أعددتها ذخرا ليوم الازدحام
أرختها فافهم بنور في الختام.
وفي اختتام النظم بهذا الشطر ثلاث فوائد مقصودة بالذات:
أولها تأريخ النظم بحساب الجُمل - على واحدة من الطريقتين المعروفتين - إذ مجموع حروف " بنور في الختام" بهذا الحساب هو 1420 وهي سنة نظم هذا المتن.
(1) نقله ابن هبيرة في الافصاح: 2/226.
(2)
أضواء البيان: 4/50.
وثانيها ما نص عليه أهل البديع من أن خير الختم ما كان بلفظ يؤذن بالختام، وأبلغُه لفظ الختم والتمام والكمال. ونظمه السيوطي بقوله:
وإن يجئ في الانتهاء مؤذن
…
...
…
بختمه فهو البليغ الأحسن.
وثالثتها التفاؤل بهذه الكلمات في أن تكون خاتمتنا تضيئها أنوار شهادة التوحيد، بعيدة عن ديجور أهل الشرك والباطل. نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا، آمين.
وبعدُ، فهذا الذي دبجه يراعي في هذه الأوراق هو مبلغ علمي، وغاية جهدي، وهو ما سمح به الوقت، وأسعفت به الهمة، في هذا الموضوع الشائك والخطير، جمَعتُ مادته من كتب متعددة، ومشافهات مع جماعة من أهل العلم من مشايخي وأهل الفضل علي.
وقد راعيت فيه الاختصار الشديد، مع الإحاطة بكل جوانب الموضوع، ولم شمله. أما الاختصار، فلأنني لو بسطت الكلام في هذه المباحث المعروضة لجاء الكتاب في عدة مجلدات، مع أن المقصود إنما هو تقديم متن مختصر مشروح ومُعَد للحفظ والتدريس. وأما الإحاطة فلأن هذه المنظومة تشتمل على كل المباحث النافعة في موضوع الإيمان، ولا تغفل شيئا مما يحتاج إليه المسلم في هذا الباب، بل إن فيها إشارات مفيدة في كافة أبواب العقيدة، بحيث يمكن أن تُدَرس العقيدة كلها من خلال هذه المنظومة، إذا راعى المدرِّس التفصيل اللازم في مواضع التفصيل، والإجمال في مواضع الإجمال.
على أنني كلما قلبت النظر في هذه الأوراق، رأيت فيها مواضع كثيرة تحتاج إلى تفصيل أكبر، وتمحيص أدق. فأقول مثلما قال القاضي الفاضل:
".. إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر، فأرجو مسامحة ناظريه فهم أهلوها، وأؤمل جميلهم فهم أحسن الناس وجوها
…
" (1) .
فاللهم يا ذا الغنى المطلق، والعدل المحقق، تدارك أمة نبيك محمد بألطافك السنية، وأفضالك العلية، وآلائك البهية. وأجعلنا من المخلصين المخبتين، المعترفين بالعجز والتقصير، المنيبين إلى رب العالمين.
فلا تخزه بالرد، إن الجفا مر
تؤملها النفس التي نالها الفقر
ثقلت بأوزاري، وحاق بي العسر
عسى أن يكون الترب من تحته التبر (1)
فيا رب، راجي العفو بالباب سائل
وأكرمه إن الجود منك عطية
وتب يا عظيم الجود والفضل إنني
ويا بارئي، لا تجزني بالذي مضى
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
أبو محمد المراكشي
الرباط في شهر صفر الخير من سنة 1421 للهجرة.
لائحة المراجع:
إتحاف السادة المتقين للزبيدي - دار الفكر.
أحكام أهل الذمة لابن القيم - ت: صبحي الصالح - دار العلم للملايين - ط:3 - 1413هـ.
إرشاد الفحول للشوكاني - ت: أبي مصعب البدري - مؤسسة الكتب الثقافية - ط:6 - 1415هـ.
أضواء البيان للشنقيطي - دار الفكر - 1415هـ.
اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم - دار الحديث - القاهرة.
اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية - ت: محمد حامد الفقي - دار الكتب العلمية - بيروت.
الإحكام لابن حزم - دار الحديث القاهرة - ط:1 - 1404هـ.
الآداب الشرعية لابن مفلح المقدسي - ت: شعيب الأرناؤوط وعمر القيام - مؤسسة الرسالة - 1417هـ.
الأشباه والنظائر للسيوطي - ت: خالد عبد الفتاح شبل أبو سليمان - مؤسسة الكتب الثقافية - ط:1 - 1415هـ.
الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة - المؤسسة السعيدية - ارياض.
الإيمان لابن تيمية - ت: الألباني - المكتب الإسلامي - ط: 4 - 1413هـ.
الاعتصام للشاطبي - بعناية: رشيد رضا - المكتبة التجارية - مصر.
