المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه - شرح منظومة الإيمان

[عصام البشير المراكشي]

الفصل: ‌الباب الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

وهنالك جوابٌ آخر ذكره صاحب " ظاهرة الإرجاء "(1) - نفع الله به -، وهو أن أعمالَ الجوارح في الأصل ليست من الإيمان، بل الإيمانُ أصلُه ما في قلبه، والأعمال لازمة له، لا تنفك عنه. ثم أدخلها الشارع فيه، فأصبح اسمُ الإيمان شاملا لها على الحقيقة شَرْعًا فكثُر في كلامه عطفُها عليه توكيدا لذلك، لكيلا يظنَّ ظان أن الإيمانَ المطلوب هو ما في القلب فقط، بل يعلم أن لازمَه - وهو العملُ - ضروريٌّ كضرورَتِه.

الدليل الخامس: أن نصوصَ الكتاب وأصولَ الشرعِ قد دلَّت على أن الإيمان لا ينتفي عن الذي يترك بعضَ الأعمال، وهذا يدُلُّ - بزعمهم - على أن الأعمال ليست جزءا من مسمى الإيمان أو ركنا فيه، إذ الشيءُ يرتفعُ بارتفاعِ رُكنه، كما هو معلوم. والحقُّ أن هذا الدليل إنما يجاب به عن بدعة الخوارج والمعتزلة، لا على مذهب أهل السنة القائلين بأن جنس العمل ركن في الإيمان، بخلاف آحاده فإن فيها التفصيلَ السابقَ ذكره. فتأمَّلْه هداك الله تعالى للحق بإذنه.

‌الباب الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

الفصل الأول: أدلة الزيادة والنقصان

قلت في النظم:

وعند أهل السنة الإيمان

يدخله المزيد والنقصان

دل على الزيد الكتاب والسنن

والنقص لازم لذاك فأفهمن

الشرح:

(1) - ظاهرة الإرجاء: 2/766.

ص: 65

(وعند أهل السنة) والجماعة، أهلِ الحق وحُماتِه، فـ (الإيمان) أي مسماه الشرعي (يدخله المزيد) وهو الزيادة، قال في القاموس (1) : الزيد، بالفتح والكسر والتحريك، والزيادة والمزيد والزيدان: بمعنىً، والأخيرُ شاذ. اهـ (والنقصان) مصدر نقَص ينقُص، نَقْصا ونُقْصانا. ولما ذكرتُ الحقَّ في هذه المسألة، أردفتُه ببيان دليله فقلت:(دل على الزيد) وهو مصدر زاد يزيد كما سبق نقله من القاموس (الكتاب) أي بعض آياته التي سيأتي ذكرها (والسنن) النبوية الواضحة، وسأذكرُ بعضا منها إن شاء الله تعالى. (و) أما (النقص) في الإيمان فهو (لازم لذاك) أي للزيادة، والمعنى أن قبول الإيمان للزيادة يستلزم قبوله للنقصان. (فافهَمنْ) تكملة للبيت.

تعتبر مسألة زيادة الإيمان ونقصانه من أهم وأكبر مباحث الإيمان، وذلك لكثرة ما وقع من التنازع بين المنتسبين للقبلة حولها، ولشدة تعلقها بقضايا الإيمان الأخرى مثل حقيقة الإيمان الشرعي، وحقيقة الكفر وضوابط التكفير، وحكم الاستثناء في الإيمان، وغير ذلك.

ولا يخفى على المتأمل الفطن أن هذه المواضيعَ المتشابكةَ من أهم مواضيع العقيدة ومباحث الدين، لما يترتب عليها من الأحكام الشرعية في الدنيا والآخرة، تتعلق سعادةُ العبد وشقاوتُه في الدارين بها، ويتوقف عزُّ الأمة أو هوانها على طبيعة الفهم السائد لها. فإذا وُجد الفهم الصحيح، الذي ينتج عنه الاعتقاد النافع والعمل الصالح، كان ذلك عنوانَ نهضة الأمة ورفعتها، وأما إذا سادت الفُهومُ الفاسدة، والآراء الكاسدة - كما هو الحال الغالب على الأمة مند فترة - فإن النتيجةَ الحتمية تكون اعتقادا باطلا، وعملا عشوائيا عقيما.

(1) - القاموس المحيط: 259.

ص: 66

وقبل الشروع في إبراز أدلة زيادة الإيمان ونقصانه، نُقرِّر التلازمَ المذكور في البيت الثاني، فنقول: إنَّ كلَّ دليلٍ دل على زيادة الإيمان فإنه يدل أيضا على نقصانه، وكذلك العكس، وذلك لأن الزيادةَ تستلزم النقصَ. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لباب زيادة الإيمان ونقصانه من صحيح البخاري:» ثم شرع المصنف - يقصد الإمام البخاري - يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحةٍ بالزيادة، وبثبوتِها يَثبُتُ المُقابل، فإنَّ كل قابل للزيادة قابلٌ للنقصان ضرورةً « (1) . ولما أورد البخاري قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، قال:» فإذا تَرك شيئا من الكمال فهو ناقص « (2) . قال الحافظ في الشرح:»

وأما الكمال فليس نصا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله للزيادة « (3) . وقال الإمام أحمد:» إنْ كان قبلَ زيادته - أي الإيمان - تاما فكيف يزيد التام فكما يزيد كذا ينقص « (4) .

وقال ابن حزم:» فإذ قد وضح وجودُ الزيادة في الإيمان (..) فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورةً ولابُدَّ، لأن معنى الزيادة إنما هي عدد مضاف إلى عدد، وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقصٌ عند عدم الزيادة فيه.. « (5) . وقال البيهقي:» فثبت بهذه الآيات - يقصد الآيات المصرحة بزيادة الإيمان - أن الإيمانَ قابلٌ للزيادة، وإذا كان قابلا للزيادة فعُدِمت الزيادة كان عدمُها نُقصانا « (6) .

إذا تقرَّر هذا التلازُمُ، فاعلم بأن الأدلة على زيادة الإيمان كثيرة جدا، سوف أكتفي فيما يلي بذكر أشهرها وأصرحها.

من القرآن:

(1) - فتح الباري: 1/47.

(2)

- صحيح البخاري (مع الفتح) : 1/103.

(3)

- فتح الباري: 1/104.

(4)

- السنة للخلال: 1030.

(5)

- الفصل: 2/218.

(6)

- شعب الإيمان:1/60.

ص: 67

ورد في القرآن الكريم آيات ستة صريحة الدلالة على زيادة الإيمان، وهي قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، وقوله:{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، وقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، وقوله:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} ، وقوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، وقوله:{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} .

ص: 68

وقد أورد البخاري رحمه الله هذه الآيات في الباب الذي عقده في صحيحه، وخصصه لزيادة الإيمان ونقصانه. ومازال علماء الإسلام يستدلون بها، كما نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره لآية سورة الأنعام السابقة، فقال:» .. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضُله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمدَ بن حنبل وأبي عبيد «. وقال أيضا عند آية سورة التوبة:» وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء «.

وقال شيخ الإسلام:» والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَاَ} (1) «. ثم فصل رحمه الله أوجه هذه الزيادة من خلال الآيات القرآنية المذكورة.

وقد عقد اللالكائي بابا في سياق ما جاء في القرآن والسنة من أدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، أورد فيه هذه الآيات إلى جانب أدلة أخرى (2) . وقال العلامة الألوسي عند قوله تعالى {زَادَتْهُمْ إِيمَانًَاَ} :» وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول (3) ، لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة، من غير مُعارِضٍ لها عقلا.. « (4) .

(1) - الإيمان: 215.

(2)

- اللالكائي: 3/18.

(3)

- مخالفا بذلك مذهب إمامه أبي حنيفة رحمه الله، وقد صرح بالمخالفة في تفسيره: 9/167.

(4)

- روح المعاني: 9/165.

ص: 69

ومن أظهر الآيات الدالة على زيادة الإيمان، الآيات المصرحة بزيادة الهدى مثل قوله تعالى:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} أو زيادة الخشوع مثل قوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} إذ الهدى والخشوع من الإيمان.

ومنها الآيات الدالة على تفاضل المؤمنين، وذلك لا يكون إلا بسبب تفاضلِهم في الإيمان، وهذا يستلزمُ الزيادة والنقصان، إذ التفاضل بينهم ما حصل إلا لكون إيمانهم يزيد وينقص.

ومنها قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، وقد سبق أن نقلت استدلال الإمام البخاري بها، وكلام الحافظ في شرحه.