البداية والنهاية لابن كثير - توثيق: عبد الرحمن اللاذقي ومحمد بيضون - دار المعرفة بيروت - ط:4 - 1419هـ.
التبيان في أقسام القرآن لابن القيم - دار الفكر.
(1) - هذه الأبيات من قصيدة لي بعنوان: "توبة".
التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية لفالح بن مهدي آل مهدي – ت: عبد الرحمن بن صالح المحمود – دار الوطن – ط:1 – 1414هـ.
التمهيد للحافظ ابن عبد البر – نشر وزارة الأوقاف المغربية – 1404هـ.
التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي الشافعي – ت: زاهد الكوثري – مكتبة المثنى ببغداد ومكتبة المعارف ببيروت – 1388هـ.
الجامع في طلب العلم الشريف لعبد القادر بن عبد العزيز – ط:2 – ذو الحجة 1415هـ.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية – مطبعة المدني – القاهرة.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية – مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة السعودية – ط:2 – 1385هـ.
الروض الأنف للإمام أبي القاسم السهيلي – ت: مجدي بن منصور بن سيد الشورى – دار الكتب العلمية – ط1 – 1418هـ.
السنة لأبي بكر الخلال- ت: عطية الزهراني- دار الراية للنشر والتوزيع – ط:2 – 1415هـ.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض
الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية – ت: محيي الدين عبد الحميد – عالم الكتب – 1403 هـ.
الصحاح لأبي نصر إسماعيل الجوهري – ت: أحمد عبد الغفور.
الصلاة وحكم تاركها لابن القيم – ت: بسام الجابي – دار ابن حزم – ط:1 – 1416هـ.
الفتاوى الكبرى لابن تيمية – ت: عبد القادر عطا (محمد ومصطفى) – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1408هـ.
الفروق للقرافي – عالم الكتب – بيروت.
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1416 هـ.
القاموس المحيط للفيروزآبادي – ت: يوسف البقاعي – دار الفكر – 1415هـ.
القواعد الحسان للسعدي – مكتبة المعارف الرياض – 1400هـ.
القول المفيد شرح كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين – دار العاصمة – ط:1 – 1415هـ.
الكشاف لأبي القاسم جار الله الزمخشري – تصحيح: محمد عبد السلام شاهين – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1415هـ.
المحلى بالآثار لابن حزم – ت: عبد الغفار البنداري – دار الفكر.
المستصفى لأبي حامد الغزالي – ت: الأشقر.
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني – ت: محمد خليل عيتاني – دار المعرفة بيروت – ط:1 – 1418هـ.
الملل والنحل للشهرستاني – ت: أحمد فهمي محمد – دار الكتب العلمية – ط:2 – 1413هـ.
المنتخب من أدب العرب لجماعة من المؤلفين – المطبعة الأميرية بالقاهرة – 1950م.
المواقف في علم الكلام للعضد الإيجي – مكتبة المتنبي – القاهرة.
بدائع الفوائد لابن القيم – دار الفكر.
تاج العروس
تعظيم قدر الصلاة للمروزي – ت: عبد الرحمن الفريوائي – مكتبة الدار المدينة المنورة - ط:1 – 1406هـ.
تفسير ابن كثير – تصحيح: خليل الميس – دار القلم – ط:2.
تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن) – دار الكتب العلمية – ط: 2 – 1418هـ.
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) – دار الكتب العلمية – 1413هـ.
تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر – ت: عبد القادر عطا – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1415هـ.
تهذيب السنن لابن القيم (مع عون المعبود للعظيم أبادي) – إشراف: صدقي جميل العطار – دار الفكر – 1415هـ
توضيح الكافية الشافية للسعدي – المطبعة السلفية – القاهرة – 1368 هـ.
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – المكتب الإسلامي – ط:8 – 1409هـ.
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي – ت: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس – مؤسسة الرسالة – ط:2 – 1412هـ.
جزء فيه عقيدة ابن عربي وحياته للشيخ تقي الدين الفاسي – ت: علي حسن عبد الحميد – دار ابن الجوزي – ط:2 – 1413هـ.
جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد لمحمد بن سليمان الروداني – ت: سليمان بن دريع – مكتبة ابن كثير/دار ابن حزم – 1418هـ.
جواهر البلاغة للسيد أحمد الهاشمي – دار الفكر – 1414هـ.
حاشية البناني على شرح المحلي لجمع الجوامع – دار الفكر – 1415هـ.
حاشية الطالب بن حمدون بن الحاج على شرح ميارة على متن المرشد المعين – دار الرشاد الحديثة – 1412هـ.
حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1420هـ.
حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان لمحمد أبو رحيم – دار الجوهري – ط:2 – 1419هـ.
حلية اللب المصون للدمنهوري على متن الجوهر المكنون للأخضري (مع حاشية مخلوف المنياوي) – دار الفكر.
درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية – ت: محمد رشاد سالم – دار الكنوز العربية الرياض – 1391هـ.