ومنها قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . وهي من أدلة البخاري في صحيحه. قال الحافظ:» أشار - أي البخاري - إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: يزيد يقيني، وقال مجاهد لأزداد إيمانا إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه السلام مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمر باتباع ملته، كأنه ثبت عن نبينا كذلك «.

من السنة:

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على زيادة الإيمان ونقصانه، سوف أجتزئ بذكر بعضها مع بيان وجه الدلالة فيها.

ص: 70

- منها حديث أبي هريرة مرفوعا:» لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن « (1) . دل هذا الحديث على أن مرتكب المعاصي لا يفعلها وهو كامل الإيمان، أي أن مرتكبي الكبائر – غير الشرك- لا يكفرون بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان. وهذا ظاهر في الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه، ولهذا بوب عليه أبو داود في سننه:» باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه «.

- ومنها حديثُ شعب الإيمان، وهو في الصحيح، وقد أخرجه الترمذي في باب» ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه «من السنن. ووجه الدلالة فيه أن الناس متفاوتون في أداء هذه الشعب التي يتكون منها الإيمان تفاوتا كبيرا، يؤدي إلى تفاضل أهل الإيمان. وهذا يدل على الزيادة والنقصان.

- ومنها حديث أنس بن مالك مرفوعا:» يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعير من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير « (2) . وقد احتج البخاري بهذا الحديث في باب زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الإيمان (3) ، وذلك لدلالته على أن أهل» لا إله إلا الله «- أي من معهم أصل الإيمان- متفاوتون في إيمانهم، حتى وجد منهم من لا يزيد إيمانه على أصل التوحيد إلا بمقدار قليل جدا.

(1) - رواه البخاري في كتاب المظالم-باب النهبى بغير إذن صاحبه، برقم: 2475 (ص467) ومسلم في الإيمان برقم:57 (ص55) .

(2)

ا- رواه البخاري في الإيمان برقم: 44 (ص32)، ومسلم في الإيمان برقم: 192 (ص108) .

(3)

-البخاري (مع الفتح) : 1/103.

ص: 71

- ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا:» أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا « (1) وهو صريح في أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بحسن الخلق وينقص بنقصه. لذلك قال ابن عبد البر:» ومعلوم أنه لا يكون هذا أكمل، حتى يكون غيرُه أنقص « (2) .

- وهنالك أحاديث أخرى متعددة في هذا المعنى، مثل حديث أبي أمامة الباهلي مرفوعا:» من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان « (3) ، ومثل حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا:» من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان « (4) ، وغيرها.

من الإجماع وأقوال السلف:

سبق أن نقلتُ في الفصل الأول قولَ الإمام البخاري:» لقيت أكثر من ألف رجل من علماء الأمصار فما رأيت أحدا يختلف في أن الإيمانَ قول وعمل، ويزيد وينقص « (5) . وقال الإمام عبد الرزاق الصنعاني:» لقيتُ اثنين وستين شيخا () كلهم يقولون: " الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"« (6) . وقال يحيى بن سعيد القطان:» كل من أدركت من الأئمة كانوا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.. « (7) . وقال ابن عبد البر:» أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية « (8) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص « (9) .

(1) -رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: 284.

(2)

-التمهيد: 9/245.

(3)

-رواه أبو داود وغيره وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: 380.

(4)

-رواه مسلم في الإيمان برقم: 49 (ص51) .

(5)

-ذكره الحافظ في الفتح: 1/47.

(6)

-اللالكائي: 5/1029.

(7)

-سير أعلام النبلاء: 9/179.

(8)

-التمهيد: 9/238.

(9)

-مجموع الفتاوى: 7/672.

ص: 72

وبالجملة، فإن المُتتبِّعَ للآثار عن السلف رضوان الله عليهم، يجزِم بأن هذه العقيدة كانتْ مستقرةً عندهم، لا يدور حولها خلاف. فمن أراد السلامة في دينه ودنياه، فلينهَجْ سبيلَهم، ولينسُجْ على مِنْوالهم، وأما من تَنكَّبَ عن طريقهم، وربأَ بفهمه عن فهومهم فلا يلومَنَّ إلا نفسه والله تعالى أعلم.

الفصل الثاني: أوجه الزيادة والنقصان.

قلت في النظم:

تفاضل الإيمان ذو أسباب

قد ظهرت لدى أولي الألباب

من بينها تفاضل التصديق

وذاك ظاهر لدى التحقيق

ومنه ما يكون بالأعمال

بين مقصر وذي كمال

الشرح:

(تفاضل الإيمان) زيادة ونقصا (ذو أسباب) كثيرةٍ سيأتي ذكرُ بعضِها (قد ظهرت لدى أولي الألباب) من أهل العلم، (مِن بينِها) أي مِن بينِ أوجُه تفاضلِ الإيمان (تفاضل التصديق) أي حصول الزيادة والنقص في نفس قول القلب، وهذا أمر ممكن وحاصل خلافا لمن أنكره، لذلك قلت:(وذلك) التفاضل (ظاهر) لكثرة أدلته العقلية والنقلية (لدى التحقيق) في هذه المسألة بعيدا عن التعصب والجُمود. (ومنه) أي: أن من التفاضل (ما يكون بـ) سببِ (الأعمال) الظاهرة، ما (بين مُقَصِّرٍ) في الإتيان بهذه الأعمال، فإيمانه ناقص تبعا لتقصيره، وبين آخرَ (ذي كمال) في التزامِه العملي بالشريعة، أي في إتيانه بالطاعات واجتنابه للمعاصي، فإيمانه زائد تبعا لأعماله الصالحة.

واعلم بأن هذه الوجه الثاني، هو أشهر أوجه زيادة الإيمان ونقصانه، حتى إن بعض أهل العلم قد يقتصر عليه فلا يُعَرِّج على غيره. كما أن الوجه الأول فيه من الخفاء ما جعل العلماء يختلفون حوله فينكره بعضهم. ولأجل هذا ذكرت هذين الوجهين في النظم ولم أذكر غيرهما، مع أن أوجه زيادة الإيمان ونقصانه أكثر من ذلك، فقد حصرها شيخ الإسلام ابن تيمية في تسعة أوجه (1) :

الوجه الأول:

(1) - انظر مجموع الفتاوى: 7/232-237 و 7/562-574 وكتاب ''زيادة الإيمان ونقصانه: 136 وما بعدها.

ص: 73

الإجمال والتفصيل فيما أُمر به عبادُ الله المؤمنون، فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، فإنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، كما أن مَن عرف القرآن والسنن ومعانيَها، لزمه من الإيمان المفَصل بذلك ما لا يلزم غيره، ولو آمن رجل بالله وبالرسول ظاهرا وباطنا، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين، مات مؤمنا بما وجب عليه من الإيمان وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها، بل إيمان هذا الأخير أكمل وجوبا ووقوعا.

الوجه الثاني:

الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، رغم تساويهم فيما وجب عليهم من الإيمان. فها هنا مراتب ثلاث، كلٌّ منها أكملُ من التي بعدها:

مَن طلب علم ما وجب عليه فتعلمه وعمل به.

من عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به لكنه لم يعمل به وهو مع ذلك خائف من عقوبة ربه، معترفٌ بذنبه.

من لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب بل هو في غفلة مع إقراره بالنبوة باطنا وظاهرا.

فهذه مراتب ثلاثة اشترك أصحابها في الوجوب، وتفاوتوا في الوقوع.

الوجه الثالث:

أن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبتُ وأبعدُ من الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، فيجد أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه، كما يقع التفاضلُ في أمور الحواس الظاهرة، فإن رؤية الناس للهلال مثلا، وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتمَّ من بعض، ونفس الشيء في السماع والشم والذوق فكذلك علم القلب وتصديقه يتفاضل، بسبب التفاضل في المعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه.

ص: 74

وهذا التفاضل في التصديق هو الذي استقرَّ عليه قولُ عامة المحققين من أهل العلم. يقول الإمام النووي- كما نقله عنه الحافظ ابن حجر-:» والناس يتفاضلون في تصديق القلب على قدر علمهم ومعاينتهم، فمن زيادته بالعلم قوله تعالى {زَادَتْهُمْ إِيمَانًَاَ} ومن المعاينة قوله تعالى:{لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} . فجعل له مزية على علم اليقين «. ثم قال الحافظ:» ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكلا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها « (1) .

وقال ابن رجب الحنبلي:» وهذا مبنيٌّ على أن التصديق القائم بالقلوب متفاضل، وهذا هو الصحيح (..) فإن إيمان الصديقين الذي يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شُكِّكَ لدَخَلَه الشكُّ « (2) .