ديوان المتنبي (بشرح البرقوقي) – دار الكتاب العربي بيروت – 1407هـ.
رسالة في الرد على القائلين بوحدة الوجود لعلي بن سلطان القاري – ت: علي رضا – دار المأمون للتراث – ط:1 – 1415هـ.
روح المعاني للألوسي – دار الفكر – 1408هـ.
زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر – مكتبة دار القلم والكتاب – ط1 – 1416هـ.
سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني – مكتبة المعارف الرياض – 1415هـ.
سنن أبي داود – ت: سعيد محمد اللحام – دار الفكر – ط:1 – 1410هـ.
سنن الترمذي – بإشراف: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – دار الفيحاء/دار السلام – ط:1 – 1420هـ.
سنن النسائي (المجتبى) – دار ابن حزم – ط:1 – 1420هـ.
سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي – ت: جماعة بإشراف شعيب الأرناؤوط – مؤسسة الرسالة – ط11- 1419هـ.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي – ت: الغامدي
شرح السنة للبغوي
شرح العقيدة الأصبهانية لابن تيمية – ت: حسنين محمد مخلوف – دار الكتب الحديثة – القاهرة.
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي – ت: الألباني – المكتب الإسلامي – ط: 9 – 1408هـ.
شرح العلامة حسن درويش القويسني على متن السلم في المنطق لعبد الرحمن الأخضري – دار النشر غير مذكورة.
شرح القصيدة النونية لابن القيم – شرح: محمد خليل هراس – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1406هـ.
شرح المعلقات السبع للقاضي الزوزني – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1405 هـ.
شرح جوهرة التوحيد للبيجوري – ت: أديب الكيلاني وعبد الكريم تتان – تقديم: عبد الكريم الرفاعي.
شرح صحيح مسلم للإمام النووي – دار الفكر – 1419هـ.
شرح عقود الجمان في البديع والمعاني والبيان للإمام السيوطي – دار الفكر.
شرح كشف الشبهات (ومعه شرح الأصول الستة) للعثيمين – إعداد: فهد بن ناصر السليمان – دار الثريا للنشر – ط:3 – 1418هـ.
شروح التلخيص في البلاغة – دار السرور – لبنان.
شعب الإيمان للبيهقي – ت: محمد بن بسيوني زغلول – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1410 هـ.
صحيح البخاري – بيت الأفكار الدولية – 1419هـ.
صحيح الكلم الطيب لابن تيمية – للألباني – المكتب الإسلامي – ط:2 – 1394هـ.
صحيح مسلم – اعتنى به: أبو صهيب الكرمي - بيت الأفكار الدولية – 1419هـ.
ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة – لعبد الله بن محمد القرني – مؤسسة الرسالة – ط:1 – 1413هـ.
ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني – دار القلم دمشق – ط4 – 1414هـ.
طرح التثريب شرح التقريب للعراقي – دار إحياء التراث العربي بيروت.
طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم – ت: عمر محمود أبو عمر – دار ابن القيم – ط:2 – 1414هـ.
ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي – من مطبوعات جامعة أم القرى.
فتاوى السبكي – دار المعرفة بيروت.
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1410هـ.
قواعد في التكفير لعبد المنعم مصطفى حليمة – دار البشير – ط:1 – 1415هـ.
لسان العرب لابن منظور – دار صادر بيروت – ط: 6 – 1417هـ.
لسان الميزان لابن حجر – ت: محمد عبد الرحمن المرعشلي – دار إحياء التراث العربي مؤسسة التاريخ العربي – ط:1 – 1416هـ.
مجموع الفتاوى لابن تيمية – جمع: هبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي.
مجموعة التوحيد – دار الكتاب الإسلامي – المدينة المنورة.
مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم – ت: رضوان جامع رضوان – دار الفكر – 1417هـ.
مدارج السالكين – ت: محمد حامد الفقي – دار الكتاب العربي – ط: 2 – 1393هـ.
مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لادريس محمد إدريس – مكتبة الرشد (شركة الرياض) – ط:1 – 1419هـ.
معارج القبول شرح سلم الوصول لحافظ حكمي – ت: عمر محمود أبو عمر – دار ابن القيم – ط:3 – 1415هـ.
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري – ت: محيي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية بيروت – 1411هـ.
مفاتيح الغيب (تفسير الفخر الرازي) – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1411هـ.
منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى.
موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن بن صالح المحمود – مكتبة الرشد الرياض – ط:2 – 1416هـ.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي – ت: علي محمد البجاوي – دار المعرفة – ط:1 – 1382 هـ.
نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي – ط: اللجنة المشتركة بين المملكة المغربية ودولة الإمارات المتحدة.
نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف – دار الوطن – ط:2 – 1415هـ.
نيل الأوطار للإمام الشوكاني – ت: عصام الدين الصبابطي – دار الحديث القاهرة – ط:1 – 1413هـ.