وقال شيخ الإسلام:» إن التصديق نفسه يتفاضل كُنهه، فليس ما أثنى عليه البرهان بل تشهد له الأعيان، وأميط عنه كل أذى وحسبان، حتى بلغ درجات الإيقان، كتصديقٍ زعزعته الشبهات وصدفته الشهوات، ولعب به التقليد، ويضعف لشُبَهِ المعاند العنيد، وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد « (3) .

ويذكر الإمام الرازي أن زيادة التصديق تكون على وجوه ثلاثة (4) :

(1) - فتح الباري: 1/46.

(2)

- جامع العلوم والحكم: 113-114.

(3)

- مجموع الفتاوى: 6/480.

(4)

- مفاتيح الغيب: 15/96.

ص: 75

الأول: بحسَبِ كثرة الدلائل وقوَّتها، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين قال الرازي:» وهو الذي عليه عامَّة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله «. ثم أورد على هذا الوجه اعتراضا عقليا ورده، ولكنْ على عادته المعروفة من تفصيل الإيرادات والشبه، والتقصير في الجواب عنها. ولا يخفى على المتأمل في الإيراد العقلي الذي ذكره، ضعفُ تركيبه وهلهلة نسجه، ولكن ليس هذا محل بسط ذلك.

الثاني: بتوالي التكاليف، فكلما حدث تكليف جديد ازداد التصديق والإقرار، لأن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد.

الثالث: بالاطلاع المتعاقب على آثار حكمة الله في مخلوقاته، وهذا بحرٌ لا ساحل له.

الوجه الرابع:

أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكملُ من التصديق الذي لا يستلزم عمله، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فمَن آمن وصدق بأن الله حق ورسولَه حق، والجنة حق والنار حق، وأوجب له هذا التصديق محبة الله وخشيته كان إيمانه أكمل من الذي لم يوجب له إيمانه ذلك.

الوجه الخامس:

أن أعمال القلوب كالمحبة والخشية والخشوع والتوكل والخوف والرجاء كلها من الإيمان كما سبق بيانه، وهذه الأعمال يتفاضل فيها الناس تفاضلا عظيما كما هو ظاهر بدلالة الشرع والعقل.

ويكفي هنا ذكر التفاضل في المحبة الذي دل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ، لذلك قال شيخ الإسلام:» فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم (..) وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة « (1) .

الوجه السادس:

(1) - مجموع الفتاوى: 7/563.

ص: 76

أن الأعمال الظاهرة أيضا من الإيمان، ويتفاضل الناس فيها وتزيد وتنقص، وهذا شامل لأعمال اللسان والجوارح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه وإن كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع. والذي عليه أهل السنة والحديث أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص « (1) .

الوجه السابع:

أن ذكر الإنسان بقلبه ما أمره الله به واستحضاره لذلك، وثباته عليه أكمل ممن صدق بالمأمور به ولكنه غفل عنه. لذلك قال عمير بن حبيب الخطمي الصحابي:» إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه « (2) . وقد قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . وكلما تذكر الإنسان ما عرفه قبل ذلك، وعمل به، حصل له معرفة شيء آخر لم يكن عرفه قبل ذلك. وفي الحديث الصحيح:» مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت « (3) .

الوجه الثامن:

أن الإنسان قد يكون مكذبا أو منكرا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها، وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر. فإذا ظهر له بوجه من الوجوه أن هذه الأمور من الإيمان، فإنه يصدق بما كان مكذبا به، ويعرف ما كان منكرا له فهذه زيادة في الإيمان. ومن هذا الباب من ابتدع في دين الله عز وجل قولا خطأ وهو مؤمن بالرسول وقاصد للاتباع لا الابتداع، ثم تبين له خطؤه فترك ما كان عليه ورجع إلى الصواب.

الوجه التاسع:

(1) - مجموع الفتاوى: 6/479.

(2)

- رواه أحمد وغيره، وقال ابن القيم في تهذيب السنن: 12/350: "وأقدمُ من رُوي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة: عمير بن حبيب الخطمي

".

(3)

- رواه البخاري في الدعوات-باب فضل ذكر الله عز وجل برقم: 6407 (ص1230) ، واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، برقم: 779 (ص307) .

ص: 77

أن التفاضل يحصل في هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستند تصديقه ومحبته أدلةً توجب اليقين وتبين فساد الشبه العارضة، لم يكن بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك. فإنه من الظاهر أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك وبطلانها ليس كالعلم المستند على دليل واحد من غير معرفة بالشبه المعارضة له وفسادها.

فهذا مجمل الوجوه التي يحصل بها زيادة الإيمان ونقصانه، كما ذكرها شيخ الإسلام مفصلة. والله أعلم.

الفصل الثالث: أقوال المخالفين.

قلت في النظم:

وخالف الأحناف في التفاضل

وقولهم عار عن الدلائل

ومثلهم أتباع جهم ذي البدع

كذا الخوارج ومن لهم تبع

الشرح:

(وخالف الأحناف) أتباع الإمام الجليلِ أبي حنيفةَ النعمانِ بنِ ثابت رحمه الله، أهل السنة والجماعة (في) مسألة (التفاضل) الحاصل في الإيمان بالزيادة والنقصان، فنفوا ذلك كما سيأتي بحول الله تعالى، (و) لكن لا عبرة بخلافهم، إذ (قولهم) هذا (عارٍ عن الدلائل) الشرعية الصحيحة والصريحة.

(ومثلهم) في هذا القول (أتباعُ جهم) وهو الجهم بن صفوان رأس البدعة وإمام أهل الزندقة والإلحاد، (ذي البدع) صفة للجهم، فإن له في كل باب من أبواب العقائد قولا مبتدعا تفرد به وتبعه عليه أهل الإلحاد، فهو في الإيمان مرجئي وفي القدر جبري وفي الأسماء والصفات مُعطِّل. نسأل الله السلامة في الدين والثبات على اليقين. لذلك قال الحافظ الذهبي في ترجمته:» ما أعلمه روى شيئا ولكنه زرع شرا عظيما « (1) . (كذا الخوارجُ) قائلون بعدم قبول الإيمان الزيادة ولا النقص، (و) مثلهم (من لهم تبع) والمقصود بهم المعتزلة، وبعض علماء الأشاعرة والماتريدية.

(1) - ميزان الاعتدال: 1/426.

ص: 78

وسوف أكتفي عند ذكر المخالفين، بالكلام على من يقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن هذا هو أشهر الأقوال المخالفة لمذهب أهل السنة في هذه المسألة، على أنه تجدر الإشارة إلى أن هنالك قولين آخرين (1) :

أولهما أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان لعدم ورود النص المصرح به. وهذه إحدى الروايتين عن الإمام مالك.

وثانيهما أنه يزيد ولا ينقص، وهو مأثور عن بعض الأشاعرة ورواية عن أبي حنيفة، وهو قول الغسانية والنجارية والإباضية.

أما القول المشهور بعدم الزيادة ولا النقصان، فأشهر من قال به هو الإمام أبو حنيفة، ومن تبعه من أعيان مذهبه. وهذا القول مستفيض عنه رحمه الله بحيث لا مجال لإنكاره أو دفعه، فقد اتفقت كتب الفرق والمقالات على نسبته إليه، كما أن هذا القول مذكور في عامة كتب الأحناف وفي كتب العقيدة المنسوبة إلى أبي حنيفة.

وقد بلغ التعصب لهذا القول ببعض الأحناف مبلغا شنيعا فقد عد بعضهم من الأمور المكفرة التي يكفر صاحبها القول بأن الإيمان يزيد وينقص (2) !! وعده آخرون منهم قولا مبتدعا، مع أن القائلين به هم الصحابة والتابعون، ومن تبعهم بإحسان من جماهير علماء هذه الأمة (3) ! والله المستعان.

وممن يقول بعدم زيادة الإيمان ولا نقصانه فرقة الجهمية أتباع الجهم بن صفوان، التي اتفقت كلمة السلف على تبديعها وتضليلها بل وتكفيرِها، يقول ابن القيم في نونيته حاكيا هذه العقيدة عنهم:

قالوا وإقرارُ العباد بأنه

...

خَلاقُهم هو مُنتهى الإيمان

والناس في الإيمان شيءٌ واحد

...

كالمشطِ عند تماثُل الأسنان (4)

(1) - انظرها مفصلة في كتاب زيادة الإيمان ونقصانه: 277 وما بعدها.

(2)

- وهو ابن نجيم في البحر الرائق، فيما نقله عنه صاحب زيادة الإيمان ونقصانه:331.

(3)

- زيادة الإيمان ونقصانه: 332.

(4)

- النونية (مع شرحها لخليل هراس) : 1/28.

ص: 79